عرض مشاركة واحدة
قديم 21-12-09, 06:22 PM   #5

جيرمون111

? العضوٌ??? » 104307
?  التسِجيلٌ » Dec 2009
? مشَارَ?اتْي » 112
?  نُقآطِيْ » جيرمون111 is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الحادي والعشرون
شجار مؤقت

لو قدر لذلك المنزل الوقور في ريتشموند أن يستحيل مزاراً للأرواح حين أموت , فلا شك أن شبحي سيكون من زائريه . آهٍ لليالي والأيام العديدة التي كانت روحي المعذبة تزور ذلك المنزل حين كانت استيلا تعيش هناك !
ففي داخل المنزل وخارجه , كنت أعاني كل أنواع العذاب الذي تسببه لي استيلا ؛ فطبيعة علاقاتي معها التي وضعتني موضع الألفة بدلاً من موضع التفصيل , كادت تدفعني إلى الجنون . فكانت تستخدمني لمضايقة باقي المعجبين , وكان لها معجبون كثر . كنت أشاهدها غالباً في ريتشموند وتبلغني أخبارها في المدينة , وغالباً ما كنت أصطحبها مع عائلة براندلي التي تقيم معهم للتنزه وحضور المسرحيات والحفلات الموسيقية وحفلات الأنس والسمر وسائر أنواع اللهو , حيث كنت ألاحقها ــ وكان كل ذلك مصدر عذاب وشقاء . ولم أنعم بساع من السعادة بصحبتها , ورغم ذلك فقد بقيت أفكر على مدار الساعة بالسعادة الناجمة عن وجودها معي حتى الممات .
ذات مساء أخبرتني استيلا أن الآنسة هافيشام تود أن تستضيفها ليوم في (( ساتيس هاوس )) , وأن علي اصطحابها إلى هناك والعودة إذا شئت . فوافقت بكل طيبة خاطر , وذهبنا بعد يومين لنجد الآنسة هافيشام في الغرفة حيث رأيتها أول مرة .
كانت هذه أكثر ولعاً باستيلا نحوي بنظرة ثاقبة , وسألتني بتوق حتى على مسمع استيلا : " كيف تعاملك يا بيب , كيف تعاملك ؟ " لكن عندما جلسنا بالقرب من موقدها ليلاً , كانت غريبة للغاية , إذ فيما ظلت تمسك بيد استيلا , جعلتها تذكر أسماء وأحوال الرجال الذين تجتذبهم , وفيما كانت الآنسة هافيشام تصغي باهتمام , جلست تتكئ باليد الأخرى على عصاها وتحدق إلي كالشبح .
استنتجت من ذلك أن استيلا كانت تستخدم لتثأر الآنسة هافيشام من الرجال , وأنها لن تكون من نصيبي إلا حين تثأر لها . واستنتجت من ذلك سبب إبعادي طيلة ذلك الوقت , وسبب رفض وصيي الإقرار بأية معلومات تتعلق بأنها ستكون من نصيبي .
وحدث في هذه الزيارة أن تبادلت استيلا والآنسة هافيشام كلاماً قاسياً , وكان هذه أول مرة أراهما تتعارضان .
كنا نجلس قرب الموقد , والآنسة هافيشام ما تزال تتأبط ذراع استيلا , حين بدأت هذه تسحب يدها تدريجياً .
فقالت الآنسة هافيشام وهي تنظر إليها بحدة : " ماذا ! هل سئمتي ؟ "
أجابت استيلا : " بل سئمت قليلاً من نفسي . " وهي تحرر ذراعها وتتجه نحو المدفأة , حيث وقفت تحد إلى النار .
فصرخت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها بعصبية : " قولي الحقيقة أيتها الجحودة ! لقد سئمتي . "
نظرت استيلا إليها بهدوء تام , ثم حدقت إلى النار ثانية .
فقالت الآنسة هافيشام : " يا لك من جماد وحجر ! يا لقلبك البارد , البارد . "
قالت استيلا : " ماذا ؟ وهل تلومينني لأنني باردة ؟ أنتي ؟ "
فكان الرد العنيف : " ألست كذلك ؟ "
قالت استيلا : " عليك أن تعلمي بأنني كما صنعتني . خذي المديح كله , خذي الملامة كلها , خذي النجاح كله , خذي الفشل برمته , وباختصار خذيني . "
صاحت الآنسة هافيشام بمرارة : " أوه , أنظر إليها , أنظر إليها ! أنظر إليها حيث تربت , كم هي قاسية وجاحدة من رباها ! حيث وضعتها إلى هذا الصدر البائس حين كان ينزف من الطعنات التي أصابته,وحيث أغدقت عليها سنوات من الحنان والعطف."
قالت استيلا : " ماذا تريدين ؟ لقد كنت طيبة جداً معي , وإنني مدينة لك بكل شيء . فما الذي تريدينه ؟ "
أجابت الأخرى : " الحب . "
" لديك إياه . "
قال الآنسة هافيشام : " كلا . "
" والدتي بالتبني , لقد قلت بأنني مدينة لك بكل شيء , كل ما بحوزتي هو لك مجاناً , وكل ما منحتني , لك استرجاعه عند الطلب , وإن سألتني أن أمنحك ما لم تمنحيني إياه , فإن إقراري بالجميل والواجب يتعذر عليه المستحيل . "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تلتفت نحوي بغضب : " ألم أعطها الحب أبداً ! ألم أعطها الحب متقداً , فيما هي تتحدث إلي هكذا ! لتدعوني مجنونة , لتدعوني مجنونة ! "
أجابت استيلا : " ولماذا أدعوك مجنونة أنا من دون سائر الناس ؟ هل من أحد يعرف نواياك نصف ما أعرف ؟ وهل من أحد يعرف ذاكرتك الثابتة نصف ما أعرف ؟ أنا التي جلست بجانب هذا الموقد بالذات أتعلم دروسك وأنظر في وجهك , حين كان وجهك غريباً يخيفني . "
فانتدبت الآنسة هافيشام تقول : " منسية بسرعة ! أحوالي باتت طي النسيان ! "
" كلا , لم تنس , لم تنس , بل هي مخزونة في ذاكرتي . متى وجدتني أخالف تعليماتك ؟ ومتى وجدتني أوافق على ما تعارضين عليه ؟ كوني عادلة معي . " ثم لمست صدرها بيدها .
انتدبت الآنسة هافيشام تقول : " مغرورة جداً , مغرورة جداً . "
قالت استيلا : " من علمني أن أكون مغرورة ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
وزعقت الآنسة هافيشام تقول : " قاسية جداً , قاسية جداً . "
" ومن علمني أن أكون قاسية ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تمد ذراعيها : " لكن لتكوني مغرورة وقاسية معي . استيلا , لتكوني مغرورة وقاسية معي . "
نظرت استيلا إليها بتعجب هادئ , ثم عادت تنظر إلى النار ثانية . واستقرت الآنسة هافيشام , لست أدري كيف على أرض الغرفة , فانتهزت الفرصة لأغادر الغرفة وأتمشى تحت ضوء النجوم مدة ساعة أو أكثر في الحديقة المهملة . وعندما استجمعت شجاعتي في النهاية لأعود للغرفة , وجدت استيلا تجلس على ركبة الآنسة هافيشام . بعد ذلك لعبت الورق مع استيلا كسابق عهدنا , وبذلك انتقضت الأمسية , فذهبت للنوم.
قبل أن نغادر في اليوم التالي , لم يتجدد الشجار بين الآنسة هافيشام واستيلا , ولم يتجدد في أي مناسبة مماثلة .
يعتذر علي قلب هذه الصفحة من حياتي دون أن أذكر فيها اسم بانتلي درامل , وإلا كنت في منتهى السعادة .
ففي ذات مناسبة , حين كنت أنا وهربرت مجتمعين مع بعض الأصدقاء في نادينا , تراءى لي أنني رأيت بانتلي ينظر باستهزاء نحوي بطريقة مشينة , وما لبث أن عرض على الحاضرين نخب استيلا . سألت : " استيلا من ؟ "
فأجاب درامل : " لا عليك . "
قلت : " استيلا من أين ؟ "
" من ريتشموند أيها السادة , ذات الجمال الفريد . "
فقال هربرت عبر الطاولة بعد أن شُرب النخب : " أعرف تلك السيدة . "
فقال درامل : " حقاً ! "
قلت مضيفاً وقد احمر وجهي : " وكذلك أنا . "
قال درامل : " حقاً ! يا إلهي ! "
أثارت هذه الإهانة غيظي فدعوته بالإنسان الوقح على التجرؤ بشرب نخب فتاة لا يعرف عنها شيئاً , وأفصحت عن استعدادي للمبارزة معه : لكن الحضور قرروا أنه في حال أحضر درامل شهادة من السيدة تفيد أنه يحمل شرف معرفتها , فسيتوجب علي الاعتذار له بصفتي سيداً , نظراً لأنني فقدت صوابي . وفي اليوم التالي جاء درامل يحمل اعترافاً موجزاً بخط استيلا , يفيد أنها حازت شرف الرقص معه عدة مرات , مما لم يترك لي أي خيار سوى الاعتذار له .
يعجز لساني بالتعبير عن الألم الناشئ عن التفكير بأن استيلا تبدي إعجابها بمثل هذا الإنسان الحقير الأخرق . لذا اغتنمت أول فرصة للقائها في حفل في ريتشموند ومفاتحتها حول هذا الموضوع ــ وكان درامل بين الحاضرين .
قلت : " استيلا , أنظري إلى ذاك الرجل في الزاوية لذي ينظر إلينا . "
قالت استيلا : " لماذا أنظر إليه ؟ وما المثير فيه لأنظر إليه ؟ "
قلت : " ذلك السؤال بالذات الذي أريد توجيهه إليك . فما زال يحوم حولك طيلة الليل . "
فأجابت استيلا وهي ترمقه بنظرها : " أن ألعث وسائر المخلوقات الكريهة تحول حول الشمعة المضاءة , فهل يسع الشمعة القيام بشيء ؟ "
" كلا , لكنني أشعر بالخزي يا استيلا إذ تشجعين رجلاً مقيتاً للغاية مثل درامل . رأيتك تمنحينه نظراتك وابتساماتك هذه الليلة بالذات , كما لم تمنحينيها أبداً . "
قالت استيلا : " وهل تريدني إذن أن أخدعك وأوقع بك ؟ "
وهل تخدعينه وتوقعين به يا استيلا ؟ "
" أجل , وبالكثيرين غيره ـ جميعهم ما عداك . ها هي السيدة براندلي مقبلة , لن أقول أكثر من ذلك . "




الفصل الثاني والعشرون
الزيارة المربكة

بلغت الثالثة والعشرين , وكنا تركنا نزل برنارد منذ أكث من سنة وسكنا في (( التامبل )) , وكانت غرفنا في (( الغاردن كورت )) بجانب النهر . وقد دفع العبرحلة لهربرت إلى مرسيليا , فبقيت بمفردي . افتقدت وجه صديقي المرح وعشرته , فجلست أقرأ حتى الحادية عشرة . وما أن أغلقت الكتاب حتى سمعت وقع أقدام على الدرج . حملت قنديل القراءة وخرجت إلى أعلى الدرج .
ناديت وأنا أنظر إلى الأسفل : " يوجد شخص في الأسفل , أليس كذلك ؟ "
" أجل . "
" أي طابق تريد ؟ "
" الأعلى , أريد السيد بيب . "
" ذلك اسمي . "
صعد الرجل , ومن خلال ضوء مصباحي رأيت وجهاً غريباً علي , كان ينظر إلي بتأثر وفرح لرؤيتي .
وفيما حركت المصباح مع إقبال الرجل , تبين لي أنه يرتدي كالمسافرين في البحر.
كان شعره طويلاً رمادي اللون وكان يبلغ نحو الستين من العمر . قوي البنية , وقد اسمر جلده واشتد بسبب تعرضه لعوامل الطقس . ولما صعد الدرجة أو الدرجتين الأخيرتين , رأيته يمد كلتا يديه نحوي . فقلت : " أرجوك ما هو غرضك ؟ "
كرر : " غرضي ؟ " ثم قال : " آه ! أجل . سأشرح غرضي إذا سمحت . "
" وهل تود الدخول ؟ "
فأجاب : " نعم أود الدخول . "
أدخلته الغرفة التي كنت غادرتها لتوي , وطلبت إليه التعريف عن نفسه . نظر حوله بفرح وكأن له نصيباً من الأشياء التي يتطلع إليها , ثم خلع معطفه وقبعته الخشنة ومد يده إلي ثانية , فقلت وأنا أشك تقريباً بأنه مجنون : " ماذا تقصد ؟ "
جلس على كرسي قرب الموقد وغطى جبينه بيديه السمراوتين الكبيرتين , ثم قال وهو ينظر من فوق كتفه : " ما من أحد هنا , أليس كذلك ؟ "
فقلت : " لماذا تسأل هذا لسؤال وأنت غريب جاء إلى منزلي في هذا الوقت من الليل ؟ "
أجاب وهو يهز رأسه إلي بمحبة : " أنت شاب شجاع , إنني مسرور لأنك نشأت شاباً شجاعاً ! لا تسيء إلي , فستندم لاحقاً إن فعلت . "
أقلعت عن نيتي التي أفصح عنها , فقد كنت أعرفه , عرفت المجرم صاحبي , إذ لم يكن بحاجة ليخرج المبرد من جيبه ويريني إياه . لم يكن بحاجة ليتناول المنديل من جيبه ويلفه حول رأسه . تذكرته حتى قبل أن يقدم لي هذه الأدلة . عاد إلى حيث كنت واقفاً , ومد لي ذراعيه مرة أخرى . لم أعرف ماذا أفعل , فمددت له يدي على مضض , فأمسك بهما ورفعهما إلى شفتيه ثم قبلهما , ثم قال : " لقد تصرفت بنبل يا ولدي . بيب النبيل ! ولم أنس ذلك أبداً . "
كان على وشك أن يغمرني , لكنني أبعدته وقلت : " إبق بعيداً ! إن كنت ممتناً لما فعلته عندما كنت طفلاً صغيراً , فحبذا لو أظهرت امتنانك بتقويم سبيلك في الحياة . إنك مبتل وتبدو مرهقاً , هل تشرب شيئاً قبل رحيلك ؟ "
قال بلى , فحضرت له بعض الرم والماء الساخن وقدمته إليه , فوجدت لدهشتي عيناه مغرورغتان في الدموع . لانت مشاعري حيال ذلك فأسرعت أسكب لنفسي بعض الشراب , وقلت له : " آسف لأنني تحدثت إليك بخشونة الآن . آمل أن تكون سعيداً وعلى ما يرام . كيف تعيش ؟ "
فقال : " اشتغلت بتربية الخراف وتربية الماشية , إلى جانب بعض التجارة , بعيداً في العالم الجديد . "
" وهل حققت النجاح كما آمل ؟ "
" لقد حققت نجاحاً باهراً . "
" يسرني سماع ذلك . "
" هل لي أن أتجرّأ بسؤالك كيف حققت النجاح منذ تقابلنا في المستنقعات ؟ "
بدأت أرتجف , وحملت نفسي على إخباره بأنه قد تم اختياري لوراثة إحدى الممتلكات .
" هل لي أن أسأل ممتلكات من ؟ "
" لست أدري . "
" هل لي أن أخمن مقدار دخلك بعد أن بلغت الحادية والعشرين ؟ والآن بالنسبة للرقم الأول , خمسة ؟ وبالنسبة للوصي , لعله أحد المحامين . والآن إلى أول حرف من اسم المحامي هو حرف ( ج ) ؟ لعله جاغرز ؟ "
ثم أخبرني لدهشتي بأنه هو المحسن إلي , وأنه عبر البحر إلى بورتسماوث وحصل على عنواني من ويميك . لقد جعل مني سيداً ! لقد عاش حياة خشنة كي أعيش حياة رقيقة . وعمل بجد كي أترفع عن العمل .
ركع أمامي ودعاني ابنه , لقد عمل راعياً مأجوراً وأقسم أن كل جنيه يكسبه سيكون لي . ثم توفي سيده وترك له المال , فحظي بالحرية وعمل لحسابه فاغتنى وجعل مني سيداً .
وضع يده على كتفي , فارتجفت للفكرة التي أعرفها جيداً , فلعل يده ملطخة بالدم .. ثم سألني : " أين ستضعني ؟ يجب أن أُوضع بمكان ما يا ولدي . "
قلت : " ألتنام ؟ "
أجاب : " أجل , لأنام طويلاً وبارتياح,فقد تقاذفني البحر وأرهقني شهوراً طويلة. "
قلت : " إن صديقي وشريك منزلي غائب , عليك بغرفته . "
" لن يأتي غداً , على ما أرجو . "
قلت : " لا , لن يأتي غداً . "
" أنظر يا بني العزيز , أقول هذا لأن الحذر ضروري . "
" وماذا تقصد بالحذر ؟ "
" إنه الموت , لقد حكم علي بالسجن مدى الحياة , والموت هو لمن يعود . "
كان همي الأول إغلاق مصاريع النوافذ لكي لا يتسرب الضوء من الداخل , ثم إغلاق الأبواب وإقفالها . فأعرته بعض البياضات , وآوى إلى الفراش .
جلست بجانب الموقد أخشى الذهاب إلى فراشي , وبقيت ساعة أو أكثر في ذهول لا أستطيع التفكير ؛ ولم أدرك تماماً , إلا حينما بدأت التفكير , كم كنت محطماً , وأن السفينة التي أبحرت على متنها أصبحت أشلاء . "
نوايا الآنسة هافيشام نحوي , مجرد حلم , استيلا لم تكن من نصيبي ؛ فلم يبق لي سوى المعاناة في (( الساتيس هاوس )) لمثابة جزاء لعلاقات الجشع . تلك كانت أولى الآلام التي عانيت منها . لكن الألم الأشد والأعمق كان أنني هجرت جو وبيدي من أجل المجرم المتهم بجرائم لا أعرفها , والمعرض للشنق .


الفصل الثالث والعشرون
الحقيقة البغيضة
أمضيت ليلة مفعمة بالقلق وأنا أغط قبالة الموقد .استيقظت في السادسة ثم سهوت ثانية وغرقت بنوم عميق , أيقظني منه ضوء النهار بإجفال . اغتسلت وارتديت ملابسي وجلست قرب الموقدة أنتظر قدومه لتناول الفطور .
وما لبث أن فتح الباب ودخل , لم أستطع حمل نفسي على تحمل مظهره , وبدا لي أن مظهره أسوأ من ضوء النهار . أخبرني بأنه انتحل اسم بروفيس على متن الباخرة , ولكن اسمه الحقيقي هو آبل ماغويتش .
بعد الفطور ـ وقد تناول طعامه بشراهة ـ راح يدخن غليونه , ثم أخرج محفظة مكتنزة من جيبه تعج بالأوراق المالية , وألقى بها على الطاولة .
" هناك ما يستحق الإنفاق في هذه المحفظة , يا ولدي العزيز . إنه لك . إن كل ما بحوزتي ليس لي , بل هو لك . "
فقلت : " أود التحدث إليك . أود معرفة ما ينبغي القيام به . أود معرفة السبيل إلى تجنيبك الخطر . "
قال : " حسناً يا ولدي العزيز , الخطر ليس بكبير , إلا إذا وشى أحدهم بي . "
" وكم ستبقى هنا ؟ "
" كم سأبقى ؟ لست بعائد , لقد جئت لأبقى هنا . "
قلت : " وأين ستقيم ؟ وماذا نفعل بك ؟ أين ستكون آمناً ؟ "
أجاب : " يا بني , هناك شعور مستعارة للتنكر , ومساحيق للشعر ونظارات وملابس سودء ـ أما بالنسبة إلى أين وكيف سأعيش , فأعطني رأيك . "
بدا لي بأنني لن أستطيع سوى أن أجد له مسكناً هادئاً يمتلكه بالجوار حين يعود هربرت الذي أتوقع رجوعه بعد يومين أو ثلاثة , أما الإفضاء بالسر إلى هربرت , فكان أمراً واضحاً بالنسبة لي .
أقنعت بروفيس أن يتخذ لباس مزارع غني , وتدبرنا أن يحلق شعره قصيراً مع إضافة بعض المسحوق عليه . وكان عليه الابتعاد عن أنظار خدمي إلى أن يتم تجهيز ملابسه .
كنت محظوظاً حين أمنت له الطابق الثاني من مبنى محتوم للسكن في الجوار , ورحت أنتقل من متجر لآخر أشتري الملابس الضرورية , فارتداها في اليوم التالي . لكن مهما كانت الثياب التي يرتديها , فقد كات أقل ملاءمة مما كان يرتديه في السابق . وباعتقادي , فإن فيه شيئاً ما يجعل من محاولة إخفاء ملامحه أمراً يائساً . فقد كان يجر أحد ساقيه وكأنها ما تزال مثقلة بالحديد . زد على ذلك , فإن عيشة الأكواخ المنعزلة التي قضاها سابقاً أضفت عليه جواً من الفضاضة يتعذر على الثياب تلطيفه , وفي كل طرقه بالجلوس والأكل والشرب كانت هناك شخصية السجين والمجرم واضحة أشد وضوح .
كنت أتوقع وصول هربرت طول الوقت , ولم أكن أجرؤ على الخروج إلا حين أصطحب بروفيس للتنزه بالهواء الطلق بعد حلول الظلام , وأخيراً سمعت ذات يوم خطوات هربرت السارة على السلم , جاء باندفاع مفعماً بالنشاط من رحلته إلى فرنسا .
" هاندل , يا عزيزي , كيف حالك , وكيف حالك من جديد ؟ يبدو كأنني تغيبت طوال سنة كاملة ! لا شك في ذلك , فقد غدوت في غاية الشحوب والنحول ! هاندل , يا ـ هالو ! عفواً . "
قلت وأنا أغلق الباب : " هربرت , يا صديقي العزيز , لقد حدث شيء غريب جداً .هذا أحد زواري . "
تقدم بروفيس يمسك بانجيل أسود صغير أخرجه من جيبه وقال : " لا عليك يا عزيزي . أمسكه بيدك اليمنى . قتلك الله على الفور إن خدعتني . قبله . "
فقلت لهربرت : " إفعل ذلك , كما يريد . " فأذعن هربرت وهو ينظر إلي بدهشة وقلق حميم . ثم جلسنا جميعاً قرب الموقد , وأفضيت بالسر كاملاً .
جلسنا حتى وقت متأخر , وحل منتصف الليل قبل أن أصطحب بروفيس إلى مسكنه وأطمئن عليه . وحين أغلق الباب وراءه , شعرت بأول لحظة ارتياح عرفتها منذ ليلة وصوله .
حين عدت إلى شقتي , جلست مع هربرت للبحث بالسؤال التالي : ماذا ينبغي القيام به ؟ فقلت : " هربرت , لابد من القيام بعمل ما , فهو مصمم على مصاريف جديدة شتى , جياد وعربات وغيرها من الأمور الباهظة . لا بد من إيقافه بطريقة ما . "
" تعني أنه لا يسعك أن تقبل . "
فقاطعنه حين تمهل وقلت : " وكيف يسعني ذلك ؟ تصور ! أنظر إليه ! تصور الحياة التي عاشها ! "
سرت بنا رعشة , وقلت : " لكنني أخشى يا هربرت أن الحقيقة البغيضة هي أنه مرتبط بي , مرتبط بي بشدة . هل هناك ما يشبه هذا الحظ ! ثم تصور كم أنا مدين له . إني مثقل بالدين ـ وهو دين ثقيل جداً علي , في وقت ليست لدي فيه أية آمال ـ ولم أُعَدُّ لأي مهنة , ولا أصلح لشيء باستثناء أن أكون جندياً . "
أجاب هربرت : " الجندية لن تفيد .. لأنك لن تستطيع أن تسدد دينك له , ثم إنها شيء تافه , لعلك تكون أفضل بكثير في مؤسسة كلاريكر , رغم صغرها . إنني أعمل كي أصبح شريكاً , كما تعلم . "
يا لصاحبي المسكين ! فليس لديه أدنى علم بمال من . ثم تابع هربرت يقول : " لكن الأمر الأول والأساس الذي يجب القيام به هو إخراجه من إنكلترا . سيكون عليك الذهاب معه , ومن ثم يصار إلى إقناعه بالذهاب . "
جاء في اصباح التالي لتناول الفطور , فسألته أن يخبرنا المزيد عن نفسه وعن المجرم الآخر الذي تعارك معه في المستنقعات .
وافق على ذلك بعد أن ذكّر هربرت بأنه ملزم باليمين الذي أقسمه بكتمان السر , وهذا باختصار ما أخبرنا به : " لا أذكر أين ولدت أكثر مما تذكران , كان أول عهدي بنفسي في إسكس , أسرق اللفت لأعيش . لم يرني أحد جائع رث الثياب إلا وطردني أو ألقى القبض علي . أدخلت السجن عدة مرات حتى اعتدت عليه , فعشت فعلياً في السجن . مارست التسكع والتسول والسرقة , وعملت أحياناً حين كان يتاح لي , سارقاً للطيور والدواجن مرة أخرى , وعاملاً كادحاً بمناسبة أخرى , ثم صائداً للطيور بواسطة الصقر , وفي أمور أخرى لا تكسب بل تؤدي إلى متاعب ـ حتى بلغت سن الرجولة .
ثم في سباق إبسوم , منذ أكثر من عشرين سنة , تعرفت على رجل لو عثرت عليه لحطمت رأسه بهذا القضيب . اسمه الحقيقي كومبيسون , ذلك هو الرجل يا عزيزي بيب , الذي شاهدتني أتعارك معه في المستنقعات . حاول كومبيسون هذا أن يكون سيداً , والتحق بمدرسة حكومية داخلية حيث تلقى التعليم . كان لطيفاً في حديثه وبهي الطلعة أيضاً . أقنعني بأن نتشارك في نشاطه بالاحتيال والتزوير وتسريب الأموال المسروقة , إلى ما شابه ذلك . فكافة أنواع الحيل التي يدبرها رأسه , دون أن يقع في أسرها وينال فيها الأرباح فيما يدخل غيره السجن بسببها ـ تلك كانت أعمال كومبيسون , لم يكن لديه قلب أكثر من مبرد حديد , وكان بارداً كالموت , وحاذقاً كالشيطان .وسرعان ما انهمكنا بالعمل , واستدرجني لشباكه لأعمل عبداً له.
كنت مديناً له على الدوام , وكنت أعمل رهن إشارته , وأشتغل لصالحه وأعرض نفسي دائماً للخطر . في نهاية الأمر , ألقي القبض علينا بتهمة تسريب الأموال المسروقة , إضافة إلى تهم أخرى سابقة . لكن المحلفون أوصوا بالرأفة بـ كومبيسون نظراً لحسن سلوكه ورفقته السيئة , والتخلي عن كافة المعلومات التي كانت ضدي . فحكم عليه بالسجن سبع سنوات , وأنا حكم علي بأربعة عشر سنة .
كنا في سفينة الاعتقال ذاتها , لكنني لم أستطع الوصول إليه لمدة طويلة , رغم محاولتي ذلك . أخيراً جئت خلفه وضربته على خده لأديره وأنهال عليه بضربة ساحقة ، حين رأوني وألقوا القبض علي , تدبرت أمر الهروب من السفينة واختبأت وسط القبور بالقرب من الشاطئ , وهناك شاهدت فتاي للمرة الأولى !
ومنك يا بني علمت أن كومبيسون طليق أيضاً في المستنقعات . أظن أنه فر خوفاً مني دون أن يعلم بأنني خرجت إلى الشاطئ , فطاردته حتى ألقيت به أرضاً وهشمت وجهه . لم أهتم لنفسي , بل قررت جره إلى سفينة الإعتقال كأسوأ تدبير ألحقه به , حين قدم الجنود وقبضوا علينا سوياً , قُيِّدت بالحديد وجرت محاكمتي ثانية , فحكم علي بالسجن مدى الحياة , لم أبق هناك مدى الحياة يا ولدي العزيز ويا صديق بيب العزيز , فها أنذا . "
سألت بعد فترة صمت : " هل توفي ؟ "
" كن على يقين بأنه يأمل أن أكون أنا الذي توفيت , هذا إن كان على قيد الحياة . لم أسمع عنه شيئاً أبداً . "
كان هربرت يكتب على غلاف كتاب , فدفعه خلسة نحوي فيما وقف بروفيس يدخن وعيناه تحدقان بالنار , فقرأت ما يلي :
" كومبيسون هو الذي تظاهر بأنه عشيق الآنسة هافيشام . "
أغلقت الكتاب وهززت رأسي لهربرت , لكننا لم نتفوه بأي كلمة , ورحنا ننظر إلى بروفيس وهو يدخن قرب الموقدة .




الفصل الرابع والعشرون
الخطوة المميتة

قررت أن أرى استيلا والآنسة هافيشام أن أسافر مع بروفيس إلى الخارج . فذهبت إلى ريتشموند في اليوم التالي , لكن الخادمة أخبرتني بأن استيلا ذهبت إلى ساتيس هاوس .
انطلقت باكراً في الصباح التالي إلى المدينة , وحين وصلت العربة إلى البلو بور , رأيت بنتلي درامل خارجاً , وانزعجت كثيراً لرؤيته في المدينة لأنني أدرك تماماً سبب مجيئه إلى هناك .
دخلنا المقهى معاً , حيث انتهى من فطوره وطلبت فطوراً لي . كان لقاء مزعجاً للغاية , استدعى النادل وقال له : " هل حصاني جاهز ؟ "
" جيء به إلى الباب سيدي . "
" أنظر , إن السيدة لن تركب اليوم , فالطقس غير مناسب . "
" حسناً , سيدي . "
" ولن أتناول الغداء هنا لأنني سأتغذي لدى السيدة . "
" حسناً سيدي . "
ثم رمقني درامل بنظرة , وبدا على وجهه تعبير انتصار أصابني في الصميم . ولم يخيم علي الارتياح إلا حين خرج .
اغتسلت وارتديت ملابسي وذهبت إلى ساتيس هاوس , كانت الآنسة هافيشام جالسة قرب الموقدة , فيما كانت استيلا تجلس على وسادة عند قدميها وهي تعمل بالصوف.
أخبرت الآنسة هافيشام أنني اكتشفت هوية المحسن إلي , فاعترفت بأنها جعلتني أقع في اعتقاد أنها هي المحسنة إلي , قلت : " هل كان ذلك لطيفاً ؟ "
فصاحت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها وتثور غضباً على حين غرة : " من أنا , من أنا , بالله عليك , لأكون لطيفة ؟ "
ثم التفتُّ إلى استيلا قائلاً : " استيلا , تعلمين بأنني أحبك , تعلمين بأنني أحببتك كثيراً منذ زمن بعيد . "
رفعت عينيها إلي لدى مخاطبتها هكذا , لكن أصابعها تابعت الشغل بالصوف ونظرت إلي بهدوء . فقلت : " كان علي أن أقول ذلك من قبل , لولا أخطائي طويلاً بالاعتقاد أن الآنسة هافيشام كانت تنوي تزويجنا من بعض , وفيما اعتقدت أنك لن تقوي على مساعد نفسك,فقد أحجمت عن البوح بذلك,لكن علي أن أقول ذلك الآن. "
هزت استيلا رأسها , فيما بقيت على هدوئها تتابع الشغل بالصوف .
" أعرف , أعرف بأن لا أمل لي باعتبارك من نصيبي يا استيلا . ما زلت أحبك . أحببتك منذ رأيتك في هذا البيت لأول مرة . "
نظرت إلي بهدوء تام فيما تابعت أصابعها العمل , وهزت رأسها ثانية ثم قالت بهدوء : " يبدو أن هناك عواطف لا أستطيع فهمها . فحين تقول أنك تحبني , أعرف ما الذي تعنيه لجهة التعبير , لكن ليس أكثر من ذلك . فأنت لا تخاطب شيئاً في صدري , ولا تلامس شيئاً هناك . إنني لا أكترث بأي شيء تقوله . حاولت أن أنذرك بهذا , أليس كذلك ؟ "
فقلت بلهجة تعيسة : " بلى . "
" بلى , لكنك لم تتعظ , اعتقاداً منك بأنني لا أعني ما أقول , والآن ألم تعتقد ذلك ؟"
" اعتقدت وكان أملي بألا يكون ذلك قصدك , فأنت صغيرة , وغير مجربة , وجميلة . استيلا ! ليس ذلك في الطبيعة , لا شك . "
" إنه من طبيعتي , إنه من الطبيعة التي تكونت بداخلي . "
ثم سألتها إن كانت حقاً تستحث بانتلي درامل , وتركب الجياد برفقته , وإن كان سيتناول الغداء معها في ذلك النهار بالذات .
لم تندهش كثيراً لمعرفتي بذلك , بل أجابت تقول : " هذا صحيح . "
" لا يمكن أن تحبينه يا استيلا ! "
" ماذا قلت لك ؟ هل ما زلت تعتقد , رغم ذلك بأنني لا أعني ما أقول ؟ "
" لن تتزوجينه أبداً يا استيلا . "
نظرت استيلا نحو الآنسة هافيشام , ثم تأملت لحظة وشغل الصوف يديها , وقالت : " ولم لا أخبرك بالحقيقة ؟ فأنا سأتزوجه . "
وضعت وجهي بين يدي , لكنني استطعت تمالك نفسي أكثر مما توقعت , نظراً لعذابي الذي سببه سماعي الكلمات التي قالتها .
" استيلا , عزيزتي , عزيزتي , لا تدعي الآنسة هافيشام تدفع بك إلى هذه الخطوة المميتة . ضعيني جانباً إلى الأبد ـ وقد فعلت ذلك , أعرف هذا جيداً ـ لكن امنحي نفسك لشخص يستحقك أكثر من درامل . فالآنسة هافيشام تمنحك له كأعظم إهانة وتجريح يصيب رجالاً أفضل منه ممن هم معجبون بك , ويصيب القلة الذين يحبونك . "
قالت بصوت ألطف : " سوف أتزوجه , فالتحضيرات لزفافي قيد الإنجاز , وسأتزوجه في القريب العاجل . لماذا تذكر اسم والدتي بالتبني بأسلوب التجريح ؟ أنا التي قمت بذلك . "
" قمت بذلك يا استيلا , لترمي بنفسك على شخص متوحش ؟ مثل هذا المتوحش الحقير الأحمق . "
فقالت استيلا : " لا تخشى أن أكون نعمة عليه . فلن أكون كذلك . اقترب ! هذه يدي , فهل نفترق على ذلك أيها الفتى ـ أو الرجل ـ الخيالي ؟ "
أجبتها ودموعي المريرة تتدفق عل يديها : " أوه يا استيلا , كيف أستطيع أن أراك زوجة درامل ؟ "
أجابت : " هراء هراء , فهذا سيزول بلمح البصر . "
" أبداً يا استيلا . "
" ستخرجني من أفكارك في أسبوع . "
" من أفكاري ! بل أنت جزء من وجودي , جزء من نفسي . أوه , ليباركك الله , ليسامحك الله ! "
انتهى كل شيء ومضى ! انتهى الكثير وولى , حتى أنني حين خرجت من البوابة , بدا ضوء النهار أغمق لوناً مما كان عندما دخلت . سرت الطريق كله إلى لندن , إذ لم أستطع العودة إلى المنزل ورؤية درامل . ولم أستطع تحمل الجلوس في العربة ليوجه إلي الحديث .
كان الوقت تجاوز نصف الليل حين عبرت جسر لندن . وحين وصلت بوابة منزلي , سلمني الحارس الليلي ورقة وأخبرني أن حامل الرسالة الذي جاء بها يرجوني قراءتها على ضوء القنديل .
أخذت الرسالة وقد دهشت كثيراً لهذا الطلب . فتحتها فيما كان الحارس يمسك بقنديله , وقرأت ما بداخلها بخط ويميك : " لا تذهب إلى البيت . "


الفصل الخامس والعشرون
تدابير السلامة


استأجرت عربة واتجهت إلى فندق في (( كوفنت غاردن )) حيث أمضيت الليلة هناك . وباكراً في الصباح التالي , ذهبت لرؤية ويميك في منزله . رحب بي وشرح لي السر . فقد سمع في سجن نوغايت أن بروفيس هو عرضة للشك , وأن شقتي في الغاردن كورت وضعت قيد المراقبة , فاعتبر أن من الضروري إعلامي بذلك , واكتشف كذلك أن كومبيسون كان في لندن , فرأى أن من الأسلم أن يبقى بروفيس مختبئاً في لندن بعض الوقت , وألا يحاول السفر قبل أن يخف البحث عنه . وحين لم يجدني في المنزل , ذهب إلى هربرت لدى كلاريكر واتفقا بينهما على تدابير مرضية لتأمين سلامة بروفيس , فأسكنوه مؤقتاً في طابق أعلى مفروش قرياً من النهر حيث تسكن كلارا صديقة هربرت مع والدها المريض . كانت خطة جيدة , كما أخبرني ويميك لأسباب ثلاث . أولاً , المنزل بعيد عن مسكني , ولن يبحث أحد ني هناك . ثانياً , يمكنني الاطمئنان على سلامة بروفيس من خلال هربرت , دون الذهاب إلى هناك شخصياً . ثالثاً , حين يصبح من الأمان نقله على متن سفينة أجنبية , فسيكون هناك على أتم الاستعداد .
جعلني ذلك أشعر بسعادة أكثر , فشكرت ويميك مراراً وتكراراً , ثم نصحني بالبقاء في منزله إلى أن يحل الظلام , وتركني أستمتع برفقة والده العجوز .
وحين حل الظلام , خرجت أبحث عن مكان يسمونه : (( ميل بوند بانك )) . وبعد أن ضللت الطريق عدة مرات اهتديت إليه بالصدفة . قرعت الباب ففتحت لي الباب امرأة مسنة بهية الطلعة , وما لبث أن جاء هربرت واصطحبني بصمت إلى غرفة الستقبال , ثم قال : " كل شيء على ما يرام يا هاندل , وهو راضٍ جداً رغم توقه لرؤيتك , فتاتي العزيزة مع والدها ( سمعته يصيح في الطابق الأعلى ) ؛ فإن انتظرت حتى تهبط فسأعرفك عليها , ثم نصعد إلى بروفيس . "
وفيما نحن نتحدث بنبرة هادئة , انفتح باب الغرفة ودخلت فتاة نحيلة جميلة للغاية , سوداء العينين , تبلغ نحو العشرين , تحمل سلة بيدها . أخذ هربرت منها السلة بحنان وقدمها لي باسم كلارا .
قال : " أنظر , ها هو عشاء كلارا , يقدمه والدها كل ليلة . فهو يصر على الاحتفاظ بجميع المؤن في غرفته وتقديمها بنفسه . "
كان بروفيس يسكن في غرفتين في الطابق الأعلى , فلم يعبر عن أي خوف ولا ظهر أنه يشعر بذلك , أخبرته كيف سمع ويميك في سجن نيوغايت بأ الشكوك تحوم حوله , وأن شقتي مراقبة , وأن ويميك نصح بإخفاءه لبعض الوقت , وببقائي بعيداً . وأضفت أنه عندما يحين موعد سفره , فسأذهب معه أو أتبعه عن كثب , حسب ما تقتضيه السلامة .
ثم قدم هربرت اقتراحاً جيداً , فقال : " كلانا يجيد قيادة المراكب يا هاندل ويمكننا عبور النهر عندما يحين الوقت المناسب . ألا تعتقد أن من الأفضل لو بدأنا الآن بالاحتفاظ بقارب ومارسنا عادة التجذيف في النهر ذهاباً وإياباً ؟ وحين تكون لك تلك العادة , من سيلاحظ أو يكترث بذلك ؟ "
أعجبتني خطته , وكذلك بروفيس , فاتفقنا على تنفيذها . كما اتفقنا على أن يسدل بروفيس ستارة نافذته المشرفة على النهر كلما رآنا قادمين في قاربنا وأن الأمور تسير بشكل صحيح . ثم تمنينا له ليلة سعيدة وغادرناه .
حين استأذنت مغادراً الفتاة اللطيفة الجميلة ذات العينين السوداوين , والمرأة الحنونة التي تعيش في بيتها , فكرت باستيلا وبفراقنا , فذهبت إلى البيت في حزن عميق .
حصلت على القارب في اليوم التالي , فجيء به إلى سلم التامبل , وأرسي بحيث أستطيع الوصول إليه خلال دقيقة أو دقيقتين . ثم بدأت أخرج للتدب والتمرين , بمفردي أحياناً , وأحياناً برفقة هربرت , فلم يلاحظني أحد كثيراً بعدما خرجت بضعة مرات . في البداية , لم أجذف بعيداً , لكن سرعان ما رحت أبتعد إلى ميل بوند بانك . وكان هربرت يرى بروفيس ثلاث مرات على الاقل في الأسبوع , ولم يحمل إلي أية أخبار مقلقة . لكنني بقيت أعلم بأن هناك سبب للخوف , ولم يسعني التخلص من فكرة أنني مراقباً , إنما لم يكن بالمستطاع فعل شيء , سوى انتظار إشارة من ويميك .


الفصل السادس والعشرين
منذ عشرين سنة
في أحد الأيام بينما كنت أمشي ببطء قبل الغداء , التقيت بالسيد جاغرز ودعاني لتناول الغداء معه في منزله في شارع جيرارد . كنت على وشك الاعتذار عندما قال أن ويميك سيأتي , قبلت الدعوة وذهبنا سوياً إلى مكتبه حيث أنهى عمل اليوم , ثم اصطحبنا ويميك واستقلينا عربة إلى منزل السيد جاغرز .
ما أن وصلنا هناك حتى قدم الغداء . فلفتت انتباهي مدبرة المنزل , امرأة في الأربعين , وكنت قد رأيتها في منزل جاغرز في زيارة سابقة . كانت طويلة في غاية الشحوب , ولها عينان كبيرتان متعبتان , وشعر غزير كثيف . في هذه المناسبة , كانت تضع طبقاً على الطاولة عند كوع سيدها حين خاطبها هذا قائلاً أنها بطيئة . لاحظت حركة من أصابعها حين تكلمت معه . كانت حركة تشبه الحياكة , وقفت تنظر إليه وهي لا تدرك إن كان عليها الذهاب أو أن لديه مزيداً يقوله لها . كانت نظرتها متلهفة , ولم أشك تماماً بأنني شاهدت مثل هاتين العينين وهاتين اليدين , وفي مناسبة جرت مؤخراً أذكرها جيداً .
صرفها فانسلت خارج الغرفة , لكن صورتها بقيت أمامي بوضوح وكأنها ما تزال بشخصها هناك . نظرت إلى تلك اليدين , نظرت إلى تلك العينين , نظرت إلى الشعر الغزير , وقارنتها بعينين ويدين وشعر آخر أعرفه , وبما يمكن لهذه أن تكونه بعد عشرين سنة مع زوج متوحش وحياة عاصفة . فشعرت تمام اليقين أن تلك الفتاة هي والدة استيلا .
بعد انتهاء الغداء , استأذنت مع ويميك بالخروج باكراً وغادرنا سوياً . وفي الطريق , استوضحت من ويميك ما يعرفه عنها . وهذا ما أخبرني به : " منذ نحو عشرين سنة , اتُّهمت هذه المرأة بالقل ثم بُرئت ساحتها . كانت صبية في غاية الجمال , وأعتقد أن دماً غجرياً يجري في عروقها . دافع السيد جاغرز عنها في المحكمة وتولى القضية بشكل مذهل . كانت القتيلة امرأة تكبرها بعشر سنوات , وتفوقها قوة بكثير . كانت مسألة غيرة . وكان سبق لهذه المرأة أن تزوجت في سن مبكرة من رجل متسكع . وجدت القتيلة في حضيرة ماشية , حيث حصلت مقاومة عنيفة أو ربما قتال , وأصيبت بالكدمات والخدوش والتمزيق , ثم أمسك برقبتها أخيراً وخنقت .
أما المتهمة فقد أصيبت بكدمة أو اثنتين , لكن ظهري كفيها كانا ممزقين , والسؤال هو : هل حصل ذلك بالأظفار ؟ لقد أظهر السيد جاغرز أنها عبرت طريقاً شاقاً عبر أشواك كثيرة , وبالفعل فقد عثر على أشواك عالقة في جلدها . كانت النقطة الأشد التي أتى بها هي التالية . فقد اشتبهوا كثيراً بأنها عمدت في الوقت الذي حصلت به الجريمة إلى قتل طفلتها من ذلك الرجل ـ البالغة من العمر ثلاث سنوات ـ لكي تنتقم منه , فقال اسيد جاغرز في معرض الدفاع عنها : " لستم تحاكمونها لأنها قتلت طفلتها , لم لا تفعلون ذلك ؟ " وعلى العموم , فقد برع السيد جاغرز على هيئة المحلفين فرضخوا له . "
" وهل هي تعمل لديه منذ ذلك الحين ؟ "
قال ويميك : " أجل . "
فسألته : " هل تذكر جمبس الطفل ؟ "
" قيل إنها فتاة . "
تبادلنا تحية المساء , وذهبت إلى المنزل بمادة جديدة لأفكاري , رغم أنني لم أسترح من الأفكار القديمة بعد .
كانت الآنسة هافيشام قد بعثت إلي برسالة صغيرة تفيد بأنها تود أن أجتمع بها بشأن قضية عمل ذكرتها لها . فذهبت في اليوم التالي إلى ساتيس هاوس . أما القضية المشار إليها فهي تتعلق بهربرت . وقد سبق وأن أخبرتها بأنني أريد مساعدو صديق , لكنه لم يعد بوسعي متابعة ذلك لأسباب علي التكتم بها . فسألتني عن مقدار المبلغ الذي أحتاجه , فقلت : " تسعمائة جنيه . "
فسألتني : " وهل يطمئن فكرك أكثر لو أعطيتك المال لهذه الغاية ؟ "
" سيطمئن أكثر بكثير . "
فكتبت إيعازاً إلى السيد جاغرز بأن يدفع لي المبلغ المطلوب . كانت شديدة الندم للتعاسة التي سببتها لي , فشدت على يدي وبكت فوقها , ثم صاحت بيأس : " آه , ما الذي فعلته ! ما الذي فعلته ! "
" إن كنت تقصدين ما فعلته في أذيتي , دعيني أجيب : فعلت القليل القليل . فقد كنت سأحبها مهما كانت الظروف , وهل تزوجت ؟ "
" أجل . "
لم يكن السؤال ضرورياً , فالوحشة المستجدة في المنزل الوحش أخبرتني بذلك . ثم قالت : " لو تعرف قصتي , لأشفقت علي , وتفهمتني . "
أجبتها : " أعرف قصتك يا آنسة هافيشام , وقد أثارت حزني العميق . هل لي أن أسألك عن طفولة استيلا ؟ ابنة من هي ؟ "
هزت برأسها
" ألا تعرفين ؟ "
هزت برأسها .
" لكن هل السيد جاغرز هو الذي أحضرها إلى هنا أم أرسلها إلى هنا ؟ "
" أحضرها إلى هنا . "
" هل لي أن أسأل كم كان عمرها آنذاك ؟ "
" سنتان أو ثلاثة , شخصياً إنها لا تعرف شيئاً , سوى أنها تُركت يتيمة فتبنيتها . "
اقتنعت تماماً بأن تلك المرأة هي والدتها , ولم يعوزني دليل لترسيخ هذه الحقيقة في ذهني .
لم أكن آمل تحقيق المزيد من تمديد الزيارة ؟ فقد نجحت في مسعاي من أجل هربرت , كما أن الآنسة هافيشام أخبرتني بكل ما تعرفه عن استيلا , وهكذا افترقنا.




الفصل السابع والعشرون
غيرة وانتقام
قام هربرت بعدة زيارات إلى المنزل المحاذي للنهر حيث تقيم كلارا مع والدها بروفيس . في إحدى الأمسيات , أخبرني قائلاً : " جلست مع بروفيس ساعتين في الليلة الماضية يا هاندل . أخبرني لبمزيد عن حياته . فتحدث عن امرأة كانت له معها مشكلة كبيرة . كانت فتاة غيورة وتحب الانتقام إلى أقصى درجة يا هاندل . "
" إلى أي درجة ؟ "
" القتل . "
" كيف قتلت ؟ ومن ؟ "
" امرأة أخرى أقوى منها , في حظيرة ماشية , حيث جرى عراك ووجدت الضحية مخنوقة , دافع السيد جاغرز عن القاتلة , وكان لشهرة هذا الدفاع من اسمه معروفاً بالدرجة الأولى لدى بروفيس . "
" وهل أدينت المرأة بالجرم ؟ "
" كلا , بل برئت ساحتها . ورزقت الصبية المبرئة وبروفيس طفلة صغيرة كان بروفيس مولعاً بها كثيراً . وعشية تلك الليلة بالذات حين خنقت التي كانت تثير غيرتها , جاءت الصبية إلى بروفيس وأقسمت أنها ستقتل الطفلة , وأنه لن يراها ثانية , ثم اختفت . "
" وهل نفذت المرأة قسمها ؟ "
" بالطبع يا ولدي لقد قال كل ذلك . عانت والدة الطفلة مدة خمس سنوات من الحياة الأليمة التي وصفها لنا , ويبدو أنه سعر بالإشفاق عليها , لذا فخشية أن يستدعى للشهادة بشأن الطفلة المقتولة ويكون سبباً في موت الأم , فقد أخفى نفسه بعيداً عن الناس وعن المحاكمة , ولم يتطرق الناس إلى ذكره سوى بأنه رجل يدعى آبل كان مثاراً للغيرة . لكنها اختفت بعد تبرئتها , وهكذا فقدت الطفلة ووالدتها . أما الشرير كومبيسون , فحين علم بأنه متخف حين ذاك , وبالأسباب التي تدفعه لذلك , احتفظ بالمعلومات كوسيلة لإفقاره وتشغيله في الأعمال المضنية . "
" وهل أخبرك متى حدث ذلك ؟ "
" منذ عشرين سنة تقريباً . "
" أنظر إلي يا هربرت , المسني , ألا تخشى بأنني محموم ؟ "
" كلا يا ولدي العزيز , بل أنت مثار , لست سوى نفسك . "
" أعلم بأنني لست سوى نفسي , والرجل الذي يختبئ عند النهر هو والد استيلا . "




الفصل الثامن والعشرون
الرسالة الغريبة
في صباح يوم اثنين , حين كنت أتناول الفطور مع هربرت , تلقيت الرسالة التالية من ويميك :
(( احرق هذه حالما تقرأها . في مطلع الأسبوع , أو لنقل يوم الأربعاء , يمكنك أن تفعل ما تعرفه , إن أحببت المحاولة , والآن احرقها . ))
حين أظهرت الرسالة إلى هربرت ووضعتها في النار , رحنا نفكر ماذا ينبغي فعله . قال هربرت : " فكرت بذلك مراراً وتكراراً , أعتقد أن لدي طريقة أفضل من اتخاذ بحار التايمز . خذ ستارتوب . إنه شخص طيب وهو ماهر ومولع بنا , كما أنه متحمس وأمين للغاية , هل تذهب مع بروفيس ؟ "
" من دون شك . "
" إلى أين ؟ "
لم يكن يهم إلى أين سنخرج طالما أن بروفيس سيخرج من انكلترا , أي مركب بخاري خارجي نصادفه ويأخذنا على متنه سيفي بالغرض . كانت خطتنا النزول إلى النهر قبل يوم من مغادرة ذلك المركب لندن , والانتظار في مكان هادئ إلى أن يصبح بوسعنا التجذيف إليه .
وافق هربرت , فخرجنا بعد الفطور نستعلم عن مواقيت انطلاق المراكب البخارية , فعلمنا أن مركباً إلى هامبورغ يناسب غرضنا تماماً . كان ستارتوب في غاية الاستعداد لمساعدتنا , فسيجذف هو وهربرت , بينما أتولى أنا الدفة . وكان على هربرت تحضير بروفيس للهبوط إلى ضفة النهر يوم الأربعاء حين يرانا نقترب , وليس قبل ذلك .
بعد إتمام هذه الترتيبات عدت إلى البيت , ولدى فتح باب الشقة , وجدت رسالة في الصندوق موجهة إلي , تقول :
(( إن كنت لا تخشى المجيء إلى المستنقعات الليلة أو ليلة الغد في التاسعة , وأن تأتي إلى المنزل الصغير المجاور لمحرقة الكلس , فالأفضل أن تأتي . إن كنت تريد معلومات بشأن بروفيس , فالأفضل أن تأتي دون أن تخبر أحداً , أو تضيع الوقت . عليك المجيء بمفردك . ))
كان ذهني مثقلاً بما فيه الكفاية قبل وصول هذه الرسالة الغريبة , فلم أعرف ماذا أفعل الآن . تركت رسالة إلى هربرت أخبرته فيها بأنني قررت القيام بزيارة قصيرة للآنسة هافيشام , وأنني استقليت العربة إلى المدينة .
حل الظلام قبل وصولي إلى هناك , تجنبت الإقامة في البلو بور , فنزلت في نزل أصغر في المدينة , وطلبت بعض العشاء , وبعد أن تناولته ارتديت معطفي وتوجهت إلى المستنقعات مباشرة .
كانت ليلة مظلمة , تهب فيها رياح حزينة , وكانت المستنقعات موحشة للغاية . وبعد سير طويل , شاهدت نوراً في المنزل الصغير القريب من الكلاسة . أسرعت نحوه وقرعت الباب . لم يكن هنالك جواب , فقرعت ثانية , كذلك لم يأتني جواب , عندئذ جربت المزلاج فارتفع تحت يدي وانفتح الباب . نظرت إلى الداخل , فرأيت شمعة مضاءة على طاولة ومقعد , وسرير . ناديت بصوت مرتفع : " هل يوجد أحد هنا ؟ " لكن صوتاً لم يجب على ندائي , ناديت ثانية , وحين لم ألق جواباً , خرجت لا أدري ماذا أفعل .
كانت بدأت تمطر , فعدت إلى المنزل ووقفت عند المدخل . ثم أُطفئت الشمعة فجأة , والشيء الآخر الذي علمته هو أن أحدهم ألقى بحبل فوق رأسي وأوثق يدي إلى جانبيي . سمعت صوتاً يقول : " والآن , قبضت عليك . "
صرخت مقاوماً : " ما هذا ؟ من هذا ؟ النجدة ! النجدة ! "
فإذا بيد رجل قوي تكم فمي لكبت صياحي , فيما تم إحكام وثاقي إلى سلم ببعد بضعة بوصات عن الحائط . قال الصوت : " والآن , اصرخ ثانية فأقتلك . "
ثم أشعل الرجل ثقاباً وأنار الشمعة , فرأيت أنه أورليك . قال بعد أن نظرنا إلى بعضنا لفترة من الزمن : " ها قد قبضت عليك . "
" فك وثاقي , دعني أذهب . "
" آه , سأدعك تذهب . سأدعك تذهب إلى القمر . سأدعك تذهب إلى النجوم , إنما في الوقت المناسب . "
جلس يهز برأسه نحوي , ثم وضع يده بجانبه في الزاوية وتناول مسدساً , وقال وهو يصوبه نحوي : " هل تعرف هذا ؟ هل تعرف أين شاهدته من قبل ؟ تكلم أيها الذئب . "
أجبت : " أجل . "( فقد شاهدته في غرفته في ساتيس هاوس , حين كان يشتغل حارساً للبوابة هناك ) .
" كنت السبب في خسارة ذلك المكان . كنت السبب . تكلم ! "
" وماذا كان بمقدوري أن أفعل غير ذلك ؟ "
" فعلت ذلك . وهذا يكفي , من دون زيادة . كيف تجرأت على التدخل بيني وبين الشابة التي أحبها ؟ "
" متى فعلت ذلك ؟ "
" متى لم تفعل ؟ أنت الذي كنت تسيء إلى سمعة أورليك العجوز أمامها . "
" أنت الذي منحتها لنفسك . أنت الذي أكسبتها لنفسك . ماذا ستفعل بي ؟ "
" سأقبض على حياتك . لن أبقي على خرقة منك , لن أبقي على عظمة منك على الأرض . سألقي بجثتك في الفرن المشتعل . "
كان يشرب وقد احمرت عيناه , وحول رقبته كان يتدلى زق معدني . فقربه من شفتيه ليشرب ثانية , ثم قال : " أيها الذئب , سأخبرك شيئاً . أنت الذي صرع شقيقتك . "
فقلت : " أنت الذي فعل ذلك أيها السافل . "
" وأنا أخبرك بأنه من صنيعك . كنت صاحب الخطوة , فيما كان أورليك العجوز يتعرض للإهانة والضرب , والآن ستدفع ثمن ذلك . "
شرب ثانية وازداد في شراسته , ثم تناول الشمعة وقربها مني حتى أبعدت وجهي لأصونه من اللهي , وما لبث أن توقف فجأة , فشرب من جديد وانحنى للأسفل , فرأيت يده تمسك بمطرقة حجرية لها يد طويلة وغليظة . ودون أن أنطق بكلمة رجاء إليه , صرخت عالياً ورحت أصارع بكل ما أوتيت من قوة . في تلك اللحظة بالذات , سمعت صيحات استجابة ورأيت أشخاصاً ووميض ضوء يتسرب من الباب , ثم سمعت أصواتاً ورأيت أورليك يتعارك مع عدد من الرجال . شاهدته يفر منهم ويختفي في عتمة الليل .
فقدت الوعي بعد ذلك , وحين أفقت وجدت نفسي بلا وثاق , ممدداً على الأرض في المكان نفسه , ورأسي ملقاً على ركبة شخص فيما كان آخر منحنياً فوقي . كانا هربرت وستارتوب .
ضمدا ذراعي التي أصيبت أثناء صراعي في تحرير نفسي . وبعد قليل كنا في طريق العودة , فأخبرني هربرت كيف جاءا لإتقاذي . فقد سقطت مني الرسالة في الغرفة إذ كنت على عجلة من أمري , فوجدها هربرت بعد أن جاء هو وستارتوب بعد خروجي . أثارت لهجة الرسالة قلقه , خاصة أنها لا تنسجم مع الرسالة المستعجلة التي تركتها له فانطلق مع ستارتوب , واستعانا بدليل للمجيء إلى المنزل الصغير المجاور للكلاسة .
حين سمع هربرت صراخي , استجاب له واندفع يتبعه الاثنان .
ونظراً لقرب حلول نهار الأربعاء , قررنا العودة إلى لندن في تلك الليلة . كان قد أطل النهار حين وصلنا , فذهبت إلى الفراش حالاً ورقدت هناك طيلة النهار . حافظ هربرت وستارتوب على هدوئي , وأبقيا على ذراعي بالضماد باستمرار , وقدما لي بعض المشروبات المنعشة , وكنت كلما أغط في النوم أستيقظ بإجفالة لاعتقادي بأن الفرصة قد ولت في إنقاذ بروفيس .




الفصل التاسع والعشرون
المجرم العائد
صباح الأربعاء كان أحد أيام شهر آذار \ مارس حين تشع الشمس بحرارة وتهب الرياح باردة . فاصطحبنا معاطفنا البحرية القصيرة وأخذت معي حقيبة . أما أين سأذهب وماذا سأفعل , أو متى سأعود , فكانت بالنسبة إلي مجهولة تماماً .
سرنا ببطء نحو درجات التامبل , ومكثنا نتسكع هناك وكأننا لم نصمم بعد على النزول إلى الماء . ثم صعدنا القارب وانطلقنا , تولى هربرت وستارتوب التجذيف , وتوليت أنا أمر الدفة .
كانت خطتنا كما يلي : نعتزم الإبحار في النهار حتى المساء , فنكون آنذاك بين ( كانت ) و ( أسيكس ) حيث يعرض النهر ويصبح منزوياً , ويقل السكان على ضفتيه , وحيث الحانات المنعزلة تنتشر هنا وهناك فنستطيع اختيار أحدها نلجأ إليه كموطئ للراحة . وكنا نعتزم المكوث هنا طيلة الليل . أما المركب البخاري المتوجه إلى هامبورغ , فإنه سيغادر لندن نحو التاسعة من صباح الخميس , فكان علينا معرفة الوقت لترقبه حيثما نكون فنناديه .
أنعشني الهواء البارد وأشعة الشمس وحركة الإبحار في النهر , بالأمل متجدداً . ما لبثنا أن مررنا بجسر لندن القديم , وفيما كنت أجلس في مؤخرة القارب , كان بإمكاني رؤية المنزل حيث كان يقيم بروفيس , ودرجات المرسى المجاور . قال هربرت : " هل هو هناك ؟ "
قلت : " ليس بعد . بلى , إني أراه الآن ! مهلاً يا هربرت , المجاذيف . "
لامسنا الدرجات برفق للحظة واحدة صعد بها القارب وانطلقنا من جديد . أحضر معه معطفاً بحرياً فظفاظاً وحقيبة من القماش الأسود فبدا وكأنه بحر نهري , وفق ما كنت أتمناه .
وضع ذراعه على كتفي فيما هو يجلس وقال : " ولدي العزيز ! ولدي المخلص العزيز , حسناً فعلت . شكراً لك , شكراً لك ! "
كان الأقل قلقاً بيننا . ليس لأنه لم يكترث , فلقد أخبرني أنه يأمل العيش ليراني واحداً من أفضل الرجال في بلد أجنبي , لكنه لم يكن ليزعج نفسه بالخطر قبل أن يداهمه .
مكثنا نجذف طوال النهار , إلا حين نعود نحو الشاطئ وسط الحجارة الزلقة نأكل ونشرب . لكن الليل كان يخيم بسرعة , فرحت أجيل النظر بسرعة بحثاً عن أي شيء يشبه المنزل .
أخيراً شاهدنا ضوءاً ومنزلاً , فعدنا إلى الشاطئ وسحبنا القارب لتمضية الليل . وجدنا أن المكان هو حانة , كانت قذرة للغاية , إنما كان في المطبخ موقد جيد , وكان هناك بعض البيض واللحم وشتى أنواع اللمشروبات لنشرب . كذلك كان هناك غرفتان بسريرين مزدوجين يناسبان أربعتنا , فحضرنا وجبة ممتازة على الموقد ثم آوينا إلى الفراش .
استلقيت وأنا أرتدي معظم ثيابي , فنمت ملء جفوني لبضع ساعات , عندما استيقظت نظرت إلى النافذة فوجدت رجلين ينظران إلى قاربنا . مرّا تحت النافذة , وفيما كان الظلام ما زال مخيماً لم أستطع رؤيتهما ثانية , فعدت إلى النوم من جديد . نهضنا باكراً وأخبرتهم بما رأيت , فاتفقنا أن نسير أنا وبروفيس على سبيل الحيطة إلى نقطة معينة , ثم ننتقل إلى القارب من هناك .
نُفذت الخطة , وحين أصبح القارب بمحاذاتنا , صعدنا إليه وجذفنا في أثر السفينة البخارية .
كانت الساعة الواحدة والنصف حين لمحنا بخارها , ثم ما لبثنا أن رأينا خلفها دخان سفينة أخرى . ولما كانتا تقبلان علينا بكامل سرعتهما , فقد جهزنا الحقائب وودعنا هربرت وستارتوب .
ثم شاهدت زورقاً بأربعة مجاديف ينطلق من الشاطئ على مسافة قريبة أمامنا , ويسير في نفس الاتجاه . باتت السفينة الآن قريبة جداً , وما لبث الزورق أن عبر طريقنا وأصبح بموازاتنا . كان بالإضافة إلى المجذفين رجلان , أحدهما ضابط يتولى الدفة , أما الآخر الذي كان يرتدي ثياباً تشبه ثياب بروفيس , فبدا وكأنه ينكمش ويهمس إلى رجل الدفة وهو ينظر إلينا .
تمكن ستارتوب بعد دقائق أن يميز أي سفينة هي الأولى , فقال لي بصوت منخفض : " هامبورغ . " . كانت تقترب نحونا بسرعة بالغة , وراحت ضربات مجاذيفها تعلو أكثر فأكثر . وشعرت وكأن خيالها بات فوقنا , حين نادى الرجال في الزورق لنا , فقال الرجل الذي يتولى الدفة : " لديكم مجرم عائد . ذلك هو الرجل المحتجب بالمعطف الفضفاض . اسمه آبل ماغويتش , وأحياناً بروفيس . إني أدعو هذا الرجل أن يستسلم ؛ وأدعوكم أن تساعدوننا . "
في تلك اللحظة , جعل زورقه يصطدم بقاربنا , وأمسك المجذفون بجانب قاربنا قبل أن ندرك ما كانوا يفعلون , مما تسبب بجلبة شديدة على متن السفينة , فسمعتهم ينادوننا , وسمعت الأمر يصدر بيقاف المجاذيف , سمعتها تتوقف , لكنني شعرت وكأن السفينة تسير فوقنا . في اللحظة تلك , رأيت رجل الزورق في يلقي بيده على كتف السجين , ثم رأيت بروفيس يقفز وينتزع المعطف عنق الرجل المنحني , فكان وجهه وجه المجرم الآخر القديم . رأيته يتراجع بنظرة من الخوف الشديد , وسمعت صرخة شديدة على متن السفينة ورشة صاخبة في الماء , فأحسست بالمركب يغرق تحتي . نُقلت من ثم إلى الزورق , حيث كان هربرت وكذلك ستارتوب . لكن مركبنا اختفى كما اختفا المجرمان .
ما لبث أن شوهد شيء غامق في الماء , ولما اقترب أكثر , تبين لي أنه ماغويتش , جاء يسبح . فنقل إلى متن الزورق وقيدت يداه ورجلاه في الحال .
استمر البحث الدقيق عن المجرم الآخر , لكن الجميع عرفوا بأنه غرق , فجذفوا نحو الحانة التي غادرناها مؤخراً , وهناك تسنى لي إحضار بعض الحاجيات إلى ماغويتش الذي تلقى إصابة بالغة في الذدر وأصيب بجرح عميق في الرأس . أخبرني بأنه اعتقد أنه انزلق من تحت السفينة , وأنه لقي صدمة في رأسه أثناء الصعود . حينما وضع يده على كومبيسون , وقف هذا وتهاوى إلى الوراء , فسقطا عن متن الزورق معاً . ثم جرى عراك تحت الماء , لكن بروفيس حرر نفسه وسبح بعيداً .
حين استأذنت الضابط بتغيير ملابس السجين المبتلة , بعد شراء أية ملابس أستطيع الحصول عليها من المنزل , أذن لي بذلك , موضحاً أن مسؤوليته هي التدقيق في أي شيء يخص السجين .
وهكذا انتقلت المحفظة التي كانت بحوزتي فيما مضى إلى يد القائد . بقينا في النزل حتى تراجع المد , فنقل ماغويتش إلى الزورق ووضع على متنه . كان على هربرت وستارتوب العودة براً إلى لندن بأقصى سرعة ممكنة . وشعرت أن مكاني هو بجانب بروفيس طالما أنه على قيد الحياة . فقد تلاشى شعوري بالكراهية تجاهه ولم أعد أر فيه سوى الرجل الذي عمل ليحسن إلي , وشعر نحوي بالمحبة والعرفان بالجميل . لم أر فيه سوى رجل أفضل بكثير مما كنت تجاه جو .
عندما رجعنا إلى لندن , أخبرته بمدى الحزن الذي ينتابني حين أفكر بأنه عاد إلى بلده من أجلي . فأجاب : " يا بني , إنني في غاية الرضى لأنني جربت حظي فقد رأيت ولدي , ويستطيع أن يكون سيداً بدوني . "
كلا . لقد فكرت في ذلك . كلا . كنت أعلم أنه نظراً لإدانته في الحكومة ستأخذ ممتلكاته . لكن لا ينبغي أنه يعلم بأن آماله في إثرائي قد تلاشت .




الفصل الثلاثون
عقاب العودة
في تلك الفترة الكئيبة من حياتي عاد هربرت إلى المنزا ذات مساء , وقال بأنه سيتركني قريباً . فهو ذاهب إلى القاهرة لبعض الأعمال . سألني إذا ما كنت فكرت بمستقبلي , وحين أخبرته بأنني لم أفعل , قال : " في فرعنا بالقاهرة يا هاندل , إننا بحاجة إلى ـــ "
شعرت بأنه لم يشأ قول الكلمة الصحيحة , فقلت : " كاتب . "
" كاتب , ولعله يصبح شريكاً بعد فترة وجيزة . والآن يا هاندل , هل تأتي ؟ "
شكرته بحرارة , لكنني قلت بأنني لست متأكداً من الالتحاق به مثلما تلطف وعرض علي . فقال بأنه سيترك المسألة معلقة لستة أشهر , أو حتى سنة , إلى أن أتخذ قراري . وسر كثيراً حين اتفقنا على هذا الدبير , وقال بأنه سيجرؤ الآن بإعلامي أنه يعتقد بأن عليه المغادرة في نهاية الأسبوع .
ودعت هربرت نهار السبت من ذلك الأسبوع , وكان قلبه يعتمر بالأمل المشرق , لكنه كان حزيناً وآسفاً لمغادرتي . بعد ذلك عدت إلى منزلي الموحش .
اضطجع بروفيس في السجن تحت وطأة المرض الشديد ينتظر محاكمته طيلة الوقت وراحت صحته تسوء وتضعف منذ أن أُغلق باب السجن .
حان موعد لبمحاكمة في الحال , فسمح له بالجلوس على كرسي في المحكمة , وسمح لي بالوقوف إلى جانبه خارج سجن الإتهام , والامساك بيده . كانت المحاكمة قصيرة وواضحة جداً , وقيل ما يمكن أن يقال عنه في الدفاع عنه ـ كيف اتبع عادات كادحة واغتنى وفق ما يمليه القانون والضمير . لكن الحقيقة بقيت في أنه عاد إلى إنجلترا , فكانت عقوبة عودته هي الموت , وعليه الاستعداد للموت . ورحت أتمنى وأصلي بإخلاص أن تكون وفاته بسبب المرض .
وفيما الأيام تمر , رأيت تحولاً عظيماً لم ألحظه لديه من قبل . فسألته ذات يوم : " هل تعاني من الألم الشديد اليوم ؟ "
" لا أشكو من أي ألم يا ولدي . "
" إنك لا تشكو أبداً . "
كان ينطق بكلماته الأخيرة , ابتسم ورفع يدي ووضعها على صدره .
" عزيزي ماغويتش , يجب أن أخبرك الآن أخيراً . هل تفهم ما أقول ؟ "
ظغط على يدي بلطف .
" كانت لك طفلة أحببتها وفقدتها . "
ضغط على يدي بشدة أكثر .
" عاشت ولقيت أصدقاء أشداء . إنها تعيش الآن , وهي سيدة وفي غاية الجمال . وأنا أحبها ! "
وبجهد هزيل أخير رفع يدي إلى شفتيه , ثم انخفض رأسه على صدره بهدوء .




الفصل الحادي والثلاثون
زواج جو وبيدي
والآن بعد أن خلوت بنفسي , قررت التخلي عن المسكن الذي تشاركت فيه مع هربرت . فقد كنت تحت وطأة الدين , وقل المال في حوزتي , وصرت أعاني المرض الشديد . استلقيت على الأريكة ليوم أو اثنين مثقل الرأس والألم ينخر أطرافي .
وذات صباح حاولت القعود في سريري , فوجدت أنني لا أستطيع ذلك .
أصبت بالحمى وعانيت , فرحت أمضي الأيام وكأنني في حلم رهيب . بدا وكأن أحدهم كان بالقرب مني , وبدا لي دائماً أنه جو . وتمكنت في النهاية أن أسأل : " هل أنت جو ؟ " فأجابني صوته الغالي المعهود : " وهو كذلك يا عزيزي بيب . " . فقد مكثت إلى جانبي لطيلة الوقت , إذ بلغه نبأ مرضي بموجب رسالة , فقالت له بيدي : " إذهب إليه على جناح السرعة . "
ثم أخبرني أنه ينبغي مخاطبتي باعتدال , وأن علي تناول القليل من الطعام في أوقات محددة , وأن أتقيد بكافة تعليماته . فقبلت يده واستلقيت بهدوء فيما شرع يكتب رسالة إلى بيدي , وهي على ما يبدو التي علمته الكتابة .
في اليوم التالي , أخبرني أن الآنسة هافيشام قد توفيت , وأنها أورثت معظم ممتلكاتها إلى استيلا , وأربعة آلاف جنيه إلى السيد ماثيو بوكيت " بسبب شهادة بيب عنه " .
أثار النبأ فرحاً عظيماً في نفسي لأنه توج العمل الصالح الوحيد الذي قمت به . وأخبرني كذلك أن أوريك العجوز اقتحم منزل بامبلتشوك فقبض عليه وأودعه في السجن .
بعد أن استعدت شيئاً من قوتي , أصح جو أكثر تكلفاً معي , فأخذ يخاطبني " سيدي " مما آلمني كثيراً . لكن ماذا يمكنني أن أقول ؟ هل أظهرت له ما يحمل على الشك في إخلاصي , والاعتقاد بأنني في البحبوحة لابد سأغدو بارداً حياله وأطرده ؟
ذات صباح نهضت نشيطاً وأكثر قوة , فذهبت إلى غرفته لكنه لم يكن هناك , وقد اختفى صندوقه . أسرعت إلى مائدة الفطور , فوجدت عليها رسالة لم يرد فيها إلا ما يلي :
" لم أرغب في البقاء أككثر من اللازم فانصرفت لأنك استعدت صحتك ثانية يا عزيزي بيب ,وبوسعك أن تتحسن بدوني.ملاحظة ـ ستبقى أفضل الأصدقاء دائماً. "
وكان بداخل الرسالة إيصال بديوني , وقد دفعها لي جو .
ماذا بقي لي الآن سوى أن أتبعه إلى دكانه القديم فأبدي له كم أصبحت متواضعاً ونادماً , وأن أذهب إلى بيدي وأخبرها كيف فقدت كل ما تمنيته فيما مضى , وأذكرها بأسرارنا الماضية أيام تعاستي الباكرة . ثم أقو لها : " أظن أنك أحببتني مرة أخرى يا بيدي . فإن منحتني نصف تلك المحبة ثانية , إن قبلتي بي بجميع أخطائي وفشلي , حبذا لو أستحق أكثر مما كنت في الماضي . "
استعدت قوتي كاملة في ثلاثة أيام , فاستقليت العربة إلى المدينة وتوجهت إلى الدكان فإذا به مغلقاً وساكناً . لكن المنزل لم يكن مهجوراً , فغرفة الجلوس الفضلى كانت قيد الاستعمال , وسواترها البيضاء ترفرف على نافذتها الزاهية بالأزهار . سرت إليها بهدوء بقصد التطلع إلى الأزهار , حين وقف جو وبيدي أمامي , يداً بيد .
دمعت عيني حين رأيتها , ودمعت عينها حين رأتني . أما أنا فلأنها بدت في غاية النضارة واللطافة , وكانت دموعها لأنني في غاية الإنهاك والشحوب .
" كم أنتي أنيقة يا عزيزتي بيدي . "
" أجل يا عزيزي بيب. "
" وأنت يا جو , كم تبدو وسيماً ! "
" أجل يا عزيزي بيب , يا صاحبي القديم . "
نظرت إليهما , من الواحد إلى الآخر , ثم صاحت بيدي بفرح : " إنه يوم زفافي . سأُزف إلى جو . "
أدخلاني إلى المطبخ , كانا في أشد الفرح والاعتزاز برؤيتي , وسرهما أنني أتيت صدفة لأتم المناسبة . فسررت لأنني لم أتفوه بكلمة عن أملي بالزواج من بيدي . هنأتهما بحرارة وشكرتهما على كل ما فعلاه من أجلي . أخبرتهما أنني سأسافر عما قريب , وبأنني لن أرتاح إلا حين أعيد المال الذي جنبني جو بواسطته دخول السجن , وقلت : " والآن , رغم معرفتي بأن ذلك صدر عنكما بقلب طيب , قولا لي سوياً بأنكما تصفحان عني . "
قال جو : " أوه يا عزيزي بيب , يا صاحبي القديم . يعلم الله بأنني صفحت عنك , إن كان هنالك ما يستجوب الصفح . "
وقالت بيدي : " والله يعلم بأنني فعلت . "




الفصل الثاني والثلاثون
فراق الأصدقاء
بعت كل مالدي وسددت ديوني المتوجبة علي , ثم سافرت لألتحق بهربرت في القاهرة . مضت عدة سنوات قبل أن أصبح شريكاً في المل , لكنني عشت بسعادة مع هربرت وزوجته كلارا . وكنت دائماً أراسل جو وبيدي .
كنت لم أرهما لإحدى عشرة سنة عندما ذهبت ذات مساء في شهر كانون الأول \ ديسمبر إلى منزلي القديم المجاور لدكان الحدادة . فوجدت جو جالساً هناك يدخن غليونه في مكانه المعهود بالقرب من موقد المطبخ , بكامل عافيته وقوته كما كان دائماً , رغم بعض الشيب . وهناك , كنت محصوراً في الزاوية بساق جو , أجلس على مقعدي الصغير أنظر إلى النار مرة أخرى .
فقال جو بفرح غامر حين جلست بالقرب من طفله : " لقد سميناه بيب إكراماً لك يا صديقي العزيز , ونأمل أن يصبح مثلك ولو قليلاً . "
في المساء ذهبت لمشاهدة منزل الآنسة هافيشام القديم , من أجل استيلا . فقد بلغني أنها تعيش حياة تعيسة جداً , وأنها انفصلت عن زوجها الذي كان يعاملها بغاية القسوة والدناءة , وبلغني أنه توفي .
لم يكن هناك الآن أي بيت أو مصنع للجعة , ولا أي بناء , بل جدار الحديقة القديمة . رأيت امرأة تسير نحوي , وحين اقتربت , صرخت : " استيلا ! "
" تغيرت كثيراً , أستغرب كيف عرفتني . "
لقد ولّت نضارة جمالها حقاً , لكن وقاره وجاذبيته التي تفوق الوصف لم يبارحانه .
جلسنا على مقعد قريب وقلت : " بعد تلك السنوات الطويلة , غريب أن نلتقي ثانية يا استيلا , هنا حيث كان أول لقاء لنا ! هل تعودين إلى هنا ؟ "
قالت : " كلا . " ثم أضافت بعد صمت : " إنني صاحبة الأرض , إنها ملكيتي الوحيدة التي لم أتخل عنها . ضاع مني كل ما عداها شيئاً فشيئاً , لكنني احتفظت بهذه . "
" وهل سيتم البناء عليها ؟ "
" في النهاية سيتم ذلك , جئت أودعها قبل أن تتغير . هل ما زلت تعيش في الخارج ؟ "
" أجل . "
" وتسير أمورك جيداً , كما أرجو ؟ "
" أجل , أعمل على ما يرام . "
" فكرت بك دائماً . "
" كنت دائماً في مكانك بقلبي . "
" لم أفكر كثيراً بأنني سأودعك أثناء وداع هذه البقعة , إني سعيدة بذلك . "
" هل أنت سعيدة لفراقنا ثانية يا استيلا ؟ فالفراق بالنسبة لي شيء مؤلم . ولطالما كانت ذكرى فراقنا الأخير بالنسبة لي مثار حزن وألم . "
" لكنك قلت لي : ليباركك الله , ليسامحك الله ! فإن استطعت أ تقول لي ذلك آنذاك , فلن تترد أن تقول لي ذلك الآن , بعد أن علمتني المعاناة أن أفهم ما اعتاده قلبي . لقد خضت وتحطمت , إنما لأكون في حال أفضل كما أرجو . كن طيباً معي كما كنت , وقل لي بأنني أصدقاء . "
قلت وأنا أنهض منحنياً فوقها , فيما كانت تنهض عن المقعد : " إننا أصدقاء . "
فقالت : " وسنبقى أصدقاء منفصلين . "
أمسكت بيدها وخرجنا من المكان الخرب , وفي ضوء المساء الهادئ , لم أر أثراً لفراق آخر .


تمت ...

اتمنى تكون الرواية عجبتكم

وكما قلت في البداية ... للأمانة انا من كتب الرواية


جيرمون111 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس