آخر 10 مشاركات
317 – صدى الذكريات - فانيسا جرانت - روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          فِتْنَة موريتي(103) للكاتبة:Katherine Garbera(الجزء2من سلسلة ميراث آل موريتي) كاملة (الكاتـب : Gege86 - )           »          العروس المنسية (16) للكاتبة: Michelle Reid *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          رواية كنتِ أنتِ.. وأنتِ لما تكوني أنتِ ما هو عادي *مكتملة* (الكاتـب : غِيْــمّ ~ - )           »          311- الميراث المتوحش - مارغريت بارغتير -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          468 - لهيب الظل - ريبيكا وينترز ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          جنون الرغبة (15) للكاتبة: Sarah Morgan *كاملة+روابط* (الكاتـب : مستكاوى - )           »          604 -الحب أولاً وأخيراً - ق.د.ن (الكاتـب : Just Faith - )           »          56 - لقاء فى الغروب - شريف شوقي (الكاتـب : MooNy87 - )           »          355 - ميراث العاشقين - كاى ثورب ( روايات أحلامي ) (الكاتـب : MooNy87 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-11-13, 09:24 PM   #1

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 نهاية سري الخطير / للكاتبة زكية خيرهم ، مكتملة


[/TABLE1]

[TABLE1="width:95%;background-image:url('https://www.rewity.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/6.gif');border:10px double crimson;"]



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
نهاية سري الخطير
للكاتبة / زكية خيرهم



قراءة ممتعة لكم جميعاً.....


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:28 PM   #2

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




سألني بعضهم لمن تكتبين؟ وكان السؤال يتعلق عن الرواية. فالجواب كان واضحا وبسيطا، أنني كتبت روايتي لكل رجل أبا كان أم أخا أو عما أو خالا ، كتبت روايتي لكل امرأة كانت طفلة شابة أم امرأة متزوجة وأم لأطفال. كتبت روايتي للمجتمع وأردتها أن تصل إلى قلب المجتمع وأن تكون رسالة تحمل في طياتها أن الشرف هو الاخلاق والتربية ، الشرف هي المدرسة الأولى في البيت، الشرف ضمير الإنسان الحي لدى الرجل والمرأة سويا، ولا يقتصر على نقط حمراء في ليلة العرس.


هذه روايتي أقدمها لكم أيها الأحباء ، أتمنى أن تنال رضاكم وأنا أذنا صاغية لآرائكم ونقدكم ولأسئلتكم.

لكم مني كل المحبة والاحترام


زكية خيرهم


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:29 PM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

الفصل الأول

أشهد أنك عذراء


دارت ألسنة النساء في أفواههن مثل الرحى وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي يسمع كالعويل، وعيونهن متوجهة صوب الباب البابلي المغلق على العروسين في مشهد خرافي ذي طابع غرائبي لطقس الزفاف والعرابات يترقبن اللحظة المصيرية للختم الذكوري في طقس اختبار شرف العروس عبر قطرات دم لإعلان الخط الفاصل ما بين العفة والدنس، وخيط رفيع يفصل بين الموت والحياة وعرابات الزفاف يطرقن الباب بقبضاتهن وكأنهن في حالة شبق لرؤية الدم المسفوح. أطبقت غالية كفيها على أذنيها لتحجب وقع أصواتهن المخيفة. أصوات تجتاح خلجات نفسها كالزلازل والبراكين الثائرة. العرابات يستعجلن العريس ليناولهن دليل الشرف والعفة ... راية الانتصار المختومة بقطرات دم على منديل أبيض لا يتجاوز طوله المتر الواحد. لم يتوقف الطرق على باب العروسين، وإن تأخر العريس في تلبية طلبهن الجماهيري، ليس هناك ما يمنع أن يكسرن الباب.... توارثت النسوة هذه العادة ضمن طقوس الزفاف جيلاً بعد جيل ومن المتعارف عليه أن تكون هنالك عرابة زفاف واحدة لتقوم بهذه المهمة. إلا أن توافد النساء وتجمهرهن بشكل انفعالي، يجعلهن كلهن عرابات لتلك المهمة المصيرية، ويشكلن فوجاً تعتريه فوضى الانفعال وهن ينتظرن ويتلذذن بلون الدم، فتجاهد كل واحدة منهن للانقضاض على منديل العفة والإمساك به وكأنهن يتبركن بلمسته لإكمال الطقس بكل أبجدياته بوضع المنديل المخضب بدم العفة فوق صينية ويرقصن ابتهاجا بهذا الانتصار، ثم يتجولن به علناً أمام مرأى الناس في تظاهرة تطوف الشوارع.

علت الزغاريد في زحمة السكون والعيون تتربص في انتظار وظنون. غالية في غرفتها تمشي ذهاباًُ وإياباً، تارة تعض شفتيها وتارة أخرى تقضم أظافرها القصيرة جداً، والعرق يتصبب من جبينها ويداها ترتجفان، تتمتم بكلمات غيَر مفهومة. تحدث نفسها متسائلةً متوسلةً وكأنها هي العروس. أسرعت إلى زاوية الغرفة وجلست ترتعد من الخوف، منكمشة، تحاول أن تهدئ من روعها من هول طقس الزفاف المجنون، فتجتاحها قشعريرة تحاول التغلب عليها طالبة الدفء بلف يديها حول صدرها. منظرها يثير الشفقة وكأن قافلة نسيتها في صحراء مقفرة، وتركتها وحيدة غريبة فريسة لوحوشها ووحشتها. وضعت غالية أذنيها على الجدار الذي يفصلها عن غرفة أختها، فسمعت صراخها، والعريس يحاول تهدئتها بعصبية للتغلب على مقاومتها. انتاب غالية الذعر ثم وقفت في مكانها وبدأت تصرخ وتقول لنفسها: " الليلة ليلة زفاف أختي وغدا ستكون ليلتي. فمن أين سآتي بالدم؟ كيف سأتدبر أمري؟ عندما غسلت أختي من أبي تلك البقعة الصغيرة من الدم التي كانت بلباسي الداخلي، هددتني ألا أخبر أحدا بذلك لأنه سر خطير، فدفنت سري في قبر منسي بقرار عقلي، وأقسمت ألا أبوح به لأحد كي لا ينتهي بي المطاف إلى عالم الأموات". ما زالت غالية تحدث نفسها حين سمعت صرخة وجع وألم، وفجأة توقف ذلك الضجيج والصراخ والطرق على الباب. وما هي إلا لحظات حتى انطلقت الزغاريد والغناء. أسرعت إلى باب غرفتها تراقب الأحداث من ثقبه، فرأت عريس أختها يمد قطعة ثوب بيضاء ملطخة بالدم لواحدة من تلك النسوة. كان العرق يتصبب من جبينه وكأنه كان يصارع ماردا أو كان يقاتل في ساحة معركة. شعرت غالية بسائل ساخن ينزل من بين فخذيها حتى أخمص قدميها، لكنها لم تبال، فقد تعودت على نزوله كلما انتابها الخوف. انتظرت حتى اختفت عرابات الزفاف من قرب غرفة أختها. تسللت إلى الحمام لتستحم بالماء البارد لعلها تصحو من صدمتها. تمسح على جلدها بالصابون. " لابد من الفرار من هذا العالم المتوحش. لا بد أن أهرب بجلدي قبل أن يقع الفأس في الرأس. لا بد من إيجاد طريقة أخرج فيها من هذه الصحراء المتوحشة، قبل أن ينقضوا علي ويذبحونني كخروف العيد، ويسلخوا جلدي لينهشوه بأنيابهم إلى الأبد. عليَّ أن أبدأ فورا في تدبير خطة للخروج من هذا السجن. "عندما تقفل كل الأبواب يفتح الله واحدة". إن الله سيفتح بابا لكي أخرج منه بسلام. إن الله يحبني ولو أنني فقدت بكارتي. " رفعت عينيها إلى سقف الحمام وكأنها تحاول رؤيته وتحدثه. ستساعدني يا ربي، أليس كذلك؟ إن ما يفعلونه في هذا السجن ظلم وأنت لا تحب الظلم. خذ بيدي، أرني الطريق الصحيح حتى أسلكه وأنجو من ظلمهم ...



* * *



وصلت غالية من تونس العاصمة إلى مطار كوبنهاجن. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. لم تكن تعرف أحدا في ذلك البلد، كما أنها لا تعرف إلى أين ستستمر في رحلتها متسائلة في نفسها:" لماذا النرويج؟ فأنا لا أعرف لغة هذا البلد ولم أسمع عنه في التاريخ الذي درسته في بلدي، ولا أعرف موقعه الجغرافي في الخريطة. آه! إلى متى سأظل هاربة من مجتمعي وإلى متى سأخفي فضيحتي التي كُتِبَتْ علي ولاحقتني طوال حياتي وطفولتي؟ إلى متى سأظل هاربة من أهلي وأبناء عمي؟ أخذت حقيبتها من مكتب الجمارك، واتجهت إلى مكتب الخطوط النرويجية لتشتري تذكرة إلى العاصمة النرويجية التي عرفت من مكتب السفر أنّ اسمها أوسلو .. ... لم تحصل على رحلة قريبة، لابد أن تنتظر حتى الساعة الثامنة ليلا. اشترت تذكرتها وحملت حقيبتها الثقيلة التي كانت تحتوي على كتب كثيرة وملابس قليلة. كانت تسمع أن النرويج تظلّ الشمس فيها ساطعة حتى منتصف الليل، فظنت أنه بلد لا يعرف البرد وإن كان بلد الثلج، فالشمس تكفي لإشاعة الدفء طيلة السنة. ما زالت تجر حقيبتها ببطء، تعتريها غصة تكاد تكتم أنفاسها. تلتفت يمينا ويسارا وكأنها تبحث عن شيء مجهول لا تعرف هويته. يعتريها الخوف من المستقبل الغامض، والرعب يكسر أغصان روحها العطشى. يذهلها منظر الموظفين والمسافرين، شديدي البياض كالدمى، شعرهم أشقر وعيونهم زرقاء، والكل يمشي بسرعة متجها إلى غايته. أذهلها ذلك الجو الغريب عن جوّ بلدها، وأرعبها انشغال كل واحد بأمره، ليس كوطنها حيث يمكن للمرء في المطار أن يجلس بالقرب من أي مسافر يتحدث إليه ويقتل الوحدة والانتظار الطويل. إتجهت غالية إلى المقهى لتستريح وتنتظر موعد سفرها فإذا هي ترى فتاة يبدو أنها عربية، تتصفح جريدة عربية. اتجهت نحوها تلهث من شدة التعب وبسرعة وبدون تردد سألتها: من فضلك يا أختي كم الساعة؟

لا تريد غالية معرفة الوقت بقدر ما كانت تبحث عن أحد يسلي وحدتها في منفاها الجديد، وينسيها ولو لفترة قصيرة مصيرها المجهول. ابتسمت الفتاة وأمسكت بيد غالية، تطلعت إلى الساعة وقالت لها: إن الساعة الآن العاشرة والنصف صباحا. شعرت غالية بالخجل واحمر وجهها، ابتسمت للفتاة وقالت: اسمي غالية، ما اسمك؟

- اسمي علية.

_ هل أنت مصرية ؟

_ نعم...وأنت ؟

_ أمي سودانية وأبي موريتاني.

_هل جئت لزيارة أحد من عائلتك في النرويج ؟

تنهدت غالية بعمق وقالت يا ليت كان لي أحد في ذلك البلد الغريب !!أو ليتني جئته سائحة ثم أعود إلى وطني ! أنا هاربة بسرّي ولا أعرف أين سيقودني.

_ سر! ماذا تقصدين؟

_ أنا لم أفعل شيئا! هم الذين فعلوا. كانوا الخصم والحكم في الوقت ذاته.

فتحت علية عيناها استغرابا: عمن تتحدثين؟ لم أفهم شيئا!.

يضنيها أن تضع يدها على تلك الجراح المستترة تحت الحسرات وتوقد تلك الجمرة الخامدة.

_ بدأت معاناتي منذ سن الطفولة. كنت حينها أبلغ من العمر سبع سنوات. سافرت مع عائلتي إلى إحدى بوادي المغرب حيث كان أبي يريد أن يشتري مزرعة من أحد أصدقائه الذي كان يشغل منصبا وزاريا في ذلك الحين حيث قادتنا سيارة أبي إلى منزل ضخم وجميل تحيط به مساحات كثيرة من أشجار الصنوبر والطيور الداجنة بمختلف أشكالها وألوانها، والأطفال في ذلك المكان يلعبون، وبين الزهور يمرحون ببراءتهم ينظرون لزرقة السماء ويحلمون بالنجوم. عندما رأونا اتجهوا نحونا مبتهجين فرحين بقدومنا. كان والدهم يقف أمام باب البيت بابتسامة عريضة مرسومة على وجهه. نزل أبي من السيارة وصافحه، ثم دخلا إلى صالون الاستقبال الذي كان أول غرفة بالبيت خاصة للرجال وبعيدة جدا عن المطبخ والغرف التي تجلس فيها النساء. لحقت به أمي ودخلت إلى وسط الدار. رحبت بها زوجتا صاحب المزرعة بحرارة واتجهن نحو صالون ثانٍ خاص بالنساء. أما أنا وإخوتي فتبعنا الأطفال إلى الإسطبل لنطعم الأحصنة ونلعب معها. أخي الأكبر سنا حمد، انطلق مع الأولاد يتسلّقون الأشجار بحثا عن أعشاش الطيور، وأختي الصغيرة سلمى كانت ترشق الإوز بالحجارة. أختي من أبي العنود كانت تثرثر مع إمرأة تحلب البقر وتضع الحليب في قناني كبيرة تجهزها كي يأخذها زوجها إلى السوق. أثار انتباهي منظر الناعورة التي تخرج الماء من البئر بطريقة تقليدية ومضحكة. جزرة مربوطة في خيط يتبعها حمار على أمل اللحاق بها وأكلها، لكن الجزرة تبتعد منه كلما يقترب منها، وهكذا تستمر العملية ساعات طويلة، والماء يخرج من البئر ويُصَبُّ في أنابيب تمر بين الزرع لسقيه، والحمار يدور بجد ونشاط حول البئر وبدون توقف لاحقا الجزرة على أمل الإمسا ك بها وأكلها. كنت أجلس على سور صغير جدا أنظر إلى تلك الناعورة التي تتحرك في الأفق مصدرة صوت خرير المياه الذي يملأ الأفق بأنغام مختلفة حسب الصعود والهبوط وهي تتدفق لتشكل إيقاعا خاصا يشبه الأحزان في جريانها ويوحي بالفرح أحيانا أخرى. أتأمل ذلك الحمار، أراقبه إن كان سينتبه لتلك الخدعة ويتوقف عن الدّوران حول البئر. ساعات مرت وما زال الحمار يحوم حول البئر بدون كلل. تعبت من الجلوس لفترة طويلة فوق السور. ذهبت إلى المرحاض، وعندما كنت أغتسل، رأيت بقعة دم أحمر قاتم في لباسي الداخلي. انتابني الذعر. لم أكن أعرف من أين جاء ذلك الدم! هل هي العادة الشهرية؟ وإن كانت كذلك فلم أكن أعرف آنذاك ما هي. تلك الأمور لم نناقشها قط مع أمي رغم أنها متعلمة ومهنتها التدريس. ااندفعت أجري خارج المرحاض كالحمام ينفر مذعورا ! أبحث عن أختي من أبي، التي كانت أكبر مني سنا. كنت أستطيع أن أشكو لها ما رأيت، أما أمي فكنت أخاف من عصبيتها وسرعة انفعالها؛ كما أن خجلي كان حاجزا يمنعني من البوح لها بما أصابني لأنني لا أعرف عاقبة ما سيجرى لي إن أخبرتها. كنت أجري متأبطة هلعي ولو أنني لم أكن أشعر بألم في جسمي. أصيح وأبكي خلف دهاليز الآتي منادية أختي. فإذا بإخوتي وكل الأطفال احتشدوا نحوي متسائلين ماذا جرى لي؟ سأل أحدهم: هل الكلب عنتو هو الذي يطاردك ؟، إنه لا يؤذي الأطفال ولا يعضهم. ونطق الثاني: إن عنتو يعض فقط اللصوص ويمسك بهم إن تسللوا إلى المزرعة. وقال الثالث: ربما خافت من الحارس حَمٌّو فشكله مرعب، إنه طويل القامة، ضخم الجثة، أشعت الشعر وأعور العينين، لكنه لطيف جدا ويحرس مزرعتنا من اللصوص. هيا بنا عنده لنلعب معه، إنه يعرف قصصا طريفة ومثيرة للضحك. ضحك الجميع وقالوا: هيا بنا بسرعة. إنطلق الأطفال كالريح واختفوا من حولي، أما أنا فلم أستطع أن أدخل إلى المنزل حيث أمي، فهي لا محالة منشغلة في الحديث مع زوجتَيْ صاحب المزرعة. ذهبت قرب المنزل الصغير الذي تسكن فيه الفلاحة التي تحلب الأبقار وجلست بالقرب من عتبة بيتها أنتظر قدومها فهي لاشك تعرف أين هي أختي من أبي. كان الجو حارا. انتظرت ساعة كالدهر كله. صراخ بداخلي يلتهب وثرثرتي الصامتة تزعج منظر سكون تلك المزرعة. مازلت في اضطرابي وحيرتي حين أقبلت أختي صارخة في وجهي:

_ ماذا بك منطوية على نفسك ترتعدين. لم لا تذهبين وتلعبين مع الأطفال؟

التفتت إليها الفلاحة وهي تضحك: أين نحن من البرد الآن! نحن في بداية فصل الربيع وفصل الشتاء مازال بعيدا جدا. نظرت إلى أختي والخوف يمزق قلبي: أريد التحدث إليك على انفراد.

أمسكت يدي وتوغلت بي بين أشجار الصنوبر وبصعوبة تمكنت من تجميع حروف كلماتي:

_ أختي لقد رأيت دما أحمر في سروالي ولا أعرف من أين جاء؟

ابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: أريني هذا الدم.



أطلعتها على بقعة الدم فنظرت إليها بإمعان ثم تطلعت إليّ من غير أن تتفوه بكلمة. كنت أرى في عينيها مئات الأسئلة وحب الاستطلاع، لكنها لم تقل شيئا. وقفت بسرعة والتفتت يمنة ويسرة لتتأكد إن كان هناك أحد من إخوتي أو أي شخص بالقرب منا، ثم قالت: لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قلت لها وجسمي كله يرتعش: سر خطير! ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيبا وسرا خطيرا؟ هل.. هل ... توقف الكلام في حلقي و انفجرت أبكي وإذا بأختي تمسك بيدي بقوة وتجرّني إلى الحمام. غسلت سروالي وقالت بلهجة المعلم: إن أخبرت أمك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيبا كبيرا، إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئا لم يكن. ذهبنا إلى المنزل ودخلنا إلى حيث أمي والنساء مجتمعات منهمكات في الحديث عن مشاكل صديقاتهن؛ من طلاق وضرب وعن معاملات أزواج بعضهن لهن. نظرت أمي إلينا وقالت:

_ أين كنتما؟

أجابت أختي من أبي: كنا مع الفلاحة التي تحلب الأبقار.

أردفت إحدى زوجتي صاحب المزرعة: لقد حان وقت الغداء.

قالت أختي وهي تنظر إلي بعينين قاسيتين سوف أنادي الأطفال وكأنها تريد أن تقول لي، إياك والبوح بالسر الخطير. جلست مرتبكة على عُري اللحظة الصامتة، خائفة من شيء حصل لي لا أعرف ما هو. أسترق النظر إلى أمي، مسرورة فرحة بوجودها في المزرعة لأنها تحب هواء البادية وتعشق الطبيعة. كانت منشغلة هائمة بالحديث عن المزرعة مع الزوجة الأولى أما الزوجة الثانية فقد ذهبت إلى المطبخ لتشرف على توزيع الطعام. جاءت أختي بعدما أحضرت الأطفال. جلس كل بجانب الآخر مشكلين حلقة حول تلك المائدة المستديرة التي كانت مليئة بمختلف أنواع الطعام القروي من تاجين مخضر باللحم والزيتون وسلطة الطماطم بالبصل، تلته الفواكه من بطيخ وعنب. أكل الجميع بشهية أما أنا فكان يعتصرني صراخ تلك البقعة الحمراء من الدم التي كانت تلوّن لباسي الداخلي. تلك الخرافة التي انطبعت في ذاكرتي، تعجن جسدي خاصة وأن أختي نبهتني أن لا أبوح لأحد به حتى ولو كانت أمي. قالت إحدى الزوجتين: غالية لم تأكل شيئا ربما لم يعجبها الأكل. قالت أمي: إن ابنتي نحيلة جدا وهذا يشغل بالي كثيرا. لم تسألني ماذا بي ولماذا أنا صامتة على غير عادتي؟ تَعَوَّدْتُ على انشغالها عني، فنصف يومها تقضيه في المدرسة والنصف الثاني تزور فيه صديقاتها أو جيرانها أو هن يزرنها. عمتي التي تزوجت شهرا واحدا، غاب زوجها عنها ولم يرجع أبدا، هي التي تقوم بأشغال البيت وبرعايتي أنا وإخوتي منذ كنا صغارا. بعد أن انتهينا من وجبة الغذاء أمرنا أبي باالإستعداد للرحيل. مرت أيام وشهور ونسيت ذلك السر الخطير. انشغلت في المدرسة فأصبحت في الصف الخامس الابتدائي. كان عمري آنذاك عشر سنوات. درسنا عن العادة الشهرية وفهمناها نظريا، لكن حتى ذلك الوقت لم نعرف عنها شيئا في أجسادنا. فلم تكن هناك فتاة منا وصلت سن البلوغ. حتى وإن كان ذلك فمن المستحيل أن تروي لنا تجربتها.



سكتت غالية هنيهة، احتبس الكلام في حلقها. أمسكت علية يدها وقالت:

- هوني عليك.

ابتسمت غالية ابتسامة حزينة يحصدها الخوف وقالت: لم أنس ذلك اليوم في المدرسة أبدا في حياتي وحتى الآن مازلت أتذكر ذلك المشهد. كان مدرس اللغة العربية يشرح لنا درسا في التربية الإسلامية. فجأة أجهشت تلميذة بالبكاء. كانت تكبرنا سنا وتجلس دائما في المقعد الأخير. اندهش كل من في الصف وعلامات الاستفهام تدور في رؤوسنا حيث لا نعرف سبب بكائها واحمرار وجهها. وقف الأستاذ من مكانه وسألها: ما بك يا ابنتي؟ لم تستطع أن تجيبه. طأطأت رأسها وبدأت تجهش بصوت خافت. اقترب منها وقال: هل أنت مريضة؟ لم تجب. كانت الفتاة تنظر إلينا تارة، وإلى الأستاذ الذي اقترب منها ومزيج من الفضول والشعور بالشفقة يخامره، أما هي فكانت ترتجف باكية و قطرات من العرق تلمع فوق جبينها الشاحب كما الندى على وريقة عضها الخريف. لاحظ الأستاذ ارتباكها، فاحتار من تصرفها غير الطبيعي فقال لها بنبرة جدية: قفي، أريد التحدث إليك. ازدادت الفتاة اضطرابا وخجلا وأبت أن تقف وكأنها جالسة على شيء خطير جدا يستوجب عدم إظهاره، لأنه " سر خطير" مثلما قالت أختي. بعدها فهم الأستاذ أن الفتاة مرتبكة من بقع دم الدورة الشهرية في فستانها الذي كان لونه أبيض. اقترب منها بهدوء مبتسما ابتسامة الأب الحنون اتجاه طفلته وقال: لا تخافي يا ابنتي هذا شيء طبيعي بالنسبة للفتاة. إن ما حدث لك اليوم هو تغير مهم في حياتك. لقد أصبحت فتاة ناضجة ومكتملة فلا داعي للخجل والخوف. أعرفك فتاة ذكية وواعية، فقومي الآن واذهبي إلى المرحاض واغتسلي. نهضت التلميذة وذهبت مسرعة إلى المرحاض، أما نحن فكنا ننظر إلى تلك البقع الكبيرة من الدم على فستانها في دهشة بالغة. رجع الأستاذ إلى منضدته، توقف عن شرح السيرة النبوية وشرع في إعطائنا درسا عن الدورة الشهرية وبعد ساعة تقريبا جاءت المسكينة إلى الصف تتعثر في فستانها المبلل بالماء وببقع الدم التي لا تزال ظاهرة.

أرسل الأستاذ رسالة مع إحدى التلميذات إلى المديرة شارحا فيها وضع الفتاة. وبعد نصف ساعة شرفت حضرتها بلباسها الفخم تتبختر في مشيتها كالطاووس. وقفنا مرعوبات لتخصصها في ضربنا على ظهر أيدينا بمسطرة من حديد إن خالفت واحدة منّا قانون المدرسة. نادى الأستاذ التلميذة التي وقفت ترتعد من الخوف أمام المديرة التي كانت تحذّق فيها باشمئزاز، وبعد ثوانٍ قليلة قالت لها:

_ ما اسمك؟

أجابت التلميذة بخوف واحترام شديدين: اسمي المراني خديجة.

تطلعت إليها بتقزز وقالت: اتبعيني إلى المكتب. وقبل أن يغادرا أخذ أستاذنا سترته ووضعها على كتف التلميذة.

_ تلك الحادثة أيقظت في نفسي ذلك "السر الخطير" الذي أُمِرْتُ أن أدفنَهُ وأنساه إلى الأبد، وبدأت أتساءل عن سر تلك البقعة الحمراء التي كانت في لباسي الداخلي، هل هي دم الدورة الشهرية؟ هل أنا أختلف عن باقي البنات وإن كانت الدورة الشهرية، فلماذا لم تأت كل شهر بعد تلك الحادثة؟ ولماذا لم يكن ذلك الدم كثيرا مثل دم الحيض؟ أسئلة تقع على رأسي كوقع الفأس لتخلق في نفسي رعبا من ذلك الشيء الغريب. ولكن بعد أيام قليلة نسيت حادثة الحيض عند تلك الفتاة، ونسيت بقعة الدم التي كانت ذات يوم في لباسي الداخلي. بدأت الدراسة في ثانوية مختلطة حيث كنت أجد صعوبة كبيرة في المشاركة داخل الفصل، وأتصبب عرقاً عندما أريد أن أجيب على سؤال يطرحه الأستاذ. وكم من مرة استعصى على التلاميذ الإجابة الصحيحة التي كنت أعرفها لكنني كنت ألوذ بالصمت خجلا.



ذات يوم، اغتُصِبَتْ إحدى التلميذات بالقرب من المدرسة، وفي صباح اليوم التالي انتشرت الأقاويل والشائعات انتشار النار في الهشيم بين التلميذات .....

توقفت غالية عن الكلام، تحوّل لون وجها إلى زرقة أشبه بالسواد والعرق يغطي سحنة وجهها.
_ آخ! معدتي تؤلمني.
_ سأطلب لك حليبا ليخفف ألمك.
أخذت غالية حبة دواء مسكّن مع الحليب، وبعد برهة أحست بتحسن فنظرت إلى علية وقالت:
_ نسيت أن أسألك، هل أتيت لزيارة أحد في النرويج ؟
ابتسمت علية وقالت: لا أنا مثلك جئت هاربة من مجتمع يعيش في التخلف والظلام، أبحث عن بديل يناسبني. لكن لن أروي لك قصتي حتى تنهي قصتك. ربما تكون قصتك مثيرة، لكنها ليست غريبة، فقد سمعت المئات مثلها أثناء عملي.
قالت غالية: ما هي مهنتك؟



_ مدرسة العلوم الطبيعية بإحدى المدارس الثانوية في مدينة الإسكندرية.
أطلقت غالية آهة مسموعة وهي تسرح ببصرها إلى الأفق البعيد، بلعت ريقها متنهدة، تعبت من الكلام الذي كان لا يجلب لها سوى الحزن وذكريات مثقلة بآهات خرساء، متلفعة بسواد دامس ووثاق السر الخطير يكبلها، السر الذي لا تستطيع أن تنساه أو تمحوه من ذاكرتها رغم كل محاولاتها التي سرعان ما تذهب أدراج الرياح. ابتسمت تعبيرا عما يجيش في خاطرها من راحة البال وارتياحها إلى علية.
_ ماذا كنت أقول؟ لقد اختلطت عليّ الأمور.
ربتت علية بحنان على كتفها وقالت: كنت تتكلمين عن الفتاة التي اغتصبت بالثانوية.
_ نعم، نعم. بعيد اغتصابها شاع نبأ في المدرسة تناقلته أفواه التلميذات هنا وهناك ولاكته كلّ واحدة منهن أينما حلّت، وصبته أينما وجدت أذناً صاغية، مفاده مجيئ طاقم طبي لفحص التلميذات للتأكد من عذريتهن. زادت الشائعة في حدتها بالوعيد والتهديد والويل كل الويل للتي فقدتها إذ سيستدعى ولي أمرها وستعاقب أشد العقاب. عندما سمعت هذا النبأ اختلطت أحشائي ببعضها وانخلع قلبي من مكانه وامتلأت يداي عرقا وكأنني أطلقتهما في نهر دافئ. في تلك الفترة تغيرت حياتي واعتقدت أن تلك البقعة الحمراء التي كانت بلباسي الداخلي هي دم البكارة. فكانت أيام طفولتي سوداء قاتمة وحياتي تعيسة حزينة، وأصبحت منطوية على نفسي لا أرغب في الاختلاط بالتلميذات لأنهن يمتلكن شيئا ثمينا وأنا أفتقده، حتى خيل لي أنني أسكن في قبضة الكآبة. كم من مرة تمنيت الموت. لم أشعر يوما بطعم الحياة. حرمت من اللعب مع من هن في سني وكنت أقضي كل الوقت حبيسة المنزل وفي غرفتي، كنت أكتب أسطرا قليلة أتمرد فيها على وجودي في هذه الحياة. قلبي سينفجر، ولا بد من الترويح عنه بالكتابة وتفريغ تلك الشحنات الملتهبة على ورقة خرساء. لكن كتابتي لا تخلد في الأوراق لأنني أمزقها فيظلّ "السر الخطير" ينهش قلبي يوما بعد يوم لأن المجتمع يفسر الشريفة الطاهرة من خلال غشاء البكارة وأنا فقدته في سن السابعة. أجهشت غالية بالبكاء. إلى متى سأظل هاربة؟ لابد أن يأتي يوم يشدني فيه الحنين إلى الوطن. وإن عدت كيف سأكوّن أسرة وأنا غير مؤهلة للزواج. ينقصني شيء ثمين يجب أن أقدمه لزوجي ليلة زفافي، لكي أثبت عفتي وطهارتي وأصطف في طابور الطاهرات العفيفات. هل تعرفين أنه إذا فقدت البنت عذريتها لأي سبب حتى وإن كان اغتصابا تصبح فتاة بلا شرف، وأن شرف الأسرة وعرضها قد أصبحا ضائعين وعلى رجال الأسرة إخوة كانوا أو أبناء عمومة أن يستردوا شرفهم الضائع إما بقتل الفتاة كما يحدث في البوادي عندنا وحتى في بعض المدن إن كانت العائلة متمسّكة بالتقاليد مثل عائلتي، فذلك الذي سيقتلني في ليلة زفافي سيكون من أهلي وسيعتبر الرجل الشهم الشجاع والمتطوع للتضحية بنفسه من أجل إنقاذ شرف الأسرة، وتعيش عائلته في العار طوال حياتها. كم تمنيت أن أكون ذكرا، لأن الذكور لهم امتيازات في المجتمع أكثر من الإناث. إخوتي يمكنهم أن يتأخروا خارج البيت حتى منتصف الليل ولا أحد من والديّ يلومهم على تأخرهم لأنهم ذكور ويمكنهم أن يتعرفوا على السائحات الأوروبيات ويأتون بهن إلى البيت، فتقوم عائلتي بإحسان ضيافتهن. وإن أحب أحد إخوتي واحدة منهن وأراد الزواج منها فلن يعترضوا لأن ذلك يعتبر من حقّهم شرعا. أما أنا كفتاة فهيهات أن أختار زوجي بنفسي حتى ولو كان عربيا ومن عرقي، أما إن كان أجنبيا فذلك عار لا يغتفر وفضيحة أمام الناس. وإن تأخرت ساعة واحدة عن موعد عودتي للبيت، تقوم القيامة بالتهديد والوعيد، هذا إن نجوت من الضرب. ذات مرة كنت في المكتبة العامة أطالع كتابا، ولم أفطن لمرور الوقت، فقفزت من مكاني كمن لدغته حية. جمعت حوائجي بسرعة البرق وملامح أبي تقف أمامي فأطلقت ساقيّ للريح من غير توقف. لم أستطع انتظار الحافلة لأستقلها لأنها تتأخر وليس لها وقت محدد. أطلقت ساقي للريح متوجهة إلى المنزل وصوت أبي المدوّي بالوعد والوعيد يضج في أذني. جريت في زحمة الشارع الطويل وحدي ولهاثي يطفو فوق رصيف الخوف، يجرجر حزنه من الرعب إلى أن وقفت أمام باب البيت. وجدت أبي ينتظرني مكشرا عن أنيابه، يتأجج غضبا، أما أنا فلم يبق في أعماقي الخاوية غير ساقين مرتجفتين ودمعي يتأسى على صمت كلماتي وكل حوارات الدفاع التي توارت هي أيضا في خوف، لولا عمتي الرحيمة التي أنقذتني منه لانهال علي بالسوط. أما إخوتي فتغدق عليهم النقود لشراء السجائر وارتياد المقاهي ولا حرج من رجوعهم للبيت متأخرين. وإن كنت بحاجة لبعض النقود لشراء كتاب قد يكون مهما بالنسبة لمقرري الدراسي، أظل أمهد بمقدمات وأترجى أمي ونادرا ما كنت أحصل على النقود. فأنا بالنسبة لوالديّ لا أحتاج الحصول على شهادة عالية، فمنزل زوجي مآلي وتربية الأولاد مستقبلي، وتعليم الطبخ مهمتي لكي أطعم زوجي الذي هو في نظرهم كلّ حياتي وسعادتي. وعندما أنتهي من الدراسة الجامعية لا بد أن أتزوج حسب العرف والتقاليد لإرضاء العائلة. فمن هو هذا الزوج الذي سيقبلني زوجة بدون غشاء البكارة؟ طوال حياتي في المدرسة والجامعة، كنت انعزالية منطوية على نفسي، أخشى مغيب الشمس فمع اقتراب الظلام تزداد كآبتي. أخاف أن أبكي فيفتضح سري. غابت الابتسامة عن وجهي وحلت الدموع محلها. ضحكي أمسى قليلا وصمتي أكبر من كلماتي. أمكث في غرفتي أكثر مما أختلط بعائلتي. كانوا يلقبونني بحي ابن يقظان، الإنسان المتوحش الذي لا يستطيع التأقلم مع الناس ولا يعرف إلا العزلة والنفور. إنهم لا يعرفون أن العزلة راحتي والاحتكاك بهم لا يجلب لي إلا الانفعال والعصبية وينتهي بي النقاش معهم إلى الشجار. تستفزني آراؤهم وأفكارهم، فإن عقبت عليها أزعجتهم وعكرت صفو جلستهم العائلية. عندما تحضر الخادمة الشاي وتجتمع العائلة لقضاء ساعات السمر تتساءل عمتي "أين هي غالية؟" فتجيب أمي: "اتركوا حي ابن يقظان لحاله فنحن لا نريد أن يعكر لنا مزاجنا." لم تسأل أمي يوماً نفسها ما الذي يشغل بال ابنتها ولماذا هي حزينة، منطوية على نفسها وتبكي بلا سبب؟ فهي كانت دائما مشغولة بتصحيح الكراسات المدرسية أو مطالعة مجلة والحديث عبر الهاتف ساعات طويلة مع إحدى صديقاتها، أو زيارتهن.
_ لكن، كيف استطعت الهرب من المغرب والمجيء إلى هنا ومن أين حصلت على النقود؟
_ أنا لم أهرب من عائلتي، فقبل أن آتي إلى هذه الدولة، نجحت بامتياز وحصلت على منحة للدراسة في الولايات المتحدة.
_ رائع جدا! لكن كيف وافق والدك المتعصب حسب وصفك له على سفرك للدراسة ؟ وفي الولايات المتحدة !!!.
_ لم يوافق بادئ الأمر. غضب وزمجر. قال له أحد أصدقائه: لو كانت ابنتي التي نجحت في هذا الامتحان لاعتبرت نجاحها شرفا عظيما لي ولم أتردد في إرسالها لتدرس في أمريكا، إنها فرصة لا تعوض. وافق ودرست هناك سنة واحدة وعندما رجعت إلى المغرب أبى أن يسمح لي بالرجوع بحجة أن تلك البلاد بلاد الخبث وغياب القيم والأخلاق. نار أحرقت قلبي، وأجهشت في البكاء، وتماسكت قليلا وقلت له: المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا . لم يعجبه كلامي. اعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقنا إلى الحياة وسيد العارفين ونحن علينا أن نطيع ونسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله وبرّ وتقوى حتى وإن كانت طاعة عمياء أو كان فيها ما يتعارض مع مستقبلنا؛ كقبول الزواج من رجل يختاره هو وليس أنا.
_ و ماذا حدث بعد ذلك ؟
_ ثارت ثائرته واشتد غيظه ولكنه تمالك أعصابه وبدلا من أن يسترسل بصوت عال، بدأ يتكلم بصوت هادىء: " يا ابنتي، إن طاعة الوالدين واجب على الأبناء، وإن أردت النجاح والفلاح في حياتك في الدنيا والآخرة، عليك أن تنسي أمريكا وتدرسي هنا في الجامعة، اطلبي أي شيء أنا جاهز لفعله. هل تريدين أن نشتري لك سيارة؟
_ أريدك أن ترضى عني وتسمح لي بالسفر لمتابعة دراستي.
هذه المرة لم يستطع أن يتمالك أعصابه. انفجر بصوت عال كلهيب القيظ. أحسست بعدها برعشة تسري في أوصالي وقلبي يدق بسرعة ويديّ تتصببان عرقا. أما هو فكان يلوح بيديه، يضغط على شفتيه، يقترب مني، صارخا في وجهي "أنت... من أنت حتى تتمردي على أوامري؟ لقد فضلتك عن باقي إخوتك". كنت أتراجع بخطوات وئيدة إلى الوراء، أخبّئ وجهي تحت ضلوعي خوفا من قبضة قد تنزل على رأسي كالصاعقة. أحسست بماء دافئ يبلل لباسي الداخلي، أنظر إليه وأتراجع بخطواتي المكبلة، مستجدية عطفه الأبوي:
_ " يا أبي سأفعل ما تريده في الحال. فأنا أعتذر كثيرا إن بدر مني شيء لا يرضيك. معك الحق، إن طاعة الوالدين واجبة. قلت كلامي وأنا أتوكّأ على خوفي الهزيل، وألم يخنق صوتي، مؤدّية دور الزاهد بتفوّق فاشل حملته بين ضلوعي بتذمر واستياء حيث كنت أشعر بالذل وأنني أنافقه، لأن إحساسي كان الخوف وليس الطاعة. تنفس أبي الصّعداء وابتسم قائلا: هكذا أحبك مطيعة مثل الولد الصالح ابن فلان! هل تذكرين قصته؟ رويتها لكم مرارا وتكرارا. تظاهرت بأنني لا أعرف ماذا يريد أن يقول. فسألته ماذا تقصد يا أبي؟ رفع رأسه وذهب ببصره مسافات بعيدة يلملم أفكاره:" اسمعي يا ابنتي: في زمن بعيد، كان هناك ولي صالح له ابن مطيع جدا. ذات مرة كان أبوه منشغلا في الكلام مع بعض الرجال، فأمره أن يوقد النار في الفرن، وعندما انتهى الابن من إيقاد النار، اتجه مسرعا ليخبر أباه الذي كان منشغلا في الحديث مع أولئك الرجال، انزعج الأب من إلحاح ابنه في الحديث وقال له أدخل في الفرن. اتجه الولد الصالح إلى الفرن الذي كان يلتهب نارا فدخله طاعة لأبيه. وعندما تذكر الأب ماذا قال لابنه صرخ: ويحي ماذا فعلت؟ لقد قتلت ابني. حتما قد دخل الفرن لأنه ولد بار ومطيع. أسرع الأب إلى الفرن وفتح بابه فإذا به يرى ابنه وسط لهيب النار سالما والعرق يتصبب منه. لم تلسعه النار ولم تحرقه لأنه كان بارا ومطيعا. ورغم أنني كنت أخشى مجادلة أبي وأخشى صوته المرتفع وعصبيته التي تجمّد أنفاسي وتكبح صبري المستكين، لم يجد من تلك البراكين الخامدة التي كانت تترجرج في جوفي وتهتز معلنة الانفجار. وما أن انتهى من سرد قصّته التي حفظتها عن ظهر قلب، أحسست بنفور ولم يعد صمتي يحسن الإنصات، انفجرت ولأول مرة في حياتي، قائلة له بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ والاحتجاج: يا أبي أنا أيضا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى، وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حدّا لها وهذا ما أتمناه. غادرني الخوف دون ضجة أو عويل ولامست حدّ الجنون. هرعت إلى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت ويدي ترتجف، أحاول إشعال الفرن كي أدخل فيه، لحقت بي عمتي تبكي وانتزعت منّي الكبريت. أما أبي فقد دخل إلى مكتبه يزمجر ويرعد بصوت عالٍ. حاولت أمي أن تهدئ من روعه، هي أيضا كانت غاضبة ناقمة على تمردي. أما أخواتي فاتخذن الصمت ملاذا وكن فقط ينظرن إليّ مندهشات لانقلابي على أبي الذي يعتبر الحاكم الذي لا تردّ له كلمة.

ثلاثة أيام وأنا مضربة عن الطعام والشراب، أعزف لحن انزوائي في غرفتي لا أكلم أحدا. قيثارتي لحن صمت وغربة تردّد في انكسار كلمات جبار مستحمّة بعبارات التهديد التي نزفت همسي، أندب سري الذي أفرخ عارا يلازمني كالظل نحو رتابة غير مألوفة وأنا أستجمع حزني ووحدتي المنتشرين والمبعثرين في الغرفة. كم من مرة طرقت عمّتي الطيبة باب غرفتي دون جدوى. لم أكن أَرُدّ عليها. كنت أسمع بكاءها وهي تقول لي: يا ابنتي إنك تؤذين نفسك. افتحي لي الباب، جئت لك بالطعام. إنه قلب الدجاج وكبده الذي تحبينه. كانت المسكينة تظل واقفة وراء الباب ساعات طويلة وعندما تمل من الوقوف تذهب إلى المطبخ، ذلك المكان الذي تقضي فيه أغلب أوقاتها لأن منزلنا كان لا يخلو من الضيوف طيلة أيام السنة. في اليوم الرابع جاءت أمي ووقفت أمام الباب وقالت:
_ غالية إفتحي الباب. تصرفك هذا حرام. إن لم تخرجي وتطلبي من أبيك السماح، سيسخط عليك والسخط يؤدي بصاحبه إلى النار.
خوفي من النار جعلني أخرج من غرفتي معلنة هزيمتي، أتعثر صوب مكتب أبي وأسمال روحي ممزقة، ثملة بكلّ أنواع الخنوع. وجدته يطالع كتابا، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، أما هو فكان يسترق النظر إلي بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه. انسحبت من وراء مكتبه مسرعة الخطى إلى غرفتي رافعة عن نفسي حصار الإضراب عن الطعام، نافضة غبار النفور والاستنفار، معلنة الهدوء والرضاء المفتعلين فأصبحت أجلس معهم حول المائدة كالأطرش والأبكم حاملة في داخلي أحزاني وانكساري، مهزومة كفراشة غدر بها غسق الدجى أو هوت في لهيب النار. كنت أجلس الساعات الطويلة مع عمتي والخادمة في المطبخ، أخوض معهن حوارات عبثية لألهي نفسي من مطاردة الساعات الطويلة التي تزحف ببطء على جسدي وتجثم على روحي غارزة فيها مخالب الخوف والقلق من غربة في داخلي وغربة تحيط بي. كان شغلي الشاغل هو الدراسة فقط، حتى اللعب مع أترابي حرّمته على نفسي لأنني كنت أشعر باختلافي عنهن، هن يملكن شيئا ثمينا، بينما أنا لا أملك سوى ذلك السر الخطير. أدمنت القراءة لأنني أرى فيها ملاذي وهروبي. انزعج أبي من تصرفي، حيث رأى ما لم يعتده مني فأرسل أمي التي أقبلت مهرولة إليّ وقالت: " أخبرني أبوك بأنه موافق على مواصلة دراستك في أمريكا لكن ليس هذه السنة لأنه لا يملك المبلغ الكافي حاليا. السنة المقبلة إن شاء الله ستسافرين. قلت لها: سأجلس في البيت حتى السنة القادمة. فردت علي بحدة:" ستذهبين إلى الجامعة هذه السنة". عصفت نار في داخلي ولمعت فكرة الهروب في مخيلتي فصرخت:" لن أرجع إلى الجامعة ولا أريد شيئا على الإطلاق". أجابت بهدوء:
_ ماذا تريدين؟ الجلوس في البيت؟ حسنا. لكن، البنت التي تفضل البقاء في البيت لا ترفض عريسا إذا تقدم لها.
قالت كلامها وتركتني وسط الخوف أجرجر روحي المتسوّلة التي أحست باقتراب ساعة إزاحة الستار لرفع الطبق عن المستور وكشف ذلك السر الخطير. تركتني في قهري منهزمة تحت وطأة وجعي الممتدّ من سمائي المحترقة. قلبي كئيب يدق بلا حلم وفكري يلهث من مطاردة العواصف، يئن من جمرة الظلم التي تحرقه. تمنيت الانتحار لكنه من المعاصي، كما ستكثر الشائعات عليّ والتشدق باتهامات باطلة. مرضت كثيرا و صاحبني الشعور بالغثيان وبوجع في معدتي، وفي الليل تصطك أسناني وأرى كوابيس في منامي. كابوس واحد يتكرر كل ليلة. أرى ريحا هاربة من الصحراء، حاملة معها صراخا يئن من جرح قديم وأنا أجري فوق رمال تلتهمني وأحيانا تجرني بعيدا عن مسار الريح، تهوي بي بين الجبال والتلال لتقذفني أمام عشرات من الرجال على مقدمتهم أبي حاملا خنجرا يتراقص في كفه على إيقاع طبول صاخبة وزغاريد ثكلى بفجيعة ليلة ليست ككل الليالي وأنا أجري وأتعثر في فستان العرس الأبيض، أصرخ وأبكي وأبي يلاحقني محاولا قتلي، أقع على الأرض ووجع بداخلي يتوسل تلك الوجوه الممسوخة بقهقهات الجهل وحب الدم. يتقدم أبي من بينهم ويغرز خنجره في صدري. فأستيقظ من ذلك الكابوس فزعة وألم ينخر في مفاصلي ودموعي ترتعش على خدي.

يتبع


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:31 PM   #4

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الثاني

وجاء الفرج !



رياح قابعة في صحراء غرفتي الصغيرة، تطارد أنفاسي ولهاتي، تلتهم أفكاري المشتتة، تقذف بها في كلّ الزوايا دون رحمة وأنا أحاول التمسّك بوهم قادم من غياهب المجهول كمحكوم عليه بالموت ينتظر رصاصة رحمة. فأغرق في وحدتي القاتلة وصوت صمتي يزحف في خوف على جسدي المتعب، يقتله ببطء وأنا أئن لوجع يمارس لعبة البقاء ويتأوه لأمل اندثر خلف سراديب الألم. مرّ أسبوع كالدهر وأنا سجينة خوفي داخل غرفتي، أمارس الهدوء الصاخب بالصمت وأرتقب أملا يأتي من وراء الجبال ليحتضن وحدتي ويسكت صوت الجراح. وحين قرّر الأمل أن يراني ثانية جاءنا رجل طاعن في السن كان عمره تقريبا سبعين عاما. تختبئ خلف تجاعيد وجهه سنوات مكتوبة منذ الأزل، شيخوخة مصبوغة بكل الألوان، تتعكز على طفولة مفطومة من وحشة الشمس وشباب مصاب بحمى الحماس المنهزم وكهولة تحجّرت بفعل الصواعق والحرمان والنفي بعيدا عن الأحباب في فترة عمله هناك حيث كان يعمل حارسا في مدرسة بطرابلس في ليبيا. وعندما رجع في العطلة الصيفية وجد زوجته الثانية قد أنجبت له طفلا في غيابه. قرر أن تسافر معه إلى ليبيا، لكن الدوائر الرسمية كانت ترفض وضع صورة ابنه في جواز سفره لأنه لم يكن مسجلا عندهم، وكان يستحيل تسجيله بعد سنة من الولادة. حاول الرجل في المحاكم دون جدوى، إلى أن صادف رجلا كان يعمل حارسا بالمحكمة الاستئنافية، قال له إن أردت حل مشكلتك فما عليك إلا فلان، يقصد والدي. هكذا قصد بيتنا فقضى له أبي حاجته. فرح الرجل كثيرا وجاء بزوجته وابنه الرضيع عندنا إلى المنزل.

لم ينس أبي تعنتي وانطوائي. كان القلق يرتسم على محياه مما أثار انتباه ذلك الرجل المسن. فقال له:" أش بيك يا الحاج؟". بدأ أبي يشكو له قضيتي التي كانت بالنسبة له شوكة في حلقه. قال له الرجل: " يا حاج، إن ليبيا بلد إسلامي، فيه مدارس وجامعات كثيرة وغير مختلطة. يمكن لابنتك أن تسافر معنا إلى ذلك البلد الأمين وتسكن معنا في بيتنا وفي غرفة واسعة جميلة كغرفتها. ستقوم زوجتي بخدمتها ولن ينقصها أي شيء. فما رأيك؟ كان أبي مترددا حيث أنه لا يعرف الرجل. لكنه يئس من تصرفي، وهو الذي يقول، ابنتي غالية سوف تكون يوما ذات شأن عظيم. مناه أن يكون كل إخوتي متعلمين. يحثنا على العلم في قصائده الشعرية الطويلة. أبي لا يريدني أن أجول غربا وشرقا لأجل العلم، لأن القصيدة التي كان ينشدها لنا دائما، تقتصر على الذكور وليس على الإناث. كما أن قول الرسول "ص" علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"، حلله أبي للذكور. فركوب الخيل محرّم علي وعلى أخواتي لكي لا نفقد بكارتنا. وكأن الإسلام جاء فقط لإشباع رغبات الرجل في العلم والثقافة والرياضة. كان أبي متأكدا أنني لن أدرس في جامعة مدينتي ولا يريدني أن أتوقف عن الدراسة بعدما اجتزت شوطا كبيرا منها. انهال أبي على العجوز بسيل من النصائح والتحذير قائلا:" ستذهب معكم قرة عيني وفلذة كبدي، عليك أن تعتني بها مثلما تعتني بأهلك."

أقبلت أمي مسرعة إلى غرفتي وأخبرتني بأن أبي وافق على سفري معهم إلى ليبيا. إلى حدّ ما فرحت بالخبر، قلت في سريرتي، ليبيا أفضل من أن أمكث في البيت الذي سيُعجّل من زواجي القسري. بعد دقائق قليلة، أقبل أبي إلى غرفتي وقد يئس من عنادي:
_ ابنتي! تحديتني ولم أعد أعرف كيف أتصرف مع عنادك الذي لا أعرف إلى أين سيوصلك. لكن الله أرسل لنا هذا الرجل وزوجته. ستسافرين معهم إلى ليبيا وهناك ستكملين دراستك. سيسافران برّا وبعد أسبوع ستلتحقين بهم. قلت له خائفة: لماذا بعد أسبوع؟
قال بهدوء وحزن: ستسافرين بالطائرة.
كنت خائفة أن يسافر الرجل وزوجته ويتراجع أبي في كلامه، رغم أنني لم أعهد فيه ذلك. ارتميت في أحضانه باكية كأم وجدت طفلها الضائع، أقبّله وأقول:" أحبك أبي، من فضلك دعني أسافر معهم برّا. لأول مرة وبعد شهر كامل من الكآبة والانطواء على نفسي، رأى أبي ابتسامة تعلو وجهي، اغرورقت عيناه بالدموع وقال:لك ما تريدين.
سافرت مع أبي والرجل وزوجته إلى مدينة الرباط حيث السفارة الليبية، وهناك حصلت على التأشيرة. قضينا ليلة في أحد الفنادق في المدينة، وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى محطة القطار. اشترى أبي ثلاث تذاكر، لي وللرجل وزوجته. جلسنا في مطعم المحطة ننتظر موعد السفر، وقبل ساعة واحدة من موعد سفرنا أعطى أبي للعجوز ثلاثة ألاف درهم مساعدة له وقال لي إن لم أجد مكانا في الجامعة عليّ أن أعود فورا إلى المغرب في الطائرة. قبّلت يده وشكرته. حَجَّبَ عليّ بالقرآن وارتجل أبياتا من الشعر يودعني بها وأوصاني أن أعتني بنفسي وانتبه على جواز سفري ونقودي. تأثرت من سماع تلك الأبيات، من قلب ينازعه حنين للأهل و الأحباب. غادر أبي المحطة بسرعة لأنه لم يتحمل وداعي. تركني وحيدة مع ذلك الرجل العجوز وفي داخلي طفلة غطت جسدها الصغير أشواك ملونة بلون بقعة دم داكنة تحوم في سماء طفولتي زمانا ومكانا وتذكرني بسري وبمستقبل أنات مذبحة تنساب في فجر قريب.
ضجيج المسافرين موزع بفوضى في فضاء محطة القطار، وجوه مرتبكة يختلسها الشرود وأخرى يلونها صمت التصعلك والمشاكسة . أثار انتباهي زوجة العجوز التي احتست وحدتها في سكون مرتبك، تحاول تهدئة طفلها الذي كان يصرخ عاليا، تحمل عبئه على أكتاف صمتها وتبتسم له ابتسامة ملونة بالحزن. ولدت المسكينة في بادية من بوادي المغرب، من عائلة فقيرة جدا تتكون من اثني عشر طفلا، كانت أكبرهم سنا. أما العجوز فزوجته الأولى كبرت وهرمت، فلم يعد يحتاجها، رماها بعد ما مصّ رحيق شبابها، تركها تعاني من جفاف العمر بعدما فسّخ الزمن كل شيء جميل في حياتها واغتال روحها الهزيلة وهي تتمسّك بجدائل الحسرة والحزن داخل سراديب وحدتها. إنه يريد صبية طازجة ليجدد فراشه، علها تعيد إليه زمن الشباب والفحولة.

سرى بنا القطار في ذلك الليل الخرافي الطويل من مدينة الرباط وفاطمة منهمكة مع رضيعها، مرة ينام ومرات يبكي ثم ينهض منزعجا من صوت القطار وضجيج ركابه، والمسكينة تهدئ من روعه بابتهالات وأدعية. أما العجوز فغطّ في سبات عميق وعلا شخيره في عربة القطار وكأنه في عالم آخر. كنت أحيانا أطالع قصة الطاهر بن جلون ابن الرمال وأحيانا أستمع إلى الصمت الرهيب الجاثم على صدري. أغمض عيني حينا أو أنظر إلى فاطمة التي لم تذق أجفانها النوم. زهرة حبلت بلون الظلام فانتشر السواد على محياها والطفل بين أحضانها يدنو من أمواج مستقبل غامض لا يقوى على الإبحار. شعرت بنفور من العجوز الذي اشترى هذه المسكينة من عائلتها بثمن بخس لتزيّن عباءة شيخوخته المنقوشة بألوان باهتة.
الساعة السابعة صباحا أعلن سائق القطار عن وصولنا إلى وجدة. التفتت إليّ فاطمة وقالت: من فضلك، هل يمكنك أن تمسكي ابني قليلا؟ أريد الذهاب إلى الحمام. ناولتني الطفل، طلبت منها ألا تتأخر كي لا يلاحظ ابنها غيابها ويبدأ بالصراخ. ابتسمت وقالت:" "سآتي بسرعة". وبينما تتأهب للخروج من عربة القطار حتى فتح زوجها عينا واحدة صارخا في وجهها: إلى أين أنت ذاهبة يا امرأة؟ أجابت والخوف يعتريها: "أريد فقط أن أذهب إلى الحمام." أجحظ عينيه صارخا:" من غير إذني؟! ألا تعرفين أن القطار مليء بالرجال؟" تلعثمت من قهرها:" وماذا أريد من الرجال؟ أريد فقط أن أذهب إلى الحمام." نهض بعصبية، أمسك بيدها وجرها كالطفل الصغير ثم غادرا العربة. لم أكن أصدق صفاقته مع زوجته. بدأت أحدّث نفسي كالمجنونة. لماذا هذا التعسف وسوء المعاملة؟ لماذا هذا الجبروت والاسترقاق؟ تساؤلات راودتني من غير جواب إلى أن أقبلت فاطمة مع زوجها الذي كان يزمجر بكلام غير مفهوم.
توقف القطار، أخذنا حقائبنا وتوجهنا إلى حيث الحدود المغربية الجزائرية، هناك تصطف سيارات الأجرة التي تأخذ الركاب إلى ليبيا. دخلنا إلى مكاتب الجوازات المغربية للإجراءات المعتادة. ترمينا خطانا في بلد آخر. لأول مرة تطأ أرجلي أرض الجزائر. صحراء قاحلة وليس هناك من شجرة تقينا من حرّ الشمس الحارقة إلا كوخ صغير من الصفيح تباع فيه القهوة والشاي، كان يعج بالمسافرين الرجال.
اقترب مني العجوز وقال:
_"هذه مائتا درهم مغربية، أريدك أن تصرفيها إلى العملة الجزائرية وأنت كذلك يجب أن تصرفي مائة درهم قد تحتاجينها لشراء مشروب أو قهوة في أرض الجزائر.
قلت له: لا أرى هنا مصرفا لتغيير العملة؟
ضحك مشيراً بيده إلى مجموعة من الشباب موزعين بشكل مبعثر هنا وهناك وقال:
هل رأيت تلك الجماعة من الرجال الواقفين هناك؟ إنهم يصرفون العملة.
نظرت إليه باستغراب وقلت في سريرتي، لماذا لم يذهب ويصرف نقوده بنفسه؟ لم يكن هناك إلا الرجال وهو الذي لم يسمح لزوجته أن تذهب إلى الحمام لكي لا يراها أحد. ضحكت بامتعاض قائلة في نفسي إن كان سيعتني بي كاعتنائه بزوجته فأنا لا أحتاج لذلك الاعتناء. أخذت الورقتين النقديتين واتجهت حيث السوق السوداء، اقترب مني رجل وقال بلهجة جزائرية:
_ وَاشْ ْبغيتي تْبْدْلِي العُمْلَة؟
قلت له: نعم، أريد تغيير ثلاث مائة درهم.
أعطاني مقابلها ثلاث مائة دينار جزائري ثم انصرفت. أعطيت للعجوز المائتي دينار واحتفظت بمائة لنفسي. نظر إلي بغضب وقال:
_" ماذا فعلت؟ لقد احتال عليك ذلك الرجل."
قلت بتعجب: لماذا احتال علي ؟
كنت أنظر إليه يحدثني من بين أسنانه:
_ إن العملة المغربية أعلى قيمة من الجزائرية، المفروض أن يعطيك تسعة دنانير زيادة.
قلت له: لماذا لا تذهب أنت وتصرف العملة بنفسك؟
أجاب بعصبية:" قُلْتْ زْعْما اْنتِ قَارْيَة وْمْتْعْلّمَة."
تمالكت أعصابي وقلت له ببرودة: "إنني غيرت النقود بنفس سعر البنك."
ردّ علي مزمجرا:" هذه السوق السوداء وليس البنك".
بعدها فقدت أعصابي وصرخت في وجهه: " كم ستربح علاوة على سعر البنك، دينارين أو ثلاثة دنانير؟ هاذي مائة دينار مني لك وكفّ عن فلسفتك، فأنا لست فاطمة.
أخذ نقودي ودسها مع باقي نقوده إلى جيبه. اتجهنا إلى حيث سيارات الأجرة. بدأت أشعر بتذمر وحيرة من خوف المكان ومن ضربات القدر الموجعة، منزعجة من مرافقة هذا العجوز الذي لا يكف عن تعكير الجو بكلامه الجارح لزوجته ومن الطفل الذي كان يبكي من شدة الحرارة، لكنني كنت أشعر بشيء من الحرية وأنا بعيدة عن أهلي، مستقلة بذاتي رغم إحساسي المريب بقطع حبال العودة إلى وطني. أما ليبيا فكانت بوابة لمطار آخر لشخص بلا حدود، يحتضن وحدته ويمتطي غيمة بحثا عن المجهول، دوامة يقتات منها أمله ولا يعرف متى وكيف وأين سيسقط لحظة ضعف.
ما زالت الشمس تقذف بحممها كسهام تخترق العظام، لم تكن هناك شجرة يحمي بها المرء نفسه من الشمس سوى ذلك المقهى الصغير المبني من الصفيح والمليء بالمسافرين وسائقي سيارات الأجرة. الرياح تعبث في كلّ الاتجاهات حاملة معها قصص ماضي وحاضر أولئك المسافرين الواقفين في طابور وسط تلك الرمال المحرقة وأنفاسهم منقبضة على تنشق الهواء الساخن. كل كان يحلم بغد تسقط فيه الأمطار وتتفتح فيه الزهور. تعبت من الوقوف ومن شدة الحرارة. أخرجت من حقيبتي قنينة كولا ساخنة ورغم ذلك شربتها. تضايقت من نظرات المسافرين لي ولفاطمة، نظرات تلتهم بنهم صدرها وهي ترضع طفلها وكأنهم يتساءلون عن تواجدنا داخل تلك الصحراء القاحلة وبين ذلك الحشد الغفير من الرجال. تملكني الذهول واعترتني دهشة وارتباك. قلت للعجوز:
_ أريد أن أصلي.
رمقني بنظرة استخفاف وضحك مستهزئا:
_ ما عمري شفت واحد يصلي بسروال الجينز."وَيْنِّي هاذي موضة جْدِيدَة!
_ لم أحتمل سخريته، صحت في وجهه قائلة:
_ لا غيرك في هذه الصحراء يشبه السعير! من سماك ابن الإيمان؟ الأجدر أن تسمى ابن الشيطان. أنا سأصلي ببنطلون الجينز وأنت أيها العجوز اللئيم لم يعد بينك وبين قبرك إلاّ شبر ولم أرك صليت قط!
ظل يحدّق في من غير أن ينبس بكلمة واحدة. ابتعدت عن مكان الطابور وغضب جامح يستفزني بكلّ حروف الأرض حزنا. لفّني سكون بسواد من الصمت ودثّرني توجّس وقلق. نظرت إلى أعلى فرأيت الغيم يلفّ سماء حالكة منذرا بقدوم ليل متجهم والرمال ستتناثر فجأة على متن عاصفة. دموع دافئة سالت وحجبت عني الرؤيا. جلست تحت تلك الشمس المحرقة بعيدا عن ذلك الشيطان العجوز، وبعيداً عن صراخ الطفل المسكين الذي كان يوجع قلبي كلما سمعت بكاءه ثمّ أصلي رافعة يديّ نحو السماء، أبحث عن ذاتي وسط تلك الرمال وتلك الرياح التي تسرق الهدوء الصاخب بالسكون ولا تستطيع أن تصد ذلك الغم الجاثي على صدري. بعد لحظات من الابتهال هدأت نفسي، حملت جسدي المتهالك إلى موقف السيارات، وجدت العجوز يجادل سائقا حول الأجرة. سمعت السائق يقول له:
_ ثلاثمائة وخمسين دينار للشخص الواحد !
_ هلا خفضت السعر؟
أجابه السائق: لا يمكنني أن أفعل ذلك لأن هذا هو السعر المتفق عليه والذي نأخذه من المسافرين إلى ليبيا.
لم تمر عشر دقائق حتى غادر السائق المكان وسيارته مملوءة بالركاب. أما العجوز فاتجه نحو سائق ثان يسأله عن التسعيرة. طلب منه ثمنا أغلى، تركه وذهب إلى سائق ثالث والمسافرون يغادرون بسرعة دون أن يجد سائقا يأخذنا بأجر أقل وكما يريد هو. أقفلت مكاتب الجمارك وغادرت الشرطة المكان، ولم يبق أحد في تلك الصحراء القاحلة إلا نحن وسبعة رجال من المسافرين كانوا يجلسون في ذلك المقهى الصغير الذي ينبعث منه ضوء الشمع الخافت. بدأت الشمس تغيب عن كبد السماء والطقس يشتد بردا، والظلام ينشر لونه الأسود الداكن على تلك الصحراء المنبسطة، والعجوز يزمجر ويسخط، أما زوجته فكانت تحترق في صمتها وكأنها غير مبالية بوجودنا في تلك الصحراء النائية، فهي موكلة أمرها لزوجها الذي يعرف كل شيء، وهو الذي يحسن التصرف، و صاحب الذكاء الذي لا يتمتع به أحد غيره.
سألته:
_ هل تعي ما تفعل؟ لم يعد أحد غيرنا في هذه الصحراء، وتعرف أن هذه المنطقة خطيرة قد تداهمنا جماعة البوليزاريو أو شرذمة من المتطرفين الجزائريين.
قالت فاطمة بصوت يلبسه الخوف:
_ من هو البوليزاريو؟ ومن هم المتطرفون الجزائريون؟
ردّ عليها مزمجرا: اسكتي يا امرأة، هذه أمور لا دخل لنا فيها، نحن لا نتدخل في السياسة، ولا نريد أن نعرف عنها شيئا. قلت له بعصبية: من طلب منك أن تتدخل في السياسة أو تعرف عنها؟ فمثلك مثل الدابة على الأرض.
ابتعدت عنهم قليلا، انتابني خوف وقشعريرة في جسمي خلقا لديّ شعورا غريبا في نفسي، وتهيأت لي تخيلات مريبة. رأيت ثلاث سيارات قادمات من الجزائر تقترب منا فتهيأ لي أنها جماعة من المتطرفين الجزائريين. هرعت إلى ذلك المقهى أصرخ: "عصابة قادمة إلينا!"
وقف الرجال الذين كانوا يجلسون في المقهى وقالوا بصوت واحد:
_ لا داعي للخوف، فالسيارات سيارات أجرة.
اطمأنت نفسي وأخيرا جاءت السيارات التي ستأخذنا إلى ليبيا. توقفت السيارات الثلاث قرب المقهى. نزل ثلاثة شباب في العمر نفسه تقريبا من سياراتهم. هرول الرجال نحوهم، كل واحد أخذ مقعده بعدما دفعوا أجرة الطريق، إلا العجوز كان يجادل أحد السائقين على الثمن وكان السائق يقول له بأننا لا نأخذ المسافرين بأقل من هذا الأجر، وسوط لسان العجوز يمتد ويمتد باستكانة مصطنعة:
_ لا أملك الكثير من النقود كي أؤمن أجرة الطريق.
قال له السائق: أنت حر في ما تملك.
تعجبت لبخل ذلك العجوز الذي أعطاه أبي نقودا عندما كان يودعنا بمحطة الرباط مساعدة له ولزوجته.
قلت له: هل تريدنا أن نقضي الليلة في الصحراء أو تريد أن تسافر مجانا؟
نظر إلي السائق وقال: هو حر.
قلت للسائق: كم تكلف أجرتنا نحن الثلاثة؟
قال: ثلاث مائة وخمسين دينار لكل واحد منكم.
أعطيته النقود فأبى أن يأخذها مني قائلا:
_ اتركيه ربما ستأتي سيارة أجرة وتأخذه بالمجان.
انتابتني لحظة من كآبة، رسمت صمتي على مساء الصحراء المتأخر وضوء القمر السارح في فلوات الرتابة ثملا تحت الغيوم وفوق النجوم ... أرعبني ذلك الارتسام.
قلت للسائق في تحدّ: من فضلك خذ النقود ودعنا نغادر هذه المنطقة.
قال: لن آخذ سوى أجرتك فقط.
- لا يمكنني أن أغادر إلا بصحبتهم !
استغرب السائق وقال: هل جئت مع هذه العائلة؟
كنت خائفة منه وخائفة من العجوز الذي تحول من حمل وديع إلى ذئب مفترس، خائفة من الليل ومن شدة البرد الذي بسط سطوته على الصحراء، كدت أفقد أعصابي، وأحسست أن عقلي سيطير من رأسي.
قلت للسائق:" يا سيدي، إن هذه العائلة عائلتي وسأقيم عندهم في ليبيا.
ضحك وقال: معذرة اسمحي لي، لا أصدق أن هذا الرجلَ من عائلتك.
قال العجوز والبخل يطل من نظراته: سأدفع لك النقود عندما نصل إلى ليبيا.
قال السائق: ومن سيضمن لي بأنك ستدفع النقود عندما تصل إلى ليبيا؟
نظرت إلى السائق وقلت له بسرعة: أنا، وهذا جواز سفري خذه ضمانة.
لم يقل العجوز شيئا.
نظر إلي السائق وقال: أستغرب من أمر هذه العائلة وأمرِك. سآخذك وهذه العائلة من غير ضمانة منك وأكتفي بوعد منه.
التفت إلى العجوز وقال: إنك محظوظ، لو لم تكن مع هذه الفتاة لما ركبت سيارتي.

تنفس العجوز بعمق، فتح باب السيارة الأمامية. استوقفه السائق:

_ مهلا، هل تريد الجلوس بجانبي؟

_ نعم، النساء مع بعضها وأنا أجلس بجانبك.

السائق: فكرة جيدة لكن، أفضل أن تجلس بقرب زوجتك وابنك. والأخت تتفضل في المقعد الأمامي.

انطلقت السيارات الثلاث داخل تلك الصحراء الموحشة متوغلة في الظلام الحالك، متعبة أنا ودفء السيارة يأخذني في نوم عميق تحت تقلبات أنهكتها كوابيس مبتلة بسراب المجهول وبعد أربع ساعات تقريبا توقفت السيارات الثلاث أمام مقهى في إحدى مدن الجزائر الصغيرة. نزل الجميع لتناول العشاء. اصطف السائقون الثلاثة حول إحدى الموائد التي في وسط المقهى والرجال السبعة حول مائدة أخرى. أما العجوز فتوارى بزوجته في إحدى زوايا المقهى بعيدا عن العيون الثائرة والمثرثرة التي تهوى الجديد. دخلت إلى الحمام، غسلت وجهي ثم رجعت إلى السيارة وأنا في وحدتي وملاك الظلام يهمس من حولي دعي الفلك تجري ولا ترقبي فأنت التي اخترت العوم في الفضاء . فتحت حقيبتي. تناولت وجبة سفر ذات متعة خاصة تداخلت فيها حيرتي وهيامي وهمّي. أنظر من خلال زجاج السيارة الأمامي إلى البيوت المتباعدة تبدو كأكواخ ضربتها الريح سنوات، منظرها يوحي بعمر طويل بالخراب والقدم. فجأة سمعت أحدا ينقر على النافدة، إنه سائق السيارة، نظر إلي مبتسما وقال: ألا تريدين النزول للعشاء؟ رفعت عيني أحدق فيه وحولي إطار رهيب من الخوف.

ترددت أول الأمر إلا أنني وافقت وتبعته إلى المقهى حيث الزبائن مشغولون بالأكل والحديث الصاخب. جلست مع السائقين الثلاثة حول مائدة بوسط المقهى. قال أحدهم مشيرا إلى العجوز وزوجته:

_ هل أنت مسافرة مع تلك العائلة؟

نظرت إليه بحزن، مستسلمة لصمتي وكأنني أتكتم على سر. فوجئت بسؤال آخر منه.

_ كيف لم يسألك تناول العشاء معهم ؟

ارتبكت خجلاً ولم أدر كيف نطقت بتلك الكلمات التي كانت تجوب خاوية بداخلي، تفجرت وكأن شخصا ما في داخلي هو الذي يتكلم.

_ أنا لا أحتاج منه دعوة ولا أحتاج نقودا، فعندي ما يكفيني، و لا أشعر برغبة في الجلوس معهم.

قلت كلامي ذاك وندمت.

قال أحدهم: مادمت لا ترتاحين له فلماذا تسافرين معه؟

كانوا ينظرون إلي باستغراب وفي صدري نصل يستل روحي لتمضي بعيدا، ترددت لحظة ووجدت نفسي أشرح لهم أمري مع ذلك العجوز وزوجته، متحفظة في كلامي أخفي همومي وأسراري، وعيونهم فارغة تنبثق منها علامات التعجب والاستفهام، يتطلعون إليه بين الفينة والأخرى متأففين مستهجنين.

قال السائق: أعرفك بنفسي، اسمي سمير وهذا رفيقي زكريا وهذا ابن عمي سهيل. اطمئني فنحن معك وسنحميك منه ومن غيره، أنت آمنة إلى أن تصلي إلى ليبيا.

نظر إلي كل من سهيل وزكريا بابتسامة وكأنهما يؤكدان كلام صديقهما. لأول مرة بعد يوم وليلة من تعب السفر استمتعت بوجودي مع شبان يتحدثون في شتى المواضيع المختلفة والجديدة علي. كانوا يَشترون السيارات من إيطاليا و فرنسا، يسافرون بها إلى المغرب ثم يحملون الركاب إلى ليبيا بعد ذلك يبيعونها في طرابلس ويغادرون إلى أوروبا لشراء سيارات أخرى. كان سمير لا يكف عن الضحك والنكت. نسيت للحظات ابن الإيمان وأحسست لأول مرة أنني مستقلة عنه.

حان وقت الرحيل، اتجه كل واحد منا إلى سيارته وانطلقت السيارات الثلاث تاركة خلفها تلك القرية الصغيرة لكي تصبح ذكرى من ذكريات الطريق الممتد إلى داخل الصحراء القاحلة والمظلمة حينا.

سأل العجوز سمير: متى سنصل إلى ليبيا؟

أجابه: بعد يومين ونصف، لأننا نمر من أقصى جنوب الجزائر.

قطب العجوز جبينه، لم يعجبه الجواب وقال: لم أفهم ماذا تعني؟

قال سمير: مساحة الجزائر من الجنوب عرضا أطول من مساحتها من الشمال.

لم أعرف لماذا اختاروا تلك الطريق الطويلة و لم أسأل سمير عن السبب. ما يهمني أننا في طريقنا إلى ليبيا. التزمت الصمت داخلة أحراش جسدي، كما تركت فاطمة في صمتها الأسود كالجريح على شاطئ الوقت يخترق الدخان دمها واكتفيت بأسئلتي تتناطح بداخلي. وجهها ضاعت صفاته عبثا على درب بلا قدر، لا أعرف لماذا أفكر فيها، فحلمي أيضا بين صوت وموت وثلج ونار. التفت إليّ سمير وقال:

_ أين ذهبت بفكرك؟ هل تحبين موسيقى الراي؟

قلت بسرور مصطنع: أعشق موسيقى الراي وخصوصا القديم منه لأنها إيقاع جزائري محض.

- ليس عندي إلا الجديد منه، هل تحبين سماعه؟

وضع شريطا داخل جهاز التسجيل. كانت موسيقى جميلة، زادها جمالا تلك الطريق الطويلة داخل الصحراء الهادئة والليل الذي يجنح مرخيا سدوله على كل الجهات. حملني اللحن إلى عالم الأحلام بالمستقبل الجميل وبالحرية وعدم الخوف والرعب من السر الخطير ومن زوج المستقبل الذي كنت أخشى قدومه.

بعد انتهاء الشريط التفت إلي مبتسما وقال: هل سمعت آخر النكت المغربية؟

فاجأني بسؤاله فأنا لست متعودة على المزاح وخصوصا مع الجنس الآخر.

- سألته متلعثمة: ما هي آخر نكتة؟

- أنت التي جئت من المغرب، أسمعيني ما عندك.

تبدّدت سحابة الخجل عن وجهي وقلت بارتياح مرتبك قليلا.

_ إنني أحب سماع النكت، لكن لا أحب أن أرويها لأنني لا أُضحك أحدا. مرة كنت أروي نكتة لإخوتي فعندما انتهيت من إلقائها كانوا ينظرون إلي.

سأل سمير مظهرا ارتياحه بالتحدث إلي: لماذا؟

كانوا يظنون أن النكتة لم تنته بعد. فقال أحد إخوتي وبعد؟ قلت له ليس هناك بعد ولا قبل تلك هي النكتة، فانفجروا ضاحكين.

بدأ سمير يضحك. فشعرت بسخونة في جسمي خجلا. سألته متلعثمة:

_ هل تضحك علي؟

- لا، لكن ما رويته الآن فهو نكتة.

بدأ يروي نكتة تلو الأخرى وأنا أضحك. بعدها أمسك بشريط ثان للراي وقال: لنسمع شيئا من الموسيقى.

ما زالت الصحراء مختفية خلف الظلام، مغطاة ببساط من السكون المرتخي الذي قاطعه فجأة بكاء الطفل وصراخُ العجوز لزوجته.

_ أَسكتي ابنك يا امرأة، صراخه يزعجني.

لم أرد أن أفكر في أمرها ولا أمر زوجها لأنه لا يزيد في روحي إلا قلقا وغضبا، خفّضت صوت الموسيقى وسألت سمير:

_ هل تتقن اللغة الإيطالية جيدا؟

ضحك وقال: من طبيعة الحال، إنني أسكن في إيطاليا.

_ أسمع أن اللغة الإيطالية قريبة من اللغة الأسبانية، هل هذا صحيح؟

_ نعم، اللغتان تتشابهان كثيرا في النطق وفي معظم كلماتها؟" هل تتكلمين أنت اللغة الإسبانية؟

- درست الإسبانية في الثانوية كما أن أمي كانت تساعدني في إجادتها. هي من سكان طنجة لكنها سودانية الأصل، وأنت تعرف أن طنجة كانت تحت الاحتلال الأسباني.

- أنا أمازيغي، من مدينة تافراوت درست اللغة الأسبانية أيضا في المغرب.

بعدها بدأ سمير يخاطبني باللغة الإسبانية، أعجبته اللعبة، ربما أراد أن نستقل بحوارنا ونبتعدَ عن عالم العجوز الذي كان يزعجه من حين إلى حين بأسئلته. تحدثنا طويلا في مواضيعَ مختلفة. ارتحت لنقاشه كثيرا وكأنه أزال عن قلبي بآرائه المنفتحة شيئا من تعاستي. نادتني فاطمةُ بصوت منخفض وقالت:

_ هل يمكن أن نسمع أغنية الشاب خالد عن الغربة؟

سألتها: أي شريط تقصدين؟

قال سمير: ماذا تريد؟

- إنها تريد أن تسمع الأغنية التي تتحدث عن الغربة.

بينما سمير يبحث بين الأشرطة محاولا إيجاد الشريط، سمعت الّلكم والضرب وفاطمة تصرخ:

_ ماذا فعلت؟ لم أفعل شيئا. أنا فقط سألت غالية إن كان ممكنا سماع أغنية الغربة، هل هذا حرام؟

بدأ الطفل يصرخ بين يديها بعدما كان هادئا على غير عادته. أذهلني منظر العنف والظلم من دون سبب. لم أتحمل أن أرى فاطمة وهي تُلْطَم وتُضرَب ويختفي فجأة صراخها داخل صمت الخوف لتزحف روحها المرتعشة وراء تلال تلك الصحراء. صرخت في وجه العجوز:

_ كفّ عن ضربها، هذا حرام.

قال لي وهو ينظر إلي بعينين تقدحان شررا: ماشي شغلك! هاذي مْرَتي وأنا حر فيها.

خفّض سمير من سرعة السيارة وقال بصوت هادئ:

_ أنت حر في زوجتك وأنا حر في سيارتي، فهلا أوقفت الضرب عنها أو تنزل من السيارة حالا. تعبت من تصرفاتك الحقيرة في سيارتي.

توقف العجوز عن ضرب زوجته كما توقف ذلك الحوار الجميل الذي كان يجري بيني وبين سمير. رجعت إلى واقعي وإلى التفكير في مستقبلي المجهول معه ومع زوجته في ليبيا، معزولة داخل أفكاري، مخذولة أتمتم من قهري، هذه المرة شعرت بخوف من المغامرة التي أنا قادمة عليها، فعدَلت عن الكلام، والتزمت الصمت، أنظر من النافدة إلى تلك الصحراء المظلمة أبحث فيها عن رؤية لذلك المستقبل الغامض في بيت العجوز، لم أستطع أن أتخيل شيئا سوى الظلام الحالك. ارتعشت فرائصي من منظر ذلك السواد القاتم، أغمضت عينيّ كي لا أرى شيئا. خفف سمير من سرعة السيارة، أخرج لحافا من تحت المقعد الذي يجلس عليه ثم غطاني. بعد ساعة تقريبا توقفت السيارات الثلاث قرب محطة البنزين، هناك سنقضي الليلة بداخل السيارة وفي الصباح الباكر سنواصل السير. نام الجميع أما أنا فكنت أفكر في مستقبلي وفي حالي مع العجوز الذي تصعب مرافقته. كرهت التفكير حدّ الموت في تلك اللحظة فأحدث ذلك صداعاً في رأسي لكنّ التعب أثقل أجفاني وصمت الصحراء يرسل نغماتِ وهمية من الناي وأصوات الريح ترتطم بحبات الرمل على هيكل السيارة لتصنع إيقاعات كأنها حفلة عرس وهذا الهاجس المرسوم بلون التعب يتمحور بداخلي ويتحوّل إلى كابوس. حلمت أنني عروس أجلس فوق كرسي ذهبي والنساء يزغردن والبنات يرقصن وبعد ساعات طويلة من الغناء والرقص، جاءت امرأة طويلة وسمينة، أمسكت بيدي بقوة ثم قادتني إلى غرفة النوم حيث كان العريس ينتظرني واقفا داخل جلبابه الأبيض ووجهه مغطى بقناع أسود يحجب رؤية وجهه. دفعتني إليه بقوة. أمسكتني بيدين خشنتين وقويتين، ثم وضعتني تحت جسمه وأنا أصرخ وأقاوم ودمعي مغترب عن المألوف. كانت تنظر إلي وتقهقه بصوت يعلوه شبق لممارسة النشاز، بين عينيها وشم أخضر وأسنانها طويلة صفراءُ سوداءُ متفرقة وعلى رأسها منديل أحمر، كانت تضغط على رجلي لتحد مقاومتي وتقول لي، اهدئي واسترخي فهذا ليس بأمر صعب. تشنجت عضلاتي ولم أعد أستطيع الحركة. العرق يتصبب من كل جسمي وجدائل رعبي تنتحب في توسل. ضَحِكَتْ وضحك العريس ثم أزال القناع وكشف عن وجهه، كان العريس هو العجوز ابن الإيمان. فتحت عينيّ أصرخ وألهث، فإذا بي أسمع صوت العجوز يقول:

_ ما هذا الصراخ؟

التفت إليّ سمير وقال: لا تخافي إنه فقط كابوس مزعج.

مسح بيده على جبهتي المتعرّقة وقال: قولي بسم الله فلن يعاودك الكابوس مرة أخرى.

لم أكن أستطيع النوم. بدأت أحدق في جدران مساماتي لكي ألملم ذاتي. أحاول انتشال جسدي المحموم في كابوس رحلتي، مختنقة بسعالي ونظرات سمير تقول لي لما لم تنامي بعد! وهاجسي يقول لي لا أريد أن أحلم مرة ثانية.

ها قد نام القوم، وبقينا أنا وسمير نصارع التناجي والتنافر والقبول. قالها هذه المرة جهارا: حاولي أن تنامي. كان لكلمته وقع الصدى في دماغ أنهكه التفكير والترحال والتجوال بين طقوس الذات والآخرين من حولي. رميت برأسي على كتفه دون سابق إنذار ورمى هو بيده في يدي بإذن الصمت المحموم بالطمأنينة والأمان ونمنا بالحد الفاصل ما بين الحلم واليقظة والطفولة. يداه الجميلتان تلعبان بشعري وتعبثان بوجهي، توقظني من نومي بابتسامته الجميلة على إيقاع الصباح وإذا بأمه تعتذر لي وتقول بلغتها الأمازيغية: ابني يحبك كثيرا ودائما ينظر إليك، ثم التفتت إلى زوجها الذي كان مازال يغط في نوم عميق، أحسست وكأنها تريد أن تقول لي إن ابني يأبى أن يلعب بلحية أبيه الشيطانية وها هو يلعب بشعرك. مازلت أجمع أشلائي من غفوتي لعدة ساعات، انتبهت أن سمير مازال ممسكا بيدي، شعرت بخجل، سحبت يدي ببطء شديد لكي لا أوقظَه. ثم اتجهت إلى ذلك المطعم الصغير بجانب محطة البنزين. اغتسلت ثم ذهبت إلى حيث رمال الصحراء الذهبية، غير مبتعدة عن مكان السيارات، أنظر إلى أفق تلك الصحراء الممتدة بلا حدود، هامسة استغيث الندى وأفكر في اليوم الذي سنصل فيه إلى طرابلس، متسائلة في نفسي إن كنت سأمكث في بيت العجوز أو أبحث عن شقة صغيرة أسكن فيها ريثما ألتحق بالجامعة. وبينما أنا غارقة في تفكيري من كهف الخوف المرشوش بسري الخطير، وقف أمامي سمير.

_ صباح الخير غالية. هل نمت جيدا؟ أنت أول من استيقظ، يظهر أن بالك مشغول جدا.

- هل تقرأ أفكاري؟

- أبدا، لكن بالي مشغول عليك خاصة بعد كابوس الليلة. لاحظت أنك لست مرتاحة في رحلتك مع العجوز وزوجته.

تعجبت من كلامه وكأنه عاش الكابوس الذي رأيته في منامي، سألته مستغربة:

_ كيف عرفت ذلك؟

ابتسم وقال: المسألة لا تحتاج إلى عناء التفكير. هيا بنا نفطر زكريا وسهيل ينتظرانا.

نهضت من مكاني واتجهنا إلى المطعم. قال سهيل و زكريا بصوت واحد:

_ صباح الخير.

رددت التحية وجلست في مكاني، وبينما كنت أشرب كوب الحليب كان زكريا وسهيل ينظران إلى سمير ويتغامزان، قال لهما بارتباك:

_ ماذا بكما ؟ أفطرا بسرعة فإن أمامنا طريق طويل.

قال له سهيل باللغة الإنجليزية: وجهك شاحب ألم تنم جيدا؟

التفت زكريا إلى سهيل وقال: يظهر أنه كان هائما في الغرام.

رد سمير بعصبية: كفاكما من الحديث بالإنجليزية، عيب أن تتكلما بلغة لا تفهمها الفتاة.

شرب الشاي بسرعة، أخذ قطعة خبز بالجبن في يده وأسرع إلى السيارة. قلت لهما وأنا أبعد عن نفسي آثار الارتباك:

_ لماذا لم ينه سمير فطوره ؟

قال زكريا: لا عليك فهو دائما مستعجل.

أفطر الجميع واتجه كل إلى سيارته ثم انطلقنا متوغلين بعمق الصحراء.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:33 PM   #5

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الثالث

انكسار



انبهاري بطبيعة الصحراء يجعلني أغفو كطفلة تحت زرقة السماء الصافية وأسرح على أنغام موسيقى الراي المنبعث من مسجلة السيارة، وتعود بي الذاكرة إلى سطور الحوار الذي دار بين سمير وزكريا وسهيل باللغة الإنجليزية. هل هو إعجاب أو تجاوب من نوع آخر، أو مجرد وهم يمشي على إيقاع الماء سرابا؟ صحوت من حلم اليقظة على ذكريات نكته المضحكة. أطلسي مصبوغ بلون المغرب، فيه سحر البحر وجمال الطبيعة، تعلو وجهه صفاء السماء. باسق كالنخل، رشيق كالغزال دافئ كالشمس. أدمنته ثم أدمنت حواره، نكته وروحه الندية. رائحة عطره كالمسك كالياسمين تعبق على أهداب الغيم رذاذا. تهافتت أسئلة بداخلي، هل سيأتي المطر ويروي أغصاني الظمأى ويحضنني الربيع بين أزهاره وعلى راحته أم أن الخريف سيسبقهم ليتلاعب بأغصاني ويتركني وحيدة أرثي نزيف فؤادي وأبكي غربتي وحضوري وغيابي؟ فجأة أحسست بغصة في حلقي، جرجرت أنفاسي المنقبضة، اغتالت هدوئي وفجرت دموعي العطشى بهدوء وغضب وانكسار.

_ لماذا تبكين؟

قالها لي بلغة غير العربية. كان يتعمد التحدث بهذه اللغة عندما لا يرغب في شريك ثالث بيننا.

قلت: لا، أنا لا أبكي.

- بلى، أنت تبكين. امسحي دموعك فأنا لا أحب أن أراها.



وضع شريطا ثانيا للراي وظل الصمت يعم السيارة، ما عدا الطفل الذي كان يبكي من فترة لأخرى. تمددت على مقعدي أقرأ قصة الطاهر بن جلون التي تحمل عنوان "طفل الرمل"، علّها تنسيني تجوالي وترحالي وذلك السر الذي يقلق عليّ مناماتي. إلا أنها لم تسعفني على الهرب ولا النسيان. أحسست وكأن الكاتب يقول لي إلى أين أنت هاربة؟ ليس لك طريق غير طريقنا ولا حياة غير حياتنا، أفكارنا غرسناها في خلاياك، تحت أجفانك، في جداول صمتك وحديثك، في يقظتك وأحلامك كما نسجناها عباءة لتستر جنون أنوثتك المتعرية أمام الحشمة. وضعت الكتاب بعصبية بجانبي. التفت إليّ سمير وقال:

_ ما بك؟ لاحظت أنك عصبية جدا منذ الساعة التي خرجنا فيها من المقهى.

- أتألم للناس المظلومين، ليتامى المجتمع الذي يفتك بالإنسان.

- آه! كم أنت متشائمة.

سألته إن قرأ كتاب الطاهر بن جلون؟ ضحك وقال:

_ قصة ابن الرمال! قرأتها. هل هذه التي جعلتك تتألمين؟

- نعم، هذه القصة أرّقتني، عذبتني، جعلتني أبكي وأحمل نعش الضمير الذي ينتحب فقدان القيم.

نظر إلي بعينين مبتسمتين فيهما شيء من الاندهاش وقال: هل أنت أبو العالم؟

فتحت عيني مستنكرة وقلت عن استياء: هل السكوت على الباطل حق؟

- أنت لست داعية. أتركي هذا الأمر لأهله.

- قلت له بعصبية: من أهله؟

أجاب بابتسامة: الكتّاب والصحافيون ودعاة الدين والسياسيون وغيرهم.

كلمة الحق التي يلفظها بعضهم يغتالها الآخرون بطلقة نفاق أو يجرونها بعيدا وراء قضبان الردّة أو الحسبة.

ذاكرة الماضي ارتشفته واختلسه الشرود بعيدا حيث نداء يسكنه جنون غير مسموع ويذوب حرقة من مطاردة البكاء. دمعة نزلت في ارتباك أرجعته وهو يلملم ما تبقى من فتات الأسى قال بصوت حزين:لي أخت واحدة، كانت أمي تدربها دوما على كيفية الجلوس باحتشام والتحدث باختصار وحياء، هَمُّ عائلتي أن توفق أختي بعريس وبحياة عائلية سعيدة، دون الإشارة إلى وجوب بلوغها مراتب العلم والثقافة التي تُعْتَبَرُ بنظرهم أمرا ثانويا. المهم أن تتعلم الطبخ وتنظيف البيت. اللعب خارج البيت وركوب الدراجة والقفز على الحبل ممنوع لأن ذلك قد يفقدها عذريتها. أما أنا فكنت الولد، لا هم لأهلي سوى نجاحي في المدرسة ونيل الشهادات العليا لكي أؤهل لمركز مرموق وكانوا مستعدين لأي شيء حتى ولو اضطرهم الأمر أن يبيعوا كل ما يملكون كي أحقق النجاح. لاحظت أختي تلك المغالاة لكنها لم تكن تملك الشجاعة لتواجه والديّ أو تناقشهم أو ترفض أوامرهم. فتأتي إليّ وتسألني، لماذا يفضلونك عنّي؟ لماذا يعاملونني كمخلوق خلق فقط للزواج وتربية الأولاد وتنظيف البيت. هل أنا فقط التي سأتزوج؟ لم أكن قادرا على تغيير شيء، أخرج إلى الحارة وألعب مع الأولاد لأن عرفنا ينص على أن يلعب كل مع جنسه وإلا حصل ما هو غير مرغوب فيه في نظرهم!

سألته: ماذا تعني؟

قال: إن مجتمعنا يخاف اختلاط الفتيات بالأولاد في المدرسة أو خارجها لكي لا يحصل الاحتكاك الجنسي.

- الجنس! الجنس! أليس في الدنيا شيء غير الجنس؟

- سأل وهو يبتسم: هل أنت ممن يحبذون ممارسة الجنس قبل الزواج يا غالية؟

- بالطبع لا، لكنني أؤيد التوعية. الفتاة في مجتمعنا تخدم في منزل أهلها، ثم تنتقل إلى الخدمة في منزل الزوج وكل التغير الذي حصل تبديل الوالدين والإخوة بالزوج والأطفال، أما الفتى فتراه في الطريق يغازل الفتاة وفي الحافلة يلتصق بجسمها وفي الأماكن الخالية من الناس قد يغتصبها وأحيانا يقتلها لكي لا تفضحه وينتهي في السجن.

– لكن كيف يتمكن الوالدان من تربية ناجحة إن كانوا هم بدورهم افتقدوها من والديهم وتوارثوا التخلف والقمع؟ كثير من العائلات لا تذهب بناتهم إلى المدرسة خصوصا في القرى، فترى الفتاة في سن الحادية عشرة تحمل مسؤولية كبرى وصعبة. إن منطق الأسرة الذي تعتبره منطقا سويا وصحيحا هو إعطاء ابنتهم الكبرى نصف دزينة من الإخوة والأخوات لرعايتهم، فتقوم بدور الأم وقد يكون أبوها موظفا بسيطا ووالدتها أمية أو شبه أمية، يضاف إلى ذلك عدد لا يحصى من الخالات والعمات يتزاحمن في الحي الشعبي، فتخوض الفتاة معركة يومية لتثبت جدارتها كربّة بيت ويقول عنها والداها وعماتها والجيران في الحي أنها بنت ذكية، تعرف القيام بكل واجبات البيت والزوج، من تنظيف وطبخ ومراعاة لإخوتها فيرضى عنها الوالدان، كما يرضى عنها العم والخال و الجيران وتكون من المرشحات للزواج وتتسابق عليها نساء الحي لخطبتها من والديها.





ظل مسترسلا في حديث موجع عن أخته قاطعته سائلة إن كان كلّ البنات اللواتي يذهبن إلى المدرسة يغتصبن؟ رمقني بعينين مثقلتين بحزن عميق وقال بهدوء مصطنع:

_ بالطبع لا. لكن المدرسة التي كانت تدرس فيها أختي، كان بالقرب منها مشروع بناء منازل للموظفين، وكان عشرات من البنائين يعملون في ذلك المشروع لكي توزع المنازل على الأهالي الذين يعانون من أزمة السكن. في يوم اغتصبت أربع بنات أثناء عودتهن من المدرسة وشوهت وجوههن. اكتشفت الشرطة أن مرتكبي الجريمة جماعة من البنائين، بعدها أقسم أبي ألا تذهب أختي إلى أية مدرسة و رغم نواح أختي وبكائها لم يستمع لتوسلاتها فاعترتها نوبات عصبية، ولا تكلم أحدا سواي لأنني كنت أصغي إليها وأحس بمعاناتها، أما أبي فكان يصرّح جهرا أمام الأقارب والأصدقاء، بأنها عنيدة ورأسها يابس وينعتها بنعوت تنصبّ عليها بدون أي حق. والأغرب من هذا يقول بأن عنادها فطري لأنها تشبه أمها.

حديثه عن أخته جعلني أحس بارتياح نحوه وبانجذاب لم أكن أستطيع تفسيره ولا مقاومته، أنا التي أكره الرجل وجدته حنونا عطوفا يصف الحقيقة عارية كما رآها وهو طفلا، يتألّم لمجتمع استباح إنسانية أخته وعبث بطفولتها، استمع إليه كالمخطوف لأوجاع في أوردتي وزغاريد تسبح مع مساء صوت الصحراء ومن خلفي طيف عقاب يتبعني وأنا أجري، يخدعني كالسراب وأنا ظمأى. رغم تجنبي أن يعرف شيئا عن حياتي الشخصية، وجدت نفسي أشاركه الحديث. أحدثه عن أبي

الذي يملك مشروعا تجاريا يدر أرباحا طائلة، وكان يغدق على إخوتي من الذكور نقودا ينفقونها بين الملاهي والسينما، أما أنا إن أردت شراء كتاب لابد لي من مقدمات وأخبر أمي أولا، لأنني لا أستطيع أن أطلب أبي مباشرة، فهو لديه ما يصرفه على الذكور أو الضيوف الذين يتوافدون إلى بيتنا كالسيل. هذا يريد مساعدة مادية لأنه من غير وظيفة، وذاك يريد إجراء عملية وليس لديه ما يكفيه لنفقات المستشفى، والآخر له قضية معطلة بالمحكمة، كنت أنفر لذلك الكرم المبالغ فيه. أنا وأخواتي أولى بتلك النقود. كنت أميل إلى كتابة مذكراتي، لأعبر عما يضجّ في عقلي من ضوضاء أفكار وتأملات. ما كنت أكتبه أحتفظ به لنفسي، لا أحد يفهمني أو يحاول فهمي ولم أكن أثق بأحد ولم تكن لدي صديقات.

- لماذا يا غالية؟ إن الصداقة شيء مهم في حياة الإنسان.

لم أجرؤ أن أقول له بأنني أختلف عنهن، أكتم سراً ملعونا يتبعني. لم أجرؤ أن أقول له بأنني أحسد كل عذراء لأنها تتمتع بالاطمئنان على مستقبلها، أما أنا فكنت أنتظر نهايتي على يد خنجر يعدني بالإعدام. الزمن يجري وسأصبح في تلك السن التي يٌحَتَّمُ علي أن أقبل الزواج من أي رجل يطرق باب بيتنا. بقائي خارج إطار الزواج يسيء إلى مركز عائلتي الاجتماعي وزواجي يكفيهم همي، لكن همي أنا لا أحد يعرفه. لم أجرؤ أن أقول له بأن قلبي أصبح مرتعاً للخوف والرفض تجاه كل شيء. أكره أمي وأبي و المجتمع الذي لا يرحم وإخوتي الذكور والرجال والبنات وأكره... وأكره.... ثم انفجرت أبكي... أوقف السيارة ثم ضمني إلى صدره فأحسست بدفء وطمأنينة، برعشة في كل جسمي لم أحس بها من قبل.

قال بصوت رخيم: اهدئي يا غالية، لا تبكي أنت فتاة قوية وذكية لا يخاف عليك.

كنت أتمنى أن أبوح له بذلك السر الخطير، لكنني خائفة أن يكرهني و ينفر مني بعدما وجدت لأول مرة في حياتي رجلا يفهمني، وكأنه يعرفني منذ سنوات خلت. كان العجوز مستغربا مما يجري حوله، مستغربا من بكائي ومن ذلك الحوار الطويل الذي يجري بيني وبين سمير من غير أن يفهم كلمة واحدة منه، مستغربا من سمير الذي يضمني إلى صدره.

قال بعصبية وبصوت مرتفع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ماذا أرى! هذا أمر لا يُسكَتُ عليه.

قال له سمير ببرود: لماذا تقول أعوذ بالله؟ هل أنت تعرف الله؟ لو كنت تعرف الله لما تزوجت امرأة في سن حفيدتك؟ و أحسنت إلى هذه الفتاة التي أَّمَّنك أبوها عليها.

قال العجوز: أبوها؟ أنا سأقول لأبيها.

قال له سمير: هل ستقول لأبيها بأنك أخذت نقودها وأنت لا زلت في الحدود المغربية أو ستقول له بأنك تدفع ثمن غذائك وغذاء زوجتك، وغالية تأكل الساندويتشات التي جاءت بها من بيتها، أم ستقول له بأنك تتمنى لو تدفع ابنته عنك وعن زوجتك أجرة السفر. ماذا ستقول له أيها الرجل؟

لم يستطع بعدها العجوز أن يقول شيئا، ولم يتمتم بكلام غير مسموع، التزم الصمت متعثرا في صدى الغضب، أما زوجته فكانت مثل الصنم، لا يُسمَعُ لها صوت ولا حركة. تَعَوَّدتُ على سكوتها وانزوائها، فالله وحده يعرف سبب ذلك الصمت المطارد بالخوف والقلق.

أدار سمير سيارته وانطلق بسرعة لكي يلحق بالسيارتين اللتين سبقتانا، وضع شريطا لجو دا سان في جهاز التسجيل وقال هذه الأغنية لك أهديها. شعرت بسخونة في وجهي، إيقاع الموسيقى انساب إلى روحي كنهر هادئ وكلماتها تعلن عن رسائل رومانسية عذبة شدّت انجذابي وهو يرددها ويلتفت إلي تارة، وتارة أخرى ينظر أمامه.

إن لم تكوني موجودة... لماذا أكون أنا

وأمشي ... وأمشي بلا أمل... بلا لهف

إن لم تكوني موجودة... لماذا أعيش أنا

بلا أمل .... بدون تعطش إليك ... بدون شوق إليك

إن لم تكوني موجودة ...

سأكون كرسام يرسم لوحة بألوان النهار

ولم يعد لإتمامها ...

إن لم تكوني موجودة... ما النفع من وجودي أنا ....

إن لم تكوني موجودة ...

سأكون كقطرة من مطر... ضائعا... تائها

مشتاقا إليك... متعطشا إليك ...



في عالم يأتي... ويروح

إن لم تكوني موجودة ...

قولي لي كيف سأعيش أنا ....

إن لم تكوني موجودة ...

سأحاول أن أكون أنا ...

لكنني سأكون زائفا ...

سر الحياة أنت... سر الحياة أنت ...

إن لم تكوني موجودة... لماذا أكون أنا

وأمشي ... وأمشي... بلا أمل...

بلا شوق .... إليك ....



سعادة سرت في روحي، أضاءت ظلامي كمصباح من الفرح المبلّل بالبكاء. اجتاح أغلالي، أصبح فارس أحلامي الذي ما كان ممكنا لقاؤه ولو في الأحلام. تمنيت أن تسير بنا السيارة إلى ما لا نهاية وأظل أنا أتحدث إليه لأن ذلك يخفف عني. لم أطمع أكثر من تلك النظرة التي كانت تشع حنانا، وتلك اللمسة الدافئة التي تذيب شيئا من ذلك الكره الذي يسكنني. أحببت فيه انفتاحه، ثقافته وثرثرته معي عن خصوصياته. كان أستاذا للفلسفة في المغرب. قرر الهجرة إلى الخارج بعد ما تزوجت الفتاة التي كان يحبها من مقاول البناء رغما. أمرها أبوها أن تنسى سميرا لأنه ليس إلا مدرسا، لا يملك مالاً ولا سلطة بالبلد كالحاج الحسن المقاول. تزوجت الفتاة بالمقاول وكانت الزوجة رقم ثلاثة. أما سمير فهاجر بعدها إلى إيطاليا. هناك عمل في تجارة السيارات وكون ثروة لا بأس بها، واشترى بيتا بميلانو وشقة بباريس، شخصية غريبة، نبقى ساعات نثرثر في شتى المواضيع، التي تنسيني في تلك اللحظات كل شيء يزعجني، سفري المجهول وسري الخطير. أهو الحب؟ أنا لا أعرف الحب ولا أريد أن أعرفه، فقلبي تعود على النفور من كل شيء، حتى من أقرب الناس إليّ. أرفض سماع دقات قلبي التي تقول لي إنك تحبين، وصوت عقلي الذي يقول لي لا تلعبي بالنار فذاك يعجل من أجلك!



بعد أربع ساعات تقريبا توقفنا في مدينة صغيرة أخرى في الجزائر، دخلنا إلى مطعم لم يكن يختلف عن ذلك الذي تعشينا فيه، شبه مظلم، لون الكراسي والطاولات والجدران أخضر غامق، وكالعادة انزوى العجوز مع زوجته في زاوية المطعم والرجال السبعة مع بعضهم أما أنا والسائقون الثلاثة جلسنا حول مائدة ثالثة. طلب سمير من النادل أن يأتي بأطيب ما عنده، لم يكن أحد يعرف بأنني أتكلم اللغة الإنجليزية ولم يسألني أحد منهم. كان سهيل وزكريا ينظران إلى سمير ويتغامزان عليه ويضحكان. احمر وجهه خجلاً ومن غير شعور خاطبهم بالإنجليزية كي لا أفهم قائلا: ماذا بكما؟ توقفا عن المزاح.

قال له سهيل: أقسم بالله أنك وقعت حباً؟

ضحك زكريا وقال: لا، لم يقع فقط. بل وقع وتكسر.

أجابهما بعصبية: كفاكما مزاحا! نعم، أحببتها، و أتمنى أن تكون لي زوجة المستقبل لكن، لا أستطيع أن أبوح لها بحبي الذي تكون بين ليلة وضحاها، لن تصدقني أبدا، أتمنى أن أبقى معها على اتصال، وقد يأتي ذلك اليوم الذي أفاتحها فيه بالموضوع، ثم أسافر إلى المغرب وأطلب يدها من أبيها.

قال له سهيل ساخرا: أنت! أنت ستتزوج؟ لا أصدق! أنت الذي ترفض الزواج ولا تؤمن به. كم من فتاة صاحبتها وتركتها. أنت لست إلا زير نساء.

قال له سمير بشيء من الانفعال: يا أخي اسكت كيف أتزوج من فتاة تبيع جسدها رخيصا ومن غير ارتباط شرعي. هل أنت أحمق؟

قال زكريا: أنت لا تعرف شيئا عن هذه الفتاة، ربما هي مثل غيرها، أو ربما تتحايل عليك لكي توقعك في شباكها. أنت لا تعرف جنس النساء. إن النساء بحر عميق وغامض وكيدهن عظيم.

انزعج سمير من كلامه وقال بصوت واضح ومتماسك: لا أسمح لك أن تتكلم عن هذه الفتاة بسوء إنها تختلف عن غيرها من البنات، فأقفل الموضوع حالا وتكلم بالعربية فمن سوء الأدب أن تتكلم بلغة لا تفهمها.

كنت مرتبكة جدا بعد سماع حوارهم، ولإخفاء شعوري التفتُّ إلى حيث العجوز وزوجته أشير بيدي إلى الطفل الصغير متظاهرة مداعبته من بعيد.

جاء النادل لنا بأكل شهي طيب لكنني كنت أحرك الأكل بالشوكة مرتبكة خجلة.

قال زكريا: ما بك لا تأكلين؟ ألا يعجبك الطعام؟

قلت متلعثمة: بلى، إن الطعام لذيذ جدا.

قال سهيل: ربما أكلت البارحة كثيرا.

قال زكريا مبتسما: ما هذا الخجل المفاجىء؟

ارتبكت أكثر، وشعرت بحرارة تسري في جسمي و وقعت الشوكة من يدي.

بعدها صرخ سمير في وجهيهما: كفى مزاحا! اتركا الفتاة وشأنها.



انتهى الكل من تناول الغداء، أما أنا فلم أستطع أن آكل رغم محاولتي ذلك. لا شهية عندي للطعام وجسمي يرتعش بسبب ذلك الحوار الذي دار بينهم. أمسك سمير قطعة خبز ووضع فيها قطع اللحم التي كانت في صحني، ثم لفها بمنديل من ورق ووضعها بجانبه قائلا:

_ تأكلينها في السيارة عندما تجوعين.



غادرتُ إلى السيارة وأنا هائمة في عالم آخر. وضعت شريط جو داسان في المسجلة، ثم أخرجته مرة ثانية، لا أريد أن يلاحظ سمير شيئا في تصرفي، ولا أريده أن يشعر بأنني أحببته. لا أصلح له زوجة من غير عذرية، من غير شَرَف. لا.... لا أريد أن أقولها لأنها تطيح بكرامتي وبعزة نفسي. يكفيني أن أقول إنني فقط أحمل سرا خطيرا. استلقيت على مقعد السيارة وأغمضت عيني داخل أقفاص طافحة بالوهم، لم أكن نائمة بقدر ما كنت هائمة أداري نفسي بالنوم لأوهم الوهم وتستريح أشرعتي من علة المجداف والإبحار وحدي على شطآن تمرّدي وتيارات مطاردة بالخوف تجرفني بعيدا فيأتي سمير ليلملم وحدتي ويؤنس سفري المتشح بالحنين والشوق، يمسك يدي، يقبلها بحذر شديد أما أنا فقد أمّلت نفسي بعدها بنوم هادئ. انطلق بسرعة محاولا اللحاق بالآخرين. صوت جو د سن ينتشر صدى في تلال تلك الصحراء، لأحلام عصافير تأمل أن تلتقي يوما وتستعيد قصة رحلتها الأولى مع الحب والأمل وسمير يقود سيارته في صمتٍ سعيدٍ ملؤه الورد والحلم، متجها صوب غيمة من موسيقى كحمامة بيضاء، كالسنونو في الفضاء أو الصقر على قمم الجبال. ساعتين من الزمن ارتدت فرحا خفيا يتوقف فجأة مع احتراق محرك سيارة سهيل الواقفة بطريقة مبعثرة على جنب الطريق. فتحت عيني فإذا بي أرى دخانا يتصاعد منها وسمير اختفى نصف جسمه داخل الصندوق محاولا إصلاحها، والركاب حولها متذمرين.

قال أحد المسافرين: ماذا سنعمل الآن؟ هل سنقضي الليلة في هذه الصحراء القاحلة؟

رد عليه زكريا: سيركب بعضكم سيارة سمير، والبعض الآخر في سيارتي. ليس لدينا حل غير هذا حتى نصلحها في ضيعة ليست ببعيدة. في سيارة زكريا جلس رجلان في الأمام وأربعة في المقعد الخلفي، وفي سيارة سمير جلس رجل بدين بجواره وأنا في الخلف مع العجوز وزوجته ومسافر آخر. أحسست بانزعاج كبير وبتعب كبقية المسافرين، كل ملتصق بالآخر لا نستطيع الحركة بحُرية غير السيارات التي كانت تبحر في تعب داخل تلك الصحراء الشاسعة التي تبدو لا حد لها ولا نهاية متجهة إلى الدوار الذي يسكن فيه الحاج رضوان الميكانيكي، صديق حميم لسمير وأصدقائه. كان الجو مزعجا يلبسه لهيب الهواء الساخن ونحن ننتظر الوصول من ساعة إلى أخرى والحرّ يزرع سخونته في روحنا العطشى للراحة. كان مسافران معنا في السيارة، واحد نحيل والآخر بدين، مرحان يتحدثان عن كل شيء قد يخطر على بال الإنسان. أحسست بنوع من الراحة والطمأنينة ونسيت ذلك الازدحام وذلك الطقس الحار. كان الرجل البدين يجيد الغناء خاصة الطرب الأندلسي، سحرنا بصوته العذب الرخيم كنافورة ماء وسط ذلك الحرّ، حطّ على قلوبنا وأثلجها، أحيانا أقول له بيتا أو بيتين من الشعر وهو يرددها بإيقاع يسحر القلب وينعشه. مرت ساعات ممتعة داعبَت ذلك الغروب الصحراوي بنغمٍ، واسترخت فيه الروح كما الشمس فوق سرير الرمال وغادر فكري جسدي المسافر إلى أهلي في المغرب للحظات، كنا نجلس فيها حول مائدة الغذاء وأبي يروي بيتا شعريا وعلى الذي يجلس بجانبه من إخوتي أن يقول بيتا مبتدئا بالحرف الأخير من الشطر الثاني فتدور الحلقة كمناظرة بيننا، ومن يخسر المسابقة عليه أن يأخذ الصحون من فوق المائدة ويغسلها ويهيئ الشاي. أما المسافرون فظلوا في سمرهم مع سمير الذي انتبه لصمتي المتواري خلف أوصالي. رأيت ابتسامته عبر زجاج السيارة الأمامية وعيناه تلتمسان مشاركتي بأبيات شعرية لذلك البلبل الذي كان هبة لنا ويخفّف عنا غربتنا المتخمة بالحرمان. كنت منزعجة من الحر ومن احتباس البول. أوقف سمير السيارة عدة مرات لينزل كل منا ليقضي حاجته، أما فاطمة فلم تجد شجرة تتوارى بها ورغم ذلك ترفع عن جلبابها الطويل ثم تجلس وراء السيارة وتقضي حاجتها. كنت أجد صعوبة لأنني أرتدي بنطلون الجينز فتحملت ساعات طويلة، مغمضة عينيّ أفكر متى سنصل إلى ذلك الدوار الذي يقطن فيه الحاج رضوان. أحس ارتباكي وانزعاجي، خفض من سرعة السيارة حتى تخطتنا سيارة سهيل ثم توقف وقال:

_ غالية وفاطمة، انزلا واستريحا.



ابتعد عن أعيننا. فتحت فاطمة فاها مرعوبة خائفة لا تعرف ماذا يجري، أما أنا فلم أكن أبالي في تلك اللحظة لا بالسيارة التي اختفت ولا بوجودنا لوحدنا في تلك الصحراء الموحشة، كنت فقط أفرغ من غير توقف على أنقاض ذلك الوحش الذي افترس البلاد يوما لمدة مائة وثلاثين سنة، وبعد لحظات رأيت سيارة سمير تسير تجاهنا إلى أن توقفت. وانطلقنا نحو دوار الحاج رضوان بعد أن تخلصت من ذلك العناء الثقيل الذي كنت أحمله في مثانتي. وضع سمير أغنية جو د سان في جهاز التسجيل وكأنه يقول لي أهدي إليك هذه الأغنية يا غالية. نقلتني الأغنية إلى عالم الأحلام الجميلة والحب العذري حيث لا زواج فيه ولا احتكاك جنسي. كانت كل كلمة ينطق بها جون د سان كأنها مرسلة إليّ على لسان سمير. استسلمت إلى عالم الحب ضائعة بين سطوره أمشي متعثرة على سري وبسمتي مهمومة وأنا أستمع إلى سمير يناديني بتلك الكلمات التي نثرت ورودا في سمائي، حلم مدثر بحب جميل طرد وحشتي وخوفي وجعل نومي يتوسّد رعشتي الولهانة في صمت. سكون رهيب عمّ السيارة وكأنهم يعرفون أن انسجاما عاطفيا بيني وبينه، لم يبح أحد منهم بكلمة حتى انتهت الأغنية، أما أنا فتسلّلت تحت لحاف وردي أحلم بعش يحتوينا في حقل ينثر الزهور رحيقا ونحن نطير كالفراشات نلهو ونضحك ونطير فوق الشمس وفوق القمر. بعد انتهاء الأغنية بدأت ثرثرة المسافرين تسبح في فضاء السيارة وهم يرتشفون في حزن البعد عن الوطن والغربة التي لبستهم قبل أن تكتمل الأرض. كان سمعي يشاركهم الجراح ويرتشف يأسهم ويأسي في صمت، أحيانا أتيه بين كلماتهم وأحيانا أعود لصفحاتي المحفورة على وجه الرمال حائرة كيف أبني أملا على وجه شاطئ رحلت عنه المياه. قطرت دمعة كالجمر على جسدي فأحرقته، أحاول مسحها فإذا بي أحسّ بيد وراء ظهري تنزل ببطء شديد إلى أسفله. لم أصدق أول الأمر، عاودت تلك اليد الكرّة مرة ثانية، بعدها فتحت عيني بسرعة والتفت ورائي، فإذا بيد العجوز ملتصقة بجسدي. يا إلهي لم أصدق ما يحصل! هل هذا هو الرجل الذي أوصاه أبي بي خيرا ؟ كيف له أن يتصرف معي بمثل هذا التصرف، وزوجته بجانبه؟ ليست بالنسبة له سوى حشرة بهيئة امرأة يطفئ فيها شهوته الجنسية. لم أكن أستطيع أن أصرخ في وجهه أو أن أخبر سمير ذلك الشاب الوحيد الذي كنت أثق فيه وأرتاح إليه. لم أستطع تجنب العجوز حيث كنا مزدحمين، أو أخبر زوجته التي لا أعرف وقع الخبر عليها. أظلمت الدنيا في عيني وشعرت بالكره لكل الرجال الذين لا يفكرون إلا في استغلال المرأة جنسيا وكأنها في نظرهم خلقت للجنس فقط وبالتالي فهي دوما الضحية. ضحية إجرامهم من غير رحمة ولا شفقة، يستبيحون بقسوة إنسانيتها ويستترون في ضمير القاضي والخصم والحكم ثم يصدرون عليها الحكم بالقتل لأنها غير شريفة، انتهكت حرمتها وعرضها بيدها، لا تستحق الحياة لعدم اتباعها السلوك الحسن، وابتعادها عن دينها الذي يأمرها بأن تكون تقية عفيفة.

حاولت الابتعاد عن يد العجوز. لم أتشجع ثانية بإسناد ظهري كحالة احترازية كي لا يتمادى أكثر، بقيت جالسة بنصف المقعد فشعرت بالتعب والإرهاق، أفكر في طريقة أبتعد بها عنه حتى وضع يده مرة ثالثة على ظهري وبدأ ينزلها شيئا فشيئا إلى الأسفل، فنهضت من مكاني ودموعي خرساء تسكنها حرقة على جسدي المنهك. جلست على أرضية السيارة مقرفصة حتى شعرت بتنميل رؤوس أصابع رجلي من ثقل جسدي عليها، أبكي حزناً على نفسي وأبحث عن موقعي في هذا العالم المتوحش، فاطمة لم تعرني أي انتباه، ولم تسأل نفسها ما الذي دفعني للجلوس بتلك الطريقة، ربما كانت تعرف سبب ذلك لكن ماذا بوسعها أن تفعل؟ اكتفت بانشغالها برضيعها الذي يبكي الضجيج المتغلغل في أحشائها. التفتَ إليّ المسافر الذي كان يجلس معنا في الخلف.

- ماذا بك يا ابنتي؟ لماذا تجلسين هكذا؟

خجلت منه وشعرت وكأنه عار عليّ أن أقول له بأن ذلك العجوز كان يتحسّس ظهري، إنها فضيحة كبيرة بالنسبة لي، لم أرغب أن يعلم المسافرون بذلك فينظرون بعدها إليّ بعين الشفقة ولا أريد أن تعرف فاطمة سلوك زوجها اللعين. كان سمير يناديني لم أرد عليه، لكن المسافر الذي يجلس بجانبي قال له: "إنها جالسة على أرضية السيارة تبكي، ربما مريضة. توقّف بسرعة البرق ثم فتح الباب، أمسك بيدي، و أخرجني من السيارة:

_ ماذا بك يا غالية؟

كان ينظر إليّ بحنان وكأنني أخته الصغرى التي يخاف عليها ويرعاها ولا يريد أن يحدث لها سوءا. أخبرته بالأسبانية عن تصرف العجوز، و لو كنت أعرف كيف ستكون ردة فعله لما فعلت. جنّ جنونه، أمسك العجوز بقبضة يده، أخرجه من السيارة ثم أوقعه أرضاً. وكان العجوز ينظر إليه والشرر يتطاير من عينيه، يبصق على الأرض ويشتم سميرا. لم أتحمل أن أرى منظره وهو ملقى على الأرض، عجوز ضعيف، لهاثه محموم والخوف باد على تجاعيد وجهه المرتجف. بدأ المسافران يتساءلان باستغراب ما الأمر فصار الذي كنت أخشاه. رفع سمير قبضته في وجه العجوز وصرخ بصوت مرتفع موجها كلامه للمسافرين:

_ إن هذا العجوز تطاول على الفتاة.

ريح من الغضب تعصف بازدراء واحتقار فعلة العجوز وعيون تتأجج كالجمر، همهمات تنطق زوابع من التأفف وزبد البحر يفيض غضبا على الرمال في حين يتوارى العجوز خلف عهره متعكزا عاره وزوجته ترشف صدمة قُبحِه متأبطة نصيبها المرّ علقما يحرق جوفها. وقف سمير ينتظر سيارة سهيل التي كانت خلفنا وعندما وصلت نزل سهيل مرعوبا، متسائلا ما الأمر، هل هناك عطب في السيارة؟

قال سمير بغيظ: العطب ليس في السيارة ولكن في هذا العجوز؟ لا أريده في سيارتي.

نظر سهيل إلى العجوز وقال: كل هذا العجب يخرج منك أيها العجوز! ألم تخجل من سنك؟

تعكّر مزاج العجوز وتشابكت في رأسه الأفكار، مزمجرا ناكرا فعلته. قاطعه سمير قائلا:

_ كفى! لا أريد أن أسمع منك كلمة واحدة، تفضل أنت وزوجتك إلى السيارة الثانية.

قال العجوز: وغالية، هل سأتركها معكم؟ إن أباها بعثها معي وستظل معي.

اقترب سمير يحاول الانقضاض عليه لولا الرجال الذين أبعدوه عنه.

قال له سمير: ألا تستحي وتخجل من نفسك؟ ادخل بسرعة داخل السيارة وإلا كسّرت عظامك.

غادر العجوز خائفا، وزوجته تتعثر وراءه ليحلّ محلّهما مسافران آخران. هذه المرّة طلب مني أن أجلس بجانبه.

انطلقت السيارات متوغلة في نسائم الغروب، قاطعة مسافات الزمن التي بعثرتها وقاحة العجوز المفتعلة والمسافرون تحت دهشتهم متلونون بالصمت متأففون.

قال أحدهم: هذا تصرف مشين من رجل في سنّه.

وقال آخر: كيف يجرؤ على هذا التصرف أمام زوجته؟

وأضاف ثالث: هذا العجوز لا يخاف الله.

قال رابع: أتمنى يا ابنتي أن تصلي بسلامة إلى ليبيا وأن يحفظك الله منه ومن أمثاله.

اختفى سمير بصمت مفتعل خلف نظارته السوداء، أما أنا فلم أستطع إخفاء ارتباكي من غيرته عليّّ، إلاّ أنني شعرت براحة البال رغم وجودي بينهم، ذلك الجنس الذي يخيفني كلما تسرب كابوس سري إلى ليلي. تعجبت للقدر الذي ساقني بينهم قي قعر صحراء، سكونها يدوي حدّ الصمم، أرض بلا زرع ولا نبت والرمال في إسراف تمتد من حولنا بلا نخل، وأنا بينهم وحيدة وخوفي يتوسد تعبي، يحط على جسدي بثقله ويجعل قلبي يخفق حزنا، لكنني تخلصت من مضايقة العجوز وصراخ ابنه.

قال سمير للرجل الذي يحسن الغناء: أسمعنا صوتك العذب.

شرع الرجل في الغناء والآخرون يصفـقون أما أنا فكنت أنظر إلى تلك الطريق الطويلة وكأن لا نهاية لها، طريق مقفرة نائية، تحاصرها الرياح أحيانا وتستعيرها العاصفة أحيانا أخرى لتقلع مسارات الغروب ثم تقذفها بظلمة ثملة، صحراء تجعلك تكسر قيود الأفكار لتهرب نحو المدى وتحاور صمت كلماتك بلا قناع وفي هدوء. شردت بعيدا، أبحث عن عالمي المجهول في ليبيا فلم أعد أسمع الغناء. ماذا سيكون مصيري هناك؟ وهل سأمكث مع العجوز في بيته أم سأغادرهم؟ لكن، إلى أين سأذهب؟ فأنا لا أعرف أحدا هناك. لا بد أن أستأجر شقة صغيرة حتى يحلها الحلاّل. ماذا سأقول للعجوز؟ لا أريد السكن معكم!؟ ربما يخبر أهلي وقد يأتي أبي إلى ليبيا ويرجعني إلى المغرب بالقوة، أسئلة كثيرة تتناطح في رأسي، تؤلم روحي المسكونة خوفا، فلم أر تلك الطريق الطويلة، ولا تلك الصحراء الشاسعة.

بدأت الشمس تغيب والظلام يخيم علينا، وأصبح الطقس بارداً، تقلّصت عضلات جسمي من الجلوس وتثاقلت أجفاني فخلدت إلى النوم، وما هي إلا ثوان حتى أوقف سمير سيارته وأخرج لحافا من تحت مقعده ودثّرني. قال له أحد المسافرين:

_ جزاك الله خيرا على اهتمامك بهذه الفتاة.

قال سمير: أنا لم أقم إلا بواجبي، إنها فتاة طيبة، لكن الشيء الذي يحيرني، كيف تركها أهلها تسافر مع هذا العجوز اللعين ولا أعرف ماذا سيكون مصيرها في ليبيا؟

قال أحد المسافرين: أليس عندنا مدارس وجامعات في المغرب؟ والله بنات اليوم غريبات الأطوار.

قال له سمير: لماذا غريبات الأطوار؟ هل لأنهن يرفضن القيود والكبت، ألا يحق للفتاة أن تدرس وتشق طريقها في الحياة خارج بلدها؟ قال ص: اطلبوا العلم ولو في الصين.

قال أحد المسافرين: إننا لا نحتاج أن نسافر للصين لأجل العلم فبلدنا فيها كل شيء؛ مدارس وجامعات.

قال سمير: نعم، بلدنا يوجد به شتى وسائل التعليم، لكن هنالك شيء أهم من المدارس وهو تفهم الوالدين لأبنائهم، ربما هذه الفتاة لا تريد الرحيل من بلدها بلا سبب قوي لا يعرفه أحد سواها. إنها من عائلة مثقفة لكن الثقافة في نظري شيء والوعي شيء آخر.

قال أحد المسافرين: لا أفهم كيف تنظر بناتنا إلى الحياة من زاوية واحدة حسب مصلحتهن الخاصة.

ردّ عليه آخر: صحيح كلامك، لقد تعرفت ابنتي على شاب وكان أول فتى في حياتها، ثم تكررت مقابلاتهما وأصبح تفكيرها عندئذ محصورا فيه وتوطدت علاقتها به، لكنني لقنتها درسا لا تنساه في حياتها.

سأله سمير: ماذا فعلت؟

أجاب الرجل: لقد ضربتها بحبل مبلل بالماء والملح حتى تشقق جلدها وأقفلت عليها غرفتها ومنعت عنها الطعام يومين حتى تابت عن فعلتها.

قال له سمير بعصبية: هذا تصرف لا عقلاني.

قال الرجل: إن ابنتي في سن لا تؤهلها لتفهم أمور الدنيا.

قال سمير بضيق واضح: يا أخي لا أستطيع أن أفهمكم أنتم الآباء، ولا أستطيع أن أفهم أسلوب الضرب والقمع الذي تمارسونه مع بناتكن!! الضرب لا يصلح الأخطاء، بل يزيد من تراكمها واستعصائها.

رغم شدة النعاس الذي أثقل من تعبي لم أستطع النوم. حوار سمير مع المسافرين نزع النوم من جفوني، تمنيت أن أصرخ بصوت عال وأبدي برأيي، إنهم لا يختلفون عن أبي، أسلوبهم الضرب ومنهجهم القمع ومصادرة الآراء، لكن الذي يحزنني أن سميرا لا يعرف سبب ابتعادي عن عائلتي وتغربي نحو بلد لم أفكر يوما أنني سأزوره أو أدرس فيه. كم تمنيت أن أبوح له بسري الذي حملته وحدي طوال حياتي، لأنني رأيت فيه اختلافا كبيرا عن أبي وعن كل الرجال في مجتمعي. أحسست برغبة ملحة بالارتباط به، تمنيته زوج المستقبل وأنه الوحيد في هذا العالم الذي سيرحمني ولا يعرضني للفضيحة أمام أهلي وفي مجتمعي. قلت في سريرتي إن الحل الوحيد لتحطيم ذلك السر الخطير هو التشبث بسمير.

وضع شريطا للراي في جهاز التسجيل، توقف المسافرون عن ذلك الحوار الذي كان ينزل على رأسي كوقع الفأس، وبعد ساعة من الزمن وصلنا إلى دوار الحاج رضوان، فشعرت بيد تداعب شعري، إنه سمير يناديني بصوت خفيض استيقظي غالية، لقد وصلنا.

الساعة تشير إلى العاشرة ليلا والقرية هادئة يرمقها برد منقوش على وجه الليل. اصطفت السيارات أمام بيت الحاج رضوان الذي كان ينتظرنا بابتسامة أمام عتبة بابه وكأنه يعلم بقدومنا. رجل في الخمسينيات، متوسط القامة، ممتلىء البدن، رحب بسمير ورفيقيه، وسلم على المسافرين ثم دعاهم للدخول.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:35 PM   #6

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الرابع

ولله في خلقه شؤون



صمت الليل يدثر أرجاء البيت برداء من السكون وضوء خافت ينبعث من غرفة مفتوحة. غرف تلتصق جنبا إلى جنب وفي إحدى زوايا البيت ترتمي غرف أخرى ينبعث منها ضوء خافت كضوء الشمعة ليكسر سواد الليل المرتبك في فناء الدار.

دخل الحاج رضوان إلى المنزل وتبعه المسافرون إلى غرفة الضيوف المخصصة للرجال، قريبة من باب المنزل، بعيدة عن باقي الغرف الأخرى. كنا نقف في وجوم وسط زحمة الفراغ إلى أن أقبلت علينا فتاة بزي طويل برتقالي اللون، تظهر من أسفله جوارب صوفية حمراء مثقبة ونعل أزرق من البلاستيك. سلّمت علينا وطلبت منا الدخول إلى غرفة النساء، هواؤها وخم، تتوسطها حصيرة كبيرة وسجادة شبه بالية تشم منها رائحة عفن التراب والجدران خالية من أية لوحة تضفي عليها شيئا من الجمال والدفء. جلستُ قرب فاطمة أتأمل جدران الغرفة الخضراء القاتمة التي أثارت كآبتي، وأنظر إلى ابن فاطمة النائم في حضنها وهي تتأمله متنهدة ثم تنتقل بعينيها داخل الغرفة مستغربة مثلي. يخيم عليها حزن قديم مازالت تجاعيده مرسومة بوضوح في وجهها الصغير البريء. أمسكتُ يدها وسألتها إن كانت سعيدة بالسفر إلى ليبيا، سمعت أنينها يلتهب في تلك العتمة، زفرت معها نيران اليأس وهمست كأنها تبوح بسر، ليس لي إلا الله. رأيت بعينيك كيف يتصرف زوجي معي، إنه لا يعيرني أي اهتمام حتى إنه لا يحمل ابنه ولو لساعة واحدة طوال هذا السفر المتعب. إنه لا يريد مني سوى ...

احمر وجهها خجلا ثم أردفت قائلة، يضربني يا غالية من غير رحمة، فاجأني بخبثه. وانفجرت باكية، ماذا بوسعي أن أفعل؟ إنني أقوم بواجبي. خفضت رأسها وأضافت، سأطيعه كما أوصاني أبي. قال لي إن الزوج في مقام الأب وأكثر، وإن المرأة لها ثلاث خرجات، للدنيا ولبيت بعلها ثم للقبر. لكن أبي لم يكن يضربني فلماذا يضربني هو؟ كنت أنظر إليها وهي تشكو من ذلك العجوز اللعين، لم أعرف كيف أخفف عنها سوى أنني انفجرت أبكي حزنا عليها . وضعت ابنها بجانبها وضمتني إلى صدرها تواسيني. لا تبكي يا غالية، هذا حال الدنيا، ما علينا إلا الصبر فهو مفتاح الفرج. كنت أتمنى أن أقول لها إن موت العجوز هو مفتاح الفرج. تعجبت من أمرها. خلدت إلى صمت مغموس في قعر الآهات، نَظَرَتْ إلى ابنها، ضمته إلى صدرها وبدأت تنظر إليه ثم حولت فجأة نظرها إلى تلك الحصيرة، تتلمّس منها المعنى لحياة تضيع كما الرمل في العاصفة. تحرك رأسها من غير توقف، جنون يراقص لهيب حزنها، يقذفه على كلّ الجهات. أجفلتُ عندما رأيتها ترتجف كالممسوس. نسيت كل شيء في تلك اللحظة، نفسي، بيت الحاج رضوان، سمير والعجوز اللئيم. ما كنت أفكر فيه فقط هو تلك المسكينة التي جفت مآقيها. يأخذها غموض مضطرب باهت الملامح وكلماتها تصرخ مولولة في صمت أعمى، وبعد ساعة، جاءت تلك الفتاة بصحن كبير من الكسكس، وضعته على مائدة صغيرة تتوسط الصالون، وغادرت الغرفة وما هي إلا ثوان حتى دخلت علينا امرأة طويلة القامة، شديدة البياض، عيناها زرقاوان وشعرها كلون الشمس، سلمت علينا ودعتنا للعشاء. بعد انتهائنا من أكل تلك الوجبة، جاءت الخادمة بالشاي مصحوبا بالبلح الأصفر والبسكويت. كانت تلك السيدة تبتسم إلينا بين الحين والآخر، ولتكسر رتابة الصمت نظرت إلى فاطمة وقالت:

_ حتما أنت متعبة، سأحضر لكما الغطاء.

السيدة اسمها عيشة وهي الزوجة الرابعة للحاج رضوان، أصغرهن وأجملهن، معلمة بالمدرسة في ذلك الدوار المسمى باسم زوجها. منطقة نائية في تلك الصحراء، سعيدة في عملها لأنها تعلم الأجيال الكتابة والقراءة، لكن أغلب الأطفال لا يكملون دراستهم، يكتفون فقط بالشهادة الابتدائية. لم أسأل تلك السيدة عن السبب، في تلك اللحظة كنت متعبة وجسمي متشنج، أتوق للنوم فقط. غادرتنا السيدة بعدما تمنت لنا نوما مريحا. وفي وسط ذلك السكون استيقظ الطفل وبدأ في الصراخ الذي اعتادت أذني سماعه، وفاطمة المسكينة تهدئ من روعه وتمشي بخطوات متثاقلة في تلك الغرفة الطويلة. صعب عليّ حالها، وعوض أن أنام شاركتها سهرها لاعنة ذلك العجوز متمنية من الله أن يأخذه إلى الجحيم. مرت ساعتان كالدهر والطفل مستمر في الصراخ. نهضت من فراشي وقلت لفاطمة حاولي أن تنامي، سأمسك ابنك حتى ينام. ناولتني طفلها ثم استلقت على تعبها مستسلمة إلى نوم عميق وسط الصراخ الذي يتلاشى كالضوء الخافت. ضممته إلى صدري وأنا أغني له أغنية اخترعتها ولحنتها في نفس اللحظة، أذرع به الغرفة ذهابا وإيابا وهو ينظر إليّ من غير أن يبكي إلى أن أغمض عينيه. وضعته بالقرب من أمه واستلقيت في فراشي أحاول أن أنام. أتقلب على أفكاري، أخبئ وجهي تحت ضلوعي وفوق الوسادة، ألم يجهش بالبكاء على ظمئي وتيهي ولا صوت سوى الصحراء.



سأعترف لسمير بسري الخطير، لكن كيف وهو غريب عني، ربطني به القدر في سفر يوم وليلة، ربما ينفر مني أو ربما يكرهني إن أخبرته بسري. لا، لست مجنونة كي أذيع له سري. على أية حال، من الذي سيصدقني؟ أحيانا يراودني الشك في نفسي. رعشة سرت في جسدي المجنون، وفوق نار جنوني الأعزل يخفق قلبي ووجهي يتصبب قلقا، أراقب الليل وهو يغادرني تاركا ظلامه يغتال وحدتي وقلقي الجاثم على حافة السرير يزحف على روحي الخاوية. وبعد لحظات صاخبة بالوجع المبعثر في جسدي داهمتني رؤية بوضوح. لم أعد بحاجة للاعتراف له بسري الخطير، كنت أعرف أني سأكبر وأن علي أن أمسك مصيري بيدي. لن أكون شريرة حقودة على الرجل ولن أنتقم منه مثلما فعلت الكثيرات. دقات قلبي تخفق بالحرية والرحيل عن تلك الديار الغارقة في وحل العادات المتخلفة، التي يعلقونها على شماعة الدين ويحملون رايتها تحت شعار الإسلام.

في الصباح الباكر، استيقظت على صياح الديكة، صوتها يأتي من كل زاوية من الدوار، قمت مرتاحة نشطة، أسرعت إلى حقيبتي، تناولت أدوات الاستحمام، فتحت باب الغرفة بحذر كي لا أوقظ فاطمة وابنها. مشيت بخطوات بطيئة في فسحة المنزل الكبيرة التي يتوسطها حوض مربع فيه شجرة عالية ونباتات خضراء مختلفة، في إحدى زوايا الدار حصيرة فوقها مائدة صغيرة، عليها صينية وكؤوس الشاي وصحن فيه تمر، أتأمل تلك الغرف المصطفة جنبا إلى جنب، ربما كانت غرف أبناء الحاج رضوان. أقبلت عليّ تلك الفتاة بلباسها الطويل وألوانه الفاقعة وقالت:

_ صباح الخير، هل تريدين شيئا؟

أجبتها بابتسامة متكلفة: أريد أن أستحم.

أشارت بيدها وقالت:

_ الحمام هناك. إن احتجت شيئا ما عليك إلا أن تناديني، إنني في المطبخ أهيئ الفطور.

شكرتها وأسرعت إلى الحمام، مظلم ليس به إلا ضوء الفجر يتسرب من نافذة صغيرة قريبة من السقف تطل على خارج البيت. لم يكن هناك شيء يدل على أن المكان للاستحمام، غرفة ضيقة تتوسطها عتبة مرتفعة من طين. في الحائط صنبوران واحد للماء البارد والثاني للماء الساخن ودلو أسود من البلاستيك، ولا شئ آ خر سوى صراصير كبيرة تحوم بجنون حول الحائط وكأنها تبحث عن شيء. شعرت بقشعريرة وأحسست أن شعر رأسي قد وقف وقدمي تسمرتا بالأرض. أخاف من الصراصير لكن رغبتي الملحة للاستحمام، جعلتني أتماسك وبينما أنا أقفز من برودة الماء التي تسبح على جسدي أحسست بشيء يمشي على رجلي فاشتد قفزي كي أتخلص من هذا المتطفل، نظرت للأسفل فرأيته يتسلق وكأنه يريد الوصول لهدف. أطلقت رجلي للريح خارجة من الحمام أصرخ الصرصور! الصرصور! وبدأت الخادمة تضرب على خديها وتقول باللهجة الجزائرية يا ويلي! يا ويلي! في تلك اللحظة كانت عيشة تجلس في فناء الدار، جالت بنظرها في كلّ الاتجاهات لتتأكد من عدم وجود أحد من الرجال وقادتني وهي تحتضنني إلى غرفة نومها، سترت جسدي بغطاء سريرها وهدأت من روعي. قدم الحاج رضوان والرجال من المسجد وكان صوته يسمع من الباب، ماذا هناك؟ ما هذا الضجيج؟ أجابته السيدة عيشة لاشيء ونظرت إلي قائلة:

_ الحمد لله لم يرك أحد من الرجال.

وقفت أمامها خجلة، أعتذر عن تصرفي الطائش.

ابتسمت وقالت:

_ لا داعي للاعتذار، شرط أن تمكثي معنا شهرا لكي تتعودي عليها.

سألتها مستغربة:

_ أتعود على ماذا؟

أجابت:

_ الصراصير ...!

مازالت فاطمة تغط في قلقها المشوب بالضياع، شخيرها كاف لإيقاظ أهل البيت، والطفل بجانبها يحرك يديه ورجليه من غير بكاء مبتسما بين هدوء وذهول، وبينما كنت أداعبه دخلت الخادمة وفي يدها صينية الفطور قالت بغضب:

_ إن العم قادر ساخط ويسب فعلتك فهو لا يحب مثل تلك التصرفات.

صمتّ خجلا، أداري ارتباكي وسخونة اعتلت وجهي. دخلت السيدة عيشة ولكي تحدّ من حرجي، جلست بجانبي وقالت مبتسمة:

_ لم تستيقظ فاطمة حتى الآن!

قلت لها:

_ إن فاطمة لم تنم طيلة السفر.

_ لنفطر نحن وعندما تستيقظ، تُحَضّر لها الخادمة فطورها.

منظر الصرصور الذي كان مطبوعا في مخيلتي قطع شهيتي، فاكتفيت بكوب من الشاي. أما السيدة فكانت تأكل بشهية وتتحدث عن دوارها الذي ولدت وترعرعت فيه مصرّة أن أخرج معها بعد تناول الفطور. ارتدت خمارها وخرجنا إلى الدوار الذي يضجّ بصياح الأطفال، حفاة يقفزون بفرح كفراشات مغسولة بالندى، يقفزون برشاقة كالغزلان صوب ضوء ذلك الصباح، يلتفون حول عربة بائع الحلوى، بعضهم مشغول بالتهامها في خدر لذيذ وآخرون يقتربون مني وينظرون باستغراب، والنساء من خلف نوافذ مغلقة تتجسّس على كل خطوة غريبة في ضيعتهن. ابتسمت السيدة وقالت:

_ ليسوا معتادين أن يروا فتاة ببنطلون الجينز كالولد.

كان الطقس في ذلك الصباح دافئا جميلا والشمس تنثر أشعتها برفق على أشجار النخيل التي تتمايل بغنج مع النسيم. البيوت قريبة من بعضها، مصبوغة بالأبيض ماعدا المدرسة فلون جدرانها أخضر غامق ويحيطها سور من الطين والتبن. ما زلنا نمشي بخطوات بطيئة على أهداب أشعة الشمس حتى أشارت إلى مبنى صغير وقالت:

- "هنا درست وهنا أدَرِّسٌ الآن"، أحب مهنتي كثيرا حيث تتيح لي الابتعاد عن أشغال البيت ومشاكل الضراير التي لا تنتهي".



اقتربنا من ورشة زوجها فرأيناه منهمكا في تصليح السيارة وسهيل وزكريا يساعدانه. لم يكن سمير موجودا معهم، افتقدته منذ الليلة الماضية، أحسست بحاجة إلى رؤيته. يأخذني خلف تخوم لا أعرفها وصدى جو د سان يصعد بي فوق الغيوم. بينما أسترق النظر قالت:

- لنذهب إلى السوق، أريد أن أشتري شيئا من الخضار واللحم لتهيئ الخادمة الغذاء.

اتجهنا إلى حيث الدكاكين وفي طرف ذلك السوق الصغير احتشد الناس في طابور طويل أمام دكان الجزار وكأن كل أهل القرية يريدون شراء اللحم ذلك الصباح. في الطرف الثاني من الشارع، دكاكين للألبسة النسائية وملابس الأطفال، وأخرى للألبسة الرجالية ومحل لبيع الأشرطة العربية والأجنبية، يجاوره مقهى يعج بالزبائن. أشارت السيدة إلى المقهى الذي يملكه أولاد زوجها من زوجته الأولى وهمست.

_ انظري إلى المقهى كم يعجّ بالمسافرين.

كانوا يشربون الشاي ومعهم سمير الذي كان ينظر إلينا. انتابني خجل وسرت في جسدي رعشة لذيذة. أدرت وجهي بسرعة إلى محلّ الأشرطة متظاهرة بأنني مهتمة بشراء شريط ما. تخطينا الطابور الطويل وسط ترحيب الناس بكونها معلمة أولادهم وزوجة الحاج رضوان مالك المقهى والورشة والحمام العمومي الذي يغتسل فيه أهل الدوار. طلبت من الجزار أن يرسل كمية من لحم البقر إلى البيت، بعد ذلك رجعنا إلى البيت نمشي الهوينى ونتحدث إلى أن وصلنا.



وجدت فاطمة تداعب ابنها وتشبعه قبلا على جبينه، نظرَت إليّ باستغراب، عدلت من جلستها وقالت مبتسمة:

_غالية أريد فقط أن أعرف ماذا فعلت لابني، فأنا لم أسمع بكاءه منذ البارحة.

قلت لها مازحة: هل اشتقت لبكائه؟

ابتسَمَت ولأول مرة أرى أسنانا ناصعة البياض، مصطفة بانتظام، ثم عادت لمداعبة طفلها. أخرجت من حقيبتي رواية الشيخ والبحر وبينما كنت أتصفحها سألتني السيدة عيشة عن محتواها فأخبرتها. كنت أرى في عينيها رغبة لقراءة الرواية، أهديتها الرواية تقديرا لحسن ضيافتها. قبلتها شاكرة وما هي إلا ثوان حتى دخل الحاج رضوان ليعلمنا أنه قد أنتهى من تصليح السيارة وأن موعد الرحيل قد حان. اقتربت السيدة عيشة من فاطمة، ضمتها إلى صدرها تودعها ثم أعطتها فستانا وأعطتني ظرفا مغلقا وطلبت مني ألا أفتحه حتى نبتعد عن الدوار.



يؤرقني الارتحال وتتعبني المحطات، عابرة كالحلم، مكتوية بنيران الشوق، محملة بهم البعد عن الأحباب. لحظات دافئة قضيتها مع تلك السيدة التي هيجت حنينا لروح تائهة في الصحارى قسرا وتلهث خلف سراب. شعرت بقلق لفراقها وكأنني أفارق عائلتي للمرة الثانية، أنظر من خلال نافدة السيارة إلى المنزل ونحن نبتعد عن الدوار شيئا فشيئا إلى أن اختفى عن عيني ودخلنا إلى الطريق الصحراوي. التفت إلي سمير وقال:

_ أتمنى أن تكوني قد ارتحت قليلا في بيت الحاج رضوان.

قلت له بخجل:

_ نعم، ارتحت كثيرا.

قال بصوت خفيض وهو يبتسم:

_ ما قصتك مع الصرصور؟

شعرت بحرج شديد ولكي أتجنبه أمسكت الظرف الذي أعطته لي السيدة، فتحته فإذا بي أجد بداخله خمسمائة دينار وخاتما ذهبيا وورقة كتب عليها " شكرا لك أيتها الغالية على الرواية، هذا الخاتم أعطته لي جدتي قبل أن تموت، ضعيه في إصبعك فهو يجلب لك الحظ ويبعد عنك الشر، إنك تحتاجينه أكثر مني." قال سمير وهو ينظر إلى الرسالة:

_ رسالة ونقود وخاتم! من هذا الذي أعلن خطبته عليك؟
أجبته بهمس: السيدة زوجة الحاج رضوان.

ابتسم وقال:

_ كل من يلتقي بك ويتعرف عليك يقع في حبّك. السيدة والصرصار و ...
_ و... ماذا ؟

_ لا أرغب في أن أقدم لك الكثير من اعترافاتي .

أصابتني رعشة مفاجئة، تفرقت حروف كلماتي وارتبَكَت، ابتسم ولكي يجنبني الحرج وضع شريطا للراي في المسجلة، وظل يقود السيارة في صمت إلى أن وصلنا قرية صغيرة داخل تلك الصحراء.

قال سهيل مخاطبا الجميع:

_ سنرتاح في هذه المدينة ساعتين بعدها نتابع رحلتنا.
تفرق المسافرون في شارع تلك المدينة، لم يكن العجوز يتكلم معي، إذ أنه شعر بنفوري منه. كان دائم الصمت، يتحاشى النظر إلي، ربما استحيى من فعلته أو كان خائفا من سمير الذي كنت كلما أذكر اسمه على لساني أحس بانجذاب إليه وبرعشة في كل جسدي، لابد أن أنساه. كانت بي لهفة لإنسان يفهمني، يحس بي، يشعرني بأنوثتي، ينسيني هاجس سري ويوقف عني سيل ذكريات الماضي والحاضر المرعب والمستقبل الذي أجهله. تقصفني رعود هناك وبرق يصعقني هنا، أريد من يسحبني إلى فردوس أو إلى رغد الطفولة وينزع مني جحيم كابوس سري الخطير.
نظر إلي وقال: ما رأيك أن نجلس في مقهى ونتحدث بعض الشيء؟
_ لم لا، أفضل من أن أجلس في السيارة وحدي.
_ ماذا ؟ وحدك في السيارة هل جننت؟ إن هذه البلدة الصغيرة ملأى بالمكبوتين المتطرفين.

كنا نسير ببطء في الشارع الطويل، كنت أبحث عن نفسي في الغد وحيرتي تمتد على طول الصحراء. أحس سمير بي، أمسك بيدي، تمنيت في تلك اللحظة أن تكون تلك الطريق بلا نهاية، لا أريده أن يتركني وحيدة، تتوالى الكوارث عليّ دون أن أفنى. اخترنا أكثر المقاهي هدوءا في ذلك الشارع. أحضر عصير البرتقال ثم قال:

_ لم أسمع صوتك طيلة الطريق ولم تكوني نائمة، أين سرحت حتى جعلتنا نفتقد وجودك.
أخرسني صمتي وأبكتني كلماتي البكماء. عدّل من جلسته، رفع كتفيه بحركة تنم عن جدية وقال.

_ إن سفرك مع العجوز خطر عليك، لماذا لا ترجعين إلى أهلك معززة مكرمة بدل البهدلة والمخاطر. تفرست في وجهه بإمعان، نزلت دمعتي الحبيسة على خدي. تمنيت أن أبوح له في تلك اللحظة بسري وأرتاح من ذلك الحمل الذي يثقل كاهلي ويشل فكري. لست مجبرة على أن أكون مؤتمنة عليه، ولم أعد أتحمل العيش مع أشباحه، لكل منا سرٌّ يخفيه في داخله، قد يكون ذلك السر قليل الشأن، كلمة، همسة، صمت، غلطة أو ربما شيء فقط لا نستطيع قوله. إن سري الخطير هو قدري، الذي قادني إلى أمريكا و إلى صحراء الجزائر وفي طريقه بي الآن إلى ليبيا والله أعلم أين سيقودني بعد ذلك. يجب أن أخبره وتنتهي مشكلتي إلى الأبد، ثم أرجع إلى بلادي. الغربة تجرف الهوية والعادات الجميلة، لا أريد أن أفقدها، أريدها كلها في بيت صغير تتربى وتكبر معي ومع سمير، هذا الذي جعلني أحس بدفء وحب وطمأنينة. سقطت دمعتان، مسحتهما بسرعة.

_ إلى أين ذهبت بفكرك؟

غيم من الخوف يضغط على قلبي، يذكرني بالماضي وينذرني من آت غامض، قلت بصوت أقرب إلى الصراخ.

_ لا أريد أن أذهب إلى المغرب، سئمت من الضغوط ومن قفص أهلي الذي يستبيح روحي في أي لحظة و...

توقفت عن الكلام. أمسك بيدي محاولاً أن يهدئني.

_ غالية، اعتبريني أخا أو صديقا مخلصا، سأكون دائما بقربك إن أردت أية مساعدة مهما كان نوعها ستجدينني رهن إشارتك.

أخرج من جيبه بطاقة وقال:

_ هنا عنواني ورقم هاتفي في إيطاليا، امسحي دموعك. سنمكث ليلة في مدينة صغيرة على الحدود الجزائرية الليبية، هناك فندق اعتدنا النزول فيه وغدا سنواصل سفرنا إلى طرابلس لكن، ماذا قررت أن تفعلي؟
_ غادي نْتْبْعْ الْكْذَّابْ لْبابْ دَارُه. سأذهب مع العجوز وزوجته وأمكث معهم ريثما أجد غرفة بالحي الجامعي أو أستأجر شقة صغيرة.
اكتسى وجهه نظرة جدية نمت عن خوف.

_ إياك أن تستأجري شقة لوحدك، يصعب على الفتاة أن تعيش لوحدها في ليبيا، ستعرضين نفسك للمخاطر.اسمعي، سأبقى أسبوعا أو ربما أكثر في الفندق الكبير بطرابلس حتى أبيع سيارتي، إن احتجت أي شيء ما عليك إلا أن تتصلي بي.

_______________



جو دا سان ينساب في الروح ويحملها على مهل في فضاء تلك التلال التي تترامى على جنبي الطريق ويبتلعك ذلك الإيقاع الحالم والموسيقى العذبة إلى فضاء تلك الصحراء، وسمير بجانبي يقود سيارته في صمت وأنا أطير معه بين تلك الجبال الصخرية ونسبح في رمالها الذهبية. أنادي الطيور التي تعتلي الجبال لنرتوي معا من رحيق أشعة الشمس قبل أن ترحل مع الغروب. و المسافران في قمة اللياقة وخفة الدم، يرويان نكتا أو مغامرات طريفة وكأنهما يحاولان التخفيف عني عناء السفر والتفكير. كنت أحس وكأنني طفلة مدللة بينهم، هذا يعطيني شوكولاته والثاني بسكويتا وسمير بين الفترة والأخرى يلتفت إليّ ويبتسم، تمنيت أن تكون رحلة بلا نهاية. اجتازت السيارات الحدود الجزائرية وبعد نصف ساعة توقفنا ببلدة جميلة تشبه مدينة مراكش بأشجار نخيلها العالية وبيوتها المقببة المصبوغة بالأبيض والأزرق وكأنها منازل ساحلية. دخلنا الفندق، طلب منا سمير أن نعطيه جوازات سفرنا واتجه إلى مكتب الاستعلامات، حجز ثلاث غرف للرجال وغرفة لي ولفاطمة. سرت سعادة في روحي، وأخيرا سأنام على سرير نظيف وأغتسل بماء ساخن بعيدا عن الصراصير.

استلقيت في هدوء منهكة وخوف تسلل إلى روحي من ذلك الغد القريب في طرابلس، ارتعدت أوصالي وعاد القلق يغتالني كلما فكرت بالفراغ الذي سيتركه سمير. شعرت بقشعريرة عندما تذكرت العجوز، لا أطيق شجاره مع زوجته ولا تصرفاته الممسوخة بجلباب من هرم مسكون بالجنون. قفزت بسرعة من السرير متجهة إلى الحمام. مكثت طويلا تحت الماء الدافئ أنظف جسمي من جنون الصحراء وسعير حرّها الملتصق على جسدي عرقا. خدر سرى في جسدي، أطلقت العنان لغنائي فرحة كطفلة تحت الماء، وضعت فوطة على جسدي وخرجت لأرتدي قميص النوم، فإذا بي أرى العجوز داخل الغرفة جالسا بجانب زوجته، كان ينظر إلي مشدوها بفم مفتوح كفم الحوت، صرخت في وجهه:

_ اخرج من الغرفة حالا!

لم يصغ إلي، تسمرت زوجته في مكانها تنظر إليه بعينين خائفتين محبطتين. ما زلت أصرخ في وجهه حتى سمعت طرق الباب، كان سمير يريد أن يدعوني إلى العشاء. ما إن فتحت له الباب حتى بدأت أجهش بالبكاء. أسرع إلى السرير وأخذ اللحاف ثم غطاني به، اتجه مسرعا نحو العجوز، أمسكه بقبضة يده، ألصقه بالحائط وهو يصرخ في وجهه.

_ لا تجبرني على ضربك أيها العجوز.

طرحه بشدة على الأرض وصرخ العجوز من ألم الوقعة وبدأ يزمجر كعادته بصوت عال.

_ أريد أن أنام مع زوجتي. ألا يحق لي أن أنام مع زوجتي؟

صرخ سمير في وجهه:

_ كيف تنام مع زوجتك وقد حجزت لك سريرا في غرفة ثانية مع الرجال؟

قال العجوز رافعا أنفه إلى الأعلى:

_ لا أريد النوم في الغرفة الثانية، أريد أن أنام مع زوجتي. هل هذا حرام؟
كنت أبكي وألعن الساعة التي جئت فيها معه ومع زوجته. أظلمت الدنيا في عيني وأحسست بألم شديد في معدتي، أسرعت إلى الحمام أتقيأ، لحقني سمير حائرا لا يعرف كيف يساعدني، ثم خرج مرة ثانية من الحمام وأمسك العجوز وأخرجه من الغرفة بالقوة. لبست ملابسي بسرعة وأخذت حقيبتي متوجهة إلى مكتب الاستعلامات لحجز غرفة أخرى. لحق بي سمير ليمنعني من ذلك. قلت بعصبية.

_ لا تهمني النقود، بقدر ما أحتاج إلى الراحة. حق للعجوز أن ينام مع زوجته فلماذا أحول بينهما؟

أخذت المفتاح واتجهت مسرعة إلى الغرفة أندب حظي الذي ساقني بين يدي العجوز المكبوت. روحي باتت كئيبة، دموعي حمراء وزفراتي حرّى وسمير يهدئ من روعي، أجلسني برقة على جانب السرير، يتطلع في صمت إلى تجاعيد سجادة على الأرض.

_ غالية، أصغي إلي جيدا، ما دمت برفقة هذا العجوز لن تعرفي الراحة. رأيت تصرفه معك داخل السيارة، والليلة كيف كان يحدّق بك وأنت خارجة من الحمام ربما غدا يؤذيك. ارجعي إلى أهلك، غدا عندما نصل إلى طرابلس سأصطحبك إلى المطار وأبقى معك حتى تغادري البلد. لا أستطيع أن أتركك معهم، إني ... إني ...

اختنق صوته، توقف عن الكلام هنيهة. كنت أتمنى أن يلفظها ويريحني من كل ذلك العناء ويطفئ مخاوفي التي تختزل تاريخ عمري في صفحات من الهروب ولا أعرف إلى أين. أمسك وجهي بكلتي يديه وهو يحدق في عيني وقال:

_ إني ....لا شيء، فقط أريد أن أدعوك إلى العشاء في مطعم الفندق.

اعتذرت شاكرة فأصر أن يحضر عشاء خفيفا إلى الغرفة. تركني أفكر في اللحظات التي قضيتها بصحبته، وحين أزهر ربيع حياتي أراد أن يتركني كأغصان عارية في صرير الشتاء. ما هي إلا دقائق حتى سمعت طرق الباب، كان سمير وفي يده صينية بها شورباء وقطع دجاج مشوية وعصير الأناناس، وضع الأكل بسرعة على المائدة وجلس بالقرب مني.

_ غالية، لا بد أن تأكلي شيئا فمعدتك فارغة.

أخذت صحن الشورباء وبدأت أحركها بالملعقة خجلة منه. اقترب مني حتى التصق جسده بجسدي ومد ذراعه على كتفي وباليد الثانية يطعمني. استسلمت له كطفل مدلل لا يأكل إلا بمساعدة أمه.
نظرت إليه وقلت:

_ لماذا لا تأكل؟

ابتسم وأجاب:

_ لقد شعرت بالشبع وأنا بجانبك.

شعرت برغبة في أن أكون بين ذراعيه، أدرك حاجتي، اقترب مني، جذبني بنعومة نحوه وضمني إلى صدره، رأسي في تجويف كتفه، أسمع تنفسه وأحس بعضلات يديه القوية التي تشدني إلى صدره بقوة. شعرت بحرارة في جسدي، نصف إحساسي تجرد من القيود وأحس بمتعة جميلة، والنصف الثاني يتعذب ويشعر بألم حقيقي وبتأنيب الضمير. ضمه لي حرام، وانجذابي له يعني مخالفتي لديني ولشريعتي. تركت رأسي في تجويف كتفه وأغمضت عينيّ، أما هو فظل يداعب شعري إلى أن نمت. حملني برفق ووضعني على السرير ثم غطاني وقبلني على جبيني وغادر الغرفة بعد أن أطفأ ضوءَها. في صباح اليوم التالي، استيقظت على طرق الباب. كان صوت زكريا الذي يقول لي من خلف الباب:

_ سنفطر بعد ساعة ثم نواصل السفر.

غادرت الغرفة متوجهة إلى مطعم الفندق. رأيت سمير منهمكا في الحديث مع سهيل وزكريا. بدأت أمشي بخطوات خجلة. التفت إلي سمير وقال:

_ صباح الخير، تفضلي للفطور معنا.

انتهينا من تناول الفطور ثم غادرنا الفندق وانطلقنا في طريقنا إلى طرابلس. تركنا وراءنا صحراء الجزائر ودخلنا ليبيا التي لم يكن طقسها يختلف عن طقس الجزائر. مناخها حار وصحراؤها أكبر مساحة من صحراء الجزائر حيث يقال عنها، داخلها مفقود وخارجها مولود. كانت الساعة التاسعة صباحا والطقس مازال معتدلا غير حار. أما الطريق فمعبدة وواسعة عكس التي تركناها وراءنا ويحيط بها من كلا الطرفين أشجار النخيل وخيم متفرقة في تلك المساحات الصحراوية. كنت تائهة أجول بأفكاري باحثة عن مستقبلي المجهول مع العجوز وزوجته، وسمير يقود السيارة في صمت، لم ينكّت كعادته، ولم يضع شريط جو د سان ولا حتى موسيقى الراي. ساد صمت رهيب في السيارة، زاد من حزني وتفكيري، الصحراء التي خلفتها ورائي أجهضت حلمي ومنحتني أملا منكسرا وأسكنت بداخلي فراغا كبيرا، وبيني وبين سمير جدار من الصمت يخفي خلفه أشياء وخلف تلك الأشياء يختبئ الخوف من الآتي. التفت إليه وقلت:

_ أين أنت؟
رد بمزيج من الابتسامة والمرارة:

_ أنا بقربك.
خجلت من جوابه:

_ أعني، لماذا أنت صامت؟
فأجاب بصوت حزين:

_ أفكر فيك يا غالية وفي الذي ستذهبين معه.
_ لا عليك، أستطيع أن أتدبّر أمري بنفسي.
_ لا تضيعي العنوان الذي أعطيته لك، فيه كل أرقام هواتفي في فرنسا وإيطاليا، كما فيه رقم هاتف الفندق الذي سأنزل فيه في طرابلس، إن احتجت أي شيء مهما كان نوعه ما عليك إلا أن تتصلي بي وستجدينني بجانبك.
_ أحس أنني عبء ثقيل عليك في هذا السفر، لقد سببت لك مشاكل مع العجوز .
_ أنت لم تسببي أية مشاكل، هو الذي سببها لنفسه.
دخلنا الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مركز المدينة. كانت تكتنفه أشجار النخيل ومصابيح عالية. الشارع مكتظ بالسيارات أحسست أنني بعيدة جدا عن أهلي وعن بلدي، كنت أنظر إلى تلك البنايات الحديثة، شركات للتصدير والاستيراد، ومكاتب إدارية تطل على البحر الأبيض المتوسط. وصلنا إلى محطة السيارات التي لا تبعد عن الساحة الخضراء كثيرا. الساعة تشير إلى الثانية ظهرا، نزل كل المسافرين وودّع بعضنا الآخر، طالبا كلّ واحد منا للآخر التوفيق. اقترب مني سمير وضمني إلى صدره بحرارة، وقال لي أمام العجوز:

_ اعلمي أنني بجانبك ورقم هاتفي معك، أنا دائما موجود في هذا البلد.

ودعته شاكرة وودعت أصدقاءه ثم انطلقت مع العجوز وزوجته نمشي في شوارع طرابلس وبين أزقتها، متوجهين إلى حيث يسكن. مشينا طويلا تحت أشعة الشمس المحرقة، لا يريد أن نركب الحافلة خوفا أن يحتك الركاب بجسم زوجته. أما تاكسي الأجرة فمستحيل أن نحلم باستئجارها. لم أر بخلا مثل بخله ولا خبثا كخبثه. بعد ساعتين من المشي وقفنا أمام بوابة كبيرة، فتح باب المدرسة ثم تبعناه في صمت، لم أكن أفكر في تلك اللحظة إلا في حمام بارد جدا وقسط من الراحة، بعد ذلك المشي الطويل تحت الشمس المحرقة. صعدنا سلما يؤدي إلى سطح المدرسة، كنت أراقب المشهد بذهول وعجز، غرفة كبيرة وأمام بابها كراس ومنضدات مكسرة وعجلات سيارة متفرقة على السطح وأريكة من القماش في وسط السطح. اتجهت مسرعة للجلوس عليها، نفضتها بيدي فإذا بغبار ليبيا كله على تلك الأريكة. شعرت بالحزن والويلات تأكلني، التفت إلى فاطمة فرأيتها واقفة وابنها بين ذراعيها، صامتة، حزينة، تعبة ومنهكة.

سألت العجوز بعصبية: أين هو منزلك؟

أشار إلى باب الغرفة وقال هذا هو منزلي ثم أدار ظهره المقوس إلى الباب يتشاجر مع المفتاح والقفل محاولا فتحه دون جدوى. بدأ يزمجر ويحدث نفسه، هذا هو المفتاح، كيف لم يفتح الباب؟ اقتربت من تلك الغرفة أنظر من خلال نافذتها، أرى حصيرة على الأرض ووسادة واحدة وغطاء واحدا، وفي الطرف الثاني من الغرفة كانت توجد قنينة الغاز وطنجرة واحدة وقدحان. في إحدى الزوايا توجد صناديق وأحذية قديمة متناثرة على الأرض. عيناي غارقتان بالدموع من قهري من تعبي ومن كذب العجوز على أبي وعليّ . التفت إلى زوجته صارخة في وجهها، هل هذا هو البيت الكبير الذي يسكن فيه زوجك؟ هل هذه هي الغرفة الجميلة التي ستكون غرفتي حسب ما قال زوجك لأبي؟ أفي هذه الزريبة سأسكن معكم؟

كانت المسكينة تنظر إلى زوجها و تجرع مرارة قدرها، شريدة تلعق جروحها التي سحقها الزمن، أما هو فكان لا يزال يتعارك مع المفتاح غير مكترث لسخطي وغضبي. كانت قدماي تؤلماني من المشي الطويل. خلعت الحذاء وما إن وضعت رجلي على الأرض حتى قفزت من مكاني وكأن حية لدغتني لسخونة الأرض. لبست حذائي بسرعة، أرجف وفي داخلي وحش يريد الانقضاض على العجوز وجرّه إلى حافة السطح ثم القذف به من ذلك العلو، لأرتاح أنا وفاطمة من ذلك الكابوس. ساعة بأكملها ونحن على ذلك السطح نتصبب عرقا ونئن من التعب، والطفل يصرخ من دون توقف، حالنا كحال المتشردين المنكوبين . فجأة أقبل علينا رجل يبدو أنه حارس المدرسة. سلم علينا وطلب منا أن نتفضل إلى بيته ريثما ينادي مدير المدرسة. نزلنا من السطح متجهين إلى بيته، غرفة أمام مدخل المدرسة، لا تختلف عن غرفة العجوز في الحجم إلا أنها كانت نظيفة وبها سجادة كبيرة حمراء، وعلى طول الجدران هناك وسائد مصطفة جنبا إلى جنب، ومائدة صغيرة في الوسط عليها منديل أخضر. أحضر لنا الرجل ماء باردا وشايا ثم غادر غرفته لإحضار المسؤول. جلسنا ننتظر والعجوز يحدث نفسه كالمجنون لعدم تمكنه من فتح باب قصره المنيف. كانت الغرفة باردة، تمنيت أن أستلقي على الأرض وأنام إلى ما لا نهاية، لكنني كنت حائرة خائفة لا أعرف ماذا يترقبنا وأين سنستقر، أرتعد وكأن مسّا أصابني. مرت ثلاث ساعات، بعدها شرّف المسؤول، قصير القامة أبيض اللون ضخم البطن يلبس جلبابا ليبيا أبيض وفوقه عباءة سوداء وعلى رأسه طربوش أحمر، هرول إليه العجوز وقبل يديه ثم قال:

_ سيدي لقد جئت إلى بيتي ولم أستطع فتحه يظهر أن القفل قد تغير. أريد التحدث إلى مدير المدرسة؟

قال له ذلك الرجل باللهجة الليبية:

_ إن المدير السابق طُِرَد من المدرسة بعد الغارة الأمريكية على ليبيا. وصدر قرار بتوقيف كل الموظفين الذين كانوا يعملون معه وتعيين حراس جدد.
قال العجوز متوسلا:

_ وماذا نعمل نحن؟ إنني جئت بعائلتي، كما ترى زوجتي وأختها.

قال الليبي:

_ لا أستطيع أن أفعل لك شيئا سوى أن آخذك إلى فندق تجلس فيه أنت وعائلتك حتى ندبر أمرك.

أخذنا الرجل الليبي بسيارته إلى أحد الفنادق الرخيصة في طرابلس حيث حجز لنا غرفة واحدة بثلاث أسرة ثم اختفى. دخل العجوز إلى الغرفة وما إن خلع حذاءه حتى انبعثت منه رائحة كريهة نتنهة. استلقى على السرير أما فاطمة فجلست على السرير الثاني ترضع ابنها. غادرت بسرعة تلك الغرفة إلى مكتب الاستعلامات، نظر إلي شاب مغربي باستغراب وفي يده جواز سفري ثم قال بصوت خفيض.

_ من الجنة إلى جهنم! لماذا جئت إلى هذا البلد؟
_ تلك قصة طويلة، ما يهمني الآن هو إيجاد غرفة عندكم.
_ للأسف لا توجد غرف فارغة.

أحسست بدوار وحرارة شديدة بجسمي قلت له وأنا أرتعش من شدة التعب وأنفي مقفول من الزكام.

_ ماذا أفعل أنا الآن؟ لا يمكنني أن أشارك العجوز وزوجته غرفتهما.
_ هل هما من عائلتك؟
_ لا، لكنني جئت معهم من المغرب على أمل المكوث في بيتهم حتى أجد مكانا في الجامعة.
_ ولماذا أنتم في الفندق ما دام له بيت في طرابلس؟
كان الشاب يطرح أسئلة كثيرة، أزعجتني، قلت له باختصار وجيز:

_ إنهم غيروا موظفي المدرسة التي كان يعمل فيها وكان هو من ضمن المرفوضين.
_هذا هو حالهم، يغيرون مثلما يريدون وفي أي وقت يشاءون.
_ من فضلك، أين هو مطعم الفندق أريد فنجانا من القهوة لكي أفتح عيني.
ابتسم وهو يشير بيده إلى قاعة من زجاج فيها كراسي وطاولات وتلفاز بأعلى الحائط وقال: ذاك هو مطعم الفندق، سأنادي النادل لكي يحضر لك القهوة.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:37 PM   #7

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الخامس

نشوة لقاء



نظرات جائعة تحوم صامتة في فضاء ذلك الليل، تلتهم آثار كل عابر أو قادم من غياهب المجهول، تبعثر خطواتي المنهكة وكأنها تقول لي، ماذا تفعلين في هذا الفندق، إنه فندقنا نحن الرجال وليس هناك مكان لجنس حواء! اتجهت نحو المطعم أمشي ببطء من شدة التعب والنعاس، لي رغبة ملحة لقسط من الراحة، لكن كيف وأين بين تلك الوجوه الإفريقية من شتى الجنسيات. أخذت مكاني في أحد الكراسي الفارغة، أخرجت كتابا من حقيبتي لأقتل الضجر، أقلب صفحاته التي كانت تحترق بين يدي واحدة تلو الأخرى في رتابة ذلك الضوضاء ودهشتي من ضجيج الزبائن المتطاير في الهواء كالمد يصعد، كالسحابة وأحيانا كالموج يعلو بي. قصصهم حزينة، بعدهم عن الأحباب والوطن، أملهم في إيجاد العمل في ذلك الوطن الأخضر، يثرثرون وأحيانا يتسامرون بلا كلل إلى أن دخلت امرأة وزوجها جلسا بالقرب مني، يثرثران بلهجة أمريكية أيقظتني من ذلك النعاس الذي كان يثقل أجفاني، شردت فيهما وسرحت بأفكاري بعيدا عن الفندق، أتذكر السنوات الجميلة التي قضيتها في أمريكا. وضع النادل فنجان القهوة أمامي على الطاولة، فاستيقظت من سهوي، غادر الزوجان المكان فتحت عيني على تلك الوجوه السمراء الشاحبة، عيونها أيضا تنم عن خوف يكبل أرواحهم بأساور ويجعلها تحوم في زنازينه القسرية. أمسكت فنجان القهوة، احتسيت رشفة ورفعت رأسي أنظر إلى التلفاز المعلق في إحدى زوايا ذلك المطعم عله ينسيني زحف الوقت البطيء. مازال الليل طويلا أنظر إلى ****ب ساعة الحائط أراها مستمتعة بوحدتي ومللي في انتظار قدوم الصباح كمن يحصد رغوة. انتظاري كان مزمنا، أختنق، أنظر في كل الجهات فإذا بي أبصر الشاب المغربي قادما إلي وفي يده صينية فيها حساء وبيض مسلوق وكوب من عصير البرتقال. وضعها بجانبي على الطاولة.

_ أنا لم أطلب العشاء.

_ أعرف ذلك، لذلك جئت بالطعام.

_ انتظر، سأذهب إلى الغرفة وأحضر لك النقود.

كان باب الغرفة مقفلاً والطفل يصرخ. طرقت الباب، لم يجبني أحد. فتحته ببطء لكي لا أوقظهم فإذا بي أرى العجوز عارياً فوق زوجته وهي تصرخ من تحته:" اتركني حْشُومَة، اْلوْلْدْ كَيْـبْكِي." تشنجت في مكاني، أما العجوز فرفع رأسه نحوي، مبرزا إلي تلك الأسنان السوداء والبعيدة عن بعضها. شعرت برغبة في التقيؤ، حملت حقيبة ملابسي، ثم غادرت الغرفة. نزلت إلى المطعم فوجدت الشاب جالسا ينتظرني.

_ لماذا جئت بحقائبك؟ وجهك شاحب ... ماذا بك؟

- لا شيء، سوى التعب.

- لماذا لا تتركي حقائبك في الغرفة هناك آمن؟

انفجرت راويةً له أحداث مسلسل سفري منذ خروجي من المغرب إلى تلك الساعة في الفندق. تعجب من قصتي الغريبة ومن غرابة ذلك الرجل. أخبرني بأنه متزوج وزوجته حامل في شهرها الأخير ويسكنون في حي شعبي وبجوارهم تسكن عائلة زوجته. سألني إن أردت أن أذهب معه إلى البيت حين انتهاء دوامه في الساعة السابعة صباحا ليعرفني بزوجته طالبا مني أن أقبل ضيافته لي وأمكث معهم في البيت، مصرا أن أكون ضيفته من تلك اللحظة. غادر إلى مكتبه وتركني صحبة عشائي، غريبة أسبح ببصري المحير بين تلك الجدران الخضراء ومن فوق رأسي مصباح ملون بالذباب وصوت الصمت يعم المكان. كان قلبي يدق بسرعة وجسمي يرتجف، أبحث في عتمات نفسي عن مكان أرتاح فيه. فتحت حقيبتي، ارتديت قميصا. دوار في رأسي وألم في معدتي تسرب فجأة. ذهبت إلى غرفة الاستعلامات علني أجد حبة دواء مهدئة للآلام. وجدت رجلا ليبيا، سألته عن الشاب المغربي فقال لي إنه تلقى مكالمة هاتفية من المستشفى ثم ناولني رسالة فتحتها بسرعة.

" معذرة بحثت عنك ولم أجدك بالمطعم ولا أعرف أين ذهبت. إن زوجتي في المستشفى قد تلد في أية لحظة وأنا مضطر للذهاب إليها بسرعة. هذا عنوان بيتنا وعنوان بيت أخت زوجتي، يمكنك أن تذهبي وتمكثي عندها ريثما أرجع من المستشفى.



عبد اللطيف



فرحت بتلك الرسالة لكن فجأة اختفت تلك الفرحة وانتابني الخوف. كيف أذهب غدا عند امرأة لا تعرف عني أي شيء سوى أن زوج أختها صادفني في الفندق! هذا ليس لائقا في تقاليدنا ولا حتى في عاداتنا. ماذا ستقول عن زوج أختها؟ قد تظن به سوءا. من الأفضل أن أبحث غدا عن غرفة في فندق ثان. لا... لا أستطيع أن أسكن وحدي في فندق، هذه وصية سمير. آه، لقد نسيت سمير! لماذا لا أتصل به؟ هو الذي يمكنه أن يساعدني. شكرت الرجل وعدت إلى المطعم الذي لم يكن فيه أحد سواي. كل تلك الوجوه الشاحبة اختفت في غرفها لتنام. الساعة تشير إلى الرابعة صباحا. بدأ ضوء الفجر يتسرب إلى الفندق وجسمي يفقد السيطرة وعيناي تلتصقان، أحاول فتحها لكي لا تنطبق ببعضها. اتجهت إلى التلفاز أغير القنوات باحثة عن فيلم مثير يبعد النعاس من أجفاني. وفي قناة من القنوات وجدت فيلما كوميديا فرنسيا شردت معه حتى الساعة الخامسة. ذهبت إلى مكتب الاستعلامات وطلبت من الموظف أن يدلني على حمّام لكي أستحم. لا توجد حمامات إلا في الغرف. يا إلهي ماذا أفعل؟ لم يكن هناك حل إلا الذهاب إلى ذلك المرحاض. أخرجت من حقيبتي منشفة صغيرة وشامبو، أبلل منشفة بالماء والشامبو وأمسح بها على جسمي وبمنشفة أخرى أنشف جسدي بسرعة من البرد. ارتديت فستانا نظيفا، حملت حقائبي وغادرت الفندق. سمعت زقزقة آلاف العصافير في ذلك الفجر. رفعت رأسي إلى السماء، أراها هي أيضا مسافرة. أخذت سيارة أجرة وقلت للسائق أن يأخذني إلى الفندق الكبير. نظر إلي في المرآة الأمامية وقال: هل أنت سائحة؟ قلت بشجاعة مزيفة: أنا موظفة. كنت أقرأ آية الكرسي في سري لتحفظني وقلبي تتسارع دقاته. رأيته يسترق النظر إلي من مرآة السيارة. كان متوسط العمر، ضخم الجسد يعلو وجهه لحية كثيفة وعيناه ضيقتان، يقود السيارة في صمت وسط شوارع طرابلس التي مازالت نائمة في هدوء، لا نباح في الخارج ولا حتى عليل النسيم. وما هي إلا دقائق قليلة حتى توقفت السيارة أمام الفندق الكبير. دفعت له أجرته وأنزلت حقائبي وأنا في ذهول أنظر إلى الفرق الشاسع بين الفندق الذي كنت فيه وبين هذا الفندق. قدم إليّ البواب وحمل حقائبي. توجهت إلى غرفة الاستعلامات أسأل عن سمير. نظر الموظف إلى لائحة المقيمين وقال لي أي سمير منهم؟ فهنا ستة من النزلاء يحملون نفس الاسم.

_ سمير الإدريسي.

_ انه ينزل بغرفة رقم 118.

سألته إن كانت لديهم غرفة للحجز. ابتسم وهو ينظر إلي بعينين ساهمتين وقال:

_ لدينا خمسون غرفة لكنها محجوزة للوفد البلجيكي.

قلت بتعجب وغيظ: كل فنادقكم محجوزة.

رد بابتسامة وبلهجة ليبية: للي بحب يْجْعْمْزْ بالفندق يلزمو يحجز قبل الوقت بأسبوع.

طلبت منه أن يسمح لي بانتظار سمير بإحدى صالات الفندق. أشار إلى البواب وقال: وديها تجعمز بالصالون لْحْمْرْ.

حمل البواب حقائبي إلى ذلك الصالون الكبير. سجاد عجمي، أرائك شرقية، موائد زجاجية تلمع بالنظافة وعليها مزهريات بها ورود مختلفة الألوان. جلست وحدي أفكر في سمير. أنا التي قلت له سأتدبر أمري بنفسي، فلماذا أثقله بمشاكلي؟ ما زلت أتحدث مع نفسي، شعرت بالنعاس، أحضرت القهوة وما أن شربتها حتى أحسست بوجع حاد في معدتي وعرق بارد يتصبب من جسمي. نهضت من مكاني كي أذهب إلى الحمام، وقعت على الأرض مغمى عليّ ولم أعرف ماذا حصل بعد ذلك. أتذكر أنني فتحت عيني فإذا بي أجد نفسي مستلقية في سرير كبير في غرفة أنيقة وسمير جالس على أريكة بجانبي يتفحص جريدة. التفت إليه، نهض من مكانه وجلس بجانب السرير. يظهر على وجهه القلق، وضع يده على جبهتي وقال بابتسامة حزينة، ما زالت الحمى مرتفعة وجسمك يتصبب عرقا. عليك أن تنامي وترتاحي، سأغيب ساعة من الزمن وأعود إليك. غادر وتركني أتأمل الغرفة. ذُهلت لرؤية فستاني معلقا وراء الباب. أخفيت وجهي بسرعة تحت الغطاء لأرى إن كنت بلا ملابس. شعرت بخجل لم أشعر بمثله قط موبخة نفسي بشدة، ألعنها لأنها كانت تختلف عن طبيعة أخواتي اللواتي يُعْتَبرن نموذجا يرضى عليه الأهل والأقارب كما يرضى عليهن المجتمع، أندب نفسي التي تمردت على الأهل والمجتمع، نافرة نابذة كل شيء في محيطها متحدية كل القيود، عابرة شتى الحدود، باحثة عن الحرية هاربة من التقاليد الرجعية، متواجدة بغرفة شاب بفندق لا تربطني به أية علاقة، مرتدية قميص نومه. أتعجب للخلل الحاصل في أفكاري التي جعلتني أنفر من كل شيء تربطني به علاقة؛ أهلي ومجتمعي، متعجبة من أحلامي التي كانت تختلط بما أعيشه في حالة اليقظة، لا أسيطر على شيء. هل سأمضي حتى النهاية؟ أعلم أنني لن أجد الأمان حتى في ابتعادي، كما أعلم أن الزمن الذي يمضي لا يمكن تعويضه، كلهن يحسدنني على اختلافي عنهن، يوحي مظهري بالحياء والأخلاق الحميدة، لكن، من أنا؟ ما الذي يسكنني ويقلق قلبي ويرهق روحي حتى بالمنام؟ كرهت نفسي وتواجدي في غرفة رجل يربطني به سفر ثلاثة أيام. ما زلت أوبخ نفسي حتى أغمضت عيني المبللتين. استيقظت على طرق الباب. دخل سمير إلى الغرفة مبتسما وفي يده علبة دواء، سائل معدل لحموضة المعدة وأقراص مخفضة للحمى. اتجه إلى الحمام وأحضر كوبا من الماء وناولني الدواء. وضع يده على جبهتي وقال:

_ إن حرارة جسمك ارتفعت أكثر مما كانت عليه عندما تركتك.

ملأ الخجل أعماقي وصوت صارخ بداخلي لا يجد من يسكته، قلبي يرتجف وسحابة في عيني تحجب عني الرؤيا، لا أرى إلا جسدي مستلقيا في سرير رجل غريب، مرتدية قميصه، قلت له ورأسي مطأطأ.

_ لا أعرف كيف ولماذا جئت إليك! المفروض...

قاطعني قائلا:

_ ألا تتذكري أنني قلت لك أنني رهن مساعدتك في كل أمر تحتاجينه؟ لو لم أقصد ذلك فعلا، لما أعطيتك عنواني. إن وجودك الآن معي لا يزعجني، بل يفرحني...

ـ لماذا؟ هل ترغب في إزعاج الآخرين لك؟

- لا، ولكن أحب.. . أحب إزعاجك لي.

أمسك بيدي وقال:

_ غالية إن تمردك على تحدي القيود قد يجعل غيري ينظر إليك بغير الصورة التي أنظر إليك من خلالها.

- لماذا تنظر إلي نظرة تختلف عن غيرك؟

ـ لأنك قمت بما لم تستطع أن تقوم به أختي الوحيدة. أنت هربت من القيود وأختي تزوجت برجل غني في سن العجوز ابن الإيمان، مات وترك لها عدة أولاد دون دخل، كما ترك أولادا من زيجاته الأخريات. وهي تعيش الآن أرملة بسبعة أولاد تصارع معهم الحياة وتصارع المجتمع الذي لا يرحم.

- أنا متأسفة.

- لماذا تتأسفين؟ أنت وهي وأمثالكن كثيرات، مجرد ضحايا تقاليد صنعها المجتمع الذكوري.

ولكي أبرّر قلت له وسخونة تعلو وجهي.

_ ابن الإيمان هو السبب في تركي الفندق.

قال بصوت محتج وغاضب:

_ قبحه الله بيت الداء وأصل البلاء، لا أستغرب أي تصرف مشين منه، ليتني حطمت عظامه.

ولكي أطرد منه شبح الغضب حدثته عن المغربي الذي يعمل بالفندق. قدم نحو السرير وجلس على حافته.

_ غالية، لا تثقي في أي رجل يتودد إليك. هنا تُغتَصَبُ النساء وتُحرَقُ بالبنزين لكي لا تبلغ عن المغتصِب. من الأفضل أن ترجعي إلى أهلك وتتجنبي كل هذه المتاعب والمشاكل.

_ أنت قلت بنفسك أنني فعلت ما لم تستطع أختك أن تفعله وغيرها من الفتيات، إني أبحث عن سعادتي.

_ هل هذه هي السعادة التي تبحثين عنها؟

_ من يبحث يجد.

_ ستجدين هلاكك يا غالية.

_ لا، لا تقل ذلك.

بدأت أبكي ضمني إلى صدره محاولا تهدئتي، كان جسدي ساخنا كالمدفأة وجسده كالجليد. نزلت دمعتان ساخنتان على رأسي. أهو الحزن على تبعثري مع الزمن أم نسيم هادئ يداعب وريقات الشجر؟ وضع رأسي برفق على الوسادة ثم بدأ يداعب خصلات شعري، وابتسامة متحفظة على محياه.نامي يا صغيرتي، ما زال جسمك بحاجة إلى الراحة. تمنيت أن أقول له، لا أريد أن أكون صغيرتك، أريد أن أكون زوجتك. لكن كبريائي لم يسمح لي خاصة وأنه لم يبح لي بحبه، هل هو غرور وتيه حقد بغيض شامخ في زمني؟ حائرة لا أعرف طريقا ولا عنوانا. الخوف من الآتي أضرم بأعماقي حريقا والنعاس أثقل أجفاني. ظل بجانبي يداعب شعري حتى أغمضت عيني، ملتفة في حيرتي وغربتي وسط ذلك الظلام الهادئ وصوت عمّتي ينزلق مع الرؤى ليحضن روحي الخائفة.

استيقظت باكرا، خرجت إلى شرفة الغرفة، أنظر إلى امتداد البحر أبحث فيه عن مدار رحلتي ومسافات غربتي. مازالت الشمس دافئة في ذلك الصباح. الضجر يأكلني، أفكاري تتضارب، أشعر أنني وحيدة، أنا التي اعتدت على الوحدة وكانت بالنسبة لي هواية ممتعة. هذه المرة تعصر قلبي وتجرحه مخالب الوحشة والبعد عن أهلي. كان سمير ما يزال يغط في نوم عميق بتلك الأريكة الضيقة. ما زلت أتأمله حتى استيقظ. أدرت وجهي بسرعة تجاه البحر. بعد لحظة قصيرة قدم إلى الشرفة وقال:

_ صباح الخير. لا، أنت اليوم في صحة جيدة.

- من فضلك يا سمير، سأطلب منك طلبا واحدا.

- اطلبي ما شئت يا غالية، ليس طلبا واحدا فقط.

_ أريدك أن تجد لي غرفة في فندق ثان، سأمكث فيه حتى أنهي إجراءات التسجيل في الجامعة.

_ ألم تعجبك هذه الغرفة؟ هل… ضايقتك في شيء؟

_ معاذ الله، لم تضايقني أبدا، ولكن أنا التي أضايقك.

_ هل اشتكيت إليك؟

_ لا، ولكن ... بشرط أن تنام في سريرك، وأنام أنا على الأريكة؟

_ هذا ليس معقولاً. أنت ضيفتي ويجب علي إكرامك.

_ لكن ليس على حساب راحتك.

_ من قال لك على حساب راحتي، بالعكس أنا سعيد بوجودك ومرتاح أيضا، هيا بنا نفطر.

_ هل تقبل دعوتي للفطور.

_ عندما أكون ضيفك.

_ أين ستكون ضيفي يا سمير؟ أنا كما ترى أمشي في طريق مجهول أبحث عن حلم جميل لكي أعصره شعرا لكنه يعصرني يأسا.

_ لماذا هذا اليأس يا غالية؟ سأزورك بالمغرب إن شاء الله. وأكرميني كما شئت.

تمنيت أن أقول له سأذهب حالا إلى المغرب وزرني للتو وخذني معك من هناك. أمسك بيدي ونزلنا إلى المطعم لتناول طعام الإفطار. جلسنا بالقرب من نافدة تطل على البحر وبينما كنا نأكل وجبة الفطور، طلبت منه أن أتصل بالفندق الذي كنت فيه لأرى إن رجع ذلك الشاب المغربي إلى العمل. وافق بشرط أن يلتقي به أولا. مد يده إلى فنجان القهوة وقال، سنذهب لنرى هذا الشاب وفي نفس الوقت آخذ نقودي من ابن الإيمان. الساعة التي ودعتك فيها، كنت فقط أفكر فيك وفي مصيرك معه.

ذهبنا إلى الفندق سأل سمير في مكتب الاستعلامات عن المغربي، فقال له الموظف أنه أخذ إجازة لأن زوجته أنجبت توأمين. التفت سمير إلي وقال: إنه فعلا متزوج وله عائلة، أظن أنه صادق معك. لكن، لا بد أن أراه وأرى عائلته.

_ عندي موعد مع ابن الإيمان نزيل عندكم في الفندق.

قال الموظف:

_ ذلك الرجل المسن وزوجته، إنهما يفطران في المطعم.

قلت لسمير:

_ لا أريد أن أرى خلقته، سأنتظرك في السيارة.

ذهب سمير إلى المطعم وبعد عشر دقائق رجع وقال.

_ بعد أسبوع سنلتقي بالمغربي وسنذهب سويا إلى منزله، هكذا أطمئن عليك. أريد منك الآن أن تنسي كل شيء. سنزور بعض المناطق السياحية في هذا البلد، وأعرفك عليها قبل أن تستقري فيها. اليوم سنزور مصراتة ونتناول طعام الغذاء فيها.

_ لم تقل لي هل أخذت نقودك من ابن الإيمان؟

_ نعم، لقد أخذتها كاملة. بمجرد أن رآني نهض بسرعة، أخرج حقيبته ثم مد لي النقود. أتعجب في أناس يخافون ولا يستحيون. انسي ابن الإيمان الآن، لا نريد الآن إلا أن نتمتع بهذه الأيام التي تجمعنا، نتعرف فيها على بعضنا أكثر وقد تأتي الظروف وأزورك يوما عندما تكونين في المغرب.

_ ألن تزرني في ليبيا؟

_ بلى سأزورك، كيف لي أن أقطع علاقتي بجوهرة غالية؟

طارت السيارة في فرح، بين الشوارع الكبيرة، كما طارت أحلامي معها لتوقد شموع البهجة والمحبة، وجو دا سان يشاركنا فرحنا بصوته كما الطيور تزقزق فوق سماء طرابلس وسمير يردد الأغنية ويحرك برأسه طربا وأحيانا يمسك يدي ولا يتركها إلا عندما يريد تغيير سرعة السيارة. هذه المرة لم يكن معنا أحد ولسنا مضطرين للتحدث باللغة الإسبانية. أحيانا يروي نكتا وأحيانا يحكي مغامرات مضحكة حدثت له في ليبيا. كنت أنظر إليه معجبة بأناقته، بسيط غير متكلف، يمكن الركون إليه والثقة به، يعبر عن نفسه بسهولة، اجتماعي في تصرفه، مستقل بآرائه عن غيره.، يتميز باندفاعه وسرعة قابليته للاستثارة وشدة الحساسية، متسم بقوة الإرادة، تبدو واضحة عليه خصائص الإيثار. توغلنا في شوارع مصراتة ثم توقفنا بسوق مكتظ بالمحال التجارية، كان يطلعني على محال المفروشات الليبية ومحال للباس التقليدي. دخلت إلى مكتبة واشتريت رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هيجو. وقع بصري على غلاف كتاب مكتوب عليه جملة لمهاتما غاندي: " لا أريد لداري أن تحيط بها الأسوار من كل جوانبها وأن تسد نوافذها، أريد ثقافة البلاد كلها أن تهب على داري بحرية تامة، لكني أرفض أن تقلعني إحداها من الأرض." الله عليك ما أروعك يا غاندي! لكنني لست مثلك. ثقافة بلادي أقتلعتني من بلادي ... مكثنا في المدينة نتجول بين معالمها إلى أن غربت الشمس وامتدت أنوار المدينة في وجل شديد. غادرنا المدينة ودخلنا في الطريق الرئيسة المؤدية إلى طرابلس. كان سمير يغني ويلتفت إلي ويبتسم وكأنه يقول لي إن هذه الأغنية موجهة إليك وأنا أسبح في موج الأحلام وأحيانا أصعد في دروب الصمت أبحث عن براءتي من سري وأحيانا أذوب كلما لمس يدي، تائهة بين ماضي وحاضري وبغتة أفيق من غيبوبتي وألتفت إليه أرى الزمان والمكان جدارا منيعا يفصلنا.

وصلنا إلى طرابلس، أنوار شوارعها تضيء من كل جانب، مكتظة بالسكان، والمحلات مازالت مفتوحة ومليئة بالزبائن.

ذكرني ذلك الشارع بشارع مدينة فاس الجديدة الذي يُعْتَبَرُ من أحدث الشوارع بالمغرب، حيث تُباعُ فيه أرقى وأجمل الأشياء. كانت موسيقى الراي تسمع عاليا في أحد المطاعم.

_ في هذا المطعم سنجلس، لأنهم يحبون الراي مثلنا.

جلسنا بالقرب من الجدار الزجاجي الذي يطل على الشارع. طلب سمير العشاء ثم استأذنني لقضاء أمر. تركني أتأمل المطعم، متذكرة مطاعم تلك القرى والمدن الصغيرة في الجزائر. لا أريد أن أفكر في الغد، ولا في ذلك اليوم الذي سأودعه فيه، لا أريد أن أفكر في سري الخطير. تمنيت لعقلي أن يتوقف عن التفكير ولو مرة واحدة في حياتي. ألا يحق لي أن أعيش سعيدة كغيري؟ مازلت أحدث نفسي حتى رجع سمير.

_ هل تأخرت عليك؟

_ لا، أبدا. أتمنى أن تكون قد قضيت عملك. فأنا أحس أنني أخذت كل وقتك. من أنا بالنسبة لك حتى تؤجل عملك بسببي؟

_ ألا تعرفنين من أنت بالنسبة لي؟ إنك غاليتي. وجودك معي يدخل على قلبي السرور و السعادة. ليس لدي شغل في هذا البلد إلا بيع السيارة. فاجلسي وارتاحي ولا أريد أن أسمع مرة ثانية تأسفك.

جاء النادل بطبق من الأسماك المقلية وسلطة بالكركند. تعشينا تحت أضواء المطعم الحمراء وتلك الشموع الموزعة على الموائد معانقة تلك المصابيح الحمراء في سقف المطعم، وبعد انتهاء تناول العشاء انطلقنا إلى الفندق. كان يحمل في يده علبة متوسطة الحجم ملفوفة بورق وردي وملفوفة بخيط فضي. أخذ مفتاح الغرفة من مكتب الاستعلامات ثم دخلنا إلى الغرفة.

قال سمير:

_ يظهر عليك التعب، خذي قسطا من النوم وبعد ساعة سننزل إلى مطعم الفندق، هناك فرقة موسيقية قادمة من ألمانيا ستكون حفلة رائعة.

دخلت مهرولة إلى الحمام اغتسلت وارتديت بنطلونا من الجينز الأسود وقميصا أبيض ثم جمعت شعري إلى الوراء وظفرته. كنت أكره شعري لأنه كان طويلا وغزيرا، يتعبني عند غسله في الحمام. لم أفكر أبدا في قصه لأن أبي لا يحب أن تقص بناته شعر رأسهن، فذلك حرام حسب مفاهيمه. حرام! حرام! كل شيء حرام، حرام قص الشعر وحرام السفر إلى أمريكا للدراسة وحرام وجودي في غرفة رجل غريب وحرام أن يفسحني سمير في البلد، هذا الرجل الذي لا تربطني به سوى عِشْرة ثلاثة أيام سفر بالصحاري. أغمضت عيني نزلت دموع ساخنة على خدي. جلست على الأريكة أحاول أن أهدئ من روعي حتى أقبل سمير.

_ مساء الخير يا صغيرتي. ما هذا؟ بنطلون الجينز أسود وضيق وقميص أبيض! إنه جميل على جسمك الطويل والرشيق، لكن هذه الحفلة تحتاج إلى فستان خاص بها.

_ فستان خاص بها؟ أين سأجد ذلك الفستان؟

ابتسم ثم توجه إلى حيث كان يضع العلبة. فتحها وأخرج فستانا أسود طويلا وحقيبة وحذاء بلون فضي. فتحت فمي مندهشة لرؤية الفستان الذي لم ألبس مثله قط في حياتي.

_ لا، لا يمكنني أن أرتدي هذا الفستان!

أخافني وأربكني عطاؤه الكثير. أمسكت حقيبتي محاولة إخراج النقود، نزعها مني ووضعها على المائدة.

مد إليّ الفستان وقال وهو يبتسم: البسيه ريثما أستحم وأرتدي ملابسي. دخل إلى الحمام أما أنا فما زلت أنظر إلى الفستان مستغربة، لبسته بسرعة قبل أن يخرج من الحمام. أعجبني منظري وابتسامة خجلة استقبلتني وأنا أرى جسمي لأول مرة يبدو كجسم امرأة في الثلاثينات. خرج سمير من الحمام وقال وهو يبتسم:

_ لم أر قط في حياتي أرشق من هذا الجسم. لماذا تركت شعرك مربوطا هكذا؟

أحضر مشطا وأجلسني على حافة السرير ثم بدأ يفك ضفيرتي برقة بالغة ويمشط شعري. وقفت أنظر إلى نفسي في المرآة، رأيته يلتهمني بعينيه، شعرت بنشوة المرأة حين تثور بالرعشة الأولى بقلب يدق. حملت حقيبتي الفضية ومشيت بصحبته، أتبختر في مشيتي. دخلنا إلى المطعم الكبير الذي كان مكتظا بنزلاء الفندق. أقبل علينا النادل ورافقنا إلى حيث سنجلس. طلب سمير كوكتيل فواكه وصحنا من المكسرات. كنت مبهورة أنظر إلى عالم جديد لم يسبق أن عايشته، أما هو فكانت عيناه لا تكف عن النظر إلي. التفت إليه كي أسأله عن اسم الفرقة فخجلت من تحديقه بي. أحسست يده تربت على كتفي.

_ أريدك الليلة سعيدة.

بعثرني الارتباك وتسللت مني ابتسامة متحفظة، أمسكت عصير الكوكتيل رشفت منه، طعمه حاد شيئا ما لكنني لم أكترث. كنت فرحة باهتمامه وإعجابه بي، ينظر إلي ويتحدث مبتهجا مسرورا. انتهينا من شرب الكوكتيل وطلب من النادل أن يأتي بنفس ذلك العصير. كنت أتمنى أن يحضر عصير البرتقال، لكنني خجلت أن أطلب ذلك لأن عادتنا تقول:" الضيف ما يتشرط ومول الدار ما يِْفْرّطْ." أحضر النادل ذلك الكوكتيل المر، لكن روعة تلك الحفلة جعلتني أنسى مرارته. كان سمير يهز برأسه متمايلا مع نغم الموسيقى وينظر إلي بين الفينة والأخرى ويبتسم. شعرت بحرارة في جسمي، وبرغبة ملحة إلى الرقص، أضحك من غير سبب. أمسك بيدي وسحبني إلى حلبة الرقص، لم أقاومه ولكنني كنت ألملم ارتباكي وخجلي، أمشي ببطء حتى وصلت إلى حلبة الرقص. أرقص باكية في وجه الزمان وابتسامة تلبسني. توقف كل الذين كانوا يرقصون بالحلبة يصفقون لي وسمير ينظر إلي بإعجاب وابتسامة عريضة مرسومة على وجهه. انتهت الأغنية وتوجه كل إلى مكانه.

- أنت أميرة الحفل.

_ لا تبالغ يا سمير. احكي لي نكتة.

_ هل الآن وقت النكت يا غالية؟

_ وقت ماذا؟

_ وقت الرقص.

_ لا، لن أرقص مرة ثانية. فالأنظار كلها مصوبة نحوي .

_ ينظرون إليك لأنك جميلة. هذه المرة سنرقص سويا.

_ لم أرقص مع رجل قط في حياتي.

_ لا تخافي، سأعلمك.

أحسست بحرارة بجسمي وارتخاء في أعصابي ورغبة في الرقص مع سمير. انتهت الأغنية وعلا التصفيق. شرعت الفرقة الموسيقية في عزف لحن هادئ، وقف من مكانه ومد يده إلي واتجهنا إلى حلبة الرقص، جلبني إليه ببطء شديد، وضع يديه على خصري، اقترب بخده إلى أن لامس خدي.

_ لماذا ترجفين؟ لا تخافي.

شدني إلى جسمه وبدأ يحركني مع تمايل نغم الموسيقى، كنت أتمنى أن تنتهي تلك المقطوعة بسرعة كما أريدها أن تستمر إلى ما لا نهاية. أريده أن يبتعد عن جسمي، كما أريده ألا يبتعد. أريده أن يكون لي حلالا إلى الأبد وليس رفيق سهرة. لم أستطع أن أصده عني ولم أستطع أن أبقى بين ذراعيه لأن ذلك حرام، ارتجفت نشوة وخوفا. انتهت المقطوعة الغنائية وأمسك يدي ثم اتجهنا إلى مكاننا. رأيت كأسين آخرين من نفس الكوكتيل على الطاولة. لم أستطع أن أنظر في عينيه من خجلي. أمسكت بكأس العصير وبدأت أشربه جرعة تلو الأخرى. كانت الفرقة مازالت تعزف كما أفكاري تعزف في ذهني وتتراقص محدثة إيقاعا يقول لي أنت ما زلت شابة وتستحقين أن تتمتعي بحياتك، لا تضيعي الفرص الجميلة، وإيقاعا ثانيا يرد على الإيقاع الأول، تحديك يا غالية وكسرك للقيود سيكسر كل حياتك في الدنيا وفي الآخرة وإيقاعا ثالثا يجيب على الإيقاعين الأولين، غالية لم تقم بأية خطيئة، غالية لا تريد إلا العيش في سلام. اتركوها لحالها واذهبوا بتقاليدكم وقيمكم إلى الجحيم. شعرت بدوار في رأسي وبعرق بارد يتصبب من جبيني عن جرح قديم ينزف مرة أخرى. اعتذرت لسمير عن عدم استطاعتي البقاء حتى انتهاء السهرة. طلبت منه مفتاح الغرفة، وقفت في مكاني فشعرت بدوار شديد، جلست بسرعة لكي لا أقع على الأرض.

_ سأحضر لك القهوة.

_ لا، من فضلك إلا القهوة هي التي سببت لي الإغماء البارحة.

نهض من مكانه وأمسك بيدي ثم توجه بي إلى مصعد الفندق. كنت أمشي بتثاقل، لم أستطع أن أقف على قدميّ، ومعدتي كانت تؤلمني فهي لا تتحمل المشروبات الحامضة. ما زلت أتحدث إليه حتى وقعت على الأرض. حملني بين يديه من غير أن يتفوه بكلمة واحدة. فتح باب الغرفة ووضعني على السرير.

_ سمير، أنا متأسفة.

_ لا داعي للأسف.

_ أين حقيبتي؟

_ ماذا تريدين؟

_ أريد قميص نومي.

_ ها هي حقيبتك.

لم أستطع فتحها، أخرج القميص وناولني إياه. بدأت أخانق أزرار الفستان أحاول فتحها، كان ينظر إلي ويبتسم. اقترب مني وفتح أزرار الفستان ببطء شديد ثم ألبسني قميص نومي وغطاني. انتابني خوف شديد، يخيل إلي ملاك الموت، جهنم، ووجوه بشعة من ضمنها ابن الإيمان تقهقه بصوت عال ويشيرون إلي بأصابعهم. أحاول أن أغمض عيني لكي تذهب عن بصري تلك الوجوه البشعة التي تلاحقني وتقترب مني وابن الإيمان يمد يده إلي فصرخت:

_ لا، لا تقترب.

نهض سمير من مكانه وأشعل الضوء ثم جلس بجانب السرير ليؤنس خوفي وأنا في ضيق أنفاسي أشق سكون الليل بالحسرات.

_ ماذا بك غالية؟

التفت إليه في خوف.

_ وجوه بشعة تلاحقني، لا أريد أن أراها، لكنها تلاحقني إنني خائفة.

استلقى قربي وضمني إلى جسده، كنت أسمع أنفاسه وأشم رائحة عطره. وضع راحة يده تحت رأسي واليد الثانية يداعب بها خصلات شعري، رغم أنني كنت في قمة التعب، والإحساس بالإعياء مما يشبه النعاس، كان جسمي يرتعش إلى أن خلدت للصمت وليس للنوم. لم أستطع أن أنام، أريد أن أحس جسدي يلامس جسده. كنت أسمع دقات قلبه وتنفسه وسكون رهيب يعم الغرفة. وبعد ساعة واحدة تمنيتها لو كانت دهرا، ناداني بصوت دافئ ورخيم:

_ هل نمت يا غالية؟

لم أجبه، تظاهرت بالنوم، سحب يده من تحت رأسي بحذر وقبلني على جبيني.

_ أحبك يا غالية.

ثم استلقى على الأريكة. كنت أتعذب بحبه، حرقة تسكن قلبي، تتوهج نيرانها التي لا تطاق. أفكر في ذلك اليوم القريب الذي سأودعه فيه، دموع تنزل ساخنة من عيني إلى أن خلدت للنوم. استيقظت على وجع في رأسي. لم أجد سميرا في الغرفة. اغتنمت غيابه وأسرعت إلى الحمام. أخذت دوشا ولبست بنطلون جينز وقميصا. ضفرت شعري ثم عقدته إلى الوراء. نظرت إلى المرآة فسرّني مظهري. لا أريد أن أظهر أنوثتي ولا جمالي، لأن ذلك لا يوقظ إلا لهيبا في سمير وأحترق أنا بذلك اللهيب. أريد أن أكون جميلة في عينيه و لكن إلى أين سيؤدي ذلك الإعجاب بي من غير أن يعترف بحبه لي؟ جلست في الشرفة أطالع كتابا من تلك الكتب التي اشتريتها من مكتبة الجماهيرية بمصراتة وأحيانا أنظر إلى البحر، أتأمله وأتأمل فيه أملي غير المطمئن، أنصت إلى قلبي الذي كان ينبض بسرعة، كأنني طير حطم القدر عشه وتكسرت أجنحته. أتأمل دموعي التي جفت من البكاء وآمالي التي تذهب رويدا أدراج الرياح، فكتمت حبي عندما لم أسمع منه اعترافا وأفرغت أنيني في جراحي. أتأمل وحدتي ووحشتي وغربتي، في بلاد غريبة لا أهل فيها ولا صاحب. الأيام تدور بي وتدمي أحداثها قلبي المجروح، في نفسي ثلج ونار، وحب وكره ووطأة اليأس تخنقني ولا تبالي بصياحي.

سمعت طرق الباب. دخل سمير وفرحة تعلو وجهه، اقترب مني وقال:

_ إن وجودك خير وبركة. بعت سيارتي بثلاثة أضعاف ثمنها. لم يحدث لي مثل هذه الصفقة منذ بدأت أتاجر في السيارات. سرقني الصمت وغرقت في ذهول عميق. في تلك اللحظة شعرت وكأن شيئا ما بيننا يتلاشى. أطلقت عنان كلماتي وكأنني أتنفس بضيق.

_ مبروك الآن يمكنك أن تسافر إلى إيطاليا.

انطفأت تلك الابتسامة التي كانت على وجهه.

_ هل تظنين أن السيارة هي التي جعلتني أمكث بليبيا؟ وعدتك أن أجلس معك حتى ألتقي بالشاب المغربي وعائلته والسيارة لن أسلمها إلا بعد أسبوع لكي أكون أنا وهي رهن خدمتك.



قضينا يوما بأكمله نسبح في البحر ونلعب على الشاطئ كطائرين طليقين. كان ذلك اليوم يساوي السعادة كلها. تعشينا في ذلك المنتزه الذي يشبه مدينة أوروبية صغيرة في قلب طرابلس. هناك الجاليات الأوروبية تقضي أوقات الفراغ، وتستحم طليقة حرة بعيدة عن العيون المكبوتة والنفوس الجائعة. وبعد غروب الشمس رجعنا إلى الفندق. لم أكن أشبع من الحديث معه، كان يفكر بعقلي ويناقشني بلساني، كان مرآتي التي أرى فيها فارس أحلامي، ذلك الفارس الذي لا أجده حتى في الأحلام. رفع رأسه إلى الأعلى فسقط بصره على الضوء الخافت وسط تلك الغرفة الفسيحة وقال: المرأة جمال وذكاء، زهرة الحياة وسعادة الدنيا. استقبلته عيناي باندهاش ووجهي يرتسم عليه التساؤل فقلت بصوت يقرب إلى الصراخ:

_ لكن، الرجل يقتل ذلك الطموح بفرض أعراف وتقاليد تشد وثاقها وتقيد كل طموحاتها فتموت في ذلك القفص الزوجي الذي يجمعها فيه مع ثلاث زوجات أخريات، تعيش معهن حياة مملة بلا آمال وتقضي سن شبابها في إنجاب أطفال لا يقدرون بعدد، وتقدم المتعة لزوجها الذي يعاملها مجرد آلة، غير آبه بمتعتها.

ظل صامتا، شعرت بقلبي المحموم ينبض مثل قلب الشمس. أحس بي، ولكي يكبت تلك النيران المتأججة بداخلي قال، الزواج المبكر في نظر الرجل يحول دون وقوعها في الخطأ والرذيلة. نظرت إليه بنظرة ملغومة حادة متفرسة في وجهه كأنني أبحث عن شيء مفقود وقلت بصوت يشبه الصراخ: مع من تقع في تلك الرذيلة، وحدها أم مع ذلك الرجل الذي قد يكون أبا أو أخا أو زوجا لامرأة ثانية؟ مع من تخون المرأة إن نُعتت بالخيانة؟ مع الشبح أو مع ذاك الرجل الذي يحمل دائما لواء الشرف بيده ويدافع عنه تحت راية العرف والتقاليد وباسم الدين والعقيدة. هل الدين يا سمير أمر المرأة بأن تتحجب وتتستر وتتزين بالطهارة والعفة بينما الرجل يفتخر بمغامراته في أيام شبابه وبعشق الفتيات له وجريهن وراءه لأنه كان عنترة زمانه؟ كنت أنظر إليه منتظرة منه جوابا. أما هو فكان يطيل النظر إلي ويبتسم ابتسامته الدافئة التي اعتدت عليها. تتماوج في عينيه سيل من الكلمات.

_ الإسلام يا غالية شرّع قوانينه وأثبت أحكامه على الجنسين معا. إن الإسلام أعطى حرية للمرأة لم تعطها إياها ديانات أخرى، ووضعها في المركز الذي يليق بها، ما لم نجده في أي مجتمع، أوروبي أو غربي. انظري مثلا المجتمع الأمريكي كيف يعامل الرجل المرأة؟ إنه يعاملها باضطهاد وبعنف ويضربها وغالبا يقتلها، لأن الدين عندهم لا يؤثر في سلوكهم، وعاداتهم وتقاليدهم بعيدة عن الدين وتعاليمه. نظر إلى ساعة يده. آه يا غالية إن الفجر قد أوشك، لا بد أن تنامي وترتاحي، فغدا سنسافر إلى بنغازي وبعدها سنعود إلى الفندق لحضور السهرة.

ذهبت إلى الحمام لبست قميص نومي واتجهت إلى الأريكة لأنام.

_ نظر إلي وضحك بصوت مسموع.

_ هل تريدين أن تنامي على الأريكة؟ ألم أقل لك بأنك ضيفتي وعليّ إكرامك.

_ بلى، لكن أريد أن أنام على الأريكة.

_ إن أردت أن تنامي على الأريكة فأهلا وسهلا بك بجانبي، لأنني لن أغيرها بالسرير؟

شعرت بسخونة في وجهي. استلقيت على السرير وغطيت وجهي بسرعة باللحاف، أما هو فقهقه عاليا. كنت في قمة السعادة في تلك الأيام التي قضيتها معه. أنجذب إليه يوما بعد يوم وأعشقه أكثر فأكثر. استيقظت قبله وأسرعت إلى غرفة الاستعلامات لإحضار الفطور. استقبلني الموظف باللهجة الليبية مبتسما.

_ كان عليك أن تتصلي هاتفيا فقط من الغرفة فنأتيك بالفطور.

كان سمير ما يزال يغط في نوم عميق وهادئ. كم جميل وهو نائم، يظهر في وجهه براءة طفل صغير. جلست على حافة السرير أتأمله، طرق النادل الباب ومد لي صينية الفطور. القهوة التي يحب أن يبدأ بها نهاره، وعصير البرتقال ووردة حمراء ربما تنطق هي وتعترف بحبي له وتنقذني من ارتباكي. اقتربت منه وصينية الفطور في يدي، لم أرد أن أوقظه من النوم، لم أكن أشبع من النظر إليه وكأنه لوحة رومانسية تأسر القلوب. فتح عينه.

_ إنني أشم رائحة القهوة.

التفت إلى الصينية التي كانت بيدي.

_ ما هذه المفاجأة الحلوة؟

أمسك بالصينية ووضعها على ركبتيه وأمسك الوردة الحمراء يشمها ويبتسم.

_ وردة حمراء! هل هذه الوردة لي؟

وضع الصينية على المائدة ومد يده إلي وجرني إليه ثم ضمني إلى صدره وقال:

_ إن هذه الأيام التي أقضيها معك أحلى أيام حياتي.

كان صدري ما زال في تجويف كتفه وقدماي تلامس قدميه. كان جسده ساخنا وكنت أحترق حزنا، أنظر إليه لأرى هل الوردة الحمراء بلَّغت رسالتي. كنت أرى نظرات دافئة كوَتْ جسمي نارا وأشعلته لهيبا. نهض من مكانه بسرعة.

_ هيا بنا نفطر إن أمامنا سفر.

تمنيت أن يقول إلى إيطاليا، تمنيت أن أرى شقته الجميلة التي تطل على البحر. إني أعشقه كعشقي للبحر الذي لا تبعدني عنه عاصفة ولا تُفرِّقُ بيني وبينه المسافاتُ. يجتاحني شوق إلى سمير ويسحقني وفي قلبي تذكار لحبيب سينتقل إلى بلد وراء البحار ليحمِّلني فراقه آلاما وأحزانا. جلس بجانبي وبدأ يحتسي القهوة ويتكلم عن تلك المدينة التي سنزورها. كنت أرتشف عصير البرتقال وأتساءل في نفسي إن كان يعرف أنني أحبه؟ هل الوردة بلّغت رسالة قلبي؟ هل أساء فهم محتوى تلك الرسالة؟ وكما العادة تظل أسئلتي يقهرها عدم الجواب.

طوال الطريق كنا نستمع جو د سان هذا المطرب الذي أصبح جزءا منا، يجعل أكفّنا تتشابك وأناملنا تتعانق وروحينا تنصهران فاجأني بسؤاله.

_ لماذا فضلت أن تدرسي في ليبيا وليس في بلد آخر؟

أيقظ بسؤاله أيامي المدفونة في جسمي المتفتت. تذكرت أبي وسلطته القسرية وحشرجة البكاء تكاد تنفجر من صدري.

_ أبي لا يريدني أن أدرس في أية دولة أجنبية لأن تغربي ودراستي في بلد غير إسلامي قد يُخِلّ بأخلاقي ويبعدني عن تقاليدي.

قال مستهزئا:

_ فليبيا بالنسبة له المكان المنشود! ارجعي إلى بلدك، ارجعي إلى المغرب.

_ لا. لا أريد أن أرجع ولن أرجع أبدا ثم انفجرت باكية.

_ لماذا يا غالية ؟ ما هو السبب؟

السبب أني..

_ أنك ماذا؟

_ أريد أن أبني مستقبلي بعيدة عن التبعية والتقليد. تقليد أخواتي وكل فتيات مجتمعنا. لا أريد أن أتزوج رجلا يمتحن شرفي بدمي ويضعه على خرقة بيضاء ويقدمها في صينية لكي يراها أهلي وعلى رأسهم أبي وإخوتي و يصفق الحاضرون، ويباركون لي حفظي لشرفي الذي اعتنيت به وحافظت عليه لذلك اليوم الكبير. لا أريد أن يتزوج رجل عذريتي بقدر ما أريد أن يتزوج روحي. إن كثيرا من الأزواج من غير شرف. لأن الشرف لا يقاس بالبكارة بقدر ما يقاس بعفة المرء ذاته رجلا كان أو امرأة. إن الرجل من غير شرف مادام يروي لزوجته مغامراته الغرامية مع البنات قبل أن يرتبط بها في حين أنها غير قادرة وخائفة من ذكر رواية ما، حتى ولو كانت إعجابا بريئا بشاب ما. والله أعلم بعد ذلك هل سيكون شريفا معها مُحترِما ذلك الرباط المقدس. كل تلك الألاعيب التي قام بها مع البنات لم تفقده شرفه بل زادته رجولة وتجربة في حياته الجنسية. أما المرأة فهي مخلوق تابع للرجل، ضعيف، ضلع أعوج لا يمكن إصلاحه أو تقويمه. المرأة ناقصة عقل ودين، ضعيفة أمام الشهوات، كيدها عظيم، رجس من الشيطان، لا بد للرجل أن يضع حدا لذلك الكيد وأن يمنعها من السقوط في هاوية الشيطان وهاوية الجنس ببتر عضو في جسمها الذي وهبه الله لها مثلما وهبها سائر الأعضاء. لا يجب أن تحس بمتعة الجنس. أتعجب كيف يتدخلون في صنع الخالق؟ كيف داسوا خلق الله وصنعه. فلماذا لا يقطعون لسانها أيضا ويحرمونها متعة الإحساس بمذاق الطعام وبفقؤون عينها لكي لا ترى! نعم، لا يجب أن تحس بشيء في هذه الدنيا سوى إحساس ألم الإنجاب المتكرر والضرب والمعاملة السيئة واللعب بمشاعرها وبحياتها. كم من امرأة نجحت في امتحان الشرف وعاشت مدة ثم سقطت في امتحان الوفاء لزوجها، وجلبت لنفسها أمراضا خبيثة ومميتة، فماتت وتركت أولادها وراءها يتامى. أين هو الشرف؟ وما هو مفهومه؟ إنني لا أعرفه ... وجدته منعدما في سلوك أهل بلدي. بكيت وصوتي أسمعه يناديني، يحدث سري الدفين ويقول له ابك مثل بكائي في الدجى وحدي. ضمني إلى صدره.

_ غالية لم أر مثلك في التعصب والغيرة على المرأة. لماذا كل هذا الانفعال؟ لماذا تأخذين هذا الموضوع بحساسية زائدة عن اللزوم؟ موضوع المرأة طويل ومعقد، لا أستطيع لا أنا ولا أنت ولا أي واحد حله، إنه لغز، أنجبه التاريخ وسيظل خالدا أحداثه تتكرر مع مرور الأيام. إنه موضوع أقوى مني ومنك وهو السبب في غربتي. لقد أحببت فتاة وعشقتها وأحبتني وعشقتني، لكن التقاليد وحب المال وسيطرة الأب وتأثير المجتمع فرق بيننا وداس على حبنا الطاهر. امسحي دموعك وانسي هذه الأفكار التي لا تزيدك إلا آلاما في روحك.

خجلت من تصرفي وانفعالي وكأنني قائد ثورة. ابتسم كعادته و قال:

_ أريد أن أراك الليلة نشيطة، سعيدة وأن أرقص معك الليل كله.

كنت شغوفة لحضور ذلك الحفل، لبست الفستان نفسه الذي اشتراه لي ومشطت شعري رافعة إياه فوق رأسي لأبدو امرأة يافعة، ثم وضعت أحمر الشفاه لأول مرة في حياتي. مازلت أنظر إلى نفسي في المرآة معجبة بمظهري وكأنني امرأة في الثلاثينات حتى دخل سمير.

_ ما أجملك يا غالية! لكن، ما هذا اللون الأحمر الذي على شفتيك؟ إنك جميلة من دونه.

أخرج منديلا وبدأ يمسحه برقة بالغة. شعرت بسخونة في وجهي من الخجل. أجلسني على الأريكة وفتح رباط شعري يمشطه بصمت. نزلنا إلى مطعم الفندق، أحضر النادل لنا كأسين من ذلك العصير المر الذي شربناه المرة الماضية وكأنه لا يوجد عندهم ما يقدمونه من المشروبات سوى ذلك العصير.

_ اليوم فرقتان ستحييان الحفلة إنه كوكتيل فني.

_ على ذكر الكوكتيل. لماذا اخترت نفس الكوكتيل الذي شربناه المرة الماضية؟

_ إن لم يعجبك، نأتي بغيره.

ـ لا، لا، لقد أعجبني.

أمسكت بالكوب وشربت نصفه كالمريض الذي يشرب الدواء رغماً، ثم وضعت الكوب على الطاولة وبدأت أنظر إلى الراقصة وهي ترقص على الإيقاع الشرقي، مارة عبر صفوف الموائد، فاتنة حسناء، رشيقة، ناعمة، تتمايل مع الموسيقى كفراشة تحت نور الشمس. التفت جانبا لكي أشرب كوب العصير فإذا بي أرى سميرا ينظر إلي فارتبكت ولكي يزيل ارتباكي قال:

_ بعد قليل، سيغني فوتوريو أورلاندو المطرب الإيطالي أغنيتنا المفضلة.

انتهى دور الفرقة العربية وحلت محلها الفرقة الإيطالية التي حظيت بتصفيق حار من الحضور. المطرب الإيطالي يغني وسمير يردد معه الغناء ويهز برأسه. مجموعة من الأوروبيين والعرب يرقصون . بعد انتهاء أول أغنية، نهض من مكانه ثم اتجه إلى المطرب وهمس في أذنه، وما هي إلا دقائق حتى بدأ فوتوريو يغني. أمسك سمير بيدي واتجه بي إلى حيث حلبة الرقص.

_ لقد تحسن رقصك عن المرة الماضية.

همس في أذني:

_ لماذا ترتجفين؟ لا داعِي للخجل.

كان يراقصني، غير مبال بارتباكي، فخورا بالنظرات المتوجهة إلي، ذاك التصرف لم يعجبني بقدر ما أزعجني. انتهت الأغنية وتوجهنا إلى مكاننا. أغاظني رؤية كأسين آخرين من نفس الكوكتيل على الطاولة، شربته بامتعاض، أحسست بسخونة في كل جسمي وبدأت أضحك من غير سبب. كان ينظر إلي ويبتسم.

_ هكذا أحب أن أراك ضاحكة مرحة، إن الحياة لا تساوي شيئا، فعلى الإنسان أن يستغل لحظاتها الحلوة.

_ لي رغبة في الرقص.

أمسك بيدي ورافقني إلى حلبة الرقص. هذه المرة رقصت بجرأة و بدون خجل. أما سمير ذلك الجبل الجليدي كان يحرقني بناره الخامدة وبابتسامته التي كانت لا تفارق وجهه. كنت أتمنى في تلك اللحظة أن أرفع صوتي وأعلن له حبي أمام الجميع وأقول له خذني معك لقد يئست من انتظارك ويئس انتظاري من لقائك، قلبي يحترق بحبّك وروحي تتوق إليك. لا تتركني وحدي لوحشتي ووحدتي. شعرت برغبة شديدة لضمه إلى صدري بقوة وأقول له خذني معك إلى ما لا نهاية. لكن، تذكرت كلام زكريا الذي حذره مني قائلا له بلغة يظنون أنني لا أفهمها: آمن الحية ولا تأمن المرية. أنا لست حية ولا مرية. أنا إنسان أبحث عن الإنسانية مبتعدة عن كل ما في مجتمعي من ذل وضلال، ساعية إلى الأمان والسلام وإلى الاستقرار مع سمير فارس أحلامي. لكن إن تَحَدَّيْتٌ تقاليد المرأة العربية وطلبت منه الزواج، سيقول عني رخيصة وتصرّفي كان تمثيلا فقط للإيقاع به في شباكي، مثلما قال له صديقه زكريا ولنفرض أنه وافق وتزوجني واكتشف أنني لست عذراء أو بمعنى مجتمعنا من غير شرف. هل سيكون بعدها مخرج لسفينتي التي استعارت العاصفة؟ يكفي تلك الرياح التي تقذف المرأة وتطعنها فقط لكونها امرأة. ويا ليت ينعتونها بالمخلوق الضعيف أو الناقصة للعقل؟ إن في بلادنا من الأمثال التي لا تحمل للمرأة إلا الإهانات. فتحطم كل شيء جميل فيها، تُُنعَثُ بالخيانة والغدر وسوء المعاملة والسلوك وفساد الطبيعة. لا أذكر من هذه الأمثلة إلا القليل منها. مثلا: "كل بْلِية سببها وْلْيَة" ." يا بن مقطعة البضور". "البنت عار ولو كانت مريم ". " ضرستك إلا وجعتك قلعها، بنتك إلا كبرت ودعها". " العاتق في الدار عار " لي بغا العذاب يرافق النسا والكلاب ". الخ من تلك الأمثال السلبية. ولن ترتاح منها عائلتها إلا عن طريق الزواج الذي يعتبر شملا اجتماعيا يضمن سترها وتريح أهلها من شرها.



كنا كجسد واحد مرتبك يختلس الشرود، ورقصنا يلونه صمت الصمت ويخنق أنفاسنا الثملة من الانتظار إلى أن انتهت الأغنية.اتجهنا إلى حيث نقعد، شربت الكأس الثالث من ذلك الكوكتيل المر، الذي سرى في عروقي وأيقظ في عقلي ذلك السرّ الجحيم، فأحسست بدوار في رأسي مثل المرة السابقة. ذلك العصير طعمه غريب وتأثيره في نفسي كان أغرب، جعلني أتخبط في بحر من المتناقضات وفي خليط من المشاعر والأحاسيس و تيارات من الرغبات. رغبة تريد ضم سمير إلى صدري وأغمض عيني إلى الأبد ورغبة تتوق إلى إفشاء السر اللعين، رغبة تريد الانتقام من نفسي ومنه ومن كل شيء. خفت من نفسي على نفسي ومن كل من حولي. نهضت من مكاني مستأذنة مغادرة الحفلة. شعرت بدوار في رأسي وتثاقل في جسدي و لساني كما تثاقلت أجفاني. كان يراقب تصرفاتي بحذر. لم تعد لي رغبة في المكوث في الحفل ولم تكن أذناي تنصت إلى الموسيقى بقدر ما كانت تستمع إلى إيقاعات تشردي داخل عقلي وضياعي في صحراء قلبي النائية وفي عاصفة غربتي وضجر وحدتي. تعبت من نفسي كما سئمت سميرا، فارس أحلامي، ودعته بقلبي وودع قلبي حبه، متأسفة على ذلك القدر الذي جمعنا في حدود الجزائر والمغرب، متأسفة على قلبينا اللذين جرحا بسبب جبن وكبت وخوف وكبرياء.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:43 PM   #8

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل السادس





احتراق



في قلبي جرح أليم، يعبر حدود الزمن على ليالي الطوال، وخوف يلاعب صمتي ويهزأ من حلمي المختصر في السراب. أصوات تلتهمني في هدوء مفتعل، لا أعرف كيف استلقيت على السرير. دوار كالطوفان يبتلعني وأنا أمسح عن جبهتي أصوات الزغاريد وأتقلب على دقات الطبول وعزف المزامير، وأصوات النساء تتهافت كالعويل، كالغضب، وكالنار تحرق قلبي:" دور بها يا شيباني دور بيها". وسمير على حافة القلق يدخن سيجارة مرتبكة، مسندا ظهره على الأريكة، يحاول أن يستجمع شرودي في كل مجّة من سيجارته. نهضت من السرير بحذر كي لا أقع على الأرض، أمشي بخطوات متثاقلة إلى الحمام أبكي وأصرخ وفي داخلي نار تتلاعب بي لتقذف بروحي إلى شواطئ الحيرة، متخيلة ابن الإيمان ينظر إلي ويضحك، لماذا ذهبت بعيدا؟ المثل يقول: وين وذنك ... ها هي. لماذا تعذبين نفسك وتتعبينها؟ فسمير ليس لك ولن يكون. ما ليك غير أنا. أنا أتزوجك ولن أبوح لأحد بسرك. مدَّ يده من المرآة فصرخت في وجهه لا تقترب مني، أكرهك، حاولت أن أهرب منه، ضرب رأسي بباب الحمام ووقعت على الأرض مغمى عليّ. أيقظتني رائحة عطر قوية في أنفي. التفتّ من حولي فزعة، أين العجوز؟ لماذا أتى إلى هنا؟ لماذا يلاحقني هذا اللعين؟

- العجوز ليس هنا، إنها فقط تهيؤات.

_ تهيؤات ... هل أنا مجنونة؟

_ لا معاذ الله.

_ أنا ... أنا متأسفة جدا، لقد أزعجتك.

_ هل اشتكيت لك؟

_ لم تشتك لكنني ضيف ثقيل.

أصوات تطاردني، دوار في رأسي وإعياء في كل جسمي، أريد أن أنام، أغمضت عيني فإذا بالعجوز يمد يده إليّ مرة ثانية. فتحت عيني وما زلت أراه أمامي. جلست في مكاني أقرأ القرآن وأتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

_ ما بك لا تنامين؟

_ لا شيء. نم أنت.

_ كيف أنام وأنت جالسة وسط الظلام.

_ لا أريد المزيد من الكوابيس.

_ لا تخافي سأجلس بجانبك حتى تنامي.

أمسك بيدي وبدأ يداعبها إلى أن استسلمت للنوم. استيقظت في الساعة الحادية عشرة صباحا، لم يكن سمير موجودا في الغرفة اغتنمت فرصة غيابه، أخذت دوشا سريعا ولبست ملابسي بسرعة ثم اتصلت بالفندق الذي يعمل فيه المغربي، عله رجع من إجازته. قال لي أحد الموظفين بأنه سيبدأ العمل بعد ثلاثة أيام. ذهبت إلى شرفة الغرفة أنظر إلى البحر، شعرت بخوف وبخشية من المستقبل. كان خوفي مزمنا، أنظر إلى البحر علّه يواسيني ويخفف عنّي ألم الحرمان والقلق. سمعت صوتا ينبعث من أمواجه يقول لي لا تتصرفي بتهور ولا تتركي العاطفة تتغلب على عقلك. إنك تسبحين في تيارات قد تهوي بك إلى الأعماق بلا أمل في الرجوع. وبينما كنت أستجمع شرودي هبت ريح غاضبة زحفت نحو الأمواج فحوّلتها إلى طوفان أراد أن يبتلعني، تراجعت إلى الوراء فإذا بسمير يحضنني من الخلف.

_ ما بك خائفة؟

ابتسم، أمسك يدي وجرني داخل الغرفة، هيا بنا نفطر، اليوم سنذهب إلى مدينة صبراتة.

وبينما نحن في طريقنا إلى المطعم فاجأني سؤاله:

_ ما هو سبب تلك الكوابيس التي تأتيك؟

_ متى سنذهب إلى صبراتة؟

_ لم تجيبي عن سؤالي.

_ بماذا تريدني أن أجيب. أنت بنفسك قلت لي عندما كنا في صحراء الجزائر، إن الإنسان لا يصنع كوابيسه بنفسه.

_ أريد فقط مساعدتك.

_ كيف ستساعدني؟ هل أنت طبيب نفسي؟

_ أنا صديقك يا غالية.

_ لا أريد صديقا. أنا أريد ... أريد أن أقول لك أنني اتصلت صباحا بالفندق الذي يعمل فيه المغربي فقال أحد موظفي الفندق بأنه سيرجع بعد يومين.

_ لم هذا الاستعجال؟ هل ضايقتك في شيء؟

_ لولاك لما عرفت كيف أتصرف، أكرمتني أكثر من اللازم وأتمنى يوما أن يجمعنا القدر وأرد لك الجميل.

_ أريد فقط أن أرى ابتسامة على وجهك. هل يمكنك أن تفتحي لي قلبك؟ ربما أستطيع مساعدتك.

_ سأخبرك، لكن ليس الآن؟ هل سنذهب إلى صبراتة اليوم؟

_ هل عندك رغبة السفر إلى تلك المدينة؟ إنها بعيدة شيئا ما. لكن يمكننا أن نقضي الليلة هناك.

_ ليس عندي مانع، لنسافر إلى صبراتة.

_ هكذا أريد أن أراك متفائلة يا غالية.

ينتابني شعور بأنه سيفهمني عندما أعترف له بسري الخطير، هذا الذي يؤرقني ولا يتركني.انطلقت بنا السيارة عبر شوارع طرابلس إلى أن وصلنا إلى الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مدينة صبراتة. طيلة الطريق كنت أنظر إلى الصحراء وأفكر في ذلك الغد الذي سأعترف فيه لسمير وأفجر ذلك البركان الخامد في داخلي. سأقتلع محنتي من ذاكرتي المسلوبة وأدفن ذلك القلق الذي يوجع قلبي إلى الأبد.

وصلنا إلى مدينة صبراتة ونزلنا في أحد فنادقها التي سيحيي فيها المطرب الليبي المشهور محمد حسن سهرته. جلسنا ست ساعات في الحفل نسيت العالم كلّه وأول من نسيت نفسي. طرت فوق إيقاع ذلك اللحن الليبي المميز وطفوت على متن كلماته المعبرة. كلمات مملوءة بالشعر، تدخل القلب بدون استئذان، تزرع في داخلك بنفسجا وتطير بك إلى زمن الصبا. حملني محمد حسن هذا الفنان الليبي الكبير على صهوة صوته إلى أديم صحراء المغرب وإلى مراكش الخضراء، حلقت مع كلماته فوق جبال الأطلس، فوق الثلوج وفوق الرمال ونخيل فاس ومكناس، ترنحت على ذاكرة الصبا ووعي بداخلي منذ الأزل يصارع وجوده من أجل أن يبقى حيث ولدت وترعرعت. جنة كما رسمتها وأنا طفلة وها أنا الآن لا أحمل إلاّ صورتها في حقيبة ذاكرتي، في ترحالي وفي تمردي. شعرت بلمسة دافئة تداعب يدي، أرجعتني من وطني إلى حاضري محملة بهم سري الذي يضغط على أنفاسي.

سألني إن كنت أرغب في مواصلة السهرة. لكنني فضلت مغادرة الحفل. توجهنا إلى الفندق وذهب كل منا إلى غرفته. لبست قميص نومي ولي مع النوم موعد آخر. استلقيت على السرير والتفكير في الغد أضاع النوم من عيني وقلبي يخفق بشدة. تجمد كل شيء في داخلي وأنا أستجمع قوتي لإفشاء سري له. خائفة من ردة فعله، خائفة أن أفقده. أُطمئن نفسي وأتحايل عليها لتنام، لكن السهر كان رفيقي تلك الليلة يراكم هموما فوق همي ويزيد من جمرتي المتقدة اشتعالا. لا أعرف كيف غفوت وعندما فتحت عيني وجدت سميرا جالسا على حافة السرير يداعب شعري.

_ غالية استيقظي فإن وراءنا جولة قصيرة في المدينة، بعدها سنعود إلى طرابلس. طرقت الباب مرتين ولم تردي فانشغل بالي عليك، لذلك أحضرت مفتاحا ثانيا من غرفة الاستعلامات وفتحت الباب.



توغلت بنا السيارة مسرعة تبحر وسط تلك الصحراء الهادئة وبريق أشعة الشمس يغطي صدر تلك الرمال. شمس حارقة تتكبد وسط السماء وأنا ألهث تحت لهيب ارتحالي وصمت سمير يطوق ارتعاشي المخبوء تحت ملحمة سري. وكلما أسترق النظر إليه، ترعبني لحظة اعترافي له. سيصدني لا محالة ويتركني لوحوش الصحراء تفترسني. تارة أتدثر بالشرود وتارة أتدثر بدفء قربه ولمسة يده التي تمنحني الأمان. انتبه إلى شرودي ولهاثي، التفت إلي وكأنه يذكرني بما أحاول أن أنساه. ارتميت على مقعد السيارة مسترخية كالمشلولة وقلت بهدوء مصطنع وبداخلي رجفة تهز روحي.

_ هل أنت مستعد لمعرفة سبب حزني وسبب تغربي؟

ابتسم وهو يمسك بيدي ويداعبها. كان يسري فيها عرق بارد، ترجف من ردّة فعله بعد اعترافي. خفض صوت الموسيقى وقال:

_ غاليتي أنا أذن صاغية.

لا أريد أن يصغي بسمعه ولا أن ينظر لي ببصره بقدر ما كنت أتوق لبصيرته أن تدرك حقيقة أمري. مرتبكة وشفتي بها قحط وجفاء. سردت له قصة سري الذي شرّدني. كان يصغي إلي من غير أن يقاطعني، ظل صامتا وكأنه ليس موجودا. تمنيته أن يعاتبني أو يعاركني أو حتى يشتمني. لم يتفوّه بكلمة واحدة. سحب يده من يدي، خيم صمت رهيب موحش داخل السيارة، أغمضت عيني والرجفة تعتريني أبكي في صمت، مستجمعة أحزاني نحو رتابة غير مألوفة. نظر إلي بعينين باردتين وقال:

_ ماذا تريدينني أن أقول؟ أنت تعرفين عذرية الفتاة أهم شيء في حياتها.

_ ما ذنبي إن فقدتها من غير أن يمسسني إنسان في حياتي، إنني شريفة بعفتي وطهارتي!

ظل صامتا يقود السيارة بسرعة البرق على حافة الشمس المنكسرة، التفت إليه فإذا بي أرى ولأول مرة تلك الابتسامة اختفت من ذلك الوجه وجعلت روحي شريدة تنزف في صراع بين دوامة البقاء أو الرحيل. رحيل من نوع آخر إلى عالم آخر.

_ لماذا أنت صامت؟ تكلم، قل شيئا واشفي غليلي، وأطفىء نار قلبي. أبكي، لكن الدمع لا يشفيني ولا يزيل الحزن من قلبي.

_ كل شيء يا غالية، إلا الشرف. أنا مع المرأة في كل شيء. في العلم في التحرر والحرية لكن الشرف، شرف المرأة شرف أسرتها وقبيلتها، بل شرف المجتمع كله.

_ ما ذنبي أنا إن فقدته من غير جنس؟ أين وعيك وتحررك؟ أين ثقافتك أم أنّ كل ما قلته لي في حديثك عن المرأة مجرد خطاب ذهب مع أدراج رياح صحراء الجزائر؟ هل ذلك الدفاع عن المرأة الذي كنت تحمل لواءه كان سرابا ووهما؟

_ تعرفين ماذا يقال عنكم أنتن معشر النساء ...

خلِّ الملام فليس يثنيهـا حب الخداع طبيعة فيها

هو شرُّها وطلاء زينتهـا ورياضـة للنفس يحييها

ويقال أيضا:

فما فيهن مخلصة لأخرى وما فيهن مخلصة لألف

_ هل هذا رأيك في كل النساء؟ هل هذا رأيك في؟

_ صدق من قال:

تمتع بها ما ساعفتك فلا تكن جزوعا إذا بانت فسوف تبين

_ إنني ألعن الساعة التي سافرت فيها مع العجوز، وألعن الساعة التي ركبت فيها سيارتك، وألعن الساعة التي قادتني إليك!

ظل صامتا مملوءا بالطرش يقود السيارة بسرعة جنونية إلى أن وصلنا إلى الفندق. دخلت إلى الغرفة أرتعش من الخوف ومن الذل الذي شعرت به وأنا أبوح له بسري الذي لم يسبق له أن خرج من أعماق قلبي. لم يصدقني ولا يريد حتى أن يناقشني ليعرف صحة كلامي. غادر الغرفة بعصبية وتركني كالمشلولة، جسمي عاجز عن الحركة ودمعتي محبوسة حتى الاختناق. لا بد أن أغادر غرفته للتو فلم يعد لي مكان معه. أظلمت الدنيا في عيني، لا أعرف إلى أين سأذهب أو إلى أين أتجه. كان الوقت قرابة الثامنة والنصف مساء، حائرة أحوم ببصري إلى كل ركن في الغرفة. أحسها باردة كزنزانة مظلمة، هواؤها يمزق أسمال روحي لفارس أحلام رحل وترك لي أشباحا وأبقى فيّ أشجانا. معدتي تتلوى من الوجع، أخذت حقيبتي وغادرت الفندق، لا أعرف إلى أين أمشي، لا مكان يأويني ولا سند يحميني. أجرجر رجلي ببطء في الطريق تائهة كالمتشرّدة وسط الصمت المدثر بالظلام، أتعثر في أفكاري حافية وهواجسي تدميني. اشتد الألم في معدتي فوضعت حقائبي على الأرض أنظر إلى السيارات التي كانت تمر كسرعة البرق. أنظر إلى السماء، أصيح يا الله! ربي، إلى أين سأذهب؟ أنا في كل يوم أنتهي وأضيع. حبي أجهض حمله وسط لهيب الصحراء. اختفت طفولتي داخل أمواج وقذفتني بعيدا إلى الأعماق حيث الحوت وسمك القرش فاتحا فمه ليمزق عفتي قبل أن يبتلعني. قال أحدهم وهو يحوم من حولي ويضغط على كتفي بقوة:

_ تْبِّي الأخت مساعدة؟

ارتجت الأرض تحت قدمي وانفرط خوفي في ثمالة الانهيار، كسمكة صغيرة يسحبها الحوت إلى جوفه. أجبت بخوف.

_ لا شكرا، لا أريد شيئا.

اقترب مني آخر وأمسك ذراعي ليمارس سلطته الرجولية والعنف على التأنيث بالكسر. قطيع من بقر الوحش يطاردني تحت سمائي الملبدة بالرعب. أطلقت صرختي العقيمة بجنون غير مسموع، أتسلق انهياري. صراخ مخنوق يقتنصه رعبي وسط ذلك الشارع الخالي من المارة. لا أحد هناك أستنجد به سوى خالقي. فجأة سمعت صوت فرامل سيارة وقفت على امتداد احتضاري و نزل سمير مسرعا نحوي. أخذ الحقيبة التي كانت هي الأخرى تقبع على امتداد الشارع. سحبني من تحت حوافر تلك الأبقار وأدخلني إلى السيارة وانطلق بسرعة إلى الفندق. صرخ في وجهي.

_ لماذا غادرت الفندق؟

لم أعد أتحمل النظر إليه، انتابتني هستيريا البكاء والضحك وأنا أنظر من خلال زجاج النافدة في ذهول، وغضب ينزع خجلي ويتعرى أمام حشمتي.

_ لماذا هذا الخوف كله ومن أنا بالنسبة لك حتى تنقذني من هذين الذئبين ماذا تريد مني اتركني لحالي، ليس عندي شيء أخاف عليه كما تعلم. إنني عديمة شرف كما تفضلت، لماذا لم تتركهما يأخذان مني ما يريدان لكي تكون التهمة ثابتة وجرمي ملموس فهو أهون من أن أُتَّهم بشيء لم يحدث رغبة مني. أنزلني من سيارتك حتى لا أدنسها لك أيها الشريف. صرخت في وجهه: أَوْقِفْ السيارة واتركني لحالي، ربما سينقض علي ذئب من ذئاب ليبيا ويريحني من هذه الدنيا. إن الموت أهون علي من الظلم والجور.

_ لا أريد أن أتكلم معك الآن فأنت كمن أصابته الحمى.

_ القدر الذي جعلنا نلتقي وخلق مودة بيننا قد فرقنا. أوقف السيارة أريد أن أنزل.

_ إلى أين ستذهبين؟

_ لماذا تسأل؟ هذا لا يهمك أبدا.

كان يقود السيارة بسرعة ريح تسير بلا اشتهاء، تطارد الرعب إلى أن وصلنا إلى الفندق. أنزَلَني بالقوة وأنا أحاول الابتعاد عنه. أمسك الحقائب ثم قادني إلى الغرفة التي فتّحت جراحي المبعثرة. لم تعد بنفسجية الهواء، طقسها بارد زاد من ارتجافي ونورها عتمة نثرت أشرعة من الخوف على شطآني. كان يجلس على الأريكة وينظر إلي بارتباك ويدخن بعصبية.

_ لو لم أجدك في الوقت المناسب لكنتِ الآن في عالم الأموات.

_ مثلي يجب أن يكون في عالم الأموات، مادام عالم الأحياء لا يرحم.

اقترب مني وأنا في زحمة غضبي، يريد أن يضمني إلى صدره ابتعدت، لا تقترب .... ! سأدنسك. كان يحدق بنظرات غير التي ألفتها. نظرات تجوب خاوية على اهتزاز جسدي، تلتهم أمواج حيرتي، تقذفني وسط ذلك الفراغ البارد.

_ لماذا هذه العصبية، انسي ما حصل. سنتعشى الآن وبعدها لي معك حديث.

أمسكت بحقيبة نقودي، فتحتها وأخرجت ألفي دولار وضعتها على الطاولة. تلك النقود التي استباحت إنسانيتي لتبيعني للاحتراق.

_ هذه نقودك التي أنفقتها علي هذا الأسبوع.

أمسك النقود وأعادها إلى الحقيبة.

_ أنا لا أريد نقودا، اهدئي أريد أن أتكلم معك.

أرى في عينيه لعنة تلبس شهوته، أمسك سماعة الهاتف وطلب العشاء. جاء النادل بالعشاء، همس له في أذنه ثم اختفى النادل وجاء مرة ثانية بعصير الفواكه. أعطاه نقودا ثم أقفل الباب. سحبني إلى الأريكة، كان لهاثي متلاحق، محمّل بالتعب، مرتديا عباءة بائسة، خوف يتغلغل في جوفي وهو يراقب أسمال رعشتي. ناولني كوب العصير.

_ سيهدئ من روعك وسيساعدك على النوم.

ناولني قطعة من اللحم. لم أكن أشعر بالرغبة في الأكل بقدر ما كنت أشعر بالرغبة في أن أدوّي بصرختي لأخرج تلك النار التي كانت تحرق قلبي. أخذت تلك القطعة منه وبدأت ألوكها محاولة أكلها دون شهية. ناولني كوب العصير.

_ سيهدئ أعصابك وبعدها يمكننا أن نتكلم بهدوء.

أمسكت الكوب منه بعصبية وشربت نصفه بسرعة، أما هو فكان يأكل ببطء ويختلس النظر إلي. شعرت بسخونة في جسمي كله وأحسست برغبة في البكاء. ذهبت إلى الحمام أبكي وأنظر إلى المرآة، قرفصت في زاوية تفكيري، أبكي وأندب حبا جميلا اختفى بسبب سري الخطير. سمعت صوتا يهتف بداخلي، غالية لقد تعبت كثيرا في حياتك وستتعبين أكثر إن لم تضعي حدّا لهذا العناء. تناولي أقراصك المهدئة كلها وستنامين مرتاحة إلى الأبد. لن تجدي من يفهمك ويخلصك من ورطتك. رأيت بأم عينيك كيف انقلب سمير عليك، ارتاحي راحة أبدية وانجي بنفسك من الفضيحة. نهضت بتثاقل، فتحت حقيبتي أبحث عن تلك الأقراص المهدئة. كان يحدق بي. أخرج علبة الدواء من جيب سترته وقال:

_ هل هذا هو الدواء الذي تبحثين عنه؟ مَنْ هذا الطبيب الأخرق الذي أعطاك إياه؟ نهض من مكانه واتجه إلى الحمام، أفرغه في الحوض وبدأ يسكب عليه الماء حتى اختفى. وقفت مهزومة وصراخي يتصاعد في فضاء تلك الغرفة.

_ لماذا أخذت الدواء؟ من أعطاك الإذن أن تبحث في حوائجي؟ أهكذا تعامل ضيوفك؟

تقدّم نحوي بخطوات حازمة.

_ أنت لست ضيفتي، أنت فتاة أحلامي التي أحببتها، أحبك يا غالية.

فغرت فمي مندهشة لاعترافه بحبه لي بعدما عرف سري، هل أنا أحلم؟ لا. لا يمكنني أن أصدق. حملني إلى السرير واستلقى بجانبي يقبلني في وجهي وفي عنقي وأنا أقاومه وأصرخ:

_ كف عن ذلك وإلا ستجد جثتي غدا مرمية في عرض البحر.

توقف وقال:

_ لماذا تقاومين؟ فأنت من غير …

_ لا، من فضلك أنت بالذات لا تلفظها.

سحبت نفسي من تحت جسمه، أستغيث بصرختي متوجهة إلى الحمام. دوار قاتم يحجب عني الرؤية، أفرغ وكأن أمعائي ستخرج من فمي. حاولت أن أخلع ملابسي وأستحم بالماء البارد لكنني لم أتمكن من ذلك. جلست بملابسي داخل حوض الحمام وفتحت الصنبور. الماء بارد كالثلج ينزل على جسمي كالصاعقة، أحس برغبة في إيذاء نفسي وتعذيبها ولم يكن هناك شيء أستعمله سوى ذلك الماء البارد. مكثت تحت ذلك الماء القارص بملابسي وجسمي يرتعش كسعف النخيل. طرق سمير الباب.

_ أخرجي من الحمام.

لم أبال لندائه. غالية، سأدخل إلى الحمام الآن إن لم تخرجي.

كنت جالسة بملابسي والماء البارد يغطي جسدي. أسرع إلى إقفال الصنبور ثم حملني من الحوض وأجلسني على كرسي الحمام. أردّد توسّلاتي وروحي مذبوحة برغبة السقوط، خائرة لا تقوى على الحراك وخوف يلتف من حولي. جلس على ركبتيه وأمسك بذراعي وهو يقول لي بصوت أجش وحزين.

_ لماذا هذا التصرف المتهور؟ لماذا تحبين إيذاء نفسك؟

أحضر مناشف وبدأ يخلع ملابسي بسرعة وأنا أرتعش من شدة البرد. مد إليّ قميص نومي ثم غادر الحمام. كنت أسمع صوته من وراء الباب.

_ غالية، اخلعي ملابسك الداخلية والبسي قميص نومك.

لم أعرف كيف لبست ذلك القميص. الخوف والبرد يبثان في جسدي الرعشة بلا توقف. طرق الباب واستأذن الدخول، اقترب مني وضمني إلى صدره ثم حملني إلى السرير. كنت خائفة منه ومن اقترابه مني. نظرت إليه متوسلة:

_ بربك لا تعتدي علي، بحق محبتك لأختك لا تلمسني.

ضم جسدي المرتعش إلى صدره بقوة:

_ آخر إنسان أجرحه أو أؤذيه هو أنت يا غالية، أنت لا تعرفين مكانتك في قلبي، سامحيني على تصرفي وطيشي، أنا خجل من نفسي ومنك. أنا السبب في كل ما حصل لك اليوم.

ظل بجانبي يفرك جسدي لكي تعود إليه حرارته الطبيعية ويشدني بقوة إلى جسمه، أما أنا فكان سكوني أشبه بالموت، قطرات من دموعه نزلت على خدي واختلطت بدموعي وأنا كالمشلولة جامدة أعطس من حين إلى آخر. أغمضت عيني مطمئنة غير خائفة منه. أثبتت لي دموعه صدق قوله، فأحسست بدفء يسري إلى جسدي شيئا فشيئا والتصقت أجفاني المبللة ببعضها. ارتفعت حرارة جسمي، نهض إلى الحمام، أحضر منشفة مبللة بالماء البارد وبدأ يمسح به على جبهتي. وضع منشفة مبللة على رأسي لكي تنزل حرارة جسمي لكنها استمرت في الارتفاع. لا أعرف كيف مرت علي تلك الليلة، إلا أنني أذكر أنها كانت قاسية تَعِبَتْ فيها روحي وجسدي وتعبت أحاسيسي وعقلي من شدة التفكير والإحساس بالذنب. نقمت على والدي بل على كل الآباء الذين يمارسون دكتاتوريتهم وتجبرهم على بناتهم. شعرت بالكره لهم... كل الكره، هم الذين لا يرحمون بناتهم. إنهم لا يختلفون عن الجاهليين الذين يئدون بناتهم وهن أحياء. كم من فتاة ذهبت ضحية هذا الوأد... وأد الحرية والمساواة بين الذكر والأنثى. منهن من اغتصبت ومنهن بائعات الهوى ومنهن من انتهى بها المطاف في بيوت الماخور. يصادرون حرية منحها الإسلام لنا بأنانيتهم وتجبرهم وتشبثهم بالتقاليد العمياء، يسلبون منا الحرية باسم الدفاع عن الشرف والعرض. أي عار يا أبي تخاف منه! أي شرف تدافع عنه...؟! ها أنا يا أبي بعيدة عنك تفصل بيني وبينك المسافات والأمكنة. ها أنا غريبة في بلد غريب مع شاب غريب. وسيم جميل، جذاب... ليس معي سوى الله وحده يراني. وحده يمدني بالإرادة والعزيمة ويقين البصيرة، وحده يهتف في داخلي إياك... إياك... آه يا أبي! أختنق من جو هذه الغرفة وكأنني في القبر... لو أنك تعلم كم أنني حزينة... كم أتعذب... أتألم .... أحس بسقف الغرفة يطبق على صدري وكأنه التراب الذي كانت توارى به أجساد الإناث الصغيرات وآباؤهن يمارسون الوأد هربا من العار. لست أدري يا أبي إن كنت ستفخر بابنتك التي صانت شرفك لأنها تؤمن أن الشرف أغلى من الحياة . هل يا ترى لو علمت أنني أعيش هذه الخلوة كنت ستغفر لي؟!. يا لتفاهة الدنيا! أحافظ الآن عليك يا أبي وأنت الذي ضيعتني....!

فتحت أجفاني على أشعة الشمس، بينما عيناي تحومان وسط دهاليز مظلمة في تلك الغرفة. رأيته جالسا بقربي والقلق مرتسم على وجهه، وضع يده على جبهتي ثم أمسك بيدي ووضعها على خده وقبلها، يتأسف على ما بدر منه الليلة الماضية، تتلعثم كلماته لكي يثبت براءتها.

_ صادفت فتيات كثيرات في حياتي ولم أر مثلك أبدا.

فتحت فمي لكي أجيبه فوضع يده على شفتي.

_ لا تتكلمي، فأنت لا تحتاجين لتبرير موقف أو اعتذار. أنت يا غالية ملاك طاهر ساقك القدر وسط الشياطين والذئاب الجائعة والقذرة. لن أقول لك بأنني أحسنهم. كانت نيتي سيئة معك وحاولت التقرب منك بأسلوب يجعلك تثقين بي وتقعين في شراكي، لكنني أنا الذي وقع في الشراك، أحببتك يا غالية ومستعد أن أقوم بأي شيء يكفر عن فعلي الشنيع.

كنت أضغط على كلماتي الملبّدة بالدموع وصوتي مبحوح. تابع حديثه قبل أن ألفظ حرقتي.

_ إنك فعلا عفيفة وأنا الآن واثق من عفتك وصدق كلامك. أنت لست من النوع الذي يضعف أمام العواصف حتى ولو كنت ...

فاجأني كلامه الغامض والمتحفظ.

_ ما الذي تريد أن تقوله؟

أمسك يدي يلثمها، سامحيني لقد سقيتك ذلك العصير مرارا لكي يثير فيك ...الرغبة الجنسية.

تجمهرت تساؤلاتي المبعثرة، أتعكز على دهشتي القلقة.

_ أعطيتك ذلك الشراب لكي يحطم في نفسك كل تلك القيود والمحرمات ولكي تقدمي لي نفسك من غير ضغط ولا قوة.

كنت أكظم غضبي محاولة أن أستجمع روحي المنهارة من خرافة حب غمرها الوحل.

_أتعني كل ذلك الكرم والمعاملة اللبقة كانت كلها زائفة؟

وقف أمامي كالفراغ، كالمستقبل الغامض، كالظلام. ذهب سمير أدراج العاصفة ولم أعد أرى إلا أطلالا لصورة مزيفة. كان يتأرجح بكلماته النادمة في فضاء تلك الغرفة الباردة.

_ لا يا غالية. أنا فعلا كنت .... لكن سلوكك وأسلوبك في الكلام كان عفيفا طاهرا. تصرفك وانفعالاتك كانت صادقة. كنت أحس أنك معجبة بي لكن ذلك لم يدفعك للخطيئة. كنت مسيطرة على نفسك وعاطفتك وكنت فعلا تلك الطفلة الصغيرة البريئة. أحبك جدا يا غالية وأنا مستعد لفعل أي شيء من أجلك ومستعد أن أضحي بكل شيء لإسعادك. اطلبي مني ما شئت فأنا رهن إشارتك.

بقدر ما كنت فرحة لاعترافه بحبه لي، كنت حزينة على تلك الأيام الملونة بالكذب التي قضيتها معه. تحول قلبي إلى صخرة لا حس فيها ولا نبض. نظرت إليه بعينين باردتين.

_ لي طلب واحد فقط. وأتمنى أن تلبيه؟

تطلع إلي، نظرته التي كانت تلمس روحي اختفت. ابتسم بخجل مرتبك.

_ اطلبي يا طفلتي الصغيرة.

كانت السعادة تغمرني عندما يقول لي طفلتي الصغيرة، كانت تثير رعشة في جسمي، هذه المرة أثارت في التقزز والنفور.

_ أريدك أن تتصل بالفندق وتسأل عن ذلك الشاب المغربي إن رجع من إجازته.

ارتجفت قامته واختفت ابتسامته.

_ سأفعل يا غالية لكنك لا تستطيعين الآن أن تذهبي عند تلك العائلة. أنت مريضة وتحتاجين إلى راحة تامة وعندما تشفين سأرافقك إلى تلك العائلة مثلما وعدتك. خذي هذا القرص من الدواء فهو سيساعد على التحسن، إنك لم تنامي البارحة، كانت حرارتك مرتفعة جدا لولا تلك الحقنة التي أعطاك إياها الطبيب. كنت نصف واعية وحرارة جسمك كانت غير عادية، عندما سرى مفعول الحقنة في جسمك، نزلت شيئا ما حرارته فنمت، لكنك كنت تهذين وجسمك ينتفض. أعتقد أنها الكوابيس التي تراودك.

تذكرت الكوابيس التي أصبحت تلاحقني أيضا في النهار، سرت قشعريرة في جسدي، حزينة أجمع شباكي وألعن البحر والقدر.

_ لماذا أفرغت ذلك الدواء البارحة. إنه يساعدني على النوم من غير أحلام مزعجة.

نهض عن كرسيه جلس على حافة السرير يستجدي الكلمات.

_ أخاف عليك من ذلك الدواء يا غالية كما أخاف أن يستغله أحد لإيذائك أوتستغلينه أنت لإيذاء نفسك. اشتريت لك هذا الدواء الذي وصفه لك الطبيب البارحة. عليك تناوله إن أردت أن تشفي بسرعة.

تناولت الدواء وأغمضت عيني مرة ثانية أما هو فكان يجلس بجانبي لا يتحرك وعندما استيقظت، رأيته مازال بقربي ينظر إلي بعينين محتقنتين.

_ كنت ستموتين بسببي؟ ما كان علي أن أتركك دقيقة لوحدك.

أخرجت كلماتي رغما، كلماتي التي كانت متمسكة بأشرعة منزوعة غير مبالية بخطورة البحر وعواصفه. _ أنت لم تخطئ في حقي بقدر ما أخطأت أنا بحق نفسي حين سمحت لها أن تمكث تحت سقف واحد مع شاب لا تربطني به أية علاقة شرعية، إن حصل لي شيء فسأكون أنا المسؤولة ولست أنت.



بعد ثلاثة أيام تحسنت صحتي، أما سمير فزاد حزنه وتوتره، يتصنع الابتسامة لكنها زائفة فضحتها تلك الدموع التي أصبحت ترافقه. ذهبنا إلى الفندق الذي يعمل فيه ذلك المغربي. بمجرد أن رآني خرج من مكتبه بسرعة:

_ أهلا بك يا غالية، كم حزنت على عدم رؤيتك تلك الليلة. كنت مضطرا أن أغادر الفندق بسرعة وأذهب إلى المستشفى. كنت أفكر فيك طوال ذلك الأسبوع. لا أعرف ماذا حل بك. أخبرت زوجتي عنك وهي ترحب بك عندنا حتى تستقر أوضاعك في البلد.

شكرته على كرمه وقدمت له سميرا. سلم عليه وطلب منا أن ننتظره في مطعم الفندق حتى ينتهي دوامه. جلسنا في صمت مفتعل إلى أن قاطعه بلمسة في يدي، أيقظتني من غفوتي وارتحالي.

_ أتمنى ألا تنسيني أوتنسي الأيام الحلوة التي قضيناها معا، كوني حذرة ولا تثقي في أي إنسان. إنك فتاة متميزة وهذا قد يثير الرغبة في أي رجل للتقرب إليك. كوني حريصة في تصرفاتك وأنت مع العائلة المغربية. إن رقم هاتفي الخاص معك لا تضيعيه. إن أردت أي شيء فأنا رهن الإشارة. إن معزتك في قلبي لا يعلمها إلا الله. أحبك ولا أريد أن أفقدك.

لثم يدي وأخرج ظرفا من جيب سترته. هذه رسالة مني إليك لا تفتحيها حتى تكوني عند تلك العائلة. أمسكت الظرف ووضعته في حقيبتي، هاربة في صمت عميق. انتهى دوام الشاب المغربي ورافقناه إلى بيته. استقبلتنا زوجته بالترحاب. كان المنزل يحتوي على ثلاث غرف في الطابق الأرضي، غرفة نوم عبد اللطيف وزوجته، الصالون تتوسطه سجادة حمراء، مائدة مستديرة ولوحة متوسطة الحجم مخطوط عليها آية الكرسي. غرفة واحدة في الطابق العلوي يسكنها سامي أخو عبد اللطيف. جلست معنا سيدة في الأربعينات اسمها لطيفة، كانت طوال الوقت مقطبة الحاجبين، إنها صديقة زوجة عبد اللطيف وكانت أحيانا تقضي ليلة أو ليلتين معهم في المنزل. جاءت رشيدة بالعشاء وجلست بجانب لطيفة. كان سمير منهمكا في الكلام مع عبد اللطيف وأخيه سامي. رشيدة سمراء طويلة القامة، سوداء الشعر، مرحة وبشوشة. أما لطيفة فكانت متكبرة، متغطرسة تحب الافتخار والتباهي. بعد ما انتهينا من تناول العشاء وقف سمير شاكرا إياهم على قبول ضيافتهم لي والتفت إلى سامي مبتسما.

_ أستودعك أختي غالية، رافقها إلى الجامعة ولا تتركها تمشي وحدها في المدينة صباحا أو مساءً. أنت تعرف خطورة خروج الفتيات وحدهن في هذا البلد. قال سامي وابتسامة على وجهه.

_ سأكون لها عونا حتى تجد غرفة في الحي الجامعي.

هز سمير رأسه شاكرا وخطا بهدوء نحو باب المنزل. تبعته عائلة عبد اللطيف وظلت واقفة حتى اختفت سيارته في ذلك الدرب الضيق، أما أنا فتسمرت قدماي في مكانيهما داخل فسحة المنزل وكأن غشاء من ضباب نزل على عيني. تمنيت تلك اللحظة أن ألحق به وأقول له لا تتركني وحدي فريسة غربتي. دخلت العائلة إلى فناء الدار فوجدتني واقفة في مكاني من غير حركة. رافقتني رشيدة إلى غرفة بجانب الصالون، أعطتني غطاء وفرشا وتمنت لي نوما سعيدا. مازلت كمن فاق لتوه من التخدير أتأمل الغرفة التي كانت لا تختلف كثيرا عن الغرفة التي قضيت الليلة فيها أنا وفاطمة في بيت الحاج رضوان. جلست على حافة الفراش هائمة أفكر في سمير، تمنيت أن يكون بجانبي. أفكر في حوارا ته ونكته وضحكه ولمساته الدافئة وفي تلك الليلة التي كنت فيها مريضة وهو بجانبي طوال الليل في السرير يداعب شعري ويضمني إلى صدره بقوة عندما كنت فريسة كوابيسي. كان دوائي الشافي وهو الآن سبب سقمي. تذكرت الرسالة فتحت حقيبتي بسرعة، أخرجت الظرف وفتحته بلهفة. كان بداخل الظرف ألف دولار ورسالة.

حبيبتي غالية

"هذه الكلمة التي لم أكن أستطيع أن ألفظها خجلا منك وخوفا من سوء فهمك لها. أول مرة في حياتي أضعف فيها أمام فتاة وأحس بسعادة حقيقية. إنك تختلفين عن كل اللواتي صادفتهن في حياتي. قوة شخصيتك، أوقدت في قلبي نارا وأولعت في روحي حبا حقيقيا تجاهك. فعلا صادقة أنت وعفيفة وأنا كنت ذلك القاسي نحوك، الجاهل، الناكر لمعنى الوفاء. جرحت روحك بتصرفي وآلمت قلبك بخداعي وكنت سأكون سبب هلاك ملاك طاهر تحت براثين الوحوش. لا أعرف كيف سأكفر عن ذنبي الذي اقترفته نحوك. أعرف أنني فقدت حبك لي. طفلتي الصغيرة غالية، أرجوك أن تسامحيني وأن ترحمي روحي المعذبة وتجعليني أسمع صوتك هاتفيا وإن كنت في هذا البلد أتمنى لقاءك. فلا تكوني قاسية معي ولا تجعلي عزة نفسك تحطم ذلك الحب الطاهر.

المخلص في حبه سمير.



أمسكت الرسالة قرأتها مرة ثانية. أصحيح هذا الذي يقوله؟ إذن لماذا تركني وحيدة، هائمة؟ لماذا لم يبق معي أو يأخذني معه... لماذا...؟ ألحت عليّ تساؤلات بلا جواب. أغمضت عينيّ على وحدتي وحيرتي أحتسي الشوق الفارغ إلى أن غفوت. استيقظت باكرا كانت العائلة المغربية مازالت تغط في نوم عميق، ذهبت إلى الحمام لكي أستحم. لم يكن الحمام يختلف عن ذاك الذي في بيت الحاج رضوان. لمحت ثلاثة صراصير في زاوية السقف. اغتسلت بسرعة لكي لا أتعرض لهجومها. استيقظت العائلة وأعدّت لطيفة الفطور، الذي كان يتكون من الشاي وأربعة بيضات مقلية وخبز أبيض لا يكفي لشخصين. جلس سامي وأخوه عبد اللطيف ورشيدة ولطيفة حول المائدة وكل منا حظي بلقمة أو لقمتين من ذلك البيض المقلي. غادر عبد اللطيف إلى عمله، كنت أتحدث مع رشيدة وشقيق زوجها عن مدى حرصي للالتحاق بالجامعة في أقرب وقت ممكن فطلبت من سامي أن يرافقني. شكرتها قبل أن ننطلق معا إلى الجامعة.

طوال الطريق كان يحذرني من الخروج وحدي ويحكي لي قصصا وأحداثا حصلت للنساء في ليبيا لا تُصدق ولا تخطر على البال. ركبنا سيارة الأجرة وانطلقت تنحرف يمينا ويسارا محاولة الخروج من الشوارع الصغيرة إلى أن وصلت إلى الشارع الرئيسي فانطلقت مثل البرق. ما زلنا في وسط الشارع الرئيسي حتى رأينا حشدا غفيرا من الناس مكتظين وسط الشارع. خفف السائق من سرعته وقال، حتما حادثة سير فالحوادث هنا مألوفة تحدث كل يوم تقريبا. مازال يقود سيارته ببطء حتى رأينا سيارة مقلوبة وسيارة أخرى نصفها تحت دواليب شاحنة كبيرة ويفترش الشارع دم غزير وكأنه دم خراف مذبوحة. منظر يثير في النفس الحزن والألم. قال السائق.

_ لا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

تدحرج صوتي محملا برعد من الغضب وأنا حتى ذلك الوقت أتخيل تلك الجثث المكبوبة في الشارع.

_ أي شيطان فيهم تتعوذ منه؟ فمن يقود السيارات والشاحنات هنا هم الشياطين. أنتم تقودون بسرعة جنونية وكأنكم تقودون مركبة فضائية.

لكزني سامي برجله وقال لي بصوت غير مسموع:

_ أسكتي يا غالية!

لم يعلق السائق على كلامي، كان ينظر إليّ في مرآته ووجهه مقطب، خفض من سرعة السيارة إلى أن توقف أمام باب الجامعة. إنها "جامعة الفاتح" مكتوب اسمها بحروف كبيرة وبارزة فوق الباب. تحيطها ساحة كبرى تصطف فيها سيارات حديثة الصنع والطراز. دخلنا إلى الجامعة كانت واسعة جدا وحديثة البناء. تعج بالطلبة الذكور والإناث من السودان وموريتانيا والجزائر ومعظمهم كانوا ليبيين. تذكرت كلام ابن الإيمان الذي كذب على أبي وقال له إن الجامعات والمدارس ليست مختلطة. ربما كان العجوز لا يقصد الكذب حيث أنه سمع حتما تلك الشائعات من أناس مثله أو أسوأ منه في الجهل. كانت الجامعة وكأنها مجتمع آخر، عكس ما أراه في الشوارع الليبية المليئة بالأجانب، أغلبهم من شمال المغرب، إما تجار صغار في الدكاكين أو في الأسواق أو من العمّال. وجوههم شاحبة وكأنهم قطاع طرق. في كل شوارع ليبيا لم أر إلا نساء بلباسهن الليبي الأسود، لا يمكن للمرء أن يرى إلا أعينهن تحت ثقب الخمار والرجال بلباسهم التقليدي وطرابيشهم الحمر. تساءلت في نفسي أين يختفي كل هؤلاء الطلبة؟ أليس لهم مكان في المدينة أو ربما يحبون التواجد في بيوتهم وفي الحي الجامعي.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:51 PM   #9

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل السابع

أمل





كان المسئول عن تسجيل الطلبة جالسا خلف مكتبه ونحن واقفون على بعد منه، أشار لنا بيده أن نجلس وهو يرشف القهوة. غضب أنيق يخنق كلماته، يدوس على مكانته، كرامته، لم يدرك نباحه المتلاحق. صرخ ببرود، أتفهم حالتك لذلك لن أحاسبك على كلامك. يختلسه الهدوء أحيانا وأحيانا يعدل من جلسته في ارتباك. تسدله وقاحة مفتعلة، يصرخ فجأة يا سيدي: المثل يقول "وقر الكلب على وجه مولاه." كنت أدنو من انتظاري الممل تحت لهاث مستتر، ألملم ضجري في ضحك وأنين وسامي ينظر في صمت إلى الغرفة وأحيانا يلتفت إلي وكأنه يريد أن يقول لي تحلي بالصبر فالأمور تمشي هكذا هنا. كان المسئول يتوارى خلف جلباب بلدي فضفاض بألوان طيف الضباب ومن فوقه عباءة سوداء تخفي طلاسم شخصيته وعلى رأسه طربوش أحمر، منفوش الشعر، سمين البدن، عصبي المزاج وصوته عاصفة هوجاء. يخرج لعابه متطايرا ساقطا على مكتبه وفجأة يقفل السماعة. بدت واضحة لحية شعثاء تلتف حول وجه مستدير ورافق ذلك صوت محشرج كأنه آت من منخرين ضيقين موجها كلامه لسامي:

_ تفضل شو تبي؟

وقفت في مكاني قدمت له شهادتي وقلت: أنا التي أحتاج مساعدتك، أريد الالتحاق بالجامعة.

نظر إلى شهادتي بإمعان، رفع رأسه، بحلق باستغراب في وجهي وقال:

ـ لماذا أردت التسجيل في جامعتنا؟

فاجأني سؤاله.

_ ألا يحق لي أن أدرس بأي جامعة أريد؟

_ أنت درست في أمريكا صح! ما هو السبب الذي جعلك تختارين جامعتنا؟

_ لم أختر جامعتكم، بعد رجوعي من أمريكا رفض أبي أن أرجع لذلك البلد بحكم معلوماته عنها.

_ أبوك إنسان واع يعرف ماذا سببت تلك الدولة لليبيا ولكل البلدان العربية من مشاكل. إن أمريكا سبب شقائنا. أما عن التسجيل فإنك جئت متأخرة ولا يمكنك التسجيل حتى السنة القادمة.

ضاقت الدنيا في عيني وانتابتني حيرة، خرجت محبطة من إدارة الجامعة. حائرة لا أعرف ماذا أفعل. ألوم ماضي وأفكر في حاضري ببيت عبد اللطيف ومستقبلي الذي أراه ينهار أمامي. انتبه سامي لشرودي وليخرجني من منفاي قال لي.

_ يمكنك المكوث معنا حتى يحين وقت التسجيل والآن هيا لنشرب القهوة في أحد مقاهي المدينة، هناك نتحدث عن الشغل وكيفية إيجاده.

ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظة هو كيف سأجد عملا في فترة الانتظار. رفضت دعوته شاكرة وفي طريقنا إلى البيت كان يحدثني محاولا إسقاط قناع الغضب عن وجهي. حدثني عن قصص وروايات حدثت في الجامعة، ومعاملة الأساتذة بالطلبة فهي إما أن تكون علاقة حب مع طالبة أو ارتباط وثيق بطالب إن كانت عائلته لها نفوذ وسلطة في المجتمع، أما الطلبة الأجانب فيظلون أجانب حتى يغادروا البلد.

وصلنا إلى البيت، استقبلتني عيون مندهشة متسائلة. اقتربت مني رشيدة ووضعت يدها على كتفي وقالت:

_ لا عليك يا غالية انتظري إلى السنة المقبلة. هيا بنا نتغذى الآن. كنا ننتظرك أنت وسامي.

اجتمعنا حول المائدة وكان معنا شاب آخر إسمه جلال، خال رشيدة. سلّمت عليه وجلسنا نأكل وجبة لا تكفي عددنا، لم تكن لي رغبة في الأكل. كنت منهمكة في التفكير كيف سأجد عملاً متسائلة في نفسي من أين سأبدأ وهل سأخرج لوحدي أو سأضطر لمرافقة سامي؟ فهو أيضا مشغول بدراسته.

نظر إلي جلال وقال:

_ أين أنت شاردة؟ لماذا لا تأكلين؟ ألم يعجبك الأكل؟

كانت لطيفة تنظر إلي بامتعاض. وجودي في البيت يضايقها خصوصا عندما تلاحظ سامي وجلال لا يكفان عن الحديث معي. ينهالان علي بكثرة أسئلتهم التي كانت تزعجني. همي الوحيد في تلك اللحظة كيف سأستقل بنفسي. كانت لطيفة تقضي وقتها أمام المرآة تزين نفسها، تمشط شعرها وتغير تسريحته ثلاث أو أربع مرات في اليوم وتطارد جلال بكلمات الجذب وتزحف أمامه بخطوات تفضح إعجابها بوسامته ومزاحه الذي يصل إلى حد الاستهزاء. كان يدخل البهجة إلى نفسها عندما يكون متواجدا في البيت. ذات يوم كنت أستحم، سمعتها تتكلم بعصبية مع رشيدة وتقول لها:

_ كان جلال نادرا يأتي عندكم لكن بعد ظهور غالية أصبح لا يخرج من بيتكم نهائيا.

قالت رشيدة بصوت يقترب من الهمس:

_ اخفضي صوتك كي لا تسمعك غالية.

_ لا يهمّني ذلك إنه يتقرب منها كثيرا ونسي أنني أحبه.

قالت رشيدة:

_ وما ذنب غالية إنها غير مبالية لا بجلال ولا بسامي.

قالت لطيفة بعد أن هزت برأسها متوترة:

_سامي! وما دخل سامي في الموضوع؟

_ لقد جاء إلي وطلب مني أن أسألها إن تقبله زوجا لكي يسافر إلى المغرب ويطلبها رسميا من أهلها.

جنون يرتعش تحت جلبابها، لم تستطع أن تستر استياءها، تمتمت وهي تهز رأسها هزة خفيفة:

_ والله شيء عجيب لم تمكث هنا شهرا كاملا حتى أوقعت سامي وجلال في شباكها.

أحست لطيفة بانزعاج في صدرها لتصرف لطيفة، جذبتها إليها وكأنها بذلك تريد الدفاع عني وقالت:

_ رأيت بعينيك كم هي منزوية على نفسها ولا تكلم أحدا إن لم يكلمها.

لم تتحمل لطيفة دفاع رشيدة عني، غضب حجب سواده بصيرتها وصرخت وهي ترتجف بارتباك:

_ لا، هذه الفتاة لا بد أن تغادر بيتكم في الحال.

كان قلبي يخفق بسرعة، لتلك التهم التي ُوجِّهَتْ إلي من غير سبب. مشاكل تنهال على رأسي متتالية من غير توقف. أين سأذهب ...؟ عندي نقود تكفيني للمكوث في أحلى فندق بالبلد أو لاستئجار شقة لكن ذلك معناه مغامرة مميتة. خرجت من الحمام واستأذنت رشيدة بالخروج للبحث عن العمل.

قالت ووجهها محمر خجلا:

_ انتظري حتى يأتي سامي لكي يذهب معك.

نظرت إليها لطيفة وهي تمسح من جبينها غضب البحر وقالت:

_ لتخرج لوحدها فهي لا تحتاج رقيبا.

غادرت المنزل متجاهلة لطيفة التي كانت ستنفجر غيظا من عدم اكتراثي لحممها. كنت خائفة في ذلك الصباح رغم عدد الأطفال الهائل الذين كانوا يلعبون بذلك الدرب الضيق. أمشي بخطوات سريعة كهارب من شيء إلى أن دخلت في شارع تحيطه منازل متلاصقة ببعضها. مازلت أمشي على الرصيف محاولة إيجاد سيارة أجرة حتى مرت سيارة سوداء من نوع المرسديس. أخرج شاب نصف جسمه من نافذة باب السيارة وضربني على قفاي ثم أسرعت السيارة والشاب ينظر إلي ويضحك. سمعت قهقهاته وكأنها رعد مفاجئ. إلتفت إلى يميني فإذا بي أرى رجلين مسنين جالسين على عتبة منزل ينظران إلي وهما في هستريا من الضحك. دنوت منهما وقلت: لعنة الله عليكما أيها العجوزان اللئيمان عوض أن تستهجنا ذلك التصرف المشين تضحكان أليس فيكما ذرة من الإنسانية؟ أو متى كان الحيوان إنسانا؟ قلت كلامي ومشيت بسرعة أهرول بين الدروب إلى أن وصلت إلى الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى داخل المدينة أترقب سيارة أجرة. السيارات تمر بسرعة كالبرق. وبعضها يقف أمامي، يخاطبني سائقها إن أردت الركوب معه ليوصلني إلى المدينة. ابتعدت عن الشارع فإذا بسيارة تدخل في الرصيف وتقف أمامي ويخرج سائقها رأسه من النافدة قائلا: "وين يبي الحلو يروح؟" خفت منه وابتعدت بسرعة فوجدت نفسي أمام باب كبير. كان واقفا بجانبه حارس شديد السمرة سألته:

_ ما هذا المكان؟

قال لي باللغة الفرنسية:

_ أنا لا أفهم اللغة العربية.

حاصرني جوابه. سألته إلى أي بلد ينتمي. رفع جسده تماما والتقط بأذنين متوترتين سؤالي وقال بصوت متهدج، أنا موريتاني.

_ غير معقول! موريتاني لا يتكلم اللغة العربية؟

اهتزت خطواته وأخرج حروفا مغتاظة.

_ موريتانيا ليست بلدا عربيا، والعرب فقط استعمرونا مثلما استعمروا شمال إفريقيا كلها.

تجنبت الغوص معه في معضلة إفريقيا والعرب. تكفيني معضلة سري الخطير فهو بالنسبة لي أخطر من قضية العرب وغير العرب. سألته عن تلك البناية التي يعمل فيها فقال لي إنها مركز دبلوماسي إفريقي. طلبت منه الدخول، فسمح لي بذلك. وجدت نفسي داخل مبنى كبير جدا وبيوت صغيرة تشبه بعضها وتحيطها الأشجار والزهور. أمشي ولا أعرف إلى أين متجهة، دخلت البناية الكبيرة واتجهت إلى أول مكتب. استقبلتني سيدة في الخمسينيات اسمها فلورانس، أخبرتها بأنني أبحث عن وظيفة فطلبت مني الذهاب إلى الطابق الثالث، أول مكتب على اليمين. شكرتها وهرولت إلى الطابق الثالث وفي طريقي كنت أقرأ البسملة مرات لأنها تفتح الأبواب لقارئها وتسهل له أموره، هكذا علمني أبي. تذكرت أبي وتذكرت عائلتي فشعرت بحنين يمزق قلبي. وصلت إلى الطابق الثالث حيث كان باب المكتب مفتوحا. اقتربت بخطوات بطيئة من الباب، رأيت رجلا جالسا على كرسي متحرك ورجلاه فوق منضدته منشغلا في محادثة هاتفية. لم أتحرك من مكاني حتى أنهى المحادثة، وما أن رآني حتى نهض بسرعة ثم قال وابتسامة على وجهه. أهلا وسهلا تفضلي، ماذا تريدين أن تشربي؟

_ لا شيء شكرا أنا فقط ...

_ لابد أن تشربي شيئا أولا، أنا لست بخيلا وثانيا الجو حار جدا هنا.

أحضر العصير من ثلاجة صغيرة بإحدى زوايا المكتب. كنت أختلس النظر إلى المكتب الواسع، نوافذه كبيرة تطل على الشارع، سجادة عجمية عسلية اللون، تلفاز وآلة طباعة كهربائية، بجانبها منضدة من خشب الأيك فوقها حاسوب وكأس مزخرف من العاج به أقلام وصورة له ولعائلته مزينة بإطار مذهب ويافطة مكتوب عليها اسمه ومهنته باللون الأسود. دكتور في العلوم السياسية ومترجم فوري.

_ بلغني من سكرتيرة المركز أنك تبحثين عن وظيفة هل أنت جديدة في البلد؟

_ قدمت إلى ليبيا منذ شهر ونصف لمتابعة الدراسة بالجامعة لكنني لم أستطع الالتحاق لتأخري عن موعد التسجيل.

أخرجت شهاداتي من حقيبتي وأعطيتها له. نظر إليها ثم قال مستغربا.

_ ما الذي جاء بك إلى هذا البلد؟

رويت له قصتي وسبب وجودي في ليبيا. تسلل الأسى إلى وجهه الأسمر وتلك الابتسامة التي كانت مرسومة على شفتيه اندثرت وقال:

_ الوضع هنا يختلف تماما عن المغرب، أتمنى أن تستطيعي التكيف هنا. هل تحسنين الضرب على الآلة الكاتبة؟

أومأت برأسي مشيرة بالنفي. ابتسم وقال:

_ لا تخافي هذه ليست مشكلة. تعالي عندي بعد يومين وسأصحبك إلى المدرسة.

رجعت إلى بيت العائلة المغربية وكانت رشيدة تهيئ الغذاء. بمجرد أن رأتني حتى خرجت من المطبخ وقالت:

_ رجعت بسرعة، هل وجدت وظيفة؟ أرى وجهك مشرقا.

_ نعم، سأتعلم فقط الضرب على الآلة وأبدأ العمل بمركز دبلوماسي بشارع كورجي الرئيسي.

كان جلال يجلس في الصالون مع لطيفة، أقبل إليّ مسرعا.

_ مركز دبلوماسي! بهذه السرعة ألف مبروك.

لحقت به لطيفة محتقنة وغضب متأجج يظهر على سحنة وجهها متخم حتى الثمالة، اقتربت مني وقالت بصوت قريب إلى الصراخ:

_ مبروك لم يعد لديك أية مشكلة سوى البحث عن مكان تسكني فيه فأنت قدها وقدود لا خوف عليك. تجمهر خجل واضح على سحنة وجه رشيدة مستنكرة ذلك التصرف. أما أنا فقد كان لدي الرغبة في أن أنفجر صارخة في وجهها إلا أنني عدلت عن ذلك زافرة بعمق. اتجهت إلى الغرفة وأخذت حقيبة ملابسي وكتبي وخرجت لتوديعهم. أسرع نحوي جلال وأخذ مني الحقائب. لا تخرجي من هذا البيت فأنت أصبحت واحدة منا. كانت لطيفة تقذف جلال بنظرات حادة كالرشاش وهو يمسك بحقيبتي رافضا أن أغادر البيت، ظلت مستسلمة للصمت برهة وعلى عينيها مسحة غضب ثم خرجت من دائرة صمتها تفحّ كالأفعى.

_ ما دخلك أنت؟

مازالت تصرخ حتى دخل سامي البيت وقال لها:

_ ما هذا الصراخ أسمع صوتك من خارج البيت.

قالت وقد بدأت تخرج من دائرة الاستحياء:

_ إنه جلال. عينه في غالية وانفجرت تبكي.

قال لها جلال:

_ إنك مجنونة حقا.

قال سامي موجها كلامه إلي:

_ ماذا جرى؟

_ ليس هناك قصة ولا حكاية إنني وجدت عملا وسأذهب للبحث عن شقة.

قال على عجل وبلهجة العليم بخفايا البلد:

_ لوحدك هذا انتحار يا غالية.

فقدت لطيفة أعصابها وقالت كالملسوع:

_ لماذا كل هذا الاهتمام الزائد بغالية فقد كنا مرتاحين.

قال سامي باستغراب وغضب:

_ بأي حق تتكلمين عن ضيفتنا بهذا الأسلوب إن كان أحد سيخرج من هذا البيت فهو أنت.

لم أحتمل ذلك الشجار حملت حقائبي وخرجت خجلة من كلّ الموقف، وخيل إليّ أن كل العيون تلتهمني وأوشكت أن أتعثر. تبعني سامي وجلال وأمسكا الحقيبة وأعاداني إلى البيت.

قالت لطيفة موجهة كلامها لرشيدة: انظري كيف يتسابقان عليها.

قالت رشيدة: لا يحق لك أن تتصرفي على هذا النحو، أنت ظلمت غالية.

تقلصت عضلات وجهها، لم تكن تتوقع من رشيدة مثل هذا التصرف، خفضت رأسها وقالت بنفس مكسورة وفم مزبد:

_ أنت أيضا في صف غالية والله لقد سحرتكم جميعا.

ـ أنا مع الحق وزوجي هو الذي استضافها فلن يقبل منك أبدا أن تطردي ضيفته من بيته.

لبست لطيفة جلبابها المغربي وغادرت بعد أن ضربت الباب بقوة أما أنا فكنت غارقة في لجة بحر من الوجوم. اقتربت مني رشيدة وضعت يدها على كتفي وامتلأ وجهها ابتسامة عذبة صافية وقالت:

_ كلنا أهلك أرجوك أن تنسي تصرف لطيفة.

غمغم جلال مفصحا عن استياء دفين:

_ يا لطيف كم غيورة هذه المرأة.

أسرعت صامتة بخطى مرتبكةإلى الغرفة، ارتميت فوق السرير وجسمي مكتظ بالحزن، وارتميت على جسدي المكتظ بالحزن ترتعش مفاصلي من الخجل وروحي منشطرة يبعثرها ضجيج وعلامات استفهام إلى أن غفوت.

بعد يومين ذهبت إلى المركز الإفريقي. كان الدكتور نبيل ينتظرني، ركبنا السيارة واتجهنا إلى المدرسة. باشرت التعليم وحصلت على الشهادة خلال شهر واحد بفضل مساعدة المعلمة المغربية التي كانت تبذل معي جهدا تلبية لتوصية الدكتور نبيل.

كرمه يربكني وأحيانا يخيفني، كتبت لعائلتي رسالة أخبرتهم فيها عن اهتمامه بي فكتب له والدي رسالة يشكره فيها على حسن معاملته لي وطلب منه أن يزورنا في المغرب إن سنحت له الفرصة. بعدما تلقى تلك الرسالة زاد من عنايته بي ومسؤوليته نحوي. كان يرافقني إلى المدرسة ويرجعني بسيارته بعد انتهاء عمله إلى بيت العائلة المغربية. كانت مشكلتي الوحيدة في تلك الفترة هي الجوع إذ لم يكن الطعام كافيا رغم أنني كنت أعطي لرشيدة نقودا كمساهمة مني في مصروف البيت. مرات أردت أن أخرج لأشتري ساندويتشا لكن شراءه يستوجب ركوب تاكسي أجرة أو حافلة وذاك ما كنت أتجنبه كي لا تحصل لي مشكلة. لم أنس مرة كنت جائعة جدا حيث أن الفطور كان قليلا كعادته. دخلت إلى المطبخ علني أجد كسرة خبز آكلها فإذا بي أرى سلة معلقة بجدران المطبخ بها خبز يابس أمسكت قطعة، بللته بالمرق الذي كان يغلي في الطنجرة ثم وضعته في فمي بسرعة كي لا يراني أحد فاحترق لساني. كنت أخجل كثيرا من نبيل وهذا ما جعلني لا أستطيع أن أخبره مشكلة جوعي لكنني لم أعد أتحمل لسعته فاضطررت أن أعترف له ذات يوم ونحن في طريقنا إلى بيت العائلة المغربية. أعطيته نقودا لكي يشتري لي ساندويتشا أبى أن يأخذ النقود مني توقف أمام محل الساندويتشات. أكلنا داخل السيارة ثم أوصلني إلى البيت.



سعادتي ترفرف بداخلي لاعتنائه بي. كان يلبسني الطمأنينة، كان لي الأخ والصديق وأحيانا أراه كالأب في عاطفته. كل يوم أجلس في مكتبه ساعات أتمرن على الآلة الكاتبة، همه أن أبتعد ولو قليلا عن بيت العائلة المغربية الذي لا يخلو من الزيارات الكثيرة. كنت أجد فوق المنضدة ساندويتشا مصحوبا بعلب شكولاطة والآيس كريم، وعندما يأتي من بيته كي يصحبني عند العائلة المغربية، يطرق باب الغرفة أربع دقات. كان لا يثق بأي أحد بالمركز خصوصا زميله الأوغندي الذي يخون زوجته مع السكرتيرة الحبشية فلورانس. سوزان صديقة حميمة للدكتور نبيل وزميلته في العمل، كانت في الأربعينيات من عمرها، لها ثلاث بنات. كنت أقضي معظم الوقت معهم في القرية السياحية، هناك نسبح ونقضي نهارنا بعيدا عن العيون المتربصة والمكبوتة. القرية السياحية عبارة عن ناد كبير جدا فيه جميع وسائل الترفيه للجاليات الأوروبية والأمريكية التي كانت تعمل في طرابلس. قضيت أياما جميلة مع سوزان وبناتها. كان زوجها كثير السفر وغيابه المستمر يحزنها وكانت تعرف بأن له علاقة مع فلورانس وغيرها، لكن لم يكن بيدها فعل شيء كانت تسعد كثيرا بلقائي. نثرثر في مواضيع كثيرة وأحيانا نخلط حوارنا بالفرنسية وغالبا ما كنا نزعج الدكتور نبيل إن أردنا أن نتحدث في موضوع خاص نستعمل اللغة الفرنسية التي لا يفهمها، فتراه يزمجر فينا وينهرنا ونحن نضحك على عصبيته. عاد أوسكار من السفر، كنت في المركز كعادتي أتمرن على الآلة الكاتبة. أقبل نبيل إلى المكتب وقال عن ضيق مكتوم نافضا رأسه بحركة تفصح عن استياء شديد.

_ لقد جاء أوسكار هذا الذئب الذي لا يترك فتاة إلا ويلعب بعواطفها أو يستغلها جنسيا، لكنني مضطر أن أقدمك له خاصة وأنك تزورين زوجته في بيته لكي يعرف أنك لست لوحدك.

دخل علينا أوسكار، طويل جدا، شديد السمرة، أنيق، بذلته البنية تخفي أحاسيسه المجهولة ورائحة عطره الباريسية تتطاير مجنونة مع ذلك المساء الدافئ. قال له نبيل.

_ هذه غالية ابنتي وأختي وصديقتي وصديقة زوجتك.

سلّم عليّ بابتسامة حذرة ثم غادر إلى مكتبه. قال نبيل بعدم اكتراث.

_ هكذا نكون قد أمنا شره.

أصبحت أيامي مطمئنة تتراكض بهدوء. ذات يوم وأنا عائدة من المدرسة إلى بيت المغاربة، وجدت لطيفة تساعد رشيدة في استحمام توأميها، سلّمت عليهما وذهبت إلى غرفتي أتأمل في صمت أحداث حياتي وغربتي ونفس السؤال في عمق أعماقي يراودني، هل من العودة يوما إلى أهلي ووطني إلى أن دخلت علي رشيدة وقالت بنبرة خجلة.

_ إن لطيفة رجعت رغم أنها غير مرغوب فيها وأنا لا أستطيع طردها، كما أن وجودها معنا قد يسبب لك إزعاجا وإحراجا لذلك فضلت أن تسكني مع أبي وزوجته فمنزلهما قريب منا جدا ويمكنك أن تزوريني في أي لحظة شئت.

حرارة سرت في وجهي وحزن لفّ أوصالي قلت لها.

_ سأبحث عن شقة أستأجرها، لا أريد أن أكون سبب إحراج لنفسي أو لغيري لذلك أفضل البحث عن شقة أستأجرها.

كنت أرى في وجهها حزنا وخجلا مازال مرتسما على وجهها. هذا مستحيل! سأغضب كثيرا إن لم توافقي على اقتراحي.

في صباح اليوم التالي، تركت رشيدة توأميها مع لطيفة ورافقتني إلى بيت أبيها. طوال الطريق كانت تتحدث عن أبيها وزوجته أما أنا فكنت هائمة أفكر في حالي التي ما زالت تتنقل من بلد إلى آخر ومن فندق إلى آخر ومن بيت إلى آخر فبكيت بصمت إلى أن وصلنا إلى منزل أبيها الحاج. كان البيت يعج بإخوة رشيدة، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة سنة. المنزل كبير بالمقارنة بمنزل عبد اللطيف؛ له خمسة أبواب لخمس حجرات مفتوحة على صالة بعرض ثلاثة أمتار، يسدها حائط الجيران، في إحدى زوايا الدار كان باب المطبخ وفي ركن المطبخ فرن كبير للخبز وبجانبه فرن للطبخ، حجزت منه مساحة كبيرة، بسقف المطبخ يتدلى سلك للمبة كهربائية سوداء. خرج الأب من غرفته رحب بنا، دخلنا إلى الصالون الذي كان يذكرني كثيرا بصالون البيوت الريفية في المغرب، تتوسطه حصيرة على الأرض ومائدة مستديرة فوق الحصيرة. أقبلت علينازينة سلمت علينا بحرارة. امرأة في الثلاثينيات من عمرها، قصيرة القامة، مليئة البدن، شديدة البياض، طويلة الشعر، يظهر متدليا نصفه من تحت منديل مزركش الألوان أما زوجها فكان في الخمسينات من عمره، طويل القامة مليء البدن، أسمر البشرة، يظهر عليه الوقار. كان يحدثنا بابتسامة تعلو على تجاعيد وجهه المتوتر ويده لم تكف عن مسح العرق السائل بغزارة على خديه وعلى عنقه. التفت إلى زوجته فأجابته بسرعة قبل أن ينبس ببنت شفة.

_ إن حسناء ستحضر الشاي.

بعد نصف ساعة تقريبا أقبلت علينا بنت في سن الرابعة عشرة وفي يدها صينية الشاي والرغيف. إنها حسناء أخت رشيدة من أبيها وبنت زينة البكر سلمت علينا وانصرفت. ثم ذهبت مرة ثانية إلى المطبخ لتحضر الرغيف. شربنا الشاي وأكلنا ذلك الرغيف المغمس في العسل. حملني طعمه إلى منزلنا في المغرب فتذكرت عمتي. كانت العائلة تعرف أنني سأمكث معها لأن رشيدة لم تخبر أباها ولا زوجته بشيء أمامي، بعدما شربنا الشاي ودعتنا وانسحبت من الغرفة. لحقها أبوها على عجل بما يشبه الهرولة، أما أنا فكنت منشغلة في الإجابة على أسئلة زينة، تريد من أسئلتها تقريرا كاملا عن أحوال المغرب وأهل المغرب كما أخبرتني أن عائلة مغربية تسكن معهم في المنزل. السيد زكي وزوجته منى يسكنان في إحدى الغرف بالبيت. رجع والد رشيدة ورحب بي ثم اختفى في غرفته التي يخيط فيها الجلابيب المغربية وأغلق الباب. رافقتني زينة إلى الغرفة التي يسكن فيها الزوجان. طرقت الباب ففتحت لنا السيدة منى مرحبة بقدومنا. دخلنا الى الغرفة نورها خافت، تنبعث منه رائحة التراب، في الغرفة سرير مزدوج وستار أبيض يحجب السرير والنصف المتبقي من الغرفة تتوسطه سجادة صغيرة بنية وفي الجانب الآخر من الغرفة توجد خزانة مليء نصفها بالملابس والنصف الآخر وضعت فيه أواني المطبخ وبالقرب من الخزانة قنينة غاز صغيرة يطبخون عليها طعامهم، في تلك الغرفة الصغيرة يقضيان وقتهما عندما يرجعان من العمل، ليس لهما اختلاط بأحد ولا حتى بزينة وزوجها الحاج. إقامتهما في ليبيا لجمع المال لبناء منزل في المغرب وفتح مشروع يعيشان منه. قضيت أياما مطمئنة في بيت الحاج أحمد. ارتحت فيها من سامي ومن جلال وخاصة لطيفة التي كانت لا تطيقني. كنت أقضي طيلة النهار في المدرسة وفي المركز الدبلوماسي عند سوزان وبناتها ولا أرجع لبيت الحاج أحمد إلا في المساء.

أنهيت دورة تعليم الضرب على الآلة الكاتبة فأخذت الشهادة ولم يبق أي عائق يحول بيني وبين مباشرة العمل بالمركز الإفريقي. فرح نبيل، وبتلك المناسبة دعاني أنا والمعلمة المغربية للعشاء احتفالا بنجاحي. كان في قمة السعادة وكأنه هو الذي حصل على تلك الشهادة. قال مبتسما.

_ بمجرد ما تعود مديرة مكتبة المركز من ألمانيا سأخبرها عنك. تعرفين الكاتبة فلورانس التي قابلتها أول مرة، أنا الذي توسطت لها في الوظيفة وحتى الآن مازلت أساعدها في أمور كثيرة أما المسئولة عن مكتبة المركز فهي سورية ومتزوجة من ليبي. إنها امرأة طيبة ولا أعتقد أنها ستمانع في توظيفك، خاصة وأننا نحتاج لمن يشرف على المكتبة. كما أن معنا سيدة مغربية من مدينة فاس متزوجة من ليبي، سأعرفك عليها. اسمها زاكور رجاء.

في اليوم التالي، أخذني إلى مكتبها. وقفت مرحبة بي، أما الدكتور نبيل فقد تركنا وحدنا وغادر إلى مكتبه. أحسست بدافع لم أستطع مقاومته للتعرف عليها، ربما الشوق إلى أهلي. كانت السيدة رجاء في الأربعينات، وجهها مألوفا شديدة البياض، طويلة، مليئة البدن، خصلات شعرها الأشقر متهدلة على جبينها، تلبس جلبابا مغربيا مطرزا أضفى على جمالها رونقا وصفاء. نظرت إلي وقالت:

_ هل أنت من مدينة فاس؟

قلت على عجل: نعم، وأمي مدرسة بمدرسة سكينة بنت الحسين اسمها بدرية عصام.

_ الأستاذة بدرية عصام؟ هذا غير معقول! لقد كانت معلمتي في الصف السادس.

تعجبت لتلك الصدفة، فكل الصدف والأحداث التي تواجهني في حياتي كأنها حلم أو خيال. ودعت السيدة رجاء وذهبت إلى بيت سوزان داخل المركز. كنت أنتظر قدوم تلك السيدة السورية من السفر على أحر من الجمر، معلقة آمالا كبيرة على تلك الوظيفة، بانية أحلاما جميلة. سأعمل سنة أو سنتين ثم أسافر إلى أمريكا لإنهاء الدراسة هناك. أصبح حلمي يتحقق شيئا فشيئا. في الفترة التي كنت أنتظر فيها قدوم المسئولة التي ستوظفني، كنت أزور المعلمة المغربية في بيتها، كانت تعيش في بيت وسط المدينة، قريباً من الساحة الخضراء. لها بنتان؛ واحدة في العاشرة والثانية في السابعة، من طليقها الذي يسكن معها بنفس البيت، لكنه متزوج من امرأة ثانية وله أولاد منها وكلهم يعيشون تحت سقف واحد. الشيء الذي كان يحيرني والذي لم أكن أستطيع فهمه أن المعلمة لها علاقة جنسية مع شاب مغربي، عاطل عن العمل يظل تقريبا في البيت طوال النهار. مرة سألتها:

_ ما رأي زوجك في علاقتك مع ذلك الشاب؟

قالت: لا دخل له في حياتي، ما كان بيننا قد انتهى. فكل منا له حياته الخاصة الآن. إنه يحتاج مساعدتي دائما رغم انفصالي عنه. إنه يستورد من المغرب التوابل وبعض أدوات الغسيل التقليدية المغربية وعندما تحجز تلك البضاعة بالمطار، يطلب مني أن أتوسط له لإخراجها من غير ضريبة.

_ هل سبق لك أن اشتغلت في المطار؟

_ كلهم يعرفونني، ولا يستطيعون أن يرفضوا لي طلبا.

ضحكت عن أسنان متآكلة: أنت يا غالية مازلت ساذجة وليست لديك خبرة في الحياة.

_ ماذا تقصدين؟

_ إنك تضيعين الفرص من يدك دائما. ضيعت فرصة لا تعوض مع سمير فارس أحلامك الذي أتاك وكأنه حلم يقظة، والآن تضيعين فرصة ثانية.

ـ هل تقصدين الوظيفة؟

- إنني أنتظر قدوم تلك السيدة المسئولة عن توظيفي.

ـ ألم أقل لك بأنك ساذجة أنا لا أتكلم عن الوظيفة، أعني الدكتور نبيل إنه مترجم فوري بمركز دبلوماسي وعنده أموال كثيرة.

رفعت وجهي مندهشة: وما دخل سذاجتي بوظيفة الدكتور نبيل وأمواله؟

ـ إنه يحبك يا غالية.

ـ هذا مستحيل. إنه متزوج وله خمسة أولاد، أكبرهم سنا يصغرني بثلاث سنوات. وهو يعاملني كواحدة من أبنائه.

_ ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليك خاصة عندما كنا نتعشى في الفندق وكيف كان يتحدث معك، إنه مغرم بك، يكفي أنه يعرف بأنك لا تحبين الخروج معه لوحدك بالسيارة فيضطر لأخذنا معه أنا وبناتي أو مع العائلة الأوغندية إلى أفخم المطاعم كل هذا لكي يراك فقط.

_ لا أصدق، مستحيل، إنه يحبني كأحد أبنائه.

_ مادام يحبك ذلك الحب الذي تقصدينه فلماذا لا تطلبي منه أن يشتري لك ذهبا.

_ أنا لا ألبس الذهب ولا أحتاجه وهو ليس وليّ أمري لكي أطلب منه شيئا.

_ أطلبي منه مائة وخمسين دينارا.

_ لماذا؟

_ أريد أن أشتري ثلاجة.

انتابتني نظرة عدوانية وأنا ألتقط كلامها بأذنين واحدة من طين وأخرى من عجين، شعرت بسخونة في وجهي وبحرج وخيبة أمل من تلك المعلمة التي كنت أعزها وأحترمها. غادرت منزلها في صمت ورجعت إلى بيت الحاج. وجدت زينة منهمكة في غسل الملابس والسيدة منى مقرفصة أمام قنينة الغاز الصغير تقلي السمك. أشارت لي بيدها، اقتربت من غرفتها، سلّمت عليّ وقالت:

_ غالية، أريدك أن تتناولي الغذاء معنا.

_ ليس عندي مانع فرائحة السمك دغدغت شهيتي للأكل.

دخلت إلى تلك الغرفة الصغيرة فرأيت زوجها لأول مرة جالسا على السجادة وبيده جريدة عربية. كان بشوشا لطيفا، يكبر زوجته بعشر سنوات تقريبا، شعره أبيض ولحيته طويلة بيضاء ومنفوشة. وضع جريدته بجانبه وقال: أهلا وسهلا بك يا غالية، لقد تحدثت عنك زوجتي كثيرا، تعجبت كثيرا عندما قالت لي بأنك كنت تدرسين في أمريكا فلماذا يا بنتي جئت إلى هذا البلد ولوحدك؟

_ إنني لم آت لهذا البلد وحدي. لقد جئت مع عائلة مغربية لكنني لم أستطع العيش معهم.

_ لا عليك يا ابنتي إن الناس معادن فأنت الآن معنا، واحدة منا في بيت الحاج وبيتنا.

احمر وجهه وأطرق برأسه وقال: صحيح نحن نسكن في إحدى غرف منزل الحاج، لكن هذه الغرفة اعتبريها غرفتك واعتبريني أنا وزوجتي عائلتك، إن زوجتي ماهرة في الطبخ لذلك تزوجتها. التفت إلى زوجته مبتسما وقال:

_ أليس كذلك يا منى؟

ضحكت وقالت: هل تزوجتني لأجل مهارتي في الطبخ فقط؟ سأضرب عن طبخ الطعام إذا.

ارتحت كثيرا لمنى وزوجها، كانا في قمة الطيبة والكرم وكانت فعلا ماهرة في صنع الطعام وتقديمه بطريقة فنية على المائدة. تلك المائدة الصغيرة والمستديرة تكون ممتلئة بصحون صغيرة مشكلة بأنواع السلطات، بجانبها وجبة رئيسية عكس زينة التي كانت تضع كل يوم إما الأرز أو العدس أو المكرونة في طنجرة كبيرة مخلوطا باللحم والخضار والفلفل الأحمر الحار، ثم تضعه بعد أن يستوي في صحن كبير جدا يجتمع عليه أولادها وزوجها كالذباب. كنت نادرا ما آكل معهم لأن طبخها يؤلمني في معدتي بسبب التوابل الحارة والإكثار من الزيت.

ذات يوم رجعت من المركز الإفريقي إلى بيت الحاج، وجدت زينة جالسة بعتبة الصالة على ركبتيها وكوعا يديها على الأرض كقطة برية. كان وجهها أصفر وجسمها يرتعش من الغضب. اقتربت منها وقلت:

_ ما بك يا زينة؟

صرخت وجسمها يرتعش من الغضب:

_ إنها منى وزوجها لا يريدان أن يخرجا من بيتنا. إننا نحتاج لتلك الغرفة ولو أنها أصغر الغرف في البيت. عندما أخبرت منى بأننا نريد الغرفة انقضت علي، تريد ضربي لكنني ضربتها ضربا لن تنساه قط في حياتها.

_ هذا غير معقول يا زينة. هذا ظلم!

_ لماذا ظلم؟ نحن الذين أدخلناهم إلى منزلنا وأعطيناهم تلك الغرفة ونحن الآن نريد استرجاعها. هل هذا حرام؟

_ لكن البيت ليس بيتكم، إنه بيت الليبيين. هل تريدون أن يضحكوا عليكم؟

_ إن زوجي يريد أن يضع تلك الجلابيب التي يخيطها في الغرفة التي تسكن فيها السيدة منى وزوجها، لأن ليس لديه مكان في الغرفة التي يعمل فيها.

_ لكن هذا حرام يا زينة. أين سيقيمان إن أخرجتموهما من هذه الغرفة؟

_ هذه ليست مشكلتنا.

ما زالت زينة تتحدث إلي بعصبية حتى دخل زوجها ومعه خمسة من الشرطة الليبية. خرج السيد زكي وزوجته من الغرفة عندما سمعا صوت الشرطة، فاقتربت زينة كالأسد يريد الانقضاض على فريسته كما اقترب الحاج إلى السيد زكي وهو يزمجر. كان الحاج طويلا جدا وضخم الجسد عكس السيد زكي الذي يظهر أمامه نحيلا قصيرا. علت الأصوات بينهم أوقفهم قائد الشرطة وسمع كلام السيد زكي وزوجته، كما سمع ادعاء السيدة زينة وزوجها الحاج أحمد. كنت واقفة أنظر من بعيد كيف ستنتهي المعركة وكيف ستتصرف الشرطة الليبية تجاه هاتين العائلتين المغربيتين. تفقد الشرطي غرفة السيد زكي، فتفاجأ لما رأى. غرفة صغيرة قسمت إلى غرفة نوم وغرفة جلوس ومطبخ فقال للحاج:

_ العدل هو أن تعطي للسيد زكي غرفة أخرى مجاورة للغرفة التي يسكن فيها.

جن جنون الحاج، وبدأ يزمجر ويقول هذا ليس عدلا. قال له قائد الشرطة:

_ اخرس! فنحن متسامحون معك كثيرا إن رفضت هذا العدل فنحن سنغيره بواحد أحسن منه.

قال الحاج بعصبية:

_ ما هو هذا العدل الذي هو في نظرك أحسن من هذا؟

قال قائد الشرطة:

_ تترك البيت كله للسيد زكي.

قال الحاج وقد شحب وجهه:

_ وأين سأسكن أنا وأولادي؟

قال قائد الشرطة:

_ ابحث لك عن بيت آخر.

غادرت الشرطة المنزل بعد أن وافق الحاج مرغما أن يعطي السيد زكي غرفة ثانية. لكن السيد زكي قال وابتسامة مرسومة على وجهه.

_ أنا لا أريد غرفة ثانية ولو أن التي أسكن فيها صغيرة جدا ويستحيل السكن فيها على هذا النحو.

قال كلامه ودخل إلى غرفته مع زوجته وأغلقا الباب. أما الحاج أحمد فقد شعر بالانهزام فلم يتحمل فشله الذي سبب له انهيارا مفاجئا فوقع على الأرض يتمرغ في الأرض واللعاب يخرج من فمه كرغوة الصابون وزوجته تصرخ بصوت عال: النجدة! النجدة! الإسعاف! الإسعاف! إن زوجي يموت. خرج السيد زكي وزوجته من غرفتهما فوجدا الحاج ينتفض كالخروف المذبوح وسط الدار. هرول بسرعة خارجا ليتصل بالإسعاف وفي أقل من نصف ساعة وصلت سيارة الإسعاف وحملته إلى المستشفى. مكث الحاج أسبوعا كاملا هناك إلى أن استرجع صحته وعندما رجع إلى منزله توافدت كل عائلته ابنته رشيدة وزوجها عبد اللطيف، ملكة أخت رشيدة وزوجها السوداني، جلال وسامي وخالها السيد رءوف وزوجته ولطيفة الممرضة كلهم جاءوا ليطمئنوا عليه.

انتهت الحرب الباردة بين الحاج أحمد وزوجته والسيد زكي وزوجته حيث قبل الأول بالخضوع للقانون الذي صدر من الشرطي وعادت المياه إلى مجاريها كما كانت.

ما زلت أتردد على سوزان والدكتور نبيل منتظرة قدوم مسئولة المكتبة. لم يعد نبيل يحتك كثيرا بزملائه في المركز، كل يوم بعد انتهاء دوام عمله يأخذني مع سوزان وبناتها الثلاث إلى القرية السياحية أو إلى مسبح أحد الفنادق. لاحظ موظفو المركز هذا الاهتمام الزائد عن حده حيث افتقدوا نبيل الذي كان صديق الكل خدوما لهم في أي وقت يحتاجون المساعدة، افتقدوه عند ظهوري فأصبحوا ينفرون مني عندما يرونني. بل أصبحت الأصابع تشير إلي وكأنني سلبت منهم شيئا ثمينا. لا أريد أن تكون صداقتي مع نبيل مبنية على افتقاد الآخرين لها. لم أنس مرة وأنا ذاهبة لزيارة سوزان، رأيت فلورانس. مسئولة قسم المؤتمرات والمغربية رجاء تنظران إلي بعينين مليئتين بالحقد، يتهامسن فيما بينهن ويلتفتن إلي. واصلت طريقي إلى بيت سوزان ورويت لها ما لاحظته. ضحكت وقالت.

_ يعتقدن أنك مثلهن انتهازية. في نظرهن انتزعت منهن نبيل الذي يخدمهن في كل شيء. فتواجدك في المركز معناه افتقادهن له.

_ وما دخلي أنا؟

_ يا غالية، أنت مازلت صغيرة ولا تفهمين قانون اللعبة هنا. كلهن حصلن على الشغل بالمركز عن طريق الوساطة أو العلاقة غير الطبيعية مع المسئولين كما أن فرصتك بالعمل معهن ترعبهن حيث أنك أصغرهن سنا وتجيدين خمس لغات وهذا يخولك الحصول على مركز أعلى من مركزهن وهن اللواتي اشتغلن بالمركز منذ سنين.

_ أنا لا أريد مركزا كبيرا بقدر ما أريد أن أحصل على نقود تساعدني في متابعة الدراسة في أمريكا.

_ هن لا يعرفن هذا الشيء. وحتى إن عرفن فوجودك معهن في العمل سيفقدهن أشياء كثيرة من ضمنها تسليط الأنظار عليهن. إن موظفي المركز الإفريقي يتسابقون على النساء الجميلات هنا ولك أكبر مثل: علاقة زوجي مع فلورانس الحبشية.

_ لماذا لا توقفي تلك الحبشية عند حدها؟

_ إن الخطأ ليس خطأها ولكنه خطأ زوجي الناكر للمعروف.

_ لماذا لم تتحدثي مع زوجك في الموضوع وتنهي المشكلة؟

_ لا أستطيع أن أفعل شيئا، رضوخي لهذا الواقع المر هو بناتي لا أريدهن أن يفقدن والدهن.

رجعت المسئولة السورية من ألمانيا واستأنفت عملها بالمركز وبعد يومين استدعاني نبيل إلى مكتبه ثم توجهنا إلى مكتبها.

_ ماذا يريد صديقي العزيز هذه المرة؟

_ لي طلب صغير جدا.

_ تكرم عيونك، شو بدك؟

_ هذه الفتاة من المغرب جاءت إلى ليبيا لمتابعة الدراسة في الجامعة لكن فاتها وقت التسجيل. تحصل على شهادة الليسانس أدب إنجليزي كما أنها تجيد اللغة الفرنسية والإسبانية والعربية والبربرية لغة القبائل المغربية التي نتعامل معها ومع مشاكلها كتعاملنا مع مشاكل القبائل الإفريقية.

_ ممتاز، عندي وظيفة لها في المكتبة حاليا.

التفتت إليّ مبتسمة وقالت:

_ الدكتور نبيل لا يمكنني أن أرفض له طلبا. مرحبا بك معنا في المركز.

لم تسعني الفرحة ولم أستطع أن أتمالك نفسي. وقفت فرحة وشكرتها جزيل الشكر، ثم خرجنا من مكتبها.

التفت إلي الدكتور وضحك ضحكة تملؤها الحياة وهو يهز قبضته في الهواء وقال:

_ أهلا وسهلا بك معنا في المركز وبهذه المناسبة سنتعشى اليوم أنا وأنت في الفندق الكبير. انتظريني في بيت سوزان.

انتهى دوام نبيل في المركز ثم ذهبنا مباشرة إلى الفندق. تعوّد علينا موظفو المطعم. بقدر ما يتزايد ترددنا على الفندق، يتزايد اهتمامهم بنا والسعي من أجل راحتنا. منذ اليوم الذي تعرفت عليه كنت أخرج معه ومع سوزان وبناتها أو مع المعلمة المغربية وبناتها. هذه المرة دخلت في زحام الأفكار، خرجتُ منها قليلا أما هو فكان الزهو يملأ صدره، نظر إلي وقال:

_ هل أنت سعيدة؟

_ نعم، أنا في قمة السعادة، لا أعرف كيف سأرد لك جميلك هذا.

استجاب بابتسامة هادئة وإيماءة من رأسه قائلا: يا غالية، هذا أقل شيء يمكن أن أقدمه لك.

_ عندما أبدأ العمل وأتلقى أجرتي سأرد لك كل دينار أنفقته علي.

ابتسم وقال: هذه إهانة يا غالية نحن السودانيين أناس كرماء نحسن الضيافة ولا ننتظر المقابل.

_ لكن هذا الكرم كثير جدا. و ...

قاطعني وقال:

_ الآن يجب أن نتكلم في المهم. ستبدئين العمل في هذا البلد، يجب عليك أن تكوني حذرة جدا. الخروج لوحدك ممنوع. البنات والنساء يتعرضن يوميا للاغتصاب والحرق. إن أردت الخروج أو التنزه فلابد أن يكون معك أحد أفراد العائلة المغربية أو أنا. إن أردت شراء بعض الحاجيات التي قد تحتاجينها من ملابس فيمكنني أن أرافقك بكل فرح.

أحضر النادل العشاء وضعه على الطاولة وانصرف. هز نبيل رأسه مبتسما وأشار بيده أن آكل واستمر في النصائح والتحذير وبعد تناول العشاء اتجهنا إلى صالون الفندق لنشرب القهوة العربية. شعر بارتباكي، رفع فنجان القهوة إلى فمه يرتشفها بصوت مسموع ويتحدث عن العمل في المركز وعن نفسه وأسفاره إلى الخارج أما أنا فشردت بعيدا أنظر إلى تلك الطاولة التي كنت أجلس حولها مع سمير متذكرة يوم لجأت إليه هاربة من طلقات الضياع. نبيل يحدثني وأنا أعيش لحظة وصولي إلى الفندق واللقاء بسمير إلى تواجدي في سريره منهوكة القوى وإلى وداعه لي في بيت عبد اللطيف. نزلت دمعتان على خدي، مسحتهما بسرعة. انتبه نبيل لشرودي وقال:

_ ما بك يا غالية؟ إن كنت لا تحبين المجيء إلى هذا الفندق فلن نأتي إليه مرة ثانية. كلما جئنا إلى هنا تشردين بعيدا ويظهر من عينيك حزن العالم كله.

خرجت عن صمتي وانتزعت كلمات من شفتين فاترتين:

_ إنه يذكرني بفندق في المغرب كان أبي يأخذنا إليه في بعض المناسبات، نفس الديكور ونفس التصميم.

_ إن الفنادق العالمية لها نفس التصميم يا غالية، سواء كانت هذه الفنادق في الغرب أو في إفريقيا.

_ هل يمكننا أن نذهب الآن؟ لا أريد أن أرجع متأخرة إلى بيت المغاربة.

طوال الطريق، كان يقود السيارة ويتحدث معي عن مبدأ الإنسان في الحياة، وأن هدفه ليس مزاحا، وأن الإيمان بالوصول ليس بالأحلام والتمني وإنما بالجد والمثابرة إلى أن وصلنا إلى بيت الحاج أحمد. كنت أستمع إليه محركة رأسي مبدية الاتفاق معه وأنا فعلا أؤمن بكل كلمة يقولها إلا أنني كنت أراه وكأنه صورة طبق الأصل من أبي عندما يبدأ في تلقيننا درسا في الأخلاق.

بعد ثلاثة أيام، ذهبت لزيارة سوزان، كان يظهر عليها القلق والارتباك. وجدتها في الحديقة تسقي الأزهار تحت شمس ذلك الخريف، كاتمة أنفاس وحدتها، سألتها عن سبب عصبيتها فغمغمت بكلمات في صورة غير مستفهمة:

_ اتصل بي الدكتور نبيل وقال لي بأنه يريد أن يراك بعد دوام شغله.

كنت قلقة أفكر في الحوار الذي جرى بيني وبين سوزان لم أفهم شيئا منه إلا أنني كنت أنتظر الدكتور نبيل على أحر من الجمر. لا يمكن أن يهدأ لي بال حتى ألتقي به وأعرف ما الأمر. عادة أحب الجلوس في حديقة سوزان الجميلة بورودها المختلفة والمتعددة الألوان وبشجرة أيكها المظللة وشقشقة الطيور. هذه المرة لم أكن أر أي شيء في وسط الحديقة ولا حتى سوزان التي كانت تتحدث إلي. فقط أستمع لأفكاري التي لا تستقر على حال. رن جرس الهاتف، حملت سوزان السماعة.

_ أهلا يا دكتور نبيل ... طيب سأخبرها. وضعت السماعة وقالت:

_ إن نبيل ينتظرك أمام باب المركز.

حملت حقيبتي واتجهت إلى الباب الخارجي، وجدت نبيل ينتظرني في سيارته.

_ مساء الخير غالية هيا بنا إلى القرية السياحية.

_ ماذا سنعمل في القرية السياحية؟

_ عندما نصل إلى القرية السياحية ستعرفين السبب.

كان يقود سيارته بسرعة وسط شحوبي الذي لا ينتهي، أحسها تتمايل في اكتئاب ببطء وصوت الخوف يعوي في داخلي من جديد. بعد نصف ساعة أوقف السيارة داخل القرية السياحية. توجهنا إلى المطعم الذي اعتدنا الجلوس فيه. كان متوترا وحزينا ينظر إلي في صمت، تنهد وكلماته تمزق ملامح وجهه. لقد تراجعت المسئولة عن كلامها، اتصلت بي هذا الصباح وقالت بأنها لن تسلمك الوظيفة.

_ يعني أن كل هذا الانتظار ذهب سدى.

_ فلورانس الحبشية والمغربية رجاء وأتباعهن من السكرتيرات الموجودات عندنا في المركز هن السبب.

أمسك كلتا يديّ محاولا أن يهدئ من روعي وقال مبتسما:

_ إنها ليست نهاية العالم.

_ لكن، لماذا؟ أنا ... لم أفهم شيئا!

_ لقد افتقدن نبيل الذي كان خدوما لهن وكنت أحسبهن أكثر من زميلات عمل وخصوصا السورية مسئولة المكتبة لكن صداقتهن كانت زائفة.

_ لكن ما دخلي أنا؟

_ إنهن يعتقدن أن صداقتي لك قطعت علاقتي بهن.

أحسست بالاختناق وخيبة الأمل في تلك اللحظة لا أريد سوى أن أصرخ بصوت عال، علّ الصرخة تخفف عن قلبي ثقله، لكنني تمالكت أعصابي وخنقت تلك الصرخة كي لا تخرج، نزلت دموع من عيني، وضعت راحة يدي على وجهي كي لا يراها نبيل. أريد أن أبكي، ربما البكاء يخفف عن قلبي الذي يعتصر من الإحساس بالظلم والحقد الذي يعشش في نفوس أكثر الناس. علقت آمالا كبيرة على تلك الوظيفة التي ستكون جواز سفري للرجوع إلى أمريكا. أخرج منديلا، امسحي دموعك. إنها ليست نهاية العالم وإن الفرص أمامك كثيرة جدا. تعرفين يا غالية ظهورك في حياتي فتح عيني على أشياء كثيرة، وأظهرهن على حقيقتهن وأنت يا غالية سأستمر في مساعدتك ومساندتك حتى تصلي إلى هدفك وثقي بأنني لك أخ وصديق. لم تكن لديّ الرغبة في تلك اللحظة للذّهاب إلى بيت المغاربة ولا في الجلوس بالمقهى ولا في الحديث معه ولا حتى في الخلو مع نفسي، اسودت الدنيا في عيني وكأنه فعلا لا توجد وظيفة في كل طرابلس.

_ غالية أنت مازلت صغيرة والحياة أمامك طويلة جدا، بعد أربعة أشهر ستبدئين الدراسة في الجامعة وذلك هو الأهم.

_ لا أستطيع أن أجلس أربعة أشهر بدون فعل شيء، إن الضجر يأكلني و التفكير بس…

_ ماذا قلت؟

_ لا شيء فقط أتعجب من قدري الذي لا يستقر على حال.

ابتسم وقال: هكذا أحب أن أراك قوية الإرادة لا تعرف الهزيمة واليأس.

كان يحدثني ويواسيني، أما أنا فشردت بعيدا ولم أعد أسمع ما يقول. أرى شفتيه تتحركان وتنطبقان على بعضهما ويديه تلوحان من فترة لأخرى ورأسه يتحرك بين الحين والآخر، أحاول حلّ لغز حياتي التي كنت كلما أخوضها تسعدني في البداية ثم تحزنني في النهاية. تنبه لشرودي أمسك بيدي فشعرت بفزع وكأنني استيقظت من كابوس مخيف.

_ إلى أين سرحت بأفكارك يا غالية؟

_ تعرف! ابتداء من الغد سأبدأ في البحث عن العمل.

_ طيب. لكن حاولي أن تهدئي واشربي كأس العصير.

أمسكت كوب العصير بكلتي يديّ كي لا يقع مني، أرشفه شيئا فشيئا وأنا أرجف من الخوف من المستقبل، أما هو فكان ينظر إليّ بعينين حزينتين وعلى شفتيه ابتسامة مصطنعة.

_ ما رأيك في أن نتعشى في الفندق الكبير؟

_ ليست لي رغبة في العشاء أريد فقط أن تأخذني إلى بيت الحاج أحمد. أحتاج إلى الخلو لنفسي.

_ يمكنك أن تأخذي مفاتيح بيتي وتقضي الليلة مرتاحة بعيدة عن ضجيج أولاد الحاج أحمد. سأقضي الليلة عند صديقي الدكتور محمود سأعرفك عليه غدا، إنه مرح يحب المزاح ويحب الشعر مثلك رغم أنه أستاذ في الفيزياء.

_ لا داعي لتزعج نفسك سأذهب إلى بيت الحاج فأنا تعودت على ضجيج أطفاله.

انطلقنا إلى بيت الحاج، كنا طوال الطريق صامتين إلى أن وصلنا. كان الباب مفتوحا، يعج بأطفال كثيرين، أبناء الحاج وخمسة آخرون والأصوات مختلطة وعالية تأتي من غرفة الصالون. وقفت أمام الباب خجلة. نظرت إلي زينة وهي تبتسم، كانت فرحتها كبيرة.

_ ادخلي يا غالية وسلمي على أختي زهرة وزوجها وأبناء عمي عماد ويوسف وأحمد لقد وصلوا اليوم من المغرب، سيقيمون عندنا إلى أن يجدوا عملا هنا في طرابلس.

سلمت عليهم وجلست بجانب زينة التي كانت تصب الشاي وفي نفس الوقت تنهال على أختها بأسئلة لا حدود لها عن أحوال كل فرد من أفراد عائلتها في المغرب. أما الحاج والشبان فكان الحوار بينهم عن أحوال المغرب السياسية وعن فرق كرة القدم الجديدة وأنا كنت أحدث نفسي متسائلة أين سأنام الليلة. في المنزل خمس غرف. الصالون الذي أنام فيه وغرفة الحاج وزينة وغرفة ينام فيها الأولاد والغرفة التي يسكن فيها السيد زكي وزوجته والغرفة التي يعمل فيها الحاج أحمد وهي مليئة بالأثواب وآلة الخياطة. مازلت أسبح في موج أفكاري وأطفو على تشردي حتى قطعت حبل أفكاري زهرة أخت زينة:

_ هل أنت سودانية؟

_ إنني سودانية مغربية وموريتانية.

التفتت إلى أختها زينة مستغربة، منتظرة منها أن تشرح لها غموض جوابي. قالت لها زينة وهي تضحك:

_ إن أب غالية موريتاني وأمها من السودان لكن والديها يقطنان في المغرب وغالية ولدت في المغرب.

قالت زهرة مجاملة:

غالية مغربية وبنت بلدنا.

اقتربت من زينة وأخبرتها بأنني سأقضي الليلة عند صديقتي سوزان. فأجابت بسرعة ومن غير تردد:

_ سيكون أفضل.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-11-13, 09:53 PM   #10

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الفصل الثامن



دمعة ضائعة



الشمس أخذت معها دفء النهار، والبرد يزحف ببطء مع سواد الليل. المركز الإفريقي يبعد عن بيت الحاج حوالي أربعين دقيقة مشيا على الأقدام . أطلقت رجليّ للريح من غير توقف، ألهث ومخاوفي جثت تتساقط من سعفات عرق بارد. لم تمر ربع ساعة حتى كنت أمام باب المركز. فتح لي الحارس الباب فدخلت مهرولة إلى أن وصلت أمام باب فيلا سوزان، أناشد روحي أن تصمد وسط المفاجآت. لا ... لا يمكن أن أقضي عندها الليلة وزوجها في البيت. سبق أن حذرني نبيل من ذلك. أين سأذهب الآن؟ أين سأقضي الليلة؟ لماذا لم أوافق على عرض نبيل لقضاء الليلة في بيته طالما كان سيقضي الليلة عند صديقه؟ وقفت أمام فيلا نبيل أبكي تشردي وأناشد روحي أن تصمد وسط هواجسي الهوجاء التي تتوعدني بالمحذور. مرت دقائق كأنها ساعات ومازلت لا أعرف ماذا أفعل. فكرت في الذهاب إلى منزل عبد اللطيف لكن لطيفة لا تطيقني. كما فكرت أن أذهب عند زوجة خالها، لكن جلال يسكن معهم، وهو ما سيزيد الوضع سوءا. لطيفة لا تحب أن أكون في المكان الذي فيه جلال. خيّم الظلام وبدأ البرد يشتد، لم أعد أتحمل الوقوف وسط ذلك الليل الأعمى. يجب أن أضغط على زر جرس الباب. ليس لي مكان أستقر فيه وليس لي صديق أثق فيه سوى نبيل. سرى ألم في معدتي وعرق بارد يلسع جسمي المرتجف تحت رجفة تلك اللحظة المجنونة تهتز وتدور بي وأنا كالأعشى أبحث عن جرس الباب و ما إن وضعت إصبعي على الجرس حتى وقعت على الأرض مغمى عليّ . فتحت عيني فوجدت رجلا غريبا لم أره من قبل جالسا على حافة السرير، ونبيل واقفا بجانبه. عيوني فارغة ألتفت في ذعر من حولي، تقدم صوبي نبيل وابتسامة على وجهه كالطفل المبتهج.

_ الحمد لله، أنت بخير يا غالية.

نظرت إلى الرجل الذي كان يجلس على حافة السرير وعلى ركبتيه حقيبة صغيرة وحول عنقه جهاز فحص دقات القلب ابتسم إليّ وقال.

_ لابد أن تشرفينا بالمستشفى غدا لإجراء فحص عام لك.

قلت بتلعثم:

_ إنه فقط ألم طفيف ينتابني دائما.

_ لا بد أن تأتي غدا لكي نعرف سبب ذلك الألم وذلك الإغماء. لقد أعطيتك حقنة مهدئة سترخي أعصابك وتنامين جيدا.

في العاشرة صباحا، استيقظت على رنة جرس الباب، إنه نبيل، جاء من مكتبه ليطمئن عليّ .

_ صباح الخير أتمنى أن تكوني قد نمت جيدا.

_ شكرا، لقد نمت جيدا وبدون أحلام مزعجة.

_ هيئي نفسك، سنذهب إلى المستشفى لإجراء فحص عام لك كما قال الدكتور البارحة.... هل أنت جائعة؟.

_ ليست لي رغبة في الأكل.

_ يجب ألا تأكلي شيئا إلا بعد إجراء التحاليل، بعدها نفطر في القرية السياحية. والآن سأذهب إلى المكتب. أريد أن تكوني جاهزة بعد نصف ساعة. إن الحمام بجانب المطبخ إن أردت أن تستحمي.

غادر إلى مكتبه، وتركني تائهة أتسلق مصيري، أضيع وأجلو بين أفكاري ألما وأستر دموعي لكي لا تنهمر. إلى أين سأذهب بعد رجوعي من المستشفى؟ لم يعد لي مكان في بيت الحاج أحمد ولا في بيت ابنته رشيدة. كم كنت أتمنى أن أمكث عند السيد زكي وزوجته، لكن قصرهم مجرّد غرفة نوم وأكل وحمام. امتلأ عقلي بأفكار تهزم كلماتي. أسترق النظر إلى الغرفة، أراها فارغة، أستجمع هدوئي وأعدّل من حرجي. رنّ جرس الباب مرة ثانية. فتح نبيل الباب.

_ هل أنت جاهزة؟ سآخذك إلى بيت الحاج أحمد أولا لتغيري ملابسك. هيا بسرعة كي لا نتأخر عن موعد المستشفى.

انطلقنا إلى بيت المغاربة، كان الباب مفتوحاً كعادته. أطفال يلعبون أمام الباب وآخرون داخل البيت الذي كانت أجواؤه تعج بأصوات مختلطة ومرتفعة. زينة وأختها زهرة في المطبخ يهيئان الفطور. أقبلت زينة على عجل وهي تكاد تتعثر:

_ أهلا بك يا غالية جئت في وقتك إن أختي زهرة هيأت أحلى رغيف لا بد أن تفطري معنا.

_ لا شكرا لقد جئت لتغيير ملابسي فقط.

قالت زهرة:

_ لابد أن تذوقي الرغيف فهو من صنع يدي.

_ لا أستطيع أن آكل شيئا لأنني سأذهب لإجراء تحاليل في المستشفى.

قالت زينة مظهرة القلق:

_ سلامتك يا غالية ماذا بك؟

_ فقط ألم طفيف بمعدتي سأترككما الآن، لأن نبيل ينتظرني في السيارة.

قالت زينة: إن حقيبتك في غرفة نومي. يمكنك أن تغيّري ملابسك هناك.

ذهبت بسرعة إلى الغرفة. أقفلت الباب، غيرت ملابسي بسرعة ووضعت المتسخة في كيس داخل الحقيبة. ودعتهما وهممت بالخروج، لحقت بي زينة أمام الباب وقالت:

_ لا أعرف ماذا سأقول لك يا غالية إني خجلة منك كثيرا لكن وكما رأيت بعينيك أصبح المنزل مليئا بعائلتي و …

_ إن نبيل وسوزان سيساعداني على إيجاد مسكن أسكن فيه.

_ هل ستسكنين لوحدك؟ هذا عيب كبير.

_ سأسكن في الحي الجامعي.

_ جميل، إذا لم تعد هناك أية مشكلة.

تركت زينة أمام الباب وعدت مرة ثانية إلى الغرفة، أحضرت حقيبتي ثم ودعتها. خرج نبيل من سيارته وأدخل الحقيبة في صندوق السيارة ثم انطلق بسرعة إلى المستشفى. طيلة الطريق لم يتفوه بكلمة واحدة إلى أن وصلنا. أسرع إلى مكتب الاستعلامات وخاطب الموظفة باللهجة الليبية:

_ عندي موعد مستعجل مع الدكتور الصباح.

_ إن الدكتور الصباح ينتظرك بعيادته.

أكره المستشفى و أكره رائحته وأكره الأطباء الذين عادة ما يلقونني بابتسامة كئيبة. وصلنا إلى العيادة، كان الباب مفتوحا. وقف الدكتور الصَّباح من مكانه مرحبا بنبيل:

_ تفضل يا دكتور نبيل... تفضلوا بالجلوس .

اتجه إلى مكتبه ثم ضغط على زر، فما هي إلا دقيقة واحدة حتى حضرت ممرضة ناولها ورقة مكتوب عليها أنواع الفحص.

تركت نبيل والطبيب يتحدثان ودخلت مع الممرضة إلى غرفة داخل المكتب لإجراء التحليلات. بعدها رجعت إلى العيادة. التفت الدكتور الصباح إليّ مبتسما وقال:

_ منذ متى وأنت تعانين من آلام المعدة؟

_ منذ ست سنوات.

_ مازلت صغيرة على آلام المعدة. بعد أسبوع ستخرج نتيجة التحاليل بعدها نحدد موعد الزيارة.

غادرنا المستشفى، طيلة الطريق كان نبيل يتحدث عن صداقته الحميمة مع الدكتور الصباح وزوجته وعن خبرته في مهنته إلى أن وصلنا إلى بيته. تركني جالسة في الصالون وذهب إلى المطبخ. أحضر صينية بها فطائر وشاي ثم وضعها على المائدة. جلس بالقرب مني، أمسك بفطيرة ومدها إليّ. أمسكتها وأنا أحاول أكلها في خجل لكنها كانت تعلق في حلقي. وضعتها على عجل والتفت بارتباك إلى كل ركن في ذلك الصالون. هل أنا في مغامرة جديدة، أرى كل شيء موحشا من حولي، حتى نبيل الذي كان ينظر إليّ بابتسامة دافئة.الصالون على سعته ضيق، الجدران معتمة، هل هو كابوس في اليقظة؟

قال نبيل بعد لحظة صمت: إلى أين ستذهبين؟

نفثّ من فمي زفيرا حادا وقلت متمتمة: سأذهب إلى … إلى ... إلى بيت الحاج أحمد.

_ كيف ستذهبين إلى بيت الحاج وأنت أخذت حقائبك معك؟

قلت بصوت يملأه السخط: أريد أن أذهب إلى الجحيم.

ضعت في حيرتي القاسية وتضاريسها المليئة بالمجهول، انفجرت أبكي، اقترب مني حتى أصبح وجهه قريبا من وجهي، أسكتي يا غالية لقد قصدت ألا أسألك منذ خروجك من بيت المغاربة بحقائبك. عرفت أن شيئا ما حصل بينك وبينهم لذلك فضلت أن لا أسألك حتى تروي لي ما جرى بنفسك.

_ لم يحدث لي شيء ببيت الحاج أحمد، بالعكس إنهم أناس كرماء وطيبون، لكن فقط عائلتهم قدمت من المغرب وليس هناك مكان أنام فيه. إن لدي من النقود ما يكفيني للنزول في أفخم فنادق طرابلس أو استئجار شقة مفروشة. لكن اللعنة على التقاليد التي تضع المرأة في موضع الضعيف الذي لا حول له ولا قوة.

_ غالية لا يصح للفتاة أن تسكن لوحدها فهذا ينافي تقاليدنا وعاداتنا والأسوأ من هذا كله قد تتعرض للاغتصاب والقتل.

_ إن مجتمعنا هو السبب في كل شيء يحصل للمرأة لماذا لا تتركها التقاليد تعيش حرة طليقة مثلما يعيش الرجل؟

_ يا غالية الرجل رجل والمرأة امرأة فلا أنت ولا أنا يمكنه أن يغير ذلك.

_ أنت يا دكتور الذي تقول هذا الكلام ! إن كان المثقفون ينظرون إلى المرأة بهذا الشكل فكيف نظرة الناس العاديين؟

ـ إنك تعيشين في عالم المثل وهذا العالم لا وجود له في بلادنا.

ـ إن الإسلام أعطانا منهجا صحيحا وسويا نحن نسعى وراء تقاليد وعادات عمياء ترجعنا خطوات إلى الوراء.

ـ ماذا تقصدين يا ثائرة؟

ـ تصرفاتنا لا تختلف عن تصرف الجاهليين قبل ظهور الإسلام.

كنت أتكلم وألوّح بيدي كمن يريد أن يتشاجر أو ينقض على خصمه، ونبيل ينظر إلي متتبعا حركات يدي التي ألوح بهما يمينا وشمالا وكأنه يشاهد لعبة كرة التنس، تارة يضحك وتارة أخرى يبتسم وعندما انتهيت من كلامي صفق وقال:

_ منطقك مقنع أيتها الثائرة لكنه مستحيل.

في داخلي طاقة خارقة، كانت ومازالت مكتومة منذ سنوات، شعرت برغبة شديدة لتفجيرها. طاقة أطلقت سراح قدمي وفكت أسر روحي الحبيسة. كل صباح أذهب إلى مركز المدينة أبحث عن وظيفة. ظل الأمر على هذا المنوال أسبوعا كاملا، لكن لم أفقد الأمل بقدر ما شعرت برغبة قوية في الانطلاق إلى الحرية والاستقرار. ذات يوم خرجت باكرا أمشي وأمشي. مشيت طويلا دون أن أشعر بالوقت. نسيم هواء الصباح الندي يداعب وجهي ويحرك خصلات شعري فتزيده إحساسا بالقوة والإصرار على مواصلة البحث. دخلت إلى بنايات ضخمة بها شركات عديدة. توجهت إلى المصعد ووضعت إصبعي على الزر رقم 16 الذي يؤدي إلى الطابق الأخير بالبناية. توجهت إلى مكتب الاستعلامات. قلت وأنا أبعد عنّي آثار القلق والارتباك: صباح الخير هل يمكنني أن أقابل مسئول الشركة. رفعت السكرتيرة رأسها ونظرت إلي وقالت بلهجة متعجرفة:

_ إن المسئول ليس موجودا هل لك موعد سابق؟

ـ لا.. جئت أبحث عن وظيفة في شركتكم.

نهضت السكرتيرة بقامة تنحني قليلا ويداها على مكتبها وهي تلوك العلكة ونظراتها تتدحرج على جسمي وقالت:

ـ يمكنك أن ترجعي بعد شهر لأن المسئول خارج الوطن.

لم تكمل السكرتيرة كلامها حتى قدم شاب وسيم، أنيق المظهر، اقترب مني وابتسم قائلا: شو تبي الأخت؟

عدّلت السكرتيرة من وقفتها وقالت بصوت مرتبك: إنها تريد لقاء المسئول وقلت لها بأنه غائب خارج البلاد.

التفت إليّ متجاهلا السكرتيرة، سحب نفسا عميقا من سيجارته وقال: ما اسم الأخت؟

_ غالية سلطان.

ـ تفضلي معي إلى المكتب.

مشيت معه في ممر طويل، أرضه مفروشة بسجادة طويلة حمراء والمكاتب مصطفة شمالا ويمينا وفي أقصى الممر كان مكتب ذلك الشاب الوسيم. فتح باب المكتب وقال: تفضلي يا آنسة غالية.

توجه إلى مكتبه وجلس على الكرسي ثم أشار بيده قائلا: تفضلي ... أنا نائب مدير الشركة. ما هي مؤهلاتك؟

ـ بكالوريا مزدوجة فرنسي عربي وشهادة الليسانس أدب إنجليزي. وأتكلم أيضا اللغة الأسبانية.

ـ جميل جدا. هل تحسنين استعمال الآلة الكاتبة؟

ـ نعم، لقد حصلت على شهادة الآلة الكاتبة هنا في طرابلس.

ابتسم وقال: يمكنك أن تباشري العمل ابتداء من الغد.

ـ ما نوعية العمل الذي سأقوم به؟

ـ سيكون عملك ترجمة قوائم المستوردات.

وقفت من مكاني، شكرته ثم غادرت الشركة مسرعة إلى المركز الإفريقي. وجدت سوزان تسقي زهور حديقتها .

ـ أهلا يا غالية أراك فرحة هل وجدت وظيفة؟

ـ نعم، وجدتها ومن الغد إن شاء الله سأباشر العمل أريد أن أبشر نبيل بهذا الخبر السار.

تركت سوزان ووجهها يشع فرحا وإشراقا وهي تضحك وتصرخ ألف مبروك. كان نبيل مشغولا بحديث عبر الهاتف، جلست منتظرة، طال انتظاري، كل دقيقة تمر وكأنها ساعة، وأخيرا انتهت المكالمة. وقفت وفرحتي غيمة من نور: لقد حصلت على وظيفة بمرتب مغر جدا. نظر إليّ من غير أن يبدي اهتماما وقال بعصبية: وماذا عن الدراسة ؟ أليس لأجل متابعة الدراسة قدمت إلى ليبيا؟

ـ سأحتفظ بالوظيفة وألتحق بالجامعة.

ـ هل أنت ... أو أنك تتغابين؟

تغيرت ملامح وجهي وقلت بصوت الواثق: أنا لست غبية وأعرف ماذا أفعل.

شحب وجهه قليلا وشعر بانقباض، نهض من مكانه متجها بعصبية صوب النافدة. لحقت به. ساد صمت رهيب داخل المكتب، نظر في وجهي يختبر ردة فعلي وقال: أنا لا أشجعك على العمل ستجدين مشاكل أنت في غنى عنها.

احتججت بسرعة: الحياة ليست غابة.

_ إنني أصف الواقع كما أراه. إن أرباب الشركات يستغلون الموظفات ويرغمونهن على علاقات غير شرعية. قد يستهدفك أحد مسئولي الشركة لتكوني طعما لرغباته وغرائزه.

قلت وأنا أداوي خيبة أمل: هل لهذه الدرجة يوجد أناس بغير ضمير؟

هز رأسه وأطرق قليلا وقال: يا غالية أنت لا تعرفين الحياة جيدا ما زلت صغيرة وبريئة. رجاء لا تعرضي نفسك لمخاطر قد تهدم كل شيء جميل في حياتك.

قلت بامتعاض: هل كل الموظفات اللواتي يعملن في الشركات لهن علاقات غير شرعية مع أرباب العمل؟

اتجه إلى أريكته، جلس ثم ابتسم وقال: أحيانا تضحكينني بسذاجتك. قطب على جبينه، أنت لا تعرفين ماذا يجري في الحياة العملية. هنا في هذا البلد تحصل أشياء لا يمكن للعقل أن يصدقها.

تبددت سحابة الخوف عن وجهي. وقفت بهدوء وخيط واهن من الصمت يفصل بيننا ما لبث أن انقطع حين قلت بصوت مرتجف: ماذا تريدني أن أعمل الآن؟

ـ الأمر لا يتطلب استشارة، ارفضي الوظيفة.

ـ بعد كل هذا العناء أرفض الفرصة التي جاءت إلي. ما دامت الحياة العملية في نظرك صعبة بالنسبة للمرأة، فلماذا شجعتني للعمل معكم في المركز؟

قال بصوت عال وثابت: لأنك ستكونين تحت مراقبتي ولن يستطيع أحد أن يمسك بسوء.

همست بتضرع: لكنني لا أستطيع أن أرفض هذه الفرصة.

لم يعد صبره يحسن الإنصات، نهض وسط غضب فسيح غطى فضاء المكتب احمرارا واصفرارا.

_ هل تحتاجين نقودا؟ سأعطيك شهريا نفس المبلغ الذي ستحصلين عليه من تلك الوظيفة.

_ أنت لست وليّ أمري حتى أقبل منك النقود.

قطب جبينه وقال: لا بد أن أخبر والدك بشأن الوظيفة فهو وليّ أمرك.

تهدجت دمعتي تحت صيحتي البكماء، تمتمت برعب متوسلة:

لا، من فضلك لا تخبره أعطني مهلة إن واجهت مشاكل في الشركة سأخبرك فورا.

ـ متأسف لا أستطيع. وعدت والدك بأن أتحمل مسؤوليتك طيلة إقامتك في ليبيا.

ـ أتوسل إليك، لن يحصل لي مكروه أرجوك كن صديقا لي لا عائقا ومُحْبِطاً.

انفجرت بالبكاء اقترب مني بخطى من سكون، أجلسني على الكرسي، ثم أخرج منديلا من جيبه:

ـ تفضلي، وامسحي دموعك وغدا سأوصلك إلى مكان عملك.

كان يحرك رأسه مستسلما وابتسامة على وجهه، قبلته على خده وغادرت مكتبه أما هو فقد وضع يده على خده وابتسم متتبعا خطواتي حتى اختفيت عن عينيه. كانت لي رغبة قوية في شرب القهوة في حديقة سوزان . وجدتها جالسة تتصفح جريدة وتستمع إلى موسيقى الزولو.

ـ مساء الخير سوزان أريد أن أشرب فنجان قهوة في حديقتك الجميلة.

ـ أهلا وسهلا، جئت في وقتك، كنت أفكر في تحضير القهوة لكنني مترددة لأنني لا أريد شربها وحدي.

جلست على الكرسي تحت المظلة الشمسية ورفعت عيني إلى سقفها، أتخيل كيف سيكون يومي الأول في الوظيفة. أغمضت عيني وابتسمت:" غدا سأبدأ وظيفتي وأباشر عملي. قدمت سوزان وفي يدها صينية عليها فنجانان من القهوة. خبريني، من المؤكد، فرح نبيل عندما سمع خبر قبولك بالوظيفة.

ـ لا والله لم يسعد بالخبر. يقول بأنني قد أتعرض لمكروه.

ـ لكن يبدو أنه وافق فالفرحة أراها تشع من عينيك.

ـ نعم لقد وافق بعد عناء ورجاء.

ارتشفت القهوة وسط تلك الألوان من الورود، أوراقها ترقص على نغم العصافير وتطرب على نشيد الحياة. نظرت إلى سوزان مستغربة:

_ ماذا فعلت بالقهوة؟ إن طعمها طيب.

ضحكت سوزان وقالت: إنها نفس القهوة التي تشربينها عندي كل يوم إلا أنها اليوم ممزوجة بتوابل وظيفة الغد.

تركت سوزان في حديقتها تضحك كالنسيم العليل، كالوردة متألقة في وحدة الغروب. استيقظت باكرا، وجدت نبيل يطالع جريدة في المطبخ، أفطرنا سويا ثم أخذني في سيارته إلى الشركة. طوال الطريق كان ينصحني ويحذرني إلى أن توقف أمام باب البناية الضخمة، التفت إلي وقال: سأرجع إليك عند انتهاء الدوام. دخلت إلى غرفة الاستعلامات بمجرد ما رأتني السكرتيرة حتى وقفت من مكانها وقالت مبتسمة:

_ صباح الخير آنسة غالية، تفضلي بالجلوس سأخبر حالا نائب المدير بقدومك.

اتصلت هاتفيا، وما هي إلا دقائق حتى قدم نائب المدير. أهلا بالآنسة غالية، تفضلي معي.

رافقته إلى مكتبه، أشار إلى منضدة عليها الآلة الكاتبة، وقال: هنا سيكون مكتبك. أخرج أوراقا كانت بدرج مكتبه مدها إلي. هذه مستندات أريد ترجمتها إلى اللغة الفرنسية وستكون اختبارا لك. قال كلامه وغادر المكتب. أمسكت الأوراق أتصفحها وأنا أمشي بغنج، وضعت الأوراق على المنضدة أتأمل ذلك المكتب الكبير الذي تتسرب أشعة الشمس إليه من نوافذه الكبيرة التي تطل على البحر. التفتّ إلى مكتب نائب المدير، حولت نظري إلى المنضدة التي ستكون مكتبي. سرت قشعريرة في جسدي. أهنا سيكون مكتبي مقابل مكتب نائب المدير؟ تذكرت المستندات اتجهت مسرعة إلى منضدتي وشرعت في ترجمتها وكتابتها مباشرة على الآلة الكاتبة. صمت يلف المكتب في ارتباك وأنا أداري نفسي تحت رتابة من الانتظار الممتد كجسد سراب. انتهى دوام العمل، وضعت تلك الأوراق المترجمة على مكتب نائب المدير وغادرت الشركة. كان نبيل ينتظرني في سيارته. ركنت إلى نفسي فوجدتها تطير فرحا إلى النافذة، برحمة الله التي وسعت كل شيء، أنظر إلى الأشجار على جنبي الشارع ترقص مهنئة توظيفي، والغيم فوقي ينثر ألوانا قزحية داخل السيارة الثملة بالفرح. التفت إلي وقال بلهفة: خبريني كيف كان يومك بالعمل؟

ـ لقد كان يوما عاديا.

ـ كيف عاديا ألم تقومي بفعل شيء على الإطلاق؟

ـ بلى ترجمت بعض المستندات التي أعطاني إياها نائب المدير بعدها لم يكن هناك أي شيء أقوم به.

ـ هل لك مكتب خاص بك؟

ـ لا.

ـ كيف؟ هل تشاركين المكتب مع الموظفات؟

ـ لا. إن مكتبي مع نائب المدير.

ـ ماذا تقولين؟

ـ ما الغريب في ذلك؟

ـ كيف كان تصرفه معك؟

ـ أعطاني أوراقا لترجمتها بعدها لم أره. لماذا أنت عصبي هكذا؟

ـ غالية، إني خائف عليك.

ـ من ماذا؟

ـ من كل شيء إنك تغامرين.

ـ هل العمل مغامرة في نظرك؟ لماذا ندرس ونتعلم، زمن الحريم قد انتهى يا دكتور.

ـ الحرية حكم شرعي لكنه في نفس الوقت إثبات واقع مدى قدرة الفرد على استخدام عقله في حياته الاجتماعية والعملية والعلمية وأنت لا تستخدمين عقلك أبدا.

ـ شكرا على مجاملتك الحلوة.

ـ أنا لا أجاملك ! إن المؤشرات على مفهوم الحرية في بلداننا ضعيفة جدا بحكم التشبث بالتقاليد والعادات.

ـ إنني أكره هذه العادات والتقاليد، إنها تحجم طاقة الفرد في مجتمعه وخصوصا المرأة.

ـ ليست الحرية أن يلقي الفرد بنفسه في مغامرات قد تؤدي بحياته إلى التهلكة أو تفسدها إلى الأبد.

ـ ماذا تعني يا دكتور؟ أنا لم أفهم شيئا مما تقول هل عملي بهذه الشركة معناه أنني ألقيت بنفسي إلى المغامرة والتهلكة، أنا لا أصدق ما أسمعه منك وكأنني أتكلم مع إنسان عادي وليس مثقفا.

_ أنت ما زلت صغيرة وخبرتك في الحياة محدودة ولا تعرفين الحياة العملية إنها عبارة عن غابة.

ـ لذلك أريد أن أخوض المعركة وأكتسب الخبرة من غير أن يكبت أحد حريتي.

ـ الحرية، الحرية، عن أي حرية تتكلمين؟

لم أعد أتحمل كلامه الذي كان ينزل على رأسي كالمطرقة ولم تعد لي رغبة في الاسترسال معه في الكلام. لزمت الصمت وأغمضت عيني متجاهلة إياه. التفت إلي وقال بغيظ: أنت دائما هكذا إن لم يعجبك الكلام تغمضين عينيك. وصلنا إلى البيت وأكلنا وجبة العشاء من غير أن يكلم أحد منا الآخر.

رجع المدير من إجازته كما كثر العمل بالنسبة لي فلم أعد أستطيع ترجمة الوثائق في وقتها. أحيانا آخذ الوثائق معي لترجمتها وإنجازها في البيت. كنت لا أرى نبيل إلا حول مائدة الفطور أو العشاء أو عندما يوصلني أو يأخذني من العمل. في اللحظات التي أجلس معه حول المائدة ينهال عليّ بأسئلته عن الوظيفة والموظفين وعن المدير، تلك الأسئلة التي حفظتها عن ظهر قلب وأصبحت بالنسبة لي روتينية. أجيبه بطريقة لا تختلف عن روتينية أسئلته. غيرته عليّ تشتد يوما بعد يوم وتتحوّل أحيانا إلى عاصفة تطير صوابي. يغار حتى من الذين ينظرون إلي وهم في سياراتهم عابرون أ وفي حفلة أو سهرة، نكون أول من يغادر المكان وكأنني أختلف عن باقي نساء العالم في الجمال والبهاء. لم يكن يشغل بالي إلا العودة إلى أمريكا لإتمام دراستي وزيارة تلك العائلة التي كنت أسكن عندها. عدت إلى ذكرى أيامي معهم، زوجان كروح واحدة لا يلوثها الكذب ولا الخيانة. روحان التحمتا للنضال في الحياة داخل البيت وخارجه لأجل ابنتيهما إيميلي وسارة. ذهبت معهم مرات إلى الكنيسة، في خشوع أسمع تراتيلهم مبدية سعادتي وسروري لمرافقتهم، وكانوا هم أيضا سعداء لتعاملي الإنساني معهم. غالبا ما يستهويهم النقاش في عقيدتي، يناقشونها وهم يجهلون عنها كل شيء ماعدا شيء واحد يعرفونه خطأ بسبب الإعلام في بلادهم الذي ينعت الإسلام بالتخلف، وكنت أشرح لهم بإخلاص لأصحح لهم تلك المعلومة الخاطئة. الزوجة كيثي سريعة التفهم، لبقة النقاش، دبلوماسية الإجابة، لكن زوجها براين كان متعصبا لدينه جاهلا للإسلام، خائفا من التقرب إلى معرفة الدين الإسلامي على حقيقته. سرحت بفكري متذكرة عيد ميلاد كيثي المليء بالموسيقى والابتسامات المنثورة في حديقة البيت المتألقة كصفاء الربيع. تحوم تلك الابتسامات حول مائدة طويلة محاطة بالورود المقلمة بعناية. كعكة الميلاد في زيها الأبيض الأنيق تهنئ كيثي بذكرى طفولتها وإشراق حاضرها متمنية لها سنوات طويلة من السعادة. رفع والد كيتي وهو كبير العائلة كأسا من النبيذ وتبعه الحاضرين وقال: "نشرب نخب قدوم غالية عندنا ونتمنى لها إقامة سعيدة معنا." وأنا أرفع كوب عصير البرتقال على طريقتهم وعندما انتهى من كلامه، وقفت شاكرة أْخرِج من إنجليزيتي حروف سعادتي بينهم وحسن ضيافتهم لي. دخل نبيل إلى المطبخ فأيقظني من هذيان ذاكرتي وهو يرفع الكوب إلى فمه ويرتشف العصير بصوت مسموع ويقول بلهجة وقورة: ألم تنامي بعد؟ التفت إليه وامتلأ وجهي ابتسامة عذبة صافية. نهضت من مكاني وواصلت السير إلى غرفتي بعدما تمنيت له ليلة سعيدة. وفي الصباح الباكر تناولت وجبة الفطور ثم خرجت من باب المطبخ إلى الحديقة. نسيم الفجر البارد يداعب الزهور وأوراق الأشجار بنعومة ويغسلها من هذيانها. مازال سكان أهل المركز الإفريقي نياما ما عدا الحارس الموريتاني الذي كان جالسا على كرسيه منهمكا في صنع الشاي الذي لا يتوقف عن شربه طيلة النهار. سمعت صوت أقدام نبيل في المطبخ، صباح الخير يا غالية.

ـ فطورك جاهز على المائدة.

ـ هذا معناه أنني سأفطر وحدي. هيا تعالي اجلسي معي حتى أفطر.

كان يفطر ويتصفح كعادته جريدة الصباح بسرعة.

ـ ما رأيك يا غالية أن نتعشى الليلة في الفندق الكبير؟

ـ ليس عندي مانع.

ـ إذا عليك أن تتواجدي عند موقف السيارات في الثالثة وعشر دقائق بالضبط.

أوصلني عند باب البناية، ثم انطلق إلى عمله. دخلت إلى المكتب ففوجئت بوجود نائب المدير جالسا خلف مكتبه عن غير عادته.

ـ صباح الخير غالية. هل المستندات التي أعطيتك البارحة جاهزة؟

ـ نعم إنها جاهزة.

أخرجتها من حقيبتي وسلمتها إليه.

ـ هل تأخذين أوراق الشركة إلى بيتك؟

نفضت ثوبي ورفعت خصلة من شعري متدلية على جبيني وألقيت بها إلى الوراء في ارتباك:

ـ نعم، لدي الآلة الكاتبة في البيت والوقت الكافي لإنجازها على أحسن ما يكون.

ابتسم وأخذ الأوراق مني يتفحصها ورقة تلو الأخرى. رائع إنك تثبتين جدارتك يوما بعد يوم. فتح درج المكتب وأخرج منه وثائق أخرى. هذه وثائق أتمنى أن تكون جاهزة اليوم. استلمتها منه. طوال الوقت كان يتصفح جريدة على غير عادته. شرعت في ترجمة الوثيقة الأولى وبدأت في الثانية من غير أن أرفع عيني نحوه. أحسست بانزعاج، رفعت عيني فرأيته ينظر إلي، خفضت بصري هاربة وسط ترجمة تلك الأوراق. أحسه كتمثال لا حراك فيه. لم ألتفت هذه المرة إليه وعندما تجاهلته مبدية انشغالي سمعته ينهض من مكانه، تنفست الصعداء، لكنه توجه نحو منضدتي ثم وقف أمامي وأخرج علبة صغيرة من جيبه. هذه هدية صغيرة ومتواضعة كتعبير على جهودك في الشركة.

_ أنا لم أقم بشيء أستحق عليه هدية.

ـ من فضلك لا ترفضي الهدية فهي تعبير مني لإخلاصك تجاه شركتنا. أنت لا تعرفين ما قدمته لنا.

اقترب من الكرسي الذي أجلس عليه وقال: على الأقل افتحي العلبة وانظري ما بداخلها.

ـ كيف أفتح العلبة وأنا أرفض مسبقا قبولها.

ـ لا تريدين فتحها ! سأفتحها أنا.

فتح العلبة وأخرج الخاتم قائلا: انظري، لا تخجلي فهو لك.

نظرت إرضاء لرغبته فرأيت خاتما من الذهب الأبيض مرصعا بالماس.

- أعفني من فضلك صعب عليّ قبوله.

تجاهل كلامي وقال: ما رأيك؟ إنه جميل جدا. أليس كذلك؟

ـ بلى، لكن يا سيدي وكما ترى فأنا لا أتزين بالحلي. لا أرتدي إلا ساعة اليد.

أعاد الخاتم إلى العلبة وقال: حسنا سأرجع بعد ساعة.

تركني واقفة في مكاني والخيبة تقتلني، إن رفضت هديته معناه سأخسر وظيفتي التي أسعدتني كل السعادة وإن قبلت هديته قد يطلب مني أشياء لا أستطيع تنفيذها. مازلت أتساءل مستغربة ذلك التصرف حتى دخل مرة ثانية إلى المكتب وقال:

_ هذه المرة أنا متأكد أنك ستقبلين هذه الهدية.

أخرج علبة من جيبه وكانت أكبر حجما من الأولى فتحها وأخرج منها ساعة ذهبية مرصعة بأحجار كريمة وقال:

_ لا تقولي إنها لم تعجبك.

_ بلى لقد أعجبتني.

_ ما رأيك أن نتعشى الليلة سويا؟

لبس صوتي خفوت متخاذل: الليلة! لا يمكن ... ماذا عن الغد؟

شعرت بأنني تسرعت وارتكبت خطأ، لم أصدق أنني نطقت بتلك الكلمات وكأن ذلك لم يصدر عني وأن شخصا ما آخر في داخلي هو الذي تكلم. اقترب كثيرا مني حتى التصق جسمه بجسمي وأمسك بمعصمي برفق وقال:

ـ أريدك أن تلبسي هذه الساعة فهي جميلة جدا حين تطوق معصمك.

ابتعدت منه خجلة، مغتاظة وقلت: سألبسها غدا مع ثياب تليق بها عندما سنتقابل.

أمسكت العلبة بيدين مرتجفتين وقلبي يخفق وكأنني سأفارق جسدي، وضعتها في حقيبتي ثم جلست بمكتبي مبتسمة علامة للرضا.

ـ هكذا أريدك مرنة لبقة لا ترفضين الهدايا.

قال كلامه وغادر المكتب. تسمرت في مكاني جاحظة العينين وفمي مفتوح وكأن يدا تضغط على رقبتي.

الهدايا! ماذا يقصد بهذه الكلمة؟ هل ستعقب هذه الساعة هدايا أخرى؟ شردت برهة ثم حاولت أن أخرج من الدائرة المغلقة. التفت من حولي وكأنني بذلك أريد أن أمحو تلك الخيبة التي أسرتني ... كل شيء في المكتب ساكن موحش، جسمي يهتز لحلم أبيض حلمته بقوة يتحول إلى كابوس ولا أعرف ما الذي فعلته كي تتوالى عليّ الزوابع. قبل انتهاء الدوام بعشر دقائق دخل نائب المدير إلى المكتب واقترب مني وقال:

ـ أريدك أن تترجمي هذه الأوراق حالا.

قلت متمتمة بخوف: لكن لم يبق إلا عشر دقائق على انتهاء الدوام سآخذها معي إلى المنزل وغدا أحضرها جاهزة.

قال بلهجة آمرة: لا ينفع ذلك فأنا أحتاجها الآن.

ابتسم بخبث ثم جلس على مكتبه يتصفح أوراقا بيده مبديا انشغاله. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وخمس دقائق. من المؤكد أن كل موظفي الشركة غادروا إلى بيوتهم ولم يبق سواي. أمسكت الأوراق بيدين مرتبكتين ثم وضعتها مرة ثانية على المكتب، قلت وأنا أبعد عني آثار القلق والخوف:

ـ أستأذنك سيدي، سأذهب إلى الحمام. سأرجع بسرعة لإتمام ترجمة الأوراق.

ـ لا تتأخري.

أمسكت حقيبتي ونزلت الدرج، تجنبت المصعد كي لا يحدث رنة عند قدومه. نزلت بسرعة البرق واتجهت مسرعة إلى محطة السيارات. كان نبيل ينتظرني.

ـ لماذا تأخرت يا غالية؟

تولد الحقد من جديد في قلبي والنفور من كل مخلوق "رجل". كلهم يحجبون في أعماقهم غرائز وحشية يتوقون لتفجيرها بأية طريقة، قلت من غير أن ألتفت إليه:

ـ هل يمكنني أن أستعمل هاتف السيارة.

ـ السيارة ومن في السيارة ملكك يا غالية. لكن لماذا؟

تجاهلت سؤاله، أمسكت سماعة التلفون وطلبت رقم مكتب المدير... ألو... غالية! من أين تتكلمين ... أتكلم من السيارة إنني في طريقي إلى بيتي، فقط أريد أن أخبرك بأن العلبة التي أعطيتني إياها صباحا، في درج مكتبك ... وقفلت السماعة. تنهدت بعمق. التفت إلي نبيل وقال:

ـ ما بك ترجفين؟

ـ لا شيء، أحس فقط بصداع في رأسي.

ـ هل تريدين أن نرجع إلى البيت؟

ـ ذلك أفضل.

دخلت إلى غرفتي وأغلقت عليّ الباب. استلقيت على انتصاري أنظر إلى السقف وأبتسم. طرق نبيل الباب وفتحه، تقدّم بهدوء نحوي، جلس على الكرسي وحاصرني بنظراته. عدلت من جلستي، شاحبة مفزوعة كأن بصري وقع على منظر مخيف.

ـ ما بك؟ منذ عدت من الشركة وأنت حزينة صامتة.

لم أستطع أن أبوح له بما جرى حتى لا يلومني ويعاتبني. فاجأتني الرغبة في أن أنفجر باكية لكنني كتمت دموعي وكأنني أتكتم على سر. جلس على حافة السرير، انتبهت إليه فرفعت وجهي ومددت يدا مرتبكة تناولها بهدوء وقال: أنا متأكد أن شيئا ما يزعجك ماذا جرى لك يا غالية؟

سحبت يدي بسرعة من يده وقلت كالملسوع: لا شيء.

قال عن عدم ارتياح: ما هي قصة العلبة التي وضعتها بدرج المكتب؟

لزمت الصمت وخيل إليّ أن عينيه تلتهماني. أمسك يدي وقال: لن أغادر غرفتك حتى تخبريني ماذا جرى.

قلت عن ضيق مكتوم: غيرت رأيي، لم تعد لي رغبة في الاستمرار بتلك الوظيفة.

رأى وجهي يشحب قليلا شعر بانقباض وظل صامتا هنيهة وهو يحدق بي وكأنه يسمع نبضات سري، وحين انتبهت إليه تراجعت ببصري بارتباك، أخرجته بذلك عن صمته.

_ إنك لا تتكلمين معي بصراحة. أنا صديقك وفي مقام أخيك الأكبر ولا أريد إلا مصلحتك ومساعدتك. فهل تصارحينني بسبب توقفك المفاجئ عن الوظيفة.

أجبت بانفعال: أليس هذا ما تريد؟ أنا لبيت رغبتك.

ـ لا، أنت لم تلبي رغبتي.

لم يكن لديّ حل إلا أن أصارحه بما جرى لي.

ـ اللعين، كيف يتجرأ على فعل ذلك التصرف البذيء؟ وماذا فعلت بالساعة التي منحك إياها؟

ـ وضعتها في ظرف مع رسالة كتبت فيها شرف الإنسان لا يقاس بالماس ولا بكنوز الدنيا كلها.

ـ أتمنى يا غالية أن تكوني قد استفدت من هذا الدرس فميدان العمل تكون فيه المرأة عرضة للابتزاز خصوصا إن كانت جميلة مثلك.

خجلت حروفي وتعثرت في موقف الارتباك والصمت. أما هو فتابع كلامه، فيك جمال يحبه كل الرجال وجاذبية قد تفقدها أجمل الجميلات، أخلاقك وسلوكك الحسن وحسن تصرفك وصراحتك وبراءة وجهك، حافظي عليها لأنها تجعلك متميزة عن غيرك. هيا بنا نتعشى في الخارج مثلما اتفقنا البارحة، احتفالا بانتصارك.

ـ ليست لي رغبة في الخروج أريد فقط أن أنام.

ـ تنامين الآن! إن الشمس ما زالت ساطعة. ما رأيك في أن أطبخ لك أكلا لم تذوقي مثله قط. هيا إلى الصالون، هناك شريط كوميدي أمريكي أريدك أن تشاهديه، مضحك للغاية وبعد ساعة سيكون الأكل جاهزا.

لم تكن لي الرغبة في فعل شيء إلا الانزواء مع نفسي. حتى تلك اللحظة لا أعرف كيف أنسى ذلك الكابوس الذي يتلبّس خاصرتي. ذهبت متثاقلة إلى الصالون بينما هو أسرع إلى المطبخ لتحضير العشاء. وما هي إلا ساعة حتى جاء بصحن من اللحم المقلي مع البيض وسلطة بالطماطم. مددت يدي إلى الصحن آكل لقمة تلو الأخرى وأحرك رأسي مبدية إعجابي بطعم الأكل:

ـ كيف صنعت هذه الأكلة اللذيذة لقد كانت عمتي تطبخ لنا مثلها.

ـ إذن أنت ذقت مثلها من قبل.

ـ نعم، لكنني للأسف لم أتعلم الطبخ من عمتي.

ـ لماذا يا غالية على الإنسان أن يتعلم كل شيء في حياته لكي يعتمد على نفسه.

ـ أكره الطبخ وتنظيف البيت.

ـ هذا غلط يا غالية.

ـ لماذا غلط؟ لقد كان بيتنا لا يخلو من الخادمات فهن يقمن بتنظيف البيت وعمتي تقوم بإنجاز الطعام.

ـ وأنت تحسنين أكله.

ـ نعم أحسن أكله مادام هناك من يحسن طبخه.

ـ أنت جدّ مدلعة... دلوعة ... يا غالية.

ـ لا، أنا لست مدلعة، فقط أحب تمضية الوقت في شيء يسعدني أكثر من الطبخ فالأكل بالنسبة لي وسيلة للعيش وليس هدفا.

ـ بدأنا في الفلسفة، الأحسن أن تأكلي وأنت صامتة.

ـ حاضر، سأفعل.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبة, مكتملة, الخطير, خيرهم, زكية, نهاية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:28 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.