تحركت المرارة فى جرح بالكاد شفى بالرغم من كل السنين الماضية . لطالما أحبت والدته هذا المنزل ، فالجدران المغطاة بالنباتات والغرف ذات السقوف العالية والبلاط الخشبى ، كذلك النوافذ الواسعة بنيت لتسمح للنسيم العليل أن يطوف فى أرجائه . كما أنها أحبت الحدائق الاستوائية التى تحيط به ، والتى توشك أن تتحول إلى غابة تخفى المنزل .
لولا تشذيبها والاعتناء بها بشكل دائم . وشعر بشئ يتصلب فى أعماقه . شعر به يكبر ويكبر حتى فتت قلبه ، تمتم كأنه سيختنق : " أهلا بعودتك "
أمتص زاين كلماتها أكثر مما سمعها ، وبدا هذا عنصرا إضافيا جعله يستعيد الذكريات التى جذبته من جديد إلى الماضى . قال من دون تفكير كأنه يسرد قصة سمعها مرارا من أمه : " اشترى جدى هذا المنزل من احد أكبر أسياد اللؤلؤ . كان لورانس حينها طفلا ، وكانت صناعة اللؤلؤ فى تراجع . وضع جدى كل ما يملكه فى إنشاء ثقافة وتكنولوجيا جديدتين لصناعة اللؤلؤ . كان حلمه أن يصبح الأول فى جيل جديد من أرباب هذه الصناعة "
قالت : " هذا ما فعله بالتحديد ، فجدك ولورانس تركا ميراثا كبيرا ، ولؤلؤ باستيانى الآن يساوى ثروة "
مرت كلماتها كالسكين فى أفكاره ، مقطعة إياها إلى شظايا ، فأعاد إهتمامه إليها محدقا بها . ما بال هذه المرأة ؟ آنى لم تكن تستطيع التوقف عن التفكير بالمال أيضا ، حتى فى آخر موعد غير متوقع لهما ، وذلك قبل يومين فقط من رحيله البائس من استراليا ، والذى تبين الآن أنه لا جدوى منه . دفعته للتعويض عليها كى تقتنع أن علاقتهما انتهت ، وعندما ضحك بصوت عال بدأت بالبكاء ، وألقت اللوم على الفرص التى خسرتها ، مع العلم أن زاين كان يهتم بها كثيرا . ربما كان فى ذلك بعض الحقيقة ، فقد أقدمت على حبك العديد من المؤمرات لتتمكن من الارتباط به ، ومع ذلك لم تستغرق وقتا طويلا لتجد بديلا عنه . هذا إن لم تكن قد عملت على إيجاد زوج لها حتى وهى معه . إنها فى الواقع فاتنة الجمال ، ذات بشرة بيضاء وأنوثة طاغية جعلته يرغب فى حمايتها منذ البداية ، حتى أكتشف أنها تستغل هذه الأنوثة لأمور أخرى . على الأقل هو الآن حر بدونها وبدون ميولها الطفيلية ، فقد أكتفى من النساء الانتهازيات حتى آخر واحدة منهن .
سألته روبى : " هل هناك ما يزعجك ؟ " بدا واضحا أنها منزعجة من تحديقه بها .
أبعد نظره ، ليأخذ حقيبته من صندوق السيارة ويغلقه بقوة ، قائلا " لندخل إلى المنزل "
تطايرت تنورتها حول ركبتيها وهى تصعد الدرجات القليلة لتصل إلى الشرفة . مرة ثانية وجد زاين نفسه متعلقا برائحة عطرها التى تعكس مدى غرورها وكبريائها . احتاجت عيناه إلى لحظات كى تتمكنا من التأقلم ما إن دخلا المنزل الأنيق . نظر حوله . . . صحيح أن المنزل بنى منذ أكثر من تسعين عاما ، لكن أنه حرصت على تجديده عبر السنين ، وأمنت له كل التسهيلات الحديثة مع الاحتفاظ بالطابع العام للمنزل . تنفس زاين بارتياح عندما أدرك أن سيطرة روبى على المنزل لم تغير رؤية أمه له .
قالت روبى وهى تستدير قليلا نحوه : " طلبت من كيوتو أن يعد لك غرفتك القديمة إذا ما رغبت فى البقاء فى المنزل "
- أما زال كيوتو هنا ؟ من المؤكد أنه لم يعد قادرا على العمل الآن .
كاد زاين ألا يصدق أن كيوتو ما زال حيا ، فصياد اللؤلؤ اليابانى عمل فى هذا المنزل من كان زاين طفلا . عمل فى البداية طاهيا ثم مدبرا للمنزل ، وكان يبدو عجوزا عندما كان زاين ولدا يلعب فى أرجاء المنزل .
هزت روبى رأسها ، وظهرت ابتسامة ناعمة خاطفة أضاءت ملامح وجهها للحظة قبل أن تقول : " إنه يشرف على الأعمال الآن . لدينا طاه وعاملة للتنظيف "
لاحظ كيف أختفت إبتسامتها ليعاودها الحزن وهى تتابع : " لكننى طلبت منه أن يذهب إلى منزله اليوم ، إنهار تماما من الحزن على لورانس " ضغطت على شفتيها بقوة ، واستدارت لتدير ظهرها له ، لكن ليس قبل أن يلاحظ اضطراب صوتها ، والحركة المرتجفة لفهما وهى تلفظ الكلمة الأخيرة . إنه إحتمال من اثنين : إما أنها تحاول بشدة ألا تبكى أو أنها تحاول بكل ما لديها من قدرة أن تجعله يعتقد أنها تبكى ، كما كانت تفعل آنى . بإمكان آنى ان تكتب أطروحة عن الاستفادة من دموع المرأة ، مع أنه يشك أنها ذرفت يوما دمعة واحدة صادقة . من المحتمل أن هذه الصفة من مستلزمات العمل لدى المرأة !
تمتمت روبى وهى لا تزال تدير ظهرها له ، فيما بدت نبرة صوتها منخفضة ومتألمة وهى تحف جبهتها بيدها : " حسنا ! أنا متأكدة أنك لست بحاجة إلى لأرشدك إلى غرفتك . سأتركك لتستقر وترتاح "
بإمكانه أن يبتعد عنها ، ويسير بشكل مستقيم عبر الممر ليصل إلى غرفته القديمة . بإمكانه أن يتجاهلها ويجعلها تعلم أن كل ما تقوم به لم يؤثر به مطلقا . عليه أن يفعل ذلك . . . لكن الرغبة فى أن يظهر لها أنه لم يسقط فى حبائل خداعها بدت أقوى منه . عليها أن تعلم أنه يعرف كل الألاعيب التى تمارسها النساء عندما يتعلق الأمر بالمال ، وأن أيا من هذه الخداع لن تنطلى عليه . مد يده إلى كتفها ، متجاهلا ارتجافها المفاجئ من لمسته ، وأدراها لتنظر إلى وجهه .
سيطر على مقاومتها ممسكا ذقنها بيد واحدة ، حتى لم يعد هناك من وسيلة تسمح لها بتجنب النظر إلى عينيه أكثر . ببطء وعلى مضض ، رفعت روبى نظرها حتى بانت عيناها تماما لعينيه . فى اللحظة الأوزلى لاحظ زاين الرموش الرطبة والدموع ، وعلم أن عليه الاعتراف أنها مارهة جدا إن كانت تستطيع إستحضار دموعها بمثل هذه السرعة ، لكنه بعد ذلك رأى ما فى أعماق عينيها ، وهذا أصابه فى الصميم . رأى هناك ألما وضياعا ، وإحساسا بالخسارة . تلك الأشياء لاقت صدى فى مكان دفين فى أعماقه .
بدا كأن شيئا ما يتلوى ويتعذب فى عينيها ، وكأنها تعرى روحها أمامه ، لكن ما شعر به إحساس مقلق وغير مريح ، كما أنه غير مرحب به . لاحظ زاين كيف ضغطت على شفتيها بقوة عندما انحدرت دمعة وحيدة من زاوية عينيها . بسروعة وبدون أى رغبة منه ، تصرف باندفاع غريزى ، فأبعد يده عن ذقنها ، ومسح الدمعة عن خدها بإصبعه بنعومة . أغمضت روبى جفونها ، وفتحت شفتيها وهى تتنفس بسرعة ، فشعر بها ترتجف من جراء لمسته . ليس هذا ما توقع على الاطلاق !
سؤاله أظهر تماما ما يفكر به ، وبانه غير مصدق أبدا لما يحدث أمامه . لكن فات الأوان لإصلاح الأمر . فكرة أن لورانس يعنى لها أكثر من مصدر للرفاهية والمال أزعجته ، وأرهقت أعصابه وحواسه .
تحركت روبى مبتعدة عنه ، تاركة يده تسقط إلى جنبه ، وهى تتراجع نحو أريكة من الخيرزان . - هل من الصعب تصديق ذلك ؟ جعل لورانس الاهتمام به غاية فى السهولة .
بدل اعترافها السريع كل شئ ، محولا أفكاره المربكة إلى غضب صارخ فى لحظة واحدة ، ما إن عادت الحقائق تظهر له فى موقعها الصحيح . جعل لورانس الأمر غاية فى السهولة ! لم تتظاهر ، ولم تتوخ الحذر ، بل اعترفت بما كان يجرى بينهما من دون أن يرف لها جفن ! هذا تماما ما توقعه . لا عجب إذا أنها تشعر بمثل هذا الحزن . لقد خسرت من كان يدللها ويغرقها بأمواله .
- صحيح ! أراهن أنه كان كذلك .
اقتربت روبى منه وهى تميل برأسها ، كأنها لم تسمعه جيدا ، قالت : " لست متأكدة أننى فهمت ما تقوله . ماذا تقصد بكلامك بالتحديد ؟ "
- ليس زمن الصعب تفسير ما قلته . رجل عجوز ثرى لديه ضعف أمام السيدات الجميلات ، كما انه قادر على الحصول على واحدة بقربه طوال الوقت .
لو لم يكن زاين مرحقا جراء السفر والبقاء مستيقظا خلال عدة رحلات فى الطائرات من تغيير ، لربما كان ليحظى بفرصة لمواجهة هجومها التالى ، أما فى حالته هذه فلم يدرك ما الذى سيحصل له .
صفعت راحة يدها خده ، فشعر كأن رصاصة من مسدس أصابته . على الفور انسحبت روبى إلى الوراء وهى تشعر بالرعب . اتسعت عيناها ، ووضعت يدها المعتدية على فمها . بدت بشرة خده حمراء اللون ، لكنه لم يقم بأى ردة فعل حسية . شعرت روبى بالصدمة تنحسر بعيدا عنها ، وبدأت دقات قلبها المتسارعة تهدا لتواجه الغضب الذى يشع من عينيه ويحرقها . قال : " يبدو أنك ماهرة جدا بالضرب "
حرك فكيه من جهة إلى أخرى ، ثم ضاقت عيناه من جديد وهو يحدق بها ، كأنه يقيمها من جديد .
هو من جلد ذلك لنفسه . لماذا يفكر على هذا النحو بلورانس ؟ لماذا يسئ الظن بها أيضا ؟ تابعت : " ولا تظن أننى سأعتذر ، فأنا لست مستعدة لتحمل تلك التفاهات منك "
- ألأنك لا تستطيعين تحمل سماع الحقيقة ؟
- أنت . . . غير معقول ! هل تصدق حقا أننى هنا لأجل مال لورانس ؟
- معظم الناس يشعرون بالاغواء بسبب المال .
- إذا ، أنا لست مثل معظم الناس . انا لا أريد ماله ، ولم أفكر مرة بذلك .
- لكنك تعيشين معه ، وهو رجل متقدم فى العمر ، ويصلح لأن يكون والدا لك .
وضحكت روبى بصوت عال . علمت أنها إن لم تضحك فقد تبكى بسبب الظلم الذى تشعر به . إنه مخطئ ، فهو لا يعرف والده جيدا ، ولا يعرفها مطلقا . إنه لا يعلم شيئا . قالت بهدوء يفوق كثيرا ما شعرت به : " أشعر بالشفقة عليك . من الواضح أنك لا تعرف مطلقا كلمات مثل الصداقة والتعاطف "
أطلق زاين زفرة مظهرا عدم تصديقه ، فارتفع غضبها إلى حالة من الخطر مجددا . لكنها هذه المرة بقيت مسيطرة تماما على نفسها . عليها أن تتذكر ما طلبه منها لورانس ! تنفست بعمق ، محاولة بقوة أن تبقى هادئة ومنطقية على الرغم من تهجمه عليها . هزت رأسها قائلة : " إن كنت غير قادر على إظهار أى إحترام أو حب لوالدك ، فهذا لا يعنى أن على الجميع أن يتصرفوا مثلك "
ضاقت عيناه معبرتين عن سخط واضح ، قال : " أتقولين لى إنك توليت الاهتمام به بسبب طيبة قلبك ، وبقيت معه فقط لكى يحظى بشخص قربه ؟ من جهة أخرى ، هل تتوقعين منى أن أصدق أنك أحببتيه ؟ "
- على شخص ما أن يفعل ذلك ، فالله وحده يعلم انه لم يحظ منك إلا بالعذاب والحزن .
ابتعدت روبى بسرعة راغبة فى الرحيل من هنا ، متمنية أن تبتعد عنه قدر ما تستطيع ، لكن قبضة فولاذية على ذراعها اوقفتها فى مكانها ، ومنعتها من الهروب . استدارت وهى تشعر بالسخط ، لكن الاعتراض مات على شفتيها فى اللحظة التى رأت فيها وجهه .
- لا تحاولى مطلقا أن تأخذى دور ممثلة الأخلاق العالية معى . لا فكرة لديك مطلقا عن شعوى نحو والدى او عن أسبابه ، فأنت لا تعرفين شيئا على الاطلاق .
شدت قبضتها محاولة أن تبعد يدها عن قبضته ، لكنها لم تنجح بذلك . لذلك وبدلا من أن تبتعد أقتربت منه أكثر . اقتربت إلى درجة استطاعت معها أن تشعر بالغضب ينبعث منه كما تنبعث الحرارة من النار . لكن غضبه لم يكن شيئا بالمقارنة مع غضبها ، قالت توافقه ، وهى تلوى شفتيها بازدراء : " انت على حق ، لا فكرة لدى مطلقا عما تشعر به ، لكن غلطة من هذه ؟ أهى غلطتى ، لأننى كنت هنا عندما أحتاج والدك إلى المساعدة ، ام إنها غلطتك لأنك لم تهتم بما فيه الكفاية لتكون هنا بنفسك ؟ " |