آخر 10 مشاركات
هيا نجدد إيماننا 2024 (الكاتـب : رانو قنديل - )           »          مواسم العشق والشوق (الكاتـب : samar hemdan - )           »          ✨الصالون الأدبي لرمضان 2024 ✨ (الكاتـب : رانو قنديل - )           »          6 - موعد مع الغرام - روزمارى كارتر - ع.ج ( إعادة تنزيل )** (الكاتـب : امراة بلا مخالب - )           »          328 - العروس المتمردة - جوليا جيمس (اعادة تصوير) (الكاتـب : سنو وايت - )           »          نصيحة ... / سحر ... / الأرملة السوداء ... ( ق.ق.ج ) بقلمي ... (الكاتـب : حكواتي - )           »          الجبلي .. *مميزة ومكتملة* رواية بقلم الكاتبة ضي الشمس (فعاليات رمضان 1436) (الكاتـب : قصص من وحي الاعضاء - )           »          آسف مولاتي (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          أسيرة الثلاثمائة يوم *مكتملة * (الكاتـب : ملك علي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-11-13, 10:09 PM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk


الفصل التاسع



صدمة مفاجئة



أصبح البحث عن عمل جديد شغلي الشاغل، في المساء أخرج مع نبيل وسوزان وبناتها للتنزه في مركز المدينة أو في القرية السياحية. عملت سوزان فترة في المركز الدبلوماسي لكنها استقالت بسبب زوجها الذي كانت له علاقة مع السكرتيرة الحبشية فلورانس. لم تحتمل خيانته المكشوفة ولم تستطع طلب الطلاق منه بسبب بناتها. تظل منزوية على صيحات قلبها المليء بالندوب في بحر الكراهية، يحرقها حزن مجنون، عميق كجهنم، ويكويها إحباط شاحب كالموت. تتحسر على سعادتها الضائعة وهي تخرج من خسارة لتقع في أخرى داخل نار وحدتها وعدم الرغبة في العمل خارج البيت رغم العرض المغري من هيئة الأمم المتحدة في طرابلس. تواجدي في المركز كان بالنسبة لها كغيمة من نور. نقضي ساعات خلف ذيل الشمس في حديقتها، كلانا تستعيد أنوثتها المسلوبة التي لا تنتهي و تروي قصيدتها التي لم يكتبها شاعر أو خطها كاتب. أحيانا ضحكنا كالبكاء وأحيانا أخرى يجلجل سأمنا صليل اللا أمل. ذات يوم خرجت وحدي أبحث عن عمل وعندما رجعت إلى المنزل منهوكة القوى،وجدت نبيل مذعورا يترقب مجيئي أمام باب الفيلا. لم أره قط على ذلك النحو، هرولت نحوه مذعورة:

_ ما بك يا دكتور؟

ـ اليوم، سنذهب إلى المطار يجب أن تغادري طرابلس بل ليبيا كلها.

لم أصدق ما سمعت منه وكأنني في حلم.

- لا أريد الرجوع إلى المغرب، هل فهمت؟ يستحيل أن أرجع إلى المغرب...

ـ هذا أمر ليس بيدك ولا بيدي لقد جاء أربعة من الرجال يبحثون عنك.

ـ يبحثون عني أنا... لماذا؟

ـ جاءوا هذا الصباح إلى المركز منعتهم من الدخول، فأخبروني بأنهم من اللجان الثورية.

ـ من أنا حتى تبحث عني اللجان الثورية؟

ـ لا تخافي يا غالية شكلهم لا يدل على ذلك، إنهم فقط عصابة المدير الذي كنت تعملين في شركته.

ـ المدير ... لماذا ... وكيف عرفت ذلك...

ـ أعطوني رسالة يقولون فيها بأنك مادمت في البلد لن تفلتي من قبضتهم حتى يرجعوك للمدير. هذا اللعين الذي لم ينس إهانتك له، لا بد أن نذهب الآن إلى المطار ونرى إن كانت هناك رحلة إلى المغرب.

ـ إن رجعت إلى المغرب معناه سجن أبدي وقمع شديد لحريتي.

ـ غالية، ألا تعرفين مدى خطورة تواجدك هنا، إنه السجن الحقيقي والقمع الوحشي، إنهم يغتصبون البنات ويقتلونهن ثم يرمونهن في مكان مقفر كما ترمى القمامة. هيا اجمعي ملابسك بسرعة.

ذهبت إلى نفسي في غرفتي، وجدتها تصطدم بخنجر الموت وروحي تسيل وأنا مذهولة في رعب أجمع كتبي وملابسي المحكوم عليها بالمنفى، كالسكران لا أعرف ماذا يجري.

لحق بي نبيل. هل أنت جاهزة؟

ـ نعم، أنا جاهزة.

ـ هيا بنا؟

ـ وسوزان؟ أريد أن أودعها هي وبناتها.

ـ إن سوزان غير موجودة في البيت، هيا بسرعة.

خرجنا متجهين إلى السيارة كاللصوص ثم انطلقنا بسرعة جنونية إلى المطار.

ـ لماذا تقود سيارتك بسرعة؟ أنا لست إلا فتاة عادية لا دخل لي في السياسة.

كنت أرتجف خوفا من الرجوع إلى صحراء الحرمان ومن يغثني من تصوب الرماح التي ستخترق روحي وجسدي الذي يحمل علة سره وما من جدار يقيني وأنا أئن بلسان جريح داخل خيمة التقاليد. سَيٌحْكَمٌ علي بالزواج القسري بعد أن كنت حرة مستقلة بعيدا عن هواجس السر الخطير وما سيسببه لي من هلاك. صدمة مفاجئة لم أكن أظن يوما أنها ستحصل لي وتقودني بوحشية إلى ساحة الموت. هوت صيحتي وأنا أحاول إمساكها في دهاليز التاريخ ورواية المظلومين. هل أهرب وأترك نبيل؟ لكن إلى أين سأذهب؟ نبيل حتما سيخبر أهلي بهروبي فأكون من الضالين والمغضوب عليهم إلى يوم القيامة. وصلنا إلى المطار وجد نبيل صعوبة في إيجاد مكان لإيقاف سيارته، بدأ يسب ويلعن، أوقف السيارة أمام باب المطار من غير أن يراعي اعتبارا لإشارة المنع. حمل حقيبة ملابسي وأسرعنا إلى مكتب الخطوط الجوية المغربية. سأل أحد الموظفين بالمكتب.

ـ من فضلك يا أخ، هل من تذكرة إلى فاس؟

ـ ليس هناك خط مباشر إلى فاس. هناك خط من طرابلس إلى الدار البيضاء ثم إلى فاس.

ـ لا بأس، أريد تذكرة واحدة.

ـ متى تريد السفر؟

ـ لست أنا الذي سيسافر... هذه الفتاة.

ـ اليوم مستحيل. مقاعد الطائرة محجوزة كلها، يمكنك أن تأتي غدا ربما يتخلف مسافر فتأخذ مكانه.

ـ هل هناك مكان في الدرجة الأولى؟

ـ لا، يا سيدي. كل المقاعد محجوزة.

ـ من فضلك ساعدنا هذه الفتاة لا بد أن تسافر اليوم عندها موعد ضروري مع طبيبها الخاص في المغرب.

ـ ليس لديك حل إلا أن تقطع لها تذكرة إلى تونس، من الخطوط التونسية رحلة واحدة من طرابلس إلى تونس العاصمة، ومن تونس إلى باريس ثمّ إلى الدار البيضاء هذا الحل الوحيد.

التفت إلي وقال:

_ هيا بنا إلى الخطوط التونسية.

كان يهرول وأنا وراءه أجرجر ضياعي، تائهة في حلم مزعج في النهار. دخلنا إلى الخطوط التونسية وتمكن من شراء التذكرة. موعد انطلاق الرحلة بعد أربع ساعات. اتجهنا إلى مكان تسليم الحقائب. كان نبيل خائفا يلتفت يمنة ويسرة كالهارب من العدالة. هذه المرة شعرت بالرعب وتأكدت من خطورة الأمر مع أنني لا أعرف من الذي يلاحقني. التفت إلى حقيبتي: يا إلهي! اختفت الحقيبة.

ـ انسي الحقيبة الآن سننتظر ختم جوازك ولنذهب إلى قاعة الانتظار، سأشتري لك ملابس وأرسلها لك بالبريد.

- لا أريد أن تشتري لي ملابس أريد فقط حقيبتي.

أمسك يدي من غير أن يقول شيئا ختم جواز سفري ثم أسرع بي إلى قاعة الانتظار. لأول مرة أرى نبيل شاحبا والخوف لا يبرح عينيه.

ـ حافظي على حقيبة نقودك وعلى الجواز أهم شيء جواز سفرك إياك أن تضيعيه.

كنت ضائعة تائهة لا أعرف ما يجري حولي، أمسكت على يده بقوة ولأول مرة أحسست أنني لا أريد أن أبتعد عنه، انفجرت أبكي غير مبالية بالمسافرين الذين كانوا يجلسون في القاعة، يا إلهي، هذه المرة لن يسمح لي أبي بالسفر مرة ثانية. أريد أن أبقى بجانبك، وجدت فيك الأخ الرحيم والصديق الوفي. بجانبك أشعر بالراحة والسعادة، بجانبك أشعر.. بٌحَّ صوتي وسط زحمة المسافرين.

ـ كفى بكاء أنا معك وسأظل بجانبك حتى تصلي إلى هدفك. سأظل على اتصال بك وبعد ستة أشهر سأقضي إجازتي عندكم في المغرب وهناك سأعمل كل جهدي لكي تسافري إلى أمريكا.

توقفت عن البكاء، ومسحت دموعي، التفتّ إليه في اندهاش واستغراب، لكن.. لكن... لماذا تساعدني؟

ـ لأنك فتاة مختلفة عن الكثيرات اللواتي صادفتهن خلال حياتي سواء في عملي أو خارجه. إنك تختلفين عنهن في كل شيء لذلك أحببت صداقتك وأتمنى استمرار علاقتي بك. تعرفين يا غالية، لي ابن يصغرك ثلاث سنوات، هو الآن يدرس في ألمانيا. تمنيته أن يكون مجتهدا مثلك وأن يكون بذكائك وسلوكك. أمسك يدي وقبّلها، أنت في مرتبة ابني بكر، اطمئني لن أتخلى عنك.

حان وقت الرحيل، أخرج نظارة سوداء من جيب قميصه ووضعها على عينيه، ظل واقفا ينظر إليّ حتى اختفيت عن بصره وأنا أترجّل طوفان ذاكرتي الموبوءة داخل الطائرة الكئيبة. أخذت مكاني وفي يدي حقيبة الصبا تقع فجأة على متن العاصفة والطائرة وحيدة في صحراء ذلك الفضاء، متشحة بالحزن تهمس في أذن السماء المضطربة وتمسح على جبينها غضب البحر داخل قرقعة الصمت، متجمّدة الأنفاس خوفا من صاعقة قد تقبل إليها من السماء مليئة بالنار والموت إلى أن حطت بمطار تونس العاصمة. دخلت إلى قاعة الانتظار مع المسافرين الذين سيكملون الرحلة إلى باريس. الانتظار يقتلني ويحييني وأنا أمسك قلبي بيدين دامعتين، مستسلمة لعاصفة البحر، أطفو فوق الأمواج خائرة وهي تقودني من غير رحمة إلى الأعماق وإلى المجهول. الرحلة من تونس العاصمة إلى باريس طويلة، نظرت إلى البحر من نافدة الطائرة، الشمس غابت ولَوَّنَ الظلام كل السماء وغطى وجه البحر بخماره الأسود وأنا مازلت أتخبط وسط تلك المياه الباردة، أضغط على قلبي بقوة فيخفق دموعا تحرق عيني، اختنقت أنفاسي وانسدت جيوب أنفي وبدأت أسعل وأدق على صدري كالذي أصابه الصرع، سمعت صوتا يقول لي: ما بك يا آنسة؟ هل أنت مريضة؟

ـ إن حرارتها مرتفعة.

أحسست بيد عريضة تمسح العرق عن جبيني.

ـ تفضل خذ هذه القطعة من القماش بها قطع من الثلج علها تنزل حرارتها.

وَضَعَتْ اليد العريضة الثلج على جبهتي، أسمع صوت المضيفة التي كانت تأتي من حين إلى آخر وتسأل ذلك الرجل عن حالي. فتحت عيني رأيت شابا في الثلاثينات ينظر إلي مبتسما: حمدا لله على سلامتك.

ـ أين حقيبتي؟ بها جواز سفري، أريد حقيبتي.

أجاب الشاب مبتسما: لا تخافي، حقيبتك في أمان. كيف تحسين الآن؟

ـ أنا بخير، أنا لست مريضة أريد أن أرجع إلى مقعدي.

حاولت أن أنهض من مكاني فأحسست بدوار في رأسي وبصوت كصوت البحر يخرج من أذني محدثا آلاما في رأسي، لم أعد أرى شيئا وكأنني فقدت بصري. أعلن ربان الطائرة أنه حان وقت الهبوط وعلى الركاب أن يربطوا الأحزمة. قدمت إليّ المضيفة وجلست بجانبي ولم تفارقني حتى توقفت الطائرة. صعد رجلان من الإسعاف إلى الطائرة، سمعته يقول لزميله باللغة الفرنسية ضغطها مرتفع جدا، لابد من نقلها بسرعة إلى المستشفى. قال آخر: أين جواز سفر المريضة؟

ـ تفضل سيدي هذه أيضا تذكرة سفرها.

ـ ليست لديها إقامة في البلد والمفروض أن يأتي الطبيب لفحصها بالمطار.

أسمع صوتا يقول: إنها متوجهة إلى المغرب.

يسأل صوت آخر: ألا يمكنكما أن تسعفاها هنا في المطار؟

أجاب رجلان بصوت واحد: لا بد من نقلها إلى المستشفى بسرعة. إن الضغط مرتفع ودقات قلبها غير منتظمة.

ـ آنسة، ما اسمك؟

قلت بلسان متثاقل: إسـ م ي غ اليـ ة.

أمسك الطبيب بيدي وأدخل حقنة في عضدي، بعدها لم أشعر بشيء. تسلل إلي نفس الكابوس الذي كان يتردد عليّ من حين إلى آخر. أجري وأبي يلاحقني بسكين وإخوتي يتبعونه ويصرخون: اقْتٌلْ خائنَةٌ العِرْضْ، أٌقْتٌلْ خائنَةٌ الشَّرَفْ وأنا أجري وألهث وقدماي تتعثران في فستان أبيض. تصاعدت حرارة جسمي والعرق يتصبب بغزارة، أهذي بكلام غير مفهوم. اقتربت ممرضة مني وقالت بلهجة مغربية: لا تخافي أنت تحت الرعاية في المستشفى. ناولتني حقنة في عضدي، اختفى الكابوس واختفيت من الوجود كله ولم أعد أعرف في أي منطقة في الكون أسبح إلى أن فتحت عينيّ المرتعشتين من أشباح حلم اليقظة وعقلي مازال يتمايل كالسكران بين خيالات الأحلام. سمعت صوتا باللهجة المغربية موجها إليّ: كيف حالك آنسة؟

ـ هل أنا في المغرب؟

ـ لا، أنت في المستشفى في باريس. لقد جئت هنا منذ يومين؟

ـ ماذا تقولين؟ يا إلهي، يجب أن أخبر نبيل بما جرى لي كي يطمئن أهلي.

ـ أعطيني رقم الهاتف لكي أتصل به.

حملت سماعة التليفون وطلبت الرقم، نظرت الممرضة إلي وهي تبتسم:

ـ الجرس يرن.. ألو، مساء الخير سيدي هل يمكنني أن أتكلم مع الدكتور نبيل؟

ـ … أنا؟ اسمي نجية، ممرضة في مستشفى بباريس. ناولتني السماعة، ألو نبيل أنا غالية. أنا بخير جدا، لا تقلق لأمري. ارتفع ضغط دمي في الطائرة وأحضروني إلى المستشفى ... هل أخبرت أهلي عن مغادرتي لليبيا ... لا، لم أفعل ... الحمد لله... كنت قلقة جدا.... متى ستغادرين باريس؟..... لا أعرف سأطلب الدكتور حالا عله يسمح لي بمغادرة المستشفى اليوم ... أريد التحدث إلى الممرضة... تفضلي آنسة يريد أن يتكلم معك... ألو. … حاضر. ….. حاضر. لا تقلق سيدي، غالية لن تخسر تذكرة رجوعها إلى المغرب. كل شيء ترتبه السلطات الجمركية على أحسن وجه… حاضر. غادرت الممرضة الغرفة وتركتني وحيدة أفكر في الحوار الذي جرى بيني وبين نبيل. صوته مازال يرن في أذني وكأنني لم أغادر ليبيا وأن كل ما حدث منذ أخبرني بملاحقة تلك العصابة لي. حتى تلك اللحظة عبارة عن حلم و وهم. جلت ببصري داخل الغرفة، بجانب السرير خزانة صغيرة عليها جهاز الهاتف، باقة من الورد في مزهرية وأمامي تلفاز صغير معلق بالجدران. أنا فعلا لست في حلم. دخل الدكتور والممرضة المغربية.

ـ كيف حالك الآن؟

ـ أريد مغادرة المستشفى.

جس نبضي وقال: لقد أصبح الضغط عاديا.

نظر إلى الممرضة المغربية وتبادلا حوارا بالعينين. التفت إلي مرة أخرى وقال: تريدين مغادرة المستشفى إلى أين؟

قلت بعصبية: أريد أن أغادر المستشفى وباريس وفرنسا كلها هل لديك مانع؟

ـ سنتصل بالمطار ونرى متى توجد رحلة إلى المغرب. ابتسم وربت بيده على كتفي ثم غادرا الغرفة.

هل يظنني أريد الخروج من المستشفى والإقامة في بلده بطريقة غير مشروعة؟ هل الممرضة المغربية.. لا، لا أظن ذلك. لكن، لماذا كانا ينظران إلى بعضيهما عندما قلت أريد مغادرة المستشفى؟ تبا لهم جميعا وتبا لهذه الدنيا وللعصابة ونبيل الذي استغنى عني وأرسلني كبريد مستعجل في الطائرة. ما زلت أسب وألعن حتى أغمضت عيني وخلدت لنوم غير مريح، إلى أن أيقظتني لمسة الممرضة.

ـ آنسة غالية، هناك رحلة إلى المغرب الليلة، سيصحبك الشرطي إلى المطار.

ـ ماذا قلت؟ شرطي؟

ـ نعم، لقد رافقك منذ خروجك من المطار ومازال هنا إلى أن يرافقك.

_ يا لغرابة الدنيا، في طرابلس ألاحق من عصابة إجرام وفي فرنسا يرافقني شرطي إلى المستشفى. متى سأغادر المستشفى؟

ـ الآن إن أردت فموعد الرحلة بعد ثلاث ساعات. سأذهب لإحضار الطبيب.إنه يريد مقابلتك قبل أن تغادري.

أسرعت إلى الحمام. اغتسلت ولبست ملابسي. نظرت إلى المرآة، وجهي كان شاحبا وجسمي يرتعد من الجوع. لم أكل شيئا منذ فطوري مع نبيل. سمعت طرق الباب.

ـ آنسة غالية، هذه ورقة مني إلى طبيبك الخاص تشرح حالتك.

ـ ماذا بي؟

ـ لا تقلقي الأمر ليس خطيرا كما تظنين.

ـ إن كان الأمر ليس خطيرا، فما هو إذا؟

ـ إنه كثرة التفكير وإرهاق الأعصاب.

ربت على كتفي وقال: سفر سعيد.

اتجهت إلى باب الغرفة مودعة الممرضة المغربية التي كانت تغير غطاء السرير. كان الشرطي جالسا على أريكة يشرب القهوة، بمجرد أن لمحني وقف مبتسما، حمدا لله على سلامتك. هل أنت جاهزة؟. أمسك حقيبة كتبي، ثم انطلق يمشي بخطوات سريعة وأنا أتعثر وراءه إلى أن خرجنا من المستشفى. كانت سيارة أجرة واقفة أمام الباب. تقدم الشرطي وفتح باب السيارة الخلفي وجلس بجانبي ثم طلب من السائق أن يتوجه إلى المطار. انطلق بنا السائق داخل شارع الشانزاليزيه المكتظ بالسيارات. الطقس بارد والسماء مكسوة بالضباب، كل شيء يختلف عما تركته في ليبيا. توقفت سيارة الأجرة أمام باب المطار. دخلنا مسرعين إلى الداخل،كان المطار يعج بالمسافرين من كل بقاع الأرض. كنت أحس بالجوع، أخرجت خمس دولارات من حقيبتي وطلبت من الشرطي أن يحضر لي ساندويتشا. جحظ عينيه مستغربا ثم ضحك وقال: هل لهذه الدرجة الأطباء بخلاء؟ هيا ادخلي

إلى هذا المكتب سأحضر شيئا تأكلينه. شعرت بألم في معدتي وبدوار في رأسي، استلقيت على الأريكة، أنظر إلى السقف أراه وكأنه سيسقط على رأسي، أغمضت عيني ووضعت حقيبة كتبي على بطني علها تنسيني الجوع وتخفف من الألم، أتقلب على الأريكة يمنة ويسرة وأعض على شفتيّ إلى أن دخل الشرطي.

ـ ماذا بك آنسة؟

ـ هل أحضرت شيئا آكله؟

ـ تفضلي ساندويشا من الجبنة والسلطة وكأسا من الحليب.

أمسكت منه الساندويش وشرعت في أكل جزء منه بسرعة حتى اختفى الألم. وضعت نصف الساندويش على المائدة وغمغمت: الحمد لله ذهب الألم.

دخلت شرطية. تفضلي جواز سفرك والتذكرة.

التفتت إلى زميلها وقالت: رافقها إلى قاعة انتظار الرحلة رقم 114.قالت ذلك وغادرت. أما الشرطي فجلس وراء المكتب وقال: يمكنك أن تكملي أكلك.

ـ لم أعد أشعر بالجوع.

ـ إذا هيا بنا.

تبعته إلى أن وصلنا القاعة التي يوجد بها المسافرون المتوجهون إلى المغرب. مد إليّ حقيبة كتبي وانصرف.

حان وقت السفر توجه المسافرون إلى داخل الطائرة وخطواتي من ورائهم مثقلة بلا شيء، أداري أنفاسي المتجمدة، التفت إلى المسافر الذي يجلس في مكاني المفضل طلبت منه أن يغير معي المقعد، تردد أول الأمر، لاحظ عيني دامعتين فوافق على طلبي. عويل الصمت يخنقني وأنا أنظر إلى ساعتي التي لبست لحظتي القلقة، سمعت صوت الذي يجلس بجانبي: هل الأخت مغربية؟ التفت إليه وقلت بامتعاض: نعم، أنا من المغرب. خاطبني باللهجة المغربية: سميتي عبدو من الجديدة.شو سميت الأخت؟ لم تكن لي الرغبة في تبادل الحديث معه ورغم ذلك أجبته ممتعضة: اسمي غالية، ثم أدرت وجهي مرة ثانية إلى النافذة. أسمعه مرة ثانية يقول لي، رأيت البوليس معك في الْمَطار.... هل أرغمتك الشرطة على مغادرة البلد...؟ بعد سؤاله الفضولي لم أعد أتحمل انتظار أسئلة أخرى مثلها. التفتت إليه وقلت بصوت أقرب إلى الصراخ: هل تعتقد أن تغييرك معي للمقعد يمنحك الفرصة لإزعاجي. يمكنك أن ترجع إلى مكانك بشرط ألا أسمع صوتك مرة أخرى. قطب وجهه وأظهر ابتسامة خبيثة ثم قال: واه! واه! راكِ واعْرَة بْزَّافْ. صافي صافي الله يْعَاوْنِّي وْيْعاوْنْكْ. كان الوقت مساء والسماء تخلع ببطء وغنج فستانها الأزرق مستعدة لرداء قميص نومها الأسود المرصع بنجوم متـلألئة. كان منظر باريس في المساء رومانسيا، حالما بأضواء شوارعها ومعالمها السياحية. أثار انتباهي منظر برج إيفل، حملني بسحر شكله وجمال رونقه لحظة من الزمن إلى أن ابتعد عن نظري واختفى. شعرت بلمسة على كتفي، من فضلك آنسة، هل يمكنك أن تطلبي من المضيفة أن تعطيك الويسكي. جحظت عينيّ مستغربة وقلت له أنا لا أشرب الخمر. ابتسم وقال أعرف بأنك لا تشربين الخمر، الويسكي أريده لنفسي. سألته لماذا لم تطلب ذلك بنفسك. هذه المرة ضحك مبرزا أسنانا بنية ومتآكلة، لأنني شربت أكثر من المسموح به. قلت بامتعاض ما دمت شربت أكثر من المسموح به، لماذا تسمح لنفسك المزيد؟ قطّب على جبينه وقال باستعلاء، إنها لا تدفع ثمنه من جيبها وْزايْدونْ أنا دْفْعْتْ فْلوسي باشْ رْكْبْ فْطّْيَّارَ أٌ آكٌلْ وْ نْشْرْبْ كِمَّا بْغيتْ. ما هذه المصيبة التي تجلس بجانبي؟ لم يكن ينقصني همّ وإزعاج سواه. قلت له بهدوء مصطنع هل لك أن تعتبر أن المقعد الذي أجلس فيه فارغا وأنني لست موجودة. انفجر في وجهي وكأنه يريد بذلك أن ينقض عليّ، بْغيت غيرْ نْعْرْفْ آشْ كَيْكولِّكْ راسْكْ؟. شعور غامض استولى عليّ، وجه مكفهرّ وبصر ملتهب ، لا أدري لماذا شعرت بهاجس مفاجئ بالعطف عليه، سكن كلّ شيء بداخلي واستسلمت للهدوء. أقبل المضيف، ما الأمر؟ ولكي أداري خجلي، طلبت منه أن أغير مكاني. ابتسم قائلا، المقاعد الخلفية كلها فارغة. أمسكت صينية الطعام، وناولتها له، ألا تريدين أن تتعشي؟ لا، شكرا. لقد فقدت شهيتي. جلست على أحد المقاعد الخلفية ألملم شرود مستقبلي القريب في المغرب.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:11 PM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل العاشر



صبر لم يحسن الانصات



دارت عجلة الزمن كالرحى بشكل فجائي وغالية تبكي حريتها التي ما فتئت أن أشرقت وغابت كمهرجان أسطوري، تبكي رجوعها المفاجئ والسريع مثل لعنة مكتوبة منذ الأزل، تتعثر في زحمة الأفكار، خلف الأزقة والدهاليز. يستهويها الهروب المستحيل من الآتي، من الوحوش وهم يحتفلون في مشهد خرافي بعرسها الذي سيتوِّجٌهٌ ملك السلطة وسلطان التقاليد وإمبراطور الطغيان والجبروت. نساء وأطفال ورجال، صراخ ونباح وعويل، طبول وأبواق ومزامير، عرابات خلف الباب يترقبن في شغف الختم الذكوري، وغالية في صحرائها تلفظ آخر أنفاسها في سرير أحمر وغرفة تطل على بحر العذاب. طقس لاختبار شرفها عبر قطرات دم في منديل أبيض وسط صحن مرمر، ستحمله النساء وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي تسمع كالصهيل، كالعواء، ويتلو الشيوخ الملتحون خرافة صنعوها وكأنهم في حالة شبق لرؤية الدم المسفوح. أطبقت غالية كفيها على أذنيها لتحجب وقع تلك الأصوات المخيفة التي تجتاح خلجات نفسها كالزلازل، كالبراكين الثائرة، مختبئة خلف نفسها، تتعثّر خلف المسافرين وسط مطار النواصر في الدار البيضاء، تجر قدميها كالتائه في الصحراء تطرق أبواب الآهات وتغترف الحسرات على شبابها وموتها الأبله الذي ينتظرها. واصلت السير ببطء تجاه شباك المكتب، شعرت كما لو أن شيئا ما قد تهشم في داخلها. نظر إليها الموظف ثم تظاهر بالانشغال. أحنت رأسها إلى نافدة الشباك وقالت:

ـ من فضلك متى ستقلع الطائرة المتوجهة إلى فاس؟

تأملها ببصر متفحص وقال: جواز سفرك والتذكرة من فضلك.

ناولته الجواز، قال وهو يقلب صفحاته ومن غير أن ينظر إليها: كيف جئت من ليبيا والطائرة التي جاءت الآن قدمت من باريس. ردت بهدوء قلق:

_ كنت مضطرة لأغادر طرابلس بنفس اليوم، لكن كانت المقاعد محجوزة، فاضطررت للسفر إلى فرنسا ومن هناك إلى المغرب.

ارتعشت شفتاه متمتما: أول رحلة الساعة الثامنة صباحا. هل عندك نقود؟

صمتت برهة ثم أردفت قائلة: كانت عندي نقود لكن أٌخِذَتْ مني في الجمارك ولم يتركوا لي إلا مائة درهم.

دمدم بصوت غاضب مسموع:

_ أتريدين أن تقولي لي بأنك قضيت شهورا في ليبيا بمائة درهم هل جئت بقهوة أو شاي أو عطر؟

قالت بصوت يفصح عن امتعاض:

_ لا هذا ولا ذاك لقد سرقت مني حقيبة ملابسي في مطار طرابلس.

تأمل وجهها المحتقن ونظرتها الساذجة ثم ردّ بهدوء ممزوج بسخرية: ولاد لْحْرامْ سّْرَّاقَة فينْ مَّا مْشيتي.

قالت بهدوء قاتل:

_ للأسف نعم، هل من الممكن الآن أن أقضي الليلة بالفندق؟

ابتسم عن أسنان متآكلة وتمتم:

_ كان هذا ممكنا لوْ دْوّْرْتي مْعايا.

قالت عن استياء:

قلت لك ليس عندي نقود.

ردّ بهدوء:

_ إذا فاقضي ليلتك هنيئة في قاعة الانتظار.

روحها ترتعد من غياهب المجهول وغضب بداخلها يشبه الجحيم، صرخت بأعلى صوتها مكسرة ذلك الهدوء الصاخب.

_ من حقي أن أقضي الليلة في الفندق هكذا ينص قانون الطيران إن كانت الرحلة تقتضي المبيت.

ـ على أي قانون تتكلمين....فاكرة حالك في أوربا....

أحست بالغضب وتمنت أن تشتمه وتسبه، لكنها تمالكت أعصابها وقالت: أين مسئولك؟

حينها وقف من مكانه مرعوبا وقال: لماذا أنت عصبية هكذا؟ كل ما تريدينه سيلبى.

ـ عفوا أنا لا أريد شيئا فقط حقي كأي مواطن يعيش في بلده متمتّعا بكل حقوقه التي تخولها له الدولة والقانون.

مازالت تحدثه حتى قدم شرطي جمارك آخر: ما الأمر؟

قال الشرطي: الأخت قادمة من فرنسا وستسافر غدا إلى فاس. تريد قضاء الليلة بفندق المطار..

ـ وماذا تنتظر؟

ـ حاضر سيدي. سأقوم بالواجب فورا.

انصرف الشرطي من غير أن يتفوّه بكلمة أخرى. قام الموظف مهرولا من مكتبه، تبعته غالية إلى باب المطار حيث سيارات الأجرة مصطفة. تقدم إلى واحدة وخاطب السائق:

ـ خذ الآنسة إلى الفندق وفي السابعة صباحا يجب أن تكون في المطار.

انطلقت بها السيارة في شوارع الدار البيضاء، تلك المدينة التي لا تنام. مازالت الشوارع مكتظة بالسيارات والمقاهي مليئة بالزبائن، لم يتغير أي شيء، شعرت بقشعريرة سرت في جسدها وروحها الحبيسة مشغولة في هم سرها الخطير، تنظر من نافدة السيارة، تتذكر زياراتها المتكررة مع أهلها إلى هذه المدينة منذ كانت طفلة. لم تعد طفلة الآن، علة سرها تلاحقها، تطاردها كالضوء المبعثر، تضعها في لحظة قاسية التضاريس مليئة بأشباح الموت، عيناها تتسكع بين تلك الشوارع ، حلم تحوّل إلى كابوس أسود يردّده كل دقيقة عقرب الساعة الذي عيّره القدر لانفجار ذلك السرّ الدفين. تقتلها الخيبة والإعياء لقلب لن يكون آخر الشهداء. توقفت السيارة أمام فندق بمركز المدينة.

قال السائق: عليك أن تكوني جاهزة الساعة السادسة صباحا. إن الأجر مدفوع من وكالة الخطوط لكن إن أردت أن تتكرمي علي فسأكون ممنونا متشكرا، تعرفين الحالة كيف هي.

ناولته خمسين درهما ودلفت إلى الفندق، أخذت مفتاح الغرفة من موظف الاستعلامات وتوجهت إلى الغرفة ثم استلقت على السرير، مدثرة بالحزن، قابضة على أزمنتها المنفية، هل أنا فعلا عدت إلى المغرب... هل أنا أحلم أم أنها الحقيقة ...؟ أغمضت عيناها إلى أن أيقظها جرس التلفون: صباح الخير آنسة، إن الساعة الخامسة والنصف.

كان السائق ينتظرها، انطلق بها إلى المطار، رعشة الخوف بداخلها من ردة فعل عائلتها لرجوعها المفاجئ. توجه المسافرون إلى الطائرة وتبعتهم بخطوات بطيئة متعثرة كسجين مكبّلة رجلاه بسلاسل من حديد. حلقت الطائرة، في تلك اللحظة تمنت أن تظل الطائرة محلقة في الفضاء إلى الأبد وألا تنزل إلى الأرض وأن الكابوس الذي تعيشه ليس حقيقيا. الطائرة وصلت بسرعة البرق إلى مطار فاس. نزل الركاب ولم يبق أحد بداخل الطائرة سواها. كانت تحدق من النافدة وجسمها متشنج، شاردة في تفاصيل رحلتها منذ بدايتها. أخذت حقيبة كتبها ونزلت مهرولة إلى داخل المطار متجهة نحو باب الخروج، فإذا بها ترى كل أفراد العائلة ينتظرونها ما عدا عمتها صفية. ظلت في البيت تهيئ مراسم قدوم ابنة أخيها الغالية. تمنت أن تكون هي التي تنتظرها، لأنها الإنسانة الوحيدة التي اشتاقت إليها كثيرا. تبادلت غالية العناق والسلام مع أهلها ثم انطلقوا إلى البيت. طيلة الطريق كانت تنهال عليها أسئلة من كل صوب إلى أن توقفت السيارة فرأت عمتها أمام الباب تنتظر قدومها وفي يدها صينية فيها الحليب والتمر. وضعتها على الأرض وهرولت نحوها تعانقها.

ـ كيف حالك يا غالية؟ لقد اشتقت إليك كثيرا.

قالت الأم: أدخلا البيت أولا.

اتجه الجميع إلى غرفة الصالون والتفّ حولها أفراد العائلة فرحين بقدومها المفاجئ. قال الأب وهو في حالة هدوء ووجوم: لقد أخبرنا الدكتور نبيل عن مشكلة الحصول على تذكرة مباشرة من ليبيا إلى المغرب وأنه اضطر لتغيير الرحلة عبر باريس ومنها إلى المغرب. إن الوحدة المغاربية شجعت شعب المغرب العربي أن يتحرك بحرية في هذا القطر الكبير وهذا شيء جميل جدا، على الأقل تخف البطالة وتتحسن الظروف الاقتصادية. أضاف مبتسما تعالي واجلسي قربي أريدك أن تحدثيني عن كل شيء بالتفصيل، عن البلد وعن أحوالك فيها وكيف حال ابن الإيمان وزوجته.

شعرت بالارتباك وقالت متلعثمة: إن ابن الإيمان اسمه لا ينطبق عليه، يعامل زوجته بقسوة بالغة.

قطّب جبينه وقال: هل بدر منه شيء سلبي تجاهك؟

ـ لا يا أبي لكنني لم أطق العيش معهم. لم أتحمل أن أرى عراكه يوميا مع زوجته لذلك تركتهم وعشت مع العائلة المغربية التي تعرفت عليها.

ـ اللئيم! كيف سمحت له نفسه أن يعامل تلك المسكينة بقسوة وهي في سن حفيدته.

قالت الأم مقاطعة: إن السنة الدراسية لم تنته بعد، لماذا عدت فجأة؟

لم تعرف غالية كيف تجيبها إجابة مقنعة ولم تفكر طيلة سفرها في عذر تنجو به من التوبيخ واللوم. شعرت بسخونة في كل جسمها، التفتت إلى أبيها فوجدته ينظر إليها منتظرا سماع الإجابة وأختها كانت تنظر إليها بعينين خائفتين أما عمتها فلم يكن يهمها سوى رجوع غالية التي تحبها وبريق الشوق يشع من عينيها الذابلتين. نظرت غالية إلى أمها وقالت:

ـ لقد وصلت متأخرة عن موعد التسجيل في الجامعة، فعملت مترجمة بأكبر شركات طرابلس للتصدير والاستيراد لكن الدكتور نبيل كان رافضا عملي في طرابلس كما أنه لا يريدني أن أدرس في ليبيا ولامني كثيرا على عدم العودة إلى أمريكا لإتمام الدراسة.

نظر الأب إليها مبديا عدم موافقته وقال: يا ابنتي كم مرة سأقول لك بأن ظروفي المادية لم تسمح لي أن أرسلك إلى أمريكا عليك أن تصرفي فكرة الدراسة في الخارج وأن تلتحقي بالجامعة هنا في السنة المقبلة أما هذه السنة، فقد فات الأوان إنك لم تسمعي كلامي ولا نصائحي فها أنت الآن عدت بخفي حنين من ليبيا.

ـ لا يا أبي، لم أعد بخفي حنين من ليبيا. لقد تعلمت أشياء كثيرة في سفري كما أن وقتي لم يضع سدى في طرابلس لقد حصلت على شهادة الضرب على الآلة الكاتبة وعملت في شركة عالمية.

عدل الأب جلسته باهتمام زائد وبدا كمن يتهيأ لسماع كلام خطير. تفاصيل وجهه وذهول عينيه يفصح عن ذلك. مرّر راحة يديه على لحيته وقال:

_ السبب الوحيد الذي جعلني أوافق على سفرك هو متابعة الدراسة في الجامعة و ليس العمل في شركة عالمية.

ـ لكن يا أبي لماذا ندرس ونتعلم أليس لنعمل في المستقبل؟

ـ فقط لكي تعشن مع أزواجكن متعلمات غير جاهلات.

ساورتها رغبة في البكاء، التفتت إلى أمها التي فاجأتها بعينين قاسيتين ولكي تغير الموضوع قالت:

ـ تعرف يا أبي سأستعد للامتحان وسأتقدم لإجرائه وتأكد بأنني سأنجح بتفوق.

ـ هكذا أريدك يا ابنتي أن تكوني مطيعة مرضية.

مطيعة...مرضية...أصبحت أكره هاتين الكلمتين، إن الطاعة والرضا عن غير اقتناع ليس إلا تملقا ونفاقا وخوفا وطاعة عمياء.

قالت وهي تنهض من مكانها: إنني أشعر بالتعب وأريد أن أذهب لأنام قليلا.

قالت العمة: قبل النوم لا بد أن تأكلي شيئا لقد هيأت لك أكلتك المفضلة.

ـ سآكلها عندما أستيقظ.

كانت تتوق للانزواء في غرفتها. تحس بأنها تمشي في طريق مسدود، صداع في داخلها، في كل جسمها. لا يجب أن أٌهْزم. ليس هناك خلاص لي ولمحنتي إلا الدراسة، لأنها هي التي ستنقذني وتعطيني حريتي. لحقت بها أختها، فرحة مسرورة بقدومها. أقفلت باب الغرفة وضمتها إلى صدرها بقوة وقالت:

ـ كم اشتقت إليك يا غالية لقد تركت فراغا في حياتي، فلم أجد صديقا أفضي إليه ما في قلبي. تقدم إليّ ستة خطاب وأبت أمي أن أتزوج قبلك.

ـ ماذا تقولين؟

أجابت سلمى بغيظ: مثلما سمعت يا أختي إنهم يريدون تزويجك أولا.

دب الرعب في جسم غالية، استلقت على السرير وأغمضت عينيها لكي لا ترى أختها دموعها، "يا إلهي ماذا فعل بي نبيل؟ أرسلني إلى الموت المؤكد. إن الموت على أيدي العصابة أهون عليّ من الموت المضمخ بدماء العار".

ـ ماذا قررت أن تفعلي يا أختي؟

ـ ليس أمامي ما أفعله سوى أن أستعد للامتحان الذي لم يبق على موعده إلا خمسة أشهر.

ـ و ماذا عن قصة الزواج.

ـ لن أتزوج يا سلمى، ولو حط السيف على عنقي.

ـ يظهر أنه ليست لك رغبة في الحديث سأدعك ترتاحين.

غادرت سلمى الغرفة وتركت غالية مستلقية على السرير تتوسّد خيبتها تنظر إلى سقف الغرفة وتغترف الحسرات إلى أن استسلمت إلى النوم. لم يعد يشغل بالها إلا النجاح في الامتحان. رسائل نبيل المتتالية تزيد من آمالها وإصرارها على التفوق رغم أنها تعرف أن قدومه إلى المغرب لن يغير أي شيء وأنه لن يستطع إقناع أبيها أن تدرس في أمريكا لكنها كانت تنتظره. حان وقت الامتحان أوصلها أبوها بسيارته، مسرورا فرحا إلى باب الجامعة وودعها داعيا لها بالنجاح. كانت الأسئلة سهلة وغير معقدة بالرغم من عدم انتسابها تلك السنة. خرجت من الجامعة فوجدت أباها ينتظرها. هرولت إليه مسرعة ثم انطلق بها إلى المنزل. التفت إليها وقال: ما قصة ذلك الجمع الكبير من الطلبة الذين كانوا يحيطون بك؟

ـ لقد كانوا يسألونني عن نمط الحياة والدراسة في أمريكا.

ـ أمريكا! أمريكا! لا أعرف ماذا في تلك البلاد يثير الإعجاب؟ إنها بلد انحلال الأخلاق والإجرام والإرهاب.

بدأ محاضرته عن أمريكا التي سمعتها مرات عديدة ولكي تغير الموضوع قالت: لم تسألني يا أبي عن الامتحان؟

ـ أنا أعرف ابنتي جيدا، ذكية وطموحة مثل أبيها. اسمعي يا غالية في بيتنا عائلة الشنقيطي هل تذكرينهم؟

ـ كيف أنسى تلك الأيام الجميلة التي قضيناها عندهم. كان عمري آنذاك عشر سنوات. أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي دخلنا فيه إلى مدينة أغادير لزيارتهم.أثارت إعجابك المدينة وقلت عنها قصيدة طويلة أذكر منها بيتين فقط.

هذي أغادير كالعروس رافلـة يخال ناظرها الأضواء كالنجــم



لباسها الرايات الحمرا تزينهـا وحليها درر يعلو على القمـــم

كم لعبت أنا وإخوتي مع بنات الشنقيطي وابنهم المختار الذي كان يكبرني بعشر سنوات. لقد كان شقيا. هل تذكر يا أبي كان المختار يحب الطبخ، دائما في المطبخ يساعد أمه في تقشير الخضار ويلح عليها أن تدعه يطبخ الأكل وكانت هي تطرده. ألح عليها يوما ليطبخ لنا وجبة الغداء فأبت، لكنه أقنعها بأنها ستفتخر به عندما سيقدم لنا أحلى وجبة طاجين بالدجاج وفعلا كانت مفاجأة للجميع، طبق لم يسبق لنا أكله من قبل. كان الأب يقود السيارة وهيستيريا الضحك تستحوذ على سحنة وجهه وهي تروي له القصة. بعدما أقنع أمه بأن تأذن له بإحضار الطعام. طلب منها الخروج من المطبخ حتى لا تزعجه. صعد إلى السطح وأمسك بإحدى الدجاجات السمينات التي بالقفص ثم خنقها وقطع رأسها ونتف ريشها. ملأ طنجرة كبيرة بالماء ووضع فيها الدجاجة من غير أن يفرغ بطنها ويقطع قوائمها وأضاف عليها المكارونا والزيت وقطعا من الطماطم وشيئا من التوابل ثم وضعها على نار حامية لكي تنضج بسرعة وبينما هو ينتظر طبخه أن يستوي كان يرقص على إيقاع المطرب رويشة ويضرب برجليه على الأرض منسجما مع الأغنية إلى أن انتهت. ثم أخذ طاجينا كبيرا، وضع فيه الدجاجة وأحضره إلى غرفة الأكل. قال الأب وعيناه تسيل بالدموع من شدة الضحك: كان منظر الدجاجة بقوائمها وهي تسبح في مرق الطاجين ترعب الناظر إليها وتسد شهيته للأكل. استلقت غالية على مقعد السيارة وشخصت ببصرها إلى السماء الصافية تبتسم ثم قالت: هل جاءت كل العائلة؟.

ـ لقد تزوجن كلهن.

قالت على عجل: حتى ثريا التي يبلغ عمرها الآن خمس عشرة سنة.

ـ اسمعي يا ابنتي إن البنت مصيرها الزواج فمهما درست مصيرها الاستقرار في بيت بعلها.

ساورها شعور غامض تلك اللحظة، مزيج من الغضب والحزن، بلعت ريقها والتزمت الصمت طيلة الطريق إلى أن وصلت المنزل. دخلت إلى الصالون لتسلم على العائلة. وبمجرد أن رأتها زوجة الشنقيطي حتى صاحت:

ـ ما شاء الله! لقد كبرت وأصبحت عروسا جميلة.

سلمت عليها وعلى زوجها والمختار. لم يعد ذلك الطفل الشقي، أصبح شابا وسيما وخجولا.

نظر إليها الشنقيطي وقال بابتسامة عريضة: أنا متأكد بأنك ستنجحين لا محالة أنت دائما مجدة ومجتهدة منذ الصغر.

ـ شكرا يا عمي على مجاملتك.

ـ إنها الحقيقة لقد رأيت صورتك بالجريدة منذ سنتين وقرأت أنك كنت من ضمن الفائزين العشرة في كل جامعات المغرب الذين حصلوا على منحة للدراسة في أمريكا. لم يفاجئني ذلك بقدر ما أسعدني كثيرا.

قال المختار: هل هناك فرص عمل في أمريكا؟

أجابت بسرعة وامتعاض: صراحة لا أعرف.

نظر المختار بعينين مبتسمتين ثم أردف يقول: إن نجحت في هذا الامتحان ستصبحين أستاذة كبيرة.

صمتت فجأة لكن الصمت لم يستغرقها طويلا قالت مستأنفة بهدوء: لا أبدا، سأكون أستاذة صغيرة تدرس في الثانوية وأنا أريد أن أكون أستاذة كبيرة أحصل على دكتوراه وأدرس في الجامعة.

خجل المختار من إجابتها واحمر وجهه ثم بسط عينيه إلى الأرض. نظرت أم غالية إليه وقالت بسرعة لتنقذ الموقف.

_ إن نجحت غالية تكون قد أنهت تعليمها وتستعد لبناء عشها الزوجي أليس كذلك يا غالية؟

شعرت غالية بالغيظ وقبل أن تجيب أمها قال الأب بسرعة وكأنه يعرف ماذا سيكون ردّ ابنته:

ـ أنا أشجع بناتي على العلم والدراسة وغالية الآن حصلت على ما يكفيها من العلم، فهي وصلت لسن الزواج الذي يعتبر سترا للفتاة.

أحست أن هناك أمرا دار بين والديها والشنقيطي وزوجته. استأذنتهم بالانصراف ودلفت إلى غرفتها. لحقت بها شقيقتها الصغرى سلمى. أغلقت باب الغرفة وقالت:

ـ ماذا ستفعلين يا غالية؟

ـ لا أعرف يا سلمى. ماذا يريدون مني؟ لماذا لا يتركونني لحال سبيلي؟

ـ لكن، أنت تعقدين الأمور يمكنك أن تتزوجي وتكملي دراستك.

ـ لن أتزوج أبدا، هل فهمت؟

ـ نعم، أنا فهمت لكن والديّ لن يفهما ولن يقبلا رؤيتك عانسا في البيت.

ـ أنا لست عانسا.

ـ بلى، أنت عانس في نظر المجتمع.

ـ عن أي مجتمع تتكلمين؟ إنه مجتمع مريض بحاجة للعلاج هل أنت معهم أم معي.

ـ أنا مع العقل والمنطق. أنا أسير مع السير وإن مشيت ضده أتعب وأَهلَك. هل تريدين أن تبقي عانسا طوال حياتك؟

ـ من قال لك سأبقى عانسا طوال حياتي؟ أولا إتمام دراستي وثانيا وظيفة تعيلني وتحفظني من غدر الزمان وقهر الرجال وثالثا وأخيرا الزواج.

ـ هل تعرفين أن بنات الشنقيطي كلهن تزوجن حتى التي تبلغ من العمر خمسة عشر عاما.

ـ مالي أنا وبنات الشنقيطي؟

ـ عنادك يا غالية، لن يجلب لك إلا المشاكل. لماذا لا تقبلين المختار زوجا وتتابعين دراستك لا أظنه سيعارض.

ـ كيف أتزوج رجلا لا أعرف عنه شيئا ولا أحبه. هل الزواج لعبة؟

ـ لكن، ماذا يعيب المختار؟

ـ المختار؟ طباخ الدجاجة بمصارينها وقوائمها؟

ـ تسخرين حتى ولو كنت غاضبة.

رجعت بخطوات إلى الوراء وانتابها ذعر مفاجئ وقالت: لماذا المختار هل سمعت شيئا لم أسمعه؟

ـ نعم لقد سمعت الشنقيطي وأبي يتحدثان بشأن زواجك من المختار.

سبقتها شهقة تلهفها: ماذا تقولين؟ هذا معناه أن موعد موتي وهلاكي قد أوشك؟

قالت سلمى والخوف يتملكها: تموتين! عن أي شيء تتحدثين؟

قالت غالية وهي ترجف: إنه الموت بالنسبة لي. إنك لا تعرفين شيئا، أريد ن أهرب.

ـ تهربين إلى أين؟

ـ لا أعرف لكنني سأهرب.

اتجهت مسرعة إلى خزانة كتبها تبحث عن جواز السفر، أين اختفى جواز السفر؟ من أخذ جواز سفري؟ اقتربت منها سلمى تهدئها، إن أمي تحتفظ به لكي لا يضيع.

ـ لكي لا يضيع! من سيضيعه أنا أو أنت؟ هل تسخرين يا سلمى إنك حتما في صفهم.

ـ لا يا غالية. إنك أختي التي أحب من كل قلبي.

ـ إن كنت فعلا تحبينني فلا بد أن تأتي لي بجواز سفري لم أعد أحتمل هذا التسلط أريد أن أسافر.

ـ هذا مستحيل! ماذا سيقول عنا الناس؟ هل تريدين أن يغضب والداك عليك إلى الأبد؟ إن رضا الله من رضا الوالدين إن هربت سيتبعك سخطهم كالظل أينما كنت وستحل عليك اللعنة في الدنيا والآخرة.

ـ جهنم، سخط، دنيا، آخرة، ترهيب، تخويف. كرهت سماع هذه المصطلحات، كل يستعملها حسب مصلحته.

ـ ماذا تقولين يا غالية؟ هل أنت فعلا غالية أم يسكنك شيطان يتكلم عوضا عنك؟

ـ إن مجتمعنا هو المليء بالشياطين والمنافقين، يستعملون الدين كسلاح لتلبية رغباتهم ومطالبهم. إن الله رحمن رحيم بعباده، رءوف كريم بهم. اسمعي لا بد أن تحضري لي جواز سفري.

ـ لن آتي لك بجواز السفر ولن أسمح لك بجلب العار لأهلنا يا غالية؟

ـ العار هو الذي سيحصل عندما أتزوج.

أجحظت سلمى عينيها وقالت بصوت مرتبك وخافت: صارحيني يا أختي هل…

ـ هل ماذا؟ هل تظنين أنني فتاة من غير شرف؟ أنا طاهرة كل الطهارة ولم يمسني أحد. اطمئني ولا تدعي أفكارك تذهب بعيدا.

ـ وما ذاك الذي قلته؟

ـ أنا لم أقل شيئا.

ـ بلى. لقد قلت العار هو الذي سيحصل عندما تتزوجين.

ـ إنني أقصد عدم الدراسة والوصول إلى هدفي هو أكبر عار.

ما زالت تتحدث مع أختها، حتى دخلت الأم من غير أن تطرق الباب، متعصبة تنظر إلى غالية بعينين يتطاير منها الشرر: غالية، ما هذا التصرف؟

ـ أي تصرف؟ ماذا تعنين؟

ـ تركت الضيوف وخرجت.

ـ لقد استأذنتكم هل من العيب أن أنام وأرتاح بعد كثرة السهر وقلة النوم.

ـ لم أرك نائمة لماذا تبكين؟ هل تشاجرتما؟

ـ هل رأيتنا قط نتشاجر. نحن لسنا وحوشا يا أمي. كيف للمرء أن يتشاجر مع روحه ونفسه. هذه أختي سلمى روحي التي أحيا بها وأنت تعرفين ذلك جيدا.

ـ فلماذا البكاء إذا؟

ـ ألا تعرفين لماذا؟

ـ ما معنى كلامك أنت وأبي وتلميحكما غير المباشر عن الزواج. هل قررتما تصديري إلى خارج البيت؟

قالت الأم بعصبية: حسني أسلوبك يا بت وتكلمي باحترام.

ـ أنا يا أمي أحترمك وأحبك ولا أريد إلا رضاك ورضا أبي علي.

ـ وماذا تريدين إذا؟

ـ أريد منكما أن تكفا عن التفكير في تزويجي وأن تسمحا لي بإتمام دراستي.

اقتربت الأم وجلست قرب غالية على السرير، قالت بصوت رخيم:

ـ يا ابنتي لقد حان الوقت أن يكون لك بيت وزوج وأولاد وأن تستقري في حياتك لأن هذه هي سنة الحياة.

ـ سنة الحياة، أن أكمل تعليمي أولا وأحصل على الدكتوراه بعدها أفكر في الزواج.

ـ بعد أن تصيري عانساً. لا أبوك ولا أنا نسمح بذلك.

ابتعدت عن أمها خوفا من أن تضربها وقالت لها والخوف يتملك جسمها:

ـ أقسم إن وافقتما على تزويجي من المختار سأقتل نفسي فذلك أهون علي من أن أدخل إلى عالم الزوجية التي لا أستطيع تحملها الآن.

بعدما سمعت الأم اعتراض ابنتها تقدمت نحوها وهي تشير بسبابتها وكأنها تريد أن تغرسه في عينيها قائلة:

ـ يا مجنونة، يا مسخوطة… أنا أعرف كيف أجعلك توافقين رغما عنك. مثلك لا يطيع إلا بالقوة والعنف.

ـ ماذا تريدين أن تفعلي؟ تضربينني؟!

هرولت غالية إلى خزانة ملابسها وأخرجت حزام البنطلون وأعطته إياها قائلة بصوت مبحوح ومجروح:

ـ امسكي الحزام واضربيني حتى الموت. والله ذلك أهون عليّ من الزواج غصبا. هل تعتقدين أنني أخاف من الضرب. انفجرت تبكي وتصرخ في وجهها، ماذا تنتظرين...؟ هيا أضربي بكل ما لديك من قوة، وإن تعبت نادي أبي لكي يساعدك بل نادي كل من في المنزل وأيضا الخادمات. اضربوني حتى تزهق روحي فهذا ما أريد.

كانت سلمى تنظر إليها وتبكي أما الأم فقد فغرت فاها مستغربة، متعجبة لتمردها قالت:

ـ غيّرتك أمريكا وغيّرك السفر ولم تعودي تلك الفتاة المطيعة. أصبحت فتاة عاقة، وعقوقك هذا لن تفلحي به لا في دنيا ولا في آخرة.

قالت سلمى والدموع تسيل بغزارة من عينيها: لا يا أمي بالله عليك لا تغضبي من غالية، فهي لم تفعل شيئا يستحق كل هذا الغضب.

أدارت الأم وجهها نحو سلمى وقالت: اسكتي أنت ولا تتدخلي فيما لا يعنيك.

ـ لا يا أمي إنه يعنيني لأن سعادة غالية هي سعادتي وشقاءها هو شقائي.

ـ هل عَدَتك بأفكارها المسمومة؟

توقفت غالية عن البكاء والنحيب وجلست على الأرض راكعة أمام قدمي أمها، وقالت بصوت يملؤه الندم: أمي الحبيبة، أنا..

قاطعتها قائلة: لا تقولي أمي. أنا لست أمك لا في دنيا ولا في آخرة.

قالت هذا وخرجت من الغرفة فأسرعت غالية إليها كالبرق وارتمت على قدميها وبدأت تقبلها متوسلة:

_ من فضلك يا أمي اصفحي عني وارضي علي ولن أفعل إلا ما يرضيك.

ـ حسنا إن أردت أن أصفح عنك، يجب أن تقبلي المختار زوجا لك.

تنفست غالية الصعداء وقالت: حسنا يا أمي سأفعل ما تريدينه.

نظرت إليها بابتسامة تدل على الرضا وهزت برأسها كعلامة للنصر ثم انصرفت إلى الصالون. رجعت غالية إلى غرفتها فوجدت أختها سلمى ما زالت تحت وطأة الخوف وبمجرد أن رأتها حتى قفزت من مكانها متجهة إلى غرفة الباب أغلقته بكل حذر، جلست بجانبها وقالت وهي تلوح بيديها وتحرك رأسها يمنة ويسرة:

ـ أنا لم أعد أفهم شيئا ولا أستطيع أن أستوعب ما يجري. كنت رافضة كل الرفض الزواج وعزمت على الهروب وها أنت الآن فجأة تنقلبين خاضعة راضية باقتناع وببرودة أعصاب.

ـ لن أتزوج أبدا ولو وضعوا السيف على عنقي.

ـ لكن ما هذا التصرف الذي قمت به أهو تمثيل في تمثيل؟

_ الحيلة يا سلمى إن الحيلة أحسن من العار.

ـ لكن، ماذا قررت أن تفعلي؟

ـ لا أعرف بعد لكن، لابد أن أجد حلا.

جاءت العمة وقالت بلهجتها الموريتانية موجهة كلامها لغالية: هََذا ما يْتْواسَا كومي كيسي الصَّالة أو أَكْعْدِ مْعَ ضْيافْ يا لِّي طْوّْلْ عْمْرْكْ.

ـ حاضر يا عمتي سأفعل.

ظهر على سلمى شيء من الارتياح واحتواها الارتباك والخوف من استسلام أختها المفاجئ وقالت:

ـ إنني قلقة عليك ولا أعرف إلى أين سيؤدي بك عنادك وتصرفاتك الغريبة.

ـ لا تخافي علي يا سلمى لقد كنت غبية جدا بعنادي وتعنتي لكني لن أنهج بعد الآن أسلوب التمرد والعصيان. لأن الأشياء تؤخذ باللين وليس بالشدة. لن أعطي الفرصة لأحد كي ينال مني بالتأثير على أعصابي.

ـ لماذا كل هذا التشاؤم يا غالية؟

_ لا تشغلي بالك بي وبمشاكلي إن الفرج قريب سيأتي،.لأنني بريئة.

ـ بريئة! بريئة من ماذا؟ كلامك يثير الرعب في قلبي هل تخفين شيئا عني؟

ـ لا أبدا ليس هناك شيء أخفيه.

اقتربت منها والخوف يتملكها وقالت: بلى. إنك تخفين شيئا خطيرا لذلك لا تريدين الزواج.

ـ هل تريدين أن تعرفي سبب رفضي للزواج؟ سأخبرك وأريح نفسي. إنني.. إني..

ـ إنك ماذا؟

ـ إنني أكره كل رجال العالم. لا أطيقهم ولا أطيق أن أكون يوما مع رجل تحت سقف واحد.

ـ لماذا هذا الكره للرجل يا غالية؟ هذه وجهة نظر المكبوتات والمريضات نفسيا.

ـ ربما، لكنني متيقنة من شيء واحد فقط وهو أن الرجل لا يرى أن المرأة إنسان مثله، يساويه في العقل والإحساس والشعور. يراها كائنا ضعيفا وآلة لإنجاب الأطفال وأنا لا أريد أن أكون بئر لذة وأقوم بمهمة النسل. إنني شخصية مستقلة بكياني لا تتأثر بغيرها ولا يهمني أن يُعجب بي الرجل. ليس لي إلا هدف واحد في هذه الحياة حاليا، وهو التحرر من كل القيود الزائفة وأن أصنع لنفسي كيانا مستقلا.

ـ ماذا تريدين؟

ـ أريد ن أكون حرة طليقة ومستقلة على الرغم من كل القيود والأعراف الاجتماعية التي تضعني دائما منذ كنت طفلة، في صراع دائم، مباشر وغير مباشر مع المدرسة والبيت والمجتمع.

ـ عن أي صراع تتكلمين؟

ـ يكفي أنهم يلقبونني متشائمة في المدرسة ومجنونة في البيت، وخارج البيت يقولون عني غريبة الأطوار.

ـ ماذا ستفعلين الآن؟ ألا تريدين أن تخرجي للضيوف وتجلسي معهم؟

ـ لا، ليس اليوم. الآن أريد أن أنام والصباح رباح.

ـ أي صباح وأي رباح... مازال الوقت مبكرا على النوم.

ـ إنني تعبة جدا وأريد أن أنام.

ـ كما تريدين يا أختي سأذهب لأجلس مع الضيوف نيابة عنك.

استلقت غالية على السرير تنظر إلى السقف محلّقة صوب الشرود، متخفية تحت مفرداتها التي تتضارب بقوة كيف قبلت أن ترجع ومعها شواطئها مسترخية لا حول لها ولا قوة. ماذا سأفعل؟ وأي مصير أحسن من عار يلحق بي وبالعائلة؟ هل يمكنني أن أتخلص من المختار هذا الطباخ الخجول؟ إن قبلت الزواج منه سيكشف أنني لست عذراء وأنتهي إلى عالم الأموات بكفن مدثر بالعار. اشتد الألم في رأسها وفي معدتها فأسرعت إلى ابتلاع قرصين من الدواء المسكن ولم تمر دقائق حتى أغمضت عينيها.

أشرق الصبح وأسدلت الشمس أشعتها الصباحية عبر نوافذ المنزل، استيقظت غالية على أغنية فيروز التي تنبعث من راديو المطبخ، ذكرها بصباح أيام الدراسة، زمن الطفولة، شعرت بالحنين إلى تلك الأيام لترجع طفلة صغيرة مرة ثانية وتبقى صغيرة لا يتقدم سنها لكي لا تُطلب للزواج. دخلت إلى المطبخ، فوجدت عمتها والخادمتان يهيئن الفطور.

ـ صباح الخير عمتي هل تحتاجين إلى مساعدة.

قالت العمة وهي تعجن الرغيف: مساعدتي أن تذهبي إلى الصالون وتجلسي مع الضيوف.

ـ حاضر يا عمتي سأذهب وأوقظ سلمى.

_ إن سلمى وأمك وزوجة الشنقيطي في الصالون.

ذهبت إلى الصالون وابتسامة عريضة على شفتيها، استقبلها الجميع بابتسامة فرحين بقدومها. سلمت عليهم بكل لباقة ثم جلست بجانب أختها. التفتت أمها إليها وعلى وجهها ابتسامة الرضا وقالت: اليوم سنسافر إلى السعيدية ونقضي فيها عطلة الأسبوع.

ـ فكرة جميلة يا أمي.

قال الأب: لا بد أن نعتني بضيوفنا أليس كذلك؟

ـ قالت زوجة الشنقيطي مبتسمة: نحن لسنا ضيوفا، نحن سنصبح عائلة واحدة أليس كذلك؟

أجابت غالية مبتسمة: طبعا نحن عائلة واحدة.

اقتربت منها سلمى، وهمست في أذنها مرة ثانية: هل جوابك هذا من الخطة أيضا.

نظرت إليها مبتسمة من غير أن تجيب عن سؤالها. كان سلطان منشغلا في النقاش حول الشعر والشعراء مع صديقه الشنقيطي، أما المختار فكان جالسا بالقرب منهما، أحيانا يستمع إليهما ويحرك رأسه منسجما وكأنه يشاركهما في الحديث، وأحيانا أخرى يسرق النظرات إليها. الغضب يغلو بركانا في داخلها، كيف سولت له نفسه أن يتقدم هو وأهله ليطلبني للزواج؟ لم يرني منذ كان عمري عشر سنوات. اجتمع الجميع حول مائدة الفطور، كان الأب سيطير من الفرح، من المؤكد أن الأم أخبرته استسلام غالية وموافقتها على الزواج من المختار. إن زواج غالية من المختار في نظره ستر لها والدواء الذي سيطفئ ذلك اللهيب المتوقد وتلك اللهفة لمتابعة السفر في الخارج. إن تزوجت بالمختار فلن يبق على عاتقه مسؤوليتها وستلحق بها سلمى بسرعة لا محالة. فالبنت مصيرها بيتها مع بعلها لأنها عار ولو كانت مريم العذراء. بعد تناول الفطور تأهبوا للذهاب إلى مدينة السعيدية. كان الأب يملك منزلا كبيرا يطل على البحر، هناك يقضون العطلة الصيفية وعطلة الربيع.

انطلقت سيارة سلطان وتبعتها سيارة الشنقيطي. طيلة الطريق كانت غالية مختفية خلف وجهها الحزين تنظر من النافدة إلى الطبيعة الخضراء تسألها عن طفولتها التي بكت نفسها بدموع سود، فأبعدتها تلك الدموع برفق إلى الأغاني والأناشيد الأندلسية التي كانوا يرددونها والمسابقات الشعرية التي كانوا يتسلون بها طيلة الطريق. تذكرت اليوم الذي حاولت فيه الانتحار عندما تقدم إليها ابن عمها للزواج. رفضته فغضب منها أبوها كثيرا وكاد أن يضربها لولا عمتها التي أنقذتها منه. طارت داخل غيمة سوداء حيث أسلوب التمييز الذي كان يسلكه أبوها، يفضل إخونها الذكور ويستوجب عليها هي وباقي أخواتها طاعتهم وخدمتهم عندما يطلبون شيئا. تذكرت اليوم الذي طلب منها أخوها الأكبر أن تحضر له كوبا من الماء، رفضت قائلة له أن الخادمة يمكنها أن تقوم بذلك بدلا منها. غضب وقال لها بعصبية: " أنت التي ستحضرينه وإلا … " فأجابته وإلا ماذا؟ فنهض من مكانه وضربها وعندما اشتكت لأبيها فعلته أجابها قائلا: " يا ابنتي إن الأخ الأكبر بمثابة الأب ويجب عليك طاعته". لكنني يا أبي مشغولة بتحضير الامتحان وهناك أربع خادمات في البيت. أجابها: " إن طاعة أخيك واحترامه أهم من الامتحان، فهيا اذهبي واطلبي منه أن يسامحك." كيف يسامحني وأنا لم أرتكب أي خطأ معه؟ إن أردت الرضا وكسب الآخرة عليك أن تطلبي السّماح من أخيك. كانت دائما تتفوق على أخيها الكبير، لكن الهدايا والملابس الفخمة تشترى له والنقود تعطى له يوميا أما هي فإن أرادت أن تشتري كتابا فلابد لها من مقدمات وسبب معقول لكي تحصل عليه. تمنت أن تكون ولدا كي يعاملها أبوها وكذلك أمها كما يعاملان إخوتها الذكور وكي لا تشعر بالمهانة والذل، خاصة عندما تنهرها أمها قائلة: أنت يا بنت! شرف البنت ليس كشرف الولد. إن شرف البنت كالزجاج عندما يتكسر لا يصلح. انفجرت مرة غاضبة متمردة على تصرّف والدها نحوها وعلى أسلوبه الديكتاتوري غير المنصف الذي أدى بأمها أن تأخذها إلى طبيب نفساني أقر أن علاجها سيستغرق أشهرا طويلة. فأصبحت غالية تذهب إليه مرغمة مرة في الأسبوع، تحمل أنين قلبها في طبق من الصدى داخل جدران العيادة الكئيبة وهو يسألها أسئلة غريبة وغبية، لماذا تحسد أخاها ولماذا تتمنى أن تكون ذكرا، وعندما تجيبه بأن أباها يفضل إخوتها الذكور رغم تفوّقها عليهم لذلك تتمنى أن تكون ذكرا. طلب منها أن تسترجع الماضي وأن تتذكر طفولتها. لم تستطع أن تحدثه عن سرها الخطير لأنها تخاف أن يبوح به لوالدها. قالت له بأن طفولتها كانت عادية. سألها: هل تحسّ أن أخاها يملك عضو الذكر وهي لا تملكه؟ ففوجئت بذلك السؤال ورغم أنها كانت خجولة، انفجرت قائلة له بصوت أقرب من الصراخ وهي ترجف من شدة الغضب: " ما هذه الوقاحة يا دكتور وما هذا السؤال السخيف؟ لماذا سأحسده؟ إن الخرقة التي أستعملها أثناء الحيض تعيقني فكيف لو كان لي عضو ذكر وأنا أنثى؟ قالت كلا مها وخرجت من مكتبه فورا لكنها فوجئت بممرضين طويلين عريضي المنكبين كالعمالقة أمسكا بها وأدخلاها بالقوة إلى مكتب الطبيب ثم وضعاها على السرير وهي تضرب برجليها محاولة الإفلات منهما وتصرخ بصوت عال أن يتركاها لتذهب إلى حال سبيلها لكنهما أمسكا رجليها ويديها بكل ما لديهم من قوة لكي لا تتحرك، فتقدم الطبيب نحوها وفي يده حقنة، شكها في عضدها فلم تمر دقائق قليلة حتى شعرت بارتخاء شديد. اقترب منها الدكتور وفي يده مسودة وقلم. جلس على الكرسي بالقرب من السرير ثم قال:

ـ غالية، لماذا تحسدين إخوتك الذكور؟

_ لأنهم متسلطون، متجبرون، ظالمون أنانيون؟

ـ هل تتمنين أن تكوني ذكرا؟

ـ أتمنى أن تكون لدي الحرية التي يتمتع بها الذكور في مجتمعنا.

ـ لقد قالت لي أمك بأنك تتشبهين بالأولاد في لبسك.

ـ هذا غير صحيح أحب فقط ارتداء البنطلون بدل الفستان لأنني أجده مريحا وأسهل في الحركة.

ـ لماذا لا تهتمين بمظهرك كباقي إخوتك.

ـ من قال لك هذا، أمي؟ إنها تريدني أن أتزوج بسرعة وأنا لن أعطيها تلك الفرصة.

ـ أمك تريدك أن تكوني فتاة عادية.

ـ أمي تريدني أن أتزوج في أقرب وقت ممكن لكي ترتاح من عبئي ولو أنني لا أسبب لهم أي شيء يثير الإزعاج. أخبر أمي أن المطالعة والدراسة هي الحلى التي أتزين بها وأغذي بها عقلي، أما جسمي فلن أجعله أداة لإغراء الذكر لأنه ملكي ولن أسمح لأحد أن يشاركني فيه ولو بالنظر إليه، إلا إذا رغبت أنا في ذلك.

ـ هل تعتقدين أن هذا تصرف طبيعي لفتاة في سنك؟

ـ هل تصرفي هذا غير طبيعي؟ إن أخواتي اللواتي كان شغلهن الشاغل مظهرهن، قد تزوجن بسرعة وأنا لا أريد أن أتزوج.

ـ لماذا لا تريدين الزواج؟ هل حدث لك شيء يجعلك تنفرين من الزواج؟

ـ لأنني أريد أن أكمل دراستي.

ـ وبعد الدراسة…

ـ بعدها أفكر في الزواج.

ـ بعدها يكون قد فاتك القطار.

ـ لا يهمني، لأن سعادتي هي الدراسة ونهايتي و شقائي هو الزواج.

ـ لماذا تقولين نهايتك الزواج؟

ـ لأنه سينهي حريتي.

ـ إن الزواج سنة الله في خلقه، وهو ستر للمرأة.

ـ إن ستر المرأة هي ثقافتها وما تحصل عليه من علم وأخلاق.

ـ أنا أخالفك الرأي.

ـ كل حر في رأيه، وهذا رأيي.

ـ اسمعي يا غالية، المنطق والشرع يقول أن المرأة خلقت للبيت وللإنجاب، للرضاعة وتربية الأطفال. فمهما درست فمصيرها الزواج.

ـ لكنني أنا لا أريد أن أتزوج ولا المكوث في البيت.

ـ ماذا تريدين؟

ـ أريد أن أغادرك في الحال.

ـ لا تستطيعين الآن مغادرة العيادة، لأنك تحت تخدير وتحتاجين للراحة بعد هذه الجلسة.

لم يكمل كلامه حتى أغمضت عينيها ونامت داخل مستنقع ميت غارقة في بعثرتها المعتادة وعندما استيقظت كانت أمها قد حضرت لتأخذها إلى البيت. طيلة السفر، كان شريط ذكريات الماضي يتسرب إلى عقلها محدثا صورا مجسدة وكأنها تعيشها مرة ثانية. لم تشعر بطول الطريق ولا أذناها سمعت الحوار الذي كان يجري بين والديها..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:12 PM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الحادي عشر - الجزء 1



جحيم



توقفت السيارتان واحتشدت العائلتان أمام البيت معلنتين بهجتهما والأب يرحب مرة ثانية بعائلة الشنقيطي. رغم قلقها كان البيت الصيفي يشعرها بالاطمئنان، تنعشه رائحة الآجر القديم ورائحة البحر هذا الوحيد الذي يخرجها من وحدتها ويسقط عنها قناع الغضب ويمزق أغشية صمتها. تبكي بحرية وتخط على شاطئه ما يخالج نفسها، ذكرياتها أحلامها وأوهانها. يبادلها الحديث بأمواجه التي كانت كلما تتكسر على الشاطىء تزرع في روحها الآمال وفي قلبها القوة والصبر. توجه الجميع إلى الصالون كان والدها مشغولا في الحديث مع الشنقيطي، اقتربت منه وهمست له في أذنه أن يأذن لها بالخروج إلى البحر مع شقيقتها سلمى. وافق بشرط أن يذهب معهما المختار الذي نهض بسرعة للخروج مع زوجة المستقبل. انطلقا في فضاء ذلك الشاطئ الطويل يمشون في صمت وسط زرقة السماء فترة طويلة إلى أن كسرت ذلك السكون وقالت موجهة كلامها للمختار: إنني فرحة جدا لهذه الفرصة التي أتيحت لنا أن نتكلم معا على انفراد وبعيدا عن والدينا.

ارتعشت شفتاه ثم بعثرتهما ابتسامة خجلة وقال: ماذا هنالك يا غالية؟

تأملته ببصر متفحص وقالت: إن والديك يريدان أن تتزوجني أليس كذلك؟

رفع عينيه بنظرة دافئة وابتسم عن رضا وقال: بلى، منذ تخرجت من المدرسة الفندقية واستلمت الوظيفة في فندق الأطلس في أغادير وأمي تحاول جهدها تزويجي.

قالت وهي تبتعد قليلا عنه: ألا يمكنك أن تختار شريكة حياتك بنفسك؟

رفع بصرا مشوشا والتفت إليها من خلال عينين قلقتين وقال: لم تترك لي الفرصة، كل يوم تأتي بصور كثيرة لبنات الجيران وبنات أعمامي وعماتي ولم أحب واحدة منهن.

ابتسمت بمرارة وقلت: ولماذا أمك تريد تزويجك بهذه السرعة؟

قال وهو يمسح براحة يده خطوط العرق المنزلقة على وجهه: لقد كانت لي علاقة بفتاة معي في المدرسة الفندقية، أحببتها وأردت الزواج منها لكن أمي لم تحبها. هز رأسه ساخرا، قالت بأن أظافرها طويلة ولا تصلح أن تكون ربة البيت. قلت لها إن كان ولا بد من الزواج فأنا أختار غالية ابنة القاضي سلطان. التفت إلى سلمى واحمر وجهه، خفض عينيه وقال لقد أحببتك يوم رأيت صورتك في الجريدة وقرأت فيها بأنك كنت من الطلبة العشرة الفائزين في المسابقة التي نظمها المركز الثقافي الأمريكي وبأنك ستدرسين على حساب المركز في أمريكا.

قالت بهدوء مصطنع: أنا لا أسمي هذا حبا بل هو نوع من الإعجاب.

ردّ وهو يخفض بصره وكأنه يقر بتلك الحقيقة: إنه إعجاب وحب كما أنك من عائلة محترمة ومثقفة ولها كيانها ومركزها في البلد.

تأملته بعطف وقالت: إنك ستتزوجني أنا وليس عائلتي هل سألت نفسك يوما بأنني سأقبلك زوجا؟

ضحك برنة صافية وقال: في الحقيقة لا أظن أنك سترفضينني زوجا لك.

سكتت هنيهة على مضض وأدارت بصرها إلى البحر تتأمل أمواجه ثم السماء البعيدة التي بدت كئيبة بعد أن تناثرت فيها الغيوم الدكناء، كانت سلمى ترتجف خوفا من أن يحدث سوء تفاهم بينهما وبعد لحظة من التفكير، دنت منه حتى صارت قامتها قريبة منه وقالت بهدوء: إنني أتكلم معك بكل انفتاح وصراحة لأنك شاب واعٍ ومثقف وأعرف بأنك ستفهمني وستقدر مشاعري وإحساسي. إنني لا أفكر في الزواج حاليا وأملي الوحيد هو إكمال دراستي.

قال وهو يبصم نظراته المشوشة على وجهها الذي بدا حزينا: لكن زواجنا لن يقف عثرة في طريق متابعة دراستك.

لكنني لا أحبك، كيف لإنسان أن يتزوج من دون أن يكن للطرف الآخر حبا أو مودة؟

تبددت كلماته في الفراغ وقال: الحب يأتي بعد الزواج.

ـ الألفة والعشرة التي تأتي بعد الزواج وليس الحب. أنا لم أرفض الزواج منك شخصيا إلا أنه أمامي طريق طويل وأريد أن أدرس في الخارج وليس في المغرب.

ـ ولماذا الخارج أليس عندنا جامعات؟

بصمت نظرة مشوشة على أشباح أفكاره المغلقة وقالت: يجب أن تفهمني وتتقبل رأيي ووجهة نظري بروح رياضية فأنا لن أقبل الزواج بهذا الأسلوب.

احمر وجهه وقال بخجل وارتباك: وما العمل الآن؟

مدت يدها وتناولت يده ولثمتها طويلا وقالت: أرجوك ساعدني فأنا لست مستعدة للزواج الآن.

تأمل وجهها المحتقن ونظراتها الحزينة التي تخفي غصة سرها وقال: سأساعدك.

قالت سلمى على عجل وكأنها استيقظت من كابوس مزعج: كيف ستساعد أختي؟

قال بكبرياء وعزة نفس مظهرا لهما ثقته بنفسه: لا عليكما هيا بنا إلى المنزل لقد حان وقت الغذاء.

غادرها الحزن وقضت أياما جميلة مع أهلها وخصوصا أختها والمختار، أيام مرت بهدوء وسجلت ذكريات متدثرة بنسيم البحر التي نفضت غبار أرقها وألبستها سكينة في روحها اليابسة وأعادت لها اخضرارها بعدما كانت بلون الموت، أيام بعثت من شاطئها على أجنحة الرمال رائحة الأمل، وألحان تشدو لتراقصها وتراقص قلب مدينة السعيدية المجلل بالاخضرار. رجعت عائلتها وعائلة الشنقيطي إلى مدينة فاس حاملين معهم مزيجا من السعادة والراحة ليضعوا غالية في قفصهم الذهبي، وهي التي بنت عشها في الأعالي، ولينعموا عليها بعدم التحليق، وليغلقوا عليها الباب مع عريسها المختار الذي سيمنحها السعادة الحقيقية ويضع في قلبها رواية حب، وستزغرد كل نساء الحي وتدق الطبول على إيقاع الشرف والطهارة وتعزف المزامير لحن قصة غالية وسرها الخطير. رن جرس التلفون رفع الأب السماعة.

ـ ألو. من؟

ـ مدير فندق الأطلس. أريد التحدث مع المختار.

ـ لحظة من فضلك.

مدّ الأب سماعة التلفون إلى المختار الذي شرع في الحديث مع مديره ثم أقفل السماعة بعصبية.

قال الشنقيطي: ما الأمر يا بني؟

أسند المختار ظهره على الأريكة وبدأ يشعر كما لو أن يدا تضغط على رقبته وتخنقها، لم يدر كيف سينطق تلك الكلمات، قال وهو يحاول أن يبعد عن وجهه آثار القلق: إنه مدير الفندق يا أبي لقد طردني من الوظيفة.

اقتربت منه أمه وهي مأسورة بالكآبة مطوقة بالحزن والغضب وقالت مستغربة: لماذا يطردك من العمل.

زفر بعمق: إنها قصة طويلة يا أمي.

سأله أبوه بهمس متوسل والحسرة تلتف خلف وجهه الأسمر: ماذا فعلت يا ابني؟

صاح بصوت يقظ: من يتكلم عن الحق في زماننا يداس عليه بالأقدام.

قال الأب سلطان: ماذا حصل؟ ما هو السبب الذي جعله يطردك ربما أساعدك.

زفر ثانية وهو يجر أنفاسه المنقبضة وقال: رأيت بأم عيني فسادا كثيرا في عملي لا يمكن للمرء أن يسكت عليه، وعندما اشتكيت للمدير قال لي "ماَ شي شٌغْلْك." من تلك الفترة ظل متربصا بي يحاول طردي .

تكهرب الجو وحزن والد الشنقيطي وأٌغْلِقَ موضوع الزواج وغادرت العائلة في نفس اليوم إلى مدينة أغادير. بعد يوم واحد من ذهابهم، رن جرس التلفون. رفعت الأم السماعة: ألو، من يتكلم؟

ـ أنا فاطمة زميلة غالية هل يمكنني أن أتكلم معها؟

مدت الأم السماعة إلى غالية وظلت واقفة بالقرب منها.

ـ ألو، غالية دقيقة من فضلك هناك شخص يريد التحدث إليك.

ـ أهلا يا غالية أنا المختار أريد فقط أن أقول لك بأنني لم أطرد من العمل ولكنني فقط لفقت تلك القصة لكي أفسد مشروع الزواج.

قالت غالية بعينين مبتسمتين بحذر: وماذا عن والديك يا فاطمة؟

ـ لقد قلت لهم بأنك متكبرة، أنانية وطلباتك كثيرة ولا تحبين شغل البيت ولا تعرفين الطبخ.

كانت تهز رأسها هزات سريعة متتالية وردّت على عجل: ألف شكر لك يا فاطمة هذا جميل لن أنساه أبدا وأتمنى لك التوفيق في كل أمورك. مع السلامة.

اقتربت الأم وقالت بصوت مقرور: من فاطمة؟

قالت غالية بارتباك: إنها زميلة في الجامعة؟

صمتت الأم قليلا ثم أردفت: أعرف زميلة في الجامعة لكن ماذا تريد؟

ردت غالية متلعثمة: تريد أن تبيع بعض الكتب فسألتني إن كنت مهتمة بشرائها.

غادرت الأم الصالون من غير أن تقول شيئا، حزينة على فقدان المختار وظيفته وفشل "مسألة الزواج". ذلك الفرح وتلك الابتسامة التي كانت مرسومة على وجهها رحلت مع عائلة الشنقيطي. المختار الذي كان سيكون زوجا لغالية وينسيها السفر إلى الخارج فقد وظيفته أما غالية فقد شعت الحياة في روحها وتسرب بصيص من الأمل إلى نفسها من جديد. اعتكفت في غرفتها تترقب موعد إعلان نتيجة الامتحان، متمسكة بالأمل القادم من وهم غياهب المجهول، عله يسكت أنين سرها الذي يلتف خلف أجلها، متسائلة إن كان أبوها سيسمح لها بالسفر مرة ثانية إلى أمريكا وهي التي أصبحت لينة، مطيعة، لن ترفض عريسا إن تقدم لها بعدما وافقت على المختار بضغط وترهيب وتهديد بالسخط وجهنم. ما زالت تزحف بخيالها الذي فسخه الزمن، قدمت سلمى وهي تلهث قائلة: غالية إنها كارثة. كارثة كبرى!

وقفت من مكانها ترجف كالملسوع وقلبها يدق بسرعة قبل أن تعرف ما الأمر.

قالت سلمى وهي تقترب منها: لقد سمعت أبي يقول لأمي:" لابد أن نضرب الحديد وهو ساخن".

قالت بانفعال: أي حديد سيضربون؟

قالت سلمى بصوت قلق: قال لها لابد أن نجد عريسا لغالية في أقرب وقت لكي لا تفلت من أيدينا، لا بد أن نضع حدا لفكرة السفر لأنه لن يجلب لنا إلا الخزي والعار.

استجمعت غالية قوتها مرتدية عدة حربها معلنة مقاومتها، أطبقت فكيها وصكّت على أسنانها بعناد واضح: وماذا قالت أمي؟

قالت سلمى متلعثمة: إنها موافقة على رأيه لكنها حائرة في إيجاد العريس المناسب لك. لا أعرف ماذا سيقرران إلا أنهما لن يوافقا إطلاقا على فكرة سفرك إلى الخارج.

صاحت وقد استبد بها الغضب: كيف سأقنعهم بأنني عدلت عن فكرة السفر وأن يكفا عن التفكير في تزويجي. إنني لا أريد أن أتزوج! لا أريد أن أتزوج!

قالت سلمى: هل عدلت فعلا عن فكرة السفر؟

جرّت أنفاسها المنقبضة على التنشق وقالت: بالطبع لا. لن أدخل إلى ذلك القفص الحديدي إنه قبري يا سلمى.

أجفلت سلمى وارتدت إلى الوراء قليلا ووضعت يدها على فمها كأنها تكتم صرخة أوشكت أن تنفلت: ماذا تقصدين يا غالية؟ إنك ترعبينني بألغازك. تتكلمين عن الزواج وكأنه سيكون سببا لنهاية حياتك.

أشاحت غالية وجهها عن غضب وقالت: نعم، إنه قبر سأحط فيه وسَتحَطٌّ علي أكوام من التراب.

ـ لماذا تتكلمين بهذا الكلام المشئوم؟ بالله عليك خبريني ماذا جرى لك هل تعرضت لشيء وأنا لا أعلم هل فقدت..

قالت غالية وبصرها مشتعل بأجيج يشبه الجحيم: لا، لا تكملي كلامك لم أفقد شيئاً لكن الزواج هو الذي سينٌفْقِدني كل شيء وأهم شيء، حياتي.

قالت سلمى وهي تقترب منها: لماذا؟ إن الزواج ليس سجنا ولا قبرا. إنه عش السعادة وفرصة لبناء العائلة.

وضعت غالية كفها على وجهها تبكي في صمت متحسرة على نفسها التي لا تنظر للحياة و للزواج بالطريقة التي تنظر بها أختها وأغلب فتيات العالم، متحسرة على قدرها الذي جعل منها غولاً يكره الزواج ويكره الرجال كما جعلها تكره نفسها وتتمنى لها الموت. لامستها سلمى بذراعيها تحاول تهدئتها وقالت:

ـ إن الزواج ليس بتلك الصورة المتشائمة التي صورتها بخيالك، إنه السعادة كل السعادة.

شعرت غالية في تلك اللحظة بالنفور والكره من أختها، ودفعتها بكل قوتها بعيدا عنها حتى وقعت على الأرض وقالت بصوت مبحوح: هل أنت معهم أو معي؟ إن أردت الزواج، فتزوجي. أنت حرة، لكن اتركوني في حالي.

نهضت سلمى من الأرض فزعة كأن بصرها وقع على منظر شنيع، اقتربت منها وقالت: أنا معك، لكنني خائفة عليك من أفكارك الجنونية.

نار تأججت بداخل غالية وبعثرت ما تبقى من أوراقها الخريفية، أحست بقوة بالغة تدفعها للبطش بأختها، بالرغبة في قتل كل بنات العالم اللواتي يفتخرن بتقديم تلك البقع الحمراء في منديل أبيض يوم زفافهن، وقتل كل رجال العالم الذين يستمتعون بنكاح العذراوات من أجل ذلك اللون الأحمر المستتر تحت اغتصاب بتلك الليلة وصوت الغناء ولعلعة الزغاريد تلف المكان ليحجب صراخ العروس الذي يدوي حدّ الصمم. جسمها كسعف النخيل يتلوى فوق خارطة روحها المبعثرة. تقدمت نحو أختها لتطوق عنقها وعوض ما تبطش بها، انهالت على شعرها تنتفه وتضرب رأسها بالأرض وتلطم وجهها بكل ما لديها من قوة وأختها تصرخ بصوت عال محاولة تهدأتها، لكنها كانت كالثورالهائج تمارس عنفها الرعدي وقسوتها القسرية، تلطم وجهها بكل قوة ومن دون توقف إلى أن سقطت على الأرض كورقة خريفية يعبث بها الريح الصاخب بالصمت فاحترقت في غفوتها كما احترق معها جو الغرفة، وعندما فتحت عينيها وجدت أمها وعمتها وسلمى جالسات بجانب السرير حزينات، يائسات من حالها. نطقن بصوت واحد:

_ حمد لله على سلامتك يا غالية؟

هزّت رأسها بحركة متوترة وقالت بصوت مبحوح كأنه ألم الاحتضار: ماذا حصل؟

قالت سلمى مجيبة بسرعة: لا شيء، لا شيء يا غالية.

قالت الأم بحزن وغضب: ماذا ينقصك يا غالية لديك كل شيء. لماذا تعذبين نفسك وتعذبينا معك؟

قالت العمة صفية: ليس الآن وقت العتاب المهم أن تقوم غالية بالسلامة.

عاودتها تلك النظرة العدوانية وهي تلتقط بأذنين باردتين أصواتهنّ التي كانت مبهمة مثل أزيز النحل. ألم غريب يتدحرج رويدا في جسدها المتشنج ثم يسري في أوصالها، ودوار كغشاء ضبابي يحجب بصرها. صمتت في خوف وهي تزحف بعيدا بأفكارها متسائلة عن تلك العاصفة التي أثارت غضب أهلها وأنهكت روحها. دخل عليهن الأب وجلس بجانب غالية في صمت، وضع يده اليمنى على جبينها ثم شرع في تلاوة آيات من القرآن ليستخرج منها الأرواح الشريرة التي دخلتها وحكمت على عذريتها بالأزل المقدس، وبعد ما انتهى أومأ برأسه للأم وانصرف. لحقت به على عجل وعندما صارت قريبة منه أمسك يدها وضغط على معصمها قليلا وقال فيما يشبه الهمس: بدرية، أريد التحدث إليك.

في تلك الغرفة القلقة ومن خلف متاهات الصمت المفتعل، أمسكت العمة صفية يد غالية وبدأت تقبلها وتبكي: لا تؤذي نفسك يا غالية إن قلبي يتقطع عندما أراك بهذه الحال.

قالت غالية بصوت مبحوح: لا تقلقي يا عمتي، أعدك بأن لا أسبب لكم القلق.

همست سلمى في أذن عمتها فخرجت تاركة روح غالية بين تلك الجدران الصماء التي أجهضت حلمها ومنحتها أجنحة متكسرة تتعثر تائهة بالموت في لحظات ثملة. استلقت سلمى بجانبها تداعب شعرها في حزن فجأة شهقت باكية، سامحيني يا أختي، أنا السبب في كل ما جرى لك. أنا التي ... وضعت غالية سبابتها على شفتيها، لا تقولي شيئا يا سلمى، أنت روحي، تلك الروح المتشحة بالحزن علي، المشغولة في همي والمرتبكة لقلقي لكن لن أسمح لك إن لم تخبريني بأي شيء يدور في هذا البيت حولي.

قالت سلمى ومازالت آثار الخوف مرتسمة على وجهها: لقد أخبرتك وحصل ما حصل.

ـ ماذا حصل؟

لطمت حالك بكل قوة إلى أن غبت عن الوعي وتلفن أبي لصديقه لكي يكشف عنك.

قالت بصوت واهن: الدكتور المراني، ذلك الطبيب المغفل!

ـ لقد أعطاك حقنة مهدئة وقال لأبي إن عاودتك النوبة لا بد من إرسالك إلى المستشفى.

رفعت رأسها عن الوسادة قليلا وقالت في غضب: يريدون أن يجعلوا مني مجنونة.



تحسنت صحة غالية كما تغير أسلوب والدها القمعي، لكن خطة زواجها ما زالت قائمة فذلك في نظرهم هو الحل لتوتر أعصابها ولكي تعدل عن التفكير في السفر وإيذاء نفسها وتعذيبهم بتصرفها العنيف الرافض. كانت لا تبرح غرفتها، هناك ترتدي وحدتها وتتدثر الحزن خفاء وتغترف البحر دموعا علها تغسل عن روحها ذلك السر العملاق القابع على صهوة موبوءة بالموت، منزوية كعادتها تكتب قصيدة ليلها وسر ذلك الوجع المتجمد في أنفاسها، قلمها يجري بين الأوراق والسطور بعصبية ودموعها تنهمر كالشلال، تلملم وحدتها داخل حكاية ستنتهي في العالم الآخر وحينما استفاقت من عاصفة صمتها لتلامس الواقع كانت أمها واقفة وهي تنظر إليها شزرا:

ـ هل تحبين الدموع؟ أين سلمى؟ جهزا نفسيكما إننا مدعوون للعشاء عند عائلة السعداوي.

ساور غالية شعور غامض تلك اللحظة وقالت:

_ من السعداوي؟

أجابت الأم بامتعاض

_ من غيره! المستشار صديق أبيك.

ـ هل هم الذين وجهوا إلينا الدعوة أم نحن الذين سنذهب عندهم من تلقاء أنفسنا؟

لم تعقب الأم على سؤالها ولكنها اكتفت قائلة:

_ ستجهزان نفسيكما، لديكما ساعة واحدة فقط.

غادرت الغرفة بسرعة وتركتها معلقة نظراتها المشوشة على كابوس الباب المغلق والجدران الواقفة في ظلام ذلك الصباح. ما زالت الأسئلة تقع على رأسها حتى أقبلت سلمى.

ـ ما بك يا غالية؟ ما بك واجمة؟

ـ لا شيء الخير كل الخير سنذهب اليوم لزيارة السعداوي.

ـ أعرف ذلك لذلك جئت لكي أهيئ نفسي.

قالت غالية وهي مأخوذة بالاستغراب: إنني أحس أن وراء هذه الزيارة شيئا.

قالت سلمى بهدوء قاتل: شيء مثل ماذا؟

ـ لا أعرف لكن أمي تدبر شيئا.

قالت سلمى: هيا بسرعة يا غالية، يجب أن نلبس ونجهز أنفسنا لكي لا تغضب أمي؟

ـ تغضب! نحن نسعى جهدنا لكي لا نغضبها وهي لا تراعي مشاعرنا ولا رأينا.

قالت سلمى وهي تنظر إليها بعينين قلقتين: من فضلك، دعي هذه الليلة تمرّ على خير.

قالت غالية باندهاش: هل أنا التي أسبب الشقاء والحزن في المنزل؟

بلعت سلمى ريقها وقالت على عجل: من قال هذا يا أختي أنت تعرفين أبي وأمي وتعرفين كيف يفكران، ألست أنت التي قلت ستنهجين سياسة الحنكة والذكاء ولن تدعي أحدا يؤثر عليك؟ ألم تتخلصي من المختار بالحيلة؟

ـ لك الحق يا سلمى، لنهيئ حالنا حتى لا نغضبها.



السعداوي مستشار في المحكمة الإستئنافية، زوجته معلمة في مدرسة ابتدائية، لهما أربعة أولاد وبنت واحدة كلهم غير متزوجين. لم تكن عائلة غالية تتبادل معهم الزيارات إلا في المناسبات والأعياد. انطلقت السيارة داخل شوارع مدينة فاس الجديدة، ومن هناك إلى الحي الراقي بالمدينة إلى أن توقفت السيارة أمام فيلا السعداوي التي كان يحيطها سور كبير داخله حديقة ترتدي حلة فضفاضة من الاخضرار. رنّ الأب الجرس وما هي إلا ثوان حتى قدمت الخادمة وفتحت الباب.

ـ أهلا، وسهلا تفضلوا بالدخول إن السيدة عبلة والسيد السعداوي ينتظرانكم.

رافقتهم الخادمة إلى الصالون وبعد لحظات دخلت السيدة عبلة ترحب فرحة بقدومهم، وما إن جلست قرب الأم حتى دخل السعداوي وهو يتبختر في عباية بيضاء معتذرا عن تأخّره، ثم دخلت الخادمة وفي يدها صينية فضية عليها إبريق الشاي المنعنع، وضعته على المائدة وجاءت أخرى بصينية فيها مختلف أنواع الحلوى والمكسرات. تهافتت المواضيع في فضاء ذلك السقف المنقوش حول التعليم والقانون الجديد الذي ينص على عدم ضرب التلاميذ وذلك في نظر الأم بدرية يجعل التلاميذ يتقاعسون في الدراسة ويزيد شغبهم ثم تطرق الأب سلطان إلى قضايا الطلاق والإرث وقضية البوليزاريو والفساد الأخلاقي المنتشر بسبب السواح والمستشار السعداوي يوافقه أحيانا وأحيانا أخرى يجادله أو ينتقده. كل قضايا المجتمع طرحت في ذلك المساء للمناقشة في آن واحد وظلت تدور في حلقة مفرغة في فضاء ذلك الصالون الواسع لتبعث في النفس القلق المستديم. دخلت الخادمة ووشوشت في أذن السيدة عبلة ثم انصرفت، وبعد خمس دقائق نهضت السيدة من مكانها وطلبت من عائلة سلطان أن تتفضل إلى حديقة الفيلا لشرب القهوة. شعرت غالية بالملل والضجر، التفتت إلى سلمى التي ردت عليها بلغة العيون، الشيء الذي أثار انتباه السيدة عبلة، التفتت إلى غالية وامتلأ وجهها ابتسامة عذبة صافية وقالت:

_ هل ضجرتما من الجلوس لوحدكما ثم أضافت موجهة الكلام للأم بدرية، ما شاء الله بناتك صارتا عرائس.

ابتسمت الأم وقالت: تزوجت منى والعنود والدور على غالية وسلمى.

قالت السيدة عبلة وهي تنظر إلى غالية وإلى سلمى وتبتسم: العرسان موجودون فمن في هذا الزمن يجد بنات عائلة يتحلين بكل الصفات، جمال وحسب ونسب ثم التفتت إلى غالية وقالت: لماذا لا تأكلين يا عروس؟

تجاهلت غالية سؤالها وقالت بصوت يفصح عن امتعاض: أين ابنتك زهراء؟

أجابت الأم بدرية: زهراء تزوجت منذ سنتين وأصبح لديها توأمان إنها تسكن في مدينة مكناس مع زوجها.

قالت غالية مندهشة: لقد كانت ذكية جدا وتنجح كل سنة.

قالت السيدة عبلة بابتسامة: وماذا بعد النجاح، البنت مصيرها الزواج وتربية الأولاد تربية حسنة.

قالت غالية: فلماذا تدرس الفتاة ما دامت ستقعد في البيت؟

قالت الأم بدرية مرتبكة: يا ابنتي تتعلم الفتاة لكي تكون ربة بيت مثقفة وليست زوجة جاهلة.

نظرت الأم إلى غالية بعينين يتطاير منها الشرر خوفا من أن تٌكَوِّنٌ السيدة عبلة صورة عن غالية غير التي تريدها لأحد أبنائها. كما أن سلمى كانت تضغط على رجلي أختها بقدمها لكي لا تتمادى في حديثها الذي لا يروق لأحد فالتزمت غالية الصمت. دخل أحد أبناء السعداوي الذي بدا اندهاشه لرؤية عائلة سلطان:

_ هذه مفاجأة حلوة أن تأتينا يا عمي مع عائلتك لم نركم منذ زمن بعيد؟

قال السعداوي موجها كلامه لابنه: سلم على الأستاذة بدرية والعروسين غالية وسلمى.

قالت السيدة عبلة موجهة كلامها للأم بدرية: ابني عماد يعمل مديرا في البنك. إيهاب موظف بمديرية الأمن العام وهشام أستاذ في الجامعة. تعبت معهم وتعبت من عنادهم، لا أحد فيهم يفكر في الزواج ثم أضافت وعلى وجهها شيء من الحزن، كل واحد منهم يقول لي بأنه لم يجد الفتاة التي تستحق أن تكون زوجا له. هادوا وْلَادْ اليٌومْ ما حْدْ يْعْرْفْ لِيهٌمْ طْرِيقْ.

التفتت غالية إلى سلمى وهمست في أذنها بصوت منخفض: أتعجب كيف يرغم الوالدان البنات على الزواج ويصدرونهن إلى بيوت أزواجهن لكن الشباب لهم حق الاختيار ولا أحد يرغمهم على الزواج."

نظرت سلمى إليها وقالت: دعيني من فلسفتك الآن.

حان وقت العشاء، التف الجميع حول المائدة وأقبل أولاد السعداوي الأربعة. كان السعداوي ينظر إليهم بافتخار ويسرق النظر إلى غالية. دخلت خادمتان وفي يد إحداهما صحن كبير من فضة عليه نصف خروف مشوي، والثانية تجر عربة صغيرة بها أنواع العصير والثالثة في يدها طبق فضي فيه الخبز الطازج الساخن. ثم بدأت تنهال على المائدة أطباق أخرى من مختلف أصناف الطعام المغربي.

قالت الأم بدرية: لماذا كل هذا الطعام؟

قال السعداوي: هذا يوم كبير بقدومكم عندنا.

قال الأب سلطان: لابد أن تشرفونا قريبا حتى ننتقم من كركم بواحد مثله.

رد عليه السعداوي مبتسما وفي نفس الوقت ينظر إلى ابنه الأكبر وقال: سنزوركم قريبا جدا إن شاء الله.

كانت السيدة عبلة تطيل النظر إلى غالية وتبتسم والأم بدرية تنظر إلى ابنتها تارة ثم تنظر إلى السيدة عبلة تارة أخرى وتبتسم وكأنها تقول لها ما رأيك في هذه السلعة، أما عماد الابن الكبير فلم يزح عينيه عنها وكأن تلك الدعوة كانت مدبرة من قبل. ارتبكت وانسدت شهيتها أكثر مما هي مسدودة. نظر إليها عماد وقال:

ـ لماذا لا تأكلين يا غالية ألم يعجبك الأكل؟

قالت بتمتمة خافتة تفصح عن رغبة في تجاهله: بلى، إن الأكل طيب ولذيذ جدا.

هز رأسه مبتسما وقال لها: لقد سمعت أنك درست في أمريكا، كيف هو التعليم هناك؟

قالت مثرثرة: يتميز نظام التعليم هناك بتعدد الخيارات الدراسية المتاحة للطالب لأن ينخرط بها بما بتناسب مع رغباته وميوله الشخصية.

قال إيهاب: هل هناك فرص للعمل؟

قالت: حسب مؤهلات الفرد وشهاداته وخبراته، لكن بالنسبة للعرب فلهم فرص الترجمة.

قال عماد: كيف تعرفت على العائلة الأمريكية؟

تضايقت من أسئلتهم المتلاحقة وكأنهم بذلك يحققون معها، تململت قليلا في مقعدها وتنحنحت ثم قالت بصوت متماسك: تعرفت عليها عن طريق المركز الثقافي الأمريكي.

قال إيهاب: إن الأمريكيين متحررون إلى درجة الشذوذ.

التفتت إليه وقالت مندهشة: ماذا تعني؟

قال: إن منبع الفساد والانحلال الخلقي في أمريكا.

قال له الأب سلطان: لله درك يا ابني، قل لها، فهّمها، أمريكا بالنسبة لها هي العالم المثالي.

احمر وجهها خجلا، لكن خجلها لن يٌعْجِزْها عن الإجابة والدفاع عن نفسها. التفتت إلى إيهاب شزرا متجاهلة قول أبيها وقد أخذ جسدها يهتز بارتعاش الغضب وبدأت الكلمات تتطاير من فمها المرتجف: أنا لا أعتبر أمريكا المجتمع المثالي كما لا أعتبرها بلد الخبث والفساد فالخبث في كل مكان في العالم.

قال عماد: أوافقك القول يا غالية.

قال الأب سلطان: أتقارنين الدول العربية الإسلامية بأمريكا؟

ـ أبدا يا أبي أنا لا أقارن الدول العربية الإسلامية بأمريكا بل لا يوجد شبه للمقارنة.

تأملها إيهاب بعينين متفحصتين وقال: ماذا تقصدين هل في نظرك أن مجتمعنا مجتمع متخلف؟

كان أبوها يعض على شفتيه، نظرت إليه فانتابها الخوف وقالت: إن مجتمعنا كأي مجتمع فيه الفساد وفيه الصلاح.

قال السعداوي بسرعة لكي ينقذ الموقف: يا ابنتي أمريكا ولغز أمريكا موضوع طويل وعريض ومعقد أكثر مما تتصورين، لندعه الآن ولنجلس في الصالون ونشرب الشاي.

توجه الكل إلى الصالون. جلس عماد بجانبها وقال بصوت يشبه الهمس:

_ غالية، تعرفين إنني معجب بك وبتمردك، بصراحة أحب الفتاة الجريئة.

ابتسمت ابتسامة صغيرة ذبلت سريعا على وجهها: أنا لا أعبر إلا عن رأيي وبصراحة.

_ هذا ما أعجبني فيك. فتاة جريئة وشجاعة وليست خجولة.

أطرقت قليلا ثم هزت رأسها وقالت من غير أن تلتفت إليه: لكن زينة الفتاة هو طاعتها وخجلها أليس كذلك؟

قال وعلى وجهه الدهشة: هل هذا رأيك يا غالية؟

أجابت بامتعاض: هذا رأي أمي وأمك ورأي المجتمع كله.

ضحك وقال: هل أختك جريئة مثلك؟

أردفت بسرعة: يمكنك أن تسألها بنفسك.

انتهت السهرة المملة وتبادلت العائلتان العناق الحار الزائد عن المألوف وغادرت عائلة سلطان حاملة معها كل جماليات تلك السهرة برعشة قلب يترقب أسطورة عرس تتزاحم على أبوابه الزغاريد. طوال الطريق كانت غالية تفكر في ابنة السعداوي متسائلة لماذا تزوجت في سن مبكر، أهو اقتناع منها وهي التي كانت أحلامها بلا حدود أو فقط تطبيق الخربشات المسطورة في أوراق التقاليد. لماذا أفكر فيها؟ أهو الخوف على نفسي من أن أقع في نفس المصيدة. حاولت ألا تطرق أبواب التساؤلات التي لا تجدي إلا اغتراف الحسرات والآهات. لم تكن تريد إلا إغلاق أبواب الضوضاء الذي لا يلبث أن يراها مطمئنة حتى يتحول إلى عاصفة ليقتلعها من سكونها ويلقي بها داخل جنون الصحراء.

في صباح اليوم التالي وكالعادة اجتمعت عائلتها حول مائدة الفطور. قالت الأم بدرية موجهة كلامها للأب سلطان:

ـ ما رأيك أن نعزم عائلة السعداوي الأسبوع القادم وفي نفس الوقت عائلة التهامي، لقد التقيت بزوجته في المدينة وعاتبتني كثيرا على عدم زيارتهم أو الاتصال بهم هاتفيا.

قال لها: افعلي ما ترينه مناسبا.

نظرت غالية إلى سلمى وخاطبتها بلغة صمتهما: ما أمر هذه الزيارات المتعددة؟ ردت عليها بنفس اللغة، أنت سبب هذه العلاقات الدبلوماسية. حددت الأم بدرية موعد الدعوة وقالت فرحة موجهة كلامها للعمة صفية:

_ يجب على الخادمات أن يقمن بترتيب البيت على أحسن وجه ثم التفتت إلى غالية وقالت: أما أنت فستساعدين عمتك في الطبخ من الآن فصاعدا.

قالت غالية مستغربة: إنني لم أطبخ يوما وعمتي لا تحتاج مساعدتي.

أجابت الأم مبتسمة: من الآن فصاعدا يجب أن تتعلمي الطبخ لا عمتك ولا أنا سيدومان لك. غدا سيكون لك بيت مستقل مع شريك حياتك. فمن سيطبخ لك، عمتك؟

تأكدت غالية حينها أن أمها تنوي تزويجها قريبا، ذرفت دموعا متدفقة كالنهر الجارف مسحوبة من عينيها إلى ذقنها، وقفت في مكانها بعصبية واستأذنتهم متوجهة إلى غرفتها. نادتها الأم بصوت مرتفع: إلى أين أنت ذاهبة؟

_ أريد أن أغير ملابسي لكي أساعد عمتي في المطبخ.

نظرت إلى ابنتها فاغرة فاها من إجابتها المستسلمة.أما غالية فقد هرولت إلى غرفتها مكتوفة الأيدي كالمنهزم لا حول له ولا قوة. لحقت بها سلمى، جلست بقربها ووضعت إحدى ذراعيها وراء ظهرها ضاغطة على منطقة الخاصرة بحنان في صمت، تتعجب من استسلام أختها الذي لم تعهده منها. أمسكت بيدها الأخرى يد غالية الباردة، لثمتها طويلا وقالت: هل ستساعدين عمتي في الطبخ؟

أجابت غالية مستهزئة: عمتي لا تحتاج مساعدتي وإنما ستعلمني الطبخ لأنني سأصبح ربة بيت قريبا.

قالت سلمى وكأنها تريد أن تتأكد من استسلامها: هل ستتعلمين الطبخ؟

ـ نعم، سأتعلم الطبخ، هل عيب أن تتعلم الفتاة الطبخ؟

قالت مستغربة: هل أنت غالية؟

أجابتها مبتسمة: نعم أنا غالية بشحمها ولحمها.

ـ أنت تنوين على شيء ما أليس كذلك؟

ـ بلى، لكنني لا أعرف ماذا سأفعل. هيا بنا.

_ إلى أين؟

ـ إلى المطبخ بطبيعة الحال.

قالت سلمى بابتسامة مصطنعة: أنا لا أحتاج تعلم الطبخ فموعد زواجي لم يحن بعد.

قالت متهكمة: هل أنت متأكدة؟ إن زواجك سيكون بعد زواجي بيوم واحد فقط. لنذهب الآن إلى المطبخ قبل أن تأتي أمي وتعطينا درسا في الأخلاق والطاعة.

ـ أكره أن أراك ضعيفة منهزمة.

ـ أنا لست منهزمة ولا ضعيفة، لكنني في فترة هدنة وتأمل فقط، حتى أخطط سياستي وأغير طريقتي.

جلست غالية وأختها حول المائدة بجانب عمتهما التي كانت تقطع الكزبرة وتشرح لهما ضرورة هذا النبات في الطعام. أعجب غالية طريقة عمتها وهي تقطع الكزبرة بخفة ودقة بالغتين وتدندن إيقاعا موريتانيا وتبتسم وهي تنظر إلى غاليتها التي كبرت و ستصبح قريبا ربة بيت وصاحبة مسؤولية قالت: هذه الخضار أريدها قطعا صغيرة.

أخذت غالية السكينة وهي تدندن معها وتقطع الخضار ببطء وحذر، كانت سلمى تنظر إليها وتضحك:

ـ منظرك يُضحك وأنت تعملين في المطبخ.

قالت لها بعصبية: لماذا يُضحك؟

ـ لا شيء، لا شيء. سامحيني إن قلت شيئا يغضبك.

التفتت العمة إلى سلمى وقالت: وأنت يا سلمى ستجلسين كالمتفرجة، هيا ضعي الفواكه في الصحن.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:14 PM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 تابع......

الفصل الحادي عشر الجزء 2

شرد عقل غالية بعيدا عن المطبخ وسافر إلى حلم لم يأت ولم يمر، وها هي في وحدتها الموحشة تنفض الوحل من بين جراحات لم تضمد ووجع لا ينتهي، جراح أحدثتها مخالب المجتمع المملوءة بالقبح والمغلفة بالقسوة، شعرت بالمرارة وهي تختبأ وراء عروقها التي تتصادم مع الزمن المجنون، ومن غير شعور ضغطت بالسكين على أصبعها، أحسته وكأنه بُِتر من مكانه. وقفت مرعوبة ترتجف ماسكة أصبعها والدم يسيل بغزارة. وقفت العمة مرعوبة، أمسكت يدها ووضعتها تحت الماء البارد وبعدما أسعفتها، رافقتها إلى غرفتها وقالت برجاء ملهوف:

ـ ارتاحي يا ابنتي سأحضر لك كوبا من عصير الليمون ليعوض ذلك الدم الذي فقدته.

بعد لحظات أقبلت الأم فوجدت غالية مستلقية على السرير.

_ كيف ستتعلمين الطبخ وأنت مستلقية على السرير؟

قالت سلمى: إن غالية جرحت أصبعها.

قالت الأم موجهة كلامها لغالية: مثلك لا يتعلم شيئا أبدا.

قالت كلامها وانصرفت بعصبية، أما غالية فانفجرت تبكي من تعامل أمها المليء بالجفاء. إن كانت غير قادرة على إعطاء الحب مثل أي أم في العالم فلماذا أنجبتنا.

_ قالت سلمى بخوف من تمردها:

_ لا تقولي هذا يا غالية طاعة الأم واجبة وحبنا لها واجب مهما كان سلوكها.

ـ اسمعي يا سلمى الحب مسألة فعل ورد فعل. كيف أحب من لا يراعي شعوري ولا يشعرني بحبه لي، كيف أطيع من لا يعرف من معاني الطاعة إلا الطاعة العمياء الخالية من التفاهم.

قالت سلمى بصوت مبتهل: إن الرسول أوصى بالوالدين وخصوصا الأم وأكد على ذلك ثلاث مرات.

ردت غالية بحسم: إن الرسول تكلم عن الأم الحنون التي تحب من غير مقابل وتسعى لمعرفة ما يدور في صدور أبنائها وترافقهم وتصادقهم وتحس بمشاكلهم وتسعى لحلها معهم. متى رأيت أمي تقوم بواحدة من هذه الصفات؟

قالت سلمى بصوت يملؤه الخوف: لا يا غالية هذا كلام إنسان عاق لا يعرف واجبه الذي أمره الله به.

ـ إنني أعرف واجبي جيدا لكن والدي هما اللذان لا يعرفان واجبهما، تجاهنا.

ـ لكن أمي لا تريد إلا أن نستقر مثل كل البنات ويكون عندنا بيت وعائلة وأولاد نفتخر بهم. انفجرت سلمى تبكي وأردفت

_ لا أريدك أن تكوني عاقة إنني أحبك كثيرا وأخاف عليك من جهنم.

ضمتها إلى صدرها وقالت: لا تخافي فأنا لم أفعل شيئا يغضب الله.



ثلاثة أيام مرت كانت الأم تتجنب أن تصطدم مع ابنتها في النقاشات المألوفة والتي لا تجلب إلا الهم والكرب، وفي صباح اليوم الرابع جلست كل العائلة حول مائدة الفطور سألتها:

_ كيف حال إصبعك الآن؟

أجابت:

_ إصبعي بخير.

قالت متنهدة:

_ إن سألتك زوجة السعداوي أو زوجة التهامي عن سبب جرح إصبعك إياك أن تقولي لهما عن خيبتك في المطبخ.

سألت غالية مستغربة: لماذا؟

قالت الأم وهي تحاول أن تبعد عنها آثار الغضب.

_ لا تسأليني لماذا.

رفعت غالية عينيها المحمرتين مثل جمرتين متقدتين وقالت:

_ لابد أن أعرف لماذا، قبل أن أجيب بشيء غير صحيح.

قالت الأم بصوت شبيه بالصراخ:

_ اسمعي يا بنت الكلام ولا تجادليني.

قالت غالية بهدوء مصطنع:

_ هل تريدينني أن أكذب أليس الكذب حراما أم الحرام فقط حرام وقت ما تريدونه أن يكون حراما والحلال حلال في الوقت الذي يناسبكم أن يكون حلالا.

تدخل الأب فجأة مقاطعا كلامها: يا لِّي يْكَصَّرْ عْمْرْكْ، سْكْتي عْنَّا.كٌومِي كِسِي غٌرْفْتْكْ.

أسرعت كالبرق إلى غرفتها وتركت أباها يزمجر ويسب ويلعن. لحقت بها سلمى، وجدتها تمشي إيابا وذهابا داخل الغرفة في ذلك الصباح المشرق الذي تحول إلى ضباب قاتم وهدوء ينم عن عاصفة هوجاء ستنفجر في أي لحظة.

اقتربت منها سلمى وقالت: اهدئي يا غالية فالغضب لن يفيدك في شيء.

ـ كيف أهدأ وأمي تحاول عرضي للزواج بأية طريقة.

ـ لا تقولي هذا! إنها أمنا أولا وأخيرا ولا تريد لنا إلا الخير.

ـ هل الخير بالنسبة لك أن نتزوج بهذه الطريقة؟ تعرضنا لمعارفها ومن تعجبه البضاعة يتقدم لطلبها.

ـ إنك تبالغين يا غالية إن ما تفعله أمي ليس خارجا عن نطاق التقاليد بل هو جزء من التقاليد.

ـ ماذا تعنين؟

ـ عندما تصل الفتاة إلى سن الزواج تحاول عائلتها أن تسهل عليها لقاء زوج مستقبلها بطريقة غير مباشرة، بتبادل الزيارات مع العائلات الذين عندهم أولاد لكي يحدث التعارف والزواج.

_ وطبعا إن أعجبوا بنا تقدموا لخطبتنا وإن لم نعجبهم عدلوا عنا، فتحول أمي تركيزها على عائلة أخرى. نحن لا نختار يا سلمى، هم الذين يختاروننا إن كنا أهلا للاختيار حسب ذوقهم. اسمعي يا سلمى، أريد أن أتصل بنبيل لابد أن يجد حلا ليخرجني من هذا السجن المظلم.

ـ لماذا تتحدثين هكذا يا غالية هل ترين البيت الذي ولدت فيه وترعرعت فيه بيتا مظلما؟

ـ نعم، مادام والداي يكبتان حريتي ويضغطان علي إلى درجة الاختناق.

ـ ما هذا الكلام يا غالية؟ إنك تتصرفين مثل صعلوك إزاء عشيرته.

ـ أهذا رأيك يا سلمى؟

ـ لا تسيئي فهمي يا غالية ولكن تصرفك هذا غريب وتضعين نفسك في مواجهة مع أهلك ومجتمعك. تريدين مغادرة عائلتك ومجتمعك وشعبك، وترفضين كل شيء حتى بلدك الذي ترعرعت فيه، إنك ترفضينهم رفضا مطلقا دون سبب معقول. هذا التصرف يا غالية ... هذا الرفض الأعمى في نظري تصرف صعلوكٍ أو متمرد إزاء أهله ومجتمعه.

ـ اسمعي يا سلمى إن المنطق والعقل يقول العائلة والقبيلة والدولة تكون مدينة لأفرادها ماداموا عناصر منتجة مجدة، لذا يَجب حقٌّ تصرف الفرد تصرفا غير مشروط فيما هو مِلْكٌٌ له، وحياتي هي ملكي أنا ولا أريد من أحد أن يسيرها على هواه.

ـ أحيانا تتكلمين بالألغاز، فأنا لا أستطيع فهمك ولا استيعابك في كل ما تقولين.

ـ إنني لا أعيش هنا بسلام وأخاف على سلامة روحي، هل في نظرك هذه الحياة التي نعيشها حياة سلام وطمأنينة ونحن نُعرض كل يوم كخراف للبيع لمن يرغب فينا من الرجال؟!

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنك أختي وصديقتي بل أنت روحي وأحبك أكثر من نفسي، هل تصارحيني وتفسري لي سبب ثورتك واندفاعك هذا الذي لا أستطيع أن أجد له أي مبرر؟

اقتربت منها نظرت في عينيها الدامعتين وقالت: لا يمكنك أن تفهميني ولا يمكنني أن أصارحك في كل الأمور فأحيانا الصراحة تقتل صاحبها.

فتحت سلمى عينيها مستغربة وقالت: إنك تخيفينني بألغازك هذه!!

ـ ألا تدركين يا سلمى كيف نعيش؟ إن التقاليد والعادات، إن كانت سلبية يجب أن تٌرفض وتٌحارب بشتى الوسائل، لكي نتحرر من العبودية والاستعباد ومن... وقفت ترشف حزنها خلسة ثم واصلت كلامها، ألا تدركين بأننا لا نملك التصرف في أنفسنا ولا حتى في أجسادنا؟

ـ ماذا تقصدين؟

ـ تعرفين ما أقصد ... لكنك تتجاهلين أنسيت ماذا فعلت أمنا بنا؟

ـ ماذا فعلت؟

ـ لقد أجرت لنا … لقد أجرت لنا..

بدأت تشهق بالبكاء وتضرب بقدميها على الأرض تبكي سنواتها الخاوية التي بعثرتها تكهنات المجتمع وقذفتها بظلمة ثملة حتى الوحل. تصرخ بأعلى صوتها وتلوح بيديها في الهواء: عليك اللعنة أيها المجتمع الفاسد برعونة التقاليد الممسوخة.

اقتربت منها سلمى ترجف وقالت بصوت يلبسه الخوف: ماذا بك يا غالية؟ لماذا تبكين؟ ماذا فعلت تكلمي ...

ـ أمي. ... أمي ... أجرت لنا عملية الختان في السودان.

ـ أنا لا أذكر ذلك كثيرا.

ـ كان عمرك أربع سنوات ونصف وعمري سبع سنوات. هربت عند الجيران واختبأت بسطح بيتهم لكنهم عثروا علي وأخذوني كما تؤخذ الدجاجة للذبح وجرني ابن خالتي في الحارة ورجلي تتمرغ في التراب أبكي وأطلب النجدة والأطفال مجتمعون في الحارة ينظرون إلي ويضحكون، مستمتعون ببكائي ونواحي. أمسكوني وأنا أصرخ بكل ما لدي من قوة وقطعوا جزءا من جسمي بشفرة غير معقمة أصبت بعدها بالتهاب عدة أسابيع حتى كدت أن أموت وأغمي عليّ، بعدها أخذوني إلى المستشفى. إنهم يريدون أن يعدّلوا

ما خلق الله، فيا ليتهم قطعوا لساني أيضا لكي لا أتكلم وبتروا قدمي لكي لا أمشي وقلعوا عينيّ لكي لا أرى. يا ليتهم قتلوني ليقولوا قتلناها لأنها لا تستحق العيش.

ـ غالية من فضلك لا تبكي إن الختان طهارة للفتاة ونظافة لها والأكثر من ذلك يحفظها من الوقوع في الرذيلة.

ـ عن أي خطأ تتحدثين...

بدأت سلمى تتلعثم خجلا، لم تستطع أن تقول ما أرادت قوله؟

ـ هل استحييت؟ لكي لا تمارس الجنس أليس كذلك وتفقد عذريتها.

ـ نعم، يا غالية لكي لا تشعر بالرغبة وتمارس ما حرمه الله وتفقد أعز شيء تملكه الفتاة.

_ من يفقدها ذلك الشيء الأعز في نظركم، أليس الرجل، فلماذا لا يخصونه هو أيضا حتى لا يمارس الجنس بطريقة غير شرعية؟

_ الختان عفة وطهارة للفتاة.

انتفضت غالية غاضبة: أوافقك الرأي، لكن لما أتزوج ويصبح الجنس بيني وبين زوجي حلالا فأين هي الرغبة لكي أمارسه؟ تكلمي يا سلمى هيا أجيبيني.

قفل الصمت غالية داخل ظلمة التقاليد المرتبكة والموروثة، تنظر إلى الأرض وعيناها تنزف دموعا محرقة لمجتمع تلبسه العلل.

ـ إنهم يريدون أن يحفظوا المجتمع من الفساد باستئصال بظر الفتاة، فلماذا لا يستأصلون عضو الرجل أو يخصونه؟ أجيبي، هل المرأة تمارس الجنس لوحدها؟ إن التقاليد والعادات سنت لخدمة الرجل واستعباد المرأة. ألم تسألي نفسك يوما لماذا لم تٌخْتَنْ منى والعنود؟ لماذا أنا وأنت فقط يطبق علينا هذا التقليد الأعمى؟ حتى التبول لا نستطيع فعله بسهولة والالتهاب رفيقنا دائما. لماذا كل المشاكل التي نتعرض إليها سببها هذا العضو، يا ليتني خلقت من دونه.

قالت سلمى: والدة منى والعنود رحمها الله مغربية، والمغاربة لا يختنون بناتهم.

ـ ها أنت تجيبين نفسك، أليس من الواجب أن يكن أيضا مختنات مثلنا حتى تلبسهن الطهارة والعفة؟ لقد جعلتنا أمنا نختلف عن كل البنات في المغرب. هذا البلد الذي ولدنا وترعرعنا فيه والآن تريد أن تزوجني بطريقتها وتصادر حريتي لكن هذا لن يحصل أبدا ولو وضع السيف على عنقي.

انفجرت سلمى تبكي قائلة وهي تجهش بصوت يتقطع في حنجرتها:

ـ أتظنين أنني لا أعاني مثلك؟ إن لدي نفس الشعور الذي بداخلك ونفس السخط والتمرد لكنه مكبوت في قلبي، لا أستطيع إخراجه. إنني أخاف من غضب والديّ علي.

كانت ترتجف وتبكي، تمنت غالية أن تضمها إلى قلبها وتبكي معها لكي تفرج عنها وعن نفسها، لكنها اكتفت بالبكاء في صمت مبدية ابتسامة مصطنعة على شفتها لكي تهدئ من روع أختها.

ـ اسمعي يا سلمى لقد شاهدت بعينيك كيف تزوجت منى والعنود. اختار لهن أبي العريسان وأجبرهما على القبول، تزوجتا لكي لا يسخط عليهما، وكل واحدة منهما أنجبت خمسة أطفال. ماتت كل طموحاتهما في المطبخ وغسل الأواني وتربية الأولاد. أنا لا أريد أن انتهي مثلهما.

توقفت سلمى عن البكاء وقالت: ماذا قررت أن تفعلي؟

ـ أريد أن أتصل بنبيل هو الذي سيساعدني.

ـ فماذا تنتظرين اتصلي به الآن.

ـ ليس الآن يا سلمى عندما نذهب لنتفقد النتيجة نمر بطريقنا إلى مركز البريد ونتصل به من هناك.

دخلت الأم من غير أن تطرق الباب وقالت: ماذا تفعلان؟ قوما بسرعة إن الضيوف سيأتون حالا، هيا اذهبا عند الكوافير لتصفف لكما شعركما تسريحة جميلة.

قالت غالية:

_ لماذا الكوافير هل ستزف أحدنا؟

قالت الأم:

_ إن كان سيزف أحد فهو أنت وسأفرح بك الفرحة الكبيرة التي تفرحها كل أم.

قالت كلامها ذاك وانصرفت. نظرت غالية إلى سلمى مشدوهة وصدغاها يهدران كالمطارق، كل ما في الغرفة يدور من حولها وكأنها زوبعة هوجاء تترنح. أحست بالبرد رغم حرارة الطقس، تشد على رأسها ودمعها يتأسى على حزنها، فزعة من تلك الليلة التي ستقف فيها على قبرها، صدى مدوّ بداخلها ينادي النجدة، تخفي وجهها تحت ضلوعها وتحت الحسرات، لقد عانيت طوال حياتي... عشت حزنا عميقا وأسى على فقداني عذريتي... لكنني لم أكن أعرف أن الأيام والشهور والسنين ستمر بهذه السرعة وأنه سيحين وقت زواجي. ماذا سأفعل؟ هل أهرب؟ لا... إنه عار. هل أرجع إلى ليبيا عند نبيل؟ لا. ذلك مستحيل. هل أستسلم؟ لا وألف لا. إن فعلت، سيٌكْتَشَفٌ بأنني لست عذراء وستكون نهايتي على يد أبي أو أحد إخوتي. لا ... لن أعطي لهم هذه الفرصة. لا بد أن أنجو بجلدي قبل أن أفضَحَ أمام الأهل وأمام القريب والبعيد.

نظرت إليها سلمى وقالت: لماذا صار وجهك شاحبا؟

قلت لها بعصبية: أحيانا تطرحين أسئلة غبية ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ نعم لقد سمعتها، لقد أمرتنا أن نذهب إلى الكوافير.

ـ إنها قالت إن كان سَيزَفّ أحد فسوف يكون أنت.

ـ من؟ أنا؟

ـ لا، أنا أريد جواز سفري، يجب أن تحضري لي جواز سفري.

ـ إن أمي تحتفظ به.

ـ أحضريه لي بأي طريقة.

ـ إلى أين ستسافرين؟

ـ لا أعرف! المهم أريد جواز السفر الليلة.

قالت سلمى وهي تبكي:

_ هذا مستحيل يا غالية! ماذا سيقول الناس عنا؟ ابنة القاضي سلطان هربت من منزلها.

أقبلت الأم ثانية فوجدت سلمى تبكي فقالت بعصبية:

_ لماذا تبكين؟

قالت سلمى متلعثمة:

_ لا شيء يا أمي. فقط.. فقط…

ـ هيا قوما بسرعة واذهبا إلى الكوافير، إن الوقت يمر بسرعة.

قالت غالية: الضيوف دائما يأتون عندنا، فلماذا هذه المرة بالذات يجب أن نذهب إلى الكوافير؟

قالت الأم وعيناها متسعتان فرحا: لأن اليوم خطوبتك يا غالية من عماد ابن السعداوي والله كبرت وصرت عروساً.

غادرت الغرفة وهي ستطير من الفرح.

قالت غالية لسلمى: لن أسمح لهما أن يرغماني على الزواج حسب ذوقهم.

ـ هل تعتقدين أن عائلة السعداوي سيأتون لخطبتك؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ لكن، كيف أنا لا أفهم شيئا، بهذه السرعة؟

ـ ألم تلاحظي عندما كنا ببيت السعداوي، كيف كانت السيدة عبلة طوال الوقت عيناها مركزة عليّ.

ـ بلى أذكر، وجاء اليوم لكي يتفقوا على تسليم البضاعة. هل ستتصلين بنبيل؟

ـ لا، لن أتصل بنبيل لا أعتقد أنني سأراه مرة ثانية.

ـ ماذا تريدين أن تفعلي؟ الضيوف سيأتون بين لحظة وأخرى ونحن لم نهيئ أنفسنا.

ـ إن أردت أن تذهبي إلى الكوافير فافعلي أما أنا فلن أذهب ولن أقابل الضيوف وليكن ما يكون.

ـ لكن هذا مستحيل، ستثيرين غضب أمي وأبي وستكون ليلتنا ليلة سوداء.

ـ لم أعد أخاف من العقاب ولا من السخط والتهديد. لقد سئمت كل شيء.

ـ بدأت في فلسفتك الثقيلة.

ـ أرفض أن يختار لي والداي من يريدان، أريد أن أختار من أحب بنفسي. إن واجبي تجاه والديّ أن أطيعهم فيما يرضي الله، وإرغامهم لي على الزواج بمن لا أحب يغضب الله.

ـ وما العمل الآن؟

ـ اذهبي إلى الكوافير أما أنا فلن أبرح الغرفة وليكن ما يكون.

ـ لن أتركك متوترة هكذا لن أتركك وحدك في هذا الموقف!

ـ ألا تخافين من غضب أمي؟

ـ لا يهمني ذلك.

عم هدوء مخبأ تحت بحر سيقفز فجأة على متن عاصفة وسلمى حزينة لا تعرف ما يجول بخاطر أختها ولا تريد أن تتركها لوحدها في الغرفة تقتنص أثر دموعها المبتل بعلة سرها. أخذت كتابا من خزانة الكتب، تختلس النظر إليها وفي نفس الوقت تقلب صفحات الكتاب بعصبية وبسرعة محدثة بذلك خشخشة تؤلم رأس غالية وتنزل على مسامعها كوخز الإبر. كانت مقرفصة وسط السرير في عزلتها المنفية وجسمها يرتعش في ذلك الصباح المشرق تنوح أجنحتها المتكسرة وتلعق سراب مطاردة كابوسها الذي يزحف ببطء وسط تلك العزائم المفتعلة. نهضت من مكانها خائرة القوى تمشي ببطء في الوحل وتتكئ على جدران القسوة نحو خزانتها. مدّت يدها على علبة الدواء، أقراص نوم وصفها طبيبها ضد الإحباط والإرهاق. أزاحت يدها بسرعة في هدوء لكي لا تلفت نظر سلمى التي كانت تسرق النظر إليها بين الفينة والأخرى. تنفث كريح غاضبة، " خسرت معركتي مع أهلي التي استباحت إنسانيتي وسحقت اعتباري". رجعت إلى سريريها في هدوء كمن يمشي وهو نائم. استلقت تحت لهاث مستتر، وغثيان مشروخ تحت غطاء ظلمة بائسة. هل أفعلها وأرتاح من هذا العالم المسكون بلعنة الشهوة والأنانية؟ هل أترك أهلي وخصوصا عمتي صفية وسلمى؟ تبعثرت تمنياتها في ليت وأحلامها بين أفعال المستقبل المفقودة وها هي تتلو صلواتها الصوفية علها تحلل ذاتها. "لن أعطي لهم الفرصة أن يزوجونني. لابد من الهرب. لكن، إلى أين؟ " عضت على لسانها من غير أن تشعر، أوقف طعم الدم في فمها ذلك التفكير الذي كان يفور كبركان عبر قرون قلقة من الزمن. قفزت من السرير مسرعة إلى الحمام فإذا بها تجد أمها تتوضأ لصلاة الظهر. قالت لها بصوت آمر:

_ ألم تذهبن إلى الكوافير؟ إن عائلة السعداوي ستأتي اليوم لخطبتك، لابد أن تلبسي أنت وأختك الفستانين اللذين اشتريتها لكما من "دبي" الصيف الماضي وبسرعة إنني لا أحب التلكؤ هيا بسرعة.

قالت كلامها وذهبت للصلاة. دخلت غالية إلى الحمام، غسلت فمها ودموعها المتشبثة بها تنهمر مقاسمة عويل الصمت في أنفاسها. نظرت إلى المرآة فأرعبها وجهها الشاحب وعينياها المنتفختان. تحاول أن تستجمع شتاتها المتناثر لتصير أكثر تناسقا لمقابلة الضيوف حتى لا تغضب والديها. تأملت وجهها الذي يعج بالأرق المفزع. فجأة خطر ببالها عمتها صفية، اعتصر قلبها. " إن رحلت عنها سأتركها في عتمة مبهمة يفتك بها ضغط الدم، لكن أفضل من أن تظن أنني فتاة غير طاهرة وشريفة ".خرجت من الحمام مهرولة إلى المطبخ . وجدتها منهمكة كعادتها في تحضير الأكل. حبيبتي عمتي، تنظر إليها ومفاصلها ترتعش أما العمة فكانت تحدثها وتركيزها على الأكل داخل الطنجرة:

ـ هذا الأكل لابد أن يكون لذيذا ألم تذهبن بعد إلى الكوافير؟

ـ سأذهب حالا يا عمتي.

ـ هيا بسرعة لكي لا تغضبي أمك إنك تعرفين كم هي عصبية.

ـ نعم عمتي، فقط جئت لأقبلك لأنني ذاهبة الآن.

همست في أذنيها أحبك يا عمتي، ثم انحنت فوقها تقبل جبهتها وعنقها ورأسها قبلات طويلة حارة خرساء.

_ فراقك سيسلبني الحنين إليك لكن سأحبك ولو عرفت أنني سأغادر بعد حين..

كانت هي تضحك وتقول:

_ هل أنت مسافرة؟ ستذهبين فقط إلى الكوافير.

_ نعم، عمتي سأذهب فقط عند الكوافير … وداعا يا أحلى عمة في العالم.

ضحكت ويدها لم تتوقف عن تحريك اللحم داخل الطنجرة. أسرعت غالية إلى غرفتها وصرخات الوداع تنهشها، وجدت سلمى تنتظرها ووجهها ملتف بالحزن، نظرت إليها وقالت:

ـ أين كنت يا غالية؟

ـ أين سأكون؟ بالحمام طبعا. ألن تصلي هيا اذهبي وتوضئي.

ـ معك حق يا غالية إن التفكير شغلني عن الصلاة.

نهضت متثاقلة وهي تمسح عن جبهتها ارتباكها ثم توجهت إلى الحمام. أسرعت غالية إلى قنينة الدواء فتحتها والخوف يبسط رداءه متراميا على جسدها المرتعش، وقعت العلبة من يديها وتناثرت الأقراص على الأرض. جلست على ركبتيها بسرعة تلتقطها واحدة تلو الأخرى وتبتلعها. رفعت يديها تطلب من الله أن يغفر جرمها، ترثي نفسها وسرها الذي إن انفجر سيعلن للحضور دويا عاليا. مازالت تستغفر ضعفها حتى وقعت أرضا ولم تشعر بعدها بشيء. توضأت سلمى وبينما هي عائدة إلى الغرفة حتى صرخت الأم بوجهها:

ـ ماذا تظنان نفسيكما؟ ألم يعد يعني لكما كلامي شيئا؟ لقد أمرتكما أن تذهبا إلى الكوافير، فماذا تنتظران؟ مسخوطتان!

اعتادت سلمى سماع السخط والتهديد والوعيد. ذهبت في صمت من غير أن تعيرها أي اهتمام إلى الغرفة فإذا بها تجد أختها ملقاة على الأرض. صرخت بأعلى صوتها فهرع كل من في البيت إلى الغرفة وعويل الرعب مغلف بالندم على خيبة الأسلوب المحموم تجاه غالية يضج داخل الغرفة المعطوبة وهي تحتضر علّة جسدها المحترق. صرخت سلمى في قفار صحراء تلك الجدران التي أصبحت موحشة، مظلمة بعدما ذابت شمعة روحها على الأرض جثة هامدة.

ـ أنت السبب في كل ما يجري لغالية يا أمي. غالية رحلت عنا إلى الأبد. يا إلهي! ما كنت أخشاه قد وقع.

اقترب الأب وجدائل الرعب من العار يختطفه في صمت، قال وهو ينظر إلى سلمى:

ـ ماذا حصل؟

ـ لا أعرف يا أبي دخلت فوجدتها ملقاة على الأرض.

كانت الأم تنوح وتندب بلسان ثقيل وكأنها مخمورة. أمسك الأب بيد ابنته يجس نبضها وجده ضعيفا. أسرع إلى سماعة التلفون واتصل بالإسعاف. تجمهر الجيران أطفالا ونساءاً، كلهم ينظرون بعيون الهمس والتحسس وبعض الجارات ينظرن من خلف شبابيك بيوتهن لإشباع نزوة فضولهن. نزل ممرضان من سيارة الإسعاف وصعدا إلى المنزل، قادتهما الخادمة إلى غرفة غالية وضعاها بسرعة على حمالة ثم خرجا من البيت مسرعين بها إلى سيارة الإسعاف، وانطلقا بأقصى سرعة إلى المستشفى. أسرع الوالدان وسلمى إلى المستشفى أما العمة فظلت في المنزل تبكي وهي تطل من شرفة المنزل. دخلت عليها الجارات وهن يغترفن الآهات والحسرات لمعرفة ما رسمه القدر وخطه على اللوحة الصماء. نطقت إحداهن:

_ ماذا جرى لغالية؟

أجابتها العمة بامتعاض

_ إن غالية حذرها الطبيب من أكل التوابل الحارة لكنها عنيدة، أكلت البيض مع الهريسة والزيتون فأصابها ألم حاد في معدتها مما أدى إلى فقدانها الوعي لكنها ستشْفى إن شاء الله.

نطقت النساء بصوت واحد: الله يشفيها، ثم خرجن واحدة تلو الأخرى وفوضى الثرثرة تلعثمهن. قرفصت العمة وسط الدار ويداها على خدها في تيه وحزن تلتقط روحها التي أوشكت أن تزهق. مكثت غالية بغرفة الإنعاش ثلاثة أيام في غيبوبة، تامة لم يسمح لأي أحد من العائلة بزيارتها. أما ضيافة عائلة السعداوي وعائلة التهامي فقد ألغيت إلى أجل غير مسمى. في اليوم الرابع استيقظت غالية من غيبوبتها فرأت سلمى بجانبها تمسك بيدها، أيقظت جمرتها الخامدة فبدأت تصرخ وتضرب بقدميها على السرير. دخلت الممرضات يحاولن تهدئتها وغالية كانت غالية كالناقة الشرسة تمارس عنفها إلى أن غابت عن الوعي مرة ثانية. تسللت سلمى خارج الغرفة فوجدت أمها تبكي وتقول موجهة الكلام للأب:

ـ ماذا جرى لابنتي غالية؟ كل شيء تتمناه نشتريه لها لا ينقصها شيء، فلماذا جلبت لنا هذا العار الشنيع؟

كان الأب يهدئ من روعها قائلا: أخفضي صوتك لا نريد الفضيحة أكثر مما نحن فيه. دعي الندب والندم حتى نرجع إلى البيت.

تقدم نحوهما الطبيب وقال: أرجوكما أن تتفضلا خارجا، أريد أن أتكلم معكما على انفراد.

قال الأب: ماذا هناك يا دكتور، هل ابنتي في خطر؟

ـ لقد تجاوزت مرحلة الخطر، لكنها تحتاج إلى راحة تامة في المستشفى.

قالت الأم وهي تبكي:

_ هذا يعني أنها ستمكث في المستشفى طويلا.

قال الدكتور:

_ هذا يرجع إلى سرعة تحسن حالتها.

قال الأب:

_ من ماذا تعاني ابنتي؟

قال الدكتور:

_ لا أخفي عليك سيدي، إن ابنتك تعاني من الإكتئاب.

قال الأب وهو يمط شفته السفلى في استغراب:

_ ولماذا؟

قال الدكتور:

_ هذا أمر تعرفونه أنتم، من الأفضل أن تذهبوا الآن فوجودكما لن يفيد شيئا لأنها نائمة الآن.

كانت تمشي فوق سطح البحر. أمواجه تزحف نحوها تطاردها، يبلل الماء نارها المشتعلة، تعصف الريح في وجهها المبتل، تحاول الأمواج ابتلاعها وهي تجري حتى اللهاث نحو أنوار أسطع من نور الشمس وأنصع من البياض وكلما اقتربت منها ترجلت تلك الأنوار نحو الأزل. رجعت العائلة إلى المنزل الحزين الذي يتعكز الشرود وتطرق على بابه تساؤلات صامتة تحت سقفه وبين جدرانه العاجزة عن استيعاب تمرد غالية. دخلت سلمى غرفتها ولحقت بها العمة صفية.

ـ ماذا حصل لغالية ولماذا لم تأت معكم؟

قالت سلمى وهي تحاول أن تطمئن عمتها:

_ إن غالية بخير، لكن لابد أن تمكث يومين في المستشفى حتى يقوم الطبيب بفحصها.

قالت العمة على عجل:

_ أي فحص؟

ـ فحص المعدة يا عمتي.

ـ يا ربي خذ بيدها واشفها.

مرت ثلاثة أيام وغالية في صراعها مع الموت والحياة، غريبة الروح تحترق في همومها وألمها كلما راح مفعول التخدير. منع الطبيب الأهل من زيارتها لمدة أسبوع بأكمله، فقررت العائلة أن تأخذ غالية عند فقيه لكي يحجب عليها عندما تغادر المستشفى، لأن مشكلتها حسب رأيهم ليست إحباطا ولا انهيارا عصبيا وإنما عين أصابتها، ولابد أن يرقيها ويكتب لها حجابا لكي تتحسن حالتها وتبعد عنها عين الحسد.

قالت الأم موجهة كلامها للأب سلطان وهي تبكي.

_ ألم تر كيف كانت تضرب برجليها، أعتقد أن جنيا لبسها.

أجابها الأب:

_ لا، مستحيل. أنا متأكد أن ما أصابها هو العين ... عين حسود ...

لم ترد سلمى أن تعقب على حوارهم، فهي لا تحتاج إلى المزيد من الألم والحزن، يكفيها أن شقيقتها في غيبوبة بالمستشفى بين صراع دوامة البقاء والرحيل. ذهبت إلى غرفتها تذرف دموع الحزن في صمت. وما من أحد يزيح همها ويذهب عنها الشجن.

استيقظت سلمى باكرا، واستأذنت أمها لتذهب إلى الجامعة. قالت لها الأم بعصبية:

ـ لماذا تريدين الذهاب إلى الجامعة هل نسيت أن أختك مريضة في المستشفى؟

أجابت سلمى بخوف:

_ أريد أن أعرف نتائج الامتحان.

أشاحت بوجهها عن غضب مصطنع وقالت.

_ كيف تسمحين لنفسك بهذا التفكير أليس في قلبك رحمة؟

قالت سلمى وكأنها شعرت بذنب: أنا أحب أختي أكثر مما أحب نفسي ولهذا أريد أن أذهب لأرى النتيجة. فنجاحها سيكون سببا في شفائها. ألا يهمك نجاحها؟

قالت الأم: لا يهمني نجاحكما بقدر ما يهمني سلامتكما واستقراركما في بيت أزواجكما ذلك هو النجاح الكبير.

قالت سلمى بغضب: ذلك هو السقوط الكبير.

اقتربت منها الأم باهتمام زائد وبدت كمن تتهيأ للانقضاض عليها، يفضح ذلك تفاصيل وجهها الغاضب:

ـ ماذا قلت؟

كانت سلمى تتراجع إلى الوراء خائفة من بطش أمها وقالت:

_ لم أقل شيئا.

رجعت سلمى إلى غرفتها وأغلقت الباب بقوة مما أثار غضب أمها، فدخلت عليها وبدأت تضربها وتلكمها وسلمى تبكي. سمعت العمة صراخ سلمى، فأسرعت إلى الغرفة لإنقاذها من اللكمات المتتالية التي تنزل عليها من غير رحمة. اقتربت العمة تحاول أن تمنع زوجة أخيها من الاستمرار في ضرب سلمى. غضبت الأم من تدخل العمة فدفعتها بكل قوة إلى أن وقعت على الأرض. استجمعت العمة جسمها المبعثر على الأرض وضحكت ضحكة حزينة خافتة تكتم غيظها الذي يئن تحت وطأة الظلم والجبروت. نظرت الأم إلى العمة التي مازالت مطروحة على الأرض وقالت لها وعيناها تقدحان شررا:

ـ دعيني أربي ابنتي.

قالت العمة: إن ابنتك مهذبة ومتربية.

قالت الأم وحالة هدوء ووجوم تلبسها، وبعد لحظة من الصمت الغاضب: عندما يكون لك أبناء ربيهم كما شئت.

حزنت العمة من كلام زوجة أخيها الذي جرحها حتى العمق، وذكرها أمومتها المفقودة عندما أجريت لها عملية نزع الرحم. نهضت من الأرض بتثاقل وخرجت من الغرفة في صمت تاركة الأم التي فقدت سيطرتها على نفسها لا تجيد إلا لغة الشتيمة فبدأت تضرب سلمى إلى أن غابت عن الوعي. وقفت مرعوبة لمنظر ابنتها التي أصبحت كورقة خريفية مطروحة على الأرض. انتابها الذعر فبدأت تصرخ وتلطم وجهها. سمع الأب الصراخ فخرج من مكتبه مسرعا نحو الصوت فوجد سلمى ملقاة على الأرض مغمى عليها. ماذا جرى؟ هل هي محاولة انتحار أخرى؟

ردت الأم:

_ لقد ضربتها وأغمي عليها.

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله. أنت مجنونة قطعا.

نادى أخته صفية وطلب منها أن تحضر البصل. حمل ابنته ووضعها على السرير وشرع يقرب البصل من أنفها، حتى استيقظت من غيبوبتها. بدأت بدرية تبكي وتقول:

ـ أنا لم أعد أفهم شيئا، لقد أصبح العيش في هذا البيت مستحيلا.

قال الأب غاضبا مزمجرا في زوجته:

_ أنت التي تجعلين العيش مستحيلا بعصبيتك الزائدة. يكفي أن غالية في المستشفى.

لم تحتمل سلمى سماع ذلك الشجار فبدأت تبكي وأبوها يهدئ من روعها.

ـ اهدئي يا ابنتي وغدا اذهبي إلى الجامعة وبشرينا بنتائجك أنت وأختك.

قبلت سلمى يد أبيها شكراً على تعاطفه معها. ظلت منزوية لوحدتها تفكر في أختها غالية وفي نفسها المنهوكة من مؤامرات والديها اللامتناهية لزواج غالية. في صباح اليوم التالي، ذهبت مُبكرة إلى الجامعة، لم يكن هناك أحد سوى موظفي الإدارة. توجهت إلى حيث النتائج فوجدت اسمها واسم أختها في لائحة الناجحين. طار حزنها كما طارت كالبرق متوجهة إلى البريد لتتصل بنبيل. كانت الخطوط اللاسلكية بين ليبيا والمغرب سيئة، لم تفقد الأمل رغم المحاولات العديدة. ثلاث ساعات مرت وهي تحاول من غير كلل إلى أن سمعت صوت نبيل:

ـ ألو، من المتكلم؟

ـ أنا سلمى أخت غالية.

ـ أهلا بسلمى، كيف حال غالية؟

ـ غالية ليست بخير، إنها في المستشفى، مريضة جدا ولا أعتقد أن أحدا يستطيع مساعدتها إلا أنت.

ـ من ماذا تعاني؟

ـ لقد قال الدكتور إنها تعرضت لانهيار عصبي بسبب الاكتئاب.

ـ اطمئني يا سلمى، سأساعد أختك بقدر ما ... ألو.. ألو…

انقطع الخط، لكن سلمى كانت فرحة لأن نبيل وعدها بأن يساعد أختها. من البريد اتجهت إلى المستشفى، حاولت أن تتسلل إلى الغرفة، لكن إحدى الممرضات منعتها. اتجهت مسرعة إلى الاستعلامات، فرأت ممرضة منهمكة في الضحك والمزاح مع ممرض يغازلها. سألتها سلمى:

ـ من فضلك يا آنسة، أبحث عن موظفة جديدة بهذا الفرع اسمها سعيدة. أريد مقابلتها.

قالت الممرضة: من سعيدة؟ ليست عندنا ممرضة بهذا الفرع اسمها سعيدة.

ـ إنها ليست ممرضة، إنها تغسل بذلات الممرضين .

ـ إن المكان الذي تغسل فيه بدلات الممرضين بالقرب من المبنى الرئيسي.

ـ شكرا آنسة.

ذهبت سلمى إلى حيث تنظف بذلات التمريض فوجدت قضيبا طويلا معلقا عليه البذلات النظيفة والمكوية. ارتدت واحدة ثم رجعت إلى الفرع الذي توجد فيه أختها. تسللت ببطء إلى الغرفة، جلست على كرسي بجانب السرير، أمسكت بيد أختها، لقد نجحت بامتياز وأول من عرف بالخبر هو نبيل. اتصلت به هاتفيا وطلبت منه أن يساعدك فوعدني بأنه سيفعل. حركت غالية رأسها ثم فتحت عينيها بتثاقل، التفتت إلى سلمى وقالت:

ـ لقد حلمت بأنني نجحت بامتياز، وبأن أول من عرف النتيجة هو نبيل.

قالت سلمى: إنه ليس حلما. إنها الحقيقة. لقد اتصلت به اليوم وأخبرته بنجاحك وبمرضك فوعدني بأنه يساعدك.

قالت غالية بصوت مبحوح ومتعب:

_ متى سيزورنا؟

ردت سلمى:

_ لم يكمل معي الحديث، لأن الخطوط انقطعت.

كان وجه غالية شاحبا وعيناها ذابلتين ومرهقتين وجسدها تحت اللحاف يظهر نحيلا وكأنها لم تذق الطعام منذ شهور.

قالت سلمى مرتبكة:

_ من فضلك يا غالية لا تصرخي لقد تسللت إليك بلباس التمريض لأنهم منعوا عنّي زيارتك.

أغمضت غالية جفنيها المتعبتين ثم خلدت للنوم. أما سلمى فقد غادرت المستشفى وهي فرحة مطمئنة على أختها التي بدأت حالتها تتحسن. كانت العمة تهيء الغذاء صامتة حزينة، تفكر في ابنة أخيها غالية. دخلت عليها سلمى تبتسم:

ـ أهلا عمتي، كيف حالك؟

ـ كيف سيكون حالي وغالية في المستشفى.

أجابتها سلمى مبتسمة:

_ لقد قابلت غالية، إنها بخير جدا وتسلم عليك كثيرا.

قالت العمة بتلهف:

_ ومتى سترجع إلى البيت؟

- ذاك أمر يقرره الطبيب يا عمتي.

- وما هي حال النتائج هل نجحتما؟

ـ بطبيعة الحال، لقد نجحنا.

اجتمعت العائلة حول المائدة، جلست سلمى تأكل في صمت. لم ترغب أن تشارك والديها في الحديث ولا حتى أن تخبرهما بالنتائج. كان الأب مشغولا بالأكل، أما الأم فكانت تأكل بلا شهية والتوتر والعصبية يظهران جليا في حركاتها. أحضرت العمة صفية الفواكه ووضعتها على مائدة الطعام وقالت:

_ إن غالية بخير لقد تحسنت أوضاعها.

قال لها سلطان مستفهما:

_ من أخبرك ذلك؟

ـ ألم تخبركما سلمى؟ لقد زارتها اليوم.

نظر إلى سلمى بعينين ترتقبان شرح الموقف. قالت سلمى وهي تتلعثم: لقد زرتها يا أبي اليوم إنها بخير.

قال الأب:

_ ومن أذن لك بذلك ألم أقل لكم بأن تستأذنوني في أي شيء تريدون القيام به؟

أجابت سلمى مستغربة والخوف يسيطر عليها، ظننت ستفرح بالخبر.

_ نعم، إن تحسن غالية يفرحني لكن ذهابك عندها بدون إذني يقلقني ويغضبني. هذه آخر مرة تتجاهلين فيها أوامري.

ـ حاضر يا أبي، لن أغضبك مرة ثانية.

نظرت الأم إلى سلمى وقالت بتلهف: كيف حال غالية؟

ـ إنها بخير يا أمي.

قال الأب:

_ كيف دخلت عندها والزيارة ممنوعة؟

ـ إنني أعرف ممرضة كانت تدرس معي في الثانوية.

نظرت الأم إلى الأب وقالت:

_ لا بد أن نتصل بالدكتور لكي يعطينا الإذن بزيارة ابنتنا.

قال الأب:

_ إن شاء الله ثم نهض ساخطا غاضبا من غير أن يكمل أكله.

قالت الأم وهي تنظر إليه:

_ لماذا هذا الغضب من غير سبب.

ـ ألا تعرفين؟ هل ما فعلته غالية يرضيك؟

ـ ما حصل قد حصل ولا بد أن ننظر إلى المستقبل.

قال الأب:

_ إنها مجنونة لا محالة، إن ما قامت به هو كفر بالله وبرحمته. إنها نافرة من عدالة الله ورحمته. ما فعلته غالية أكبر فضيحة إن سمعها الناس ستبقى ألسنتهم تلوك سيرتنا.

كانت العمة صفية، تتحرك يمنة ويسرة، تتمنى لو تفعل شيئا لكي تهدئ من ذلك الجو المكهرب، تفتح فمها محاولة الكلام، ثم تغلقه مرة ثانية. العمة صفية تحترم أخاها سلطان كثيرا لأنه أكبر إخوتها وواجب عليها طاعته واحترامه كطاعتها لأبيها، لكنها لم تتحمل سماع الإهانات التي كانت توجّه لغالية التي مازالت طريحة الفراش في المستشفى. وهي التي ربتها منذ كانت رضيعة. انفجرت تبكي بصوت عال ومخنوق:

ـ كفى، إن الله يغفر. وأنت أبوها سامحها يا خويا الله يطول عمرك.

كان سلطان ينظر إلى أخته ويعض على شفتيه من شدة الغضب وقال:

ـ أنت السبب في كل ما تقوم به غالية. أنت التي أفسدتها بتربيتك فأصبحت عنيدة ومتهورة.

قالت العمة: إن غالية ليست عنيدة ولا متهورة، فتاة شريفة وطيبة وحنونة، اتركوها لحالها. أنتما تضغطان عليها وتحاولان إرغامها على ما لا تريد ... كفى!

لم تتدخل الأم، كانت راضية من كلام زوجها تجاه أخته.

قال سلطان:

_ كيف نضغط عليها؟

- تضغطان عليها في كل شيء.

أجاب بغضب:

_ اسمعي يا أختي هذه ابنتي وأنا أعرف مصلحتها جيدا إياك والتدخل في طريقتي معها.

قالت العمة: اتركها تكمل الدراسة مادامت تحبها لقد نجحت بامتياز رغم أنها لم تلتحق بالجامعة هذه السنة. فماذا تريد أكثر من هذا التفوق؟

قال سلطان:

_ لم أمنع بناتي يوما من طلب العلم وقد غرفن منه بما فيه الكفاية، لكن الزواج مصيرهن، بل مصير كل فتاة أن تكون لها أسرة وتستقر في بيت زوجها وهي حرة، بعدها إن أرادت أن تتابع الدراسة أو تعمل إن وافق زوجها طبعا. إن سترة الفتاة مهمة.

لم تعد العمة تتحمل قسوة أخيها وجبروته قالت متهكمة وهي ترتعش خائفة:

_ السترة! وهل هي عريانة لكي تحتاج السترة؟

قالت كلامها ذاك وهرولت إلى المطبخ لتتجنب انفجار أخيها وغضبه الذي لا تُحمد عاقبته!

العمة صفية امرأة بسيطة جدا، حنونة وكلامها عفوي، أحيانا يثير الضحك، لكن له معنى ومغزى رغم بساطته. لم يكن كلام العمة صفية عابرا أو عفويا مثل ما تتصوره العائلة ولكنه كان منبعثا من حرقة قلبها على ما تتعرض إليه بنات أخيها وهي التي ربتهن وقضت معظم الوقت معهن أكثر من أمهن التي ولدتهن.

بعد أسبوع قضته غالية تحت إشراف الطبيب والممرضات في المستشفى، رجعت إلى المنزل وإلى انزوائها كعادتها. لم تكن تكلم أحدا ماعدا أختها سلمى ولم تفرح بتفوقها فتلك الشهادة في نظرها لا قيمة لها مادام سينتهي بها المطاف إلى الزواج. هذه الكلمة التي تضرم نارا ورعبا في أحشائها. فيوم الزفاف بالنسبة لها يوم قرح وليلة الدخلة هي ليلة الفضيحة والموت. نصح الدكتور والدي غالية بأن يتجنبا أي شيء يمكن أن يحزنها أو يغضبها وإلا ستتعرض لانهيار عصبي يصعب منه الشفاء. تغير أسلوب الوالدين متجنبين الاصطدام معها بالكلام ورغم ذلك كانت لا تتكلم إلا نادرا، متشحة بالحزن متلفعة بالصمت. ندمت الأم على الأسلوب الذي كانت تنهجه مع ابنتها والذي كان سيؤدي إلى فقدان ابنتها، لكن كبرياءها وعصبيتها منعاها من التقرب منها أو ضمها إلى صدرها وكأن غشاوة عمت قلبها ولم يستطع أحد أن يوقظها من ذلك الغرور إلا العمة صفية التي انفجرت في وجهها غاضبة:

ـ هذا حرام! هذا شيء لا يرضى عنه الله. اتقي الله والعني الشيطان وخذي بيد ابنتك التي تحتاج لمسة منك وكلمة طيبة تنبعث من صميم قلبك. كرست العمة صفية كل حياتها لأخيها سلطان وعائلته بعد أن فشلت في حياتها الزوجية، أقسمت ألا تتزوج ثانية وأن تعيش مع أخيها بقية عمرها. لأول مرة تصرخ في وجه أخيها وفي وجه زوجته. إن لم تتركا غالية وشأنها، سأترك البيت إلى الأبد. فغر سلطان فاه مندهشا لردة فعل أخته المعروفة بالخجل وشدّة احترامها له، والآن تمردت عليه وعبرت عن رأيها بكل جرأة. رن جرس التلفون، أسرعت وحملته بعصبية رغم أنها ليست من عادتها أن تحمل سماعة الهاتف إلا أنها كانت تريد بذلك أن تظهر لهما استياءها وغضبها الذي وصل حدّاً لا يمكن إخفاؤه.

ـ من المتكلم؟

ـ الدكتور نبيل خلف ...

ـ من الدكتور خلف؟

قالت سلمى بسرعة: إنه الدكتور نبيل الذي ساعد غالية في ليبيا.

أسرع الأب وأخذ السماعة من يد أخته وقال: أهلا، أهلا دكتور نبيل.

ـ الحمد لله، إنني أتكلم معكم من الدار البيضاء، سأكون في فاس بعد أربع ساعات.

ـ يا أهلا ويا سهلا سننتظرك في المطار.

نظر سلطان إلى بدرية وقال: لابد أن أذهب إلى سوق المواشي وأشتري خروفا، يجب أن نكرم هذا الرجل بقدر ما أكرم ابنتنا واعتنى بها.

أسرعت الأم إلى غرفة ابنتها وجلست على حافة السرير الذي تستلقي عليه غالية وكأنها تحتضر.

ـ ابنتي غالية لقد جئت بخبر سيسعدك كثيرا.

أجابت غالية دون أن تلتفت إلى أمها: ليس هناك ما يسعدني في هذه الدنيا إلا متابعة الدراسة.

قالت بدرية وهي تبكي: ما دامت الدراسة هي الروح التي تتنفسين بها فلن نقف حائلا بينك وبينها أبدا. فهيا الآن، انهضي واستحمي لأن ضيفاً عزيزا عليكِ سيشرفنا بعد أربع ساعات.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: هل ...

ـ نعم، الدكتور نبيل. إنه في مطار الدار البيضاء. اتصل بأبيك وأخبره أنه سيكون في مطار فاس بعد أربع ساعات. ضمت غالية أمها قبلتها وقفزت من السرير مهرولة وغيمة من الفرح تلحق بها إلى الحمام فرحة بأمل وعد جديد يدر رذاذا أكثر جمالا وبهاء.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:16 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

الفصل الثاني عشر - الجزء 1



طريق إلى المجهول



الحزن الذي كان يرتدي المنزل انقلب إلى حلة من الفرح، كل شيء أعدّ بعناية فائقة والخادمات الأربعة وقفن أمام الباب واحدة تحمل الحليب والتمر وأخرى تحمل الورود والثالثة العطر والبخور، وسلطان يرتجل أبياتا شعرية مرحبا بضيفه الغالي. كل من في البيت يعيش في تلك اللحظة نشوة فرح كانت غائبة يوما في بيت سلطان. ها قد وصل نبيل محلقا من غياهب المجهول حاملا تحت أجنحته آمالا علها تسكت أنين جراح صديقته الغالية التي كانت آخر من دخل الصالون لاستقباله. تمنت أن تضمه إلى صدرها وتقول له لا تتركني هنا غريبة أحزم خطواتي إلى الرحيل. إنهم يريدون التخلص مني بالزواج ولا أعرف أين سيسري المصير. رائحة الهال تعبق من الإبريق المغشي بالشاي، ودخان الصندل يتراقص حول الستائر المسدولة بابتهال، ونبيل يلملم اندهاشه في تلك الأصوات المبتهجة والكرم المندلق حوله.

في اليوم الثاني استدعى سلطان زملاءه للعشاء وللتعرف على ضيفه العزيز، وابتداء من اليوم الثالث تلاحقت العزائم احتفاء وإكراما لنبيل وتعبيرا عن فرحة العائلة وأصدقائها بقدومه. تمنت غالية أن تنفرد به وتفضي له همومها والحصار الذي فرض عليها، لكن نبيل كان يقضي معظم الوقت مع أبيها إما في مكتبته أو في صالون الضيوف. تمرّ الأيام خلسة ولم يبق منها إلا حفنة لكي يرجع إلى ليبيا. بدأ الخوف يزحف من جديد نحوها وهي التي لا تقوى على الحركة فأغلال التقاليد تحوط بها من كل جهة. انتابتها رعشة جرجرت أنفاسها المنقبضة، وبدأت تحيا من جديد قوقعة تطل على الخراب. تمشي في غرفتها بعصبية وتشد على يديها بقوة والخوف يلتف حولها يشبه الجحيم. تحتضن وحدتها المرتمية تحت نزيف الألم حتى دخلت عليها سلمى وهي تلهث، أغلقت الباب وراءها وقالت:

ـ لا أعرف ماذا أقول لك وهل الخبر الذي أحمله إليك سيكون سارا أو محزنا.

اقتربت غالية منها بسرعة البرق وحزن غريب الشكل يتآكلها، منهوكة القوى كأنها خارجة للتو من معركة خاسرة وحزن عميق يثقل عينيها وقالت:

_ هات ما عندك بسرعة فأنا لم أعد أتحمل المزاح.

نظرت سلمى إلى غالية والفرح يشعّ من عينيها:

_ أعتقد أنك ستفرحين كثيرا يا غالية.

ـ كفاك مراوغة وهات ما عندك؟

تمتمت سلمى بشفتين مبتسمتين مرتعشتين وقالت:

_ لقد سمعت حوارا بين نبيل وأبي. إن نبيل …

ـ ما به نبيل هل قرر أن يرجع إلى ليبيا من غير أن يجد حلا لمشكلتي، مثلما وعدني؟

ـ سمعته يطلب يدك من أبي.

تسمّرت غالية في مكانها، فاغرة فاها، شاخصة العينين وكأنها فوجئت بتنين يريد افتراسها.

ـ ماذا قلت يا سلمى؟

ـ هذا ما سمعته يا غالية.

بدأت غالية تحرك رأسها وتتراجع بخطوات إلى الوراء، لا أصدق ما أسمعه كيف يجرؤ أن يطلبني للزواج وهو يعرف أنني لا أحبه؟ وكيف يطلب يدي من أبي من غير أن يسمع موافقتي شخصيا؟

ـ هل يمكنك أن تهدئي؟ العصبية لن تجديك نفعا أنت تعرفين نبيل أكثر منا جميعا، إنه لن يقبل زواجك منه غصبا.

ـ كيف له أن يفكر بالزواج وهو متزوج وله خمسة أولاد أكبرهم يصغرني بسنتين فقط؟ كنت معه طوال الوقت في طرابلس، وفي بيته تحت ذات السقف لم يقل لي يوما أنه يريد أن يتزوجني. صحيح أنه اهتم بي اهتماما لم أر مثله قط. كان في قمة الطيبة وكريما معي، لكنه ... نظرت إلى أختها وقالت: ما سر الخطاب والعرسان الذين تراكموا علي خلال هذا الشهر؟

مازالت غالية وسلمى تتحدثان حتى دخلت عليهما الأم وقالت:

ـ سنسافر غدا إلى مدينة السعيدية وسنقضي هناك أسبوعا مع الدكتور نبيل، نريده أن يستمتع بعطلته في المغرب. بالمناسبة لقد أرسلت الخادمة لتنظيف البيت وترتيبه وشراء ما سنحتاجه هناك. ابتسمت لهما وغادرت الغرفة.

قالت غالية لسلمى بغيظ:

_ إنها تظن أنني لن أرفضه لكثرة ما تحدث عن كرمه ومعاملته لي. الآن لن يجد سببا مبررا لرفضي له. إنه دكتور ومترجم فوري في مركز دبلوماسي وميسور جدا فماذا أريد أكثر من ذلك.

قالت سلمى: هذا إن رفضته!

ـ وهل تعتقدين أنني سأقبل الزواج منه؟

ـ ماذا تريدين أحيانا لا أفهمك. نبيل لن يكون حجر عثرة في طريق متابعة دراستك.

طرق الأب الغرفة ودخل، كان الفرح يشِعُّ من عينيه.

ـ مساء الخير يا بناتي.

وقفت سلمى وغالية ورجلاهما متسمرتان في الأرض وكأنهما رأيا ماردا. نطقتا بصوت واحد: مساء الخير يا أبي.

ـ غالية، أريد التحدث إليك.

قالت سلمى متلعثمة:

_ سأذهب لأرى عمتي إن كانت تحتاج إلى مساعدة.

غادرت الغرفة وتركت غالية تنظر إليها والخوف يتملكها تمنت ألا تتركها.

اقترب منها بخطوات بطيئة ممسكا بذيول الغضب جلس على حافة السرير، صمت قليلا أما هي فكانت تتابع حركاته في صمت. نظر إليها بعينين جامدتين وقال:

_ يا ابنتي لم تسمح لي الفرصة أن أتحدث إليك منذ خروجك من المستشفى، وذلك لانشغالنا بضيفك وضيفنا. لكن الآن جئت لموضوعين اثنين، أولا مع أنّ ما فعلتِه في حقك وفي حقنا كان أمرا يستحيل غفرانه. كنت ستمسحين الأرض بشرفنا وكان الناس سيتقولون وينشرون أكاذيب وادعاءات تمس شرفك وعفتك لذلك فضلت الموت على العار. لم أستوعب تهورك الشنيع حتى الآن. ماذا ينقصك؟ نحن لم نقصر معك ولا مع باقي إخوتك في شيء. كانت ترجف عندما سمعت كلمة الشرف والعار والعفة هامت ومضت في ضباب، ضائعة وسط سرها. " الفتاة تنتحر لكي لا تتعرض للخزي والعار، هاهو ذا أبي يقولها بعظمة لسانه"، أفكارها تحوم حول دوامة من المفردات، العرض والشرف والشريفة والعفة والعفيفة والزواج والخطوبة والعذرية والدخلة والعار والانتحار. اهتزت مفاصلها وكأن جنّيا لبسها. أسنانها تصطك خوفا من الزواج، فما إن تنساه حتى يزحف نحوها من جديد. نبيل الذي تعتبره مخلّصا لها من المأزق الذي هي فيه ويسهّل عليها طريقها إلى الحرية التي تبحث عنها طلب يدها من أبيها. قالت بلسان يتلعثم رعبا:

_ سامحني يا أبي، إنه خطأ فادح، لن أعاوده مرة ثانية.

نظر إليها بعصبية وقال بصوت شبيه بالصراخ:

_ أنت تأخذين الأمور بكل بساطة، لكن لا تعرفين مدى تأثيرها على سمعة العائلة وشرفها.

كانت صامتة ورأسها مطأطئ خوفا ورجلاها مشدودتان ببعضيهما ويداها تشابكتا على ركبتيها وآهات تزمجر بداخلها: شرف! شرف! ما هو الشرف؟ وماذا تعرفون عن الشرف؟ وإن كنتم تعرفونه، يا ليتكم تحسنون التعامل مع هذه الكلمة ومعناها العظيم. لو فعلتم ما تعذبت غالية وشرّدها سرّها الخطير. آه يا أبي ليتك تفهم ... ليتك تخترق عظام صدري وجمجمة رأسي لترى كم غاليتك يعذبها فهمك للشرف وتعاملك مع هذه الكلمة ...آه ...

قال الأب: هل تعرفين إن داستك سيارة ومتّ لكان أهون علي من موتك انتحارا؟ موتي عندك دعسا بسيارة أفضل من موتي انتحارا لكي لا أجلب لك العار. قبح الله هذا الشرف الذي تسعى إليه حفاظا على سمعتك. فماذا عني أنا؟ ماذا اقترفت من ذنب إن كنت سأخزى أو أهان أو أقْتَل بذنب لم أرتكبه. ماذا عني أنا التي لم أٌلْمَس في حياتي ومع ذلك عرفت العذاب وذقت المر منذ وقوع ذلك السر الخطير على جسمي وروحي؟ بقعة دم حمراء في لباسي الداخلي، لم أكن أنا سببها، نزلت من جسمي من غير إرادتي وحولتني إلى شؤم ملموس طوال حياتي وجعلتني في نظركم غولا ومسكونة بالجن. أطلقتم علي كل هذه الصفات، تنعتون بها حزني وانطوائي وغضبي من غير أن تسألوني يوما عن سبب ذلك. وكيف لي أن أبوح لأحد منكم بذلك السر. إن العنود نصحتني بل هددتني بأن لا أبوح بذلك ولو لأمي.اسمعي يا غالية، أنت تعرفين معزتك ومكانتك عندي. لقد أسميتك غالية وأقول دائما إنك أميرتي لكن هذا لا يعني أنني سأسمح لك بأن تدمري سمعة العائلة. كل شيء في كفة وسمعة العائلة وشرفها في كفة ثانية. إنني لم أمد قط يديّ عليك فلا تدفعيني لذلك. ارتعشت غالية وتبلل سروالها، أغمضت عيناها حتى لا تنزل دموعها وزفير يخرج من أسفل أحشائها. هذا ما بقي لك يا أبي أن تفعله تجاهي. تضربني. فولله أن الانتحار أهون عليّ ألف مرة من أن تمدَّ يدك علي وتضربني ظلما. اسمعي يا ابنتي سأغفر لك تلك الفعلة الشنيعة بشرط أن تقبلي الدكتور نبيل زوجا لك. فاجأها ذلك الألم الغامض الذي داهمها وانتقل من منطقة ما في الجسد وتسرب إلى باقي الأوصال:

_ لماذا أقبله زوجا لي؟ هل طلبني للزواج؟

ـ أجل، طلبك للزواج.

شعرت بدوار وكأن غشاء من ضباب ينزل على عينيها قالت: لكنه متزوج وله خمسة أولاد.

قال بلهجة آمرة: وإن كان، فالرجل يحق له الزواج مثنى وثلاث ورباع.

عاصفة أثارت غضبها وسرقت هدوءها المصطنع، تنهّدت بحسرة حيث لا هروب من الموت الذي يطوّقها بأساوره ويضعها في زنزانته المظلمة: آه يا أبي كم تظلمون آية الله وكم تستشهدون بها لإرضاء أهوائكم ظنّا منكم أنكم تتقيدون بما تحتوي هذه الآيات العظيمة من معان.

قالت: إن الرجل يحق له أن يتزوج امرأة ثانية إن كانت زوجته لا تلد أو مريضة مرضا يصعب شفاؤه، وزوجها لا يحق له الزواج إلا بعد إذن منها. وأنت يا أبي تعرف ذلك ...

وقف من مكانه وعباءته تطايرت في فضاء الغرفة وقال مقاطعا:

_ كفى! كفّي عن الكلام. لقد أعطيتك الحرية أكثر من اللازم، فأسأت استعمالها إن نبيل يريد الزواج منك وأنت سبق لك أن تعرفت إليه وشكرته لنا إلى درجة أننا أحببناه لما أسداه لك من معروف. زيادة على ذلك أحواله المادية جيدة ومستعد لشراء شقة لك في واشنطن أو نيويورك ويغطي كل نفقات الدراسة. أليس هذا ما تريدين؟ فهو لن يقف حائلا بينك وبين دراستك.

خفضت رأسها، إنه فعلا يريد أن يتزوجني، قدم طعما لأبي لا يمكن أن يرفضه لكنه لا يعرف أنني أرفض الزواج منه، ولن يحلم بتحقيق رغبته على حسابي. مسكين يريد أن يشتريني بتأشيرة إلى أمريكا. إنه لا يعرف أن تأشيرتي هي حريتي وتحرير رقبتي.

ـ ماذا قلت يا غالية؟

ـ أمهلني أسبوعا وسأرد عليك.

ـ أي أسبوع إنه سيرجع إلى ليبيا بعد أيام ونريد أن نحسم هذا الموضوع وننهي مراسم الزواج.

ـ مراسم الزواج؟ هل هناك زواج يتم في أسبوع؟

ـ نعم زواجك أنت.

ـ ماذا تريدني أن أقول؟

ـ لا تقولي شيئا، السكوت علامة الرضا سأتركك الآن لأن الضيف وحده في الصالون.

تركها متسمرة في مكانها كتمثال صخري وينبوع من الدموع ينفجر منه مهددا بالفيضان، شاردة في حفل زفافها وبجانبها نبيل الذي أمسك يدها بقوة وأدخلها إلى غرفة باردة كالموت والنساء يرقصن ويغنين وبعضهن يطرقن الباب وينادين بصوت عال " بسرعة يا عريس! كان العرق يتصبب من جبينها. دخلت عليها سلمى بعدما تأكدت من مغادرة أبيها الغرفة. وجدتها هادئة هدوءا غريبا. أهي خالية البال إلى هذا الحد أو أن الوعيد والتهديد صقلها وروضها. رفعت غالية عينيها تنظر إلى أختها وقالت:

_ لقد وقعت في فخ كبير يا سلمى. أحس وكأن الدنيا تدور بي وأشعر برغبة في الاستفراغ.

ـ يجب أن تستخدمي عقلك بهدوء وروية. ألم تخبريني أن نبيل رجل طيب جدا ويحب مساعدتك؟

ـ بلى، لكن الآن لم أعد أفهم ماذا يجري وما هي نواياه لم أعد أثق بأحد يا سلمى.

ـ لماذا كل هذه الهواجس والأفكار المتشائمة؟

ـ أحاول أن أسترجع أفكاري وأتذكر الفترة التي كنت فيها في بيته. كان يجزل علي بالهدايا ويفعل المستحيل لإسعادي حتى أنه كان يضطر أحيانا لاستدعاء عائلة سوزان للنزهة معنا لأنه يعرف أنني أكره أن أنفرد به.

ـ لكن، لماذا كنت تقبلين هداياه؟

_ لم أقبلها يا سلمى. لكنه كان يشتري الأشياء ويلحّ علي ّ كي آخذها.

ـ هذا أكبر غلط يا غالية.

ـ أعرف ذلك لكنني كنت أخاف أن يتخلى عني في تلك الفترة التي كنت فيها في أمس الحاجة إلى صديق أعتمد عليه. إنك لا تعرفين كم عانيت في تلك البلاد. لم أجد الراحة والهدوء والاستقرار لا مع عائلة ابن الإيمان ولا مع العائلة المغربية. فقط مع نبيل وجدت راحة االبال.

ـ الآن دعينا من الحديث عن الماضي ولنتحدث عن المستقبل.

ـ أي مستقبل ... أن أقبله زوجا!

ـ ولم لا فهو سيعطيك كل شيء ويوفر لك أي شيء. ويحقق لك آمالك كلها.

ـ لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟

ـ أنا لا أفهمك ولا أستطيع أن أفهمك. أنت غامضة والتفاهم معك مستحيل. يا ليته طلبني للزواج بدلا منك.

ـ أتسخرين يا سلمى؟

ـ لماذا أسخر كل فتاة تتمنى أن تتزوج رجلا له مكانة في المجتمع ومستوى ثقافي محترم وأحوال مادية جيّدة. ونبيل تتوفر لديه كل تلك الصفات.

ـ أهكذا الزواج في نظرك وأين هو الحب والتفاهم !؟

ـ إنه الاستقرار يا غالية سيمنحك الحب كله.

ـ أنت تريدين الزواج من شهادة جامعية ومال في البنك وليس من الشخص نفسه.

ـ كفاك فلسفة! لا أستطيع أن أجاريك في أفكارك الخيالية والبعيدة عن الواقع.

ـ إنها الحقيقة لكن لا أحد يحب أن يسمعها لأنها تجرحكم وتعري سلوككم.

ـ ألم يحسم أبي الأمر معك. لقد كنت صامتة عندما قال لك نبيل يطلبك للزواج وصمتك معناه علامة الرضا.

ـ أي صمت هذا الذي تعتبرونه علامة الرضا؟ إن الصمت هو علامة الخوف وعدم القبول. من أدراك أن ذلك الرضا مفروض للمرء كالموت لا يستطيع منه هربا، رضى بالقهر وليس بالاختيار.

_ هل هذا هو جزاء المعروف لصديقك الوفي؟

_ الصداقة عندي أغلى من مال الدنيا وأنا مستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها. نبيل صديق عزيز إن حافظ على صداقتي له.

ـ أرني هذه التضحية والوفاء إذا.

سكتت لثوان وهي تفكر بعمق ثم قالت متلعثمة:

_ يمكنني أن أضحي بعين أو بكلية لأجله ولكن لن أتزوج به.

ـ فال الله ولا فالك.

ـ لا أريد الحديث عن هذا الموضوع. الزواج مسألة مرفوضة عندي. أنا أختار وأوافق على من يتقدم لي أو أرفضه.

ـ هكذا بكل بساطة.

ـ نعم، هكذا بكل بساطة أنا حرة في نفسي وجسدي لن أسمح لأحد ببيعه أو تأجيره. جسدي ليس سلعة.

ـ لا، أنت لست حرة في نفسك ووالداك لهما سلطة عليك وسيظلان إلى أن تنتقلي إلى بيت زوجك وسلطة زوجك.

أتريدين أن تسيري عكس التيار كل البنات يتزوجن حسب اختيار العائلة.

ـ لا أريد الزواج بهذا المفهوم. ألا يوجد أحدا يفهمني؟

جلست غالية على السرير تبكي نادبة حظها، ترثي نفسها وغياب حقيقة إثمها المزعوم في صمت. ليته لم يأت إلى المغرب. ليتني لم ألتق به. ليتني لم أرجع من أمريكا إلى المغرب.

طرقت الخادمة الباب وقالت: إن العائلة تنتظركما في السيارة.

طوال الطريق كان الأب يروي الشعر لنبيل وأحيانا ينتقل إلى النقاش في السياسة والعمة صفية تنظر في صمت إلى الطبيعة من خلال نافدة السيارة والأم تتابع الحديث الذي يجري بين زوجها ونبيل، أما غالية فلم تكن لها رغبة في الحديث مع أحد، ظلت صامتة إلى أن توقفت السيارة أمام المنزل. أكوام من الزهور تتمايل مع النسيم مرحبة بالضيف وضوء الشمس مترع بالبهجة. توجه الجميع إلى الصالون، أما غالية فهرولت إلى غرفتها والخوف يغزو داخلها، يبلعها. لن أنحني لرغباتهم، لن أرضى الهوان، غريبة بين أهلي لا أحد يفهمني، وحدتي وقلبي جريح يبكي وليس هناك من يسمعه. مازالت تناجي وحدتها الحبيسة بين جدران غرفتها الأربعة حتى دخلت عليها عمتها مبتسمة:

ـ اليوم سنتعشى كلنا حول مائدة واحدة مع الدكتور نبيل احتفالا بخطبتكما.

ـ حتى أنت يا عمتي.

ـ ألست فرحانة يا غالية؟

ـ هل هناك شيء يستدعي الفرح؟

ـ ماذا تريدين؟ رفضت عادل ابن الشنقيطي ورفضت عماد ابن المستشار السعداوي وترفضين أيضا الدكتور نبيل.

انفجرت غالية تبكي، ضمتها العمة إلى صدرها وقالت:

_ حياتك أغلى عندي من كل شيء حتى ولو بقيت بلا زواج.

ـ ساعديني من فضلك يا عمتي ماذا أفعل؟

ـ ليس عندك أي حل سوى مصارحة الدكتور نبيل. لكن إلى متى ستظلين رافضة كل من يتقدم إليك؟

دخلت الأم بزيها السوداني ورائحة الصندل تنبعث من ثوبها والفرح على وجهها، متجاهلة حزن غالية وتجهم العمة صفية وقالت:

_ هيا بسرعة فنحن ننتظركما للعشاء.

صوت الطرب السوداني ينبعث من الصالون وحوار الأب سلطان وضيفه يتطاير في تناسق مع صوت الموسيقى وعبادي يدندن ويصب الشاي وسلمى تبتسم في فرح. دخلت غالية والعمة صفية وبدرية إلى الصالون. جلست غالية بالقرب من أختها غير مبالية بالحديث الذي يجري حولها جامدة وكأنها صخر لا نبض فيه ولا خلجات، متلفعة بالصمت تبحر في زورق أسلوب أهلها الأناني والمفتعل، أفكارها تتقاطع مع مسارات ثرثرتهم، تمنت أن تغلق باب سرها الذي تدخل منه الرغبة الجامحة للهروب أو الانتحار. أما نبيل فكان ينظر إليها بإعجاب وحب ويخبر والديها كيف تعرف عليها في طرابلس ويمدح سلوكها المتميز وأخلاقها الحميدة والأب يصغي إليه باستمتاع ، شردت محاولة فك لغز الحيرة وهي بينهم كالأصم مرتدية ذاتها القلقة في ضجر إلى أن انتهت السهرة العائلية وذهب الكل إلى مضجعه.

في صباح اليوم التالي، كان الطقس جميلا وأشعة الشمس الصباحية تتراقص بغنج في كل ركن من أركان المنزل، انتهزت غالية الفرصة لتخرج إلى الشاطئ، ساورتها الرغبة للسباحة فما أن لمست قدماها الماء حتى حملتها أجنحة الأمواج إلى قاع البحر، أحست بالرغبة في إغلاق نفق الحزن إلى الأبد وأن تنام بين سهول ذلك البحر بعيدة عن صخب كابوس سرها. اجتمع كل من في البيت حول مائدة الفطور، انتبهت الأم غياب غالية، شعرت بقشعريرة وتغير لون وجهها، وقفت بسرعة كالملسوع خائفة: أين غالية؟

أجاب الأب:

_ حتما على الشاطئ.

التفتت الأم إلى سلمى وقالت:

_ لماذا لم ترافقيها؟

قالت سلمى:

_ استيقظت فلم أجدها.

إجابة سلمى زادت من توترها، وقف عبادي مبتسما وقال موجها كلامه لأمه:

_ سأذهب إلى الشاطئ وأحضر غالية.

انطلق عبادي كالبرق إلى البحر ولحق بأخته التي كانت تتعلق بحبال متدلية من السماء، قطعها صوته مناديا:

_ غالية هيا الكل ينتظرك للفطور.

رجعت غالية إلى البيت في بكاء صامت، استقبلتها الأم أمام الباب متلهفة ترتعش من الخوف، قالت بعد أن تنفست الصعداء: أين كنت كلنا ننتظرك هيا ادخلي بسرعة.

اقتربت غالية من أمها وقالت:

_ ما رأيك أن أتكلم مع نبيل على انفراد؟

قالت الأم:

_ لا بأس فإنه أصبح خطيبك.

ـ هل يمكن أن أذهب معه إلى المقهى فهي لا تبعد عن المنزل؟

ـ لكن شرط أن يرافقك أخوك عبادي.

ـ ألا يمكن أن تذهب معي سلمى؟

ـ أخوك الذي يجب أن يرافقك.

تناول الجميع الفطور في هدوء مفتعل، حرقة بداخلها أبت الانطفاء، تتحدث مع نفسها كمن فقد عقله. " هل أحتاج إلى حارس يخرج معي لمراقبتي؟ ألم أكن أسكن معه في منزله وكانوا يعرفون ذلك؟ لم يكن معي رقيب ولا حارس. لماذا الآن يفرض عليّ، ما هذا التناقض؟ في ليبيا معه في منزله. وحدي ... لا مانع. وهنا معه في المقهى على بعد أمتار ممنوع بدون حراسة ... آه ... كان عبادي متوترا لأسلوب أخته الغامض، خائفا أن تقدم على تصرف أخرق كالذي فعلته سابقا. استحسن رغبة غالية للتحدث إلى خطيبها، فطلب من أبيه أن يأذن له بالخروج مع نبيل وغالية إلى المدينة. خرج الثلاثة مترجلين إلى المدينة. طوال الطريق كان عبادي يتحدث إلى نبيل عن مدينة السعيدية وعن أصدقائه الذين يحبون السباحة مثله ومغامراته معهم في قاع البحر، وكيف يصارع الأمواج حتى ولو كان البحر هائجا ونبيل يستمع إليه، أحيانا يضحك عاليا وبين الفينة والأخرى يسترق النظر إلى غالية وهي تمشي في صمت ورأسها مليء بالعواصف. توقف عبادي أمام مقهى رولكس، التفت إلى نبيل وهو يبتسم:

_ في هذه المقهى أجلس مع أصدقائي وندرس كيف نسبح مسافات أطول في البحر المتوسط. ما رأيك أن نجلس هنا؟

قال نبيل وهو ينظر إلى غالية:

_ ليس عندي مانع.

المقهى في ذلك الصباح يعج كباقي المقاهي بالزبائن، طلب عبادي عصير الليمون، ثم استأذنهم في الانصراف كي يتحدثا على انفراد. فتحت غالية فمها متعجبة من تصرف أخيها المتحضر الذي لم تألفه منه. تابعت خطواته بابتسامة حتى غادر المقهى ثم التفتت إلى نبيل ومن غير مقدمات قالت: كيف سولت لك نفسك أن ... قاطعها بسرعة قبل أن تكمل حديثها وقال:

_ رأيت مناما الليلة التي اتصلت بي أختك سلمى. كنت مسجونة في غرفة صغيرة. بالقرب منك يقف سجان طويل القامة، عريض المنكبين وأنت تبكين وتصرخين. نبيل! نبيل! كنت مكبلة بسلاسل من حديد. سمعت نداءك وجئت محلقا في السماء على شكل طائر كبير. أمسكتك بمخالبي ثم طرت بك عاليا في الفضاء. كان السجان يحاول الإمساك بك لكنه لم ينجح ... تأكدت بعدها أنك فعلا في ورطة وتحتاجين مساعدتي والأغرب من ذلك شردت أفكر في الحلم، فإذا بي أسمع جرس الهاتف. كانت أختك سلمى. أخبرتني بأنك نجحت بامتياز لكنك راقدة في المستشفى. كان صوتها حزينا، انقطعت المكالمة ولم أستطع بعدها أن أعرف منها التفاصيل وبعد أسبوع وصلتني منها رسالة مطولة تشرح لي فيها وضعك منذ وصولك إلى المغرب حتى محاولتك الانتحار. كنت أعتقد أنني أستطيع الجلوس معك والتحدث إليك لإيجاد حل لمشكلتك بالتعاون مع والديك، لكن أهلك متزمتون جدا إلى درجة غير معقولة. وجدت نفسي عاجزا عن مفاتحة أبيك في موضوع دراستك في الخارج لأن كل أنواع الدراسة موجودة في المغرب وليس هناك أي عذر قد أعطيه له لكي يسمح لك بالسفر.

ارتعشت غالية كريشة في مهب رياح عاتية وقالت:

_ لذلك فكرت أن الحل في طلب الزواج مني!!

ـ والدك عنيد ومتشدد لا يحب الجدال في شيء لا يروقه، فلم يكن هناك حل إلا أن أطلب يدك منه ذلك هو الحل الوحيد والأخير الذي يمكنك من أن تسافري من دون غضب أهلك عليك.

ـ الحل الوحيد! هل تريدني أن أتزوج بك لأجل أن أشتري حريتي من أهلي ثم أقع في سجنك وهل يختلف وضعي عندئذ من سجن إلى سجن. كيف تفكر بهذا الأسلوب؟!

ـ هل عندك حل آخر؟

ـ وماذا عن زوجتك وأولادك وأنت تعرف أنني ضد تعدد الزوجات.

- سأشتري لك شقة في أمريكا بعيدة عن زوجتي وعن السودان.

- لقد أسأت فهمي. المشكلة ليست في الموقع الجغرافي. لا أريد أن يشاركني فيك أحد ولا أريد أن أشارك أحدا فيك كما أنني لا أريد أن أبني حياتي على أنقاض حياة الآخرين. لكن، لماذا تريد أن تساعدني؟ هل سافرت من أقصى شمال شرق المغرب الكبير إلى أقصى شمال غربه لمساعدتي حقا بدون مقابل.

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنني أحبك وأحبّ كل شيء فيك.

ـ لكن، أنا لا أفكر في الزواج وإن فكرت فيه، لن أقبله بهذه الطريقة.

ـ أية طريقة؟

ـ لن أتزوج بك طمعا في مساعدتك.

ـ ماذا يهمك في ذلك؟ لن تسكني حيث يسكنون ولن يصلك أحد منهم. هم يعيشون في السودان وأنت ستعيشين في نيويورك وهناك تتابعين دراستك. ماذا تريدين أكثر من هذا؟

ـ أي فتاة بوضعي قد تحلم بهذه الفرصة لكن لست أنا التي ستدخل على زوجة ضحت مع زوجها وأنجبت له أطفالا وعاشت معه الحلو والمر من الحياة. أشكرك من أعماق قلبي لكنني أرفض هذا العرض لأنني أعتبره صفقة مناقضة لضميري ولأخلاقي. صحيح كنت أعلق آمالا كبيرة عليك وكنت أعتقد أنك تستطيع مساعدتي وتستطيع أن تنقذني من الجحيم الذي أعيش فيه. لكن ما حصل لن يغير رأيي فيك ولن يؤثر في المحبة التي أكنها لك في قلبي. فأنت ساعدتني في بلاد الغربة وجئت طائرا إلى المغرب كي تساعدني بطريقتك لكنني أنا حرة في رفضها.

كان نبيل ينظر إليها بعينين دامعتين وقال: فما العمل إذا؟

ـ العمل ليس بيدك ولا بيدي. سأترك أمري لله. وأطلب منه أن يسامحني إن قمت بذنب لست سببه.

ـ ماذا تقصدين؟

اغرورقت عيناها بالدموع وارتعدت فرائصها، نظرت إليه بعينين حزينتين يائستين وقالت:

_ لم يعد يهمني شيئ.

انتابه ذعر شديد فتجمد في مكانه دون حراك. مسحت دموعها ونظرت إليه بعينين يملؤهما اليأس وقالت:

ـ أنا لست متشائمة ولكن سئمت ممن لا يفهمني. انس الموضوع وحاول أن تستمتع في الأسبوع الأخير الذي تبقى من عطلتك، إن عبادي لن يبخل عليك أبدا، سيأخذك إلى كل ركن جميل في المدينة.

ـ دعيني أساعدك أرجوك.

ـ كيف ستساعدني.

ـ أنا لن أفعل شيئا أنت لا ترضينه وسأظل صديقا وأخا لك إلى الأبد. عندما تنتهي مراسم الخطوبة سآخذك معي إلى ليبيا ومن هناك نجد حلا لمتابعة دراستك في أمريكا.

ـ لا أعرف ماذا سأقول لك و لا كيف أرد لك هذا الجميل. إلا أنني لا أفكر في الزواج وإن كنت أفكر فيه وكنت أنت رجلا غير متزوج وكنت أنا … لما ترددت في القبول بك شريكا لحياتي.

ـ هل هذا لغز يا غالية؟ إن كنت ماذا؟

ـ سيأتي يوم وسأفتح لك قلبي المكبل بسلاسل من حديد لكي لا يٌحِبَّ أو يحبّ ولا يفكر في الزواج إلى الأبد.

ـ لماذا تحرمين نفسك من متعة حللها الله في شريعته و ... و ...؟ في تلك اللحظة أقبل عبادي بصخبه وضجيجه:

_ تأخرت عليكما أليس كذلك؟ ما رأيك يا دكتور أن نذهب إلى مركز المدينة؟

قال نبيل مبتسما:

_ ليس عندي مانع لكن الأهل ينتظروننا للغداء.

ابتسمت الحياة مرة أخرى لغالية، دخلت مع أخيها ونبيل إلى البيت فرحة مسرورة. هرولت إلى المطبخ، وجدت عمتها منهكة كالعادة في تهيئة الطعام:

ـ عمتي، هل تريدين مساعدة؟

قالت العمة مستغربة:

_ متى كنت تساعدين عمتك يا شقية فأنت لا تحسنين الطبخ ولا شؤون البيت.

ـ أريد أن أتعلم يا عمتي، أعيب أن يتعلم الإنسان؟

ـ لا، ليس عيبا. هذا شيء جميل لكن كل شيء جاهز. لكن إن أردت مساعدتي فهناك الطناجر والكؤوس يمكنك أن تغسليها.

ـ قالت الخادمة: لقد نظفت كل ما في المطبخ يا سيدتي.

قالت العمة:

_ يمكن أن تهيئ غالية الشاي.

أجابت الخادمة:

_ قد هيأته كذلك.

دخلت الأم إلى المطبخ وقالت مخاطبة العمة: ما هذا الحماس الذي نزل فجأة على غالية؟

قالت العمة: إنها تريد أن تتعلم الطبخ.

قالت الأم: لا أظن أنها دخلَت المطبخ لأجل أن تعلميها ولكنها تحمل خبرا تريد أن تعلمك به بحجة المساعدة.

قالت كلامها ذاك وهي تضحك ثم غادرت المطبخ مسرورة لسرور ابنتها أما العمة صفية، فقد أمسكت بيد غالية وقالت لها:

_ أخبريني عن سبب اهتمامك المفاجئ بالطبخ.

اقتربت غالية من عمتها وهمست:

_ نبيل وعدني بأن لا يتخلى عني، سيساعدني ويحقق حلمي.

ـ ألم أقل لك يا ابنتي إن الله سيكون معك؟

دخلت سلمى إلى المطبخ فرأت عمتها وأختها يتحدثان بصوت منخفض والفرح يظهر على وجهيهما وقالت:

_ هل لي أن أفرح معكما؟

قالت غالية:

_ لقد فٌرِجت يا سلمى إن نبيل سيساعدني. لقد وعدني بذلك.

ـ ألم أقل لك بأن نبيل لن يتخلى عنك؟ الحمد لله، لقد نفعت الرسائل.

قالت غالية مستفهمة:

_ أية رسائل؟

أجابت سلمى:

_ كنت أكتب له كل صباح رسالة أخبره فيها عن كل الأحداث التي تعيشينها كل يوم والتي تعكر صفوك.

ـ ماذا قلت؟ تكتبين له رسائل! كيف؟ ومتى؟

ـ أما عن متى، فمن اليوم الذي جاء فيه عندنا. وأما عن كيف فذاك تكتيكي الخاص.

قالت غالية وهي تضحك: مثل التكتيك الذي قمت به في المستشفى.

ضحكت العمة وتبعتها سلمى وعلا الضحك في المطبخ. سمع الأب صوتهن عاليا، فبدأ يسعل كعلامة أن يخفضن أصواتهن. لاحظت الأم فرح ابنتها منذ رجوعها من الفسحة مع نبيل، فتيقنت من قبول غالية الزواج منه. أسرعت لإخبار زوجها.

رجعت العائلة إلى فاس لتهيئ حفلة الخطوبة وحضرت العنود من موريتانيا تاركة أولادها مع أبيهم والخادمة لكي تحضر فرح أختها الحبيبة جدا عليها وتستمتع بانفجار ذلك السر الخطير الذي لطالما تاقت ليوم موعده. فرح الوالدان بقدوم ابنتهما الكبرى لتفرح لفرح أختها. لم تمر أربع وعشرون ساعة حتى كانت كل ترتيبات الفرح جاهزة ولم تبق إلا ساعات معدودة لحضور المدعوين. في الساعة السادسة مساء أصبح البيت يعج بالناس وصوت المطربة الموريتانية المشهورة محجوبة بنت الميداح يٌسمع في كل أرجاء البيت وخارجه. أحضر عبادي غالية من عند الكوافير، وبمجرد أن دخلت إلى البيت حتى علت الزغاريد. أجلستها أمها بجانب خطيبها على الأريكة المزينة بالورود. عيون الحاضرات تترصدها من كل الاتجاهات، يتلألأن في كبرياء، يتمايلن بين موجات الإيقاع، ونبيل ممسك بيدها وابتسامة دافئة تطوق سحنة وجهه. شردت غالية مع المطربة وسافر عقلها إلى بيته في طرابلس، تبحث عن همسة أو نظرة أو لمسة صدرت منه فوجدت حبا صادقا، ركب الخطر بقلب رقيق وحس دافئ ليحملها فوق جواد الحرية. كانت العمة صفية واقفة تنظر من بعيد ابنة أخيها وتبتسم وسلمى وعبادي يرقصان والعنود تحدّق في غالية ونبيل هذا الذي سيكون على يديه كشف ذلك السر الذي أمرتها بكتمانه. وقف الأب وسط ذلك الحشد الغفير يرتجل أبياتا من مدح في خطيب ابنته والمطربة محجوبة بنت الميداح ترددها بصوت عذب ولحن يطرب السمع وغالية تستعيد تفاصيل طفولتها وأحيانا تنظر إلى أختها من أبيها بطرف العين، آسف لك أنك جئت من بعيد لتعيشي فضيحة سري ، لكن ذلك لن يحصل، نبيل أصبح خطيبي وسيأخذني معه.

في صباح اليوم التالي، اجتمعت كل العائلة حول مائدة واحدة مع الخطيب الذي أصبح واحدا من أفراد ها. كانت غالية مليئة بالفرح جالسة بجانب سلمى والعمة صفية والآن بعد الخطوبة لم يعد سوى أن تستعد للسفر مع خطيبها، كانت تطير في فضاء حلم جميل ذلك الصباح إلى أن تبدد مع صوت أبيها الذي قال موجها كلامه إلى نبيل:

_ يا دكتور، لم يبق إلا أيام معدودة على سفرك، لذلك فضلت أن أناقش معك موضوع العرس وكتب الكتاب قبل أن تسافر معك ابنتي.

نظر نبيل إلى غالية بهدوء ثم حول نظره بسرعة.أما هي فكلام أبيها نزل عليها كالصاعقة. أمسكت بيد أختها وضغطت عليها بكل قوة، صاعقة حلت بها في ذلك الصباح المشرق الذي أصبح يرتدي حزنا خفيا وتقمعه لعنة السر الذي اعتقدت أنه زال مع خطوبتها وسيزول كليا بعدما تسافر.

قال نبيل ووجهه متشح بالحزن للورطة التي وقع فيها:

_ غالية تريد إنهاء الدراسة قبل الزواج.

قال الأب بجدية:

_ لن أسمح لبنتي أن تخطو خطوة واحدة معك دون عقد شرعي.

قالت الأم:

_ لابد من حفلة عرس كبيرة، إن غالية ابنتي البكر وأريد أن أفرح بها.

كانت غالية تهتز خوفا وتتصبب عرقا لما تسمعه من ذلك التضارب في الآراء وقلبها يخفق بشدة، خائفة من شيء لا تعرفه ولا تريد أن تعرفه. إن ذلك الشيء سيحصل قريبا وسيكون وقعه وخيما.

قال الأب موجها كلامه للأم:

_ أنا لا أتكلم عن العرس ولا أريد عرسا بقدر ما أريد الاطمئنان على ابنتي.

قال نبيل:

_ يا دكتور سلطان، ابنتك في أيد أمينة وكانت تسكن في بيتي قبل أن أتعرف عليكم.

أجابه الأب:

_ لقد ذهب تفكيرك بعيدا يا دكتور. إن كنت أثق بابنتي فهذا لا يعني أنني أثق بالمجتمع الذي ستتواجد فيه غالية. إن شرف البنت أغلى شيء ولا أريد أن تفقده لأي سبب من الأسباب.

قال نبيل:

_ إن ابنتك شريفة بأخلاقها وسلوكها وسافرت لوحدها، لم يكن معها رقيب إلا ضميرها فهي كفيلة بالحفاظ على شرفها ولا تحتاج لزوج كي يساعدها أو يرغمها على الحفاظ عليه.

قال الأب بحزم: شرطي الوحيد والأخير، إجراء العقد.

قالت الأم: لابد من كتب الكتاب والدخلة فنحن لا نريد أن تتقول الناس علينا.

قال نبيل موجها كلامه إلى الأم: أليس عندك ثقة بابنتك؟

أجابت الأم: بلى، لكن كلام الناس يكوي يا دكتور وابنتنا كما قلت، جالت وسافرت فلابد أن تثبت لهم بأنه رغم سفرها فإن شرفها نقي كالماس.

قال نبيل وهو يمسح العرق من جبينه في توتر: عشت وحيدا في ليبيا سنين طويلة وصادفت فتيات ونساء كثيرات بحكم وظيفتي وعرفني القدر بابنتكم التي غيرت نظرتي في النساء. إنها المثل الأعلى في الأخلاق.

قال عبادي الذي شعر بالغيرة من سماع كثرة المدح الموجه لأخته:

_ البنت عار ولو كانت من تكون ...

لم يرد نبيل أن ينتقد عبادي لكي لا يعقد الأمور أكثر مما هي عليه. نظر إلى سلطان وقال:

ـ صادفت فتيات كثيرات، سنحت لهن الفرصة للسفر إلى الخارج وكان هدفهن الوحيد هو الحصول على المال بأي طريقة كانت، لكن ابنتك غالية كانت على عكس ذلك، هدفها الوحيد هو الدراسة والحصول على درجة عالية من العلم. أحب ابنتك وهي تبادلني نفس الشعور كما أثق بها كل الثقة لذلك أردت أن تبدأ علاقتنا على التفاهم والصراحة والاحترام فهي تريد إتمام الدراسة قبل الزواج وأنا أحترم رغبتها.

لم يستطع الأب أن يخفي الغضب الذي يظهر على سحنة وجهه وقال بإلحاح:

ـ اسمع يا دكتور إن الشرف مقدس عندنا وأيضا هو شرف العائلة لذلك لابد أن تكتب كتابك على ابنتي قبل سفركما.

شعر نبيل بأن شيئا ما ثقيلا يجثم على صدره، كابوس مزعج، كان يظن أن مشكلة غالية ستنتهي مع الخطوبة ولكن ما يبدو أنها زادت تعقيدا وأن غالية لا محال ستقوم بفعل شيء لا تحمد عقباه، لا يعرف كيف يرضي غالية وعائلتها. قال وقد ملأ فمه شعورا بالمرارة: ابنتك لا تحتاج إلى عقد زواج لكي تحافظ على شرفها. إن ذلك الشرف الذي تتحدث عنه لا يراه المرء إلا مرة واحدة بليلة الدخلة، لكن بعد ذلك لن يبق للمرأة إلا شرف واحد وهو الشرف الحقيقي، شرف الضمير.

قالت الأم بصوت جاف: إن زوجي معه الحق في كل ما قال. لا بد من كتب الكتاب والدخلة وبعدها تسافر معك.

شعر نبيل بالاختناق جحظ عينيه وكأن أحدا يضغط على عنقه، قال وهو يفتح زر القميص:

ـ أنا موافق. لكن، يجب أن ننهي كل الإجراءات بسرعة، لأنه لم يبق على موعد سفري إلا ثلاثة أيام.

قال الأب: غدا سنكتب الكتاب وفي نفس الليلة تكون الدخلة.

قالت بدرية ووجهها مقطب: وماذا عن الحفل؟

قال نبيل أفضل أن نقوم بحفل الزفاف عندما تتخرج غالية.

قال الأب: أنا موافق.

لم تفرح الأم بذلك الاقتراح، نهضت بعصبية من مكانها وغادرت الصالون لحقت بها العمة وغالية وسلمى والعنود.

وقفت الأم أمام باب المطبخ والتفتت إلى غالية وقالت:

_ نحن نريد حفلا يليق بك وبمركزنا.

قالت غالية مستغربة من تصرف أمها:

_ ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ كتب الكتاب سيكون غدا. ألا يكفي هذا؟

ـ أريد أن أفرح بك.

قالت العنود: نعم، نريد أن نفرح بغالية. فكم غالية عندنا؟

قالت الأم للعنود: أقنعي أباك فهو يحبك كثيرا ولا يرد لك طلبا.

ردت العنود فرحة مسرورة: اتركي هذا الأمر لي.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: كيف تفرحين بي؟ الحفل قد أقمناه، وأشهر مطربة بموريتانيا قد أحيت الحفل.

ـ أريد أن أفرح بليلة دخلتك وأرقص عليه.

ـ ترقصين على ماذا؟

ـ أرقص على الثوب الأبيض الذي سيكون علما يثبت للحاضرين وغير الحاضرين عفتك وطهارتك.

بلعت غالية ريقها، مشت بخطوات سريعة إلى غرفتها دون أن تعقب على كلام أمها.

ضحكت بدرية بصوت مرتفع ونظرت إلى العمة وإلى العنود وقالت: ابنتي خجولة جدا.

لم تتحمل سلمى منظر أختها المنهزم، لحقت بها فوجدتها جالسة على حافة السرير تبكي. جلست بجانبها تتألم لألمها.

- لماذا تبكين يا غالية؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟ إنها تريد الدخلة وتريد أن ترقص على الثوب الأبيض.

ـ وما الغريب في ذلك؟ فلترقص كما تشاء هذه عاداتنا وهل ستغيرينها أنت في ليلة واحدة؟!

ـ إنني لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟ لا أريد أن أتزوج! لا أريد أن أتزوج!

حدقت سلمى بأختها بعينين دامعتين مناجية روحها: آه يا شق نفسي وتوأم روحي تظنين أني لا أدرك سرك. كم أنت واهمة. أعلم أن عفتك وشرفك فوق الشبهات لكنني على يقين أنك تعانين من مشكلة تتعلق ببكارتك والله يا غاليتي لا ولن أشك بأخلاقك وشرفك. ليتك تبوحين لي أي حادث لعين أفقدك ذلك الغشاء اللعين الذي أشقاك وشرّدك. ليت والديّ يفهمان أن الشرف ليس منسوجا من ألياف ذلك الغشاء.

_ سلمى سلمى أين رحلت عني بأفكارك ؟

ـ ها ... ها .... أنا هنا ... أنا معك ...

بدأت غالية تجهش بالبكاء وسلمى تهدئ من روعها:

_ ألم تقولي بأن نبيل سيساعدك؟

ـ بلى، لقد قال ذلك لكن ألم تسمعي الحوار الذي جرى بينه وبين والدي؟ غدا سيكتبون الكتاب وتكون ليلة الدخلة!

ـ وما الغريب في ذلك؟ لماذا كل هذا الرعب والخوف من الزواج؟

ـ غدا سأذبح مثلما تذبح الدجاجة.

سلمى متجاهلة معرفتها السر: لماذا تقولين ذلك؟

ـ نبيل يعرف أنني لا أريد أن أتزوج ولن أقبله أبدا لأن له زوجة وأولاد. استغل الفرصة لكي يصل إلى ما يصبو إليه. لقد احتال عليّ يا سلمى ووصل إلى ما يريد. غدا سأكون في عصمته حلالا زلالا يتصرف في حياتي ويتحكم في مثلما يشاء. لقد أوهمني بأن الخطوبة منه ستكون نقطة الانطلاق إلى الحرية ومتابعة الدراسة في الخارج. صدقته ووافقت على الخوض معه في اللعبة من غير أن أفكر في نهايتها وها أنا وقعت في فخ ليس منه فرار. لا يمكنني أن أتراجع عن كلامي وأرفض الزواج منه بعدما وافقت.

قالت سلمى بخوف وألم: إن الزواج حلم كل فتاة. بل مصيرها المحتوم.

ـ لماذا احتال عليّ نبيل؟ ماذا فعلت له لكي يفعل في كل هذا؟

ـ للأسف لقد عشت مع نبيل فترة طويلة، لكنك لا تعرفينه جيدا. أو أن في عينيك غشاوة تجعلك لا تنظرين إلى الأمور بعقل ورزانة.

ـ أنت التي تنظر إلى الأمور بعقل ورزانة هل وجدت لي حيلة للتخلص من هذا المأزق؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:21 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 الفصل الثاني عشر الجزء 2

الفصل الثاني عشر الجزء 2

كان نبيل يجلس وحيدا في الصالون ملتفا بالحزن، مفاصله ترتعش ولون وجهه شاحب كلون المقبرة، هل ثمة مخرج لسفينتي التي أبحرت اتجاه العاصفة؟ ضباب يحجب عنه الرؤيا، يختلسه الشرود، يجرفه التيار إلى باب مسدود، يمد يده فلا يجد روحه. يستنجد فلا ير إلا أشباحا ممسوخة. يا إلهي أي عار جلبت لهذه العائلة وأي صورة قدّمتها لهم عن الرجل السوداني. لابد أن أجد حلا لهذه اللعبة وأريح ضميري من العذاب، لكن كيف سيكون ردّ العائلة يجب أن أسافر اليوم قبل الغد. لماذا أقحم نفسي في مشاكل غيري؟ لماذا جمعني القدر مع هذه المخلوقة المسكينة؟ لماذا مسكينة؟ لا ينقصها شيء، عائلتها ميسورة ويمكن أن تدرس في المغرب إن كانت فعلا تؤمن بالعلم وبتحصيله. ماذا سيقول الناس عنهم إن تركتها ولم أتزوج بها.

لم تذق غالية طعم النوم تلك الليلة. تمنت لو توقف قلبها عن الحركة لترتاح وتريح أهلها منها ومن شقائها وعصبيتها. لكن الموت أبى أن يأتي إليها تلك الليلة كما أبى الفجر أن ينجلي وأبت عيناها أن ترى النوم. وعندما غفت رأت في منامها أباها وأخاها ونبيل يجرون خلفها، كل بيده مدية كبيرة وهي تجري وتصرخ بصوت عال وهم يلاحقونها للنيل منها إلى أن تعثرت قدماها بحجر فوقعت على الأرض مغمى عليها. فتحت عينيها وقلبها يخفق بشدة وبسرعة وهي تلهث. مسحت العرق على جبينها، التفتت إلىأختها فوجدتها تغط بسلام في نوم عميق. موعد كتب الكتاب بعد ساعات معدودة. إنه موعد الامتحان الأعظم حيث تنجح فيه الفتاة ويبارك لها شرفها أو تقتل ويبصق على قبرها. كانت تستلقي على ظهرها، شعرت بجسدها يرتعش وداهمها خوف هائل، الجدران صامتة، السقف سماء ملبدة بالغيوم. التفتت إلى سلمى، ما زالت تنام في هدوء، أومأت برأسها صوبها وقالت بصوت يقترب من الابتهال الخافت: وداعا يا أعز أخت في العالم ... وداعا يا من كنت الصديقة الوفية والأخت الحنونة. إلى أن نلتقي في ذلك العالم الآخر. سأكون في انتظارك. إن اتهموني فلا تكوني معهم وإن قتلوني فلا تؤيديهم. وإن سبوني فكوني ضدهم لأن أختك ملاك طاهر. فجأة قرفصت فوق السرير، حولت عينها إلى الأرض، أطرقت رأسها وبدأت تحركه يمنة ويسرة وأفكارها كثيرة متزاحمة تتضارب محدثة لها ألما شديدا في رأسها. هل أهرب؟ لا، لا مستحيل! هل أنتحر؟ ستكون فضيحة لأهلي وعار يلتصق بهم إلى الأبد. يا إلهي كيف الخلاص؟ بدأت تبكي وتنوح. أيها الموت الهلامي! لماذا لا تأتي وتريحيني من هذا العالم؟ أين أنت أيها الموت؟ تعال وامسك بروحي. خذها بعيدا عن هذا العالم المعتم بالجهل. بحق رافع السماء خذ روحي من هذا الجسم الذي يفتقد عذريتي .... شرف عائلتي وأهلي.. توقفت عن الكلام وبدأت تتنفس بهدوء منتظرة منيّتها أن ترحب بها لكنها فوجئت بالأسى، لا أحد يفهمها، حتى الموت. ارتفع نحيبها فاستيقظت أختها من النوم وما زالت تحت سطوة نعاسها قالت وهي تفرك عينيها:

_ غالية! ما بك يا أختي؟

ـ لاشيء، لا شيء. إنني أسعد إنسان في هذا الوجود. لقد نمت جيدا هذه الليلة وعشت أحلاما جميلة وحلوة كحلم أية فتاة في ليلة زفافها.

ـ إنك تبكين، ماذا بك؟

ـ قلت لك لاشيء. أنا لا أبكي. إن الله واحد والحياة واحدة والموت واحد.

ـ أعوذ بالله من تشاؤمك حتى في ليلة عرسك!!

نهضت سلمى متثاقلة تتثاءب ثم ذهبت إلى الحمام. أما غالية فظلت مكانها ترتجف وترتعد من غير حول ولا قوة، عانت طوال حياتها من الخوف والرعب من تلك الليلة التي تفرح بها كل عروس وتفخر بها كل عائلة. تلك الليلة التي تعتبر ليلة العمر بالنسبة للفتاة، ليلة تثْبِتٌ فيها شرفها ويوضع على صينية من فضة ويرفع به عاليا كما يرفع العلم وتجول به النساء في كل شوارع المدينة هاتفة بصوت عال: ها هو صْبَاحْ، شٌفٌوهْ يا النَّاسْ، شٌفٌوهْ يا صْحابْ وٌ فْرْحو وْ شٌفوه يا لْعْدْيانْ وْ سْكْتو..." رعشة سرت في جسدها، أطبقت جفونها قليلا كما لو أنها تسترجع صورة من الذاكرة، لماذا أنا خائفة؟ أمن الموت؟ فأنا أطلبه! لماذا أحزن إذا؟ لم يعد يهمني شيئ في هذه الحياة. لماذا أطول على نفسي العذاب مادامت نهايته ستكون الليلة و أنتهي من هذا العناء الذي عانيته طوال حياتي ... عانيت ما فيه الكفاية... آن موعد نهاية كل هذه الآلام، آمنت بالله وكنت طاهرة نقية لم تغوني المظاهر ولم أنزلق في الشهوات فيكفيني هذا الشرف، لأنه هو الشرف الحقيقي وليس غشاء البكارة. رجعت سلمى من الحمام، فقالت لها غالية وهي تبتسم: صباح الخير يا أروع وأجمل أخت.

أجابت سلمى مستغربة مستفهمة: صباح الخير. هل أنا في حلم أو في يقظة؟

ـ لماذا؟

ـ لا شيء، أتساءل هل جنّي يسكنك من حين إلى آخر، كل لحظة في مزاج مختلف!

ـ ليس هناك شيئا أكثر رعبا ووحشية في هذه الدنيا من الإنسان.

هزت سلمى برأسها وقالت: لا أريد أن أفطر على هذه التخيلات تعبت منها. هل ستسافرين مع نبيل أم ستلحقين به؟

ـ سأسافر وحدي ولن أصحب معي نبيلا، سأسافر من غير حقيبة ومن غير جواز سفر. هكذا سفر خاص جدا يليق بغالية.

اصفر وجه سلمى، وتجمد الدم في عروقها. أيقنت أن أختها تفكر في الانتحار، أمسكت ذراعيها بقوة ثم قالت: هل …

أجابت غالية بسرعة: لا، لا، لا تخافي، لن أنتحر.

طرقت الخادمة باب الغرفة وقالت: تقول لكما السيدة بدرية، الفطور جاهز.

دخلت غالية وأختها إلى الصالون وقالتا بصوت واحد:

_ صباح الخير.

نظر الأب إلى غالية وهو يبتسم قائلا:

_ العروس تستيقظ باكرا.

قالت الأم وابتسامة عريضة على شفتيها: العروس لا تنام إطلاقا من شدة الفرح.

نظرت غالية إلى الجميع وهي تبتسم، قذفت العنود بنظرة متعالية. التفتت إلى عمتها وابتسمت ثم قالت: هل من مكان قربك؟

قالت العمة فرحة: الآن أصبح مكانك بجانب خطيبك يا غالية.

ردت غالية بدون خجل وبدون أن تلتفت إلى أحد هذه المرة، مبتسمة لعمتها بعينين مليئتين بالدموع، مسحتهما بسرعة وقالت:

ـ الأيام بيني وبين عريسي طويلة جدا. لكن جلوسي بجانبك سيكون للمرة الأخيرة يا عمتي الحبيبة.

قال عبادي: هل ستفارقين الحياة؟ أنت فقط ستنتقلين إلى بيتك عند زوجك وستزوريننا كلما سنحت لك الفرصة.

لم يبق على كتب الكتاب إلا سويعات ولم تعد ليلة الدخلة كابوسا يهددها فموعدها قد صار قريبا، وبعدها سترتاح راحة أبدية، لا يهمها من سيقتلها لمحو العار، المهم أن لا تقتل هي نفسها وتخسر الآخرة مثلما خسرت الدنيا وعاشت فيها حياة مليئة بالحزن والخوف. كان الأب ونبيل يناقشان تفاصيل الحفل الذي سيقام الليلة أما غالية فكانت تجول بعينيها حول كل فرد من أفراد عائلتها تودعهم في صمت: وداعا يا أهلي ويا أحبائي، سأفارقكم غصبا، لأنكم أنتم الذين ستزهقون روحي عندما تكتشفون أنني فقدت غشاء بكارتي. لكنني لن ألومكم فأنتم كذلك ضحية المجتمع مثلي. كانت تحس وكأن روحها بدأت تفارق جسمها من تلك اللحظة أو ربما فارقتها فعلا. في تلك اللحظة كان أبوها يهمس إلى أمها: انظري إلى ابنتك كم هي سعيدة، إنها فعلا في قمة السعادة. وضع نبيل نظارته السوداء على عينيه، ينظر إلى غالية متأملا إياها وكأنه يعرف بعض ما يجول في خاطرها. اغرورقت عيناه بالدموع واختنقت أنفاسه فوقف من مكانه، مستأذنا بالانصراف.

نظر إليه الأب وقال:

_ إلى أين أنت ذاهب يا دكتور؟ إنك لم تكمل فطورك.

قال نبيل:

_ أريد أن أشتري خواتم العرس إن الوقت يداهمنا بسرعة.

قالت الأم:

_ من غير أن تختار غالية هديتها بنفسها.

قال نبيل:

_ لقد اخترت هدية غالية مع أختها سلمى لتكون مفاجأة لها وللجميع.

نظر الأب إلى سلمى وقال:

_ مرة أخرى يا سلمى تخرجين من غير إذني!

قفزت سلمى من مكانها خائفة من ردة فعل أبيها وقالت مرتبكة:

_ أبي … فقط … إنني لم أفعل شيئا… أنا فقط

قاطعها بابتسامة متحفظة وقال:

_ هذه المرة سماح، لكن المرة الثالثة ستكون عاقبتها وخيمة.

ودع نبيل العائلة واختفى كالبرق. كان يمشى كالتائه بين أزقة مدينة فاس القديمة المكتظة بالسكان إلى أن وصل إلى شارع رئيسي، أوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يقود السيارة.

قال السائق مستغربا:

_ إلى أين سيدي؟

قال نبيل بعصبية:

_ إلى أن أقول لك توقف.

انطلقت السيارة بين شوارع مدينة فاس الصاخبة ونبيل يختفي تحت أنفاسه تائها في ورطته كأعمى منحوس مكتمل العينين يمشي صوب ريح عاتية والرمال تجرجره، تلتهمه وهو يحاول جاهدا أن يتمسك بالوهم عله يسكت صوت الجراح. لكن العاصفة كانت أقوى منه غضبا، قاومها بكل ما لديه من قوة إلى أن خارت قواه ولم يعد يستطيع الحراك. يزحف وعطشه مبتل بسراب الرغبة والشوق، يئن لغياب غالية رغم حضورها ويبكي لسفينته التي عبرت البحار آملة أن تحط ترحالها على شاطئ الأمان، لكن الأمواج العالية أبعدته عن أحضان الشاطئ وابتلعته بعيدا عن الأحلام وتحقيق رغبة أصبحت كابوسا يتبعه حتى في يقظته. طلب من السائق التوقف، دفع له أجرته ثم نزل من السيارة كالمفلس يبحث في دفاتره القديمة ليستعيد ماض لن يعود. يمشي كالمكبل ويفكر كيف يفك الأغلال التي تثقل قدميه إلى أن توقف أمام فندق المرديان. دخل إلى حيث المسبح غارق في بعثرته يتأمل المياه الزرقاء ودموعه عطشى لا تحسن السباحة. طلب من النادل أن يحضر له القهوة، وضع كفيه على وجهه و بدأ يشهق بالبكاء كالنساء. أخرج بعصبية شديدة منديلا من جيبه ليمسح دموعه، يهمس في أذن السماء، يشكو لها روحه المضطربة التي ألقت به في ورطة لا قعر لها. يلعن تلك اللحظة التي تعرّف فيها على غالية وتورط في حبها. لم تسمح لأي مخلوق أن يحملها على صهوة رغبته ولم تضعف وراء أموالي التي عرضتها عليها. لم تغرها الشقة التي وعدتها بها في واشنطن ولم تضعف أمام غرائزها وكأنها ليست لها غرائز على الإطلاق. شرودها صمتها عذابها وابتسامتها الكاذبة تعذبني، تمزق قلبي وتؤنب ضميري. كيف أواسيها... كيف أحميها من نفسي ومن عائلتها؟ كلانا شارك في شقائها من غير وعي ولا إدراك. كلانا يريد الفوز بها من غير أن يضع اعتبارا لها.

أحضر النادل فنجان القهوة وعلبة الدخان وانصرف. مد يده المرتجفة إلى العلبة محاولا فتحها، أخرج سيجارة تكسرت في يده، أخرج ثانية وقعت على الأرض وأخرج ثالثة وضعها بين أصابعه المرتعشة محاولا إشعالها فأحرق إصبعه. نهض بعصبية وألقى بالعلبة على الأرض يسبّ ويشتم. غادر الفندق يمشي متبعثرا بين براثن الألم داخل زنزانة حزنه إلى أن توقف أمام أحد محلات الجواهر والذهب، اختار أسوارة وخاتمين دون أن يطلب من الجوهري أن ينقش عليها اسمه واسم حبيبته غالية ودفع له المبلغ من غير أن يجادله في الثمن. وضع العلبة في جيبه وأسرع إلى البيت كي لا يتأخر عن موعد الكتاب.

انطلقت الزغاريد تتراقص في فضاء بيت سلطان. رائحة البخور تخترق فضاء البيت الصاخب، تنتشر بهيبة في أرجاء البيت. الأم والعمة صفية ترتبان الغرفة في الدور الثالث الذي ستتم فيها عملية العبور الكبير وتهمس الزغاريد في أذن السماء متضرعة وهي على حافة القلق لتلك اللحظة الحاسمة حيث سترتدي فيها العائلة حلة الفرح أو لعنة أبدية. رتبت الخادمات البيت وزينته بباقات الزهور. كل شيء جاهز، الحلوى بشتى أنواعها والمشروبات على الموائد في الصالون الخاص بالرجال والآخر للنساء. رن جرس الباب وعلت الزغاريد مرة ثانية لقدوم المأذون الذي سيكتب العقد.

استحمت غالية ولبست فستانا من الحرير الأبيض يلف جسدها النحيل. أسدلت شعرها وراء ظهرها. طلب منها عبادي الحضور لكتابة العقد. دخلت إلى الصالون وجلست بجانب أبيها تتسلق خيوط الرعب ومن خلفها ذلك السر يلهث بأنفاس متجمدة معلنا انفجاره في أي لحظة بلا خوف بعدما كان مكبوتا وتخرج هي أيضا من دهاليز الوجع وتنتهي. صوت الموسيقى الصاخبة تطرق في أذنيها محدثة ألما حادا في رأسها، والنساء يزغردن ويرقصن في نشوة من الفرح. قال المأذون:

_ هل تقبلين هذا السيد المسمى نبيل خلف زوجا لك؟

نظرت إليه ثم حوّلت عينيها إلى أبيها. سكتت هنيهة فأعاد المأذون عليها السؤال. لابد أن أجيب، أن أقول تلك الكلمة. تلك التي إن قلتها متّ وإن لم أقلها متّ، سأقولها وأموت بطريقتي وليس بطريقتهم. نظرت إليهم وقالت: لا ...

وقف الأب من مكانه فاغراً فاه مستغربا، مصدوماً لجوابها الذي لم يكن يرتقبه وشرر الغضب يتطاير من عينيه.

ـ لماذا يا ابنتي؟

ـ لأنني أريد التخرّج أولا، بعدها أتزوج.

ـ لكن ما كان هذا رأيك.

ـ لم يكن قط رأيي يا أبي إنه رأيك أنت. أنت غصبتني على الموافقة.

نظر إليها المأذون وقال متدخلا: يا ابنتي طاعة الوالدين واجبة.

ـ أنا أطيع والدي يا سيدي، لكن كذلك مشورة الفتاة بأمر زواجها واجبة وإن كان كلامي هذا ليس صحيحا لماذا جئت ولماذا تسألني إن كانت موافقتي وعدمها سواء. إذا لا يهمّكم اتباع الشريعة كما هي فاكتبوا كتابي من غير مشورتي.

كان الأب يعيش كابوسا حقيقيا لم يستطع تصديقه، فما كان عليه إلا أن يشهر وعيده وتهديده كالعادة.

ـ ماذا سيقول علينا الناس؟ أتريدين جلب العار لنا؟

ـ لا يا أبي لا أريد إلا رضاك علي.

ـ أي رضا في تصرفك هذا. تصرف العاق الذي لا يراعي أهله ولا يخاف الله.

ـ لا يا أبي من فضلك أنا لست عاقة.

ـ ستوافقين على الزواج من نبيل وألا أسخط عليك.

تدخّل المأذون: الأمور لا تعالج بهذه الطريقة.

قال نبيل موجها كلامه للمأذون: أوافقك الرأي.

أشار الأب بسبابة يده اليمنى إلى المأذون وقال: اكتب عقد الزواج لا نريد الفضيحة.

علت الزغاريد والأم تصفق بيدها وعيناها دامعتان من شدة الفرح والعمة ترقص أمام ابنة أخيها تعبيرا عن الفرح. تقدمت إحدى الصديقات المقربات لأم العروس وأمسكت بيد العروس ورافقتها وعريسها إلى الدور الثالث والأم و العمة وسلمى والعنود خلفها يزغردن في تلك اللحظة. اختفت الابتسامة المصطنعة من وجه غالية وشحب وجهها وخفق قلبها بشدة وارتعدت فرائصها، تتلو القرآن وتصعد سلما واهيا ولا تسقط. تختبئ خلف الأنين وروحها تستعد لمعانقة السماء. أدخلتها النسوة إلى الغرفة مع زوجها ثم خرجن وأغلقن الباب. جلست على حافة السرير تضغط على ركبتيها بشدة لتمنعها من الارتعاش صامتة، جرداء الأحاسيس ودون روح. نظرت إليه كان جالسا على كرسي ويده على خده. انتبه إليها وارتبك. خفض بصره بسرعة وبدأ يحدق في أرض الغرفة. لم يصدق أهو في حلم أو كابوس، يحرك رجليه بشدة ويضغط على أصابعه بقوة محدثا طرطقات. وقفت في مكانها، اقتربت منه بخطوات هزيلة وقالت:
_ لماذا أنت حزين وكئيب أليس هذا ما كنت تصبو إليه؟ كنت فعلا ممثلا بارعا.
فتحت أزرار فستانها بيدين مرتعشتين وقطرات من الدموع متشحة بالحزن نزلت مضطربة على خديها، سقط الفستان من جسمها الذي بدا شبه عار لا يحجبه سوى اللباس الداخلي الأبيض الشفاف. فغر فاه شاردا في جسمها وفجأة وكأنه استيقظ من غيبوبة، أسرع إلى السرير أحضر اللحاف وغطى جسمها وحضنها بين ذراعيه. صمت رهيب ساد الغرفة قاطعه الطرق الشديد على الباب وصوت النساء يتأجج كالمد والجزر: يالْعْريسْ، سربي سربي اعطيه لينا سربي سربي سربي... أسرع أيها العريس ... وقدم لنا قطعة الثوب ... ثم هوين على الباب دقا وكأنهن يردن تحطيمه. تراجع نبيل خطوات إلى الوراء، مرعوبا وقال:
ـ ماذا يردن هؤلاء المجنونات؟ لماذا يطرقن الباب هكذا؟
أجابت وقواها خائرة، الكابوس الذي كان يراودها يشتعل مستعدا للاحتراق. بلعت ريقها وقالت وهي ترتجف:
ـ إنهن ينتظرن المنديل.
قال مفصحا عن عدم ارتياح: أي منديل؟
دموع كالسيل تنزف من عينيها، عضلات جسمها تتشنج، ودقات قلبها تزداد سرعة مع تلاحق الطرق على الباب. إنها لحظة كشف السر الخطير. قالت: منديل عليه…
خفضت عينيها ... ارتفعت أصواتهن مرة ثانية ... هوى الطرق يزلزل الباب في شغف ويدكّ روحها التي يمزقها نسيج هواء الغرفة المختنق... غريقة تحاول التعلق بقشة ووجهها مصفر يعلوه الهلع... تموج الأرض من تحتها ... صراخ وأصوات وزغاريد تدوي في براري الموت، وجسدها يتهاوى رويدا ويتراخى. كان نبيل يمشي في الغرفة بعصبية وينظر يمنة ويسرة وهي تتابع خطواته. لمحت عيناه إطار صورة على خزانة صغيرة بالقرب من السرير، صورة غالية وهي في سن السادسة ببذلتها المدرسية وحقيبة صغيرة بيدها. حمل الصورة، نظر إليها وابتسم ثم فجأة انقلبت ابتسامته إلى غضب. فك إطار الصورة، أمسك بقطعة الزجاج، كسرها، جلس على السرير بالقرب من غالية وأمسك بجزء من اللحاف الذي يغطي جسمها، مزقه ثم رفع كم قميصه وأحدث جرحا بذراعه. مسح الدم بذلك القماش وأسرع نحو الباب، فتحه بحذر ثم ألقى بتلك القطعة من القماش إليهن وأقفل الباب بسرعة وهو يتمتم بعصبية وغضب، المتعطشات المتلهفات لرؤية الدم ... الغبيات. أما هي فكانت تنظر إلى ذلك المشهد غير مصدقة ما تراه، حائرة من أمر ذلك الرجل. استلقى على السرير وحضنها بين ذراعيه في صمت. كانت تحت تخدير ذلك المشهد الخرافي ترتجف بين أحضانه إلى أن أغمضت عينيها وسط تلك الزغاريد وارتخى جسمها بعدما كان مشدودا وسكنت روحها التي كانت على وشك أن تزهق. ظل يفكر في المأزق الذي وقع فيه، محاولا إيجاد حل من غير أن يؤذي غالية وعائلتها. أفكاره تدور في حلقة مفرغة إلى أن سمع صوت أذان الفجر، سحب ذراعه ببطء كي لا يوقظها وتسلل إلى الحمام ليغسل قميصه من آثار الدم ووضع الإطار المكسر والصورة في حقيبة ملابسه. جلس على حافة السرير ينظر إليها ويبتسم. كانت تغط في نوم عميق وهادئ.

الحادية عشرة صباحا، صعدت الأم وفي يدها فطور خاص للعروسين. الأرز بالحليب ورغيف منغمس بالعسل والسمن. طرقت الباب. فتح لها نبيل.
ـ صباح الخير لقد جئت بالفطور.
أمسك منها صينية الفطور ووضعها على الخزانة الصغيرة التي بجانب السرير. ابتسمت الأم وانصرفت. جلس على حافة السرير ينظر إلى غالية ويداعب شعرها. فتحت عينيها وقالت بتحفظ: لأول مرة في حياتي أنام باسترخاء ودون كوابيس.
ابتسم وقال: هذا جميل. هيا البسي ملابسك، ستأتي عائلتك بين اللحظة والأخرى لتهنئك.
ـ ماذا سأرتدي؟ ملابسي كلها في غرفتي في الطابق الثاني.
أقبلت سلمى وهي تبتسم: هل عروسنا مازالت نائمة؟
قالت غالية موجهة الكلام لأختها: تفضلي سلمى أريد لباسا.
أشارت سلمى إلى الخزانة التي بالغرفة ثم اتجهت إليها وأخرجت القميص التقليدي المغربي الذي تلبسه العروس بعد دخلتها. حملت سلمى صينية الفطور إلى الصالون بنفس الطابق أما غالية فقد ذهبت إلى الحمام، استحمت بسرعة ولبست ملابسها وذهبت إلى الصالون حيث نبيل وأختها سلمى ينتظرانها. كان نبيل مرتبكا صامتا. أما هي فبعدما تخلصت من كابوس سرها لم تعد تبالي أو تفكر في شيء وكأنها ولدت من جديد.
نظرت إليها أختها وقالت مبتسمة: أرأيت يا غالية إن الزواج نعمة وليس نقمة.
انطلقت الزغاريد من الطابق الثاني، قدمت العمة والأم والعنود وبعض النساء المقربات إلى العروس يهنئنها وسلمن على العريس وباركن له وقبلن ابنتهن غالية تعبيرا عن الفرحة بعفتها وشرفها الذي رفع شرف العائلة. اقتربت العنود وهمست في أذنها

_ مبروك يا غالية لم أكن أظن يوما أنك عذراء.
ابتسمت غالية وهمست:

_ يؤسفني أنني خيبت أملك.
أحضرت الخادمة الفطور للنساء وبدأن يغنين ويزغردن من جديد، مهنئين دخولها إلى عالم الزوجية، متمنيات لها أن تكون ربة بيت صالحة وكانت هي تبتسم لفرحهن بعذرية من ذراع الدكتور نبيل.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:24 PM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

فصل الثالث عشر - الجزء 1

انكسار وحصار وضياع



حان وقت الرحيل، ودع نبيل وغالية الأهل والأقرباء ولم يصحبهما إلى المطار إلا والداها وعمتها وأختها سلمى. طوال الطريق كانت الأم تتحدث عن العرس وفرحتها بابنتها التي أثبتت شرفها وشرف عائلتها. أما غالية فلم تكن تفكر في تلك اللحظة إلا في عمتها وأختها سلمى، يحزنها الفراق. توقفت السيارة أمام باب المطار، أخرج نبيل الحقائب بسرعة. سمع صوت على الميكروفون: " على المسافرين المتجهين إلى طرابلس الذهاب إلى غرفة الانتظار." ودع نبيل العائلة وشكرهم على كرمهم وحفاوتهم به، كما ودعت غالية والديها وعمتها وأختها وهرولت وراءه صامتة تفكر في مصيرها المجهول مع هذا الرجل الذي قطع مسافات طويلة لإعطائها حريتها، لكنه أخرجها من حصار وأدخلها في حصار آخر تحت عصمته وسلطته إلا أنها كانت سعيدة لتخلصها من كابوس السر الخطير ومن سجن أهلها.

بدأ المسافرون يتجهون إلى مقاعدهم بمساعدة المضيفات. التفتت إليه وقالت:

ـ لماذا الدرجة الأولى فهي باهظة الثمن.

ـ لا تغلو عليك يا غالية.

سكتت، لا تريد أن تسمع غزلا أو إطراء منه. أقلعت الطائرة متوجهة إلى طرابلس كما طارت معها أفكارها. هل سيفرض علي القبول به زوجا ولو أنني لا أحبه؟ تسرق النظر إليه بين الفينة والأخرى... تحاول أن تنفذ إلى عقله وتقرأ أفكاره. طوال الرحلة تجنب التحدث إليها إلى أن وصلت الطائرة إلى مطار طرابلس.

صوت الرياح الصحراوية يعبث برمال ليبيا المملوءة بجراح ثملة، يبعثرها الهواء كلما زفر، جداول من زمهرير في فضاء المطار وحرارة الشوق إلى الحرية خلف الجبال والزمن، وهل من أمل في استعادة حلم ينسي الألم والجروح التي آلت ألا تبرح دون وثيقة السر الخطير. هرول أحد السائقين نحو نبيل، أمسك الحقائب ووضعها في صندوق سيارته ثم انطلق داخل شارع كورجي نحو المركز الإفريقي حيث منزل نبيل الذي ينتظر في شوق قصيدة حب تتراقص أبياتها عشقا وتنتهي قافيتها بالبهجة. كانت تنظر من خلال النافدة إلى الشارع وذاكرتها تضج في هروب من اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى طرابلس والأيام التي قضتها مع سمير في الفندق الكبير والعائلة المغربية وابن الإيمان وزوجته ووظيفتها بشركة التصدير والاستيراد، تحتضن وحدتها المرتمية تحت عصمة نبيل حاميا روحها المطاردة من الجنون الغير مسموع. توقفت السيارة أمام المنزل. أنزل السائق الحقائب، واستلم أجرته ثم انطلق بسيارته خارج المركز. أدخل نبيل الحقائب مرحبا بغالية. أهلا بك في بيتك ... ارتاحي في غرفتك إنها كما هي لم يتغير بها شيء وفي المساء سنتعشى خارج البيت ونناقش موضوع دراستك في أمريكا.

انصرفت إلى الغرفة وأغلقت عليها الباب وأنفاسها تخترق روحها الغير مطمئنة والخوف من الآتي يدحرجها بعيدا وسط ثرثرتها الصامتة، وتقذفها الأفكار في زحمة الخوف من المجهول. لماذا يساعدني مادمت لا أحبه؟ ماذا ينوي هذا الرجل؟ إنني أخاف غموضه وسكونه. استلقت على السرير تحت غطاء من الخوف تنظر إلى السقف محلقة صوب الشرود إلى أن نامت وسط هذيان الذاكرة، أما هو فكان يجلس في الصالون يتصفح جريدة في ضجر، تنسل من تحت أنفاسه شهوة تتسكع بكبرياء، وقلبه بركان يهدد بالانفجار. وضع الجريدة على المائدة وذهب إلى الشرفة ليستنشق الهواء. مازالت الشمس تسقط وراء الأفق ساحبة معها أشعتها المنزوعة نحو سماء ملبدة بالبكاء لا تستطيع أن تستر قلبه المتيم، واقفا في خشوع كما لو أنه يصلي أو يبتهل. في شتات الذاكرة وتحت غطاء التعب الروحي المدثر بهذيان بين اليقظة والحلم عبر سنوات من الصمت عن السر الذي كان قابعا يهددني بالموت أو الهروب وهو الآن يجعلني أهذي أين المصير ...؟ لست أدري إن كنت أعيش الخيال أو الخيال يعيشني. مازلت مستلقية على السرير أنسج أنات عمري الجائرة التي كانت تجري لاهثة عبر سنيني الغابرة، الرؤى ترعبني من الآتي ... تفتك بي، لست أدري إن كان هذا الفارس فعلا أخرج الأميرة من سجنها أم أدخلها إلى سجن آخر لتصارع الانكسار والحصار والضياع. أتقلب على حيرتي، متوسدة همي، أحاول أن أنام لكن النوم كابوس يقلقني،استيقظت متكاسلة واتجهت صوب الحمام، أتعثر فوق خطوط مبهمة بوعدي الميمون. أصب الماء على حزني وغربتي علّه يطفئ نار الخوف التي كانت تجتاح روحي. كان نبيل محملا بأحلام وهواجس ليلة العرس التي مازال يعزف نايها لحن العشق والهيام لحبيبة غائبة حاضرة. ارتديت ملابسي مهرولة نحو خيال الحرية الموعودة، وقفت أمامه وقلت مبتسمة:

ـ أنا جاهزة.

نهض من مكانه، حمل مفاتيح السيارة، نظر إلي مستغربا، أخرج منديلا من جيب سترته.

ـ ما هذا الطلاء على شفتيك؟

بدأ يمسح الحمرة ويبتسم: أنت لا تحتاجينه.

همهمت بكلمات غير مفهومة واتجهت بخطوات متعجرفة إلى السيارة. جلست في صمت أنظر من خلال النافدة. أدار محرك السيارة وانطلق خارج المركز متجها إلى الفندق الكبير. كان يسرق النظر إليّ بين الفينة والأخرى، يستهويه استفزازي. كل شيء في الفندق مازال كما هو. نفس الديكور ونفس السجاد والثريات المعلقة بالسقف. سرت غصة في حلقي تمتدّ كفيض من حنين بين عينيّ وقلبي لذلك اليوم الأول الذي جئت فيه إلى الفندق بحثا عن سمير، ذلك السائق الذي أوقد بركانا في روحي وها أنا الآن وقد عفّرني الخوف ولا أدري إلى أي سبيل سيقودني القدر. تذكرت اعترافي له بسري الخطير، أهان كرامتي وحاول الاعتداء عليّ، تركته وقلبي يعتصر ألما، مبحرة في موج المحيطات أصارع العواصف وسفينتي مهشّمة في غربة الخوف، ترسو على قارعة الموج، وشواطئ الأماني سراب. كنت أنظر إلى الطاولة التي اعتدت أن أجلس حولها مع سمير، تذكرت الحديث الذي كان يدور بيني وبينه، حلم تهشّم بين أنياب الضواري. اغرورقت عيناي لجنون ذلك الصدى الذي يدوي في عاصفة ذاكرتي متمدّدا كالموت البطيء. طوال الوقت كان نبيل ينظر إليّ وفي صمته شوق سرعان ما تبدّد.

ـ ما بك يا غالية لماذا تبكين هل تريدين أن نرجع إلى البيت؟

أيقظني كلامه من سبات أطلال تراكمت صخورا من شجن. سحبت يدي بسرعة:

ـ هذه أسعد ليلة في حياتي والدموع التي بعيني ليست إلا دموع فرح وامتنان.

كان يأكل وينظر إليّ حزينا لحزني ولو أنه لا يعرف سببه، شعرت بأنني تركته وحيدا، بدأت آكل بشهية مظهرة إعجابي بالطعام. جاء النادل بكعك مكتوب عليه هنيئا غالية. فتحت فمي مندهشة. اليوم ليس عيد ميلادي.

أجاب مبتسما: إنه عشاء خاص بمناسبة حريتك واستقلالك.

حولت عينيّ إلى النافذة أبحث عن ظليّ المشطور. "أية حرية وأي استقلال وأنا خرجت من حصار أهلي ودخلت إلى حصار زوجي"؟

التفتت إليه وقالت مبتسمة: لا أعرف ماذا أقول لك وكيف سأعبر لك عن شعوري.

احتضن بكفه اليمنى يدي حتى كادت أن تغرق بين أصابعه الغليظة والمكسوة بالشعر الأسود الكثيف.

_ لا تقولي شيئا فقط أريد أن أراك مبتسمة سعيدة.

سحبت يدي بسرعة، أكره أن يلمسني أو يحتك جسمي بجسمه.

ـ لا أحب أن تُبذّر نقودك سدى من أجلي.

ـ اسمعي غالية، سنتكلم الآن بجدية عن مسألة دراستك. غدا إن شاء الله سنذهب إلى السفارة الأمريكية في تونس وسنقوم بكل الإجراءات اللازمة للسفر.

لم أصدق ما سمعته. فتحت عينيّ المندهشتين وقلت: هل سأدرس في أمريكا؟

صمت قليلا وقذفني بنظرة متعالية وما لبث أن قال: أليست هذه رغبتك؟

ـ لكن ليست عندي نقود كي أسافر الآن يجب أن أبحث عن وظيفة وعندما أجمع النقود الكافية أسافر.

ابتسم وقال: لماذا ستبحثين عن وظيفة سأتكفل بكل النفقات.

ـ إنها أموال طائلة، ليست ألف دولار أو ألفين.

ـ هل نسيت أنني زوجك ومن واجبي أن أنفق عليك.

خفق قلبي بشدة وانتابني رعب فتح المواجع وامتدّ جسرا منذرا روحي بالهلاك... إنه اشتراني بنقوده ويريد أن ينفق عليّ وعلى دراستي مقابل أن أبقى معه. هذا مستحيل. إن اكتشف أنني لست عذراء سيرميني طريدة في الشارع وإن تركته ورجعت إلى المغرب ستكون فضيحة وإن هربت إلى حيث لا أدري سيلاحقني العار حتى الموت وأخسر أهلي إلى الأبد. ماذا أفعل يا ربي. انفجرت أبكي.

_ إننا في مكان عام يا غالية، هيا بنا إلى البيت.

طوال الطريق يقود السيارة في صمت وشغفه إليّ يتأرجح بين الصبر والشجن. ذلك السكون ذكرني يوم اعترفت فيه لسمير بسري، فأحسست بخوف يزلزل روحي التي أوشكت أن تزهق في براري الموت. توقفت السيارة أمام باب الفيلا. خرج من سيارته وهو معلق بالحبال على الرمال. فتح باب الفيلا ودخل إلى الصالون ينتظرني ولهيبه موصد بسري. كنت ملتصقة بمقعد السيارة أحترق في لهيب الرعب وصوت كابوسي صدى يقهقه على طلل قبري، تائهة حائرة في ارتباطي به وفي مستقبلي الذي أصبح جزءا من مستقبله. خرج إليّ وقال:

ـ هل تريدين أن تقضي ليلتك داخل السيارة هيا ادخلي، أريد التحدث إليك.

نزلت خائفة أتعثر في مشيتي متوجهة إلى الصالون. جلست وأنا أحرك رجليّ بعصبية. تجنب الجلوس بقربي.

ـ هل يزعجك أن أنفق عليك أو يزعجك زواجي منك؟

نظرت إليه وقلت: الإثنان معا.

ابتسم وقال: فيما يخص النقود سنجد حلا لذلك وفيما يخص زواجنا فكوني مطمئنة، لأنني ما فعلته إلاّ مساعدتك. فأنا لن أربط نفسي بإنسان لا تكنّ إليّ نفس الشّعور..

أخفضت عينيّ من غير أن أتفوه بكلمة!

ـ هيا اذهبي الآن إلى غرفتك ونامي، غدا سنسافر إلى تونس.

نهضت من مكاني دون أن ألتفت إليه وأسرعت إلى غرفتي وأقفلت الباب. استلقيت على دهشتي أنظر إلى السقف، أفكر في الحوار الذي دار بيني وبينه، مصطنعة الفرح وأن شيئا ما في داخلي يوشك على الانفجار. لا أعرف إن كان يجب عليّ أن أفرح أو أحزن. شيء بداخلي يرفضه لأنه متزوج وله خمسة أولاد وقلبي يدفعني إلى القبول به كزوج. فجأة يخفق قلبي بشدة، خضوعك معناه إفشاء سرك وهلاكك... غالية ترفض الرّجل المتزوج ولا تسمح لنفسها أن ترتبط به مهما كلّف الأمر، لأن ذلك خيانة لامرة أخرى... أتقلب في فراشي والأرق يطاردني ... أنا لست إلا فتاة مغلوبة على أمرها، فتاة أنجبها مجتمع مريض ورثت عنه عاهته وأصبحت تعرج في دروب مجتمع قاس تائهة كالمعتوه ورمال تجرجرها بعيدا عن مسار الريح. لو لم أكن أحمل هذا السر الخطير لما فكرت في زوجته، كنت سأقبله زوجا وأعيش بكل أنانية ككل امرأة في مجتمعنا الفاسد تسعى وراء المال الذي حرمت منه يوما أو إلى حب فقدته في الطفولة... كل ما يصيب المرأة سببه المرأة... تبكي المرأة إن تزوج عليها زوجها وتصب عليه جام غضبها وتنسى أن سبب مشكلتها امرأة ثانية، فلو لم تقبل المرأة الثانية الزواج من رجل متزوج، لما سببت مشكلة للمرأة الأولى، وهكذا فإن المرأة هي سبب تجبر الرجل وتزمته وتخلفه، هي التي تشجعه على مزيد من الأنانية والقمع بسكوتها وخضوعها. ظل ليلي يشتعل نارا وصوتي الوحشي مدويا في صمت إلى أن تسلل كابوس سري متقاسما معي السرير في شبق. جسدي عار لا يغطيه إلا قميص نوم قصير وشفاف، وشعري الطويل الكثيف كان كافيا ليدفئ جسمي. خلقت كأي امرأة لتعيش بالحب وتموت به.

أيقظني بلطف، التفتّ إليه، ابتسمت وأشواقي تسبقني إليه، سحبته إليّ، ضممته برفق ولثمته بقبلة طويلة وهو يسبح بيديه على ضفاف جسدي ويدسها في تضرع بين نهديّ ونبضات العشق تخترق وتذوب في جحيم من نشوة وشوق وروحينا تسبح في ألم من لذة إلى أن أخمدتها رجة من ثلج ونار. جلس كالملسوع يبحلق في عينيّ. سرى في جسمي النحيف رعدة خوف جرفت سعادتي وتركتني في عراء بارد مخيف. نهض من السرير، فاجأه اللحاف الأبيض الذي لم تزينه بقع دماء حمراء. أصيب بخيبة أمل ... يضغط على عنقي وأنا أقاوم ونوبة الاختناق تنتابني... أنتفض تحت جسده كطائر جريح ... جدائل الرعب تنتحب في اختناق ... أبحث في الزوايا لكنني لم أر في العتمة شيئا سوى حطام وأسمال ... أطلقت شهقة أخيرة ومضيت أرنو بلا حراك... فتحت عينيّ... قلبي يخفق بسرعة والعرق في جسمي كالرذاذ. بكيت في ذلك الليل الذي ما زال يفترش عباءة من الظلام. تمنيت أن أعانق الموت إلى الأبد... تسللت إلى الحمام شريدة أطرق أبواب الآهات تحت مياه من الحسرات أفرك جلدي الملعون بالإسفنج والصابون، أدثر صراخي بفوطة من الصمت، أندب جسدي الذي حكم عليه المجتمع بالدنس رغم طهارته. لا أحد يمكن أن يستر سرّي، حتى نبيل حكم عليّ بالقتل عندما تسلل من شباك الحلم، تحول إلى كابوس وحشي وقبض روحي المنفية إلى منفى يتوقف فيها الزمن.

استيقظ نبيل باكرا كعادته، وجدني قد خرجت من الحمام، ابتسم إليّ وقال:

_ يظهر أن الفرح بالسفر جعلك تستيقظين باكرا.

ابتسمت في صمت وذهبت إلى المطبخ لأحضر القهوة.

سافرنا إلى تونس العاصمة ومن المطار مباشرة إلى السفارة الأمريكية. أمام البوابة كان الشباب واقفين في طابور طويل في سكون وصمت ساعات تحت الشمس المحرقة. تخطى نبيل ذلك الطابور متجها صوب جندي أمريكي، أطلعه على جواز سفره، ابتسم الجندي محييا وفتح له الباب. دخلنا مباشرة إلى صالون الاستقبال بعيدا عن الذي يعج بالناس، وبعد دقائق أقبلت شابة أمريكية في العشرينيات، ناولها نبيل جواز سفري. كنت أراقب في دهشة نبيل الذي دخل إلى السفارة من غير أن يتكبد عناء الانتظار تحت أشعة الشمس الحارة. دخل دون الآخرين من غير انتظار. أنهى كلّ الإجراءات اللازمة ولم يبق إلا استلام التأشيرة بعد أربع وعشرين ساعة. أمسك بيدي ثم غادرنا السفارة. استأجر سيارة وانطلق بي في شوارع تونس العاصمة الصاخبة وأفكاري بصمت تتراقص على عتمة طلاءا ته المستترة، أفكر في اهتمامه الزائد بي واستمراره في مساعدتي رغم أنني رفضته زوجا. كان يقود السيارة ويدندن أغنية لمحمد وردي. أحبك ...أحبك أنا مجنونك ... فجأة توقف عن الدندنة، التفت إليّ وقال: تعرفين يا غالية، لو كان لدينا الوقت لأخذتك إلى أجمل المناطق السياحية، لكن على الأقل سننزل الليلة في فندق يطل على نديمك البحر، في منطقة أبو سعيد حيث الأدباء والفنانون يقطنون وحيث سكون الطبيعة وسحرها، وهناك سترين المنازل البيضاء ذات الأبواب الزرقاء. كان يقود السيارة في وسط شوارع تونس العاصمة ويتحدث عن معالمها واقتصادها وتاريخها أما أنا فكان وجهي شاحبا متعبا أبحث عن جواب لسؤالي. هل أنا مستقلة أم محتلة ... إن أجبرني أن أشاركه حياته فسرّي سينكشف ونهايتي ستكون وخيمة... هل أنا زوجته أو لست زوجته؟ لم أكن أريد منه سوى إقناع والديّ بأن يتركاني أسافر لمتابعة الدراسة، لم أفكر يوما أنه سيطلبني للزواج. التفت إليّ وقال: ما بك غالية؟ ألست سعيدة أرى عينيك حزينتين؟ هل قصرت في حقك؟

سحبت يدي ببطء من يده وقلت: لا ... أنا التي أقصر في حقك.

ابتسم متظاهرا بعدم فهمي وقال: هل أنت تقصرين في حقي؟

بدأت أتلعثم في الكلام: آ … أنا … أعني أنت … أحس أنك … أنت … أحس أنك تعمل كل ما بوسعك لإسعادي، لكني …. أنا .. لا … أعني أنا لست زوجتك، فلماذا تساعدني؟ لماذا تنفق أموالك على امرأة لا تستحق حبك ولا عطفك، كما أنها لا تبادلك الحب؟

قلبه يختنق حزنا لنفوري منه: اسمعيني يا غالية وافهميني جيدا، أساعدك لأنك صديقة عزيزة أحببتها من قلبي وأكن لها كل الود والاحترام. كوني على يقين عندما سنصل إلى أمريكا ستدرسين في الجامعة وستعيشين مستقلة حرة ولن أزعج حريتك وحياتك. سأكتفي بالاتصال بك هاتفيا لكي أطمئن عليك وعن أحوالك المادية والدراسية.

ـ إنك تعذبني بسخائك الزائد ... كل هذا الحب والعطاء وأنا لم أقدم لك شيئا.

ـ إياك أن ترددي هذا الكلام مرة ثانية، إنك لا تعرفين مدى الحب الذي أكنه لك، لقد حركت في جوارحي مشاعر لم يحدث أن تحركت من قبل.

لم أرد أن أسمع مشاعره، ولكي أغير الموضوع قلت له عندما أتخرج من الجامعة سأرد لك كل قرش صرفته من أجلي.

ابتسم قائلا: لا تخافي ستردين لي كل قرش صرفته من أجلك عندما تتخرجين. لا تفكري في هذه المسألة.

نظر إليّ متصنعا ابتسامة تخفي حزنه وقال: هل تريدين أن تعرفي لماذا أساعدك؟ لأنني أحبك.

قلت وغصّّة في قلبي: لكنني لا أستحق حبك لأنني لا أبادلك نفس الشعور.

كنت أرشف القهوة وأنظر إلى المارين على رصيف الكورنيش. أعجبتني السفن التي ترسو في الميناء بشكل غير منتظم وهي تطفو فوق الماء. كان ينظر إليّ ويبتسم لكن عينيه يحضنان حزنه. بدأت الشمس تغيب وخيوط أشعتها الحمراء تلوح في السماء وتعكس بريقا على مياه البحر الأبيض المتوسط. اشتعلت مصابيح الكورنيش كما بدأ نسيم المساء يتسلل ببرودته على أجواء الشاطئ.

ـ هل تشعرين بالبرد؟ هيا بنا. وضع شريطا للمغني محمد وردي في المسجلة وبدأ يدندن مع إيقاع الطنبور والعود، إيقاع قريب من الوجدان. أدهشني ذلك لأول مرة أراه يسمع إلى الموسيقى داخل السيارة. شردت بعيدا وروحي خاوية بلا بهجة أبحث عنها في أركان السيارة. تلك الموسيقى السودانية تحولت في أذنيّ إلى موسيقى الراي، أغمضت عينيّ واستلقيت على مقعد السيارة متوغلة في صحراء الجزائر وليبيا بحثا عن ذلك الحبيب الذي استطاع أن يقتحم قلبي الموصود. كان نبيل يقود السيارة ويلتفت إليّ بين الفينة والأخرى، مبتسما فرحا بانسجامي مع الأغنية.

وصلنا إلى أبو سعيد، أوقف السيارة بالقرب من باب الفندق.

ـ غالية، لقد وصلنا.

استيقظت من حلمي وتغيرت ملامح وجهي وتجهمت.

ـ ما بك يا غالية؟

ـ فقط أشعر بصداع في رأسي.

ـ هيا بنا ندخل سأعطيك حبة مسكن تُذهب الوجع نهائيا.

ناولني حبة الدواء وكوبا من الماء ثم غادر إلى غرفته بعد أن تمنى لي ليلة سعيدة. استلقيت على السرير أؤنب قلبي الذي سافر إلى مكان محرم. لماذا أحب شخصا لم يكن صادقا معي؟ إنه لا يستحق أن أفكر فيه أو أن يكون ذكرى من ذكريات حياتي، علي أن أنساه. إنني نسيته لكن سماع الموسيقى في السيارة هو الذي ذكرني به. هذه خيانة كبرى للذي يحسن معاملتي ويحبني حبا صادقا ويضحي كثيرا من أجلي ومازال يضحي بوقته وحبه وماله. من أنا؟ بداخلي وحش أناني لا يحب إلا نفسه. أنا أنانية لا أحب إلا نفسي. مسكين نبيل، هذا الرجل الطيب، لماذا لم أفتح له قلبي وأكون زوجة حقيقية له في المستقبل؟ لكن هذا غير ممكن إنه متزوج وله عائلة كما أنني لم أخلق لأكون زوجة لرجل في هذا المجتمع. اشتد الصداع في رأسي وأجهشت أبكي إلى أن نمت. أما نبيل فكان في غرفته مستلقيا على سريره مهموما، يفكر فيها وفي مصيره معها.

في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرا. وقفت على شرفة غرفتي التي تطل على البحر، تذكرت أيام إقامتي مع سمير، لماذا أفكر في هذا السمير؟ عليّ أن أنسى الماضي الذي كان مبنيا على حب زائف. لا يمكنني أن أدع قلبي يحب أحدا لأن ذلك مستحيل. الحب معناه الزواج والزواج معناه الدخلة والدخلة معناها اكتشاف سري واكتشاف سري معناه هلاكي. علي أن أحمد الله أنني نجوت من العار الذي كنت سأجلبه لأهلي لولا نبيل الذي تورط في مساعدتي بزواجه مني. كنت أنظر إلى أمواج البحر وأتتبعها بعينيي إلى أن تتكسّر على الشاطئ. فجأة طرق نبيل الباب واستأذن بالدخول.

ـ صباح الخير يا غالية. كيف أصبحت الآن؟

ـ الحمد لله، أحسن. لقد اختفى الألم بعدما تناولت الدواء.

نظر إلى ساعته وقال: هيا بنا نفطر بسرعة لكي نذهب بعدها إلى السفارة ونستلم الجوازات.

أمسك ذراعيّ بكلتا يديه، كاد أن يضمّني بقوة لكنه تمالك نفسه واكتفى بالقول: هل أنت سعيدة يا غالية؟

نظرت إلى عينيه وقلت: هل تعتقد أنهم سيوافقون على إعطائي التأشيرة؟

ضحك وقال: إن وظيفتي تحتم عليّ السفر إلى أمريكا مرات عديدة في السنة.

ـ أنا لا أتكلم عنك فأنت تحمل جوازاً دبلوماسيا.

ابتسم إليّ وقال ليكن أملك في الله.

ـ هيا بنا إلى المطعم نفطر.

كان المطعم يطل على البحر مباشرة ويمكن للمرء أن يسمع صوت الأمواج عن قرب. طبيعة خرافية الملامح ...

نظرت إليه وقلت: انظر إلى الأمواج ما أجملها وهي تقترب شامخة من داخل البحر ثم يصغر علوها إلى أن تتكسر على الشاطئ.

أمسك فنجان القهوة بكلتي يديه، نظر إليّ مبتسما وقال: إن هذه الأمواج مثلك تماما.

نظرت إليه بعينين مستغربتين: ماذا تقصد؟

ابتسم وأجاب: إنها شامخة مثلك تماما، لكنها تنكسر على الشاطئ.

سألته بعصبية: ماذا تقصد؟

أجاب ضاحكا: لا شيء يا غالية. أنا فقط أمزح معك، ألا تحبين المزاح؟

ـ بلى لكنني لست كالأمواج و أنا لا أعلو علوها ولا أتكسر على الشاطئ مثلها.

كان ينظر إليّ ويضحك: لا تغضبي، اعتبري ما قلته لك غزلا.

تخيّلته يقول لي سأحطّم ذلك الشموخ الذي يعتريك. سأجعلك تركعين أمامي متوسلة أن أحضنك. لم تكن الأمواج أقوى منك، فهي تعلو داخل المحيط وقد تحطم السفينة بقوتها لكنها سرعان ما تنطفئ عندما يحضنها الشاطئ.

نظرت إليه وقلت: فيم تفكر؟

أيقظته من غفوته قال: لا شيء، يجب أن نسرع إلى السفارة ونصل إلى المطار كي لا نتأخر عن الرحلة.

كنت أنظر إلى المسؤولة عن التأشيرات خلف زجاج سميك وهي تتكلم مع شاب بواسطة الهاتف البَيْنِيّ، بعدها سلمت له الجواز فغادر السفارة ساخطا يسب باللهجة التونسية، لحقه الثاني والثالث والرابع وكلهم غادروا السفارة خائبين. بلعت ريقي وانتابني خوف شديد. كان نبيل يراقب تصرفاتي ويبتسم. وصل دوري، تقدم نبيل إلى الشباك ثم دار بينه وبين المسؤولة حوار قصير، مدت له الجواز شكرها ثم أمسك بيدي بقوة وجرني خارج السفارة متجهما يزمجر بكلمات لم أفهمها. انطلقنا إلى المطار. أما هي فكادت أنفاسها تختنق، تنظر من نافدة السيارة وعيناها دامعتان. لم تلتفت إليه ولم تسأله ان استلمت التأشيرة، ولماذا تسأله فالنتيجة واضحة. اتنتابتها هواجس وأفكار، لقد فعلها، كذب علي وقال بأنه سيحصل على التأشيرة بسهولة. كان ذلك كله كذبا لكي يؤكد لي أن السفر إلى أمريكا شيء مستحيل ولكي أرضخ إلى الأمر الواقع و أستسلم له. يا له من ثعلب ذكي. ما زلت أحدث نفسي حتى توقف أمام المطار.

ـ هيا يا غالية بسرعة إن موعد الرحلة إلى طرابلس بعد نصف ساعة.

لحقت به في صمت وقلبي يخفق بشدة. كان جواز حياتي بيده قصدت أن لا آخذه منه لكي لا أصاب بالأسى،هائمة حزينة وهو يسرق النظر إليّ بين الفينة والأخرى ويبتسم. وصل موعد الرحلة، اتجهنا إلى الحافلة التي نقلتنا إلى الطائرة وما هي إلا دقائق حتى أقلعت الطائرة. أمسكت بجريدة وحجبت بها وجهي كي لا يرى دموعي. جاءت المضيفة بالمشروبات وقدمتها له. التفت إليّ وقال": هل أنت نائمة؟

ـ نعم، أنا نائمة.

ـ ألا تريدين أن تشربي شيئا باردا؟

كنت أتكلم معه ووجهي مغطى بالجريدة.

ـ ماذا بك يا غالية؟

ـ إنني فرحة جدا. هل أنت مبسوط الآن؟

ـ بالطبع ففرحك معناه فرحي. لماذا تحجبين وجهك بالجريدة؟

ـ لأنني نائمة.

ـ هل النائم يتكلم؟

ـ نعم، يتكلم إن أُزعج بكثرة الأسئلة.

ضحك وقال: منذ الساعة التي خرجنا فيها من السفارة وأنت صامتة لماذا؟

ـ ألا تعرف لماذا؟

ـ لا والله ما الأمر؟

أزلت الجريدة عن وجهي المحتقن وقلت:لم أحصل على التأشيرة. أليس كذلك؟

ـ بلى.

لملمت أطرافي المندهشة: ماذا ...؟ لكن لماذا كنت غاضبا عندما كنا بالسفارة؟

ـ لأننا كنا سنتأخر عن موعد الرحلة وغدا يجب أن أكون على رأس عملي.

انفجرت أبكي وأضحك من الفرح، ضممته إلى صدري أقبله والمسافرون يسرقون النظر إليّ ويبتسمون.

وصلت الطائرة إلى طرابلس العاصمة بعد ساعة ونصف من الإبحار في الفضاء. وفي طريقنا إلى المركز الإفريقي كنت أنظر إلى البنايات المصطفة على جنبي الطريق وكأنني أشاهدها لأول مرة ثم أسرق النظر بين الفينة والأخرى إلى نبيل، أتعجب لتعامله وتصرفه معي. آه لو أصبحت زوجته فعلا، فهو يحبني كثيرا وأنا سأحبه في المستقبل لكن، إن أخبرته عن سري ربما يتصرف كسمير أو يطلقني ويرجعني كطرد غير مرغوب فيه إلى المغرب وتكون الكارثة العظمى. إلى متى سأظل أفكر في سري؟ سأصارحه وأمري لله. لا، لا لن أتهور. سأهدم كل شيء. توقفت السيارة أمام باب المركز. الطقس حار يبعث الخمول والنعاس. نظر إليّ وقال:

ـ ما رأيك أن تطبخي غذاء احتفال به بهذه المناسبة؟

ـ ماذا تقترح للغذاء؟

ـ لن أقترح شيئا، كل شيء في الثلاجة.

ـ لكن، أنت تعرف بأنني لا أحسن الطبخ.

ـ أعرف ذلك لكنني متأكد أنك ستحسنين اختراع شيء جميل اليوم.

ـ اختراع! مادمت ترتقب اختراعا، سأخترع.

قلت كلامي وهرولت مسرعة إلى المطبخ أما هو فكان ينظر إليّ ويضحك. أمسك الجريدة يتصفحها في كسل بينما أنا أتعارك مع الطناجر والصحن.

ـ ما هذا الضجيج الذي أسمعه يا غالية؟

ـ لا شيء سيكون الطعام جاهزا بعد ساعة.

يا ربي ماذا أفعل؟ أكره المطبخ وأكره الطبخ! ماذا سأفعل الآن؟ فتحت الثلاجة وأخرجت دجاجة غسلتها ووضعت عليها قليلا من التوابل ثم أدخلتها إلى الفرن. وضعت كمية من الأرز في طنجرة أخرى وسكبت عليه الماء وبعض الملح. في تلك اللحظة قطعت التفاح والأناناس وقليته بالسمن ثم وضعت عليه العسل، سلقت البطاطس وقطعتها على شكل هلالي كشرائح التفاح، وأخيرا عندما استوت الدجاجة وضعتها في صحن كبير ومزخرف زينته بأوراق السلطة ثم وضعت فوقها البطاطس والتفاح والأناناس. تذكرت الأرز، وجدته اختلط ببعضه وأصبح كالعجين، وقفت كالملسوع أنظر إليه متحسرة لا أعرف ماذا أفعل به، هل أرميه في القمامة وأطبخ أرزا آخر. الوقت ضيق ونبيل ينتظر الأكل بسرعة. الموقف بالنسبة لي معقد ويحتاج إلى اختراع حقيقي. أخرجت من الثلاجة الكزبرة والجبن والبيض والحليب وخلطته بالأرز ثم وضعته في الفرن. ذهبت إلى الصالون كان نبيل نائما والجريدة فوق وجهه، مشيت بخطوات سريعة إلى الحمام، أخذت دوش الفرح، أرقص تحت الماء الذي يداعب رذاذه جسمي وأنا أغني على إيقاع الماء الذي ينزل ورودا، ومن فوقي غيمة من الموسيقى وأنا على طرب أرقص في نشوة لزغردة الماء مهنئة نجومي المتلألئة وسطوع شمسي. لبست فستانا جميلا، أسدلت شعري ووضعت أحمر الشفاه وعطرا ثم رجعت إلى المطبخ بسرعة. وضعت الأكل على المائدة، أعجبني منظر الأكل. هتفت بصوت ينم عن الفرح:

_ الأكل جاهز.

نهض متثاقلا، يمشي بخطوات بطيئة. بمجرد أن دخل المطبخ أشرق وجهه وقال بصوت الواثق :

ـ الله أكبر! ما أجمل منظر الطعام!

قلت وأنا أحاول أن أبعد عني آثار الارتباك: لم أطبخ قط في حياتي، ما فعلته الآن لا يستحق كل هذا الإعجاب.

_ هذا طبخ جميل ورائحته أطيب ومنظره يفتح الشهية وحتما مذاقه سيكون لذيذا.

جلس على الكرسي وانهمك في وضع الأكل في صحنه بينما أنا واقفة أنظر إليه ويداي المشبوكتان تسيل عرقا. نظر إليّ وقال:

ـ ماذا تنتظرين هيا اجلسي وشاركيني الطعام.

شرع يأكل بشهية وأنا أنظر إليه، التفت إليّ وقال: هذا أكل لذيذ جدا لم أذق مثله قط.

أجبته بارتباك: أنت تمزح أو ربما تجاملني.

قال بجدية: والله لا أجاملك، إنه فعلا أكل طيب جدا. هل هو طبخ مغربي؟

_ ليس طبخا مغربيا. قولك هذا استخفاف بالطبخ المغربي.

ـ أنت التي تستخفين بقدراتك. زوجتي كذلك طباخة ماهرة.

ارتعشت يداي المرشوشتان بطعنات الغيرة، أوقعت السكين، أمسكتها مرة ثانية، وضعتها على الصحن، رشفت عصير البرتقال بيدين راجفتين، وضعته على المائدة دون أن أنظر إليه أو أبدي رأياً.

ـ ما بك يا غالية؟

ـ لا شيء، إنني سعيدة جدا حيث استطعت أن أقدم لك طعاما رضيت عنه وأعجبك.

ـ لك قدرة في تقديم شيء خاص بك، وهذه ميزة لا يتميز بها إلا طباخ ماهر.

وقفت من مكاني ومشيت على عجل وبما يشبه الهرولة، خجلة متجهة صوب حنفية المطبخ. يلاحقني صوت نبيل:

_ شكرا لك يا غالية.

غادر إلى الصالون واستلقى على أريكته المفضلة في كسل يستمع إلى نشرة الأخبار وأنا مازلت في مكاني أقلب الأكل بالصحن يمنة ويسرة، شاردة في أفكاري بعيدا. لماذا شعرت بامتعاض عندما ذكر زوجته؟ لماذا شعرت بالغيرة؟ بأي حق أغار من زوجته، أم أولاده وشريكة عمره وحبيبة قلبه؟ إنه ليس زوجي. إنه صديق لا أكثر ولا أقل وزواجنا شكلي. أسرعت إلى غرفتي وأغلقت عليّ الباب. استلقيت على سرّي أتصفح رواية من غير تركيز، لم أفهم شيئا، أعاود القراءة، عقلي شارد، لا بد أن أنهي قراءة الرواية، لم تبق إلا صفحات قليلة، أقرأ الأسطر الأولى من الفصل الأخير، شردت بعقلي إلى المغرب، تذكرت فرح عائلتي بنبيل ... ليلة زفافي ... لم أرد أن أكمل الرواية أو أن تكون لها نهاية ... سافرت بين سطورها ... فوجدت نفسي البطلة والحبيبة ... أتعذب بانجذابي له رغم مقاومتي الشديدة، خادعة قلبي الذي يخفق له بتلهف. أتحبين أن تكوني زوجا لرجل قضيت معه عمر حياتك ويتزوج عليك؟ إن سرك سينهي حبك العذري مع نبيل. تمنيت أن أعيش معه رواية حياتي، أمتنع فيها وأنا راغبة وأحبه من غير أن أبوح له بسري وأدعه يحبني من غير حدود ولو حتم قدر روايتي أن يحرمني بأن أتمتع بحياة طبيعية كأية امرأة طبيعية. آخ! امرأة طبيعية ... كيف ...؟ وأنا أتذكر في وهم طفولتي الممتدة ما بين فتحات رجليّ إلى أن أصبحتا فخدين عريضين كبيرين. عندما فتحت أرجلي على امتداد الحياة لأول مرة وأنا قطعة من لحم أبيض وكيف لا أتخيل طفولتي في يومها الأول أو ساعاتها الأولى عندما انتزعتني القابلة من بطن أمي وأنا أصرخ للحياة التي أجهضت أجنحتي الطرية والقابلة تضحك وتدوزن مراحل حياتي المقبلة. سمعتها وأنا أتحسس جسد أمي وعمري ثلاث دقائق. كانت تقول لأمي إن ابنتك ولدت مفتوحة الفخذين وفتَحََت فخذيّ فعلا وأنا عمري سبعة أعوام للمرة الثانية. ثلاث من النساء الغلاظ، واحدة تمسك بيدي والأخرى برجليّ والثالثة جاثمة على صدري وأنا أسترق السمع والبصر معا وكان يلهيني عن الاستراق بهرجة نساء وأطفال واحتفال... والقابلة تحمل موسى ثم مقصا وخيطا وإبرة وأدوات أخرى. وأنا أتلاعب بحلي من ذهب وبعض النقود وحلوى وحنة على يدي ورجلي ترتسم سوادا ممتدا في الماضي والحاضر، صرخت صرخة دوت لها أركان حياتي وأنا أرى قطعتين من لحم كانتا عندي وأخرى ذهبت إلى الأبد وذهبت معها أعصابي وأحاسيسي وبعد ذلك لم أر غير فتحة كأنها كوة في متاهات الزمن السحيق تتلون باللون الأحمر الداكن في عتمة خائبة. تلك المراسيم الغادرة كانت يوما طويلا في حياتي وأعدّ له من طقوس الفرعون الجزار وآلهته العمياء وتوالت طقوس ثم طقوس ... سؤالي ... من يا ترى ينفض الغبار عن تلك الطقوس المتجمدة والمتعفنة في ذاكرتنا الخربة، وكانت خيبة الآخرين هي الأكثر انهزاما دون مسميات. حتما سوف أنزف دما ... دم يحيط بإطار لوحتي من الخارج وفي الداخل قارورة زيتها المنساب على فخذيّ اللذين لم يكونا يوما هزيلين. أتصبب عرقا ليستمتع الآخرون بلحظة أجمل وأنا أتعامل بالتسامح الأبله ... هل هي مشيئة الأقدار؟؟؟ هل سوف أفتح أفخاذي بعد أن طالت رجلاي لأرسم خيوط معركة مرسومة منذ زمن، تشوهت فيها المعالم والجدران وكلّ الأسطح النموذجية والمحيط البناء وذكرياتي وطفولتي العالقة في قطعتين من لحم سمراوين وأنا أتساءل هل كانتا عبئا ثقيلا عليهم أم عليّ ...؟ كما أنّ فنجان قهوة مقلوبا على أمره فلبس على رأسه، لا يقول شيئا غير شعارات مكتوبة بحبر مغشوش حتى إذا ما طلعت عليه شمس الحقيقة تبخر وتلاشى وتبقى جدرانها تذكر بأن هنالك كتابات لا نعرف معناها ولا نستحضر حروفها الأبجدية. ما زلت في غرفتي أنتحب وأندب حظي في عتمة من الحزن وروحي أشلاء مبعثرة تهوي تحت رحمة اللعنة الفرعونية. أحسّ نبيل بانجذابي له، فرح لذلك واكتفى بفرحه لنفسه، فهو أيضا ينهج سياسة التمنّع، هكذا جنس النساء من لا يجري وراءهن يجرين وراءه ومن يكن متعاليا يتمنين التسلق إليه ومن يكون شامخا يحببن أن يرضخن له ومن يكون غامضا يردن الولوج داخله. شعرت بالضجر، ذهبت إلى المطبخ، هيأت الشاي وأحضرته إلى الصالون. كان منسجما في مشاهدة فيلم وثائقي. فتحت فمي لكي أتحدث إليه ثم أقفلته. طأطأت رأسي أنظر إلى قوائم المائدة، يدثرني حزن، تقمعه لعنة سرّي، ماذا جرى لك يا غالية؟ أين كرامتك وكبرياؤك؟ ماذا جرى لك يا قلبي كي أتعذب بشخص لم أظن قط أنك ستميل إليه؟ هل روحي ومشاعري لعبة؟ لم أخلق لأكون امرأة وأما وحبيبة... أنا لن أُحِبَّ أو أُحَبَّ ... أنا من دون عذرية...ومن دون ... جسم خلق من المفروض ألا يُخلق ... جسم سجنته الأسوار بقيود التقاليد. لماذا خلقت مادامت دنياي سر ...قلق ...عذاب ...ألم ... خوف ... إن ماضي مربوط بحاضري ومصيري مربوط بقدري واعترافي بسري الخطير مربوط بنهاية علاقتي مع نبيل إلى الأبد. لن يكون أكثر وعيا وانفتاحا من سمير. تبا لك أنت أيضا يا نبيل وتبا للساعة التي عرفتك فيها مثلما عرفت سميراً فأنت لن تكون أفضل منه، كلكم تعزفون على وتر واحد وبإيقاع واحد. غادرت إلى غرفتي وأقفلت الباب عليّ بقوة، ووضعت وجهي على شقائي مطلقة عنان بكائي لانهزامي. أحسّ نبيل أن طبخته استوت فجاء ليتذوق طعمها.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:25 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 الفصل الثالث عشر الجزء 2

الفصل الثالث عشر الجزء 2

ـ غالية هل يمكنني الدخول؟

لم أجب ... تظاهرت بالنوم لكن عينيّ لم تنجحا في إخفاء علّتي. طرق الباب ودخل.

ـ ما بك غالية أهي آلام المعدة؟

جلس بجانب السرير، أمسك بذراعي وأجلسني بجانبه: ما بك؟ ما الذي جرى لك فجأة بالله عليك لا تشغلي بالي.

نظرت إليه: أنا ... أنا ... لماذا ... طأطأت رأسها وقالت: أنت ...لم ...

_ أفصحي ما الأمر؟

ضممته إلى صدري... أسمع دقات قلبه في صمت... حملتني رائحة عطره إلى عالم تمنيت أن يكون حقيقة. كان يداعب شعري، ساد الغرفة صمت رهيب وكلانا يحاول اختراق صدر الآخر للكشف عن طياته وقراءة ما بين سطوره. أمسك وجهي المبلل بكلتي يديه وأخرج منديلا من جيب قميصه، كان وجهه قريبا من وجهي وأنفاسه تكاد تختلط بأنفاسي.

ـ ما رأيك أن نخرج إلى البحر؟ الطقس مازال دافئا.

كنت أتمنى أن يضمني إلى صدره ويبقى بجانبي حتى الصباح. قال وهو يلثم يدي، ليس من السهل أن تتغرب فتاة في سنك بعيدا عن أهلها. كنت صامتة ورأسي على ذراعه، هدأ بالي وسكنت فرائصي، فصمت هو أيضا وسرح بأفكاره، محاولا قراءة دقات قلبي التي كانت تخفق: تمنيت أن ترتاح نفسي من عنائي وخوفي، وتستريح قدماي من سلوك طريق وعرة مجهولة المصير. رفع رأسه ينظر إلى سقف الصالون هنيهة، ثم حول نظره إليّ في صمت: لقد أوقعتك في شباكي، وتمكنت منك وسرت وراءك كطفل يلاحق أمه متناسية أهلي وعشيرتي، متغافلة متعامية عن تراكم الأهوال الملقاة على رأسي، منجذبا بقوة خفية وخارقة تكمن في روحك. خفق قلب غالية، أريدك ... أحبك... أحتاجك. تمنيت أن أكون كطائر حر يرفرف في فضاء قلبك ويجلس على أطراف غصون حنانك، متأملا في أعمدة قصور السعادة التي زرعتَها في قلبي. يداعب خصلات شعري، قفي هنيهة لأرى وجهك الغامض وأنظر إليه دقيقة لعلي أستطيع اختراق عينيك وأقرأ في ملامحك ما يكمن في نفسك. شد على جسمي بذراعيه، فارتعشت وتسارعت دقات قلبي. لقد مللت المسير وتعبت من السفر وضاق صدري من حمل عبء ذلك السر الخطير. ضجر قلبي ويئس من أنين خوفي، ومن مخاوف سفري اللانهائي. روحي ترتعش ... تخلي عن عنادك وبرودك وضعي حدا لقلبك المتحجر، فقد بلغنا ملتقى السبل حيث تعانق روحي جسدك ويعانق جسدك روحي وحيث أذوب بحبي فيك ويذوب حبك في جسدي ويستوضح قلبي خزائن قلبك.كان رأسي مازال على صدره وجسمي هادئ لا يتحرك. أسيرة ترحالي أجول في مشارق الأرض وأهيم في مغاربها لكني حزينة بمساوئ الحياة، مكوية برجعية التقاليد. تعشقني كوابيسي، تسعى كحية تحت جنح الليل، زاحفة من شقوق الجدران، تلسع نومي فتوقظه فزعا، والعرق يسيل من جسدي، أقف بجانب أسرة إخوتي فأجدهم يرقدون في سلام. تأوه ... هل ألعن اللحظة التي تعرفت فيها بك أم أحمدها؟ لقد تسممت بلمسة يديك وعلت حرارة جسمي بضمك لصدري فأثرت في عقلي وأمرضته وجعلته أسير حبك إلى حيث لا أدري وأصبح قلبي يزداد عشقا بك كشارب خمر يستزيد شربها لتطفئ نار حزنه لكن مزيدها لم يزده إلا حزنا وتشعل في قلبه نارا. لمس خدّي الساخن فأحسست بقشعريرة تسري في جسمي، أغمضت عينيّ ... أحبك! أحبك! أحبك! لن أدعك تهزمينني ولن أركع لك مرة ثانية، سأعذبك مثلما عذبتني وسأعصر قلبك مثلما عصرت قلبي ثم أشرب نبيذه لكي أسترجع قواي وأكسر قيود عشقك الذي برى قلبي وسحق بعدها الكأس الذي شربت منها سم عشقك. ماذا تريدين مني أيتها الغامضة وعلى أي طريق تريدين أن نسير، هل ترضين بي رفيقا يتأمل بهاء وجهك بأجفان جامدة ويقبض على نار حبك بأصابع غير مرتعشة؟ نعم أرضى بك رفيقا وأرضى بحب عذري دون اشتهاء، لكن هل أنت تستطيع أن تكتفي بشغف قلب يهيم ولا يستسلم ويشتعل لهيبا لكنه لا يذوب. هل تستطيع أن تحتمل عاصفة روحي المرتعشة التي لا تنصهر ولا تثور. خذ بيدي واعشق روحي وضم جسدي واجعل روحي تنصهر في روحك من غير أن تلمسني فذاك سيكشف سري.

رن جرس الهاتف فانقطع حوار صمتنا كما انقطع ذلك التيار الذي كان يجري في جسدينا. وطبع قبلة على جبيني، نهض ببطء شديد، أمسك سماعة التلفون الذي كان على زاوية مائدة صغيرة بالقرب منه.

ـ ألو، أهلا سوزان. كيف حالك ... الله يبارك فيك ... فعلا كانت مفاجأة ... حاضر.

التفت إليّ بعينين يملؤها بريق العتاب وابتسامة تشع دفئا:هل لك رغبة في زيارة سوزان إنها تدعونا لنشرب الشاي عندها.

_ ليس عندي مانع.

ـ ألو سوزان ... بعد نصف ساعة سنكون عندك. إلى اللقاء.

التفت إليّ وقال: اذهبي إلى الحمام واغسلي وجهك بالماء البارد عله يخفي احمرار عينيك.

كانت فيلا سوزان ملتصقة بفيلا نبيل. الأنوار في الصالون حالمة، اللوحات المعلقة على الجدران تحمل صور الطبيعة لتلك المجتمعات السمراء؛ أكواخ متناثرة في وسط غابات ذات الأرواح التي لا تنام والأطفال عراة يلعبون بالوحل، صانعين منه أشكالا لأشياء كانت لا تتحقق إلاّّ في أحلامهم، صورة أخرى معلقة بالقرب من فيل مصنوع من النحاس شامخا بعنفوان، ساخطا، رافضا تواجده في أرض بغير تمرد، أرض تخلو منها الحياة الحرة. عيناه مصوبتان نحو اللوحة التي كانت تحمل صورة ضباب كثيف منحدر من قمم الهضاب المرتفعة وقطيع من الفيلة تتبع ظلالها التي كانت تحجب عنهم حرارة الشمس. يحدق بهم متأملا علوّ صوتهم الذي كان يثور مع العواصف ومع البراكين ويبتسم أحيانا بثغور الاخضرار اليانعة فتراه يشد رأسه إلى فوق الصورة رافضا المثول على السجادة العجمية، محاولا أن يدخل الصورة ويتوغل معهم في تلك الأراضي المنبسطة والأدغال السمراء.جلس نبيل على الأريكة المغلفة بجلد النمر وجلست بالقرب منه وسوزان على الأريكة الأخرى. تلقّى نبيل سوزان بابتسامته المعهودة، شدّ على يدها وقبل أن ينزل بجسده على الأريكة سألها:

ـ أين البنات؟

ـ نمن مبكرا لأنهن كن في رحلة مدرسية. سولونج تتعبني كثيرا بأسئلتها عن غياب أبيها.

ـ أما زال مع فلورانس؟

ـ إنه مع فلورانس ومع غيرها. لم يعد يهمني، لكن البنات يفكرن فيه دائما وهذا يزعجني ويؤلم قلبي.

نهضت من مكانها واتجهت إلى المطبخ لتحضر الشاي.

التفت نبيل إليّ وقال: مسكينة سوزان منذ تزوجت من أوسكار وهو يعذبها بلعبه بالنار.

قلت له بعصبية: هو يلعب بالنار وهي تحترق بها. لو كانت هي تلعب بها لأحرقتها.

أقبلت سوزان تبتسم وفي يدها صينية الشاي، وضعتها على المائدة وقالت: لو كنت مكاني أيتها الثائرة ماذا كنت ستفعلين؟

قلت بغضب: لن أعيش مع زوج لا يحترمني.

كان نبيل ينظر إليّ صامتا يتأملني وأنا أتحدث والكلام يختنق في صدري. اقترب منّي وأمسك يدي وهو ينظر إلى سوزان ويبتسم: إن الرجال ليسوا سواء.

قالت سوزان بغية تغيير الموضوع: قالت لي غالية بأنك قضيت أياما جميلة في المغرب.

وضع يده على كتفي وقال مبتسما: لقد كانت أياما جميلة لن أنساها ما حييت.

قالت سوزان: ما رأيكم في أن نتعشى غدا في الفندق الكبير بمناسبة زفافكما الميمون.

نظرت إلى نبيل، احمر وجهي، شعرت بقشعريرة نفضت جسمي. قالت سوزان باللغة الفرنسية موجهة كلامها لي وهي تبتسم: وقعت حبا يا غالية.

قال نبيل وهو يبتسم: أبدأتما تتنافران؟ تكلما باللغة الإنجليزية لكي أفهم.

أجابت سوزان وهي تضحك: لا نريدك أن تفهم.

غادرنا سوزان بروح مشرقة إلى البيت، كانت يدي دافئة ترتعش في يده، تيار قوي يشدني إليه، تمنيت أن أرتمي بين أحضانه وأنام إلى الأبد.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:28 PM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الرابع عشر - الجزء 1



صراع وارتعاش



استيقظت باكرا على بعثرتي المعتادة، متداخلة في مسامات جلدي، أناجي روحي المتدلية من السقف، أتجول في تاريخها وأحيانا أتنزه في ذكرياتها. تذكرت اليوم الذي غادرت فيه العائلة المغربية ولا أعرف أين المصير كالتائه في الصحراء أو كالذي تكسر زورقه في أعماق البحر فظل يسبح بكل قوته محاولا الخروج إلى اليابسة فاقدا الأمل الذي كان يراه معلقا بين زرقة السماء وغضب البحر. سمعت خطوات نبيل الذي خرج من الحمام وأغلق بابه بحذر حتى لا يوقظني. لملمت كسلي قطرة ... قطرة وجنوني يقذفني بعيدا إلى نار الغيرة. هذه المرة أبيت أن أهيئ له الفطور كما أبيت أن أقف أمام شرفة المطبخ وألوح له بيدي حين يغادر إلى عمله. سمعت باب الفيلا يُفتح ثم يقفل غمغمت في نفسي: لقد غادر فارس أوهامي إلى العمل. أسرعت إلى المطبخ وجلست حول مائدة الطعام أحتسي القهوة وأخط كلمات مضطربة على ورقة.

أحس أنني بحاجة للذهاب إلى القرية السياحية، أريد أن أخلو لنفسي قليلا، لن أتأخر كثيرا قد أعود قبل أن ترجع من العمل.

غالية

تذكر نبيل أوراقا نسيها في درج مكتبه فرجع لأخذها. في تلك اللحظة غادرت المركز ووقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة. كانت السيارات تمر بسرعة البرق. توقفت واحدة أمامي، أخرج السائق رأسه من النافدة موجها كلامه لي: وين يْبِّي الحلو يروح؟ تراجعت إلى أقصى الرصيف خوفا. تكررت المسألة مرارا إلى أن شاهدت سيارة مرسديس تصعد إلى الرصيف وتقف أمامي ثم ينحني السائق محاولا فتح باب سيارته الجانبي ويقول: اركبي يا حلو. خفت ورجعت هاربة إلى باب المركز. كان نبيل يناديني لكنني لم أسمعه فجأة اقتربت سيارة أجرة فأسرعت نحوها وانطلقت بي كالريح بعيدا عن تلك الأوساط المتوحشة، المكبلة طريقها بالأصفاد. ركب نبيل سيارته واتجه إلى باب المركز محاولا اللحاق بي، نظر إلى حارس الباب جالسا على كرسيه الصغير مشغولا بصنع الشاي، ويدندن مع أغنية سفن سكندس ليوسو ندور.

ـ لماذا لم تستوقف غالية؟

ـ صباح الخير أولا يا دكتور.

ـ صباح الخير، لقد شاهدتني أناديها.

ـ وما شأني أنا بذلك؟

لم يعقب نبيل على كلامه، اكتفى بسبه، ودعس على دواسة البنزين بعصبية محاولا اللحاق بغالية إلى القرية السياحية. نسي شغله ونسي نفسه وأهله، نسي كل شيء مثل الفاقد لذاكرته. وصلت إلى القرية السياحية، دفعت أجرة التاكسي ثم مشت بخطوات متثاقلة تجاه البحر. وصل نبيل بعدها بخمس دقائق. أوقف سيارته في موقف السيارات ثم لحقها بحذر كي لا تراه. هو نفسه يتعجب كيف أصبح معلقا بأذيالها، مجرورا فوق ترابها لا يعرف ظنونه ولا يعرف أهواءه، يستغرب من إحساسه الذي يضغط عليه أن يطلب منها قضاء ليلة في أحضانه. اتجهت صوب الشاطئ متجهة نحو الصخرة الكبيرة التي كانت داخل الماء من غير أن تخلع حذاءها كالذي فقد أحاسيسه وآماله في الدنيا راغبا إلى دنيا أخرى وراء الأمواج. كان يراقبها من بعيد وهي تتسلق الصخرة إلى قمتها. سافر شعرها الطويل مع رياح البحر وبسطت ذراعيها تستنشق ذلك الهواء دون أن تبدي حركة وكأنها تمثال الحرية. اقتربت موجة عالية، تكسرت على الصخرة فبللتها إلى أن التصق فستانها الأبيض الطويل بجسمها، فقدت توازنها وكادت أن تقع في البحر. في تلك اللحظة تجمد نبيل في مكانه وكاد قلبه يقع بين رجليه خوفا علي لكن شيئا بداخله كان يمنعه من الذهاب إليها، أما هي فلم تعر أي اهتمام لتبلل جسمها، ثبتت وقفتها وظلت شامخة كشموخ الصخرة التي تستقر تحت قدميها تنظر إلى البحر. كان رهيبا وعميقا، صوته تسلل إلى جسمها المحموم الذي يحتشد زهوا ويستنفر الأمواج. كان نبيل يراقبها. ظلت واقفة مكانها فوق الصخرة، أحيانا تنظر إلى السماء وأحيانا إلى البحر. لم تتعب قدماها من عناء الوقوف كما لم تتعب الأمواج من الانكسار على الصخرة. غربت الشمس واشتد البرد وبدأ الظلام يلون أجواء المنطقة. لم يعد أحد يسبح في البحر أو يجلس على الشاطئ. كل غادر المكان. أرعبها سكون المكان ووحشته وأحست ببرودة في جسدها وبلل فستانها فنزلت من الصخرة متجهة إلى خارج القرية السياحية. تذكرت نبيل، انشغل بالها، بدأت تعطس وتسعل وترتعش ملتفتة يمنة ويسرة لعلها تجد سيارة أجرة لتعود إلى البيت. انتابتها آلام في معدتها وانحنى ظهرها إلى ركبتيها، وقعت على الأرض مغمى عليها، في تلك اللحظة أسرع نبيل إليها وحملها بين ذراعيه متجها إلى سيارته التي كانت على مقربة منه في موقف السيارات. وضعها في المقعد الخلفي ثم انطلق بسرعة إلى المركز الإفريقي، وفي طريقه اتصل هاتفيا بسوزان معتذرا لها عن عدم استطاعتهما تلبية دعوتها إلى الفندق الكبير، شارحا لها حالة غالية. اعتاد نبيل أن يشاهد تلك النوبات بين الفينة والأخرى لذلك لم يأخذها إلى المستشفى. طوال الطريق كان يقود السيارة وبين الحين والآخر يضع يده على جبينها ليتفحص حرارة جسمها. وصل إلى المركز وأوقف السيارة أمام باب الفيلا، حملها بين ذراعيه، كانت ثيابها مبللة وجسمها باردا. أدخلها إلى غرفته ثم وضعها على سريره، انتصب كالتمثال واقفا ينظر إليها ثم حول وجهه إلى مرآة خزانته الكبيرة التي تصل أرض الغرفة بسقفها محدقا بشحوبه متفرسا وجهه، متأملا طول قامته ثم حول النظر إليها مرة أخرى وظل واقفا، جامدا على تلك الحالة قرابة ساعة فأوحي له بأفكاٍر تكشف عن بواطن روحه، اقترب منها وانحنى نحوها إلى أن أوشك أن يضع شفتيه على شفتيها ويلصق جسمها بجسمه، تراجع بسرعة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أسرع إلى الحمام وبعد دقائق ليست طويلة رجع إليها ثم حملها وأرجعها إلى غرفتها ووضعها على السرير. كانت تهذي والعرق يتصبب من كل جسمها، انتبه أخيرا أن فستانها مبلل، خلعه برفق، ألبسها قميص نومها وهي مازالت تهذي. هذه المرة طالت غيبوبتها، فأحس بالذعر لسوء حالها ولم يعرف كيف يداويها. أسرع إلى الهاتف وتلفن إلى صديقه الدكتور جورج الذي كان في سيارته ليس بعيدا عن المركز وما هي إلا عشر دقائق حتى أوقف سيارته أمام باب الفيلا. فتح له نبيل الباب.

ـ أهلا وسهلا دكتور.

قال الدكتور جورج مبتسما: أين غبت يا صديقي، شهرين لم نسمع عنك خبرا!

ـ كنت في إجازة في المغرب.

ـ حمدا لله على سلامتك أين غالية؟

ـ في غرفتها، تفضل.

دخل الدكتور جورج إلى الغرفة وشرع في فحصه الروتيني، جس نبضها وفحص ضغطها، كانت حرارتها مرتفعة والعرق يسيل من جسمها من غير توقف.

ـ ماذا يا دكتور ما الأمر؟

ـ إن غالية تعاني من اكتئاب نفسي قديم وتحتاج إلى علاج نفسي.

ـ ماذا تقول؟

ـ المشكلة ليست في المعدة فقط. آلام المعدة تنتابها بسبب القلق والتوتر الذي زاد عن حده فأصبح يشكل لها إغماء.

ـ وما العمل يا صديقي؟

ـ سأعطيها حقنة مهدئة الآن وهذه وصفة بها دواء للسعال والرشح لكن لابد لها من علاج نفسي.

أنهى الدكتور جورج فحصه لغالية فرافقه نبيل إلى الصالون.

ـ ماذا تريد أن تشرب؟

ـ عصير البرتقال مع كثير من الثلج، شكرا.

أحضر نبيل العصير وسأله مستفهما حائرا: ما سبب الاكتئاب؟

ـ من المؤكد أنها تعرضت لحادثة مزعجة في صغرها فأثرت في نفسها وظلت تلاحق فكرها. من الأفضل أن تسافر إلى بلدها وتكون بين أهلها فوجودها هنا بعيدا عنهم لا يساعد على حل مشكلتها.

ـ إنها ستسافر إلى أمريكا لتدرس هناك.

ـ حسنا هناك يمكن أن تعالج نفسها.

انصرف الدكتور جورج تاركا صديقه في عتمة من الحزن والحيرة. رجع إلى غرفتها، جلس على الكرسي الذي كان بجانب السرير يتأملها. نهض وجلس بحافة السرير، يترقب قطرات العرق التي تنزل عن جبينها. اقترب منها، مد يده على شعرها المبلل بالعرق ومياه البحر الملحة وحدث سكون مفعم بحفيف أوراق الشجرة التي تطل من النافدة. أغمض عينيه مصغيا إلى صدى دقات قلبها، أما هي فكانت كأميرة البحر التي ألقي بها في الشط، فافتقدت الماء كما افتقدت الحرية فغط على قلبها وأغشي عليها ولما فتحت عينيها لم تكن ترى غير البحر متشحا بدثار من الضباب ثم أغمضتهما مرة ثانية. شعر نبيل بالتعب فغادر إلى غرفته ونام. استيقظ باكرا، هيأ الفطور وأحضره إلى غرفتها.

الزمن يركض خلف ذلك السر ... والحب يتألم، قلبه يلهث وينزف جرح الوصول إلى بر الأمان. جهلنا اتسع ليشملنا جميعا. كلانا اختار الدرع والرماح، ليس لأننا نحب الحرب، بل لأننا لا نملك سواه. هل يمكننا ارتداء المحبة التي لا تعرف حب السلطة والتملك...؟ ما زلت في سريري متوسدة أحلامي المثقوبة، أتقلب على تلك المقولة الجميلة لجبران خليل جبران. " هل يستطيع هؤلاء المخاليق إدراك حقيقة الأمور وهم محدقون بأواسطها. أليس للأمور رؤوس وأذناب؟ أحب الذين أحرقوا ورجموا وشنقوا وقضوا من أجل فكرة امتلكت عقولهم أو عاطفة أشعلت قلوبهم."

سمعت صوته ففتحت عينيّ على أسطورتي وحروفي مستغربة:كيف؟ أعني من أحضرني إلى البيت؟ أذهلني نور الشمس الذي يشع من النافدة راقصا بنوره، هل ... أعني هل هذا يوم جديد؟

اقترب مني وقال: صباح الخير أولا. أما عن سؤالك كيف جئت إلى هنا؟ فأنا الذي أحضرتك. أما متى؟ فكان ذلك البارحة، واليوم فهو يوم جديد والآن هيا افطري، خرجت البارحة من غير فطور ثم إنك لم تأكلي شيئا طوال وجودك على شاطئ البحر.

- كيف عرفت؟ أعني من أخبرك؟

نظر إليّ مبتسما، مد إليّ كوب العصير وقال: أخبرتني نفسي.

نظرت إليه بذهول وقلت: هل كنت هناك؟

ـ روحي وقلبي وعقلي وجوارحي كلها كانت هناك.

نظرت إليه بعينين تتوقان لاختراق عينيه ثم التفتت إلى صينية الفطور، أتأمل الوردة الحمراء التي كانت موضوعة على منديل ورقي أبيض. حملتها في شغف أستنشقها ثم وضعتها في يده.

نظر إلي في شوق وقال: هي لك يا غالية.أمسك فنجان القهوة، رشف منه وكأنه يريد بذلك أن يحجب ضعفه أمامي.

ـ لقد حان وقت ذهابي إلى العمل، لابد أن أنهي بعض الأشغال المهمة قبل أن نسافر. إن احتجت شيئا اتصلي بي أو بسوزان التي من المؤكد ستزورك فهي تعلم بتعبك أمس.

وضع قبلة خاطفة على جبيني كعادته ثم انصرف وتركني أبحر بزورقي الصغير في بحر حديثه. تمنيت أن أكون لك لأنني وجدت فيك حبا يفوق أي حب...تمنيت أن أكون تحت ظل جناحيك لأظلل نفسي كلما توقدت حرارة الشمس في صحراء حياتي و أن أكون تلك الأنفاس التي في صدرك أو إحدى خفقات قلبك مستمتعة بإيصال دمائك إلى أوردتي. بكيت حتى سالت روحي متحسرة على قدري الذي حمّلني وزر ذلك الغيم الذي يعلن الأسرار والسقوط. فكرت أن أعترف له بسري فارتجف لساني، دفنت وجهي تحت الوسادة. صمتي في مواقف كهذه تثير أعصابه. إصراره على التحقيق معي لن يجدي نفعا، لماذا يصر على مواصلة التحقيق ولو بطريقة غير مباشرة؟ ذلك يجعلني ألبس دروعي وأهرب منه إلى مخابئ نفسي وأرتحل بعيدا عنه ولو أنه قربي. لماذا يقوم بعملية الكر والفر والتكتكة، فأنا منذ الطفولة تدربت على القيام بدور الثائر المتمرد الذي لا يمنح لمحققيه فرصة الولوج من ثغوره. جنّدني الزمان ... علمني ... ومع مروره اكتسبت التمرّس في الدفاع عن نفسي فأصبحت شديدة البأس غير مبالية بكل النعوت التي يشيرون بها إلي وبكل الألقاب التي يلبسوني إياها " كانت نافذة غرفتي مفتوحة على حديقة الفيلا الخلفية التي يُسمع منها حفيف تلك الشجرة التي تطل عليّ دائما، على أحد أغصانها شحرور يغرد والشمس مشرقة ساطعة كعادتها في ذلك الصباح والأزهار ترقص متمايلة يمنة ويسرة مع إيقاع النسيم والفراشات كانت تتطاير فوقها وهي تبتسم لسعادتها وبراعة رقصها وانسجامها مع لحن الطبيعة. وأنا أستجمع شرودي وسط ظلام ذلك الصبح المشرق إلى أن أغمضت عيني وسط منام، شحرور يغرد فوق فوهة بركان ثائر وأنا حورية عارية أرقص مع هياكل القبور وطفلة صغيرة تلعب بالقرب من قبر وفي يدها دمية تحاول رميها في حفرة قبر مجهول. اهتزت فرائصي وانتفضت في سريري، أحسست بصداع في رأسي، فتحت عيني. التفتت إلى النافدة لأرى الشحرور وجدته لا يغرد ولا يرفرف. قشعريرة سرت في جسدي، أغمضت عينيّ محاولة الهرب من هواجس أفكاري فلم أر إلا نفسي أجري بين صفوف من الوجوه العابسة المكفهرة تحاول الانقضاض عليّ وأنا أجري وأنظر إليهم متوسلة، فتحت عينيّ لكي أهرب من تلك الوجوه الشاحبة فلم أر في يقظتي سوى الحزن والأسى. رن الهاتف، نهضت من سريري متثاقلة.

ـ ألو...أهلا نبيل... لا صوتي طبيعي ... نعم، تحسنت ... لا، ليس من الضروري أن تعود مبكرا ... لم تأت سوزان ولم تتصل ... ربما .... أو ربما يشغلها شاغل ... وضعت سماعة الهاتف، جلست على الأريكة في الصالون ألملم وحدتي التي تقاسم عويل الصمت في أنفاسي. أردت أن أهيء الغداء، لم أشعر برغبة في ذلك، رجعت إلى غرفتي واستلقيت على ضجري أتلوى تحت الغطاء المتلفع بضجيج الصمت إلى أن غفوت. أيقظتني لمسة يد دافئة على جبيني.

ـ أما زلت نائمة يا غالية؟

ـ ليست لي رغبة في القيام بأي شيء.

ـ اسمعي لدي فكرة، اتصل بي صديق سوداني يدعوني لحضور زفافه، ما رأيك أن نذهب سويا بعدما نتعشى بمطعم يطل على عشيقك ونديمك البحر.

احمر وجهي داخل أنفاسي المتجمدة، احتضن وجهي بيديه وقال وهو يبتسم.

ـ لماذا الخجل؟ الحب ليس عيبا إنه هبة يزرعها الله في القلوب الطاهرة فيجعلها تتآلف ببعضها. اذهبي واغتسلي. سأكون بانتظارك أيتها الأميرة المدللة.

ضحكت من ضحكه، ذهبت إلى الحمام، أخذت دوشاً سريعا ولبست فستانا أسود يرسم ملامح وتفاصيل جسدي. وبينما أمشط شعري تهيأ لي سميرا ينظر إليّ من خلال المرآة ... حزينا ... متألما:" ماذا يا غالية؟ إن أخطأت في حقك فالله يعفو ويغفر لكنك أنت كنت الجلاد الذي لا يرحم.

ـ ظلمتني واتهمتني وكنت ...

ـ لا يا غالية، أنا سمير الذي أحب طهارتك وعفتك وحسن سلوكك وتمردك وأحب تلك الأيام الحلوة الجميلة التي قضاها معك والتي كان لك فيها رقيبا وحارسا في فيافي شمال إفريقيا. بحق القدر الذي جمعنا في تلك الصحراء أن تصفحي عني.

رفعت عينيها إلى المرآة وكانت تشع ببريق دموعها.

_ تعرف أيها الشاب المثقف الوسيم تلك الأيام كنت تعتبرها أيام تسلية ولعب مع فتاة تهوى العشق واللهو، حاولت معي في سهراتك الليلية وجعلت مني أميرة الحفل بشرائك لي فستانا بمئات الدولارات وكنت بذلك تتباهى برفقتك لي. لم أكن مغفلة ولو أنه لم يسبق لي قط احتكاك مع الجنس الآخر ولا أعرف تفكيره وتعامله لكنني أشكر الله الذي كان يضيء نجوم سمائي حتى لا أسقط في حفر كلماتك.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 10:30 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 الفصل الرابع عشر الجزء 2


الفصل الرابع عشر الجزء 2

كان يستمع إليّ ويحرك رأسه نافيا قولي ... أخرج يديه من المرآة، متوسلا:

_ لا، لا أرجوك لا تقولي هذا أحببتك فعلا وما زلت أحبك.

ـ اسمع يا سمير كف عن تبريراتك الكاذبة.

تذكرت ليلة سهرتي الأولى معه في الفندق الكبير وتذكرت الكوكتيل ومذاقه المر الذي غير حلاوة علاقتي معه وكشف لي مكامن مراده وغايته. سألت نفسي مرات عدّة وأنا أحتسي ذلك الكوكتيل إن كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المنبهات فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ولكنني عندما تذكرت حوار رفاقك معك وضحكهم على اسمي وعلاقتك بي أيقنت أنني لست من الضعيفات المستسلمات إلى الأحلام بل من اللواتي لا يستسلمن إلى خداع أنفسهن بالأكاذيب والغش والحب الزائف، رغم أن الحياة تسير بهن في طرق ضيقة مغروسة بالأشواك والورود، المحفوفة بالذئاب الجائعة والأفاعي السامة. أنا لا أفتري عليك. كنت ملاكي الحبيب وكانت أشواقي لك تطير مع نسيم تلك الصحراء وسكونها. أنْسَيْتَني تعب سفري، وهوّنت صعابي فجعلتني أحلم بعش يجمعنا ويحضن أحلامنا ... أحلاما كانت ستصبح واقعا ... أظهرت لك احتشامي وخجلي ووقاري وحبست غرائز نفسي وأعرف أن ذلك نوع من الرياء الأبيض المعروف في تقاليدنا وعادتنا باسم التهذيب. إن أحَبَّ المرء نَظُفَ وإن عشق لَطُفَ فصار عشقه طاهرا، فلا يؤذي حبيبه ولا يفعل ما يسيء إليه، بل يضحي من أجله ولا يقوم بما يشين، بل يفعل ما يُرضي الحبيب كي يظفر بحبه ورضاه. أنا لست تلك الحبيبة التي ترضى بحبيب مزيف سفيه كان سيدنس ذلك الحب الطاهر برذيلته. جعلتني بتصرفك أنظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة، فلم أعد أرى غير الظلام، هذا الذي وقف فينا نادبا، نائحا، باكيا بدموع محرقة علينا، متأوها لحالنا. كنت النار والنور في آن واحد وكنت لي الظل في تلك الصحراء، وكنت الدفء التي يسري في أوصالي عندما تغيب الشمس. إنني شديدة الإيمان بالحب لأنه جزء لا يتجزأ من إنسانية الإنسان، به يسمو وبه يتطهر وبه يحقق أسمى عواطفه. لقد خذلتني وتركت في نفسي جروحا مؤلمة، فلماذا أستسلم مادام حبي لم يقابل منك إلا الغدر؟!

_ بالله كفى تقريعا، كلامك أوجعني وأسال دما من قلبي.

أشحت وجهي لكي لا أرى عينيه وقلت: أنت من عينات مجتمعنا التي تقول غير ما تفعل. أتقنت دور الحضاري وأنك فهمت ظروفي وعند أول فرصة سانحة من وجهة نظرك حاولت الانقضاض علي لتحقيق رغباتك البهيمية. لم تراع إحساسي آه ... هل هناك ألم يفوق هذا الألم!" هل أنت تدافع عن الحب ... هل أنت تدافع عن الشرف.. أيها الرجل؟

ـ أنا سمير يا غالية الذي أحبّك بصدق وآمن بالحب بعد لقائك.

ـ أنت مثلهم تدعي الحكمة وتحاول تشكيل المرأة كما ترغب أنت لا كما ترغب هي. لقد استهترت بقضيتي، واستهزأت بمشكلتي المزمنة، وغفلت عما يجري في قلبي من آلام وأحزان وما تعانيه روحي في دياجير ظلامها تجري خائفة من الكوابيس التي تطاردها. بقلبي حروب ومجازر أكثر شراسة من التي تدور حولك وتتحدث عنها بشغف. أنا الفتاة ... الأنثى ... أنا منبع الحب وأصل العالم.

أطلت مكوثي في الحمام، لحق بي نبيل، يطرق الباب: هيا بسرعة.

زفرت بعمق وكلماتي تستل حزينة: أنا قادمة حالا.

تهيأ لي سمير ينظر محاولا أن يخترق بنظراته الباب ليرى ذلك الرجل الذي سلبني منه ثم تراجع بخطوات إلى الخلف إلى أن اختفي.

ـ مع من كنت تتحدثين؟

ـ كنت أتحدث مع نفسي.

ـ هيا بنا سنقضي الليلة في حفل لم يحدث أن رأيته من قبل. لكن أولا سنتغذى في مصراتة، أريد أن تكون الليلة ليلة فريدة تشعرين فيها بالسعادة وتنسين فيها كل ما جرى لك من تعب.

الجو مازالت تدفئه خيوط أشعة الشمس الملتفة على كل جزء من فضاء طرابلس. انطلقت السيارة في الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مصراتة. وضع نبيل شريطا لحنان بولو بولو المغنية الحبشية صاحبة الغناء الشبابي وهو يحرك رأسه متتبعا نغمات إيقاع صوتها الرقيق العذب. وأحيانا يضرب بيده اليمنى على فخده متجاوبا مع لحن الموسيقى الممزوجة بالإيقاع الأثيوبي والسوداني. كنت أنظر إليه وأبتسم. فرحه من سعادتي التي اختطفها القدر، وبعد حين خفض من صوت الموسيقى وقال:

- تعرفين يا غالية من الآن لن أبرحك حتى نسافر إلى أمريكا إن شاء الله.

انشرح صدري وابتسمت. ساد هدوء ممل، التفت إلي مصطنعا ابتسامة وقال: ما بك غالية؟

تمتمت عن عدم ارتياح وقلت: وعملك من سيقوم به؟

ضحك ثم أمسك بيدي وقال: اطمئني سأقوم بعملي في البيت وسأحول رقم هاتف المكتب إلى البيت هكذا أكون بجانبك يا أميرتي.

وضع شريط محمد وردي في المسجلة، هذا الفنان الذي أنشد بالغناء النوبي في صعيد مصر، والأغاني العربية في بلاد الرافدين وبالسودانية كل القارة السمراء، صوته يشفي شيئا ما بداخلي، يشبهني إلى حد ما، رغم أنه تنقل طويلا خارج الوطن إلا أنه ظل يحس به بوجدانه. كنت أنظر من خلال النافدة في صمت إلى الطريق. نفس الطريق التي سافرت فيها مع سمير، تحول ذلك الإيقاع السوداني في أذني إلى إيقاع أغنية جون دا سان وتحولت يد نبيل التي كانت تمسك بيدي إلى يد سمير، التفت فوجدته بجانبي يقود السيارة. كان في الثلاثين من عمره، حسن المظهر، أنيق الملبس، رشيق القامة، ذا لحية خفيفة، يرتدي حذاء من جلد التمساح، يلبس جرابا حريريا، يدخن المالبورو، يمسك بيده القوية يدي وباليد الثانية يمسك مقود السيارة. كانت رائحة عطره الإيطالي تفوح في كل أرجاء السيارة. استلقيت في استرخاء على المقعد، أغمضت عيني، أشرق وجهي وانبسطت ملامحه. لماذا أكرهه وأحبه؟ لماذا أتحدث بوجهين؟ لماذا أنا ولست أنا؟ لماذا أعيش في الحلم وأجري وراء السراب؟ تساؤلات انبعثت فجأة فاستيقظت من أحلامي، سحبت يدي التي كانت تلمس يده بسرعة. أستغرب أحيانا من تذبذب عواطفي... لا أستقر على موقف. أكره من لا يفهمني. هل أنا غريبة أم هم الغرباء؟ أتأمل ... أفكر ... لماذا هذه الحيرة ... أم أنها حيرة الأنثى في مجتمع لا يفكر في سعادة المرأة بل في استغلالها". كان يقود السيارة ويلتفت إلي من حين إلى آخر، ساعة طويلة مرت كالدهر، كلانا يتظاهر بالصمت مشغولا بالآخر، نقترب، نبتعد، نحب بعضنا في صمت. وصلنا إلى مصراتة هذه المدينة التي تجاوز عمرها ثلاثة آلاف عام والتي كانت إحدى المحطات التجارية في عهد الفينيقيين. المدينة ذات الرمال الذهبية والطبيعة الخلابة. توغلنا في نفس الشوارع والأزقة التي مشيت فيها يوما مع سمير، وكأن القدر يذكرني بماض قريب يستوجب أن أنساه. توقفت السيارة أمام مطعم مغطى جداره بأغصان أوراق العنب وبداخله نقش يمزج بين الفن الشرقي والمغربي، سقف منقوش بالرسوم والجدران تزينها لوحات زيتية منسجمة مع الأثاث ولون السقف والجدران، على كل طاولة غطاء أحمر وشمعة تحمل نفس اللون ووردة حمراء في مزهرية أنيقة.

ـ تفضلي غالية ماذا تريدين أن تأكلي؟

حمل لائحة بها قائمة الوجبات، نظر إليها وقال: ما رأيك في البوريك أكلة تونسية وليبية ستعجبك.

كنت أنظر إليه وحيرة تلبسني، تمنيت أن أبوح له بذلك السر الذي يطاردني أينما حللت أوارتحلت مضمدا عذريتي بالأزل المقدس.

نظر إليّ وقال: ما الذي يشغل بالك ويبعدك عني؟

رفعت وجهي ومددت يدي المرتبكة، تناولها بهدوء متأملا شعري الأسود الذي يتماوج مثل شلال غزير.

_ لا شيء، فقط أفكر في تقاليد أعراسنا. أتعجب في تمسك أهلنا بعادة قبيحة.

ـ عن أي شيء تتحدثين؟

ـ ليلة الدخلة ... الليلة التي تُمتحن فيها العروس ...

قال وهو يرفع كوب عصير البرتقال إلى فمه: إنها وحشية وجهل، عادات وتقاليد تحتاج لوقت طويل لتجاوزها.

_ إنهم متعطشون للدم لا يهم إن كان دم ذراع أم دم بكارة أو دم دجاجة؟ هل تؤمن بأن شرف المرأة هو عذريتها.

أشعل سيجارة والتفت إليّ فاصطدم بصره بعينيّ القلقتين: اسمعي يا غالية، شرف المرأة أخلاقها وعفتها، طهارتها واحترامها لذاتها وللآخرين.

قلت بامتعاض: إذا في نظرك أن شرف المرأة يثبت بعذريتها. لكن أليس على الرجل أن يحافظ على شرفه؟

تقلصت عضلات وجهه وجحظت عيناه وقال: الرجل رجل والمرأة امرأة.

ـ ما هذه المعادلة الرياضية المريضة يا دكتور؟

قطب عن جبينه وقال: إنها ليست معادلة، إنها الحقيقة. الرجل لا يتغير فيه شيء لكن المرأة تفقد أعز شيء؛ أهلها وزوجها ومجتمعها؟

ـ ما رأيك في الزوجة التي يخرج زوجها إلى العمل وتخونه على فراشه، أين هي عذريتها لتفضح خيانتها لزوجها. إن كان الشرف هو العذرية فمن المفترض أن تخلق لها كل يوم بكارة جديدة لكي تكون امتحانا لها ووسيلة تسهل اطمئنان زوجها عليها كل يوم كان غائبا عن بيته.

اندهش من كلامي وعاد يتأمل منظري الذي أصبح غريبا بالنسبة له.

قلت بنبرة غضب: اسمع يا دكتور أنا فقط أصحح لك معادلة خطأ ورثتها عن آبائك وأجدادك وتحافظ عليها بإخلاص.

تلك اللحظة شعرت كأن شيئا ما بينهما يتلاشى، نفض يده بغضب وقال: غريبة أنت تارة تتكلمين كالفيلسوف وتارة كالمجنون... من أنتِ؟

ضحكت من ألم، وعيني تشع حزنا لاكتشاف تفكيره الذي لا يختلف عن غيره: أخطأت أيضا في تقييمك لي. أظهر لك غريبة لكنني أنا الغريبة في داري وبين أهلي أجول تائهة بلا مأوى وأمشي نحو السراب عطشانة بدون ماء.

كان يتأمل دموعي وهو يمضغ ويبتسم.. دموعي تسعده، تمنحه إحساسا بالقوة والرجولة، تذكره أنني ما زلت الأضعف لكن في قرار نفسه كان لديه إحساس راسخ بأنني الأقوى رغم ضعفي ورغم اعتمادي الكلي عليه. قال بعدما استرد ابتسامته:

_ أنا لا أفهمك يا غالية، من أنتِ؟

أخذت نفسا عميقا وقلت بهدوء: أنا أسطورة خيال واقعي، أتأمل عيوب عشيرتي وطقوسهم الكاذبة لكنني عادلة بطبعي، أشفق عليهم فهم ورثة جهل وتقاليد. اكتفيت بتحويل نظري إلى الجهة المعاكسة لكي أحجبه عن إبصار ما يغيظني ويكوي قلبي.

جاء النادل بالبوريك وضعه على المائدة مع مقبلات من السلطات وانصرف.

قال وهو يتنهد مبتسما: إن مجتمعنا وطن الحضارات، يعتز بالقيم والأخلاق والشرف، ونحن نفتخر بانتمائنا.

عقبت على عجل: أية حضارات وأية قيم تتكلم عنها يا دكتور؟ حضاراتنا هدمها من كنا لهم الأصل وكانوا هم الفرع، فأصبحوا هم الأصل وأصبحنا نحن الفروع الهشة العاجزة. أي قيم تتحدث عنها مادام مفهومها غير مطبق بطريقة منطقية ونزيهة ومادام أناس يحللون لأنفسهم ويحرمون لغيرهم على هواهم باسم القيم والشرف وباسم الحنكة والتشريع؟ نحن أصبحنا في زمن أصبح الحق فيه باطلا والبهتان حقا جائزا، زمن تقدم فيه غيرنا علينا بفضل ما بدأناه، هم أخذوه منا واستفادوا منه وطوروه ونحن أصبحنا تحت رحمتهم في كل شيء. العرب أول من استخدم الصفر، ومازالوا يدورون حول حلقته المفرغة، متمسكين بأذيال الحريم والعبودية والجاه والخدم واستعباد النساء واستغلال أجسادهن وعقولهن وأرواحهن، وأهرقوا دماء كثيرة تجري أنهارا ودموعا غزيرة ترثي لواء الشرف، لكن قريبا سيأتي أفق جديد سيعلم فيه الناس بأنهم قد باعوا الحق في سوق البؤس، لكن من يجاهد في سبيل الحق لا يهزم ومن يزرع الحب لا محالة يحصد السعادة.

كان يستمع إلي ويمضغ طعامه محاولا ابتلاعه لكنه يقف في حلقه رافضا النزول إلى معدته فينزله بعصير الليمون.

ـ لماذا لا تأكلين يا غالية؟

ـ ليست لدي رغبة في الأكل.

ـ إن لم تأكلي لن آكل أنا أيضا.

رفعت قطعة البوريك إلى فمي أقضمها قطعا صغيرة وأبتلعها من غير مضغ، وحين انتهيت أرجعت ظهري إلى الوراء أتنقل ببصري بحذر كأنني أتفحص شيئا ما. اغتال القلق محياي، وتغير كل شيء يحيط بي في تلك اللحظة. المطعم صار رماديا داكنا والجو يجرجر أنفاسه المنقبضة على التنشق، هدوء صاخب بالصمت عم "ذات الرمال" وجعلها خريفا تتألم من الاحتضار ومات الأمل لقدوم الربيع ولم يبق إلا وجع يدثر روحها التي تختنق، تلتهب كالجحيم، جحيم اعتادته فأصبح بالنسبة لها من صيرورة البقاء.

رجعنا إلى طرابلس لحضور زفاف العائلة السودانية، كان صوت الموسيقى ينبعث من آخر الشارع بالكاد وجد نبيل مكانا ليوقف فيه السيارة. دخلنا إلى القاعة التي تغصُّ بالمدعوين، إيقاع جديد على مسامعي أدخل إلى قلبي البهجة والفرح. رحب أهل العريس بقدومنا. العروس جالسة بجانب عريسها، خجلة لا ترفع عينيها إلا نادرا لتسرق النظر إلى وجوه الحاضرين الذين كانت أعينهم مصوبة إليها أغلب الوقت لتتفرس جمالها. الفتيات ترتدين الزي التقليدي بألوانه الزاهية الجميلة والبسيطة، ينظرن للعروس وفي عيونهن الرغبة للجلوس يوما مكانها، يلتفتن إلى الشباب الذين يسرقون النظر إليهن وأحيانا أخرى يتبادلون النظرات، يقوم الفتيان فجأة من أماكنهم متجهين إلى مكان الرقص، يرفعون أيديهم إلى الأعلى وإلى الأمام مرددين ذلك مع إيقاع الطبل. إشارة بليغة تعني الأمام طريقنا والأعالي مرادنا، رقص يرمز إلى السلام والمحبة وإلى الإخاء. الفتيات يقمن أيضا في غنج ودلال إلى المكان الفسيح الخاص بالرقص ويتمايلن على إيقاع الموسيقى ويظل الجميع يتمايلون إلى أن يتعبوا فيعود كل واحد منهم إلى مكانه. كنت أنظر إلى العريس متسائلة في نفسي إن كان سيلعب دور البطل في ليلة الدخلة. أوشك الفجر، نهض عشرات من الرجال والشباب يرقصون الرقصة الأخيرة وتبعتهم النساء والفتيات وعلت الزغاريد والتصفيق. حان وقت الجد واقترب موعد الامتحان، كل ينتظر نجاح العروس بتفوق وامتياز. تقدم العريس الذي سيجري لعروسه الامتحان ولحق به والده ووالد العروس على مقدمتهم العرابة التي ستعلن صفيرها لمباشرة الامتحان. صعد الوفد إلى الطابق الثاني، فتحت العرابة باب الغرفة، أدخلت العريسين ثم أقفلت الباب. استأذنت نبيلا بحجة الذهاب إلى الحمام، تسللت إلى ذلك الطابق الذي سيجرى فيه المؤتمر المغلق ودخلت إلى الحمام أسترق السمع وأنظر من ثقب الباب وأترجف كدجاجة تنتظر الذبح. كان أهل العروس والعريس جالسين في توتر خارجا ينتظرون على أحر من الجمر نهاية معركة الاختراق. كل واحد منهم يمسك بيده ويضغط عليها بتوتر. فجأة سمع صراخ عال ثم صمت رهيب. أغشي على العروس. بعد دقائق سمعت حشرجة الباب متبوعة بوقع خطى لاهثة، نهض والدا العروسين على عجل وخطوا صوب الغرفة فاصطدمت أبصارهم بوجه العرابة التي كان وجهها مكدوما ومحتقنا لكنها ابتسمت ملء ثغرها، وزغردت ملوحة بقطعة قماش بيضاء ملطخة بالدم كراية النصر. شهقت أم العروس شهقات فرح واطمئنان وزغردت أم العريس، وتعالت زغاريد النساء بشكل تصاعدي إلى السماء لتهمس في أذنيها عن ليلة ليست ككل الليالي، ليلة حاسمة بالانتصار أو بالعار، ولحسن حظ العروس ليلتها كانت مترنحة بحلم وردي، والسماء تتراقص فيها النجوم اللامعة الأضواء، والقمر يبتسم للعروس وضوءه رذاذ دثر الخوف المتيبس ودبّ الاطمئنان في قلوب أهل الفرح. نزلت إلى قاعة الحفل التي كانت شبه خالية، كان نبيل ينتظرني.خطا متجها صوبي وقال:

ـ أين كنت؟

قالت متلعثمة: كنت بالحمام.

ـ كل هذه الفترة في الحمام ...ماذا بك؟ وجهك شاحب، هل أنت مريضة؟ هل تحسين بشيء؟

ـ أشعر بدوار وبرغبة في الاستفراغ أريد أن أذهب إلى البيت.

ودع نبيل أهل العروس مهنئا إياهم ثم غادرنا إلى المنزل.

في الصباح الباكر، استيقظت على استذكاري وانشغالي اللا منقطع، وجدت نبيل بمكتبه منهمكا في الكتابة.

ـ صباح الخير، ألم تذهب إلى العمل؟

ـ صباح الخير، ألم أقل لك بأنني سأنهي ما تبقى من واجبات العمل في البيت لأبقى بجانبك.

توجهت إلى الحمام. نظرت إلى وجهي في المرآة، فأذهلني شحوبه، اغتسلت بسرعة وغادرت إلى المطبخ لأهيئ الفطور. جسمي يرتجف من خوف يتسرب إلى داخلي متدحرجا خلف كوابيس جاوزت حدّ احتمالها. كلما أحاول إمساك وعاء يقع من يدي. اعترتني عصبية ساخطة على روحي التي تخذلني. هيأت الفطور ووضعته على مائدة المطبخ ثم ناديته فجاء مسرعا. جلس حول الطاولة ينظر إلي في صمت بينما كنت مشغولة أصب الشاي.

ـ ما بك غالية؟

ـ لا شيء ... أنا بخير.

ـ إن وجهك شاحب.

ارتعش جسدي وتساقط كأوراق الخريف وملعقة صغيرة بيدي تحرك بعصبية السكر لتذيبه. كان يأكل وينظر إلي في صمت، حاول مرتين التقرب إلي ليستطلع حقيقتي، ويزيل الستار عن ذلك الصمت المكتظ بالحزن فلم يظفر مني إلا بنظرات حادة تدل على الجفاء. أمسك يدي وقبلها، سحبتها منه ووقفت عادلة عن إكمال الفطور. اقترب مني، شدني إليه وضمني بقوة حتى كدت أن أختنق. صرخت في وجهه وهربت إلى غرفتي وأوصدت بابها.

ـ إنني لا أحب العنف. إنني أكرهك...أفهمت؟ أكرهك.. كان جسمي يرتجف بكل قوة والحزن يرشقني خلسة.الغرفة تهتز من حولي، أتوكأ على بقايا كابوسي المنكوش بلون المقبرة، وسيل من العرق يغرقني حتى الاختناق. أتمسك بمستقبلي المليء بالظلمات، وكلماتي تتسلق الجدران في رعب، وتستنجد بأبواب الخزانة إلى أن وقعت حروفا متناثرة على الأرض. سمع نبيل الارتطام فارتعدت فرائصه، ينادي من وراء الباب: افتحي يا غالية، لم أجبه، أسرع إلى الحديقة متجها إلى نافدة الغرفة، وجدني مستلقية على الأرض. فتح باب النافذة ودخل منها، جلس بقربي، أمسك بيدي الباردة كالثلج، حملني بين ذراعيه ووضعني على السرير متعجبا متسائلا في نفسه عن سلوكي الغريب، وعن ذلك الإغماء الذي يصيبني من حين إلى آخر. لم يفهم شيئا. أحضر قنينة عطر، فتح غطاءها ثم قربها من أنفي، حركت رأسي وغمغمت بكلام غير مفهوم:" لا أريد أن أموت، من فضلك يا أبي ارفع السكين عن عنقي. لم يفهم كلمة واحدة مما كنت أقول، اجتاحه شعور غريب سرى في عظامه، ريح عصفت به، يتسكع في وجهي، فتحت عيني، وجدته ينظر إلى الأرض هائما. قلت بصوت مبحوح وخافت:

ـ أريد كوبا من الماء.

مد لي كوب الماء، شربته، قطبت ما بين عيني متنهدة وقلت بصوت تملؤه الكآبة:

ـ لقد رأيت كابوسا مفزعا، كانوا يلاحقونني والسكاكين في أيديهم، يريدون قتلي. هذه المرة أمسكوا بي وكاد أحدهم أن يغرس السكين في صدري.

ـ من هم يا غالية؟

نظرت إليه وقالت بصوت يملؤه الحزن والأسى: لماذا تسأل؟ من سيكونون؟ أقول لك كابوسا وتسألني من هم؟

ـ نعم، من هم؟ إنها ليست المرة الأولى التي يلاحقونك فيها. إنك تتكلمين دائما بالألغاز فهل تكلمت ولو مرة واحدة بوضوح.

قلت كالملسوع: لماذا أخذتني البارحة إلى حفلة الزفاف؟

ـ لكي تروحي عن نفسك وتستمتعي بالطرب السوداني.

شحب وجهي وانفجرت شفتي عن خوف مبهم: لقد كانت ... تصرخ...

سأل عن امتعاض: من هي؟

_ العروس ... كانت تصرخ بكل ما لديها من قوة حتى أغمي عليها.

ضحك وقال: أذاك ما أحزنك وجعل وجهك شاحبا؟

ـ أكره سماع صراخ المرأة حين يكون الرجل يستمتع بصراخها. ذلك اسميه اغتصابا مادام يؤخذ بالقوة ...يا لعفة الحيوان ...ويا لدعارة الإنسان...

ـ لكن، ما ذنبي أنا أمام صورتك البشعة للحياة وللإنسان وتقديسك للحيوان؟ إنني أسعى جاهدا لإسعادك. ماذا تريدين أكثر من هذا؟

ـ هل تعتقد أن قشور الدنيا تغويني؟ إنني أكره الدنيا بما فيها. تمنيت أن أموت ... أريد أن أموت ...

أجهشت بالبكاء وهو يهدئ من روعي ويضمني بكل حنان إلى صدره.

- لا تكوني متشائمة يا غالية سأساعدك كي ينقلب تشاؤمك إلى تفاؤل وحزنك إلى سعادة وكرهك للدنيا إلى حب. أريد أن أقتل ذلك الكابوس بحبي لك، وأجعله صريعا لا يعاود الرجوع إليك يا حبيبتي.

ابتسمت راضية ولو أنني أعرف أن سري يستحيل أن يقع صريعا: شغلتك عن عملك.

ـ أنت شغلي وعملي وأنت حياتي وأنت حبي وكل شيء.

ابتسمت وأمسكت بيده ثم قدته إلى مكتبه: بعد ساعة سأحضر لك فنجانا من القهوة.

أتعجب لرجل متزوج له خمسة أولاد وشريكة حياة ضحت من أجله وسافرت بأولادها إلى السودان تجاهد لوحدها في تربيتهم بينما هو يحب فتاة أخرى ويعشقها ويعتبرها كل شيء في الحياة. أيوجد عدل في هذه الدنيا؟ إن اعترفت له بسري وقبلني زوجة لن أوافق أبدا، وإن وافقت عليّ ألا ألومه إن تزوج ثالثة ورابعة. شعرت برعشة في جسدي وتمتمت بامتعاض. حواء هي السبب في كل ما يصيبها، هي التي تشجعه أن يتزوج ثانية ثم تلومه باكية وتندب حظها لماذا تزوج عليها وهي الجزار الذي يذبح مستقبل المرأة ويقطع حبل الحب عندها ويسلخه ثم يخيطه وقلبها بارد كالسماء، لا تبالي بالصراخ بل تتلذذ به انتقاما لما جرى لها يوما، تجريه هي لغيرها باسم الحفاظ عن الشرف والعفة. علي أن أنسى هذه الملحمة وأتزوج العلم علّه يفتح قيودي وأفارق قضبان الرعب من الموت.

أنهى نبيل كل أعماله ولم يبق إلا السفر والتفرغ لحبيبته غالية، كان متأكدا أن أسلوبه معي وتعامله وحبّه لي سينتصر لا محالة فأنا وقعت في شباكه حسب اعتقاده، سيسافر معي لإنهاء خطته ويجعلني أركع أمامه طالبة منه أن يتزوجني زواجا حقيقيا وأن أحبه حبا حقيقيا.

حان وقت السفر، ودعت كل ركن من أركان طرابلس حتى الشوارع التي مررت يوما بها ذات يوم بسيارة سمير.

حان موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى روما ومن هناك إلى نيويورك. لم أصدق هل أنا في حلم يقظة أم أنني فعلا في طريقي إلى أمريكا بعيدا عن هاجس العرسان في المغرب وعن الأصفاد التي تكبل الروح وتخنقها. جلست بقرب النافدة أنظر إلى البحر وإلى زرقة السماء و نبيل في المقعد المجاور. كانت المقاعد متفرقة عن بعضها، كبيرة ومريحة تشبه الأسرة. ما زلت تحت سطوة الذهول، بعد إقلاع الطائرة بدقائق من مطار روما حتى أقبلت المضيفة مرحبة بالمسافرين في تلك المقطورة. تقدم لكل منهم صينية فضية بها القهوة والحلوى وتشكيلة من عصير الفواكه الطازجة. اندهشت للمقعد الذي أجلس فيه والذي لا يختلف عن باقي المقاعد في تلك المقطورة حيث يلتصق بها هاتف وفاكس خاص، إضافة إلى فتحات لإيصال جهاز الحاسوب، كما يوجد لكل مسافر جهاز تلفزيون صغير به قنوات عديدة، وعشرات من القنوات السمعية. طرت في وحدتي أتساءل إلى أين ستنتهي غربتي ووحدتي... إنها توجع روحي. لا أريد إلا حياة فتاة طبيعية. لا أريد لشمعتي أن يطفئها رذاذ الثلج ولا الليل يقذفني بظلمته الثملة ... أنا في طريقي الآن إلى الحرية ... أحلامي متسولة وأملي عويل لكلمات خاوية ... أتوسل للبحر أن يدع أمواجه تغسل روحي التي تتخبط بين تناقضات الأمكنة ... من يغسل هذا العار المعتم الذي تشعب بين ضلوعي واخترق عظامي ...؟ أي حرية ستغسله، قلبي يخفق الآن نبضات حزينة فرحة، وروحي تتنهد خائفة مستبسلة وأنا في طريقي ولا أعرف إلى أين المصير... ما زلت أنظر من خلال النافدة حتى أيقظتني لمسة نبيل.

ـ أين أنت يا غالية؟

ـ أنظر إلى البحر.

ـ غريب أمرك مع البحر إنني أغار منه؟

جاءت المضيفة بالطعام وتبعتها أخرى بمختلف المشروبات. أمسكت الشوكة والسكين أحرك الأكل ببطء شديد وأقطعه قطعا صغيرة، تذكرت أول مرة سافرت فيها إلى أمريكا مع الطلبة المغاربة التسعة الفائزين من كل جامعات المغرب، فرحتي ومتعتي مع الطلبة والأستاذة المشرفة على الرحلة ونحن في الدرجة الثانية نغني ونرقص فرحين بالنجاح وبالسفر لأول مرة إلى عالم جديد وها أنا الآن في طريقي مرة ثانية إلى أمريكا لأكمل المشوار، لكن فرحتي ملونة بالحزن. انتبه لشرودي ولكي يدخل علي البهجة ويوقف تلك المسافة التي تفصلني عنه قال.

_ سأعطيك شيئا كنت تبحثين عنه منذ سنين.

حدقت في وجهه وعينيه المرتبكتين مذهولة وقلت: ماذا ستعطيني أكثر مما أعطيتني؟

كانت الطائرة تبحر فوق المحيط الأطلسي نحو المدى وبين زرقة السماء والبحر تخترق طول المسافات المتخفية تحت الأزمنة، والشمس قد هبطت تماما مخلفة وراءها ظلالا حمراء، ووجه نبيل الأسمر الدافئ تعلوه ابتسامة عريضة.

ـ إنها مفاجأة.

ـ لا أعتقد أن هناك مفاجأة ستعجبني أكثر من هذه التي أعيشها معك الآن.

ـ إن الحياة حلوة جدا والإنسان هو الذي يصنع فيها السعادة أو الشقاء، ومادام بأيدينا القدرة على جعل أيامنا حلوة فيجب ألا نبخل على أنفسنا بإسعادها وإسعاد غيرنا.

تقلصت عضلات وجهي ورغم ذلك ابتسمت بصمت واستلقيت على مقعدي وتناولت مجلة أتصفحها، أقرأ سطرا هنا وسطرا هناك دون هاجس حقيقي بالرغبة في المواصلة، أغلقت المجلة وأعدتها إلى مكانها، أغمضت عيني... كيف لي أن أصنع السعادة بيدي ... كيف لي أن أسعد غيري وأنا أحمل وزر سري منذ طفولتي. بداخلي خوف دفين. ماذا بعد أمريكا والتخرج أليس الرجوع إلى الوطن؟ لكن رجوعي سينتهي بزواجي، شئت أم أبيت. هذا هو حال الفتاة في مجتمعنا. هل سأمكث في أمريكا... في بلاد غريبة عني في كل شيء. إن فعلت سأخسر أهلي، وذلك معناه خسران الدنيا والآخرة. وماذا عن الدكتور نبيل ... هذا الرجل الذي ضحى بكل شيء لأجل إسعادي. من أنا حتى يقوم بما قام به من أجلي؟ أهو الحب؟ لماذا سمح لنفسه أن يحبني؟ إنه متزوج . هل لأن الشرع أباح له أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع؟ وإن أباح له الشرع ذلك. فمن هنّ تلك النسوة حسب الشرع؟ وهل يستطيع أن يعدل بيننا؟ بطبيعة الحال مستحيل... إن العدل من صفات الخالق وليس البشر. إن نبيل لا يحبني أنا ولكنه يحب الدنيا ولو أن الله مد له عمرا طويلا وصحة وعافية سيتزوج عليّ عندما أصبح وردة ذابلة. نزلت الطائرة بمطار "جي إف كندي" ومن هناك إلى الفندق الذي كان نبيل قد حجز غرفة فيه. استلم المفتاح من مكتب الاستعلامات. الغرفة أنيقة والشرفة تطل على تمثال برج الحرية، في الغرفة سريران منفصلان، بجانب الأريكة ثلاجة صغيرة ومائدة عليها مزهرية مزينة بباقة من الورود. بريق الغرفة يشع فرحا وسط موسيقى هادئة تنبعث من التلفاز سرعان ما تبدّد فوق ركام كلمات مرتبكة ... أيعقل أنني سأنام معه في نفس الغرفة؟ هذا ما يبدو. ماذا يريد نبيل؟ على أي شيء ينوي؟ هل....لا مستحيل ... أما هو فقد أذهله غموض روحي التي تطلسم أفكاره وتجعل جدارا منيعا يفصلني عنه. هرولت إلى شرفة الغرفة لكي أتجنبه...أما هو فكان يحرك رأسه مبتسما. استحم ثم استلقى على السرير متجاهلا وجودي. كنت أنظر إلى تمثال الحرية من الشرفة، رفعت يدي وكأنني أريد أن أصافحه ... وأخيرا وصلت إليك أيتها الحرية...وأخيرا ساعدتني السماء أن أخرج إليك كخروج الأميرة من سجنها، تاركة خلفي الحلي والحلل والخدم والحشم، تاركة أهلي وعشيرتي. ما أردت إلا حقي وما فعلت إلا واجبي، طرت إليك بجناحي وفؤادي يهواك وعيني تتوق للنظر إليك. لا أستطيع أن أبكي العمر كله متوجعة خائفة من كوابيس الليل. عندما يبزغ الفجر أقول متى ينقضي النهار وعندما يحل الليل أقول متى يشرق الفجر. إن السماء لا تريدني أن أكون شقية لأنها وضعت في أعماقي الميل إلى الحرية والسعادة. هذه هي العقبة التي سرت عليها للوصول إليك سامعة نداء قلبي وصدى دقاته." خفضت عيني أنظر إلى الشارع، أرى السيارات وكأنها لعب صغيرة والناس يمشون بسرعة على الرصيف كدمى صغيرة متحركة. رفعت عيني أنظر إلى المياه التي تحيط بتمثال الحرية. التفت يمنة ويسرة، طوابق من غرف زجاجية واسعة، بعضها يفضي إلى الآخر، أستغرب اتساعها وكبر حجمها، مملوءة بأشياء لا تعد ولا تحصى، أشياء خارقة الجمال، مثيرة بزخارفها ... عالم بعيد ... غريب ... رهيب ... عملاق ... مخيف. في الغرفة أريكة مرتفعة وسجادة مبثوثة ونمارق مصفوفة. حولت نظري مرة أخرى إلى الشارع، تجهمت وقطبت ما بين عيني، أتأمل ذلك النمط من الحياة وذلك الاختلاف والتفاوت بين مجتمعي وهذا المجتمع الذي طالما تشوقت لأعود إليه. جلت بعيني من ذلك المكان المرتفع الذي أقف فيه متأملة تلك الناطحات العملاقة وذلك التفنن في الترف. هل هذا هو المجتمع الذي أريد العيش فيه؟ ماذا أريد وعن أي شيء أبحث؟ هل الحرية والاطمئنان هنا؟ هل حياة الاستقرار هنا؟ كم من مرة حلمت بهذا السفر... أصبح الحلم حقيقة لكنني لست سعيدة. لا أريد اكتشاف أسرار هذا العالم بقدر ما أريد البحث عن الهدوء والاستقرار بعيدا عن الضجيج. لا أريد أن أنقب في الماضي ولا عن المستقبل، لا أريد أن أكون عالة على نبيل هذا الرجل الغامض ماذا يريد مني؟ لماذا يساعدني؟ استيقظ نبيل على انحساري وضياعي.

ـ أما زلت واقفة هنا؟ يبدو أن نيويورك سحرتك بجمالها. ما رأيك في أن نتعشى خارجا؟

خرجت من أفكاري المتصارعة وابتسمت موافقة. انطلقت سيارة الأجرة تجري بسرعة، وذراع نبيل تمتد نحو كتفي، ولكي أبتعد منه أنزلت زجاجة النافدة، أخرجت رأسي، الريح تعبث بشعري، تبعثره في جميع الاتجاهات، أغمض عيني، أتحسس نعومة الهواء المنعش بذلك الجو الحار، أتنفس عبر أنفي وشعري وفمي. تتوقف السيارة أمام مطعم فسيح، أنزل بسرعة، يتبعني نبيل، يمسك بيدي ثم دخلنا إلى المطعم.

ـ تفضلي غالية.

لم تفارق الابتسامة وجهه. كنت أنظر يمنة ويسرة، كل شيء يشع بريقا. زجاج النوافذ، الموائد، اللوحات المعلقة على الجدران، الستائر والزبائن. أمسك يدي وقبلها قائلا:

ـ ها أنت الآن وصلت إلى البلد الذي كنت تحلمين بالرجوع إليه. أنا سعيد يا غالية بسعادتك وبتحقيق حلمك.

ـ إني لا أحلم إلا بمتابعة الدراسة في هدوء واطمئنان وبعيدا عن الضجيج.

قال محاولا أن يخرجني من حالة الوجوم: غدا سأنهي كل إجراءات تسجيلك بالجامعة.

كان يأكل وينظر إلي." إنها تحبني، لابد أن أكمل الخطة لكي أوقعها في شراكي بعدها لن تخرج منه أبدا. عنيدة لا ترضخ بسرعة لكنها أحبتني. سأتمكن من الولوج في صدرها والفوز بقلبها، سأصبر حتى يتحول شموخها إلى لين، سأكمل معها اللعبة حتى النهاية".

كنت آكل ببطء وأسرق النظر إليه من حين لآخر، ودقات قلبي تلهث من مطاردة غبار طفولتي وهي تنزع خمار ذكرياتي عبر لياليَ الحالكة قابضة على ترحالي ومفرداتي الخائبة "طقوسنا وتقاليدنا، أفكارنا وتعاليمنا، ضجيجنا وعويلنا جعل حبي لك يتحول إلى الكره والبغض لك ولكل الرجال الذين يبيعون أنفسهم ليشتروا بأثمانها أي شيء، ومن ضمن مشترياتكم المرأة معتقدين أنكم ملكتم العالم. طلبت الحرية لأنني مللت مجاملة السجان الذي يظن الطاعة في ضربات العنف والتسلط والترهيب نوعا من التهذيب ورفض الذل وعدم الرضوخ شكلا من المعصية. تعبت من وجودي في مجتمع يعظ بما لا يتعظ."

شعر بأنني لم أستطع المكوث في المطعم من فرط قلقي. أكمل سيجارته على عجل وسحق عقبها في المنفضة الفضية التي كانت تتوسط المائدة، نظر إليّ بعينين ساهمتين وهو يحكم وضع المعطف على كتفيه، لنذهب إلى الفندق، يجب أن ترتاحي. استلم مفتاح الغرفة وصعدنا المصعد في احتراق وألم وجوع وما هي إلا ثوان حتى توقف في الدور الخامس عشر حيث الغرفة. خلدت إلى روحي المتعبة ولم أستيقظ إلا بعد الظهر. شعرت بالضجر من كسلي المتناثر على جسدي ومن التفكير في المستقبل. روحي تئن من الوحدة الموحشة، نهضت من بين الوجع والجرح إلى الشرفة أتأمل تمثال الحرية الواقف بشموخ وسط المياه. ضحكت ضحكا كالبكاء. " ألست أنت تمثال الحرية ورمزها؟ لكنني أراك محاطا بالمياه من كل الجهات ... قدماك مكبلة داخل الأعماق. سعيت إليك بكل ما أملك من قوة لأن روحي وقلبي يعتصران لبعدي عنك. سئمت وجودي هناك كما سئمت التغني بالقيم والمثل غير الموجودة. لا أرى إلا هياكلها تتراقص فوق مسرح العدم. طلبتك لأن فيك حياة للروح والفكر والقلب وحياة للجسد. ثم قطعت الفيافي وحضنت المنافي للقائك وعانيت المر وكدت أنتحر. فيك أرى نور الشمس وأشم رائحة الأزهار وأسمع أغان ملائكية تطرب سمعي. وفيك أرى جمال الربيع ودفء الصيف وأرى ثمار الخريف وأرتوي بمياه الشتاء." أقبل نبيل مبتسما، فرحا: مساء الخير غالية. تم تسجيلك في الجامعة. بعد أسبوعين ستبدأ السنة الدراسية.

اقتربت منه فرحة حزينة وقلت: وأنت...أعني ...هل ... ولكنك ستبقى شهرا ...أليس كذلك؟

اقترب مني، ضمني إلى صدره في صمت وأخفى وجهه عني، تاركا لي أنفاسه الدافئة حتى لا أرى تقاسيم وجهه المتوترة.

ـ سأسافر بعد أسبوعين.

عصفت روحي أمطارا من الدموع لوحدتي التي تجري في دائرة تطوقني وتخنق روحي التي تلفظ آخر حزنها في كبرياء: لا تتركني وحيدة هنا، لا أريد أن أفارقك. كان يضمني في صمت وقلبه ينبض لاهثا، لن أتركك سأظل معك، إلى أن تصبحي ملكي. سأكمل مشواري معك حتى النهاية. سأجعلك تركعين متوسلة أن أضمك. همس في أذني:

ـ ماذا تريدين يا غالية لقد قمت بأكثر من واجبي، أخرجتك من سجن أهلك واضطررت لخداعهم بالزواج منك وإلا استحال سفرك معي. أرجعتك إلى هذا البلد الذي أمسى حلما بالنسبة إليك والتحقت بالجامعة.

ابتعدت عنه بخطوات خلف أملي الذي اختفى وسط عواء الريح وأنا في مهبّه أصارعه كي لا يرميني بعالم لا أشرعة فيه ولا شطآن: إنني ... إنني ... أنا ... لكن ... لا أعرف كيف ... لا شيء ... لا شيء ....

تقدم نحوي في حيرة أجلسني على حافة قلقي يمتحن شجوني الملقاة على قارعة جنون هتكناه سويا.

ـ موعد بداية الدراسة قد حان، أريدك أن تتفرغي لها بجدية كي تأتي إلي السنة القادمة بشهادة تفتخرين بها وأفتخر بها أنا أيضا. اسمعي، دعينا نستمتع بهذين الأسبوعين، نجعلها بطيبة روحينا أياما سعيدة، حالمة رغم ما يحيط بنا من الصور والأشباح ولندع عاطفتنا تنصهر في روحنا الواحدة.

وضعت رأسي بتجويف صدره، أرجف بين ذراعيه وأكفكف دمعي، لماذا أحببتك؟ لماذا أحببتني؟ بيني وبينك بون شاسع محفوف بأسمال من التقاليد البالية. لماذا شغفت بي وملت إلي ذلك الميل الشريف حسب تقاليدك؟ لماذا جعلتني زوجتك ولو على الأوراق ... لماذا ملكتني بكرمك اللامتناهي؟ إنني لا أستحقه لأنني لا أستطيع أن أهبك روحي، إنني أحمل جرحا صامتا منذ الأزل. ضمني إلى صدره برقة بالغة، رفع عينيه عن حبّ توارى في سقف الغرفة متدثرا بوشاح ملوح بالصمت. لن أتوقف عن كرمي، لن أتوقف عن حبي لك، سألبسك الحرير وأزين معصمك بالجواهر الكريمة، سأجعلك تحفة تبهر الناظر إليها. تشنجت عضلات جسمي ..." هل تحسب أن سعادتي في ثياب الحرير وفرحي بالحلي والجواهر؟ عندما فتحت عيني على طفولتي وتفتحت أجفاني على النور، نزلت قطرة دم من جسمي، فهددتني أختي من أبي قائلة إن ذلك سر خطير، ومن ذلك الوقت تداهمني كوابيس تنهش نومي بمخالب من حديد وعندما أستيقظ في الصباح أصلي إلى الله، لكن جسمي يظل يرتجف خوفا من سلاسل المجتمع التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود. أتحسب أن كرمك وحلمك يجلب إلي السعادة؟ إن سعادتي هي الحب الحقيقي المنزه عن الماديات، الحب الذي يعانق الروح بالروح في مودة ورحمة.

أسبوع مرّ كلمح البصر في بيداء تلك المدينة التي تتناطح بناياتها بالسحاب وتحت شرود تلك السحاب كنت أتخفى تحت شرودي. جموحي يحن لبعد نبيل رغم حضوره وقربه الذي يحتضن روحي المحتضرة تحت جناحه. أيام قضيناها سويا افترشت لنا سعادة وفتحت لنا باب الصمت لنخرج أسمال حروفنا المتصدية بوبال أزماننا القاحلة، تلك التي جنت على كلينا ونحن نرتدي مسافات المطاردة بأحذية بالية. " هذه الليلة ليلتي... لفظ تلك الكلمات بصوت مخنوق، وقف على الشرفة يتأمل تلك الناطحات للسحاب، رجلاه كقصبة في مهب الريح، تصاعد الدم إلى وجهه المحتقن وصبغت بشرته البنية بلون عسلي قاتم، كبرت عيناه وجمدت أجفانه. حدق بي وأنا أختبئ وراء صفحات جريدة " نيوزويك" أقلب أوراقها بعصبية. تغيرت ملامحه بسرعة وتحول حزنه وخوفه إلى بصيص أمل. توقف هنيهة. " لابد أن تقبلني زوجا لأني سأكون كذلك. سأجعلها طائرا يرفرف في قلبي، أطعمها حبات عاطفتي، وأسقيها ماء مودتي، سأجعل ضلوعي لها قفصا وروحي عشا ومأوى، أعرف أنها تحبني، تيقنت من ذلك، ستعترف الآن. رن جرس الهاتف، اتجه بسرعة داخل الغرفة.

ـ ألو ... نعم ... بعد نصف ساعة ... شكرا. وقفل السماعة. ذاكرتي تجزع من الوعد وأفكاري شاردة في هذا الملاك الأسمر الذي ابتلاه القدر بعلّتي. حان الآن وقت رحيله. دموعي تنهمر أنينا لحدّ الصمم. اقترب مني، وضع يده على كتفي وصمته دثر سطور تلك الجريدة غيوما متشحة بالحداد. أقلب الصفحات بين حين وآخر مظهرة اهتمامي وانشغالي وقلبي يعتصر في صراخ محبوس. سعادتي ليست بمجدك ولا سؤددك ولن تكون بكرمك وحلمك. سعادتي أن تحب روحي وتضمها إلى روحك غير مكترث بمنظر جسمي أو ما سلب منه. سعادتي غير موجودة بعالمك. لا أستطيع أن أكون لك مادام حبك لي مربوط بمفاهيم تقاليدك الجاهلية. لا أستطيع أن أكون لك لأنك لا تحب إلا ظاهري وليس روحي ولأنك تنظر بعينين ضعيفتي البصر ومغلفة بنظارات الجهل التي لا تفرق بين المجرم والبريء ولا بين الصالح والطالح. كيف لي أن أكون لك وعيناك تحكم على ما تراه ظاهرا وتقيس الروح بمقاييس المادة. خوفي مزكوم يرتجف الفراق، ويقشعر للوحدة التي ستنتعل خطى التيه في غابة الإنس بعدما ألفت منك قمة الحب والخوف عليّ من هواء النسيم. ألقيت بالمجلة على روحي الفزعة التي ضمته بقوة كي يحميها من الأشباح العارية التي تقفز حولها عارية كعري الخناجر عن غمدها. كان يهدئني ويمسح بيده على شعري. سمع طرق الباب ... أدخل نادل الفندق مائدة مليئة بأصناف من الطعام في أطباق فضية وانصرف. فتحت عينيّ المبللتين مندهشة، هز رأسه بحركة متوترة وقال:

ـ إنه العشاء الأخير الذي سأتناوله معك. غدا سأرجع إلى عملي وغدا سيكون يومك الدراسي الأول في الجامعة أليس هذا ما تريدينه؟

أجلسني على الكرسي وجلس مقابلي: هيا نأكل قبل أن يبرد الأكل.

أنظر إلى انشغاله بالأكل من غير شهية. رفع عينيه الحزينتين وقال: ألم يعجبك الأكل؟

وداعه جعل قلبي يلفظ أنفاسه وجسدي ككتلة ثلج تحيطني نيران مشتعلة حتما ستذوب وتتلاشى. أبتلع الأكل، أجرجره رغما إلى معدتي وصمتي حزين. اقترب مني ... أمسك يدي وقال بصوت قريب من الهمس:

ـ هل تسمحي لي أن أرقص معك على نغم هذه الموسيقى الهادئة؟ جلبني إليه وضمني إلى صدره ووضع خده على خدي. رائحة العطر تنبعث من شعري وعنقي، أراد أن يقبلني، أن يضمني إليه بقوة، تمالك نفسه واكتفى بمراقصتي تحت لهفة تتأوه من جحيم الرغبة حتى انتهت الأغنية. بعدها سحبني إلى الأريكة وطوقني بذراعيه، صمت قليلا وزفر بعمق:

ـ حان وقت الجد ووقت حسم علاقتي بك. جسمي يرتعش من المجهول خوفا، عيناه تزحفان نحوي بينما جسده كان مشلولا.

ـ جئت لك بالمفاجأة التي وعدتك بها.

التفت إليه وقد اتشحت ملامحي بهيبة حزينة وقلت بصوت مرتعش ومرتبك: أية مفاجأة؟

توجه إلى خزانة ملابسه، أخرج ورقة من جيب سترته وقال: هذه هي المفاجأة التي وعدتك بها.

أمسكت الورقة من يده مستفهمة، أقرأ سطورها التي تضج جحيما وسط ذلك الهدوء الصاخب بالصمت. إنها رسالة منك لأهلي تقول فيها طلقتني.

صمت قليلا ثم أردف قائلا: نعم، أليست أمريكا هدفك؟ أليست الحرية والخروج من بلدك هو حلمك؟

سحبتني خطوات متكسرة إلى الوراء ويدي تستنجد بالنار التي تحرق صدري وجسدي يهوي كورقة خريفية انسلخت عن جذرها: أنت لا تفهمني ولن تفهمني ... أنت ... أعني ... أنا ... أنا ...

قذفني بعينين تنذر بالقسوة وقلب مفعم بالحب: أنت ماذا؟

- لا شيء.

أجاب بعنفوان: إذا لم يعد هناك أية مشكلة لقد شرحت لأهلك علاقتي بك التي كانت فقط لأجل مساعدتك. شرحت لهم كل شيء... كل شيء ...أخبرتهم أنك مازلت عذراء ...

برد الدم في عروقي وجليد يئن على ضفتي قلبي الذي تجمدت دقاته: ماذا تقصد بكل شيء؟

ـ اعتذرت لهم مبينا حسن نيتي لمساعدتك، شارحا لهم علاقتي بك وحبي الطاهر لك وأنك لا تنوين الزواج مني مستقبلا.

قلت له وأنا ألفظ آخر أنفاسي التي أنهكها غدر الوطء: لماذا فعلت هذا؟

فغر فاه مندهشا: أليس هذا ما تريدين؟

ـ لا، ليس هذا ما أريد. لقد قتلتني بعدما أحييتني.

ـ ماذا تقصدين؟

ـ لا شيء.

أقفل عليه باب الحمام بقوة وأنا في صعقتي أنظر إلى يأسي معلقا في ألم على الجدران يتألم وروحي مختنقة تختلس الشرود. إلى متى ستظل كلمة الشرف ترن في أذني وتصم سمعي؟ إلى متى ستظل هذه العلة المزمنة قابضة بمخالبها على عنقي. لماذا أنهج سلوكا يرضي مجتمعي الفاسد أكثر مما يرضي ذاتي لتصبح مفاهيمهم قيما أكثر مما هي منطقا. إن التقاليد التي خلقوها أصبحت قيدا عليّ وأصبحت فيها أسيرة، تعلو وتملي عليّ الامتثال والخضوع، وأي محاولة مني لرفضها تعتبر خرقا لنواميسهم وتحديا لهم. يئس من غموضي،خسارته لم تعد تُحتمل، ضرب جدران الحمام بقبضة يده لأمل مفرط في ثمالة غموضي، يفكر إنقاذ ما تبقى منه ليربطه بحبيبته لكن ذلك البصيص الضئيل تلاشى واختفى كعصفور مكسور الجناحين سقط في البحر فقذفته الأمواج إلى الأعماق. طلقت عنان بكائي على الوسادة في صمت، أتحسر على فقدان حبيبي الذي كان لي كل شيء حلو في حياتي. برد جسمي وكأنه تحت كومة من الثلج، أمل انفرط في ثمالة التقاليد، ناشرا فوق جبيني سحابة سوداء لقرون من الجهل الملتحف بالدم. صرخة مكتومة قانطة أتلفتها الظلمة وقبضت عليّ عاصفة لترمي بي في أمواج الحياة التي لا ترحم. خرج من الحمام ففاجأه اختفائي تحت اللحاف. أحس بموجة قوية تدفعه إليّ وبرغبة في الاستلقاء بجانبي ويضمني بقوة من غير أن يبالي بصراخي إلى أن أذوب وتنصهر روحي في روحه. ينظر إلى جسدي المنبطح، أوصاله ترتجف وحبه لي يمزق شغاف قلبه. استلقى على ناره يحدق في الاحتراق الذي يكوي روحه، يئن في صمت، أما أنا فلم يعرف النوم أجفاني. تحت الغطاء أندب حظي الذي بنى جدارا بمعول الجهل ليفصلني بعيدا عن نبيل، هذا الذي منحني حريتي، تلك الحرية التي كنت أحلم بها إلا أنه لم يكن يدري أنه أرجعني إلى حياة الكوابيس. تذكرت أهلي وتدفق الخطاب كالسهام النارية على جسدي الذي كاد أن يحترق ليحضنه التراب. ارتعشت فرائصي، أحاول طرد التفكير وصدى تلك الأيام المرعبة فلم أكن أرى إلا كابوسي بدأ يزحف إلي ليتجسد صورة في يقظتي ويزيد من حزني وهلعي. قلبي يخفق بسرعة وجسمي صعدت حرارته بعد أن كان باردا. أحسست بألم في معدتي، نهضت مسرعة إلى الحمام بخطوات كادت تخونني، لحق بي.

ـ ما بك غالية؟

ألقيت بجسدي المنهك على صدره أجهش باكية: لا تتركني. لماذا تتركني...؟

اصطحبني إلى الأريكة وأجلسني بجانبه، قال بصوت منبعث من قلب حزين: ماذا تريدين مني يا غالية؟

قلت بما يشبه التمتمة: لا تتركني وحيدة.

ردّ بهدوئه المعهود: من قال لك إنني سأتركك؟ سنظل دائما على اتصال و...

قاطعته: لكنك طلقتني.

ـ زواجنا كان شكليا فقط أنا لا أقبل امرأة لا تحبني.

نظرت إليه ثم أخفضت بصري. .صراخ بداخلي يحلق في سراب تلك الغرفة البائسة، أحبك...أحبك كثيرا...لا أريد سواك...لكنك كغيرك من الرجال تتوقون إلى اختراق المرأة عبر بكارتها وهذه لا أملكها.

ـ ماذا سأقول لأهلي؟

ـ لا داعي أن تقولي لهم شيئا لأنني شرحت لهم كل شيء.

ـ سيعتبرونك خائنا غدرت بهم ولهوت بابنتهم.

ـ هل هذا ما تظنين بي؟

ـ لا ... هذا ما سيظنون هم.

ـ أنا فعلت ما عجزوا عنه. حققت آمال ابنتهم وكان بوسعي أن... لكنني لست رجلا ساقطا. مازال هناك أناس يعرفون معنى الحب ومعنى التضحية. إن المحب يعطي غير طامع في الأخذ. اسمعي يا غالية، أنا معك ودوما سأكون بجانبك مثلما وعدتك. هيا انهضي ونامي الآن.

ـ لا أريد أن أنام لكي لا تداهمني كوابيس أفكاري. أريد أن أجلس بجانبك حتى الصباح.

ـ أي صباح يا غالية الساعة تشير إلى الرابعة. هيا نامي يا طفلتي العنيدة.

استلقيت على السرير ممتطية صهوة الشرود. استلقى بجانبي، توكأ على عويل نحيبه وهو يعبث في دخان حرائقي التي تخرج مختنقة من مسامات جسدي، و تحتضر الجدار الفاصل بيننا في شجن ذلك الليل الذي يحزم حقائبه للرحيل وأنا أمتطي دموعي صوب حرية في أدغال البحر. الهواء هناك نقي، لا شيء يعكره، حتى الحريق الذي يكوي قلبي يمكن أن أتخلص منه في مياهه. هكذا علمتني الحياة. ألا يفضل ركاب السفن المحترقة أن يموتوا غرقا...؟ أغمضت عينيّ، لثم قبلة على شحوبي، تسلّل إلى أفكاره المزدحمة التي تفترش سريره حتى تحولت إلى دمعة، يتقلب على حيله التي تشعبت وتداخلت، فاختلط عليه الحابل بالنابل، لا يدري من أين يبدأ وإلى أين سينتهي. لماذا تسرعت وطلقتها؟ اختنق تحت غطاء غبائه. بهذه الطريقة فلتت من يدي. لكنها تحبني، لن تفكر بغيري، لن تجد أحدا يحبها مثلي. لكن ... أهلها سيستهجنون تصرفي. استهترت بهم وبها. لا، هذا ليس حقيقيا، حبي الشديد لها جعلني أسلك هذا الطريق للنيل منها نيلا حقيقيا وأبوها سيدرك مدى حبي وتضحيتي من أجلها، سيتفهم الأمر. لن يجد رجلا بكرمي ونبلي. أنا لم أفعل إلا ما كان يجب علي فعله ولم أقم إلا بواجبي ولم أمارس إلا قمة التضحية التي ستنصر حبي وإخلاصي.

أشرق الفجر، نهض متثاقلا من سريره. ألم يسري في أوصاله ودوار في رأسه، خيل إليه أن الغرفة تدور والجدران تسقط فأدرك أن قلبه مريض. اتجه إلى الحمام، خلع قميص نومه، مر بيده على جسمه، توقفت أنامله على صدره هالته حرارة منبعثة من قلبه، نظر إليها، همس لنفسه: يا ربي انصر حبي وهبني حبها. رتب أغراضه في حقيبته الجلدية الصغيرة، حمل سماعة التلفون وطلب الفطور. اقترب من سريري، جلس على حافته، يحدّق بي، لم يستطع أن يتخلص من لهيب النار الذي يحرق فؤاده، لهيب يفجر فيه حمما من كل جانب، قواه خائرة وجفون عينيه مثقلة تشد بعضها البعض كي تنطبق، لم يعد يرى إلا ضبابا يحجب عنه الرؤى. سكون مريب وسط الغرفة قاطعه طرق على الباب. فتح الباب وتناول صينية الفطور من النادل. أيقظني من النوم، أمسك يدي، يتحسس أناملي، كانت تشد جميع الأوتار من إحساسه، تشده إلى أقصى حد، لا يريدها أن تنقطع، بلغ به اليأس درجة التمني أن تنقطع تلك الأوتار وتنتهي مأساته معها لكن قدره حتم عليه معايشة تلك المأساة. نسى كل شيء في الوجود، انمحى كل شيء من ذاكرته، لم يعد ير إلا صورتي في مخيلته، تسبح في أعماق روحه وتتراقص بين طياتها. تمنى أن يحضن كياني اللصيق به خشية ألا يهرب منه. انحنى ليضمني علّ ذلك ينفث السم الذي أصبح ينهش أعماقه. فتحت عيني، أجول بنظري في نفسي أبحث عنه في كل ركن فيها.

ـ صباح الخير غالية هيا بنا نفطر يجب أن نغادر الغرفة قبل الثانية عشر ظهرا.

ـ إلى أين؟

ـ سأوصلك إلى الحي الجامعي ومن هناك سأتجه إلى المطار.

ـ المطار؟

ـ نعم، ستقلع طائرتي الخامسة مساء.

" لابد أن أسافر معه، أسكن معه تحت سقف واحد، لابد أن أكسر قيود التقاليد وأبني لي عشا بعيدا عن الطيور الجارحة." كنت أضغط بقوة على أناملي وأنظر إليه، أريد أن أخرج ما بداخلي، أن أقول له شيئا، أي شيء لكنني اكتفيت بمد يدي نحو صينية الفطور. أمسكت فنجان القهوة، شربته كله دفعة واحدة ثم ذهبت إلى الحمام.

رتبت أغراضي المرتبكة في حقيبتي وهو يتتبع حركاتي في صمت وعندما انتهيت، قلت له من غير أن أنظر إلى عينيه:

- أنا جاهزة.

طوال الطريق لم أكن أر إلا أشباحا تتراقص ضاحكة تهزأ من فشلي. أغمضت عيني وطرت في غفوتي إلى تمثال الحرية، أتأمله في غضب: ما خطبك أيتها الحرية واقفة شامخة وسط سجن من مياه! حاملة في يدك شعار النصر. أي شعار تحملين وأي نصر تتغنين به؟ إن الحرية الحقيقية لا تقتصر على الشعارات ولا تكتفي بالنوايا الوهمية والوعود الزائفة. الحرية الحقيقية هي ممارسة يومية وصيغ وعلاقات تمليها طبيعة المجتمع المبني على الديموقراطية السليمة لمواجهة الهزيمة وتجاوزها وللتغلب عليها وعلى أسبابها. جئت إليك طائرة عبر البحار فلا كنت عزائي ولا ساعدتني في مواجهة هزيمتي أمام فارس حبي وأحلامي. تركت القدر يجعل مني مسرحا للهموم لكن، تأكدي رغم قسوة الحياة فمازلت أرفع لواء التفاؤل والإرادة والإخلاص لنفسي ولذاتي والإيمان بعقيدتي وبشرفي المختلف عن شرفك أيتها الحرية الزائفة. أين كنت أيتها الحرية عندما جعل القدر من حياتي مسرحا ينعدم فيه الاعتراف بالآخر أو حتى الحوار معه. أين كنت عندما سلب مني القدر التكافؤ والمساواة بغيري من الفتيات وعندما جعل مني القدر ضحية الكوابيس وطعما لاتهامات كاذبة حتى أوشك أن يقذف بي في محكمة عدلك الظالم ليحكم علي بالإعدام؟ أين كنت حين تعرضت لامتحان تحت شعار قيم ينهشها عديمي القيم وحيث اختلت المقاييس والمفاهيم واضطربت الموازين وأصبح صعب التمييز بين الحق والباطل؟ جئت إليك فجرحت قلبي عندما رأيت حالتك فلم أعد أطمع فيك أن تعطيني شيئا. أنت سجينة داخل هذه المياه. أنا لست أنت، سأقتنص الفرح والسعادة من مسرح حياتي رغم روايته الحزينة وأجعلها تعطيني شعورا قويا وممتدا أما اليأس والبكاء فسأتركهم لك. سأجعل من آمالي مساحات شاسعة. لا مياه تهددني بالغرق ولا سلاسل تكبل أقدامي في أعماق المياه. كانت شوارع نيويورك أوحش وأخوف من شوارع طرابلس. هناك كنت أحتمي بحبيب قلبي نبيلِ لكن هنا أشعر بالوحدة كل الوحدة. توقفت سيارة الأجرة أمام الحي الجامعي. نزلت من السيارة، لحق بي نبيل إلى الداخل. خطواتي مختنقة تتعثر في صمت .

- لا داعي يا دكتور أن تلحق بي. فأنا أستطيع تدبر أمري.

ضمني إلى صدره يودع بؤسي الفارغ. أدرت ظهري وترجّلت شحوب سفري الجديد داخل المبنى وروحي خائفة من الآتي أمشي وسط ممر طويل من غير توقف وهو ينظر إليّ متمنيا أن أدير رأسي وأودعه بابتسامة علّه يحملها معه كرمز للأمل في اللقاء بي مرة ثانية. ظل واقفا يترقب خطواتي إلى أن اختفيت عن عينيه المغرورقتين. ذهب مسرعا إلى سيارة الأجرة التي كانت تنتظره، توغلت به وسط شوارع نيويورك في طريقها إلى المطار.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبة, مكتملة, الخطير, خيرهم, زكية, نهاية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:43 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.