آخر 10 مشاركات
311- الميراث المتوحش - مارغريت بارغتير -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          468 - لهيب الظل - ريبيكا وينترز ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          جنون الرغبة (15) للكاتبة: Sarah Morgan *كاملة+روابط* (الكاتـب : مستكاوى - )           »          604 -الحب أولاً وأخيراً - ق.د.ن (الكاتـب : Just Faith - )           »          56 - لقاء فى الغروب - شريف شوقي (الكاتـب : MooNy87 - )           »          355 - ميراث العاشقين - كاى ثورب ( روايات أحلامي ) (الكاتـب : MooNy87 - )           »          عشق من قلـب الصوارم * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : عاشقةديرتها - )           »          فوق الجروح اللي بقلبي من سنين يكفي دخيل الله لا تجرحوني روايه راااااائعه بقلم الهودج (الكاتـب : nahe24 - )           »          رواية المنتصف المميت (الكاتـب : ضاقت انفاسي - )           »          ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-08-17, 01:02 AM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



قلت له لاداعى كل الحى يعرفني. حاسبته بالدولار ومن إبتسامته علمت
إننى أعطيته أكثر مما كان يتوقع، ركب سيارته وظللت أراقبه وهو يقود مبتعدا،
وأخذت أتأمل في شارعنا، بيوت جيراننا كان كل شي كما هو ولكن أقدم ولكن
ليس بعشرة أعوام بل أكثر كأنما البيوت شاخت هي الأخرى، وكان الشارع خاليا
مع أنه كان في مثل هذا الوقت منذ عشرة أعوام يعج بالحياة والمارة ونظرت إلى
الساعة لم تتجاوز العاشرة والنصف، قرعت جرس الباب، أكثر من أربع سنوات
كانت آخر مرة أرى فيها والدتي وخالد وأكثر من ست سنوات عندما جاء أبى إلى
لندن لمدة أسبوع، وإنتظرت طويلا ثم سمعت خطوات أبى وفتح الباب وهو يلبس
نظارته في نفس الوقت، نظر إلى وهو مذهول ولكن دمعته خانت الجدية التي
يرسمها لنا طوال حياته، وكان جسمه نحيلا كأنما كان مريضاً لفترة طويلة لأول
مرة أراه شيخا وليس شابا، لم أستطع أن أتكلم، فارتميت في أحضانه، كانت أول
مرة يحضني فيها أبى منذ أن كنت طفلة، الحقيقة أنه لم يحضني ولكني إنتزعت
حضنه إنتزاعا مستغلة غربتي الطويلة، وشعرت بحسمه النحيل يرتعش من البكاء،
وسألت نفسي هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء، غربة سرقتني يوماً بعد يوم
ذهبت إلى لندن للبكالوريوس ولكن الحياة طمعتني في الدكتوراة، ثم تمالك أبى
نفسه، كأن إبداء المشاعر عيب مسح دموعه وشعر بالخجل منى فأخذ يصيح
لوالدتي وخالد، ودخل سريعا قبلي كنت أعلم أنه يخاف عليها من المفاجأة فأراد
أن يخبرها أولا أتى خالد يجرى وسلم على سريعا متهربا من إفلات المشاعر كأبيه
وأشغل نفسه بإدخال الحقائب، كنت أنظر إليه غير مصدقة سيتخرج من الهندسة
المدنية هذا العام ولكن والدتي أطلقت العنان لحنجرتها من داخل البيت بالزغاريد
وما أن رايتها كانت تجرى باتجاهي وحاولت أن أوقفها فسقطنا معا علي النجيل
وكانت تبكى وهى تحضنني حتى إننى خفت عليها، وأحسست بأني كان يجب
إخبارها مسبقا بعودتي، وما هي إلا لحظات كان الجيران معنا مستفسرين عن
سبب الزغاريد.
قضيت يوم الخميس كله أجب على أسئلة والدتي بدأت بالدكتوراة، وإنتهت
بالسؤال عن صديقاتي ليزا ومانويلا فقد كانتا توصيان والدتي أن تحضر لهم ثمار
المانقو، وكانت تأتى محملة بكرتونة لهم فيهدونها العطور الفاخرة لأنهم كانوا
يرون أنه من الغريب أن يأتي أحد من السودان إلى لندن بهذه الكمية، ورغم
استنكارهم ذلك فقد أصرت والدتي أن تجعلها عادة حتى إنها عندما لا تأتى
أصبحت ترسلها مع من يصادف حضوره من المعارف إلى لندن وكانت تقول:
بنات الخواجات مسكينات لا أحد يهتم بهن. وسألت والدتي عن منى وقالت إنها
كانت تزورنا ثم بعد أن ألغت خطبتها من ابن عمها وإنتقل أهلها إلى عطبرة ثانية
إنقطعت أخبارها وقد أوصتني أن أخبرها بعودتك وأعطتني رقم هاتف الداخلية،
وسألتها عن ياسر قالت لي منذ فسخ الخطوبة طلب نقله إلى الجنوب، وتخيلت
ياسر الوحيد الذي لم يكن يخطط لشيء إلا ومنى معه، وعندما رفضته لم يعرف
ماذا يفعل بحياته، وحزنت له جدا، ثم اتصلت بمنى: كان صوتها متغيرا بعض
الشيء إن السنين فعلت فعلتها مع الكل وكذبت عليها أخبرتها بأني أتصل من
لندن: وباركت لها الزفاف وسألتها أين الز واج لأن والدتي تريد أن تحضر فقالت
بأنه بنادي في الخرطوم وأعطتني عنوانه، وسألتها ألستم بعطبرة. قالت أن أباها
سوى معاشه وبنى بيتا بالحلفاية ببحري وهو قطعة أرض تخص جدهم كان فيها
نزاع ورثة ولكن بعد قسمة الورثة أصبح لهم، وهم يقيمون فيه الآن، ثم صمتت
برهة وقالت: أنا افتقدك بشدة ثم سمعت صوت بكائها. أغلقت الخط بسرعة، يجب
أن أذهب إليها الآن، ثم تراجعت فقد تخيلتها محاطة بشلة طارق هذه الأيام، لكن
هل يفتكرون بعد هذه السنين هذه المسألة، ثم إننى لا أعرف منطقة الحلفايه
جيدا، ثم إستقر قراري على الذهاب إلى العرس مباشرة وهو ليس بعيدا، كما أن
والدتي أخبرتني أن لا أخرج من البيت هذه الأيام لأن كل الأهل سيأتون للسلام
والتهنئة فهم لم يروني منذ أكثر من عشرة أعوام، حاولت أن أجمع معلومات عبر
التلفون عن شلتي لتحضر معي الزواج ولكن يبدو كأنني أسأل عن القرن الماضي
تغيرت أرقام ورحل الكل من مكانه، كان يمكن أن أسأل منى ولكنها ستشك في
أمر وجودي في السودان، وقررت أن أخذ خالد ووالدتي معي الى العرس.وأدركت
لماذا تصر الوالدة على بقائي بالبيت حيث كانت تجهز لي عرسان من أهلها.
كان النادي قرب المطار ليس بعيد اً عنا، وعندما جلسنا على إحدى الموائد،
كان قد بدأ تقديم العشاء، ولم أتعرف على أحد من الحاضرين لم يكن هنالك أحد
من الجامعة، ثم جاءت والدة منى وسلمت علينا وجلست بالقرب من والدتي، ثم
رايت على بعد سامية جالسة وكانت تنظر إلى لم أعلم ماذا أفعل، وقررت أن ألوح
لها بيدي وٕاذا ردت التحية ذهبت إليها ولكنها أشاحت بوجهها بعيد اً، كانت تبدو
أكبر بكثير مما تخيلتها ثم جاء طفل في حوالي السابعة من العمر يتكلم معها، قد
يكون ابنها، كان الجميع ينتظرون وصول العريسين، ثم بدأ الغناء، كان من يغنى
يبدو معروفا لدى الحضور، حيث كان الجميع يغنون معه، وأحسست أنني
كالأجنبية لا أعرف شيئا حاولت بل تمنيت أن أرى ياسر ولكن لم تقع عيني عليه
بل رايت والدته كانت جالسة في الخلف مع إحدي النساء كانت عيناها الحزينتان
تنبىء عن ثقل الواجب الذي أحضرها إلى هنا، كنت أعلم أنها تنتظر منى لتبارك
لها وستذهب على الفور، ثم إستأذنت والدة منى وذهبت إليها، وظللت أراقبهما،
كانتا تتبادلان حديثا لم أسمعه ولكني أعلم مضمونه من كلمات مجاملة فارغة
المعنى لا تمحى حزنا، ثم جاء موكب العريسين ومن وسط الزحام الذي كان
يحيط بهم لمحت وجه منى كانت عروسا ما أجملها، حمدت الله الذي أحضرني
هذا اليوم، ورايت فدوى تمسك لها الطرحة، ولكن كانت المفاجأة كان شكل طارق
مختلفا، لا إنه ليس طارق..



يتبع..




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-08-17, 01:04 AM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


للجنوب قصة اخيره
طلبت من وصال أن تذهب معى فى مشوار قبل أن أعيدها إلى منزلها،
فوافقت إتجهت مباشرة إلى دلالة السيارات فى الخرطوم، كانت حركة بيع
السيارات المستعملة فى قمتها، فقليل من يستطيعون شراء سيارة جديدة، وإنتظرنا
فى السيارة وأنا أبحث بنظرى عن عباس، حتى وجدته وهو يحاول إقناع زبون
بجودة السيارة التى يريد بيعها، نزلت من السيارة وإقتربت منه، ظللت أسمعه حتى
إقتنع الزبون بالشراء، كانت محادثته للزبون قصيرة ولكن خيل إلى بأنه مارس كل
خبرته فى الجامعة والعمل السياسى والتطوعى فى بيع هذه السيارة، دفع الزبون
عربونا وأخذ السيارة فغدا سيمضون العقد فى أحد مكاتب المحاماة، وبدأ عباس
يعد فى رزمة النقود بدون أن ينتبه بأنى واقفة أمامه، وكدت أن أضحك عندما
رانى فقد إرتبك فهو يتذكر بأنه تحدث معى وهو مخمور والآن هل يعود إلى
العداء من جديد؟، أم يبدأ صفحة جديدة، ولكنه بذكاء وجد طريقة يبدأ بها الحوار
فقال: سنتحدث بصراحة، أنت تعرفين من أين تؤكل الكتف، ولكن إسلوبك غير
أخلاقى.
قلت مبتسمة: وهل هذا خطائى أم خطأ من يشرب الخمر.
قال بعصبية:ما حدث قد حدث، ماذا تريدين الآن ؟. .
قلت: عنوان جيمس فى الجنوب.
قال: قرية اسمها أدك شرق مدينة جوبا، مسافة ساعة بالسيارة.
قلت : ألا تريد أن تعرف لماذا أسأل عن العنوان.
قال: ما تفعلينه لا معنى له، جميعهم ماتوا حتى إذا لم نعثر على جثتهم مثل
جيمس.
قلت مبتسمة: تبدو متأكد اً.
قال: مازلت أعيش فى مخبأ جميعهم يعرفوه، فلو كان أحدهم حياً لزارنى على الأقل.
قلت: فى هذه القرية أسأل عن ماذا بعد أن أصلها.
قال: مطعم جيمس أريل، زوجته إسمها فيفيان.
قلت: يبدو أنك زرت المكان.
قال:عندما تخرج جيمس ذهبنا معه أنا وطارق. لمعت فى عينيه دمعة حزن ثم
ذهب سريعا حتى لا أري دمعته، وأدركت فى هذه اللحظة أن عباس تعمد
معاداتى ليس بسبب الماضي فقط ولكن لا يريد أسئلة تذكره بالماضى، لقد كان
الألم شديدا فاتخذ قرار لا رجعة فيه هو النسيان بأى طريقة حتى ولو كان خمرًا.
تركت عباس وأنا أفكر فى كلامه، كان منطقيا، ولكنى بدأت الطريق فلابد
أن أكمله، أوصلت وصال إلى منزلها، وعدت إلى المنزل وجلست على مكتبى
سجلت عنوان جيمس فى مفكرتى، وبدأت أفكر كيف أسافر إلى الجنوب، فتح
باب الغرفة ودخل خالد وهو يضحك ويقول: يا حفارة القبور، هل عرفت أين ذهب
طارق؟.
قلت: دكتورة عزة لا تلعب. مددت له المفكرة أخذها وقال: أدك فى الجنوب، لا
تقولى إنك ستذهبين إلى هناك.
ضحكت وقلت: طبعاً، هل يمكن أن نعيش بدون أن نعرف تكملة القصة.
قال محذرا: لو علم أبى أو أمى بالفكرة فقط سيقتلوك.
قلت بتحدى: أبى هو من سيطلب منى الذهاب.
خرج من الغرفة وهو يقول: أنت أصبحت مجنونة رسمى وشعبى.
ذهبت إلى مراكز أربعة من منظمات الاغاثة العاملة فى السودان، وسجلت
إسمى كمتطوعة للعمل بدون أجر وقدمت شهادتى بأنى دكتورة فى الإقتصاد،
وحددت المنطقة التى أتطوع فيها، عاصمة الجنوب مدينة جوبا فقط لا غير،
وتركت لهم عنوان أبى وتلفون مكتبه، ثم ذهبت إلى المكتبات فى سوق الخرطوم
وإشتريت كمية من الكتب، تكفينى للجلوس فى غرفتى لمدة شهر حتى أكمل
قراتها، وبدأت فى تنفيذ الخطة وهى البقاء فى غرفتى حتى يعتقدوا بأن حالتى
النفسية سيئة، كنت أغلق باب الغرفة بالمفتاح حتى لا يرانى أحد وأنا أقرا، كنت
أريدهم أن يتساءلوا لماذا أجلس وحدي؟.
كنت لا أنزل من غرفتى إلا وقت وجبة الغذاء، وأتعمد أن لا أكل إلا القليل،
ومشاركتى أحاديثهم بردود مقتضبة، ثم أتركهم وأصعد إلى غرفتى، وبعد خمسة
أيام بالتمام والكمال أتى الفرج، فقد كنت قد مللت الجلوس لوحدى، وما أن جلسنا
للغداء حتى سألنى أبى بما كنت أنتظره: هل قدمت للعمل فى منظمات خيرية؟.
قلت بدون مبالاة: لا أذكر ذلك. ثم صمت لحظات وقلت: تذكرت لقد كانت هناك
منظمات إغاثة تأتى إلينا فى الجامعة وملأنا الإستمارات للعمل التطوعى.
فقال: إتصلت بك منظمة للعمل لمدة اسبوعين بدون أجر.
فقلت: لست مهتمة، فأنا أفكر فى العودة إلى لندن. وكأنى ألقيت قنبلة توقف أبى
عن الأكل وهو ينظر إلىّ بغضب، ووقفت والدتى وهى تصيح: لو كنت تعتقدين
بأنك دكتورة ويمكنك فعل ماتريدين فأنت واهمة، لن تخرجى من هنا إلا إلى بيت
زوجك، أعتقد أن كلامى واضح.
فقلت مدافعة: لا يمكن أن أظل جالسة بدون عمل.
فقال والدى: إذا كان على العمل فأمره سهل، أبدأى بالعمل التطوعى بدل الجلوس
فى غرفتك، وسأكون قد تدبرت لك عملا فى هذا الوقت. نظرت إلى خالد الذى
كان يجلس مواجها لى فوجدته يبتسم لى باعجاب، فقد كان يعلم بأنى أدرت اللعبة
جيدا، ولكنى أعترف هذه أول مرة أستطيع أن أخدع أبى، فلم أنجح فى ذلك من
قبل.
لم أخبرهم بالطبع بأنى ذاهبة إلى مدينة جوبا فى الجنوب حيث الحرب
مستعرة، فقلت لهم إنى ذاهبة إلى الغرب فى دارفور فكوارث هذا البلد كثيرة بحيث
يمكنك أن تختار الكارثة التى تناسبك، أوصلنى خالد إلى المطار حيث كانت مس فرانك البريطانية المشرفة على الرحلة تنتظرنى كان معها لفيف من الجنسيات
المختلفة ومجموعة من السودانيين، كان العدد الاجمالى أكثر من خمسة عشر
فردا، وكانت المهمة توزيع مواد إغاثة وخيام لمتشردى الحرب فى الجنوب، نظر
إلىّ خالد وهو يودعنى وقال: أنا غير موافق على هذه الرحلة، ولكنى بقيت صامتا
حتى لا تزيد المشاكل بينك وبين أبى.
قلت له: لو كان هناك خطر فى المناطق التى سنذهب إليها لما وافق هؤلاء
الأجانب على الذهاب إنهم حريصون على حياتهم.
قال: لن تمكثى غير إسبوعين كحد أقصى.
قلت: قد أعود بعد إسبوع واحد.
حلقت بنا طائرة روسية الصنع قديمة الطراز، كنت دائماً أتسائل لماذا تكثر
حوادث الطيران فى هذا البلد، ولكن بعد أن بدأت الرحلة تغير السؤال لماذا لا
تقع هذه الطائرات، وكانت الاجابة لأن الله هو الرحمن الرحيم، فليس هناك سببا
منطقيا واحدا يجعلها تواصل الطيران، بعد حوالى ساعتين إنتهت رحلة الرعب
ووصلنا بالسلامة إلى مدينة جوبا ولكنى قررت أن أعود بالسيارة، حتى لو
إستغرقت الرحلة ثلاثة أيام بلياليها، كانت جوبا قليلة البنيان كثيرة الخضرة
والأمطار، كانت الطبيعة خلابة تأثر النفوس، قضيت أول يومين ونحن نسير من
قرية إلى قرية نوزع المؤن والخيام، وسألت مس فرانك عن المغزى من إختيار
قرى بعينها، بينما يتم تجاهل قرى أخرى، فأجابت بأنهم يسيرون حسب خطة
موضوعة سلفاً ولا يمكن تغييرها، لم أشعر بالإرتياح لردها خصوصاً إجتماعاتهم
السرية التى يعقدونها ليلا بعد العودة إلى جوبا بدون حضور السودانيين منا،
فشعرت بأنها إستخبارات حرب وليست مهمة سلام، وفى اليوم الثالث طلبت من
مس فرانك زيارة قرية أدك ليوم واحد، وتفاجأت بقبولها الأمر سريعاً بل إنها
خصصت سيارة بسائق لتوصيلى إلى هناك، وطلبت منى أن أرسل لها عندما
أرغب فى العودة حتى ترسل إلىّ السيارة، ورغم فرحى بهذا إلا أننى أحسست
بأنهم يريدون إبعادى بأى طريقة فيبدو أن أسئلتى الكثيرة لم تجد هوى فى نفوسهم،
كانت أغلبية السيارات المستخدمة فى المنطقة، سيارات الدفع الرباعى أو سيارات
الجيش، فالطرق الطينية الموحلة لا يمكن إجتيازها بالسيارات العادية، وفى صباح
اليوم الرابع إنطلقت مع عبد الرحمن السائق بسيارة جيب مكشوفة إلى أدك، وكان
الطريق ممهدا أكثر مما كنت أتوقع فقال لى عبدالرحمن أن أدك تقع فى طريق
حامية عسكرية من أكبر معسكرات الجيش، ويعتبر هذا الطريق المدخل الشرقى
لمدينة جوبا عاصمة الجنوب، وسألته عن العمليات العسكرية الدائرة الآن فقال إنه
بعد عملية صيف العبور عام أثنين وتسعين وإكتساح الجيش للجنوب أصبحت
هذه المناطق أكثر أمنا مقارنة بأيام الديمقراطية حيث كان المتمردون يحتلون
أغلب المناطق، فقد كان الجيش فى أسوأ حالاته، ظللت أراقب أشجار المانقو
والموز والسيارة تشق طريقها بصعوبة وسط الأوحال، كان الجو جميلا ولكن
السماء تنذر بالهطول فى أى لحظة، فهذه المناطق أمطارها طول العام، إنقضت
ساعة بالتمام والكمال وبدأت القرية فى الظهور كانت عبارة عن بيوت قليلة من
الطين والباقى قباب من القش وخشب الأشجار، تحيط بها أشجار المانغو
والأناناس وسهول من الموز، كانت كأنها قطعة من الجنة، وكان الطريق يشقها
الى نصفين، وقبل أن نجتاز نصفها كان المطعم ظاهرا فهو الوحيد الذى كانت
واجهته من الطوب الأحمر يعلو الواجهة مربع من القماش مكتوب عليه
بالانجليزية إستراحة جيمس أريل، توقفت السيارة أمامه مباشرة، نزلت وإتجهت
إلى الإستراحة بينما ظل عبدالرحمن داخل السيارة، أطلت امراة من داخل
الإستراحة، كانت طويلة لها عيون نافذة جميلة واسعة يزيد من صفائها لمعان
بياض عينيها وجهها الأسود الناعم كالأبنوس، وإبتسامتها المرحبة جعلتنى أتيقن
بأنها صاحبة المطعم فيفيان زوجة جيمس، سلمت عليها بحرارة فأحست بأنى
لست زبونة لمطعمها فسألتها: أنت فيفيان.هزت راسها بالايجاب منتظرة منى أن
أسترسل فى الحديث فقلت لها وأنا أحاول أن أكون أقرب مايكون من عينيها حتى
يتسنى لى معرفة رد فعلها على ما أقوله: هالة المغربى أخت طارق المغربى.
تسمرت مكانها لحظات ثم عانقتنى بحرارة، دعتنى إلى الدخول وهتفت إلى عبد
الرحمن أن يأتى، كانت تتحدث العربية بطلاقة، عندما دخلت إلى الإستراحة
أكتشفت أن الطوب الأحمر للواجهة فقط بينما من الداخل كانت عبارة عن حوائط
من الطين معروشة بخشب الأشجار مكونة صالة كبيرة تتسع لأكثر من عشرة
موائد صغيرة وفى الجانب المفابل للباب حجرة من الطين تمثل المطبخ وبها باب
وشباك يفتحان على الصالة والباب الاخر يفتح على حوش داخلى، أدخلتنا
فيفيان إلى الحوش مخترقين مطبخها الصغير كان بالحوش غرفتان تفتحان على
بعضهما وتربطهما صالة واسعة مفتوحة من الأمام والخلف بها ورود مزروعة
على جنباتها فبدت كالحديقة المظللة، بها كراسى مرصوصة عليها مساند بألوان
الورود المزروعة، وكان هناك حمام فى ركن الحوش، وباب فى الحائط الخلفى
للحوش يؤدى الى الحقول، وحظيرة ماشية فى الركن الأخر، وأن ظهر لى مبنى
وسط الحقول لونه أبيض لم أعرف ماهو، جلسنا على كراسى الصالة، وأحضرت
لنا فيفيان شراب الأناناس والمانجو، كانت تنظر إلى مبتسمة وهى تجلس أمامى
فقلت لها: أريد أن أمكث معك يومين هل هذا ممكن؟.
فقالت وهى تضحك: سنة لو أردت، فهنا الأيام تتكرر لا يغيرها إلا وجود
الضيوف.
إستأذن عبد الرحمن فهو يريد العودة قبل هطول الأمطار، وقال إنه سيعود بعد
يومين، تلفت حولى أحاول أن أعثر على أى شىء يدل على وجود طارق، فلم
أكن أستطيع أن أسأل عن طارق وأنا منتحلة شخصية أخته هالة فلو إنها كانت
تعلم بوفاته كما هو مشاع ولم يأتى إلى هنا ستشك فى شخصيتى فسألتها وأنا
أحاول الوصول إلى هدفى بطريقة غير مباشرة: هل تعيشين بمفردك؟
قالت مبتسمة: مع والدى وأطفالى لقد ذهبوا لصيد الغزال، لا أعلم لماذا تأخروا
حتى الآن، فان أشهر طبق لنا فى المطعم هو لحم الغزال، فكل سيارات الجيش
العابرة تقف عندنا لذلك. شعرت بالخيبة فطارق ليس هنا، أين ذهب إذن، هل
سأقضى بقية عمرى أبحث عن وهم، فسألتها باحباط قائلة: أعذرينى ولكن هناك
سؤال أريد أن أسأله وأخاف أن أسأله، هل جيمس مات؟.
قالت بحزن: نعم.
قلت: كيف؟.
قالت: فى إحتراق مبنى فى الخرطوم.
هذا ماكنت أنتظره لا يعلم بأن من مات فى المبنى هو جيمس إلا أنا وطارق
نفسه، إذن فعلا طارق أتى إلى هنا إشتعل الحماس داخلى، فيمكننى أن أسأل ما
أريد، ولكن نظرنا إلى الباب الخلفى على صوت والدها وولداها مع عربة باثنين
من العجلات يجرها حصان، أصغر من عربة الكارو التى تكون فى العادة على
أربع عجلات، محملين العربة بثلاث غزلان كان صوت ضحكاتهم عاليا ولكن ما
أن راونى حتى صمتوا وإقتربوا والفضول يغمرهم، كان والدها ينظر إلىّ بريبة،
كان جسده نحيلا طويلا وشعره الأبيض يعطى انطباعا بأنه حكيم القرية، فتبادل
والدها مع فيفيان الكلام بلغة محلية لم أفهمها ثم فجأة تغيرت ملامح فيفيان،
ونظرت إلى وقالت غاضبة: من أنت إن أبى يقول إنك لست هالة المغربى.
تسمرت مكانى من المفاجأة، أين راى هذا العجوز هالة حتى يعرف إذا
هى أم لا؟. لم يكن أمامى إلا الإصرار على أنى هالة، فترجمت له فيفيان
حديثى، فثار غضبا ثم دخل إلى الغرفة ثم خرج معه شنطة حديد صغيرة، ثم
أخرج كراسة رسومات من داخلها ثم أخذ يقلب صفحاته نظرت سريعاً الى
محتويات الحقيبة، ولاحظت مظروف أزرق فأخذته سريعاً، وكما إعتقدت إنه من
فيصل كسلا الى طارق المغربى، كانت بعض أطرافه بها أثار حريق كان طارق
يحمله معه يوم إحتراق المبنى، إنتزعت فيفيان المظروف منى وأعادته إلى الحقيبة
وأغلقتها، وأخذت تنظر إلىّ بغضب، ثم مد والدها كراسة رسومات إلىّ مشيرًا إلى
الصفحة المفتوحة، نظرت إلى الرسم وتملكتنى الدهشة فقد كانت هالة المغربى
بكل قسماتها، كان الرسم بقلم الرصاص، إن طارق وصفها له بدقة متناهية لقد
كان يفتقد إخته بشدة، ولكن معنى ذلك أن طارق كان يجيد اللغة المحلية فهذا
العجوز لا يبدو أنه يعرف اللغة العربية ولا اللغة الانجليزية، ثم إن فيفيان تجيد
العربية بطلاقة، فمن غير طارق يمكن أن يعلمها، فجيمس كانت لغته العربية
ركيكة، إذن طارق كان يعيش هنا ولمدة طويلة قد تكون لسنوات، إنتبهت إلى
فيفيان ووالدها وولداها ينتظرون منى أن أقول شيئا، لم يعد هناك مجال للانكار
فالدليل دامغ فقلت محاولة إمتصاص الغضب من عيونهم : هذه فعلا هالة إنك
تجيد الرسم بطريقة مذهلة. ترجمت فيفيان حديثى إليه، فرد عليها بطريقة
مختصرة، فقالت: إنه يقول هذا ليس الموضوع، من أنت وماذا تريدين؟.
قلت: دكتورة عزة الرشيد محاضرة فى جامعة الخرطوم وجئت أبحث عن طارق
المغربى فقد كان زميلى فى الدراسة.
فقالت فيفيان: وكيف علمت بأنه جاء الى هنا.
فقلت محاولة إستمالتها إلى صفى: لأنى الوحيدة التى تعلم بأن جيمس مدفون
مكان طارق، وأعلم تفاصيل ما حدث لجيمس قبل وفاته. فتحدث والدها غاضبا
معها.
فقالت: والدى يطلب منك الرحيل حالا .
فقلت: إلى أين أذهب، أنت تعلمين أن سيارتى ستأتى بعد يومين.
قالت: سيارات الجيش ستعيدك إلى جوبا.
قلت وأنا أكذب: ولكننا جئنا من معسكر خارج جوبا لا أعرف حتى أسمه، صمتت
والحيرة تبدو عليها ثم إلتفتت إلى أبيها وأخذت تجادله ثم قالت: يمكنك الإنتظار.
ثم بدأوا فى حمل غزلانهم إلى المطبخ، وأصبحت معزولة تماما فقد كان والد
فيفيان يراقبنى بصمت، بينما فيفيان تجلس فى المطبخ وأولادها يقومون
بمساعدتها، خرجت وجلست فى صالة الإستراحة ولكن كان كل العساكر الذين
بدأوا بالحضور، ينظرون إلى بدهشة من هذه المراة الشمالية التى تتلفح ثوبها، فما
الذى أتى بها الى هنا، تضايقت من نظراتهم، ثم دخلت إلى الحوش ثانية حيث
وجدت والد فيفيان يراقبنى، خرجت من الباب الخلفى للحوش وبدأت أتمشى، إن
بحثى عن طارق وضعنى فى مواقف لم أكن أتصور يوما أن أمر بها وتذكرت
حارس المقبرة وهو ينظر إلى بدهشة وأنا داخل القبر، إبتسمت وقلت لنفسى إنك
فعلا مجنونة ياعزة، والآن أنا موجودة فى منزل أهله لا يرحبون بى ولكنى مصرة
على البقاء معهم بالقوة، أعتقد بعد كل هذا لو وجدت طارقا حيا لقتلته بنفسى،
ولكنى أحس بأن طارق قريب كأنه ينظر الىّ، ولكن لماذا لم تساعدنى الأقدار
هذه المرة، فلو تأخر والد فيفيان وأولادها فى الحضور لدقيقة واحدة كنت سألت
فيفيان أين طارق وأخبرتنى وإنتهى الأمر فما الحكمة من هذا، أين تلك القوة التى
كنت أحس بأنها تساعدنى فى الخفاء، فهى من أعطتنى شرائط ياسمين، وهى من
أحضرت منى حسين إلى غرفتى فعلمت منها أن طارق تعمد وضع محفظته فى
المبنى المحترق، وهو ما أدى إلى وجودى إلى هنا، إقتربت من المبنى الأبيض
وسط الحقول كان به غرفتين وحولها سور جميعها مبنية بالطوب ومطلية باللون
الأبيض وعندما أصبحت بمحازاة البوابة لاحظت ورود متشابكة فوق حجر من
الأسمنت بالقرب من البوابة من الخارج، أزحت اغصان الورد بيدى، كان كأنه
حجر أساس المبنى، كتب عليه إفتتح المهندس جيمس أريل مدرسة أدك اليوم
بحضور طارق المغربى وعباس أدم، عندما تحدثت مع عباس فى المرة الأخيرة
أدمعت عيناه هل تذكر مشهد إفتتاحهم المدرسة قبل أكثر من عشرة سنوات،
دخلت المدرسة كان الباب يعلوه الصدأ، أصدر صريرا عاليا، إجتزت فناءا صغيرا
ثم رايت جرسا ضخما من الحديد يتدلى منه حبل أمام الغرفة الأولى دخلتها
كانت عبارة عن فصل واسع، وكل شىء مغطى بالغبار، ذهبت إلى الغرفة الثانية
وكانت عبارة عن مكتب واحد ومكتبة بعرض الحائط، ثم سفرة كبيرة تتسع لأكثر
من إثنى عشر كرسياً، كان واضحاً إنها كانت تستخدم كمكتب للمعلم ومكتبة
للقراءة فى نفس الوقت، خرجت من المدرسة وأنا أعود أدراجى بهدوء فلم يكن
هناك ما يدعو إلى الإسراع، قد يكون طارق هو المعلم فى هذه المدرسة ولكن
المدرسة لا تعمل، فهى تبدو مهجورة من سنين فأين ذهب طارق، قضيت بقية
اليوم وأنا جالسة فى الصالة أراقبهم وهم يراقبوننى بدون الإقتراب منى، وإستغربت
لماذا يخافون منى، إن ما أسأل عنه إنتهى منذ عشرة سنوات فلماذا الخوف من
الحديث، ولكن رغم كل شىء كانت فيفيان مضيافة إلى أبعد الحدود حيث كانت
تحضر لى العصائر والوجبات، ولكنهم يتركونى أكل بمفردى، وفى الليل نمت مع
فيفيان فى غرفة ونام أبناها فى الغرفة الأخرى مع جدهم، فما أن تغرب الشمس
وبدون وجود كهرباء أو تلفون لم يكن هناك إلا أن تستمع إلى الإذاعة أو النوم،
وكان حديث فيفيان صحيحاً فى رتابة الأيام فقد تكرر اليوم الثانى بنفس الطريقة
فيفيان تطبخ وولداها يساعدانها فى الإستراحة وهذا العجوز يتمعن فى وجهى
ويراقبنى طول الوقت، من يراه يعتقد أن هناك كنزًا من الجواهر يخاف أن أسرقه
منه، ورغم أننى أحسست بأن فيفيان تريد الحديث معى لا لشىء بل لكسر الملل
ولكن وجود والدها كان مانعاً كافياً، ولم أحاول الإقتراب منها، فان ما كان يشغلنى
هو البحث فى الحقيبة التى أخرجها العجوز فيبدو أن بها أشياء تخص طارق،
يحتفظ بها العجوز لوحده، حتى أن فيفيان لم تدري بأن والدها قد رسم أخت
طارق، أو انها راتها منذ سنوات ولم تهتم بالأمر، فهناك الكثير من الرسومات
يرسمها هذا العاطل، كما أن فيفيان تتذمر من أوامره الكثيرة، وبدأت تخترق راسى
فكرة مجنونة جديدة، كل ما أرغب فيه هو ذهاب والد فيفيان وأولادها إلى الصيد
من جديد، وتكون فيفيان مشغولة فى المطبخ عندها يمكننى البحث فى محتويات
طارق فهى من سترشدنى إليه، ذهبت إلى المطبخ وألقيت نظرة على ما تبقى من
اللحم المملح، لم يكن كثيرًا إذا غداً سيذهبون إلى الصيد، لم أستطع النوم وأنا
أنتظر الصباح، ولكن الصباح كان مخيبا فقد جلس والد فيفيان فى الخارج منتظرا
سيارتى، وإستعجبت من أمر هذا الرجل فهو تواق لرحيلى بطريقة غير إعتيادية،
وشعرت فيفيان بقرب رحيلى فطلبت منى أن أذهب معها لقطف بعض
الخضروات والثمار من الحقول، ولكنى رفضت بحجة أنى أنتظر السيارة للرحيل،
وشعرت بأنها تألمت فلم تكن تريدنى أن أذهب ونحن بهذا الوضع، ولكن لم
يمنعنى من الذهاب معها رغبتى فى السفر بل لأنى أريد أن أمنع السفر، فخرجت
من الإستراحة وتوجهت إلى الحدود الغربية للقرية كنت أريد أن أقابل السيارة بعيدا
وأخبر عبد الرحمن السائق بأن يعود أدراجه ويأتى بعد يومين أو ثلاثة، ولكن
العجوز فطن إلى سلوكى الغريب وأخذ يسير خلفى، فأصبحت أسير بهدوء كأننى
أتمشى ثم عدت إلى الإستراحة فعاد خلفى دخلت إلى الحوش وخرجت من الباب
الخلفى وكان يتبعنى كظلى فرايت فيفيان وسط الحقول فسرت إليها، وما أن
إقتربت منها حتى سألتنى: لماذا غيرت رايك؟.
فقلت: هناك أشخاص عندما ترينهم تعرفين بأنك يمكنك كسب صداقتهم لو
وجدت الوقت لذلك وأنت منهم.
تأثرت بكلامى وقالت: صدقينى لست غاضبة منك.
قلت: سؤال واحد أريد إجابته أين ذهب طارق؟. وسأذهب بعدها.
قالت: لقد ذهب.
قلت: الى أين.
قالت مبتسمة: لقد قلت سؤال واحد. أخذت سلة الخضار وبدأت طريق العودة،
كنت أسير خلفها وأنا أقول: ألا يمكن أن تقدرى بأنى قدمت من الخرطوم من أجل
ذلك وسأعود اليوم بدون معرفة شىء. قبل أن ترد كان العجوز قد إقترب منا وهو
ينظر الى بنته بغضب، تابعنا العودة والصمت سيد الموقف، جلست فى الصالة
أنتظر حضور عبد الرحمن ولكنه لم يأتى، وحتى المساء لم يأتى، وشعرت بالفرح
لأن مس فرانك تريدنى بعيدا منعت عبد الرحمن من الحضور، كان العجوز
غاضبا لعدم حضور سيارتى، ثم فى المساء بدأ بالشجار مع فيفيان التى كانت
تصيح فى وجهه، لم أتدخل بل ذهبت مباشرة الى سريري، رغم أنى لا أعلم اللغة
التى يتحدثونها ولكنى كنت أعلم محتواها فهو يريدنى أن أغادر بأى سيارة ولكن
فيفيان أصرت على حضور سيارتى، وفعلا هذا ما أكدته لى فيفيان فى الصباح،
وبدأ واضحاً أن العجوز لا يريد الذهاب إلى الصيد ويتركنى مع فيفيان، ولكن
فيفيان جعلت إبنيها يجهزون العربة، وأخيرًا إضطر والدها الى الذهاب للصيد فلم
يعد هناك ما يقدمونه للزبائن، بعد أن أعطى فيفيان الوصايا العشر بعدم الحديث
إلىّ، وبدأت تنفيذ خطتى باخبار فيفيان بأنى أريد أن أنام قليلا حتى تحضر
سيارتى، وبعد نصف ساعة تأكدت من انهماكها فى تنظيف الاستراحة، تسللت
الى الغرفة المجاورة وفتحت الحقيبة، أول ما أثار إهتمامى جرائد مطوية بعناية،
كانت عبارة عن خمس جرائد فى فترات زمنية متباعدة فى فترة الثمانينات،
تصفحتها سريعاً لم أجد خبر يثير الإهتمام، فأرجعتها ثم وجدت صندوق صغير
من القطيفة فتحته ووجدت به دبلتين، ما زال محتفظا بها، أه لو تعلم منى كم
أحبها طارق، ثم كراسة الرسومات، تصفحتها كانت هناك رسوم لفيصل وعباس
وجيمس وشخصيات لم أعرفها، ثم كان التمييز بصورة منى وبها دمعة على خدها
كانت قمة فى الروعة، منى كما يراها حبيبها، من كثرة خطوطها أدركت أن طارق
جلس مع هذا العجوز وقتا طويلا فى هذه اللوحة، كان هناك مصحف وكتاب فى
شعر المعلقات وكتاب عن تاريخ الخرطوم، ثم فتحت قصيدة فيصل الموجودة فى
المغلف الأزرق وقراتها وهى تقول: إهداء من فيصل إلى طارق
ضد العسكر ليس إلا...
بأى لون وأى حزب وأى ملة
لأن حكم الفرد ظلم ..
لأن حكم الفرد زلة ..
لأن العدل فى الجمع سنة
ضد العسكر ليس إلا..
بأى لون وأى حزب وأى ملة
فى الشتاء وفى كل الفصول
وعند الشروق وعند الإفول
ومنذ ولادة الطفل الرضيع
الحرية يا خلق فطرة
لا نقول يا شعب جود
أتعب الجلاد من سلخ الجلود
أو نقول ياشعب ناضل
سنعيدها غرس المشاتل
بل نقول ياشعب إقرأ
بل نقول ياشعب إقرأ
ضد العسكر ليس إلا..
بأى لون وأى حزب وأى ملة.
كان هذا الظرف هو الشىء الوحيد الذى جاء مع طارق من الخرطوم، ودبلة منى
لابد انه كان يلبسها فى أصبعه مع دبلته، لو علمت منى بأن طارق لم يخلع
دبلتها أبدا ولكن لماذا لا يلبسها الآن هل توفى وهم يحتفظون بأشيائه من باب
الذكرى، ولكن إذا كان قد مات فلماذا يخافون منى، فاذا كان حيا فخوفهم مشروع
فقد أتى هاربا من الخرطوم ويريدون حمايته من أى غريب ولكن ألا يعلمون أن
الإنتفاضة أسقطت النظام ولا خوف على طارق، هذا شىء محير فعلا . أغلقت
الشنطة وأعدتها مكانها وعندما عدت إلى غرفة فيفيان كنت أسأل نفسى لماذا
إحتفظ طارق بهذه الجرائد لم يكن بها خبر يثير الإهتمام، والآن ما العمل بحثى
فى الشنطة لم يجب على تساؤلاتى بل ا زدها، بدأ اليأس والغضب يتسربان إلى
نفسى فقد وصلت إلى طريق مسدود، ولا شىء يمكننى فعله، ولكن عندما لا تجد
ما تفعله فهى إشارة من القدر بأن عليك الإنتظار، سأحاول أن أتقرب إلى فيفيان
أكثر، ذهبت إليها وبدأت أساعدها فى تقطيع الخضار، وغسيل الأوانى وبدأت
أحكى لها تاريخ حياتى وهى تستمع باهتمام، وحكيت لها عن سبب عداوتى مع
طارق، وبدأت تضحك وهى تقول أن طارق لم يروى لها شيئا عن الخرطوم غير
أحداث وفاة جيمس ولكنه لم يكن يحب حتى التطرق الى حياته الماضية فسألتها:
ماذا قال لك عن وفاة جيمس .
قالت: لقد أخبرنى بأنه طلب من جيمس الإنسحاب من الإنقلاب الذى كانوا
يعدون له ولكن جيمس رفض ثم تشاجرا، فأخفى جيمس كل شىء متعلق بالأجهزة
الخاصة بالإتصالات مما إضطر طارق إلى قبول إشتراكه، وأخبرنى أن الإنقلاب
تسربت أخباره فتم تصفية الجميع، ولكنه عثر على عباس حيا وطلب منه
الهروب، ولكن عندما ذهب إلى جيمس وجده محترقاً بالكامل، ولكنى علمت بأن
هناك شيئاً حدث عندما أتت سيارات الجيش إلى هنا ووضعنا تحت الرقابة لمدة
ستة أشهر حتى إندلعت أحداث الإنتفاضة وسقط العسكر.
قلت: ثم جاء طارق بعد ذلك؟.
قالت: لقد أخبرنى بأنه جاء إلى هنا مباشرة، ولكنه وجد سيارات الجيش ثم ذهب
إلى غرب السودان حيث عاش مع راعى للماشية، حتى سمع بسقوط النظام ثم
أتى إلى هنا حيث قام بالتدريس وإدارة المدرسة، وأصبح يساعدنى فى زراعة
الخضروات، و يذهب إلى الصيد مع والدى، ولكنه كان حزيناً وقد طلبنا منه
العودة إلى الخرطوم فقد كان واضحاً بأنه يفتقد أهله وحياته ولكنه رفض وشعرت
بأنه كان يمارس عقوبة على نفسه بالبقاء هنا فقد كان يشعر بمسوؤليته فى وفاة
جيمس رغم أنى أخبرته بأن جيمس هو من إختار هذا الطريق.
قلت: لم يخبرك بأن من قام بالإبلاغ عن الإنقلاب والده.
نظرت الىّ بدهشة وقالت: هذا يفسر لى لماذا كان يشعر بالذنب لما حدث، ثم
بدأت تبكى بحرقة، نظرت إليها لماذا كل هذا البكاء هل كانت تعشقه هى الأخرى
وسألتها: لماذا ذهب من هنا. بقيت صامتة وهى تمسح دموعها ظللت ألح عليها
ولكنها رفضت الحديث، شعرت بالغضب وقلت وأنا أمسك بكتفيها وأهزها بقوة:
أخبرينى أين ذهب وسأذهب على الفور.
فصرخت: لو علمت لن تذهبى أرجوك لا أريد مزيداً من المشاكل.
لم أفهم ماذا تعنى، وسمعت صوت سيارات جيش كثيرة وقفت بالخارج ولكنى لم
أهتم فقد كانت كلمة واحدة من فيفيان تنهى لى هذه القصة فواصلت هز كتفيها
وأنا أسألها أين ذهب طارق؟. ولكنى توقفت عندما رايت نظرة الرعب فى عينيها
وهى تنظر خلفى، كانت مجموعة من العساكر دخلوا إلى الاستراحة، وقال أحدهم
وهو يقف عند باب المطبخ: فيفيان، سيادة المقدم يريد سؤالك عن المراة الشمالية
التى تقيم معك، ثم سكت بعد أن وقع بصره علىّ، نظرت الى فيفيان ولكنها لم
تكن تنظر الى العسكرى ولكن بصرها تخطاه إلى شىء خلفه، كان الخوف فى
عينيها فالتفت الى الخلف وجدت سيادة المقدم بدأ الدخول إلى الإستراحة كان
يلبس نظارة شمسية ولباسه العسكرى مرصعا بالنياشين، فرض هيبة على المكان،
ولكن ما أن أنزل نظارته من عينيه حتى أدركت أن الأقدار لم تبقينى فى هذا
المكان عبثا، صحت وأنا مذهولة: ياسر عبدالحميد؟..
ولكن تصرف ياسر لم يكن مرحباً أبد اً، فما أن رانى حتى إستشاط غضبا
وهو يصيح وقد برزت عروقة فى وجهه: عزة الرشيد ماذا تفعلين هنا، جئت
تبحثين عن طارق بعد أن قالوا لك بأنه مات، وأنا حى والكل يعلم بأنى حى ولا
أحد يفكر حتى أن يتصل بى.
لم يترك لى فرصة الرد فقد أمر الجنود بتحطيم المكان والقبض علىّ، وما هى
إلا لحظات كنت جالسة فى المقعد الخلفى لسيارة جيب مكشوفة تابعة للجيش
ويداى مقيدتان أمامى بقيود حديدية، كانت فيفيان واقفة فى عرض الشارع وهى
تنظر تارة إلى إستراحتها التى سويت بالأرض، ثم تنظر إلى تارة أخرى، ثم أخذت
سيارات الجيش بالتحرك باتجاه جوبا، ولكننا توقفنا فى عدة قري فى الطريق
فالعثور على كان خارج المهمات التى خرجوا لها، وما أن وصلنا عاصمة
الجنوب قبل غروب الشمس، توجه الموكب إلى معسكر للجيش، ثم أدخلت مبنى
جانبى مكون من غرفتين، أحدى الغرف مكتب واسع، والأخرى زنزانة يفتح بابها
على غرفة المكتب، أدخلنى العسكرى الى الزنزانة، كان النور يأتيها من شباك
صغير به قضيبان يفتح على الخارج وفتحة صغيرة فى باب الحديد تدخل قليل
من الضوء من غرفة المكتب، جلست فى ركن الزنزانة لم أكن خائفة، لأنى أعلم
بأن مايفعله ياسر من إحساسه بالجرح من تصرفى، فالعتاب على قدر العشم،
وشعرت بتأنيب الضمير فعلا لقد نسيت ياسر تماما على الرغم من أن علاقتى
معه قديمة، منذ أن تعرفت على منى أو منذ أن وعينا على الدنيا ثم يأتى
ويجدنى أبحث عن غريمه شىء مهين فعلا ، انه يشعر بأنه فقد الكل بسبب
طارق، طارق الذى إنتصر عليه وحصل على منى حسين إبنة عمه، فكان قراره
الهروب إلى الجنوب منذ أكثر من عشرة سنوات، كان يتوجب على السؤال عنه
حتى ولو بمكالمة تلفونية، فقد كنت حليفة ياسر وعدوة طارق والآن دارت الأيام،
وأصبحت حياتى كلها تدور فى ما فعله طارق، أهيم خلفه كأنه من بقية أهلى،
هشام كان محقا لقد فقدت عزة الأولى، أصبحت شخصية ثانية مرمية فى زنزانة
فى أقصى الجنوب، ماذا تريدين يا عزة، وماذا تفعلين هنا، غلبنى التفكير فنمت
على الأرض، عندما إستيقظت كان الظلام حالكاً فى الخارج، ولكن غرفة المكتب
مضاءة، نظرت الى ساعتى كانت قد تجاوزت الثالثة صباحاً، ثم سمعت صوت
بكاء خافت، وقفت وإتجهت إلى الأمام ونظرت من فتحة الباب، وشعرت بقلبى
ينفطر وأنا أ رى ياسر يجلس على المكتب بلباسه العسكرى وقبعته موضوعة أمامه
على المكتب، كان راسه بين يديه ويبكى كأنما يرثى حاله فقد كنت أنا من جعلته
يشعر بأن طارق هزمه، كنت أريد أن أقول له أى شىء يخفف هذا الألم النازف
من سنين، ولكن الموقف لم يكن يحتمل الحديث، فعدت وجلست مكانى وبدأت
الدموع تسيل على خدى، منذ أن عدت الى السودان وأنا أبكى كل من أقابلهم
وأصبحت مثل طارق كما قال عباس يسبب الألم لكل من حوله، بعد فترة ليست
قليلة سمعت الباب يفتح، ثم جاء عسكرى وأمسكنى من يدى وأخرجنى الى
المكتب حيث كان ياسر جالساً وأقعدنى فى كرسى مقابل لمكتب سيادة المقدم،
فقال له ياسر: فك الحديد. أطلق العسكرى سراحي من القيود الحديدية وخرج، ثم
جلسنا لمدة دقيقة ننظر الى بعض، كان وجه ياسر قد تغير، أصبح قاسياً جافاً
ولكن عينيه كانت هى الحزن نفسه، ثم قال بصوت خافت كأنما يحدث نفسه: عزة
الرشيد لماذا لم تقتنعى مثل بقية خلق الله بأن طارق إنتحر فى الخرطوم.
قلت: أنت تعلم مثل طارق لا ينتحر، ولكن صدفة غريبة أن تتقابلا ثانية فى
الجنوب.
قال: ليست صدفة غريبة، لقد قابلته بعد خمس سنوات من حضوره إلى الجنوب،
عندما حضرت الى هنا كان من ضمن مهامنا فى الإستخبارات العسكرية مراقبة
أى شمالى قادم الى الجنوب، لأنه إذا لم يكن تاجرًا، فاما أن يكون شيوعياً متعاوناً
مع التمرد أو تاجر سلاح، وكان لى صديق إسمه هاشم معى فى الجيش، كان
مسوؤلا عن مراقبة قرية أدك للبحث عن جيمس أريل، وذلك بعد أن جاءت
إخبارية من الخرطوم بالقبض على جيمس حياً أوميتاً لضلوعه فى محاولة
إنقلابية، وكنت عندما نكون متحركين إلى المعسكرات الشرقية أزوره فى قرية
أدك، هذه هى القصة التى جعلتنى أزور المكان لأول مرة وكان ذلك فى عام
خمسة وثمانين، ثم قامت الإنتفاضة وجاء عهد الديمقراطية التى كانت وبالا علينا
فقد تعرض الجيش لهزائم متتالية، نتيجة لصراع السياسيين على السلطة، وأصبح
المتمردون يحتلون أغلب المناطق فى الجنوب، وأصبحنا كالنساء نحتمى بالمدن
الكبرى، وعندما غرقت الخرطوم عام ثمانية وثمانين تحت الأمطار وسيول كان
إيذانا بأن الحكومة غارقة لا محال، وفعلا فى عام تسعة وثمانين أمسك الجيش
بزمام الأمور، وبدأت الحياة تدب فى الجيش من جديد، ثم جاءتنا إخبارية فى
عام تسعين بأن هناك شمالى يعيش فى قرية ادك بصورة دائمة، وكنا مجموعة
من الضباط المكلفين بهذه التحريات فتطوعت لهذه المهمة لعلمى بالمكان جيداً
خصوصاً بأنه يذكرنى بصديقى هاشم الذى قتل قبل عامين فى إشتباك مع
المتمردين، قدت السيارة الى أدك بنفسى كان معى عسكرى واحد، وتخيلى المشهد
عندما دخلت الإستراحة وجدت فيفيان وسألتها عن الشمالى الذى يقيم معها،
فقالت بأنه زوجها، وإنه يعمل فى المدرسة خلف الإستراحة، إستغربت أن يأتى
شمالى ويتزوج من جنوبية أرملة بأطفالها ويقيم معها هنا، فاذا كان يريد الزواج
من هنا لماذا لم يتزوج فتاة لم يسبق لها الزواج، كما أن الخوف الذى كان واضحاً
على وجهها جعلنى أشعر بأنى أمام شىء مريب فأنا أعلم بأن زوجها جيمس
مفقود فى محاولة إنقلابية، فذهبت وخلفى العسكرى إلى المدرسة وفتحت باب
الفصل، نظر الىّ الطلبة ولكن المعلم كان يكتب على السبورة وما أن إلتفت ورآنى
أصابت الدهشة كلانا سقطت قطعة التباشير من يده وأخرجت مسدسى فى الحال،
لو سألونى وقتها ماذا تتمنى فى هذا العالم لما تمنيت غير هذا المشهد، طارق
المغربى بشحمه ولحمه هنا أمامى، غريمى من حطم أحلامى بين يدى، أذكر
أخر مشهد بيننا عندما إنهالوا علىّ بالضرب بالقرب من السكن الداخلى للجامعة،
وحتى بعد أن تركونى جثة هامدة ملقى على الأرض وشرعوا بركوب السيارة
للهروب عاد طارق وركلنى فى بطنى وقال لى الدم بالدم، الآن ستعرف ماهو الدم
يا طارق، إبتسمت وأنا أصوب مسدسى نحوه، أنزل نظارته بيديه فلاحظت بأنه
يلبس دبلتين بيده مثلى فأدركت بأنه خسر منى حسين، فشعرت بالراحة لم أخسر
لوحدى، أمرت العسكرى أن يضع القيد على يديه، كنت أظنه سيقاوم ولكنه كان
مستسلما تماما، سار أمامنا وخلفه العسكرى ثم أنا ومن خلفى الأطفال، كان
الفضول يقتلنى ماذا جعل طارق المغربى يترك منى حسين ويأتى الى هنا، عندما
وصلنا أمام الإستراحة وجدنا سكان القرية متجمهرين وفيفيان تصرخ بأن نترك
زوجها فأمرت العسكرى بتجهيز سلاحه الرشاش الذى كان معلقاً على كتفه، كنت
على إستعداد لقتل أى أحد يفكر أن يأخذ منى هذا الصيد الثمين، وأمسكت طارق
وأجلسته فى المقعد الأمامى بجوار العسكرى وجلست فى المقعد الخلفى وأنا
مصوب مسدسى إلى راس طارق فتراجع الجميع عن السيارة وإتجهنا إلى جوبا،
وأنا أشعر بأنى أسعد صياد على وجه الأرض.
ما أن وصلت إلى هذا المكتب حتى أمرت العسكرى بوضعه فى الزنزانة
وبخلع ملابسه حتى نبدأ بسلخ جلده بسياطنا، ولكن العسكرى عاد وأخبرنى بأن
السجين جلده مسلوخ أصلا، فدخلت إلى الزنزانة كان طارق واقف صامتا وهو
بسرواله الداخلى فقط، و رايت جسده به آثار حريق قديم أو ماشابه، وأثار الأمر
فضولى فسألته عن سبب هذه العلامات على جسده ولكنه ظل صامتا فصفعته
وبدأت بضربه ولكنه رفض الحديث، فقررت تأجيل تعذيبه حتى أجمع معلومات
عنه فيبدو أن هناك أمرًا خطيرًا حدث ولا أعلم عنه شيئاً، وإتصلت بزملاء لى فى
الخرطوم للتحرى عن طارق المغربى، وبعد أسبوع واحد فقط تجمعت لدى
معلومات لم أكن أحلم بها، فطارق مثبت بأنه توفى فى حريق مبنى فى الخرطوم،
فأدركت على الفور بأن من مات هو جيمس وطارق كان مشاركاً فى هذا
الإنقلاب وإنه أتى هاربا، إذن أصبح هذا السجين ملكى فلو قتلته اليوم لن يسأل
عليه أحد، وبدأت معه رحلة عذابه، ظل مسجوناً هنا لمدة شهرين حتى إنهارت
صحته، فأطلقت سراحه حتى يستعيد عافيته وعينت له رقابة فى أدك، ولكنه لم
يحاول الهروب، فقد كان منشغلا بمدرسته وزراعته وصمته، ثم أصبحت كل ما
أعود إلى جوبا بعد كل مهمة، أرسل فى طلبه، ولكن مع مرور الوقت شعرت بأنه
يستلذ العذاب أو إنه يطلب الموت، ثم الغيت الرقابة عليه فى أدك منتظرا أن يهرب، ولكنه لم يحاول، مما جعلنى أقل متعة وأنا أضربه، وبدأت أشعر بأنى
أضرب شخصاً ميتا، إستمر هذا الوضع حتى بدأنا الإستعداد لعملية صيف
العبور، وجاءتنا الأوامر فجاءة بالتحرك فى مهمة تستغرق يومين، وكنت قد أمرت
العساكر باحضاره من أدك، فطلبت منهم أن يضعوه فى الزنزانه حتى أعود،
وعندما عدت سألت عنه العسكرى إن كان قد قدم له شيئا للأكل، فقال العسكرى
بأن السجين رفض الأكل وطلب كوب ماء فقط، دخلت الزنزانة ووجدته جالسا فى
ركن الزنزانة يبتسم بسخرية وهو ينظر إلى النافذة كان كوب الماء الزجاجى فارغ
نصفه، و ضوء الشمس ساقطا على وجهه، كانت احدى رجلية ممددة على
الأرض والرجل الأخرى مثنية حيث كان يسند يده التى تمسك بنظارته على
ركبته، ولكنى عندما إقتربت منه لم يتحرك، ركلته بحذائى على رجله حتى ينظر
الىّ، ولكنه مال على جنبه وسقط ميتا، تحسست جلده كان دافئا لقد مات قبل
وصولى بلحظات. أخرج ياسرعلبة سجائره وبدأ فى إشعال سيجارة، كنت أنظر
إليه ودموعى تسيل بصمت فسألته: مات فى هذه الزنزانة؟.
قال وهو ينفخ الدخان من فمه: فى نفس الركن الذى كنت تنامين فيه الآن.
قلت: هل شعرت بالسعادة بموته.
قال: السعادة كلمة ملغية من قاموسى، ولكن منذ أن رايته بالجنوب تبدل شعورى
بالهزيمة الى نصر، إلى أن قابلتك، أشعرتنى بالهزيمة مجدداً، فالإنسان ما هو إلا
ذكرى فى نفوس الأخرين، ونجح طارق ميتا فى إحضارك إلى هنا، فيما فشلت
في ذلك حياً، ولكنى وقت وفاته سألت نفسى هل كان ممكناً أن نكون أصدقاء لوتقابلنا فى ظروف أخرى.
قلت وأنا أغالب البكاء: أين دفن؟.
قال: أخذوه العساكر إلى فيفيان، حيث إختارت أن تدفنه فى الحقل الواقع خلف
المدرسة.
لم يكن لدى رغبة فى الحديث فقلت لياسر: هل يمكننى الذهاب.
فقال: طبعا... الى الخرطوم؟.
قلت: أجل ولكن على العودة الى أدك أولا .
قال: أليس لديك تعليق على ما سمعتيه.
قلت: أنت تحمل طارق مسوؤلية فشل علاقتك بمنى حسين، ولكنك خسرتها لأنك
اعتبرتها ملكية خاصة، وهو السبب نفسه الذى جعل طارق يخسرها، عندما بدأ
يفكر بنفس الطريقة.
أمر ياسر العسكرى باعادتى الى أدك، عندما خرجت من مكتب ياسر كانت
خيوط الفجر قد لاحت ولكنه كان فجرًا حزيناً، مات طارق المغربى فى سجن
غريمه، كل ما إنتهيت إليه أن طارق لم يتوفى منذ أكثر من عشر سنوات من
عودتى إلى السودان، بل مات قبل عام من العودة، يا لفرحتى بهذا الإنجاز، ماذا
كنت تأملين ياعزة، أن تجدينه حيا ويهلل لك لبحثك عنه، ركبت السيارة الجيب
فى المقعد الخلفى، وما أن تخطينا بوابة المعسكر حتى رايت فيفيان جالسة بالقرب
من البوابة، طلبت من السائق التوقف، تركت فيفيان إستراحتها المحطمة، وأطفالها
وجاءت تبحث عنى، كانت تعلم المكان الذى سيأخذنى إليه سيادة المقدم، كم مرة
إنتظرت زوجها طارق هنا، جعلوها أرملة مرتين، وما زالت تزرع وتقلع، وتحافظ
على أجمل إبتسامة رايتها فى حياتى، نزلت من السيارة، التى كانت قد تخطتها
بمسافة فعدت إليها جرياً، وحضنتها، كنت أبكى على كتفها بحرقة، لم أعرف هل
بكائى عزاء لها أم لى، قلت لها: لماذا لم تخبرينى بأن طارق مات؟.
قالت وهى تحاول أن تمنع دموعها من النزول: لا أريد مشاكل مع الجيش، فأبى
يقول بأنك إذا علمت بوفاته ستخلقين مشاكل مع الجيش أو تأخذين إبن طارق
فهو يعتقد بأنك قريبة طارق وقد جئت لأخذ الطفل منا إلى الخرطوم.
أدركت الآن ماهو الكنز الذى يخاف عليه هذا العجوز، لماذا لم الاحظ أن عمر
إبنها الصغير يدل على إنه ولد بعد وفاة جيمس، ولكننى لم أتخيل أن يتزوج
طارق من هنا، إنطلقت بنا السيارة، كنت أمسك بيد فيفيان فى المقعد الخلفى، لا
أعلم لماذا أشعر بأنها الأقرب إلى فلبى، ظل الصمت يحكمنا طوال الطريق
فالأحزان تفرض نوعا من الرهبة والإجلال، عندما وصلنا أدك كان الحال يغنى
عن السؤال وكانت الأمطار قد بدأت فى إنزال رزازها، الإستراحة مدمرة تماما
وبسببي، دخلنا الحوش الخلفى كان والدها وأولادها ينظرون إلينا بصمت، أمسكت
بيد إبن فيفيان الصغير وأنا جالسة على أمشاط قدمى، والعجوز يراقبنى بخوف،
منذ حضرت إلى هنا وأنا أشعر بأن طارق ينظر إلىّ، لم يكن طارق ولكنه إبنه له
نفس عيون أبيه، كان فى حوالى الثامنة من العمر أصغر من أخيه بعامين
أوثلاثة فلست خبيرة بأعمار الأطفال، سألته: ما إسمك.
نظر الى جده كأنما يستأذنه وقال :أدم.
فعلا لابد أن يسمى طارق إبنه أدم فهو الأول، أراد أن يبدأ هنا من جديد، ولكن
الماضى كان ثقيلا على كاهله فلم يستطع الصمود، طلبت من إبن جيمس أن
يقترب منى إقترب بحذر وهو ينظر إلى جده فقلت له: ما إسمك.
فقال: جوزيف جيمس أريل. نفس ملامح جيمس، أخذتهم فى حضنى احسست
بأنى مسوؤلة عنهم كفيفيان تماماً نظرت إلى الاستراحة المدمرة، لابد أن أبنيها أنا
فأنا من حطمتها، أمسكت فيفيان بيدى وسحبتنى إلى الحقل، حاولت أن أسحب
يدى منها ولكنها كانت مصرة أن تجعلنى أتيقن موت طارق، كنت أقاومها فلا
أريد أن أرى قبره الان، ظللت أبحث عنه كل هذه المدة، والان لا أريد مواجهة
الحقيقة، كانت فيفيان حازمة وهى تجرنى خلفها بالقوة، كانت يدها بقوة يد المزارع
وكنت كالطفلة مسحوبة سحبا خلفها، تجاوزنا المدرسة و رايت أشجار نخيل فى
منتصف الحقل، وإستغربت إن ينمو النخيل هنا وما أن إقتربنا منها حتى بدأ لى
القبر وحيدا وقفت أمامه وفيفيان خلفى تراقبنى كان المطر يزداد فأخفيت دموعى
بين رزازه، كنت أحاول التماسك فلا أريد أن أكون ضعيفة أمامها، جثوت على
ركبتى، ألم يكن بامكانك يا طارق الإنتظار قليلا، الآن أدركت أن منى حسين
محقة، لقد كرهتك حيا وأحببتك ميتا، وما أسوأ أن تعشق ذكرى، أدخلت يدى داخل
تراب القبر كأننى أريد أن أخرجه منه، لابد أن تسمعنى لم يأتى غيري للبحث
عنك، أتسمعنى ياطارق، أجل أنا أحببتك وأنت هارب من العسكر لتحتمى بفريد
النمر، كمن يستجير من الرمضاء بالنار، أحببتك وأنت ملقى فى المخزن تضرب
بالسياط كالعبيد، أحببتك وأنت تفتحم النار لتنقذ صديقك، لقد أعطيت كل ما
عندك، ولم تجنى غير الألم، لم تكن فاشلا لكن الفشل أ رادك، ألا يمكن أن يعود
الزمان قليلا، والله العظيم أحبك، أسمعنى ياطارق لابد أن يسمع الموتى ما يقال،
أخذت أصرخ أنا عزة الرشيد ياطارق وأنا متمرغة فى التراب الذى حولته الأمطار
الى طين، بدأت أشعر بقبضة من الوجع فى قلبى ثم وجهى يرتطم بالطين
وشعرت بفيفيان تحاول أن ترفعنى ولكنى فقدت الوعى فلم أعد أحتمل الوجع.
إستيقظت فى غرفة فيفيان، كانت فيفيان تجلس بجوارى، وكان الليل قد خيم
على المكان، أعطتنى ماء شربته وأحسست أن روحى بدأت بالرجوع الى جسدى،
سألتها: كم مضى من الوقت وأنا هنا.
قالت وهى تضحك: منذ الصباح حتى الآن، لقد غابت الشمس منذ قليل.
أعطتنى حبة وقالت: أحضرنا لك طبيبا من جوبا وقال يجب أن تأخذى هذه
الحبوب يومياً.
شعرت بأنى أصبحت عبئا على فيفيان، فقلت لها: من بنى المدرسة؟ .
قالت: عباس وطارق وجيمس.
قلت: من أين أتوا بالطوب الأحمر.
قالت: صنعوه بأنفسهم، وما تبقى منه بعد إكمال المدرسة إستخدموه فى بناء
واجهة الإستراحة.
قلت: غدا سنبدأ فى بناء الإستراحة من جديد،
ابتسمت لى وهى تقول : ألا تيأسين أبدا، نامى الآن فغدًا يوماً آخر.
منذ الصباح بدأنا فى تحضير الطين وتخميره، كانت فيفيان تخبرنا بالخطوات
اللازمة فقد قامت بصناعته مع جيمس وطارق وعباس عند بناء المدرسة، بدأنا
العمل نحن الخمسة ولكن بعد قليل انضم لنا أهل القرية، ولم يمضى إسبوع واحد
إلا كان الطوب جاهزا، ثم بدأنا أعمال البناء، أكملنا الإستراحة وبنينا مطبخ كبير
لفيفيان، ولكنى شعرت بأنى أخرجت من قبر طارق حزناً وصمتاً إستقر فى
جسدى كأننى تسلمت إرث طارق، ورفعنا فوق الإستراحة اللافتة الخشبية التى
صنعها والد فيفيان مكتوب عليها استراحة جيمس أريل، وبدأت فيفيان فى توزيع
الوجبات مجاناً فرحاً بالإستراحة الجديدة، ولكن ما أن غربت الشمس حتى كنا فى
سبات عميق فقد كان يوم الإفتتاح مرهقا، وفى الصباح بينما كنا نشرب الشاى
فاجأنى والد فيفيان بلوحة لى وأنا أحمل الطوب كانت اللوحة رائعة، لقد رسمنى
أجمل من الواقع، ولكنى قلت محاولة أن أغيظه: أنا أجمل من اللوحة. ترجمت له
فيفيان تعليقى فأخذ يضحك، فتذكرت شنطة طارق فقلت له: هل يمكننى رؤية
محتوياتها دخل غرفته وأحضر الشنطة، أخرجت الجرائد وبدأت أتصفحها بهدوء
هذه المرة، ولكن لم يكن هناك أى خبر يثير الإهتمام، فسألت فيفيان: هل جمع
طارق هذه الجرائد؟.
قالت: نعم وقد كان حريصاً عليها جدا وكنت أرى دموعه كل مرة يتصفحها تحت
أشجار النخيل التى زرعها بنفسه، ولكنى لم أعرف لماذا، وقد سألته ولكنه رفض
الإجابة.
إستغربت فلا شىء يمكن أن يكون له علاقة بطارق، ثم بدأت أقرا فى الإعلانات
وفجأة إستوقفنى ما كنت أبحث عنه، إعلان مكتوب فى الجرائد الخمسة،
"السمندل والدتك فى إنتظارك"، والدة طارق هى الوحيدة التى ا رهنت بأنه حى، يا
لقلبك ياطارق، ألم يكن بامكانك أن تراها ليوم واحد فقط، ولكنى أدركت الآن إنك
كما فقد زملائك حياتهم قررت أن تفقد حياتك الماضية مثلهم، وإلتزمت بذلك رغم
نداء أمك، لم أرى فى حياتى إلتزاما بهذه القسوة، لم أرى جلدا للذات كما فعلت،
أخذت أبكى، خطفت فيفيان منى الجرائد وهى تسألنى: ماذا وجدت؟. قلت لها وأنا
أشير إلى الإعلان: انها والدته كانت تسميه السمندل. بدأت دموع فيفيان تنزل
على خدها، فجأة سمعنا تصفيقا فى الخارج كان هناك من يريد الدخول إلى
الحوش حيث كنا نجلس، خرجت فيفيان وثم عادت وهى تنظر إلى بحزن ثم ظهر
خلفها عبد الرحمن السائق وهو يعتذر عن التأخير بسبب مس فرانك، وقف والد
فيفيان غاضبا وأمسك بيدى طالباً منى البقاء، قبل أن أقوم من الكرسى قفز أدم
وجوزيف فى حضنى لمنعى من الذهاب، وقفت وقلت لعبد الرحمن بحزم: يمكنك
العودة بدونى.
قال محتجاً: مس فرانك لا يمكنها العودة للخرطوم بدونك.
قلت وأنا أبتسم: قل لها أن تحجز راتبى. ذهب عبدالرحمن وهو غير مصدق،
نظرت إلىّ فيفيان بدهشة، فقلت لها: طارق قال الفشل له إلتزامات، وأنا أقول
البحث عن الحقيقة أيضا له التزامات.
قالت: لا أفهم.
قلت: تعالى معى.
أمسكت جوزيف وأدم كل بيد وخرجت بهم الى المدرسة وفيفيان ووالدها يسيرون
خلفى، وعندما أصبحنا داخل المدرسة، أمسكت بحبل الجرس فقرعته كان صوته
مدويا، وما هى إلا لحظات حتى تجمع أطفال القرية وقلت لفيفيان وأنا أبتسم: عزة
الرشيد مدرستكم الجديدة. أخذت فيفيان تضحك وهى تشرح لوالدها ما أقول،
أدخلت الأطفال الفصل وأنا أقول لفيفيان: إذا لم تعجبنا وجبة الغداء فسنأتى
بطباخ غيرك، أمسكت فيفيان بيد والدها وهى تطلب منه مساعدتها فى المطبخ
فقد خسرت مساعديها الإثنين فى يوم واحد.
تكررت الأيام التالية بنفس النسق، فيفيان تدير الأستراحة، وأنا أدير المدرسة
والعجوز يذهب إلى الصيد كل ثلاثة أو أربعة أيام، وفى هذا اليوم يذهب معه
جوزيف أو أدم، كان لدى من الوقت الكثير، فقد كان راى فيفيان أن أدرس اللغات
فقط فهى تريد أن يفهم ابناؤها العالم ويفهمهم العالم، ولكنى لم أغير شيئا فقد
وجدت المنهج موجودا كما تركه طارق، وأصبحت أساعدها فى الإستراحة عندما
أفرغ من المدرسة خصوصا يوم الخميس والجمعة حيث لا أعمل فى المدرسة،
وأحياناً أذهب معها للزراعة، ولكنى اليوم بعد إنتهاء الدراسة كنت مصممة على
كتابة رسالة إلى أبى، فقد كنت أتهرب من كتابتها، فجلست على مكتبى والأولاد
يراجعون أمامى، لم أعرف كيف أخبره بأنى قررت البقاء فى الجنوب، لم أستطع
كتابة كلمة واحدة فقد كنت أشعر بردة فعل هذا القرار عليهم، ثم بدأت كتابة
رسالة إلى فدوى أخبرها بوجود إبن طارق فى الجنوب لتخبر عائلة المغربى،
وتخيلت حاج المغربى وفدوى تخبره بوجود إبن طارق بالجنوب فلابد أن يخفف
هذا الخبر إحساسه بالندم تجاه طارق، ولكنى مزقت الرسالة فلا أريد أن أسبب
مزيد اً من المشاكل لفيفيان، ثم حاولت أن أكتب إلى منى حسين أخبرها بأن طارق
توفى بالجنوب ولكنى تذكرت حسن عبد الله وعذابه فى الغربة من أجلها، فما
الفائدة من إخبارها وطارق توفى فى جميع الأحوال، وكانت المحصلة أننى لم
أستطع كتابة رسالة واحدة، فقررت أن أترك الأمور تجرى كما سيرتها الأقدار
فلن أتدخل فقد إنتهت القصة بأحزانها، والتى دفعت أنا فقط ثمنها، ياليتنى سمعت
كلام هشام وتركت الأمر برمته، فقد فقدت عزة الأولى وسكنت روحى أحزاناً لم
أعهدها من قبل، وضعت كتبى داخل الدرج وأمرت الأطفال بالإنصراف، ثم قمت
باغلاق أبواب المدرسة، وسرت بهدوء إلى البيت وبجوارى أدم ممسكا بيدى فقد
ذهب اليوم جوزيف مع جده إلى الصيد، عندما دخلت الحوش وجدنا فيفيان
تنتظرنا جالسة فى الصالة أمام غرفتها، أمرت إبنها بالإستحمام، وما أن ذهب
أخبرتنى بأن أدم سيكمل الثامنة يوم الخميس القادم وهى تريد أن تحتفل بهذه
المناسبة، شعرت بأنها تريد أن تشيع جوا من الفرح فى المكان، ليس من أجل
إبنها فقط بل من أجلى فلم تقيم حفل عيد ميلاد من قبل، تحمست للفكرة وقلت
لها: سنفاجىء أدم بأجمل حفل عيد ميلاد، بدأت أفكر فى الهدية التى يجب أن
أحضرها فذهبت يوم الخميس صباحا إلى جوبا ومعى فيفيان بعد أن تركنا والدها
يهتم بأمر الإستراحة حتى نعود، وأخذت فيغيان فى الشراء كل شىء من السوق
وقمت بشراء مولد كهربائى بكل النقود التى أحضرتها معى من الخرطوم فلم
أصرف منها شيئا فمن يعيش مع فيفيان لا يحتاج لشراء شىء، وذهلت فيفيان من
هذه الهدية، واخذت تضحك طوال طريق العودة وهى تكاد تطير من الفرح
ووتتخيل منظر الإستراحة مضاءة ليلا، ومع تشغيل الكهرباء وقت المغربية،
إضاءت أنوار الزينة الإستراحة والشارع، الذى حوله أهالى القرية ومعهم جوزيف
لإلى كرنفال من الرقصات الشعبية فلم يكن عيد ميلاد أدم يمكن أن يكون أجمل
مما راينا مع إن أدم نفسه غلبه النعاس ونام على أحد كراسى الإستراحة ولكن
فيفيان ووالدها، قاموا بتوزيع الطعام على أهل القرية التى لم ينام أهلها حتى توقف
المولد عن العمل بسبب لإنقطاع الوقود فلم نحضر معنا وقودا كافيا بل إننا لم
نكن نعرف مايحتاج إليه المولد من الوقود، كانت الساعة تجاوزت الثانية صباحاً
عندما خلدنا أنا وفيفيان إلى النوم، همست فى إذنى قبل أن تنام: لن أنسى لك
هذا اليوم ما حييت. ولم أستطع أن أرد عليها فقد غلبنى النعاس، لم أدرى كم
ساعة إستقرقنا فى النوم، حتى إستيقظنا فجأة على صوت فى الخارج خرجت
فيفيان لترى ما يحدث فقد كان صوت والدها عالياً، وأتت سريعا وهى تقول خائفة
: العسكر يطلبونك.
قلت وأنا لا أستطيع أن أفتح عينى: ماذا يريدون؟.
قالت: لا أعلم .. ولكنهم يطلبون منك الحضور سريعاً.
خرجت وأنا أتلفح ثوبى ومعى فيفيان وجدت عسكريا ينتظرنى على باب الإستراحة
والأخر جالس فى السيارة ووالد فيفيان يحمل بندقية الصيد متحفزا، فقلت له: ماذا
تريد؟.
قال: سيادة المقدم يطلبك.
قلت: لماذا لا يحضر هو؟.
نظر إلى بحزن: لا يستطيع فهو مصاب. شعرت أن الأمر خطير ركبت السيارة
مع فيفيان فى المقعد الخلفى وكنت أنتظر من السائق أن يتجه إلى جوبا ولكنه
إنحرف بالسيارة وإتجه إلى المدرسة ثم تخطاها باتجاه قبر طارق حيث كانت
هناك سيارة أخرى ومجموعة من العساكر يتجمعون أمام السيارة التى كان نورها
مضاء، عندما إقتربنا رايت ياسر راقدا على الأرض وبجواره جالس عسكرى
يحاول الضغط على بطنه لوقف النزيف، عندما جلست بقربه أدركت أن إصابته
بالغة فقد كان ينازع فى الروح والدماء تغطى جسمه، ووجهه يتصبب عرقا، عندما
رانى حاول أن يرفع يده المغطاة بدمه، كان قابضا عليها بقوة، فتحتها ووجدت
دبلتين، قال بصوت خافت: قولى لبنت عمى لن يحبك أحد مثلى. بدأت دموعى
تنزل وأنا أقول: ياسر حاول أن تصمد، هز راسه بأن لا فائدة، بدأت أمسح العرق
من جبينه بثوبى وقلت: لماذا إخترت أن تدفن هنا.
قال بصوت متقطع : الجنود يدفنون مكان المعركة.
أخذ شهيقا وأسلم الروح و راسه بين يدى، أخذت أصرخ ياسر.. ياسر، أمسك بى
العسكرى وأبعدنى عن الجثة وبدأ زملائه يحفرون قبره بجوار طارق، كان جسمى
يرتعد فلم أرى أحدا يموت أمامى من قبل، وأخذت أنظر إلى فيفيان وهى تثور
مطالبة بعدم دفنه هنا أمسك بها العساكر، وأبعدوها الى الإستراحة بينما كنت
أنظر إلى حفرة القبر وهى تتسع، ثم يحملون ياسر داخلها بعد أن صلوا عليه
صلاة الجنازة، وما أن أكملوا الدفن قراوا الفاتحة على قبره، وصافحونى للعزاء
وركبوا السيارتين وذهبوا، كان الأمر سريعا فقد تعودوا أن يدفنوا بعضهم كل يوم،
كان كالحلم ولكن رؤية القبرين أمامى تؤكد حقيقة ما حدث، بدأت خيوط الفجر
تضىء وهواء بارد بدأ يهز أغصان النخيل، كنت واقفة وحيدة وأنا أسأل نفسى كم
فجر سيمر على حتى أخرج هذا الحزن منى؟.
مرت الأيام التالية وقمت بارسال رسالة الى أبى أخبره بقرار بقائى فى
الجنوب، ولم أزر القبرين غير مرة واحدة حيث أقمت شواهد على القبور "المرحوم
طارق المغربى توفى عام أثنين وتسعون" "المرحوم ياسر عبد الحميد توفى عام أربعة وتسعون "، وتعمدت الإندماج مع الأطفال والزراعة، فبهما تكبر مساحة
الفرح ويتقلص الحزن بداخلى، ولكنى لاحظت أن فيفيان تخفى عنى شيئا فقد
بدأت تختفى من الإستراحة هى ووالدها، وبعد عدة أيام إنكشف المستور فقد عدت
من المدرسة ووجدت كمية من الطوب الأحمر وأكياس الأسمنت فى الحوش،
وفيفيان تضحك وتقول لى: سأبنى لك غرفة وحمام خاص بك يابنت الرياض.
قلت مبتسمة فلم أسمع هذا التعبير منذ أيام الجامعة: أين صنعت هذا الطوب.
قالت: فى الحقول وقد ساعدنا أهل القرية فهم جميعا يحبونك لقد أصبحت أغار
منك فقد كنت بنتهم المدللة
قلت وأنا أضحك: أنت تريدين التخلص من شخيرى ليلا .
قالت والدموع فى عينيها وهى تمسك بيدى: أصبحت لا أتخيل المكان بدونك.
مرت الأيام التالية وقد بدأت حوائط غرفتى تظهر من باطن الأرض، وقد
زودت ساعات عملى بفتح فصل لتعليم الكبار، الذين كان تعليمهم أصعب من
الأطفال، فقد كان الأطفال يتقبلون أى معلومة بينما الكبار يجادلون فى كل
شىء، وبينما أنا منهمكة فى تدريس اللغة العربية للاطفال، فجأة فتح الباب
بعنف، نظرت إلى الباب وجدت أبى ينظر إلى بغضب، وقفت جامدة من
المفاجأة، كان خالد واقف خلفه وهو يبتسم، أحسست بأن أبى سيفرغ غضبه ويبدأ
باهانتى أمام تلاميذى، فحملت كتبى وطلبت منه الحديث فى الخارج، خرجت من
المدرسة وأبى وخالد يسيرون خلفى، كنت خائفة منه لم أعلم أين أذهب بهما فلا
أريد أن يسمع شجارنا أحد، ولكنى إتجهت إلى القبور كأنى أستنجد بالموتى وقفت
أمام قبر طارق وياسر وبدأت أقرا الفاتحة حتى أستطيع أن أمتص غضب والدى،
وقف والدى و خالد يقراون الفاتحة ثم شرعا فى قراءة المكتوب على الشواهد،
وساد الصمت فترة، حاول خالد أن يكسر حاجز الصمت فهو يعلم أن المعركة لم
تبدأ بعد وقال: مبروك أخيرا وجدت طارق.
قلت بحزم: ليس مهما أن أجده الأهم ماذا بعد أن وجدته.
قال أبى ساخرًا: بعد أن وجدته تحرسى قبره. ثم أضاف: أعطيتك حرية كافية
لتفعلى ما تريدين، والآن حان وقت العودة، ستعودين معنا وستتزوجين من نختاره
لك وهذه هى نهاية القصة.
قلت بتحدى: أتظن إنها قصة ألف ليلة وليلة، نتسامرها ليلا وننساها صباحاً، من
يرقد فى هذه القبر كان بامكانه أن يتزوج ويخلف كالبهائم، ولكنه عاش بهدف
ومات من أجله، أنظر الى هذه المدرسة، وهذه الحقول، هذا مجتمع كامل أنا
مسؤولة عنه الآن ، أترك كل هذا من أجل ماذا؟.
قال: لم أتى الى هنا للمناقشة، بل لأخذك معنا إذا شئت أم أبيت.
قلت بعناد: وأنا لن أذهب. فليس هناك قوة فى الأرض تجبرنى على فعل مالا
أريد.
صاح والدى: خالد قيدها. تسمر خالد مكانه وهو ينظر إلىّ مرة ثم إلى أبيه مرة
أخرى فصرخ فيه ثانية: قلت لك قيدها. أخرج خالد الحزام من بنطلونه فصرخت
فيه متوسلة: لا ياخالد. أدمعت عيناه ولكنه بدأ تنفيذ اردة أبيه فصفعته على
وجهه وأنا أقول: ستندم ياخالد، يجب أن تقول لا. ولكن خالد ووالدى هجما علىّ
وسقطت على القبر وسقطت الكتب من يدى والهواء يتصفحها، كنت أقاوم محاولة
تقييدى بكل قوة وأنا أتعارك معهم وغطى الغبار المكان، ولكن النتيجة كانت
واضحة، فأمسكا بيدى خلف ظهرى ووجهى مغروزا فى التراب، وقيدانى ثم أمسكا
بأعلى ساعدى ورفعونى من الأرض وهما يسحبانى كما تسحب النعاج، وشعرت
كأننى طارق ملقى فى المخزن مضروبا بالسياط ما أسوأ الإحساس بالقهر،
وإتجهنا إلى الإستراحة، حيث كانت سيارات الجيش تملأ المكان، وكان أهل
القرية جميعهم ينظرون صامتين، فلم يعتادوا على رؤيتى بمثل هذه الذلة، كأننى
بنت فى العاشرة من عمرها سيعاقبها والدها على ذنب إغترفته، نظرت إلى فيفيان
كانت دموعها تنزل فى صمت وهى تمسك أولادها من اللحاق بى، قلت لها:
سأعود أكملى الغرقة. إبتسمت لي كأنني أعانى من الهذيان، فحالي يقول بأني لا
أملك أي قرار، أجلسني خالد بقربه في المقعد الخلفي، وجلس والدي بقرب
السائق، وتحرك موكب السيارات، هل كان إعتقالي يحتاج إلى كل هذه الحشود،
كنت أنظر إلى فيفيان والدموع تملأ عيني والسيارة تبتعد خارجة من أدك، بدأت
أنظر إلى السماء ثم إلى الحقول، يا أشجار المانقو والأناناس وسهول الموز
والباباى، أيتها الشمس المختفية، يا قطرات المطر النازل، يا أحرار العالم، لن
أتزوج عماد، فالشرع يعطيني حق الرفض والقبول، سأتزوج من يأتي بي إلى هنا،
فقط من يأتي بي إلى فيفيان،أجل هذا هو مهري، فمن يقدرعلى مهري؟، من
يمهرني السلام ؟.. يا ترى ..من يمهرني السلام ؟.


.........تمت بحمد الله......

نور الدين الصادق



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-01-18, 01:27 AM   #23

نوراليقين

? العضوٌ??? » 330457
?  التسِجيلٌ » Nov 2014
? مشَارَ?اتْي » 41
?  نُقآطِيْ » نوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond reputeنوراليقين has a reputation beyond repute
افتراضي

ملاحظة ... نص الرواية ناقص جزءا كبيرا
رواية عظيمة اشكرك من اعماق قلبي على مشاركتنا اياها
السرد ... الشخصيات ...
صحيح ان فيها بعض المبالغة لكنها لم تسئ اليها
بالمجمل تستحق القراءة ... و موجعة ... موجعة جدا
شكرا لك مرة ثانية


نوراليقين غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:06 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.