عرض مشاركة واحدة
قديم 16-01-12, 07:51 AM   #16

جين اوستين333
 
الصورة الرمزية جين اوستين333

? العضوٌ??? » 66163
?  التسِجيلٌ » Dec 2008
? مشَارَ?اتْي » 1,009
?  نُقآطِيْ » جين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond reputeجين اوستين333 has a reputation beyond repute
افتراضي

5-وكان لابد لها أن تشهد الجانب العنيف من حياة الكامارغ فبعد وقت لطيف على الشاطئ جاء عراك و بعد العراك جاءت البصّارة...

قبل التاسعة وصلا إلى الشاطئ, النهار ما زال ساطعاً مع أن الشمس بدأت تختفي وراء الأفق. المكان رائع ولا أحد في الجوار. ارتدت جوسلين بزة السباحة وراء شجرة صغيرة, قم وافت رفاييل إلى البحر. لعبا معاً في الماء الدافئة, الشفافة لمدة نصف ساعة, و لما عادا إلى الشاطئ الرملي, كانت جوسلين قد استعادت حيويتها, فارتمت فوق منشفتها و قالت:
-آه, انها الجنة!
جلس رفاييل قربها على منشفته, ثم انتشل من كيس صغير لوح شوكولاتة و ناولها اياه, فقالت له:
-آه, رائع! أنا جائعة حقاً. و كان يجب عليّ أن أتذكر و أجلب بعض الخبز على الأقل.
قطعت لوح الشوكولاتة نصفين و ناولته جزءاً, فقال لها:
-كلا, اللوح كله لك, أنا سأدخن سيكاره.
بقيا صامتين قليلاً, الفتاة تقضم بشهية و تتأمل الأمواج تصفق على الرمل, و الشاب ممدد على ظهره, مغمض العينين, يدخن سيكارته بكسل. نسيت الفتاة وجوده كلياً, عندما نهض فجأة وسألها:
-هل لديك صديق في انكلترا, يا جوسلين؟
أجابت و هي تنظر إلى البحر قلقة:
-أنا لست مخطوبة لأحد, إذا كان هذا ما تريد معرفته.
-لكن, هل هناك رجل تحبينه كثيراً و تفضلينه عن الآخرين؟
تذكرت طوم, لو لم تسافر لربما عقدا خطبتهما؟ طوم العزيز... اللطيف... الواثق من نفسه... ربما لقيت السعادة معه... لو لم تأت إلى فرنسا.
أجابت الفتاة:
-كلا, كلا, لا أحد.
اطفأ رفاييل سيكارته و قال:
-أنا, تعرفت على العديد من الفتيات, لكن لم يحصل شيء جدي حتى الآن. في كل حال, لا أنوي الزواج قبل أن أبلغ الثلاثين من عمري, على الأقل.
نظرت إليه مبتسمة و قالت:
-إذا انتظرت حتى ذلك الوقت, ربما انقرضت الفتيات الجميلات! يقال أن فتيات مدينة آلرز رائعات الجمال, أليس كذلك؟
-آه, نعم... عندما يكن شابات فقط... إذ سرعان ما يصبحن سمينات, شرسات, كلما كبرن في السن. لكنك أنت و ابنة عمك تختلفان عن بنات بلادنا.
-ماذا تعني؟
-أعني بأن بنات بلادنا متى تزوجن, يتوقفن عن الاهتمام بأنفسهن.
-لو كنا, ابنة عمي و أنا, نعمل بقسوة مثل نساء الحراس, لما وجدنا, مثلهن, الوقت للاعتناء بأنفسنا. في كل حال, أنت أيضاً, لن تبقى شاباً وسيماً إلى الأبد. ذات يوم ستنتفخ و ستشيخ و ستفقد وسامتك و نضارتك.
ضحك و قال:
-ربما. لكن أنت, ستظلين جميلة دائماً.
ضحكت الفتاة و لم تعرف تماماً كيف تنظر إلى الوضع الحالي. هل يتكلم رفاييل هكذا مع كل الفتيات؟ فأحابتها غير مبالية:
-شكراً لهذا المديح. لكن, قل لي, ما رأي الحراس بزواج جان-مارك من فتاة أجنبية؟
-يقولون عنه بأنه محظوظ. آه, هل قيل لك بأن السيدة سانتون كانت تأمل من جان-مارك أن يتزوج الآنسة دورانس؟
-نعم. هل هذه الأقاويل خاطئة؟
-كلا, كلا, انها صحيحة. قبل ان يسافر جان-مارك إلى باريس, كان يبدو عليه أنه سيوافق على قبول هذا الزواج. لكنه وجد صعوبة في الحصول عليها, لأنها فتاة فظة, لا تريده هو, انما تريد الزواج من المعلم الكبير.
قالت جوسلين باضطراب و دهشة:
-من جيرفيه؟
-لا تعرفيه ذلك بعد؟ انه الموضوع الأكثر تسلية في أحاديث المنطقة: هل تحصل عليه أم لا؟
-وحسب رأيك, ماذا سيحدث؟
-آه, سيستسلم لها جيرفيه في نهاية المطاف. انها فتاة جميلة, جذابة, و تملك مهراً ضخماً. يعرف المعلم كيف يسيطر عليها. الثيران, الأحصنة, النساء... شيء واحد بالنسبة له. الفتاة اللطيفة, السلسة, الطيعة, لا تناسبه أبداً...
حل الليل و الرمل ما يزال ساخناً. لكن جوسلين أخذت ترتجف برداً, فقالت:
-لماذا إذاً, لا يطلب جيرفيه يدها؟ ماذا ينتظر؟
-جيرفيه لا يريد الزواج الا من أجل انجاب أولاد يرثونه و يحلون مكانه فيما بعد. رجل مثله ليس بحاجة إلى خاتم في جيبه ليركّع الفتيات أمامه.
نهضت جوسلين وقالت:
-سأرتدي ملابسي.
ثم عادت إلى رفاييل الذي كان يسرح شعره بتأن. فقال لها:
-آسف لأنني حدثتك بهذه اللهجة و هذه الصراحة. ليس في نيتي أن أصدمك. انما هذه هي الحقيقة في بلادنا.
لم تنهض الفتاة بسبب كلام رفاييل, انما لتخيلها صورة جيرفيه، الرجل العازب, المحنك, الذي يريد زوجة له, فقط, كي يستمر نسله.
أجابت جوسلين بهدوء:
-لا أهمية لذلك, يا رفاييل.
لما صعدا إلى الدراجة النارية, اقترح الشاب قائلاً:
-هناك مقهى صغير في طريقنا, باستطاعتنا التوقف عنده و احتساء القهوة.
المقهى بناء منعزل و قديم. امامه توقفت الشاحنات و الأحصنة المربوطة بالحاجز و قافلة غجر. أشار رفاييل رأسه إلى القافلة و قال:
-الغجر!
في تلك الأثناء سمعا عزف قيثارة داخل المقهى, فاختفى ضجيج الأصوات و الضحكات و بدأ الناس يغنون و يصفقون مع ايقاع الموسيقى. كانت الصالة تعج بالناس. أمسك الشاب يد جوسلين و سارا معاً نحو احدى الزوايا, ثم هتف لأحد الحراس فنهض الحارس و أعطى مكانه للفتاة, ابتسمت له جوسلين و قالت:
-شكراً, يا سيد, شكراً.
انحنى الحارس مبتسماً, ثم ابتعد. طلب رفاييل من الخادم احضار القهوة. وبينما كان أحد الفجر يعزف على الكمان, راحت امرأة عجوز تمر بين الطاولات طالبة من الزبائن كشف بختهم.
بعد قليل لاحظت الفتاة مجموعة رجال غرباء عن المنطقة, جالسين حول طاولة يحتسون المشروبات. فجأة لمحت أحد رجال هذه المجموعة يشير إليها بيده, فاحمرت و أزاحت وجهها. أخبرها رفاييل, بعد أن رمق الرجل بنظرات حقد, بأن هؤلاء الرجال من عمال حقول الأرز. فتذكرت ما أخبرها به جان-مارك عن المشاجرات التي تحصل عادة بين حراس الماشية و هؤلاء العمال.
فبعد الحرب, جرى تخصيص قسم كبير من أراضي منطقة الكامارغ لزراعة الأرز, فخاف أصحاب الماشية و حراسها أن يتسع هذا القسم بمرور الزمن, على حساب مراعي القطعان. خاصة أن العمال النازحين يختلفون كلياً عن الحراس المحافظين, الفخورين بأرضهم و منطقتهم. و هذا الخوف ما زال مسيطراً على المنطقة.
نظرت جوسلين إلى ساعة يدها و فوجئت بتأخرها. الساعة تشير إلى العاشرة و النصف, بينما وعدت السيدة سانتون في العودة إلى المزرعة قبل العاشرة فطلبت من رفاييل الذهاب فوراً. وبينما كان الشاب يدفع الفاتورة, تقدم أحد العمال من الفتاة و انحنى و قال لها شيئاً لم تفهم معناه.
لكن رفاييل سمع ما قاله العامل, فارتسم الغضب على وجهه وأمر الرجل بترك جوسلين و شأنها. وما حدث بعد ذلك كان بمثابة كابوس بالنسبة إليها. عم الصمت أرجاء المكان, و حدقت العيون بالشاب و العامل.
خرج رفاييل إلى خارج المقهى و تبعه العامل, و بدأت المعركة بينهما. لم يسبق للفتاة أن رأت مشاجرة حية بالأيدي من قبل. الحقيقة القاسية أغثتها, فراحت تصرخ و تقول لصاحب المقهى:
-آه, أرجوك... أوقفهما! أرجوك!
لكنه كان يهز كتفيه و رأسه و يقول:
-عراك كهذا يتكرر باستمرار ومن الأفضل عدم التدخل.
خلال الدقائق الأولى, ظل العراك مناصفاً. صحيح أن العامل أضخم جثة من رفاييل, لكنه أقل منه بنية جسدية. احتد العراك و أحيطت حلبة المصارعة بدائرة من الزبائن المتحمسين لمعرفة نتيجة العراك. فجأة, توقفت سيارة جيب على بعد امتار قليلة من حلقة المشاهدين, نزل منها جيرفيه و تقدم داخل الحلبة. فرح قلب جوسلين لدى رؤيته, ولو لم تكن محاطة بالغجر, لأسرعت إليه.
أطلقت زفرة ارتياح عندما رأته يدفع رفاييل جانباً ثم أمسك بخصر العامل الذي حاول التخبط بشدة, لكنه وقع أرضاً بدوره.
رفع جيرفيه نظره إلى الجمهور و لمح بعض رفاقه, فقال آمراً:
-خذوه من هنا.
ثم رأى جوسلين, فاتجه نحوها بوجه غاضب و حاقد, ثم أمسكها من ذراعها بشدة و جرها إلى سيارته, بينما كانت تردد بتلعثم قائلة:
-لكن... لكن رفاييل؟
لم يرد عليها, بل دفعها إلى داخل السيارة ثم صعد إلى مكانه و أقلع في غيمة غبار كثيفة. بصعوبة تمكنت الفتاة من السيطرة على ارتجاف جسمها و توترها العصبي لكنها ظلت تخشى المشهد الذي سيلي.
عندما وصلا إلى المزرعة, كانت عينا جيرفيه قد فقدتا برقيهما التهديدي, انما فمه ظل متقلصاً. و بصوته العادي الهادئ قال:
-اذهبي إلى فراشك. سأعيد زوجة الحارس إلى منزلها...
نظرت إليه الفتاة بذعر, و من غرفتها سمعت محرك الجيب يقلع. و بعد قليل وصل جان-مارك و كاميليا. و لما تأكدت من أن الزوجين ناما, نزلت إلى المطبخ لتعد لنفسها فنجان قهوة علها تستعيد نشاطها. لن تستطيع النوم قبل أن تتحدث إلى جيرفيه و تبرر موقف رفاييل.
لكن عندما سمعت أصوات خطوات تتقدم من الباب الخلفي, كادت أن تفقد رباطة جأشها و تفر, ولما رآها جيرفيه جالسة أمام الطاولة, قطب حاجبيه و قال:
-هذه أنت... ألم أقل لك أن تذهبي إلى فراشك؟
بلعت الفتاة ريقها و أجابت:
-عليّ أن أحدثك... أن أشرح لك ما جرى.
-بإمكانك مناقشة ذلك غداً صباحاً. الساعة تشير إلى منتصف الليل ولا أريد ازعاج الآخرين.
-آه, أرجوك... لا استطيع أن أنام قبل أن أحدثك. أنت غاضب, أعرف ذلك. اسمعني, أرجوك. لن أطيل الحديث.
-حسناً. ما دمت تصرين. لكنني أتكهن بما حدث. انه رفاييل الأحمق, لا مكان له في مزرعتي بعد الآن. عليه أن يبحث عن عمل في مكان آخر.
-هل يعني بأنك ستطرده؟
-نعم. لقد سبق و أنذرته مراراً. و إذا كان يفضل عدم طاعتي, فعليه أن يتحمل عواقب ذلك.
-لكن, ليس من العدل طرده... لم تكن غلطته. لو ... لو كنت انت هناك أيضاً, لتشاجرت مع هذا العامل الحقير. لقد عاركته في كل حال.
-ضربته لأنها الطريقة الوحيدة لوضع حد نهائي للعراك. أنا أعارض الرد على التحديات. العنف لا يؤدي إلى شيء.
خلع سترته الجلدية و قال:
-أهالي منطقة الكامارغ يخافون جميعاً امتداد حقول الأرز. لكن العراك لا فائدة منه. إذا كان رفاييل لا يستطيع رؤية أحد هؤلاء العمال من دون أن يجن جنونه, فهو إذن بحاجة إلى درس جيد.
قالت محتجة:
-أنت لا تفهم. كانت الغلطة غلطتي أنا. لقد تشاجرا بسببي أنا.
تقلص حنقه و سألها بجفاف:
-ماذا تقصدين؟
-قال لي العامل شيئاً لم أفهمه, فطلب من رفاييل الابتعاد, فأجابه العامل بأنه لن يبتعد إلا بالقوة. حتى أنت, كنت رديت على هذا التحدي أليس كذلك؟
لمعت عينا جيرفيه و قال:
-ما كان عليه أن يصطحبك إلى هذا المكان, في بادئ الأمر.
-لكن معظم زبائن هذا المقهى من حراس الماشية و أنا أعرف أن أخلاقهم رفيعة و تصرفاتهم مدروسة.
-ليس هذا ما أقصده. لكن الظاهر نسيت بأنني نصحتك عدم معاشرة رفاييل.
-لا, بل أتذكر تماماً. أنت مخطئ بحقه. لقد أمضيت معه سهرة رائعة, إلى أن وصلنا إلى المقهى.
أمسكها جيرفيه بكتفها بعنف و قال بخشونة:
-آه صحيح! لكن هذا لن يتكرر... و أصر على ذلك. ما دمت تعيشين تحت سقفي, فستحترمين رغباتي, يا صغيرة. و الآن, إلى فراشك. القضية انتهت و أقفل الموضوع. ولا أريدك أن تحدثيني بهذا بعد الأن, اطلاقاً.
ثم خرج و اختفى في الظلام.
لا جيرفيه ولا رفاييل ظهرا على مائدة الفطور صباح اليوم التالي, ولم تتجرأ جوسلين أن تسأل الحراس إن كان رفاييل قد عاد إلى المزرعة مساء أمس, و كانت تخشى أن تلاحظ كاميليا ملامح الأرق في عينيها المرهقتين بعد ليلة بيضاء, لكن المرأة كانت منهمكة بالحديث عن مزرعة آل دورانس ولم تلاحظ وجه الفتاة الشاحب و جفنيها الحمراوين. انما كانت تقول:
-انها حقاً مزرعة رائعة, يا جوسلين. لو كان الأمر مشابهاً هنا, لقبلت العيش بكل سرور. لكن المكان بحاجة إلى انسان ذواقة و مرهف كي يصبح جنة و روعة.
-وهذا المكان بحاجة إلى المال ليصبح ما تحلمين به يا كاميليا.
-جيرفيه يملك المال. و يملك أيضاً أفضل ثيران المنطقة. لا شك أنه مرتاح من الناحية المادية, مع أنه لا يبدو هكذا. الله وحده يعرف ماذا يفعل جيرفيه بأمواله الطائلة. حتى جان-مارك نفسه لا يفهم لماذا أخوه اقتصادي إلى هذه الدرجة.
سألت جوسلين لتغير الحديث:
-هل سيلين الفتاة الوحيدة لوالديها؟ أليس لها أخ؟
-انها وحيدة, والدها تجاوز الستين من عمره ولا شك أنه تزوج في سن متأخرة. انه رجل لطيف جداً.. و ذكرني بالمثل المشهور, موريس شونالييه, لكن للأسف, اصيب العام الماضي بذبحة قلبية, و سيلين قلقة على صحته كثيراً.
و قالت جوسلين لنفسها: " لا تملك سيلين، الجمال و المهر, فحسب، إنما ذات يوم, ستملك مزرعة والدها كلها. لهذا السبب لا يريد جيرفيه أن يصرف فلساً واحداً على مزرعته".
شعرت بالاشمئزاز و القرف... ليس اتجاهه, بل اتجاه نفسها, لمجرد تصوره قادراً على مشاريع حقيرة كهذه.
ثم قالت لنفسها بخجل: " لو كنت أحبه حقاً, لما فكرت هكذا, بل لكنت وثقت به و آمنت به و صدقته. و إذا كان هذا الشعور الداخلي ليس حباً, لماذا أتعذب إلى هذه الدرجة؟ لماذا تبدو حياتي بلبلة حقيقية؟ لماذا وصل بي الأمر أن أخشى العودة إلى انكلترا؟"
خلال فترة الصباح, اصرت العجوز أن تنهض من سريرها, مع العلم أنها لم تشف بعد نهائياً. لكن جوسلين أصرت على المواصلة في القيام بالأعمال المنزلية الصعبة, فقالت لها العمة:
-أنت فتاة طيبة, يا جوسلين. لدى وصولك إلى هنا, لم أنظر إليك نظرة جيدة, بعدما رأيت ملابك الأنيقة و الطلاء على اظافرك. لكنك برهنت بأنك فتاة مسئولة و ستصبحين في المستقبل امرأة قادرة. يا الأسف, فكاميليا لا تشبهك!
أجابت الفتاة بهدوء:
-انها تحب ابن أخوك و تحمل ولده. ليس مجرد أن تتقن الزوجة الطهي, تكون زوجة جيدة, يا سيدتي.
زمت العجوز شفتيها وقالت:
-ربما. لكن واجب المرأة أن تطعم زوجها و تغذيه جيداً. عندما كانا يسكنان في مدينة آلرز, كان جان-مارك رجلاً جائعاً. فهو ليس مثل جيرفيه بصحة متينة. انه سريع العطب منذ صغرة. حتى السابعة من عمره, كان يعاني من الربو أمضيت الليالي الطويلة أسهر عليه. أحياناً كان يصح أزرق حتى الموت. سأريك احدى صوره.
تناولت العمة صورة من دولابها و قالت وهي تشير إلى الرجل الضخم فيها:
-هذا هو زوجي!
كانت العمة في الصورة جالسة على كرسي, تلف ذراعها حول كتف صبي يتكئ عليها.
-وهذا هو جان-مارك أترين كم هو نحيل. كان في العاشرة من عمره بينما يبدو في الحقيقة في السادسة.
لكن جوسلين كانت تنظر إلى وجه الصبي الأكبر الواقف قربه. و تساءلت لنفسها: " لماذا لم تضع العمة ذراعها الثانية حول كتفه, بينما هو متروك على حدة, عابس و عدائي؟ بسبب جان-مارك و مرضه, لم تجد له وقتاً؟ هل قساوته ناتجة عن نقص في الحنان؟".
وبينما كانت جوسلين تكنس تحت سريرها, لمحت ظلاً وراء نافذتها, فصرخت مندهشة:
-رفاييل! آه, رفاييل, يا لوجهك المسكين!
-لقد رأيت اسوأ من ذلك, يا آنسة.
ثم قال بصوت منخفض:
-ذهبت إلى المطبخ لأتحدث معك, فرأيت العجوز. أنا آسف لما حدث مساء أمس. لا شك أنك غاضبة مني. لكنني لم أتحمل اهانة العامل لك و شتيمته الكبيرة.
-أنا لا ألومك, يا رفاييل. لكن جيرفيه غاضب جداً. هل رأيته؟
-نعم. أخرجني من السرير قبل الفجر. وقال لي, بأنه, في المرة المقبلة, إذا حصل معي شيء مماثل, فسيطردني نهائياً من دون أي تردد.
-لكنه قال لي في الأمس بأنه سيطردك اليوم نهائياً.
-آه, صحيح؟ ربما غير رأيه في الليل. انه سريع الغضب حيال من لا يطيعه. و هو في الوقت نفسه رجل صادق. لقد سمح لي أن أشرح له ما حدث, إذا اقترب مني أحد, عليّ أن أتحاشاه و أبتعد. كما أمرني أيضاً ألا أوجه إليك الكلام أبداً.
اختفى رفاييل من وراء النافذة حين دخلت كاميليا إلى غرفة جوسلين. وما ان انتهت الفتاة من تنظيف غرفتها, توجهت لتنظيف غرفة جيرفيه, الغرفة الوحيدة التي تجاهلت الاعتناء بها منذ أن حلت مكان العمة. و ها هي تدخلها للمرة الأولى, بإلحاح, علها تجد فيها تفسيراً لشخصيته المحيرة.
كانت الغرفة تحتوي على سرير ضيق يقع تحت احدى النوافذ. أحد جدرانها مليء بالكتب و بعض صور الخيول و القطعان. على الجدار المواجه, تعلقت لوحة زيتية تمثل قطيع أحصنة بيضاء تجتاز فوق مستنقع صغير. لم تكن الغرفة وسخة أبداً. و الظاهر أنه يحافظ على نظافتها بنفسه. كما لاحظت الفتاة بأن الرجل يجيد تقطيب الأزرار و رتق ملابسه و تصليحها.
فجأة لفتت نظرها صورتان, على طاولة قرب السرير. الأولى تمثل زوجين متعانقين: الرجل يشبه جيرفيه و المرأة تشبه جان-مارك. عرفت في الحال أنها صورة والديه. أما الصورة الثانية كانت تمثل سيلين دورانس, وهي واقفة قرب نافذة, ترتدي ثوباً أسود, ضيقاً, يظهر كل تفاصيل جسمها و قامتها الجميلة. تبدو ناعمة, بعينيها الثاقبتين و ابتسامتها الساخرة.
" ربما يحبها جيرفيه حقاً. ربما لم يطلب يدها بعد لاعتقاده بأنها ما تزال تحب أخاه. هل يجهل بأنها لم تكن تحب جان-مارك، انما تحبه هو؟ أليست هذه الصورة برهاناً لحب جيرفيه؟"
وضعت الفتاة الصورتين مكانهما لدى سماعها خطوات في الممر. لكن جيرفيه ظهر على عتبة باب غرفته قبل أن تتمكن من جمع معدات التنظيف و الخروج. بدا منزعجاُ لرؤيتها داخل غرفته, فأحمر وجه الفتاة. قال لها:
-لست بحاجة لتنظيف غرفتي. فأنا أفضل أن أنظفها بنفسي. لا أحب رؤية أغراضي في غير محلها.
-آسفة جداً, لم أكن أعرف ذلك. لم ألمس شيئاً على كل حال.
كان يمسك باب الغرفة مفتوحاً و ينتظر رحيلها, لكنها همست تقول:
-اشكرك لأنك غيرت رأيك بما يختص برفاييل.
-هل تحدثت معه؟
كذبت و قالت:
-كلا, لكنني رأيته من نافذة المطبخ, و أدركت بأنك غيرت رأيك.
-هل هذا يهمك إلى هذه الدرجة؟
-كنت انزعجت كثيراً لو خسر رفاييل وظيفته بسببي.
-آمل أن تحتفظي بسرية أكبر في المستقبل.
ثم أغلق الباب وراءها.
في المساء, حمل جان-مارك رسالة إلى جوسلين من الطبيب بيشوب, يقول فيها:
" عزيزتي جوسلين،
بعد تفكير عميق, لم أر مانعاً من بقائك مع كاميليا حتى مولد الطفل, أو لشهر اضافي أيضاً, إلى أن تستعيد عافيتها و نشاطها, لقد اشتقنا جميعاً إليكِ كثيراً. لكن, ما دمت لم تتخذي قراراً بعد بخصوص مستقبلك, فلماذا لا تغتنمي فرصة وجودك في فرنسا و تحسني لغتك الفرنسية؟ هذا سيساعدك على الحصول على وظيفة مهمة لدى عودتك. أعتقد أنك صرفت كل مالك, لذلك أرسل إليك هنا طيه بعض الشيكات...".
و تحتوي بقية الرسالة على أخبار الوطن و البيت و القرية, و على كلمة من إليزابيث، زوجة والدها الجديدة. و لما قرأت جوسلين هذه الرسالة أمام ابنة عمها، قالت لها كاميليا:
-هل رأيت؟ والدك يرى بأن عليك البقاء معي حتى آخر المطاف.
-نعم, رأيت. لكن، ربما عائلة زوجك تفكر بطريقة مختلفة. تذكري بأنني ضيفة عندهم.
-لا يجرؤ أحد على طردك من هنا، بعد كل الذي فعلته من أجلهم.
-لم يطلبوا مني شيئاً. أنا قدمت خدماتي, بملء ارادتي و بطيبة خاطري.
-كما وفرت عليهم كثيراً. لولاك لاستخدموا امرأة غيرك و دفعوا لها أجرة خدماتها. اذن, عديني أن تبقي شهراً على الأقل, بعد ولادة الطفل.
-حسناً, أعدك. إذا ليس لعائلة سانتون مانعاً بذلك.
بعد الحديث مع جوسلين, قالت السيدة سانتون بحماس:
-سأكون مسرورة جداً إذا بقيت, يا ابنتي. أنا بحاجة لمساعدتك عند ولادة الطفل. فأنا لم أعد شابة و هناك غسيل كثير.. أحياناً أفكر بفارغ الصبر باليوم الذي يتزوج فيه جيرفيه و يجلب لنا زوجة تأخذ عني كل هذه المسئوليات. لقد عشت حياة قاسية و أرغب في الراحة قبل أن أموت.
هذه الكلمات شجعت جوسلين على السؤال:
-لماذا لا تجلبين محركاً كهربائياً, يا سيدتي؟ بواسطته ستخف أعمالك.
-غالباً ما نصحني جيرفيه بذلك, لكنني كنت أتدبر أمري من دونه. ومنذ أربعين سنة و أنا أعيش بلا كهرباء. الآن أصبحت عجوزاً و لا أستطيع تغيير عاداتي. طبعاً ستحصل تغييرات عديدة متى تزوج جيرفيه, لكن في الوقت الحاضر أفضل التعامل مع الوسائل و المعدات التقليدية. جيرفيه يصرف أمولاً كثيرة و لا يريد الاعتراف بذلك. لكنني أعرف بأنه دفع مصاريف المستشفى لمعالجة طفل آل لورانس المعاق, وما زال يعيل ارملة هنري لوماتر, و يدفع مصاريف الدراسة الموسيقية لابنها في باريس. أنا مقتنعة بأن جيرفيه يبالغ كثيراً بكرمه الحاتمي, لكنه يرفض أن يصغي إلي. انه تماماً مثل والده. باستطاعته أن يهب قميصه إذا ما احتاج الأمر لذلك.
خرجت الفتاة من غرفة العمة متسائلة كيف ستكون ردة فعل جيرفيه عندما يعلم بأن جوسلين لن تسافر مباشرة بعد الاحتفال بعيد السيدة سارة.
في اليوم التالي, توالت القوافل و الشاحنات في عبور الطريق التي تبعد مسافة 800 متراً عن مزرعة آل سانتون. و كالعادة، قبل يومين من الاحتفال السنوي, تكتظ جميع طرفات منطقة الكامارغ بدوي البشرة السمراء, الذين يريدون الاحتفال بسيدة البحار.
وقبل أن يذهب جان-مارك إلى مدينة آلرز, مركز عمله, قال لجوسلين:
-الجمهور سيكون من هب و دب. بعضهم من فناني السيرك المشهورين, و البعض الآخر من الفنانين المزيفين الذين يتسولون للعيش. قبل الحرب, كانوا يأتون من جميع أنحاء أوروبا. لكن الآن, هناك الستار الحديدي, و معظم الذين يأتون اليوم إلى هذا الاحتفال من اسبانيا.
في ذلك المساء و بينما كانت جوسلين و العمة منهمكين في تحضير الطعام, ظهرت بصارة غجرية على عتبة باب المطبخ, فدعتها العمة إلى الدخول و قدمت لها القهوة و أرسلت جوسلين لإحضار كاميليا و جان-مارك.
أخبرت الغجرية كاميليا بأنها ستلد صبياً يتبعه بعد سنتين صبي آخر. ثم أضافت تقول:
-لديك موهبة، يا سيدة. و إذا عرفت كيفية استعمالها, فستسعدين في حياتك. و تربحين الأموال الطائلة. الماضي مضى و عليك البدء بالتفكير في المستقبل.
اندهشت كاميليا وقالت:
-موهبة؟ ماذا تعني بذلك, يا ترى؟
ثم راحت الغجرية تقرأ خطوط يد العمة. فدخل جيرفيه في تلك الأثناء و اتكأ على حائط المطبخ ليسمع تنبؤات البصارة و هي تقول للعمة بأنها ستعيش عمراً طويلاً و ستظل محترمة من قبل الجميع. ثم قال جان-مارك:
-دورك الآن, يا جوسلين.
-لا, لا أريد!
الجميع قالوا معاً, بصوت واحد, ما عدا جيرفيه:
-بلى, بلى.
كادت تستسلم حين قال جيرفيه للغجرية:
-الفتاة الانكليزية لا تؤمن بقراءة الكف, يا جدتي.
أشارت البصارة لجوسلين أن تجلس قربها, ثم قالت:
-اذن, أنت تشكين في الأمر, يا آنسة, لكنك فتاة عاقلة جداً, بالنسبة إلى عمرك. صحيح بأن معظم البصارات مزيفات, لكن أنا, أدعى ماريا بيسارورا, ولديّ موهبة لا تخطئ. ستتذكرين ما سأقوله لك. أعطني يدك, يا أبنتي.
ظلت الغجرية لدقائق صامتة تنظر إلى يد الفتاة التي بدأت تشعر بالانزعاج. أخيراً رفعت البصارة رأسها و قالت:
-ماتت والدتك عندما كنت ما تزالين صغيرة, و الآن حلت مكانها امرأة أخرى في حياة والدك, و أصبحت زوجته. ولم يعد أحد بحاجة إليك هناك. لقد حان لك أن تختاري رجل حياتك و تبدئين حياة جديدة.
قالت كاميليا باستغراب:
-لكن, هذا كلام صحيح.
قطبت البصارة حاجبيها, منزعجة, ثم ضغطت على يد الفتاة و أغمضت عينيها بضعة لحظات, ثم قالت:
-أرى في حياتك رجلين. أحدهما من جنس آخر, وبينكما حواجز عديدة. إذا اخترته ستلاقين صعوبات, لكنك ستعرفين معه السعادة الكبرى في الوقت نفسه. وهناك في الجهة الأخرى من البحر, رجل آخر. معه, تعيشين حياة هادئة, لا يشوبها أي اضطراب و توتر. إذا كان هذا ما تطمحين إليه, فعليك اختيار هذا الرجل... انما الرجل الغريب, الأسمر القاتم، هو الذي سيعرفك على نيران الحب. فكري جيداً، يا ابنتي. أنا أعرف على من سيقع اختيارك, لكن ليس باستطاعتي أن أقول. القرار متروك لك, وحدك.
حين رحلت الغجرية, قالت كاميليا لجوسلين:
-الرجل الذي سيعرفك على نيران الحب سيكون فرنسياً, يا جوسلين. و ستتعرفين عليه في العيد.
-لا تكوني حمقاء يا كاميليا. هل تصدقين مثل هذه الخرافات. أنا لا أصدقها كل ما سمعته دخل من اذن و خرج من الاذن الثانية.
سألها جيرفيه في الحال:
-هل انت أكيدة من ذلك؟
رمقته الفتاة بنظرة خاطفة, فتقلصت يداها أمام تعبير وجهه، وتساءلت بوجه ممتقع:" هل يعرف ماذا أشعر تجاهه يا ترى؟ ".
ثم أجابت قائلة:
-تماماً. لم أصدق كلمة واحدة مما قالته.
قال وهو يهز كتفيه:
-من السهولة التأثر بما يقوله الغجر. و فتيات جيلك لديهن أفكار رومانسية. لكنني لا أعتقد بأنك ستلتقين رجل حياتك في العيد. فالرجل الانكليزي هو لك, يا صغيرة.
ضحكت كاميليا وقالت:
-ألهذا الرجل وجود, يا جوسلين؟
-آه, هناك أكثر من واحد...
لكن قلبها تجمد, لأنها فهمت ما قاله جيرفيه. يريد أن يشير لها من طرف خفي أن تنسى عواطفها تجاهه إن كانت لها عواطف...
α α α α


جين اوستين333 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس