فتح مايسون فمه ليناديها , لكنه سرعان ما أدرك انه ما من داع لمنعها من الرحيل , فقد فعلت ذلك من تلقاء نفسها . خطت روز ثلاث خطوات باتجاه الباب , ثم سقطت على الأرض مغشيا عليها. عادت روز إلى وعيها ببطء . وتضاعف إحساسها بالخجل والحيرة على الرغم من ضعفها الشديد عندما أدركت انها مستلقية على ارض حانة المنارة . رأت صاحب الحانة يرفع رأسها بيديه والاهتمام واضح على وجهه الوسيم . تنهدت , ثم أغمضت عينيها قبل أن تقول : " يا إلهي ! حتى إننى لا أستطيع المغادرة بشكل صحيح " - متي كانت المرة الاخيرة التى تناولت فيها طعاما ؟ فكرت بقطعة الزبدة وقطعتي الخبز الموضوعة داخل قميصها . صحيح انها بالقرب من معدتها الخاوية مع ذلك فهي بعيدة المنال. - تناولت شيئا ما البارحة . سألها باهتمام : " غير الفستق ؟ " لم تجب روز . بدا لها من المؤسف والمخجل أن تذكر لوح الشوكولا . قالت مارني , وهي تنظر إلي روزي : " أتعلمين , عزيزتي ! الحمقاء التي أرادت أن تكون ثرية جدا ونحيلة جدا ماتت من الجوع بسبب وزن خواتمها الماسية التي منعتها من الوصول إلى طاولة الطعام " - مارني ! افعلي شيئا ذا فائدة , واحضري لروزي شيئا لتأكله . هلا فعلت ؟ - اسمي روز ! تنهدت روز , فلا أحد هنا يرغب في سماعها . تمتمت شقيقة مايسون : " مارني افعلي هذا .. مارني افعلي ذلك , ولا أسمع كلمة شكرا أو من فضلك ولو مرة واحدة ! " لكن على الرغم من تذمرها , غادرت لتفعل ما طلبه منها شقيقها. سألته روز ما إن أصبحا بمفردهما : " هل ستتصل بالشرطة ؟ " - لا أظن أن فقدان الوعي يستحق دعوي جزائية . - الخلع واقتحام الأمكنة يستحقان ذلك . اعترف مايسون بجريمتها بهزة من رأسه , ثم فاجأها وهو يقول : " لكن لم يكن ذلك قصدك . أليس كذلك ؟ كل ما في الأمر أنك أردت مكانا تنامين فيه . كنت لأعطيك المفتاح أو ربما أقرضك مالا لتستأجري غرفة في الفندق " تساءلت روز لماذا ؟ ولابد أن ارتباكها بدا واضحا على وجهها ,لانه قال : " هذه بلدة الفرص , وهي بلدة صغيرة . نحن نساعد الناس هنا إن كانوا بحاجة إلى المساعدة , روزي " لم تصحح له اسمها هذه المرة , فمن الواضح أنه يراها امرأة اخري مختلفة عما هي عليه . قررت روز أن هذا ليس بالأمر السئ . جلست على مهل لتتخلص من الدوار الذى تشعر به وهي تخشي أن تفقد الوعي من جديد . ساعدها مايسون لتقف واضعا ذراعه حول كتفيها . - آسفة , مايسون ! وبما أن الصراحة هي عنوان هذا النهار , مدت يدها إلى داخل قميصها , وأخرجت قطعتي الخبز وقطعة الزبدة التي أوشكت أن تسيل . قدمتها له وهي تتابع : " أخذت هذه , وقررت أن أدفع ثمنها . صدقني ! " بدت نبرة صوته قاسية وهو يقول : " فقط تناوليها , روزي ! " تناولت روز الطعام كما يفعل الرجال . لم ير مايسون امرأة تأكل هذا القدر من الطعام فى وجبة واحدة . فبعد أن تناولت اللحم المقدد والخبز اللذين أضافت إليهما مارني الخردل والخس , أتبعتهما روزي بطبق عجة من البيض المخفوق مع الخضار وثلاث قطع كبيرة من اللحم المقلي وكوب من عصير الليمون وثلاثة فناجين من القهوة . ومع أنها لم تقل كلمة واحدة أثناء تناولها الطعام , لكن حركة يديها وهي تمسك بالشوكة تكلمت بفصاحة عن ماضيها . على الرغم من كل القرارات التى اتخذها بألا يتورط بالاهتمام بها , وجد مايسون نفسه راغبا في معرفة المزيد عنها . قال لنفسه مطمئنا إن فضوله هو مجرد فضول رب عمل يريد أن يعرف المزيد عن العاملة لديه . عندما انتهت من تناول فنجان القهوة الثالث , سألها : " اترغبين في تعبئة تلك الفراغات في طلب العمل الآن ؟ " مسحت روز فمها بعناية بمنديل ورقي . تصورت أنها تدين له بالتصرف ببعض اللطف على الأقل لأنه لم يتصل بالشرطة . - أي مكان فارغ تريد أن تملأه أولا ؟ لم يتردد بالسؤال : " هل روزاليند بانيت هو اسمك الحقيقي ؟ " - لا . رفع حاجبيه مستغربا , لكنه لم يضف شيئا , بل انتظر أن تتابع . أعجبت روز بتصرفه هذا وبمقدار صبره وهدوئه . معظم الناس يتنمرون عليها ويضايقونها بشكل متواصل : " لا أعرف اسمي الحقيقي " عاودها ذلك الاحساس القديم بالعار مع تلك الكلمات التى قالتها بصوت هادئ . تساءلت إن كانت ستتمكن يوما من التغلب على هذا الاحساس على الرغم من أنها تقول لنفسها بإستمرار إن الأمر غير هام . سألتها مارني : " ابسبب فقدان الذاكرة ؟ " وضعت شقيقة مايسون مرفقها على الطاولة مسندة ذقنها بيدها , وقد بدت مذهولة من شدة التأثر . ضحكت روز بصوت عال . إنها تحب هذه المرأة , لكن يبدو أنها تشاهد الكثير من المسلسلات التليفزيونية . - بل لأن أهلي تخلوا عني وأنا صغيرة جدا . اتسعت عينا مارني وقالت : " آه .. يا إلهي ! " ردة فعل مايسن لم تبد بمثل تلك القوة , لكن ملامحه أصبحت أكثر رقة . - من أعطاك اسمك إذا ؟ - هيئة المقاطعة , كما أعطتني شهادة ميلادي . رفع حاجبيه بارتباك , وعلق : " هل لك أن تشرحي لي الأمر , فقد ضعت تماما " - حسنا ! أحدهم أضاعني في أول يوم من شهر شباط منذ ثلاثة وعشرين عاما . وجدتني الشرطة أتجول وانا بالكاد قادرة على المشي في تقاطع شارع روزاليند وبانيت أفينو في ديترويت . روزاليند بانيت , هل فهمتها ؟ سمعته يتمتم : " آه ! روزي " رفعت كتفيها وهي تشعر بالانزعاج من الشفقة التي رأتها في عينيه . علقت باستهزاء : " انه ليس اسما سيئا " أرادت مارني أن تعرف ما الذى حدث لها بعد ذلك فسألتها , لكن روز رفعت شوكتها وأخذت تتلهي بها وهي تحرك ما تبقي من فطورها . أجابت بعد قليل : " عشت في دار للأيتام " إنها كلمات قليلة , لكنه بالنسبة إلي روز تفسر كل شئ . سألها مايسون بلطف : " ماذا عن التبني ؟" آه , صحيح ! العيش بسعادة إلى الأبد . إنها فكرة تخلت عنها منذ زمن بعد أن فهمت حقيقة هذه الحياة . - كدت أصبح ابنة لعائلة ذات مرة . إنها أول عائلة عشت معها . بقيت هناك حتى أصبحت في السادسة من عمري . كانا رائعين ... زوجان متقدمان فى العمر , ولدي الرجل لحية بيضاء . كان يذكرني بسانتا كلوز . كانا يقومان برعاية الأطفال لسنوات , وقد تبنيا عشرات الأطفال غيري . بعضهم ما زال يعيش معهما . - وما الذى حدث ؟ تغير شئ ما في تعابيرها , ورأي مايسون التغير على الفور . رأي كيف انغلقت على نفسها كي لا تشعر بأي ضعف أو إهانة . قالت ببساطة : " لم تنجح عملية التنبي " لكن لم يكن أي شئ بسيط في ذلك الوقت , فقد تحطم قلبها . لماذا ؟ لمع السؤال في ذهنه , لكن مايسون تمكن من لجم نفسه عن التفوه به . أرسل نظرة محذرة لمارني من فوق رأس روزي خشية أن يسيطر عليها فضولها ولا تستطيع كبح نفسها . لكن مارني سألت بشكل عام : " ماذا حدث بعد ذلك ؟ " انشغلت روز بالعبث بمنديلها الورقي , قطعته إلي عشرات القطع الصغيرة . على الرغم من التوتر الواضح , أكملت حديثها بنبرة صوت هادئة وكأنها تتحدث عن الطقس لا عن حياتها بأكملها , لكن كلماتها والخيالات التى خلقتها أثرت بمايسون حتى عظامه . - لنر ! أجبرت على الذهاب إلى خمس عائلات بعد ذلك . هربت من ثلاث منها , وأمضيت ستة أشهر في إصلاحية للأحداث بسبب سوء تفاهم صغير . سأل مايسون برقة : " ألم يكن هناك مكان تلجأين إليه للمساعدة؟" نبرة صوته وليس الكلمات بحد ذاتها ما دفعت عيناها للوخز بشدة . لزمتها عدة لحظات لتستعيد رباطة جأشها . في النهاية , رأت أن تجاهل سؤاله أفضل حل لها . - يوم بلغت الثامنة عشرة من عمري تم إبلاغي أن مركز الرعاية لم يعد ملزما بالاهتمام بي , فحزمت كل ما لدي وغادرت مركز الرعاية السادس . سألت مارني : " هل بحثت عن والديك ؟ " - لا , فهما لا يريدانني . - كيف يمكن أن تتأكدي مما تقولينه ؟ لم لم تح اولي لقاءهما ومواجهتهما ؟ لابد أن لديك اسئلة عليهما الإجابة عنها . آه ! لديها مئات الآسئلة التى تتعلق بحياتها وقد خزنتها بأمان , لكن ليست الأسئلة هي ما يقلقها بل معرفتها أنها قد لا ترضي عن الأجوبة . . بل ربما تزيد تلك الأجوبة من حزنها . - توقفي عن طرح الأسئلة عليها , مارني . ستسببين لها عسر هضم . قال مايسون ذلك فيما وجه ابتسامة إلى روز . راقبت هذه الأخيرة ابتسامته الجميلة . إنه وسيم حقا كما أن عينيه بلون الفحم وهما تبدوان كأنهما تحدقان في روحها . فكرت روز أنه يرى الكثير , وهذه ليست المرة الآولي التي تدرك فيها ذلك : " حسنا ! شكرا على الفطور " أبعدت طبقها , ونهضت . ماذا يجب ان تفعل الآن ؟ يبدو أن عليها المغادرة . تفاجأت لأنها تشعر برغبة في البقاء . سحبت الشيك من جيب سروالها , وكان مايسون قد أصر على إعادته إليها للمرة الثانية بعد أن استعادت وعيها . رتبت الطيات بعناية ووضعته قرب كوب العصير الفارغ . انخفضت نبرة صوتها إلى همس محرج وهي تقول : " أقدر فعلا كل ما فعلتماه من أجلي " أجاب : " على الرحب والسعة . سأوصلك الى المصرف , وهكذا ستقبضين المال وسنجد لك مكانا تمكثين فيه . عليك أن تحظي بفرصة لترتاحي قليلا قبل بدء عملك الليلة " - هل تريدني أن أبقى ؟ تجاهل سؤالها , وهذا ما فعلته مارني إذ قالت : " سيأخذ الفندق ستين دولارا مقابل قضاء الليلة الواحدة " كررت روز فيما بدا صوتها كالصراخ : " ستون دولارا على الليلة ؟ لا أستطيع أن أدفع أربعمئة دولار في الأسبوع إيجارا للغرفة " شعرت بالغثيان , ولم تدر إن كان السبب الوجبة الكبيرة التى تناولتها أم فكرة إنفاق كل ما ستقبضه على تأمين مسكن لها فى حين أنها بحاجة إلى إدخار المال من أجل شراء سيارة . - سأتحدث مع كلارا , وأحاول إقناعها بإيجاد خيار مناسب لكما . افترضت روز أن كلارا تلك هي صاحبة الفندق . هزت مارني رأسها وعلقت : " إنه فصل الثلوج , مايس . لن ترضى كلارا بالتنازل عن أي فلس , لا سيما أنها تحاول التعويض عن الأشهر الماضية التي لم تجن خلالها شيئا " نظرت نحو روز وتابعت : " انهمرت الأمطار بشدة فى فصل الخريف وتعرت الأشجار بسرعة قصوى . فلم يأت أى زائر إلى البلدة " بعد مرور عدة دقائق من التفكير ، أعلنت مارنى بفرح : " وجدتها ! ماذا بشأن الشقة قرب منزلك ؟ " البريق الذى ظهر فى عينى مارنى أثار قلق روز ،ولابد أن مايسون شعر بالتوتر أيضا . لأول مرة منذ أن تعرفت عليه ، رأته يبحث عن الكلمات المناسبة . - إنها . . . إنها ليست بشقة فى الواقع . - آه ! هيا ، مايس ! إنها رائعة . تابعت محدثة روز : " مجرد شقة صغيرة تتكون من غرفة واسعة وحمام ، لكنها مريحة وجميلة " أكدت روز : " لا أستطيع أن أدفع أكثر من ذلك " لكن ربما كانت تقول ذلك لنفسها وليس لهما . - عشت هناك فترة قصيرة قبل أن أتزوج فى الصيف الماضى . كنت لأرغب لو تمكثين معنا ، لكننا نهدم بعض الغرف فى المنزل ونعيد بناءها . وفى الواقع نصف المنزل مهدم فعليا . لم تعلم روز أيهما أسوأ ، مشاركة منزل مع شخصين تزوجا منذ فترة قصيرة أم السكن على مرمى حجر من رئيسها الوسيم ؟ قالت مارنى : " يمكنها ان تأتى إلى العمل سيرا على قدميها " تلك الجملة العملية الهادئة جعلت مايسون يتلعثم من جديد وهو يقول : " إنها بحاجة إلى الكثير من العمل " لوحت مارنى بيدها وهى تقول : " تحتاج فقط إلى طلى الجدران ووضع ستائر جديدة على النافذة ، عندها ستبدو الشقة كأنها جديدة " نهض مايسون عن كرسيه ، ثم أمسك بمعطفه قبل أن يقول : " حسنا ! حضرى ذراعيك وأبدأى بالعمل . أنا سأرافق روزى إلى المصرف " |