آخر 10 مشاركات
497- وحدها مع العدو - أبي غرين -روايات احلام جديدة (الكاتـب : Just Faith - )           »          ثأر اليمام (1)..*مميزة ومكتملة * سلسلة بتائل مدنسة (الكاتـب : مروة العزاوي - )           »          592 - أريد زوجاً - بيبر ادامز - ق.ع.د.ن (الكاتـب : Gege86 - )           »          سمراء الغجرى..تكتبها مايا مختار "متميزة" , " مكتملة " (الكاتـب : مايا مختار - )           »          راسين في الحلال .. كوميديا رومانسية *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : منال سالم - )           »          605-زوجة الأحلام -ق.د.ن (الكاتـب : Just Faith - )           »          أُحُبُّكِ مُرْتَعِشَةْ (1) *مميزة & مكتملة * .. سلسلة عِجافُ الهوى (الكاتـب : أمة الله - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          شيوخ لا تعترف بالغزل -ج3 من سلسلة أسياد الغرام- لفاتنة الرومانسية: عبير قائد *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          زواج على حافة الانهيار (146) للكاتبة: Emma Darcy (كاملة+روابط) (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-01-15, 12:13 PM   #41

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


39 - بركان خامد



عاد مالك لمنزله ليكمل شفاءه بعد فترة من العلاج الطبيعي تؤهله للسير على قدميه ثانية, واستقرت نفوسهم مستعدة لبداية جديدة, فمالك يبتسم ويشاركهم أمور حياتهم ببساطة غير متكلفة. لا نعرف عادة قيمة الحياة إلا حينما نفقدها, أو نرى الموت يتجسد أمامنا ويهاجمنا, وهو لم يعد أمامه فرصة لليأس والخنوع, ولم يعد يستطيع أن يؤذي بنان, أو يحملها فوق طاقتها, عليه الصبر حتى يتم شفاءه.
وواظب أحمد وياسين في عملهما, بعدما أصبح ياسين يدير نصيب زوجته وشارك بأمواله في الشركة حتى يكون له الحق في البقاء غير متطفلٍ أو متفضل عليه أحد, عادته لن يستطع التخلي عنها, وكالعادة فإن أيامهما تزدحم بالعمل مرة, وتخف أخرى.
وأصبحت عادة اجتماعهم كل ليلة في بيت أبيهم لمجالسة أمهم, وعند انتصاف الليل يخرج أحمد بعد خلودهم للنوم, ويجلس في مستقره, مرت ثلاثة أسابيع منذ اختفت رؤية, يبدو أنه اعتاد عليها, كانت تشغل وحدته, وتؤنسه في لياليه, تشغله بهمومٍ تخفيها عن همومه, وتملأ رأسه بخرافاتها واستفزازها فتنسيه أفكاره..
غريبة هي بالفعل وتثير فضوله, لم تدُم أفكاره طويلاً, ففي اليوم التالي اصطحبته رحيق للمشفى لتفحص ابنتها, ذهب معها لانشغال ياسين, وفي قسم الأطفال رآها واقفة تراقب الرُضَّع, غض بصره عنها عندما التقت نظراتهما, وسؤال يحيره طرأ في رأسه, أين كانت؟
عندما اقتربا منها, بادرتها رحيق قائلة :
- دكتورة رؤية!!
نظرت لها رؤية بلمعة في عينيها, واندهاشٍ لا تدري كلتاهما سببه فأكملت رحيق وقد خافت من رد فعلها :
- لقد جئتُ لفحص ابنتي فقط, لم نأتِ لمريض هذه المرة!
نظرت رؤية لابنتها مباشرة, ثم ابتسمت وهبطت لمستواها قبلت يدها ومسحت على شعرها قائلة :- ما اسم الجميلة ؟
نظرت لها رحيق متفاجئة , وقد هاجمتها صورة ديانا وتساءلت أهي ديانا أخرى؟ إنها نفس النظرة؟ نفس الابتسامة والعطف الذين يتضحان بقوة في نبراتهما, لم تجِب ابنتها خجلة, فنطقت هي :
- مريم! اسمها مريم!
وقفت رؤية وقالت :
- يبارك الله لكِ فيها, لو رأيتها من قبل لزوجتها ليحيى مباشرة..
استنبطت رحيق أنه ابنها, وتذكر أحمد المجاور لأخته أنها متزوجة فعنف نفسه على تفكيره, وقالت رحيق باسمة :
- لم أكن أعرف أن لديكِ ولد, كم عمره؟
شحب لونها, وغارت عيناها إذ انتبهت لزلة لسانها, ولكنها رغم ذلك ردت :
- ثماني سنوات.. ثم لتغير الحوار قالت ناظرة لمريم :
- أهي مريضة؟ ماذا بها؟
التقت نظرات أحمد ورحيق باندهاش مبهم, إذ أنها أخبرتها للتو فقالت :
- ليست مريضة, ولكنني أواظب على فحصها فقط..
أومأت رؤية, وسمحت لهما بالانصراف تتبع الصغيرة بنظراتها, وحين حادت عنها, تابعت الرُّضَّع مرة أخرى..
لم تمُتْ هذه المرة أيضاً, سيصل بها الحال يوماً للانتحار وهذا ما تخاف منه, أخرجت هاتفها وتحدثت إلى إيلين صديقتها " طبيبة ديانا ", لحسن حظها كانت قريبة منها, فجاءتها سريعاً, تعانقتا في سلامٍ وجلسا في استراحة المشفى, حيث جلس هناكَ أحمد ينتظر أخته ولم يرياه رغم قربه..
تنهدت رؤية ثم سكتت فضحكت إيلين قائلة :
- هل تركتُ زوجي لأسمع صمتكِ؟ هاتِ ما عندكِ, مريضٌ آخر غير ديانا؟.. ثم استرسلت :
- إنها الشئ الرائع الوحيد الذي فعلتِه معي, أنكِ أرسلتِ إلي امرأة مثلها, ألن تعرفيها عليكِ؟ ستسعد بمعرفتكِ حين تعلم أنكِ ساعدتِها.. يا إلهي صمتُكِ غريب هذه المرة, ألن تتعرفي إلى ميرا حتى, تعرفي إلى رحيق مثلاً .. كَوَّنِي صداقات يا رؤية, حبيبتي أنتِ لا تعرفين غيري مذ جئتِ إلى هنا؟.. والله لا تزعجني معرفتكِ بقدر ما يؤلمني حالك ..
قالت وكأن الكلام ثقيل على لسانها ويجهد قلبها :
- اسمه أحمد .. أحمد عمر!!
- ومن هذا؟ سألت إيلين مستنكرة فقالت رؤية :
- المريض الآخر غير ديانا ..
- وما مشكلته هذه المرة؟
- لا أعرف!.. أنتِ تعرفين أن ما جمعني بديانا كانت مجرد صدفة لولا غياب طبيبتها ودخولي أنا عليها واستنباطي لما تفعل بنفسها ومحادثتي لزوجها لما حدث أي شئ .. لكن أحمد هذا صعب الدخول إليه.. لكنني واثقة من حاجته لمساعدة حتى يتجاوز ما به ..
وضعت إيلين قبضة يدها تحت ذقنها وقالت :
- أتعرفين يا رؤية أنتِ أكثر الناس حاجة إلى طبيب نفسي؟ .. ثم أكملت بغرور مصطنع :
- ولن تجدي من هو أفضل مني!.. رؤية ركزي في حالكِ أنتِ فقط, يجب أن تعرفي أنه من المستحيل أن تمنعي قدر أحد من الوصول إليه, فكفي عن محاولاتكِ!
- ولكنني فعلتُ بالفعل! ألم أدل آدم على علاج ديانا والآن سعيدان هما, ألم أنقذ مالك من الموت كما مات زوجي, وأنقذ حياته من حادثٍ كاد يميته, لم يتبقَّ سوى أحمد.. لأنقذه من مصيره وأرحل!
مسحت إيلين وجهها بإرهاقٍ ثم قالت :
- لا يا رؤية, أنتِ لم تفعلي أي شئ, أنتِ مجرد سبب في الكون, كل مساعداتكِ لهم والتي لا يعلمون شيئاً عنها, كانت مقدرة قبل الخلق, فقط كنتِ سبباً في حدوثها, أنتِ تخافين عليهم, تخافين من أن يواجه أحدهم مصيرٌ كمصيركِ, ولكن مالا تفهميه, أن ما حدث لكِ أبسط كثيراً مما حدث لأناسٍ غيركِ, يجب أن تعرفي أن في العالم بشرٌ يفقدون عوائلهم كاملة, يفقدون سكنهم ووطنهم, يفقدون أمنهم, يفقدون حياتهم رغم أنهم أحياء, بينما أنتِ كل ما فقدتِه يمكنكِ تعويضه إن لجأتِ لله, يمكنكِ تكوين أسرة وإنجاب أطفال يعوضونكِ كل ما فقدتِ.. رؤية لا تظني نفسكِ ملاك الخير الذي يحمي الناس من أقدارٍ عليهم كتبت ..
- ألن تخبريني كيف أقنع أحمد بالمجئ إليكم؟ .. قالتها رؤية لتنهي الحوار فقالت إيلين :
- لا أعتقد أنه بحاجة لأن يأتي.. ثم وقفت مواصلة :
- سأغادر الآن, وألتقيكِ حين يكون بكِ بعض عقل..
سارت خطوتين ثم عادت على عقبهما قائلة :
- لم تخبريني أين كنتِ هذه المرة؟ وماذا حدث لكِ؟
بتذمر قالت رؤية :
- كما ترين لم أتأثر بأي شئ, كان الرصاص والقتلى حولي في كل مكان, ورغم ذلك لم تصيبني رصاصة واحدة, تخيلي أنني لم أجرح حتى, لم تصيبني أي عدوى, لا أعرف ما هذا الشؤم الذي يلاحقني؟
حركت إيلين رأسها يمنة ويسرة ثم قالت :
- هداكِ الله يا رؤية .. هداكِ الله!
ورحلت تشعر بكآبة تملأ صدرها, وانصرفت رؤية لعملها جاهلة بالغضب الأعمى الذي ملأ صدر أحمد, لا يعرف سببه بالضبط, هل هو اهتمامها بشئ يخصه؟ هل هو تدخلها في شئونه؟ لا يدري سبب الغضب بالضبط, ولكن رحيلها عنه هو خير ما فعلت.. هي التي تتحدى القدر إذاً؟
حين انتهت رحيق عاد معها في صمت مطبق, حتى أنه لم يهتم بالسؤال عن ابنتها, وخشيت أن تسأله عن حاله, وخافت أكثر من أن يكون قد عاد لصمته مرة أخرى..
وفي الليل بعد انشغاله ليومٍ طويل بما سمع, جاء إلى مقعده يفكر ويحاول أن يدبر أمره, هو ليس بالشخص الغريب على الإطلاق, هو فقط رجل رفض أن يعامل كالملاك, غيابه لعشر سنوات في عذابٍ رآه, كان كفيل بأن يخفيه في وحدته, ويقمع صوته ومشاركته معهم, ما الغريب به؟
ثم اشتعل غضبه حين قبض على نفسه متلبساً يفكر في قولها, آهٍ لو رآها أمامه, سيحرقها غضبه, وليست متزوجة أيضاً, ما قصة هذا الرجل إذاً, صدم عقله من هول ما توصل إليه, فازداد نشاط بركانه الذي سيثور لا محالة, ولكن في من سيثور, آهٍ لو رآها وألف آهٍ من غضبه الخامد لسنواتٍ وأشعلته هي في يومٍ واحد..
بينما تشتد قبضاته على عصاه, وتصطك أسنانه ببعضها مع ازدياد أفكاره السوداء وتراكمها, وجدها أمامه فجأة, سائلة بكل بساطة فجرت غضبه :
- أنتَ لم تكن تخدم جدي صديقك لعشر سنوات؟ كنت في السجن, لعشر سنواتٍ, لا الخمس سنوات الأخيرة بعد موت الجدين فكرت في العودة, ولكن بالطبع اكتشف تزويرك وسجنت وهذا ما منعك, وحين أفرج عنكَ فكرت في العودة مرة أخرى, لكن كان عليكَ أن تبرر موقفكَ بعيداً عن أي شئ يثير خوفهم أو قلقهم عليكَ, عادتك القيادية التي لم تتخلَّ عنها, ولشدة شوقهم إليكَ لم يهمهم سلامة حبكتك, ولو كنت أخبرتهم أنكَ مت بالفعل وعدت لصدقوكَ, أليس كذلك؟
ما الإثارة فيمَ فعلت؟ وكيف عرفت بسره؟
وقف فجأة وقبضت يده على عصاه بقوة أبرزت عروقه, وزم شفتيه ضاغطاً على أسنانه بقوة كادت تدمرهم فنفرت عضلة في جانب فكه, واحمرت عيناه, فتراجعت لخطوتين بسبب رعبٍ أصابها, رفع عيناه لعينيها وتقدم منها لا يمنعه شئ ثم قال متحكماً :
- ومن أنتِ حتى تتدخلين في شئوني؟
- لأساعدكَ.. قالتهات ببساطة ظاهرة تخفي خوفاً يفتت خلاياها, فأغلظ صوته المحتقن قائلاً :
- ومن سمح لكِ بمساعدتي؟ ومن طلب منكِ ذلك؟
فتحت فمها لتجيبه ولكنه بقي مفتوحاً دون حديثٍ فاسترسل هو بقسوة وشيطانه يغلبه بكل أفكاره, ويذكره بكل ما قالت لصديقتها :
- أنت امرأة مات زوجها فاستباحت الحرام, وعاشت مع رجلٍ تقدمه للناس كزوجٍ لها, رغم أنها تعيش في مجتمع لن يلومها, فهمتُ الآن لماذا تتقربين لعائلتي؟ ولماذا تنظرين إليهم دائماً؟ وهل تعتقدين أن بأفعالكِ وخيركِ الذي يغرقهم نجوتِ من خطيئاتكِ؟
ولا تكتفين برجلٍ واحد, تقتحمين حياة رجلٍ آخر وتقومين بإغوائه, غير عابئة بالأول, ولماذا تعبأين به أو بغيره؟ تظهرين الخير للناس, وتذهبين لأماكن يرجو غيركِ منها الشهادة, وأنت ترجين الموت بأسرع وسيلة, ليت عملكِ بنية خالصة لله, ليت ما تفعلين يكون كما يظهر وليس لنواياكِ الخبيثة منها شئ.. أنا .. أنا .. أنا أشعر بالاشمئزاز لمجرد تذكري لأنكِ جلستِ جواري يوماً وسمحتُ لكِ بالحديث إليَّ, إياكِ والاقتراب مني, وإياكِ والتدخل في شئوني مرة أخرى, أنتِ من بحاجة لطبيب وليس أنا .. شفا الله عقلكِ!
ثم رفع عصاه عن الأرض ليغرسها بعد خطوة تجاوره في مشيه لمكانٍ لا يعرفه حتى الآن..
وتركها حطام امرأة, هاربة كلماتها, نافرة حروفها, جاحظة عيناها, مرتعشة يداها تبعاً لارتعاش خلايا جسدها واحدة واحدة, لها قلب يتباطأ نبضه حتى شعرت أنه سيتوقف في لحظة ما, وعقل أبيض ليس فيه أي ذكرى, ليس فيه أي شئ..
هي لا تعرف كيف وصلت إلى بيتها, وكيف وضعت رأسها على وسادتها؟ وكيف راحت في النوم؟
***********************
وبينما تحاول بنان مع مالك صبحاً لمساعدته في استخدام الأجهزة الرياضية التي سيستعين بها على عجزه لحين وصول الطبيب, يتضاحكان حيناً, ويعتصر رأسه حيناً آخر في محاولة للتغلب على ضعفه, فتهونها عليه بابتسامة مشجعة.. خرج أحمد ونظر إليهما بادياً عليه بقوة أرق الأمس, وتفكير لم ينتهِ.. التفتا إليه واستغل مالك وجوده ليجلس مستريحاً هارباً من ضغط بنان وقال :
- صباح الخير أيها الأخ الكبير , تعالَ لتنقذ أخاكَ من زوجته ...
حاول التبسم واتجه إليهما, ثم قال :
- كيف حالكَ اليوم؟
ضحك مالك ورد :
- لم أستطع الوقوف وحدي بعد.. عندما يمشي صغيركم عليكم بذبح الذبائح وإطعام المساكين..
اتسعت ابتسامة أحمد في محاولة فاشلة للضحك, أخوه متقلب الطباع تغير بسرعة, وجم مالك وقال بجدية :
- ماذا بكَ يا أحمد؟
هز أحمد رأسه في حيرة آسفة, وزم شفتيه ثم قال :
- فعلتُ أقبح شئ في حياتي ليلة أمس, لقد أجرمتُ جريمة لن تغتفر..
اتسعت عينا مالك ثم قال :
- هل تزوجتَ؟.. آه .. أقصد ..
ضحك أحمد ثم تركهما بعدما رأى بنان تضرب مالك على كتفه فأخرسته, ولكن مالك أوقفه قائلاً :
- انتظر.. لا تترك أخاكَ وحيداً ..أخبرني ماذا فعلت؟
عاد إليهما بالفعل, ولكن لأن ذهنه الذي أرهقه, وشعور الجريمة التي ارتكبها مسيطر عليه منذ عاد إلى غرفته ليلة أمس, ذهب ناحية بنان وتنهد ناظراً موضع قدمه على الأرض وقال :
- بنان .. هل تستطيعين خدمة أخيكِ؟
أمسك مالك يدها وشدها إليه بحنق قائلاً :
- بنان ليس لها إخوة..
ابتسم أحمد وردد :
- كف عن مزاحكَ الآن يا مالك, ألا تريد أنتَ مساعدة أخيكَ؟
- بالطبع أريد, مرني!!
وجه حديثه لبنان وقال :
- ماذا تعرفين عن تلك المرأة؟ .. رؤية .. هل هي متزوجة بالفعل؟
- أنا لا أعرف عنها شيئاً أكثر مما تعرفونه, فقط هي لا تقصد طريقتها الجافة في التعامل..
- وهل عمر هذا زوجها؟
- ماذا؟..
- أرجوكِ بنان, أريد الصدق ولن أخبر أحداً..
- إنه أبوها..
أخرسته الصدمة لثوانٍ لم تمنعه من أن يسأل :
- وماذا عن أخلاقها؟ ماذا تعرفين عنها؟
- أشهد لها بحسن الخلق..
- وماذا عن مالك؟ كيف أنقذت حياته من الحادث؟
- هي التي دلتني على التركيز على أحداثٍ بإمكانها إخراج مالك من غيبوبته, والتحكم في أفكاره التي تحولت للموت والاستسلام له..
- وماذا عن قذف المحصنات؟ .. همس بها لنفسه ثم غادرهما ولم يعقب, فنظر مالك وبنان أحدهما للآخر باستنكارٍ مبهم, قطعته بنان قائلة :
- لنعود لما كنا نفعله.. هيا ولا تتكاسل..
ضحك وقال :
- بنان اذهبي للجامعة..
جلست على مقعد مقابله وقالت :
- سننتظر الطبيب فقط ..
وافقها, وذهب بعقله إلى أحمد..
**********************
وفي عمله جلس أحمد على مكتبه يخنقه تفكيره, وتكاد رأسه تنفجر, ماذا فعل ليلة أمس؟ كيف أودى به غضبه لما فعل؟ لمعظم اليوم جالساً وحيداً سانداً برأسه على مكتبه, وكأنه يسكن أفكاره ويبحث عن مخرج لما فعل, ما شأنه هو بحياتها؟ تصاحب رجلاً, أو تدعي البراءة, ما الذي يضره؟ ولكن لماذا تتدخل في حياته؟
- أحمد .. أنت ليس بخير اليوم أبداً.. ماذا بك؟
رفع نظره إلى ياسين , ثم قال بوهن وغم :
- لقد ارتكبتُ جريمة حمقاء ليلة أمس, ولا أعرف المخرج منها حتى الآن؟ بربك ما هو الحل؟
قال ياسين بجدية :
- قل لي ماذا فعلت؟ لعله خير ..
- لقد أهنتُ امرأة, ولعنتها وشتمتها, وقذفتها أيضاً.. قالها باندفاع تناسب مع اتساع عيني ياسين المصدوم مردداً :
- أنتَ .. أنتَ من فعلت ذلك؟؟
أومأ أحمد بأسف ثم قال منفعلاً :
- هي السبب.. والله هي السبب..
- اهدأ, وفهمني ماذا حدث بالضبط؟
قص عليه كل شئ, فاندفع ياسين قائلاً:
- إنه أبوها وليس زوجها..
- كيف عرفت ذلك؟ .. قالها أحمد مشدوهاً فأجابه ياسين :
- أبوكَ كان يعرفه, لقد تم عملٌ بينهما, وأخبرنا أنها ابنته..
- ماذا أفعل الآن؟ لقد أشعلت غضبي نحوها أكثر, لماذا تتصرف هي هكذا؟
- أنتَ الآن تتدخل في شئونها.. قالها ياسين مثبتاً بلوم, وأردف :
- أحمد أنا لم أخبر شخصاً بما عرفت حتى رحيق تظن أنه زوجها, وذلك لأنها تسعى لإخفاء أمرها عن الجميع وليس من شأني أن أكشفه حتى لزوجتي..
نظر إليه أحمد وقال :
- ماذا عليَّ أن أفعل لإصلاح جريمتي؟
- رغم أنه لن يصلحها, ولكنه المتاح لكَ! .. اذهب إليها واعتذر, ولا تتحدث عن تفاصيل.. أنتَ أفسدتَ كل شئ بالفعل يا أحمد .. كل شئ..
وقف أحمد مردداً بضيق :
- أعرف .. ولكن لماذا تبحث ورائي ولماذا تقول إنها متزوجة؟
- مثلما أخفيتَ أنتَ أمر السجن.. قالها ياسين ببساطة .. فانصرف أحمد يائساً ..
لم يفعل, وليومين يشغله أمرها, يضيق صدره كلما تذكر ذنبه, وينقبض قلبه كلما تخيل قسوة كلماته عليها, كيف أهانها ونطق بما قال؟ كيف وصلت بغضبه إلى هذه النقطة؟
ثم ذهب لمنزلها, لا يعرف ما الذي سيقوله, وهي يتخيل رد والدها إن علم بالأمر, والدها؟ إنها تتحكم فيه بدرجة كبيرة, لم يتفاجأ من ترحيبه به حين وصل, فقد علم أن امرأة مثلها لن تخبر أحداً عن إهانتها, كما لم تخبر أحدهم عن مصائبها, جلس يتحدث إلى والدها لبعض الوقت قبل أن يطلب منه مقابلتها لأمر ضروري, فاستجاب لمطلبه وذهب إليها ..
لم يعرف أنها ليومين لم تغادر غرفتها, لا تنطق, جالسة بين ذكرياتٍ ماتت وهو بشيطنته أحياها..
لا تمتلك سوى ماضٍ يؤلمها, ولأن لا حاضر لديها, فماضيها هو الشاغل لرأسها ..
لم يخرجها من عزلتها سوى سماع اسمه " أحمد " .. لقد جاء إلى مصيره, اندفعت حيث يكون, ولم تنتبه لملابسها المكشوفة, وقفت أمامه ناظرة إليه بغضب, نفس النظرة التي رماها بها منذ يومين, وقف عندما رأى هجومها, اتسعت عيناه عندما رأى ما رأى فغض بصره شاعراً بغضب ألجمه بقوله:
- جئتُ لأعتذر عمَّ بدر مني, أنا آسف ..
ثم خطا خطوة بنية الرحيل في أسرع فرصة, ولكن لا مفر من غضبها الذي كتمته ليومين, لا إنه غضب كتمته لسنواتٍ, غضبها دائماً مدفونٌ في خبايا قلبها, وكذلك حزنها ينهش في جدار القلب فيميته, يشيخ قلبها وتشيب رأسها, وتدور حول عينيها علامات الزمن, وتبقى كالصخر الصلد, ثابت لا يتحرك, وإذ به يشعل بركاناً تحته يفتته, وينثر شظاياه حوله, ولقربه منها سينفجر في وجهه هو, وأول من يقتل سيكون هو..
هل رأى حطام امرأة من قبل؟ هل رأى انفجار بركان أو انهيار جبل؟ إنه الفتات الذي يراه, إنها خلاياها المتناثرة, ووجهها المحتقن, وشعرها الغجري المنثور حولها متمرداً, إن ما يسمعه شذرات لسانها, وهواجس خوفٍ لازمتها, يداها اللتان تشيران إليه بعنف, وقدماها المتشبثتان في الأرض تحفظ ثباتها.. وكأن حدود وجهها الأحمر أسرته ولم يستطع أن يحيد عن عينيها اللتين فاض دمعها أو شفتيها اللتين تنثران الكلام غير منتظمٍ, صوتها المتهدج الذي بحت نبرته..
علمت الآن أنها لم تصرخ لموت زوجها, لم تعبر عن حزنها سوى بدموع قهرٍ مكتومة, ودموع عجز مدفونة بقلبها, لم تنتحب حين مات ابنها وحين رأته يواريه التراب أمام عينيها, بقي حزنها ساكناً لقلبها, مرت السنوات تشغل نفسها بكل شئ, وتمنع الحزن من ظهوره, تعيش في لا مبالاة وترى الموت حولها ولا تتأثر, تجرح من حولها حتى لا يجرحها أحد, السنوات تمر وتقترب من أَجَلِها وهو لا يدنو منها, يبقى بعيداً بعيداً جداً عنها..
ثم تحول حديثها لنقطة لشد ما خافت من الوصول إليها, ولشد ما تراكم رعبها منها, وكأن هو السبب في كل الشئ, أو هو من سيجيب أسئلتها :
- لماذا أنا ؟ لماذا يعاقبني؟ ألا يعرف أنني أحبه؟ لماذا يأخذ مني كل الناس؟ لماذا يتركني في الدنيا وحيدة؟ لماذا يطلب مني الرضا والصبر على شئ لا أطيقه؟ لماذا؟ لماذا يكتب عليَّ الشقاء؟ رغم أنني أطيعه وأعمل ما يرضيه إلا أنه لا يحبني ويكتب علي المصائب دائماً؟ لماذا أنا ؟
ثم تركته في ذهوله مع أبيها وعادت لغرفتها تائهة, وصلت لفراشها, وضعت رأسها على وسادتها وراحت في نوم لا تعرف متى سينتهي؟
وخرج هو من بيتها يكاد يجزم أن من سيراه سيظنه ثملاً, هي بالفعل أسكرته وأسقاه حديثها خمراً من قوته لم يعد يرى أمامه, وسيصل إلى بيته بحالٍ أسوأ من حالها ..
في يومها التالي استيقظت كأن لم يحدث شيئاً, استعدت لعملها الذي تركته منذ يومين, وذهبت لتعد شيئاً تأكله, فمعدتها تتضور جوعاً لصومها ليومين, لا شهية لديها رغم جوعها, ولكنها أعدت الشطائر التي تفضلها وجلست تقضم منها حتى تقيم صلبها..
خرج أبوها وجدها أمامه تأكل, الآن عرف أن ابنته لا تأكل سوى للتخفي من نظرات من حولها, الآن عرف أن ابنته لا تأكل الطعام لأنها تشتهيه بل ليحول نظرات الجميع عنها, يعرف أنه إن لم يتحرك ستظل تأكل حتى تنتفخ معدتها, الآن فهم سبب تقيؤها الدائم, تأكل ما يفوق طاقتها على الطعام, تأكل دون شهية, وحين يرفض جسدها يعبر عن رفضه بلفظ ما أكلت..
رحمها مما تفعل وسأل :
- هل ستذهبين إلى عملكِ اليوم؟
أومأت وفمها ممتلئ بالطعام, فأكمل :
- انتظريني بعد انتهائكِ سأمر عليكِ لنتناول طعامنا معاً..
هزت رأسها نفياً ثم قالت :
- لا, تناوله مع زوجتكَ أفضل, فقد أتأخر ..
وانسحبت بسرعة, وصلت للطريق, سمعت رنين هاتفها لتبدأ معاناتها في البحث عنه في مكانٍ ما في حقيبتها, تمر بين السيارات غير عابئة علَّ سائق سكير يصدمها فتموت, ولكنه ما حدث, أكملت سيرها لشارعين حتى وصلت للمشفى, تمنت لو يأتيهم مريضٌ مصاب بعدوى لا علاج لها, فتنتقل إليها وتموت سريعاً, دخلت فعلمت أنها ستجازى على انقطاعها عن العمل ليومين؛ فتمنت لو كان الجزاء القتل رمياً بالرصاص أو الحرق حياً, فتموت, التقت بزميلها العابس دائماً فتساءلت لماذا لا يخرج غضبه فيها ويغرس في قلبها نصلاً بارداً يميتها..
ملت من أفكارها السوداء التي لا تنتهي, والتي تأتيها كل يوم, ثم بدلت ملابسها بزي المشفى, وارتدت معطفها الأبيض, وتسللت إلى قسم الأطفال, وهناك وقفت تنظر إليهم تبحث عن ابنها فيهم, تحاول باستماتة مساعدة أي أم ترى الدمع في عينيها, أو ترى جزعاً وخوفاً من الفقد في قلوبهن ..
سيأتيها إنذار يطلبها في غرفة مريض لها نسيته, أو في غرفة الكشف, وقد يكون موعد جراحة لها خلفته .. إنه الروتين الذي تحيا فيه ..
تكرر الاتصال الذي تجاهلته صبحاً, أخرجت هاتفها من معطفها فهذه المرة أسهل, أجابت مباشرة حين وجدت المتصل إيلين, ثم قصت عليها كل ما حدث بغير مقدمات, أو سؤال عن حال.. تحمد الله أن لها شخصاً كإيلين تحكي له عن كل شئ دون حرج, وأوقفت حكاياتها حين تذكرت شيئاً, ماذا كانت ترتدي حين انفجرت في وجهه؟ من المؤكد أنها ارتدت جلباباً خرجت إليه به أو غطت شعرها حتى, ولكنها لا تذكر أنها فعلت. هل يعقل أنها خرجت له بما ترتدي؟ لن تكون المشكلة في شعرها أبداً, لقد كشفت ملابسها عن ساقيها وذراعيها, ليت شعرها هو الظاهر فقط!! تعتصر رأسها علها تتذكر أنها تسترت عن عينيه حين خرجت, لا فائدة, ويحها ماذا فعلت؟
صوت إيلين أخرجها من مصيبتها, والتي تلتها المصيبة الأخرى التي تلفظت بها, هل اعترضت على أقدار الله؟ هل كفر لسانها تبعاً لكفر قلبها؟.. ولكنها بالفعل معترضة على القدر, وتجهر بذلك!!
- رؤية, لأنني الوحيدة التي ترى قلبكِ, فلن أترككِ هكذا, أنتِ بحاجة لصلحٍ مع النفس, سأمر عليكِ اليوم إن شاء الله عند الخامسة, هل سيناسبكِ؟
أومأت رؤية بعينيها كأنها تراها ثم أخرجت صوتها بصعوبة قائلة :
- سأنتظركِ!!
********************
فتحت بالكاد عينيها , فوجدته ساجداً, ارتسمت ابتسامة تلقائية على وجهها, هل هناك سعادة أكثر من ذلك؟ أحاطت بطنها بذراعيها تحمي جنينها كما اعتادت, ثم انقلبت على ظهرها ناظرة للسقف, فوجدت اشتياقاً يجرف نظراتها لهذا الساجد فتحولت إليه بابتسامة متسعة, وقلب يرقص في مكانه فرحاً. آدم يصلي أخيراً ويعبد الله كما تمنى, أصبح المسلم الذي يطمح, لا نساء ولا عبث, لقد كان متجاوزاً للمصافحة, يعانق مباشرة, ضحكت بصوتٍ مسموع حين تذكرت زوجها معانق النساء مصاحبهن, ثم سكنت تسمح لعينيها بالمراقبة, ولقلبها بالخفقان ..
حين أنهى صلاته, نظر إليها مندهشاً وسأل :
- ما الذي يضحككِ؟ أنتِ لستِ طبيعية منذ علمتِ بالحمل..
ضحكت ديانا مرة أخرى وقالت :
- دعكَ مني الآن, لماذا لم تذهب إلى براون, لقد سمعتك تحدثه وأنا نائمة ..
- حقاً .. قالها ساخراً وأردف:
- لقد تأخرتِ في نومكِ, حتى أنكِ لم تسمعي هاتفكِ الذي رن لأكثر من مرة, كانت إيلين..
ابتسمت وهي تمد ذراعها لهاتفها, وقالت :
- أنتَ تظلمني يا آدم, ما المشكلة في النوم ..
تحرك من مكانه منتقلاً لخزانته يخرج ملابسه, وهو يقول :
- اتركي هذا السرير قليلاً, لن يؤذى ابنكِ إن حركتِه..
اعتدلت جالسة وهي تحاول الاتصال بإيلين ثم تصنعت الغضب قائلة :
- أخاف عليه آدم, أخاف أن تؤذيه حركتي..
تنهد وهز رأسه يمنة ويسرة ثم قال :
- ولكن حركتكِ مفيدة له, ثم أن الله حافظه وليس أنتِ ..
تحدثت إلى إيلين, أثناء تبديله لملابسه وحين انتهت قالت :
- ها أنا سأخرج اليوم للقائها, هل ارتاح بالك الآن؟
ضحك بشدة حيث أن خروجها أصبح في أضيق الحدود , حتى عملها تؤجله أحيانا وتعتزله أحياناً ثم قال :
- أشعر بكل الراحة .. وخرج مخلفاً إياها وراءه مغتاظة سعيدة, تضع يدها على بطنها تطمئن جنينها, وتخبره بما ستفعله اليوم..
***************************
في تلك الغرفة الخاصة في منزلهما, والتي يخطط كل منهما فيها أحلاماً لأبنائهما, وقفت رحيق تضع ورقاتٍ مطوية كتبتها, في أظرف معلقة على الحائط حين دخل ياسين واتجه نحوها قائلاً :
- إنها الرسالة الثانية دون أن أرها..
التفتت إليه وقالت :
- أنا أيضاً لا أرى ماذا تكتب, متعادلان ..
- كاذبة, لقد رأيتك تتسللين للدخول هنا ليلة أمس, وتقرأين ما كتبتُ ..
فتحت فمها في صدمة ثم قالت :
- لقد رأيتني.. يا إلهي, لا مفر من ذلك.. سأخبرك إذاً .. إنها رسالة إلى أبنائي بعد عشرين سنة, في حال موتي, أو حياتي, أو لا قدر الله موت أحد منهم.. أياً كان رسالة هذه المرة, ليست بالشئ الجيد أن تراه .. وعليَّ الخروج الآن للقاء صديقاتي, سأتركك تتسلل للقراءة ..
ضحك وهو يودعها قائلاً :
- أنا أيضاً سأخرج, خذي مريم معكِ واتركي سيف سيكون معي ..
وافقته وافترقا..
***********************
التقتها إيلين وذهبت بها للقائهن, ولم تخبرها إلى أين هما ذاهبتان؟ فقط عند الوصول نطقت :
- الآن سترين فرحة ميرا, وسعادة ديانا, وراحة رحيق, ورضا بنان, وتعرفين أن القدر لا يؤذي أحداً..
كالمسحورة استجابت بلا إرادة, وحينما رأتهما ديانا, اتجهت نحو إيلين عانقتها بشوقٍ ظاهر, حينها تمنت رؤية لو لها مثل هذا العناق, أقبلت عليها بنان فصافحتها, ولتحفظ رؤية الظاهر دائماً خافت من أن تندفع نحوها معانقة ..
رحبت بهما رحيق وميرا, وعرفتها إيلين لمن لا يعرفْنها, بأنها صديقتها الطبيبة المصرية التي تعرفها منذ سنواتٍ. لم تزد عن ذلك وتركتْ لديانا قوة الملاحظة إنها تعرفها ورأتها قبل ذلك, رأتها في مكانٍ ما غير اجتماعها بعلاج مالك, لقد تغيرت مشاعرها حين رأتها, وارتبطت صورتها في ذهنها بتلك المشاعر التي كانت تهاجمها حين كانت تعاقب نفسها..
تريد رؤية منهن صحبة تنجيها من أفكارها التي تنحدر وتنحرف يوماً تلو الآخر, ولا تعرف متى ستتوقف؟.. هل ستجد النجاة معهن؟؟





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-15, 12:23 PM   #42

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



40 - رؤيةُ بنان


لم تصدق إيلين نفسها, عندما أطاعتها رؤية وأعطتها ذلك الصندوق الذي تحبس نفسها فيه, ولم تصدق وعدها لها بأن تتقبل حياتها, وتعيش خالية البال مطمئنة. فقد انتهى ذلك اللقاء الذي جمعهما بالنسوة بأسوأ مما توقعت وقد خربته رؤية بشذرات لسانها, وبعد عودتها لمنزلها عرضت نفسها للومٍ لم تفعله قبل, كرهت نفسها بوحشية, وكرهت كل ما حولها, وفجأة رمت اللوم كله على صندوق ذكراها بما فيه, وبمجرد أن طلبت منها إيلين أخذه, أعطتها إياه, وكأنها رافضة لوجوده, ابنها إن كان حياً فلن يفخر بأمٍ مثلها, وكذلك زوجها, فوجئت أن جزعها على ابنها كان أكبر بدرجة أنستها حزنها على زوجها سريعاً.. قد يكون!! فهي الآن عاجزة عن فهم مشاعرها, فطنت فقط أنها وصلت لدرجة من اليأس جعلتها تعترض على أقدار الله, وأنها أصبحت من القانطين.. ورغم كل ذلك لم يصل يقينٌ لقلبها بالإيمان الكامل بالقدر..
قد يكون ذلك اللقاء هو الذي قصم ظهرها, بعدما تمنت صحبة تغنيها عن آلامها, ضيعها لسانها ولامبالاتها, عادت لبعض رشدها, وشعرت أنها بحاجة لربها, لتطمئن به, وإليه, تحتاج لأن تفر إليه مستغفرة, حياتها الآن مختلة, فإن كانت تريد الموت, ألم تسأل نفسها يوماً وماذا بعده؟ هل تعتقد أنها بموتها ستجد سعادتها الضائعة, قد يكون زوجها وابنها ينعمان في جنة الخلد, وهي بأفعالها تذهب إلى نارٍ وبئس المصير, وعندها سيصبح الفراق أبداً.
لينعم مفارقوها بالجنان, ولتحيا هي ما كتب لها سعيدة حتى يكتب الله لها اللحاق بهم, لن تتعدى على حدوده – سبحانه - مرة ثانية, لكم تشعر بالكره لذاتها الآن, ولكم تكره شعور الكره هذا!
واختارت العزلة, لكي تعيد التوازن الذي تبغيه لا بد لها من عزلة عن الناس وعن العمل وعن كل ما يشغل بالها أو فكرها, لأسبوع أقامت بمسكنٍ قرب المحيط وحدها فيه, تخرج صبحاً تجلس على شاطئه, وتعود عند الغروب, وكأنها تخرج كل طاقات اليأس التي تحملها, تخرج العشر سنوات الفائتة من ذاكرتها, وما قبلها, نفس عميق ثم تزفره ومعه تزفر كل ألم أصابها, إنها إرادة لا أكثر..
وبعدُ اندمجت في عملها محاولة التبسط مع الناس, زملاؤها الجانب الأكثر تعرضاً لفظاظتها, رأت الاندهاش في عيونهم من تصرفها المهذب لأول مرة, ولو يعلمون كم ضغطت على نفسها لتفعل ذلك ويمر يومها دون أن يفلت لسانها لأشفقوا عليها, فهم لا يختلطون بها بصورة كبيرة في الأصل, ومع ذلك ففي المرات القليلة التي يلتقون فيها تطالهم سماجتها غير المبررة.
شغلت يومها كله وزاحمته حتى تهرب من فراغها أو النوم, معظمه في عملها, وما تبقى تبحث عن شئ تفعله, حتى يهلكها التعب فتنام بلا تفكيرٍ مسبق أو شعورٍ بالأرق, ومر شهر وهي تروض نفسها تتحكم فيها, حتى ذلك اليوم الذي شعرت فيه أنها تمتلك القدرة التامة على إصلاح ما أفسدت, فطلبت من إيلين أن تحدد موعداً معهن لتعتذر أو تذهب لبيوتهن, ولكن الموعد قد تحدد..
التقت بهن بعينٍ منكسرة, وكيف لا تنكسر وقد رأت أثر كلماتها عليهن مسبقاً, خاصة ميرا التي أشاحت بوجهها عنها, فهي أكثرهن مرحاً وأكثرهن حساسية تجاه أي فعلٍ كفعل رؤية التي لا تذكر الآن ماذا فعلت بالضبط, سوى أنه الأمر الطبيعي الذي كانته. وقفت معتذرة طالبة عفوهن ولم تنتظر إجابة وهمت بالمغادرة, فأوقفتها ديانا :
- انتظري!!
نظرت لها رؤية’ لعينيها ’ ليست كالبريطانيين الذين تعرفهم, تشعر ببرودة مشاعرهم, وكبريائهم الظاهر الذي لا يقبل بتطاول امرأة مثلها, بينما ديانا غير, وتعرف أنها غير منذ النظرة الأولى التي جمعتهما. تبع أمر ديانا قول ميرا المرِح والذي يناقض نظرتها الأولى لها :
- اجلسي, عادة اللقاء الأول الذي يجمعني بأي شخص يكون الأسوأ على الإطلاق, يبدو أن الخطأ يكمن في شخصي..
نظرت لها رؤية آسفة, في حين استحكم الصمت على رحيق وبنان التي تملكتهما شفقة غريبة بها, ومر اللقاء الثاني معهن في صمتٍ تام منها, فهي لم تأتي سوى لتعتذر فقط, وخافت بشدة من فتح فمها فيخرج ما لم تقصده..
وكأنه كتب عليها أن تدفع ثمن ما فعلت بكل من قابلتهن, أو أن تتغرم لأجل ما اقترفت لسنوات, حين جاءتها إيلين بابنتيها وقالت :
- المعذرة يا رؤية, ولكن عليَّ السفر في رحلة مع زوجي, ولن أستطيع الاستمتاع بصحبة هاتين, هل تخدمينني فيهما؟
بحسن نية وبحب للأطفال كلهم قبلت الأمر بصدر رحب, ولم تفطن حتى لتحذير إيلين حين قالت :
- أعرف أنهما شقيتان وسيتعباكِ, سامحيني, أسبوع واحد فقط..
قبلت بالأمر, وعلى غرة منها فوجئت بوجود فتاتين من عالمٍ آخر, إحداهما في الثامنة من عمرها والأخرى في الخامسة, لا يعرفان للهدوء والاستقرارمعنى, يعبثان في كل شئ, ويغيران معالم كل جميل, حرمت النوم مرغمة ليومين, حرمت الطعام وراحة البال, لم تستطع الذهاب لعملها لأن لا طاقة لأبيها بهما, وبالطبع لن تستطيع زوجته الحسناء الاهتمام بهما.
بعد يومين فعل بها أبوها خيراً, احتوى شغبهما وتحمل مشاكستهما فصاحبتاه ولاطفهما, واستطاعت العودة لعملها, وحين تنتهي تعود إليهما لتواصل مهمته. لن تنكر أن الصخب اللذيذ ملأ حياتها فرحة, وأن الضوضاء التي ملأتا بها البيت أحيته, وأحيت قلبها من رعونته..
توصلهما للمدرسة وتنتظر عودتهما, تهتم بطعامهما ولباسهما وموعد نومهما ودراستهما كأم حقيقية اشتاقتها, ولم تفطن يوماً لعينٍ مراقبة تعلقت برؤيتها وهالة الضوء التي تمد يومه بها فيستنير‍!!
وعادت إيلين لتأخذ ابنتيها آسفة على شغب متيقنة من حدوثه, وسعيدة بامرأة غير تلك التي تركتها!
*******************
إلى مَن خلقني الله منه .. إلى مالك ..

ليس بالأمر السهل أو الهين أن أمسك قلمي لأكتب عن الله, أو أسبح في عمق معاني كتابه, وليس هو بالأمر اليسير أن أترك العنان لقلمي لكي ينهل منه ويستفيض..
ولكن .. لكي تصل لعمق المعنى, وبلاغة الكلم, ويتشرب قلبك بخشوع عذب يحيله رقاً, فعليك بتدبر قوله وتأمله ..
بسم الله أبدأ ..

(( بسم الله الرحمن الرحيم
الم
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ
مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ))

منذ مرضك الأول يا مالك وقد فطنت لابتلاءٍ أصبت به, ولم أفطن لذنبٍ يطهرني الله منه, قلت الصبر والرضا هو الحل, وصبرتُ ورضيتُ وشفيتَ أنتَ.. ثم مرضتَ ثانية وكان الابتلاء أعتى من الأول, فقلت سأصبر وأرضى ليختبر الله صدقي في السعي إليه, ويجري بي الزمن وأثبت نفسي وأشد على يدي, جاهدي نفسكٍ يا فتاة فإن الصبر بعده فرج, وغاب الفرج, واسودت السماء والأرض, وضاق الكون بي, وتشتت عقلي وحار قلبي, ما الذي يحدث؟ لماذا أنا؟ هل الله يختبر صدقي الذي يعلمه حقاً؟ لماذا يفعل بي ذلك وهو عليم بحبي له؟
وخارت قواي وعجزت, هناك سراً لا أعلمه, كما تعلم عكفت على البحث عن سببٍ لما نحن فيه, وأنار ذهني بشئ غاب عني بعد تعبٍ طال, عرفتُ أنني سعيتُ إليكَ أكثر ممَّ سعيتُ إليه, حرصتُ على كسب قلبكَ وحبكَ وابتعدتُ عن الله كثيراً, مر وقتٌ طويل لم أعبد الله بحق, لم أحافظ على عادتي الخاصة معه, لم أتدبر, لم أتأمل كونه, ولم يخر عقلي ساجداً لعظمته, عرفتُ أنني أذنبتُ!!.. الله يريد أن يردني إليه.. يا لفرحتي بها ..
لو تعلم أنكَ النقطة الأضعف في قلعتي القوية, لو تعلم أن غزوكَ كافٍ بهدم القلعة وحصونها, لو تعلم أنكَ حجر الأساس الذي لو اهتز لانهدمت القوة وسويت بالأرض, أتعلم يا مالك أنني وضعتك في المكان الخطأ؟
فأنتَ اهتززت وغُزيتَ وانهدمت قلعتي فوق رأسي..

وكأنها ترى رؤية التي سكنت إلى نفسها في أحد أركان غرفتها تقرأ ..
((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ))

أتعرف يا مالك أولئك القوم الذين يعبدون الله على حرف, لقد كنا منهم أو كدنا, أردنا أن نعبد الله مشترطين السعادة والهناء, فإذا ما انتكس الحال بنا خنعنا ..
وأكملت كأنها تهمس كلماتها في أذن رؤية ..
ولكن على كل حال كنتُ أعرف أنه لن يردني إلى طريقه سوى كتابه, أليس هو من قال
((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... ))
لذلك عدتُ إلى طريقه أشد نفسي إليه, وأُقَيّمُ خطايَ لتستقيم, طمأنني بآخر السورة التي فتحت السبيل أمامي..
((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) ..

وجهاد النفس أشد وأقوى.. فجاهد نفسك حتى تصل !!
وسأنهي كتابتي بتلك الآية ..
قبل أن تكمل سحبت نفساً عميقاً كأنها ملأت صدرها بهواء الحديقة الجالسة في أحد أركانها, وأغمضت عينيها وقبضت يدها ثم بسطتها لتكمل كأنما رؤية التي تنطق وليست هي ..
(( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ))
في كل مأزقٍ وكل كرب, في كل سوادٍ اشتد بكَ وفي كل ظلمة سجنتكَ, في كل ضيق وكل عسر, في كل اختناق وكره لذاتك ولحياتكَ .. في كل نعمة, في كل أمل , في كل لحظة فرحة, في كل فرج , في كل نشوى وسعادة ونجاح ..
الله قريبٌ منكَ, أقرب إليكَ من حبل الوريد, لا تبخل على نفسكَ أو تحرمها من قربه..
وفي خضم تفكيركَ الشارد, وبعدك عنه وهجرك لطريقه تجد قوله ذاك يدعوك إليه ويرفق بقلبك .. أيها التائه رفقاً بنفسكَ ..
تستشعر رؤية الآية وبرداً يسري في قلبها وطمأنينة, يلف عقلها راحة واستجابة, وتحمد الله أن انتقلت حالتها ووصلت لتلك الآية بعد أن أوشكت على أن تكون من أولئك الذين وجهت إليهم هذه ..
((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) ..
لقد أنقذها الله ..

تتلاقى الأرواح بغير جسد في ملكوتٍ سرمدي, فتتنافس فيمَ بينها, وتتآلف, وتسكن بعضها إلى بعض ...

أنهت بنان خطابها بمشاكسة لم تستطع التخلي عنها ..
لقد آلمتني يدي, وقد نويتُ أن أتحدث عن سورة العنكبوت, لا بأس, في وقتٍ لاحق حين أجدُ وقتاً سأخبركَ إن شاء الله..
زوجي المسكين لقد اشتقتُ للكتابة إليكً أيها اليائس الأخرق .. بالطبع ستسامحني هذه المرة, لقد عذبتني طويلاً ..
حبيبتك المشاكسة /
بنان قلبكَ
...
تركتْ قلمها, وأغلقت حافظة أوراقها, وهي تحول بصرها تجاه صوته القادم من بعيد, ثم ابتسمت عيناها لمرآه قادماً جوار أحمد مستنداً بذراعيه على عكازين يساعدانه في الحركة, ثم افترقا ودخل أحمد للمنزل بينما اتجه هو نحوها, تابعت خطواته الثقيلة حتى وصل إليها وجلس مرهقاً ثم قال بشبه ابتسامة :
- ألم تستطيعي الجلوس قريباً من الباب؟ ..
ضحكت قائلة :
- تخلى عن كسلكَ أرجوكَ, وأخبرني ماذا فعلت اليوم؟
- أنا جائع! ألن نأكل؟
نظرت له بلومٍ ووقفت, اعتادت أن يتهرب من سؤالها عن حالته أو علاجه منذ اتخذ من أحمد رفيقاً بدلاً منها, تجاورا في خطواتهما حتى دخلا للمنزل, تناولا طعامهما الذي تعده سارة لمالك خصيصاً حتى يغذي بدنه, ويعوض نقص وزنه, ولا تعرف بعزيمته التي تزداد في ذلك..
ثم تركها جليسة أمه, ودخل غرفتهما, بحث في أغراضها, ثم انتقل إلى الكتب التي أدمنت قراءتها, ثم بحث عن أوراقها حتى وجد ذلك الكتاب الذي انتهت من كتابته منذ وقتٍ ليس بقليل, قرأته عليه, وقرأه هو بعدها, وتناقشا في معظمه قبل حادثته, قرأ عليه " جاهز للطباعة " فابتسم وهو يجري اتصالاً هاتفياً أنهاه حين دخلت, وابتسم لها قائلاً :
- ستتخرجين قريباً, ألن تريني فيلمكِ الأخير؟
التوت شفتيها ببعض ضيق وقالت :
- وهل تهتم؟
وصلت ابتسامته لعينيه وقال معتذراً :
- أنا آسف! لم أقصد إهمالكِ, انتظرتُ فقط لحين انتهائكِ منه.
- وماذا لو كنتُ بحاجة إلى مساعدتك؟
- أنتَ الآن تفوقين خبرتي, ولستِ في حاجة إليَّ. هيا أريد أن أرى.
لم تكن لتفعل لولا حماسة صوته, والتماع عينيه مشجعاً ثم بدأت تقص ماذا فعلت, وتحكي عن المجهود الذي بذلته تفصيلياً, مغرمة هي دائماً بذكر التفاصيل, وجعلته يدمن تفاصيلها تلك .. وحين شغلت العرض, سكتت سامحة له بالتركيز على ما يرى, وسامحة لنفسها بالانتباه لتعليقاته وملاحظاته التي تأخذها منه دائماً كأنه معلمها..
وبينما يتحدثا هتفت فجأة بجملة مغايرة لحديثهما :
- لم يتبقَّ سوى شهر واحد, أتعتقد أن يحدث فيه ما أتمنى!!
اضطربت كل خلجاته وهو يقول :
- إن شاء الله, سيحقق الله لكِ كل ما تتمني, إن شاء الله ..
ثم احتوى عجزه وهو ينهض متجهاً للخارج قائلاً :
- سأذهب لأحمد..
تابعته بناظريها, ولم تتابع حديث نفسه الذي يتردد " إنه شهر واحد, شهر واحد فقط, هل ستستطيع أن تصل فيه " ..
ولجهلها بما ينوي, أسرت في نفسها حزناً لا تعلم كيف سينقلب الضد لضده بين عشية وضحاها..
***********************
- ولكن كيف تقول أنكَ تحبني وأنتَ لا تعرف عني شيئاً, ما جمعنا سوى أحاديثٍ بسيطة في معظمها تسخر مني وتشكك في كوني مسلمة!
ارتعش صوتها, تعبيراً عن ارتعاش أوتاره ودقات قلبها, وهي عاجزة عن رسم ابتسامة أو وجوم على وجهها, فبدت بعثرة مشاعرها جلية في صورة التقطتها ميرا لها في أول حديثٍ جمعها بياسين.. ابتسمت رحيق وهي ترى الصورة بشرود أعاد ذكراها لذلك اليوم, كم تبدو البراءة والعجز في عينيها يكسران نظرتها..
ثم ضغطت على بطنها وهي تمدد قدميها أمامها وتابعت مشاهدة الصور, تحن لتلك الفترة من حياتها بشدة, كانت كمن يولد من جديد, كمن يرزق بحياة أخرى, ويتنفس هواءً نقياً للمرة الأولى..
- الحب لا يحتاج لأسبابٍ أو وقت, يكفي أنني وجدتكِ حتى أحبكِ, منذ وعيتُ وأنا أبحث عن رحيق حياتي, وعندما رأيتكِ عرفتُ أنكِ أنتِ هي!!
- بالله عليكَ, ألم يكن الأمر سوى نبل أخلاقٍ منكَ, أن ترتبط بشخصٍ مثلي؟
- اسألي قلبكِ!
تركت هذه الغرفة وتركت وراءها ذكرياتها, وخرجت تبحث عن ابنيها.. في غرفتهما وجدتهما جالسين, فجلست معهما, ولم يفت الكثير من الوقت قبل أن تطعمهما, فقد تأخر ياسين على غير عادته, لم تلبث أن تعرف الوقت بين حينٍ وآخر, وتتصل به فلا يجيب..
- يارب هَوِّنْ .. تمتمت بها, وهي تذرع الردهة بعد أن نام ولداها, ترفع يدها لشعرها, وتتخلله أصابعها, تخشى من سؤال مالك أو أحمد, وتحاول الاتصال مراراً, حتى عاد زوجها المنتظر بعد ساعة من اتصالاتها..
دخل وسلم بوجهٍ عابس, فقتلت لهفتها وانفعالها لمرآه, دخل لغرفته مباشرة وارتمى على سريره مخفياً عينيه بذراعه, دخلت خلفه وعلمت من مظهره أن الأمر جلل..
جلست جواره بخفة, وربتت على ذراعه قائلة برقة :
- ياسين .. ماذا حدث؟ لا تقلق, طالما أنتَ بخير فكل شئ يمكن تعويضه!
همس بهمٍ جليَّ :
- لقد تسببت في خسارة الشركة لصفقة مهمة...
ارتاحت ملامحها وهدأ قلبها وهي تردد :
- الحمد لله, وما المشكلة في ذلك؟ أي خسارة يمكن تعويضها, هون على نفسكَ!
أسكته همه عن الرد, فخسارة الأموال لا تهمه بقدر ما يهمه أنه المسئول عنها, وأنه المتسبب في حدوث ذلك, يغمه فشله في مسئولية ألقت عليه.. ولكن صوتها العذب كالأثير في أذنيه سرى:
- لا تفعل بنفسكَ ذلك, الخطأ وارد, أنتَ لم تقصده, لا تقلق, " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً "
قامت وقبضت على يديه بلطفٍ قائلة :
- انهض معي!
- اتركيني الآن رحيق, أريد أن أبقى وحيداً..
صوته المنكسر فتت قلبها فهمست :
- سأتركك ولكن قم الآن! أرجوك!
أطاعها, وترك طريقه بين يديها حتى قالت :
- توضأ وصلِّ, وادعو الله أن يفرج عنكَ, سأتركك الآن, ولكن لن أنساكَ طويلاً, عندما أعود يجب أن تكون أنهيت عزلتكَ!.. اتفقنا!
أومأ بعينيه فتركته, وذهبت لتنفصل في غرفة أخرى..
ساعات قليلة ويطيب , هي واثقة ..
**************************
تقلب أحمد في فراشه كأنه نائم على جمر وتمتم من بين أسنانه :
- سيقتلني تفكيري بكِ ذات ليلة!
الأمر أصبح فوق احتماله, الساعة تدق الثانية عشر في منتصف الليل وهو راقد في فراشه, تحوم حوله نظرات أهل بيته فيجيب بابتسامة مصطنعة :
- كل ما في الأمر أنني لم أعد أتحمل برد الشتاء..
كطفل مذنب يهرب من عقاب معلمته, ويهرب من تلميحات عائلته, ماذا يخبرهم؟ أيقول أنه يتتبع امرأة كظلها, يفكر فيها ليل نهار, أيخبرهم أنه حرم النوم بسببها..
منذ سمع منطقها في الحوار ذات يومٍ غريب, وكأنها امتلكت قلبه, وأيده عقله, لم يكتفِ من كلماتها, ووقف مبهوراً ينهل من حديثها, ثم مرة ومرة ومرة, وتعددت أحاديثها التي تروقه وتناسب عقله, هادمة كل صورها المهترأة فيه, من أين أتت امرأة مثلها بمنطق لسانها وحكمة عقلها؟ كيف تحتوي من حولها وكأنها أمهم؟ وكيف تتحول من النقيض لنقيضه في وقتٍ محدود؟ كيف تعطي دون أخذ؟ وتحب دون مقابل؟ كيف هي مجنونة عاقلة؟ وكيف تكون حكيمة طائشة؟ كيف تمتلك خليطاً من الأمزجة, وتسير بأنفة وكبرياء يناقض عشوائيتها المقصودة؟
ولكنه منذ رأى كامل حسنها وهو واثق من تطابق صورتها في عقله مع صورة أخرى, بعيدة, ولها تفاصيل كثيرة, ولكنه لا يذكرها, لو تحدث إليها لمرة واحدة فقط لاتضحت ذاكرته, ويبدو أنه ما حدث, متى وكيف رآها؟ سيبقى سؤال دون إجابة!!

ثمة أهدافاً جلية أمامنا, واضحة وسهلة النيل, ولكن إغراؤها لا يبدأ إلا حينما تبتعد, وكأن البعد يزيدها ألقاً وتوهجاً, تثير في نفوسنا شيئاً لا ندريه, ولكنه يلح علينا بالظفر بتلك الأهداف, وكأنما لم تكن سهلة ذات يوم!

لم يستطع أبداً كبح جماح فضوله, وذهب في اليوم التالي مباشرة لعملها, طلب رؤيتها فجاءت إليه, وقد ارتسمت الدهشة على ملامحها, لم يراوغ وهو يسأل مباشرة :
- لقد التقينا من قبل, أليس كذلك؟ أقصد قبل أن أعود من سفري, عندما رأيتُكِ هنا لم تكنِ المرة الأولى, صحيح؟
وكأن دقات قلبها وصلت إليه, وكأن اهتزاز صوتها يعبر عن اهتزاز ذاكرتها, أجابت رؤية :
- نعم, قبل أن ترحل! قبل اثني عشر عاماً!
- متى؟ كيف حدث ذلك؟ أنا لم أكن أذكر ..
ثم قطع حديثه, وقد خاف أن يسترسل مذكراً بشجارهما, تنفست رؤية بعمق ثم قالت :
- الفتاة التي اتهمت بالسرقة, واحتجزت في قسم الشرطة لأسبوع, حين أبلغك أحد زملائكَ بأمرها ظناً منهم أنها أختك بسبب تشابه الأسماء الذي يجمعنا, الفتاة التي ساعدتها حتى تعود لبلدها أنتَ وصديقك عمار بعدما تخلى أبوها عنها, رغم أنكَ تأكدت من كونها ليست أختك, ساعدتها ولم تتخليا عنها دون مقابل! هل تذكرتها؟
أغمض أحمد عينيه بقوة وكأنه يتشبث بخيط أمل ليستعيد الذكرى, ثم ضغط بأصابع يساره على مقدمة رأسه وأصواتٌ تتردد في عقله ..
- اسمها رحيق عمر, أليست أختك؟
- انتظر يا أحمد, ليست رحيق, اسمها رقية عمر ومن مصر, يبدو أنه تشابه في اسميهما, لم يتحقق جون من الأمر, تعرفه جيداً!
- ولكن يقولون أنها لم تسرق, هل سنتركها؟
- لقد جاءت في زيارة لأبيها الذي يقطن هذا الحي, ولكنه غير متواجد الآن, ولم تستطع الوصول إليه, اتهمتها امرأة بسرقة أموالها, في حين شهد أحدهم أنها لم تفعل..
- ستترحل إلى مصر!! عمار ما رأيك أن ندفع الأموال لتلك السيدة, ونطلب منها التنازل!
- لو رقية هذه بريئة, لنثبت براءتها, بدلاً من أن يبقى الأمر مشيناً لها..
- ولكن التنازل أسهل, ثم إثبات البراءة فيم بعد!
وهل وضعهما الله في طريقها لتخليصها من تلك الورطة ؟
فتح أحمد عينيه ثم قال :
- كيف تعرفين بذلك الأمر؟
- كنتُ أنا هذه الفتاة!
اتسعت عيناه بصدمة, ثم أغمضهما ثانية متذكراً رؤيتها من قبل ..
- عمار! الفتاة ستخرج الآن, ولكن أباها لم يعود, ماذا سنفعل؟
- المحامي يقول أنها طلبت العودة لمصر.. لنعود لعملنا نحن, لقد انتهى دورنا الآن..
أوقفهما صوت المحامي, فاتجهت نظراتهما إليه, حتى اقترب وقال :
- الآنسة تريد شكركما!
غض كلاهما الطرف عنها, وتمتما بأدبٍ :
- لا داعي لذلك!..
فاستفزتهما جملة قالتها ورفع أحمد نظره إليها غاضباً, بشعر غجري معقوص فوق رأسها بكبرياء, تنسدل منه خصلتين على وجهها, رافعة أنفها للسماء, يكشف لباسها عن ذراعيها, وهي تكمل :
- كم دفع لكم حتى تفعلان معي ذلك؟ تورطانني في السرقة, ثم نتقذانني منها؟
رد عمار بأدبٍ ولم يرفع ناظريه إليها :
- يبدو أن بينكِ وأبيكِ مشاكل لا دخل لنا بها! نستأذنكِ الآن! مع السلامة..
قالها وهو يشد ذراع أحمد الذي سار معه مزمجراً..
فتح أحمد عينيه, وابتسامة تملأ وجهه, وفرحة ظهرت في عينيه لانتهاء حيرته ثم قال :
- ومازلتِ كما أنتِ!
ثم انصرف, كيف لم يتذكرها وقد دار بينهما حديث كهذا؟ وكيف يتذكرها ولم يراها سوى لمرة واحدة؟ ضحك أثناء سيره, لم يتذكرها إلا بعد رؤيتها دون حجابها, في ذلك الشجار, لم يعاقبها على ما فعلت بعد, إذاً سيعاقبها على المرتين, حتى حينها لم تصحح لهم خطأ اسمها, لو فعلت لتذكرها في فورها, فهو لم يعرف برؤية من قبل!
اسمها رؤية...
اسمه أحمد ...






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-15, 12:26 PM   #43

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

41 - هي الوطن



وأصبح ثلاثتهم – أحمد, مالك, وياسين – يعيشون في عوالم مختلفة ومنعزلة, أولهم يضنيه تفكيره في امرأة بغير سبب يراه, وثانيهم ترهقه محاولاته في تجاوز عجزه والتخلي عن عكازيه, وثالثهم يحاول باستماتة أن يعوض الخسارة التي سببها..
أحمد.. كيف بدأ تفكيره بها؟ منذ المرة الأولى التي تطفلت عليه؟ أو قبلها أثناء غيبوبته, أو قبل اثني عشر سنة حينما هاجمته .. لا .. منذ سمعها تحدث بنان .. قد يكون, أم عندما تحدثت لإيلين, بعد شجاره معها, أم بعد تقريعها له, بعد انطفاء شعلة تمردها, أم قبلها؟ بعد الرزانة التي هبطت عليها من السماء بين ليلة وضحاها؟ بعد رؤيته لها سافرة مثلاً كما كانت قبل؟.. مصيبته أن لا سبب محدد, هكذا بين ليلة وضحاها أيضاً وجدها في عقله تحيره, وتأخذ جانباً من تفكيره. إلامَ سينتهي هذا التفكير؟ وإلى أي شئ سيؤدي؟ لا يعرف!! وماذا يعني التفكير في امرأة لرجلٍ عازفٍ مثله عن النساء زاهد فيهن؟..
وبينما يسير في طرقات الحي شارداً, لا يعرف إلى أي اتجاهٍ يذهب بعدما فقد متكأه, وإذ به يقف أمام ذلك المقهى الذي يجمعه عادة بياسين ومحمـد؛ فهما على أي حال الأقرب إليه, لم يخترْهما, ولكنهما اختاراه.. إنهما ينتميان لذلك المقهى أكثر من أي شئ, فهنا يشعران بريحٍ من مصر, مكان يجمع عرب مصريين, يسمعان في مذياعه صوت وطنهم وتراثه, يبتسمان لأناس حولهما ينتمون إليهما, يفهمونهما ويحيطان بهما رعاية وحفظاً..
دخله وانضم لطاولة وحيدة شاردة مثله في منأى عن الجميع, وجلس ساهماً, دقائق قبل أن يسمع طرقاتٍ بفعل أصابع الواقف أمامه, رفع نظره إليه فإذ به محمد, ابتسم وأشار برأسه سامحاً له بالجلوس, فجلس محمد وقال :
- كنت أجلس هنا وحيداً, أنتظركما.. أين ياسين؟
- أعتقد أنه لن يتأخر في الشركة عن ذلك, هل قال أنه قادم؟..
- نعم!!
خيم الصمت إذ لم يجد أحدهما ما يكمل به حديثه, بيد أن محمد سأل :
- حالك لا يعجبني هذه الأيام, بعيداً عن أنك غريب الأطوار.. ثم ضحك؛ فنظر له أحمد وقال :
- ولا يعجبني!.. يبدو أنها أزمة منتصف العمر.
- وما الذي فعل بكَ ذلك؟
تنهد أحمد ثم قال :
- ماذا لو شغل عقلك التفكير في امرأة؟
صدم محمد وقال :
- يا للهول! ستقتلني ميرا لا محالة..
ضم أحمد حاجبيه بعدم فهم, فأوضح محمد :
- هل تريدني أن أفكر في امرأة غير زوجتي؟
- وهل يكون التفكير في امرأة على هذا النحو فقط؟ أن تكون زوجتك مثلاً.. قالها أحمد ليوصل وجهة نظره فسكت محمد, ثم قال :
- في أغلب الأحيان يكون الأمر كذلك..
وقطع حديثه ناظراً لعيني أحمد متعمقاً فيمَ يخفيانه, ولكن أحمد عاجله بقوله :
- كيف تزوجتَ ميرا؟
ضحك محمد للذكرى ثم قال :
- أنا من شواذ القاعدة, فلا تربط نفسكَ بي!
وكأنما يدفع عنه تهمة قال أحمد :
- ولماذا أربط نفسي بكَ؟ فقط أسألك هل أكثرت التفكير فيها قبل زواجك؟
- أنا فعلت!
قالها ياسين بصوته المرح وهو يقترب ليجلس مكملاً الثلاثي, فابتسم محمد مرحباً به, وقال أحمد لائماً :- أخيراً انتهيت! لن تتوقف حتى تعوض, لا فائدة منكَ!
- ماذا تفعل بشخص يرهبه الفشل؟ .. قالها ياسين ضاحكاً, ثم أكمل ليغير دفة الحوار وقال :- أخبراني إذاً, مَن يفكر بِمَن؟
نظر محمد لأحمد الذي تنهد, ثم شرد بناظريه بعيداً عنهما, فنظر أحدهما للآخر في استفهامٍ قطعه أحمد وقال :- كنت أسأله عن كيفية التخلص من تفكيركَ بشخصٍ ما..
أعيدتْ النظرات المستفهمة مرة أخرى, قبل أن يسأل ياسين :- تفكر في عمار مثلا؟
- لا, أفكر في شخص حي يرزق يتواجد أمامي في كل لحظة, أقابله في كل خطوة..
- اذهب إليه في الحال, وسينتهي تفكيرك به, اطمئن عليه.. قالها ياسين بسرعة, فضحك محمد وقال :- ليس بالضروري أن يفكر الناس جميعهم بمثل تفكيرك!
- أتعتقد ذلك؟ .. سأل ياسين, فأجاب محمد: بالتأكيد, ثم وجه حديثه لأحمد وقال :
- ولكنني أتفق مع ياسين على كل حال, تحدث إلى الشخص الذي يشغلك, قد يكون رجلاً تتمنى صداقته مثلاً!.. قالها وهو يعرف أنها امرأة..
- مستحيل, إنها امرأة .. قالها أحمد منزعجاً.. فسمع صوتاً بترددين مختلفين ينطق بنفس الكلمة :- تزوجها إذاً..
نظر محمد إلى ياسين, كما فعل الثاني وضحكا, بينما صعق أحمد وتراجع بمقعده للخلف وكاد أن يقع على ظهره لولا يديهما التي امتدت إليه تثبته, وكتما ضحكهما, منتبهين للألم الذي ارتسم على وجه ثالثهم, فسأل ياسين بحكمة :
- ما مشكلتك يا أحمد؟ لم تتعود الحديث إلينا صحيح, ولكن لتحاول مرة, إن لم نستطع المساعدة سنسكت..
زم شفتيه, ونطقت خلاياه بأنواع الألم, وكأن شريط حياته يُستعرض أمامه, طفولته وتعلقه بجدته لأمه التي ماتت قبل ولادة رحيق, صباه وشبابه وعلاقته بأبيه وأمه, ثم أخويه, تحمله لمسئولية ليس أهلاً لها, تجنب مالك له بغير ذنب, تعلق رحيق برقبته كأنه أبوها, دراسته وعمله, وفوق كلهم عمار؛ موته وتشرده من بعده, غربته وسجنه, عودته لأهله وشروده عنهم, ورؤية ...
وقف معتذراً ثم قال :- أستأذنكما! آسف للإزعاج..
قبض ياسين على يده وقال :- اجلس, لا تؤخذ الدنيا هكذا..
أغمض عينيه على شوكٍ فيهما, وبقي واقفاً يشد ياسين على يده, ولكنه في النهاية لم يستطع إلا الجلوس, احتوته عينا محمد, وحثه ياسين على الحديث فلم يقل إلا النذر اليسير مما يحمل, أخبرهم عن تفكيره في امرأة, معاناته في الأمر, وعم الصمت, يريان أن الأمر بسيط, هو لا يعرف مشاعره فقط, سأل محمد مستهجناً :
- وكيف تشعر عندما تفكر فيها؟
- أنزعج, وأشعر بالاختناق!.. قالها بغضب فحملقا فيه, ثم سأل ياسين متشككاً :- أمتأكد من ذلك؟ .. ونظر لعينيه يبحث عن إجابة فيها فزاغتا عنه, وقلق بؤبؤيهما, فانفلتت منه ضحكة ثم سأل :- هل تفكر في الزواج يا أحمد؟
- لا..
- لو تزوجت يوماً, هل يمكنك التفكير في هذه المرأة كزوجة لك؟
سكت وضم شفتيه, وانعقد حاجباه, وضاقت عيناه بتردد واضح, ثم هتف :- لا أعتقد ذلك!
- إذاً, اشغل نفسكَ بشئ آخر, ابتعد عن أماكن تواجدها, اهلك نفسكَ في العمل يا أحمد.. قالها ياسين بلؤم, وتتبعت عيناه تعبيرات وجهه, وابتسم محمد مراقباً, ثم قال :
- إن طلبت نصيحتي يا أحمد, فابحث عن سكنٍ ترسو روحك على شاطئه, اتخذ رفيقاً, وإن عزفتَ عن الزواج فلا بأس, ولكن من يعلم, فقد تكون سكنك زوجة!
انتهى اللقاء الذي زاده هماً فوق همه, رجلٌ في الأربعين من عمره, ولا يعرف ماهية مشاعره, يا لبؤسه!
ولكنه ملزمٌ بالذهاب مع مالك إلى تدريباته العلاجية, يتركه في الغرفة التي يعالج فيها, ويجوب في المشفى بلا هدى, حتى يجدها, يسترق نظراتٍ إليها, ثم تلومه نفسه فيعود عازماً ألا يفعل, ولكن المرة القادمة لا تأتيه إلا فاعلاً!
يراقب أخيه الذي تعلو همته يوماً بعد يوم محارباً يأسه وبؤسه, يهلك نفسه في علاج قدميه حتى تخور قواه, ويعود ليلقي بجسده على فراشه ويدخل في نوم عميق تحتار بنان في سببه... يحسب الأيام التي تمر, يجب أن يسير على قدميه قبل مرور هذا الشهر, وإن لم يحدث سيموت قهراً على زوجةٍ جنبها كل معاناته وألمه بلا حصاد ناتج..
تراقبه بنان في صمتٍ مطبق, تشعر به وتعجز عن فعل شئ له, في الأسبوع الأول من الشهر انعدم الحديث بينهما, ولكنه لم يشأ أن يكرر خطأه معها, ففتح الأحاديث والحوارات, ورفق بقلبها وقلبه, بينما في المشفى يزأر ويجأر, يغرق في عرقه, وتتيبس يداه من فرط إجهادهما, وتتقطع أنفاسه اللاهثة, ويرتعد قلبه, ويؤلمه جسده..
وتعجز بنان عن سؤاله, لماذا لم يمشِ إلى الآن؟ لماذا طال عجزه؟ هو نفسه لا يدري السبب, ولكنه يستميت في المحاولة متشبثاً بخيط الأمل ..
في أسبوعٍ ثالث, يسيطر على أحمد شعور بالعجز والإرهاق, مجهودٌ مضني يبذله في قطع أفكاره التي لا تنتهي, حتى اتخذ قراره أخيراً, ليفعل ما يريد غير مجبرٍ ولو لمرة واحدة في حياته.. في الحقيقة لم يكن ينوي تتبعها أبداً, ولكنه قدره, خرجت من بيتها واتجهت للمتجر المقابل فدخل بعدها, أخذ يدور في المكان حتى لا تراه منتظراً خروجها, وفي هذه اللحظة كان مطمئن البال مرتاحاً. تبحث عن أشياءٍ تريدها وتتحدث في الهاتف إلى عمر ضاحكة تلقي تعليقات ساخرة له ولزوجته, وأطالت في الشراء وأكثرت فيه, ولم تتوقف عن الحديث, حتى ذهبت لقسم ملابس الأطفال أثناء حديثها إلى أبيها وقالت :
- سأشتري شيئاً لابنكما, أتعرف لم أكن لأحب زوجتك هذه قبل أن أعرف بحملها, ستصبح أماً لأخي إذاً وعليَّ تحملها.. ثم دخلت في نوبة ضحك وهي تواصل :
- لا تغضب هكذا, أخبرها أنني سأحبها, وسأهتم بابنها أيضاً.. سأغلق الآن, حتى أدفع الفاتورة..
انتهت فظهر أحمد أمامها على حين غرة منها, كأنما رماه قدرها عليها, أربكها حضوره المفاجئ, وشعرت بالخجل يغزوها, فهو الآن فهم سبب تطفلها عليه ومحاولتها لمساعدته, ومن قبل تقربها لعائلته, عرف أنها ترد إليه جميلاً فعله لها.. لم يعرف أنها ترفض وجوده المقدر عليها, نعم إنه قدرها أن تلاقيه وترفض هي ذلك..
رفع يساره لرأسه يحكها, ثم قال بثبات :
- أهلاً دكتورة رؤية! جئتُ لشراء ألعاب لسيف ومريم!
- لم أسألك!.. ردت مبتسمة فأصابته بحرجٍ غطاه بقوله :- أردتُ مساعدتكِ في الأمر, أنا أعلم خيركِ يفيض على من حولكِ!.. وكأنه رد الكرَّة إليها وأحرجها كما فعلت.. ولتحافظ على ثباتها قالت :- على الرحب!
تنفست بعمق, واختارت له ما أراد, ثم زادت على حاجته لعبتين قدمتهما له قائلة :- وهذه مني لهما..
وكأنها فرصة جاءت إليه ساعية فقال بسرعة :- سيأتيان لزيارتكِ, هل تسمحين بذلك؟
- ماذا؟
- لكي تعطينهما هديتكِ بنفسكِ, أم أنكِ رافضة للزيارة؟
أشارت برأسها أن لا وقالت بسرعة :- بالطبع لا أرفض, ننتظركم في أي وقت, تحدث إلى عمر وعرفه بالزيارة, أستأذنك!
ثم تركته بسرعة هاربة, وأصابته بشعور لم يجربه من قبل, التمعت عيناه وطاب قلبه بعد عناء طال..
وفي زيارته لأبيها اختفت عن الظهور بعدما اختطفت الطفلين منه, جلس مع أبيها يتحدث في أمور عامة, قبل أن تواتيه الجرأة التي لن تتكرر وهو يطلب منه أن يزوجه إياها, بشائر الفرحة التي ظهرت على وجهه زادته خوفاً؛ فهو يعلم اختلافهما الدائم, لم يستطع أن يطيل الجلوس بعد ذلك ورحل بالطفلين, يصيبه وجل مما تفوه به ونطق, وها هو قرر الزواج إذ فجأة بسببها..
حاول في هذا الأسبوع ألا يراها مطلقاً, حاول أن يلغي تفكيره الذي يخنقه, وأن يجد أسباباً منطقية لطلبه, لماذا يريد الزواج بها؟ ولماذا هي فقط؟ ما الذي يميزها؟ تمردها؟ جنونها؟ مأساتها التي تشبهه؟ أم شعوره بأنها السكن ذاك؟
لم يخبر أحداً بفعلته, وذهب لزيارة أخته كما اعتاد, جلس مع ياسين يتحدثان في أمور العمل بينما جلست هي تتوسط ابنيها تساعدهما في دراستهما, منشغلٌ عقلها بما يفعلان حتى سمعت ذكر اسمها فانتبهت لأخيها وزوجها..
سأل أحمد فجأة :- ياسين.. لماذا تزوجت رحيق؟ لماذا اخترتها هي بالذات؟
ابتسم ياسين ونظر إلى رحيق مجيباً :
- لأنها هي!..لقد جئت هنا عازماً على تحقيق طموحي والاجتهاد في عملي, ناسياً أمر الزواج أو حتى الارتباط بأي فتاة, حتى رأيتها!.. انزعجت لأنها عرقلت طموحي وجعلتني أنشغل بها, لم يكن لها ذنب في ذلك, ولكنني أخرجت غيظي فيها.. وفي النهاية لم أستطع الهروب من قدري!
سأل أحمد :- من المؤكد أن بها شئ يميزها جعلك تغير تخطيطكَ؟
أجاب ياسين بإصرار:
- بالطبع! وهذه الميزة كانت هي! لأنها رحيق وفقط! ليس لأسبابٍ أخرى.. كالتائه في الدنيا يبحث عن مستقر وملتجأ حتى وجدها, فكانت هي الحياة!
لم تشأ أن تقاطع حديثهما, وتصنعت الانهماك مع طفليها, وقد أصاب وجهها سخونة, وفرح قلبها, ولم يمنعها ذلك من التفكير في حال أخيها, هو مرهق هذه الأيام, يشغله شئ لا تدريه..
لم يكن يعرف أحمد أن رفضها سيؤلمه بهذه الطريقة رغم أنه توقعه, ولم يستطع أن يمنع نفسه من السؤال وإعادة المحاولة, ذهب إليها فقد أصبح طريقها سهلاً, سألها عن السبب فلم تفصح عنه, وتحدثت بتهذيب غير معتاد, قتلت آخر أمل لديه, ثم قضت على ما تبقى له وهي ترحل من المدينة كلها..
قبل رحيلها ودعت والدها وعانقته وهي تقول :
- سأشتاق إليك عمر! أنا آسفة على سوء معاملتي لكَ! أعرف أنني كنت دائماً ابنة عاقة, سامحني!
شدد عناقه لها وقال :
- تعلمين أنني لم أغضب منكِ قط, ولكن فكري مرة أخرى قبل رحيلك, أو حتى ارحلي لمدينة أكثر أمناً!
ابتسمت وردت :
- لم أسعَ للسفر لشيكاغو, صدقني لم أعد أسعَ لمناطق خطرة بحثاً عن الموت, هذه المرة لم يكن لي دخل والله.. لن يصيبني سوى قدري لا تقلق!..
قدرها الذي قصدته هي من ترسمه وليس سواها, لماذا تنتظر القدر وما يفعله بها, أليس حرياً أن تقدم عليه بنفسها ولترى إذاً من سيبقى منهما..
ثم ابتعدت عنه, وقالت :
- سأشتاق إليكَ, وعندما تسنح الفرصة سآتي لزيارتك! اعتني بزوجتك جيداً..
وتعانقا مجدداً, لقد مر وقت طويل, طويل جداً لم يتعانقا فيه هكذا!.. ودعت زوجته, وقابلتها بوجهٍ باسم لم تعتده معها, وكأنها توثق في عقليهما أن رؤية لم تعد تلك الكريهة, أو لتبقى الذكرى الأخيرة بينهما جيدة!!
واتجهت حيث حياة جديدة لا تدري إلى أي اتجاهٍ ستئول سواء كان منها أو مجبرة عليه لقدرها, وتركت خطاباً لأحمد تخبره فيه بأسبابٍ لم تبدُ جيدة, ولم يقتنع بها..
وبقي أسبوع على انتهاء الشهر الذي سينتظره الجميع, يتابع مالك العمل في كل اتجاه, تحسين قدميه حتى تستطيع السير ببساطة, الانتهاء من طباعة كتاب بنان, وتحضيره لكم المفاجآت التي أعدها لها, لم يجد بداً من فعل ذلك, لقد شيبها وأطفأ حيويتها معه, إما أن يستعيد رونقها بأفضل مما كان وإلا يكون قد خسرها.. يعزز التواصل معها بأحسن من ذي قبل, ولكنه يخفي عنها معاناته, وتحسن حالته, يريد فرحتها كاملة غير منقوصة برؤيتها له يتألم, أو يجاهد نفسه ليقدر..
يتابع أحمد علاجه, فهو الوحيد العالم بأمره, لم يكتفِ أحدهما بقدرته على الوقوف دون مساعديه, رغم فرحتهما التي نشرت البهجة بالمحيطين بهما في المشفى, وتابعا العلاج حتى فعلها أخيراً, وسار على قدميه, حينها لم يشغلا عقليهما بسبب تأخره في الحركة الطبيعية, ولم يتبقَّ سوى يومين على حفل بنان, كتما فرحتهما ولم يظهراها لأحد, يريد أن تكون بنان الأولى, أن تراه وهو يتقدم نحوها متخلياً عن عكازيه, ولم يستطع أحمد رغم ما يحمل إلا التبسم في وجهه كلما رآه, سعيد لأجله ولأجل فرحته التي عادت..
وذهب أحمد لرؤية قبل اليوم الأخير في الشهر, بعدما عرف عنوانها من أبيها, سافر إليها, وعندما وصل هاله المكان الذي تعمل به, ألا يكفي شيكاغو سوءاً لتختار أكثر أحيائها خطراً, متمردة كما عرفها ولم تتغير كما ظن, بحث عنها في المشفى وسأل عنها حتى دلوه على مكتبها, ذهب نحوه, طرق ودخل بعد سماعه لصوتها الذي حرك ركوده الكامن في داخله, رفعت نظرها للطارق, رأته فأفصح وجهها عن ابتسامة واسعة, ثم وقفت مرحبة بقدومه, وسمحت له بالجلوس فجلس, وقد أصابته ابتسامتها في مقتل فغض الطرف عنها لئلا يلقى حتفه, لم يتحدث مباشرة وأحكم الصمت عليهما, ووقف الكلام في حلقه, ولم تستحث قوله إذ تعرف سبب مجيئه, ولكنه خلف توقعاتها وهو يقول :
- هل ستأتي لحفل بنان غداً؟
- لا أستطيع التأخر عنها!
دارت عيناه في الغرفة بغير هدف وهو يقول :- ألم تجدي سوى هذا الحي؟
- لم يكن باختياري, ثم أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا..
ها هي تتحدث كالمؤمنين بالقدر, وبين عشية وضحاها ينقلب حالها وتقول أنها لا تؤمن به, وتقف متحدية, إلى متى ستبقى هكذا؟ بين الثبوت والتردد يتأرجح حالها؟ تكاد تجن من نفسها وأفكارها..
- ولكنكِ تبحثين عن الموت أينما وجد تذهبين إليه, فتأتي إلى حي يكفي تجار المخدرات الذين يعيشون فيه والمجرمين, و..
قاطعته بابتسامة قضت على صوته الموجع :
- كنتُ كذلك, ولكنني لم أعد أفعل!
إنهما الغريبان على الإطلاق, هو لا يعرف كيف تحول حديثه إليها على هذا النحو, لماذا يتحدث إليها بعد تجاهلٍ دام طويلاً تحدثه وتثير فيه غضباً لم يحركه؟ وهي لا تعرف ما سر ابتسامتها التي تحدثه بها, هل إثباتاً آخر بأنها تغير حالها, أم أنها غريبة مثله وقد تحولت بين ليلة وضحاها بالفعل؟ لماذا لا تثور عليه وتطرده من هنا وبهذه الطريقة تضمن عدم عودته؟ لماذا ادَّعتْ بأن أباها هو زوجها لسنوات؟ وها هي بمجرد أن انكشف سرها تقدم للزواج بها!
- لماذا رفضتِ؟ من حقي أن أعرف أسبابكِ الحقيقية على الأقل!
انتبهت على صوته فأجابت :- لقد تركتُ لكَ..
قاطعها :- لم تكن كافية, ولم تكن صادقة!
يبدو أنه لا مفر من الحوار, بدأ صوته يغضب, لا تريد مشاحنة هنا يشاهدها زملاؤها, وتصبح نقطة سوداء في ملفها, خاصة وإن سمحت له بالغضب فلن تسكت إزاء ذلك, بل سترفع صوتها وتقرعه وتعود رؤية القديمة التي تخفيها في أعماقها تحافظ على سكونها..
قالت بصوتٍ ساكن كسكون حالها, وهي تنظر لنقطة غير مرئية أمامها :
- لأنني امرأة على هامش الحياة, لم أعد أصلح لبداية جديدة, صدقني أنتَ لم يسبق لكَ الزواج فلماذا تربط نفسكَ بامرأة مثلي؟ أعرف أن في مجتمعكم لا تهمكم هذه المظاهر, ولكنني لم أقصد معني ظاهرياً, بل قصدتُ أنني امرأة مثقلة بالهموم حتى وإن تظاهرت بالتخلي عنها, فلم تفلح أسابيع في دفن عشر سنوات من عمري, لا أستطيع أن أقدم لكَ شيئاً تريده من امرأة, ليست لدي أي قدرة على تكوين أسرة, واستقرار, لا أستطيع البناء بأي حالٍ من الأحوال!
- ولكنني لا أريد امرأة كأي امرأة, أنا أريد رؤية! ثم أن تلك العشر سنواتٍ لم يضافوا إلى عمركِ بقدر ما انتقصوا منه, أنتِ مازلتِ صغيرة, مازلتِ تمتلكين عمركِ منذ عشرسنوات!
ارتجف نفسها الخارج منها, مع ارتجاف قلبها, لشد ما تكره أن يعبر أحدٌ عن حالتها, أو يتشدق بفهم ما تخفيه ويصدق, كما فعل هو الآن. قالت :
- على كل حال أنا أرفض الفكرة, لا أرفضكَ!.. أنا آسفة..
قد يجمعهما القدر كما اعتادا مرة أخرى, قد تجمعهما غرابتهما المشتركة, عشر سنواتٍ لاقى كلٌ منهما ما لاقى, لم ينضج عقلها بمرور السنوات, بل أصبح كما هو عند نفس النقطة كما قال, فتاة في الخامس والعشرين من عمرها, فقدت زوجها ثم ابنها, بينما زادته العشر سنوات عمراً يضاف إلى عمره, ليس رجلٌ أربعيني , ولكن كأنما في الخمسين من عمره, تثقلهما أحزانٌ لا طاقة لهما بها, لم يفرغها أحدهما, وكأنهما انتظرا لقاءهما حتى يفيض كلاهما بما يحمل, فيخف قلبه, وتطير روحه محلقة, وتنتهي آلامهما باجتماعٍ لم يخططا له..
وقف واتجه للباب ثم قال :- أعتذر على إزعاجكِ!.. إلى اللقاء!
وقفت تودعه بعينيها, وقد ظنت أنه خف حملها, ثم تهدج نفس خارج من أعماقها, وكأنها تزفر كل همها...
وجاء اليوم, أيقظ مالك صبحاً بنان, فنهضت تصيح :
- أنتَ مزعج هذه الأيام ماذا تريد؟
حافظ على التمسك بعكازيه لئلا ينسى, ثم اتجه إلى خزانة ملابسها وقال :
- تعالِ انظري!
نفضت فراشها بعنفٍ معترضة على أفعاله, واتجهت خلفه ثم قالت :
- ها أنا جئت! ماذا تريد؟
أخرج فستاناً معلقاً, ثم قال ناظراً لعينيها :
- ما رأيكِ؟
اتسعت عيناها انبهاراً ثم ضاقتا بسرعة وهي تقول :- جيد! لمن؟
بعثر شعرها قائلاً :
- لسيادتكِ أيتها الغبية!
أزالت يده برفق وقالت برجاء :- ستأتي معي؟
استعاد عصاه وابتعد وجلس, فتتبعته وجلست جواره ممسكة بيده, ناظرة لعينيه راجية فقال:
- صدقيني, كنتُ أتمنى! ولكن تعرفين أنني لدي موعدٌ لن أستطيع تأخيره؟
انتكس رأسها وقالت :
- وموعدك هذا أهم مني؟
- لا والله.. لم يشأ أن يخبرها ستفسد مخططاته كلها, وأيضاً لم يتحمل رؤية انكسارها فهمس :
- سأخبركِ سراً!
- لم تعد تخبرني بأسراركِ منذ فترة, واستغنيتَ عني!.. قالتها بلوم, فقبل رأسها معتذراً ثم ضمها لصدره قائلاً:
- أعدكِ من الليلة سيختفي كل غموضي, وأعدكِ أيضاً أنني سآتي للحفل إن شاء الله, ولكن سأتأخر عنكِ قليلاً..
- سأنتظركَ..
- لن أطيل..
ثم نظر لعينيها قائلاً:
- عودي للنومِ الآن, يومكِ طويل, والوقت مبكر الآن!
- لتوكَ انتبهت.. قالتها بغيظ, ثم اتجهت لمكتبها وأخرجت كتابها قائلة :
- هل قرأته؟
ابتسم وقال:- وفعلتُ أكثر من القراءة..
ثم وقف حتى لا تطلب تفسيراً لقوله, وخرج تاركاً إياها في حيرة من أفعاله..
عند الظهر, انتظرته رحيق مع ميرا وديانا في قاعة مغلقة استأجرنها, لإعداد ما طلب, كنَّ قد انتهين حين هتفت ميرا :
- عليَّ شكر مالك أن جمعنا في عمل واحد, مر زمن دون أن نفعل..
ابتسمت رحيق وهي تجلس مرهقة وقالت :- سأقتله على ما فعله ببنان..
ضحكت ديانا وهي تجاورها الجلوس وقالت :
- لن يتحمله غيرها..
أنهت ميرا آخر ما تبقى في التنظيم وجلست فقالت ديانا :
- هاتفي أخيكِ رحيق, لا أريد أن أتأخر على بنان اليوم!
سمعْنَ صياح مالك وهو يتحرك نحوهن بعكازيه الذيْن ضاق بهما ذرعا- ولكن يجب أن تكون بنان هي الأولى – تحرك نحوهن ليكمل صياحه :
- آسف جداً, ولكنها السبب في تأخيري, سنبدأ مباشرة, عليكن تحمل مخرج مبتدئ مثلي لم يكمل دراسته, وحين أتخرج سأكون فريقاً ضخماً وأضمكن إليه..
ثم سكتَ انبهاراً بما فعلنه وهو ينظر للجدران والصور المعلقة عليها, صور بنان وصوره معها, وزعت بشكل رائع, لاحت ابتسامات على وجوههن, وقامت ميرا تعد الإضاءة, بينما يشغل هو الفيلم الذي أعده, قالت ميرا وهي تنظر لهم :
- ما رأيكم؟
أومأ مالك موافقاً وشاكراً, ثم جلسن وجلس أمامهن يشاهدون العرض, وبعد ثانيتين هب فجأة وقال
لا ليس هذا ما سترينَّه, إنه لها فقط!!
واتجه يخرجه من موضعه بسرعة بين ابتسامتهن وضحك رحيق التي لحقته بقولها :
- أريد أن أراه..
أبعدها عنه قائلاً بابتسامة :
- بالطبع لا! وإن أصررتِ سأفسد عليكِ كل شئ..
كتمت غيظها وهي تعاود الجلوس جوار ديانا التي قالت :
- أصبحتِ فضولية أكثر من اللازم ..
وعرض مالك الفيلم الآخر الذي ساعداه في تصويره, جلس وقد حل صمتٌ غريب أطبق عليهن, وحبس الانبهار أنفسهن لآخر الفيلم, إنها صور فقط التقطنها لبنان في حالات مختلفة كما طلب, وبعض الأفلام التي صورنها, وأجاد هو استخدامها لصناعة فيلم كالذي يشاهدْنه الآن, حين انتهى هتف :
- بِرَبِّكُنَّ قلنَ الحق..
قاطعه صياح ميرا :
- يا إلهي لستَ بحاجة لإكمال دراستكَ يا مالك, أنتَ أحسنتَ, إنني أرى فيلماً لمخرج متمكن وليس مجرد هاوٍ لم يكمل دراسته..
في حين ابتسمت رحيق وهي ترد عليها :
- لولا أن بنان كانت تدرس جواره, وتعرفه بما تدرس لَما فعل, أليس كذلك مالك؟
ووقفت ديانا وقالت :
- هي تستحق أكثر من ذلك, أجدتَ يا مالك, ابذل ما في وسعكَ الليلة, وتقبل ردود أفعالها المزعجة, أنت تعرف زوجتك وتعرف لسانها, هيا بنا ..
وأشارت لميرا ورحيق اللتين قامتا معها, واتجهت رحيق نحو مالك قائلة :
- أنا فخورة بكَ جداً, بارك الله لكما! .. ثم انحنت تقبل رأسه وغادرت معهما..
وتركنه في القاعة الفسيحة مستمتع بما فعلنَ فيها, قاطعه صوت ديانا وهي تسأل :
- مالك! هل طبع الكتاب؟
استند ووقف وقال :
- نعم, ستصلكِ نسخة إلى بيتِكَ غداً إن شاء الله!
- حسناً سأنتظرها.. ثم أكملت سيرها..
انشغلن ببنان وتجهيزها, وإلهاء عقلها عن التفكير في مالك, أو الانشغال بغيابه عنها, حتى حان الموعد, ذهب جميعهم, لم تكن تعرف أن الفيلم الذي قدمته سينال جائزة, وحين علمت زفت البشرى لمالك, وتمنت أن يأتي معها, يراها وهي تتسلم التكريم يوم تخرجها, ولكنه لم يفعل, سمعت اسمها ينادى, فاتجهت نحو بقعة الضوء بعد أن تلفتت حولها تبحث عنه, شعرت بأسفٍ على حالها, ولم تعرف التبسم حتى, وشرد ذهنها في أين يكون؟..
ولم تنتبه سوى لصمتٍ عم المكان, نظرت للحضور لتجد أنظارهم كلهم في اتجاهٍ واحد, نظرت إليه, كان هو, ببطء حدقت فيه, سلطت بصرها على وجهه لتتأكد من كونه هو وليست هلاوس بصرية, يتقدم نحوها بثباتٍ سائراً على قدميه, بلا شئ يستند عليه, بلا عرج, أو عكازين, بلا وجع يرتسم على وجهه, صدمتها كانت كافية لخرسها, كافية لانتفاض قلبها, متى فعل كل ذلك؟ وهي تشاركه غرفة واحدة, لا تعلم! أقرب إليه من أنفاسه كما يزعم ولا يخبرها, هل خبأ لها ذلك ليفاجئها اليوم؟ هل تحمل كل الألم وحيداً؟ ..
وقف أمامها, وسكتت أصوات الحضور في عقلها, وخلا المكان إلا منهما, لم تعد تسمع أو ترى غيره, وكأن مجال بصرها انحصر فيه, واتخذه مركزه, احتوتها عيناه, واستبشر وجهه, فقالت :- فعلتَها إذاً!
- لم أفعلها لسواكِ! ولم أخبر أحداً قبلكِ!
هناك أناسٌ يشاهدون ولم يشعرا بهما, هناك عيونٌ مراقبة وقلوب هائمة, وعقول تعي, لم يلتفتا, وكأنهما لم يكونا معاً في الصباح, ولم يتحدثا كثيراً طوال الأيام الماضية, كأنها لحظة الصمت, جذب ذراعها بسرعة, وسار خارجاً عن هذا الجمع الذين يسلطون أنظارهم عليهما, ولم يُعِرْهم اهتماماً..
في الخارج أوقفته قائلة :- لا أصدق!
فالتفت لها وقال:- هل أحملكِ وأجري الآن؟
- افعلها!
ضحك وهو يحيطها بذراعيه معانقاً, فأحاطتْ ظهره بذراعيها غير مصدقة كما قالت, إنه يتحرك بلا ألم, ويبتسم بلا تصنع, ويتحدث دون تحفظ, ولكن صوته أخرجها من حالتها قائلاً :
- بنان! أرجوكِ! كفي عن اندهاشكِ الآن! مازالت ليلتنا طويلة!
ابتعدت وأومأت مستجيبة, فأحاطها بذراعه وسارا متجاورين, ثم اتخذا سيارة وكان هو سائقها, لم تكف طوال الطريق عن مراقبته, حتى هتفت فجأة :
- مالك أنتَ جميل جداً اليوم!
ارتفعت ضحكاته ثم قال هائماً في عينيها :
- لم أرَ أجملَ منكِ..
وعاد ينظر للطريق ثم التقط يدها لتعانق يده, وأكملا طريقهما في سماع صمتهما, حتى وصلا للقاعة المعدة لها.. دخل مغمضاً عينيها, وسار بها وضبط الإضاءة كما علمته ميرا, ثم قال :
- الآن انظري ..
ببطءٍ فتحت عينيها سامحة للضوء بالنفاذ إليهما, وجال بصرها في المكان تنظر لصورهما, وذكرياتهما معاً, هنا بسمتها, وهنا بكاءها, على صدره هنا, وتجافيه هناك, عروسين يحتفلان, مريض ومرافقته, تائهة وراشدها, رجل وصديقه, أنثى ورجلها, تضحك, تضربه, يشتمها, يبعثر شعرها, تنزعج, تهذبه, تنظر لطوله, ينظر لقصرها..
نظرت إليه بعينٍ لامعة, فابتسم قائلاً :
- لم ننتهِ بعد..
شغل العرض, وجلسا يشاهدان, هذا الفيلم الذي منعهن رؤيته, هو بطله, لا يجيد التمثيل, ولكنه فعل لأجلها, واقفٌ فيه يعرفها بنفسه, يرجوها أن تسامحه, يقول حديثاً غير مرتباً ثم يعتذر عنه, يختفي عن الشاشة, وفي مشهدٍ آخر يكون, يجلس على طاولته, لا تظهر سوى يده, يرسم, مر زمان لم يفعلها, تتابع تحركات يده, ماذا يرسم؟ بدأت الصورة تتضح, نعم إنها هي, مازالت تحتفظ بتلك الصورة التي رسمها لها من قبل في المشفى, وهاهي واحدة أخرى, أتبعها بثالثة ثم رابعة, تعبيرات وجهها مختلفة في كل مرة, تعبس وتتبسم, بحجابها ومن غيره, تتابع كل ذلك وهو جالسٌ جوارها, تشاهد الشاشة وهو ينظر لعينيها يرى رأيها فيهما.. تشد على يده منفعله, فيطمئن يدها ساكناً, ينتهي الفيلم, تنظر إليه, لا يسمح لها بالنطق, يشغل الآخر, ذلك المملوء بصورها المختارة بعناية, مرتبة بدقة منذ دخلت بيتهم مسترجلة حتى هذه الأيام.. تتابع بمزيجٍ من الدهشة والسعادة, تشد على يده أكثر, ويرفق بها أكثر, ينتهي الفيلم, تزداد الإضاءة توهجاً, فيضئ وجهه مرة ثانية, تلتفت إليه, تحيطها عيناه, تقول لاهثة :
- أفعلتَ ذلكَ لأجلي؟
- تستحقين ما هو أكثر! كنت أسخف رجلٍ في العالم..
يطول المقام بهما, يتحدثان كتيراً, في جانب القاعة طعام معد لهما, جلسة ملكية تليق بهما, بزيها الذي اختاره وزيه المختار بعناية, تشعر أنها ملكة ولا تمنع نفسها من ذلك, لا يعودان للمنزل هذه الليلة, يسافران لسكنٍ هادئ, هناكَ يفاجئها بكتابها, وضعه أمامها وقال :
- هذا الشئ الأخير, أتمنى ألا أخذلكِ فيه!
تناولته, قلبت فيه, قرأت " إهداء / إلى سكني ووطني في هذا العالم .. إلى مالك "
رفعت نظرها إليه وقالت :
- إنه إهدائي, من الذي وضعه على كتابٍ آخر؟
انضم حاجباه, ثم رفع أحدهما وصاح :
- أيتها الحمقاء, إنه كتابكِ أنتِ ولم يزد أحدهم حرفاً عليه..
قالت :- ولكن من راجعه؟
- كما أردتِ, ديانا ومحمد وأحمد..
- وأنتَ؟ .. سألتْ, فأجابها :
- أنا قارئ أقل من العادي, ثم يكفيني هذا الإهداء شرفاً!
- واخترتَ اسمه كما وعدتني أيضاً, أنتَ رائع..
قالتها وهي تنظر للغلاف, ولاسم الكتاب عليه " وَإليكَ أسعى " .. ثم تركته جانباً واقتربت منه أحاطت عنقه بذراعيها وعانقته بشدة, كأنه مسافر وطال غيابه, هو بالفعل كذلك, اليوم فقط تشهد أن مالكاً قد عاد..
بمجرد اختفائهما من الحفل, خرجت رؤية, تتبعها أحمد الذي لمحها, يعرف أن اليوم سيكون حديثه الأخير معها, نادى :
- رؤية!
التفتت إليه, فلمحها طرفه قبل أن يغضه, لو تعلم كم يقاوم ليفعل ذلك, نظرته إليها لم تعد طبيعية, لم تعد بلا سبب, نظرة واحدة تجعله يلتقط تفاصيلها كلها, نظرته هذه تعد من أكبر الكبائر, لم تعد نظرة عابرة أبداً لا تحمل أي شئ, بل تحمل كل شئ ..
اقتربت منه خطوتين وسألت :
- لماذا تغض طرفكَ عني دائماً, أنتَ الآن تريد الزواج بي..
تنهد ناظراً للأرض, هل تسأله عن نقطة ضعفه الآن؟..
قال :
- لستُ بحاجة لإطالة النظر,قال أحدهم ذات يومٍ ..
إذا نَظَرَتْ نَحْوِي تَكَلَّـمَ طَرْفُهَا *** وجَاوَبَها طَرْفِي ونَحْنُ سُكُوتُ
غضت طرفها سريعاً, دائماً يتحدث بلسانها, وقالت بابتسامة اصطنعتها :
- مجنون ليلى..
- ليس غريباً عني..
ازدردت لعابها ثم استدارت لتبتعد قائلة :
- إلى اللقاء, لدي سفر غداً..
- اعتني بنفسكِ جيداً, لا توجعي قلب أبيكِ, إنه قلق دائماً بسببك!..
أوقفها صوته, فرددت وهي تبتعد :- إن شاء الله!
- رؤية!.. نادى ثانية بصوتٍ أقوى أرعدها, فوقفت بوجل, قال :
- هل يمكنكِ تغيير تلك المشفى, لا تعودي إلى هنا إن كان يزعجكِ وجودي, ولكن انتقلي إلى مكانٍ أكثر أمناً!
شدت على حقيبتها وقالت:- سأحاول فعل ذلك..
- عديني بالفعل!
تنهدت ثم التفتت بقوة وقالت :
- لا تعرف كيف أحبس لساني, وكيف أتحكم فيه, فلا تضطرني لإطلاق عقاله, ماذا دهاكَ؟ أصبحت تتحدث إلى امرأة غريبة عنكَ هكذا بكل سهولة؟ كنت أرى أنكَ أتقاهم وأحسنهم خلقاً, الآن تعترض طريق امرأة..
ثم شعرت أنها قست عليه, وسمحت لرؤية الرابضة بداخلها بالنهوض, فقالت برفق :
- لو كنا في زمنٍ آخر, في مكانٍ آخر, لو لم أكن امرأة تفقد كل من يقترب منها لوافقتُ على طلبكَ, ولكن أمكَ وعائلتكَ تحتاج إليكَ..
وأكملت طريقها, خطوتين قبل أن يقول بقوة تُخضع قوتها :
- مازلتِ تعترضين على القدرِ رؤية, مازلتِ تتطيرين!
أجابت بوجع :
- أحاول ألا أفعل, ولكنني لا ألبث أن أقع في ذلك!.. ابتعد عن امرأة مثلي..
وواصلت المسير, مبتعدة لأقصى نقطة تستطيعها, تلملم وجعاً فتحه وصعب التئامه مجدداً..
مع أول خيوط النهار رحلت..
ونهضت بنان من نومها, لم تنم في ليلتها, عادة ألفتها تنهاها سعادتها عن النوم, نظرتْ إلى مالك, إلى وجهه الهادئ, ثم وضعتْ رأسها على صدره ثانية, وأحاطت جزعه بذراعيها تتملكه, تتأكد أن كل ما حدث حقيقة ثابتة, مالك يتحرك, انتهت المعاناة ولم تشهد آخرها, رفعت نظرها إليه, ووضعت سبابتها على عينه, ثم حركتها على حاجبه, واعتدلت جالسة فجأة, هزت كتفه بعنف وقالت :
- مالك.. انهض بسرعة.. مالك .. مالك .. ضربت كتفه كثيراً, وحركته ليصحو وما فعل..
ثم تذمرت قائلة :
- عدتَ لنومِ البطريق مرة أخرى..
فتح عينيه ببطء وصعوبة ثم قال :
- وهل تعرفين كيف ينام البطريق!
ابتسمت وقالت :- لا .. ولكنكَ تشبهه..
- كم الساعة؟.. سأل, فأجابت :- لم يمر الكثير على الفجر, إنها ساعة واحدة..
- ظالمة! لم أنم سوى هذه الساعة..
نفضت غطاءهما ثم وقفت فوق رأسه قائلة :
- انهض حالاً..
- لماذا؟
- جائعة, أريد طعاماً!
ثم شدت يده قائلة :- هيا.. الآن!
تريد أكثر من دليلٍ للحقيقة الواقعة, راقبته وهو ينهض ثم يتحرك أمامها, تنظر إلى قدميه كما تفعل منذ ليلة أمس, تلتصق به وهو يسير كأنها تخاف أن يتألم فتلحقه, أنهى إثباته لها, ثم استعدا للذهاب لأمه ورحيق, فأمه لم تشبع عينيها بعد برؤيته معافىً, وكذلك رحيق..
لم يعاتباه, ولم يلوماه, شاركهما فرحتهما, وعاد بامرأته ثانيةً لذلك المكان النائي عن العالم, في عزلة عن الدنيا...
مرت الأشهر, ووضعتْ رحيق ثم ديانا.. اختلف الأمر كل الاختلاف بينهما, فشتان بمن تزيد القصيدة بيتاً, وبمن تبدأ بناءها لتوها..
رزقت رحيق بتسنيم, بهجة أضيفت لحياتهم وفرحة, ووضعت ديانا بعدها ..
نحن نخاف بشدة, نتخذ برهاناً وآية من كل شئ حولنا, رحيق ولدت قبلها, أمر طبيعي, ولكنه نفس ما حدث في السابق, رحيق وضعت فتاة, علامة أخرى, هي شعرت بتعبٍ مضاعف في الشهر الأخير, أمر طبيعي لأي امرأة في وضعها, ولكنه نفس ما حدث مسبقاً, الأحداث نفسها تتكرر بصورة مخيفة, حتى اليوم الذي وضعت فيه, فاجأها الألم, وفر بها آدم إلى المشفى, غابت عنه, ولكن فجأة صرخت تناديه, فدخل معها, الأمر يخيفه هو الآخر, تجربتهما السابقة كانت كأقسى ما يكون, لماذا نادته؟ ألا تعرف كم هو ضعيف أمام ألمها؟ ألا تعرف أنه يستمد قوته منها وليس العكس, كانت تشد على يده فيمسح على رأسها, يقبل يدها تارة, ورأسها تارة, وكأنه يهرب من عينيها المتألمتين..
رأفة بحالهما لم يطل الأمر, بل انتهى بأسرع ما يكون, ولم يصدق عينيه وهو يرى ابنته حية أمامه, حملها على ذراعه, وضمها لصدره برفق خشية أذيتها, سمَّى وكبر, ثم انحنى يريها لزوجته التي فاضت عيناها بفرحتها.. لم يطُل الألم, ولم يستمر كثيراً, انتهى كل شئ بسرعة, وكأن الفرحة استعجلت الدخول لحياتهما بدخول عائشة ..
طوال هذه الشهور لم يراها أحمد, ولم يعرف أخبارها, ظن المسكين أنه سينسى ومازاده البعد إلا اشتياقاً, قبل أن ترحل سلبت روحه منه, فكيف يردها إليه؟.. ثم عادت ولم يراها, فلم تخرج من بيتها..
وفي نومه جاءت, استنجدت به, رجته أن ينقذها, كانت ضعيفة ضائعة, تشتت حاله, وارتعد قلبه, وأصابت رجفة جسده, ذهب إليها, لم يتأخرْ, أقسم أنه لم يتأخر! هي التي تأخرت في طلبه, تأخرت كثيراً..
أمام بيتها وقف, ينظر للإسعاف الذي يحملها, لم يفهم شيئاً, رأى أباها فذهب نحوه بلهفة مرعبة, قال له :
- لقد فعلتها, انتحرت رؤية..
لماذا سعيتِ إلى موتكِ رؤية؟ هل هان عليكِ أحمد المسكين إلى هذا الحد؟... هل ستنتصرين على قدركِ هكذا؟...








لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-15, 12:33 PM   #44

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




42- البداية



مع خيوط الفجر الأولى, عاد مالك من الصلاة وحيداً, تساءل أين يكون أحمد؟ عرج عليه قبل خروجه وجد حجرته فارغة, وعند عودته صعد لغرفته مباشرة بعد اطمئنانه على أمه, ومازالت حيرته نحو أحمد متواجدة, فحتى هاتفه لا يجيبه..
وجد بنان جالسة في مصلاها تنتظره, جلس عندها, واقتربت منه تسكن على صدره دون حديث. أكمل كل منهما أذكاره, وسرت سكينة في الجو لفتهما, وانحدر سيل من الاطمئنان عليهما, وحين انتهت تناولت مصحفها وقالت :
- ما الذي يشغلك؟
ضمها إليه وكأنه يطمئن نفسه بها ثم قال :
- لم أجد أحمد في غرفته, ولم يكن معي في الصلاة.
- قد يكون ذهب للشركة مثلاً بعد سهره في مكانٍ ما وصلى هناك.. قالتها مطمئنة, فابتسم وهو يسحبُ بعضاً من هواء الغرفة المفعم بالهدوء, ثم قال متردداً :- أمي قلقة عليه هي الأخرى!
ربتت وجنته برقة وهي تقول :
- أنتَ تعرف أخاكَ, يتصرف كأنه يعيش وحيداً في بعض الأحيان, قد يكون ذهب إلى أي مكانٍ لعملٍ ما وسيعود إن شاء الله لا محالة, ليست المرة الأولى التي يفعل بها ذلك.
أومأ موافقاً على حديثها, فقالت:- اليوم العنكبوت..
ابتسم وقال :- لتبدئي!
ابتعدت عنه, وجلسا متقابلين, تناول مصحفه وفتحه على السورة المقصودة, بدأت في القراءة, وهي تهتز للأمام والخلف بحركاتٍ متواترة, كأن ذرات الهواء امتزجت بصوتها فأصبحوا وحدة واحدة, خشع الجماد وترنم نسيم الفجر, ورتلت, وترنم صوتها, حتى وصلت لهذه الآية

(( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))
وقفت ها هنا, ولم ترفع ناظريها عن الكتاب الذي تحمله, نظر إليها منتظراً حديثها, كانت كمن يجاهد صوته, ويكظم تنفسه المتهدج, لم يستحثها, وسكت آملاً في تحرير كلماتها من معتقلها, فقالت بعد سكوتٍ طال :
- لقد سامحتهما! لم أخبركَ من قبل, أو لم أستطع أن أفعل ذلك بسهولة, ولكن على كل حال أنا الآن سامحتهما...
فهم أنها تشير لوالديها, فلم يحرِ جواباً على ما قالت, كان ينتظر ذلك منها طويلاً, تناول كفها في كفه, وشد عليها مؤازراً, ثم همس:
- لا يسامح إلا القوي, وأنتِ قوية بما يكفي لتنسي ما فعلاه فيكِ وتسامحينهما..
أومأت مصدقة على حديثه, ثم أكملت قراءتها, وأكمل استماعه لها..
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ))
- يارب .. يارب اجعلنا منهم .. وأكملتْ :

((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ))

توقفت ونظرت إليه فقال :- كنتُ هكذا, أليس كذلك؟
ابتسمت وقالت :
- ولكنك لم تترك الدين.. ثم أردفت :- أولئك قوم من المنافقين ادعوا الإيمان, وفي أول فتنة تركوه, ثم عند أول نصر زعموا أنهم مؤمنون مرة أخرى, عافانا الله من النفاق, وأبعدنا عن هذه الصفة.. أكمل أنت..
أكمل بصوتٍ رخيم :

((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ))

أوقفته بإشارة من يدها وقالت :
- كنت أعبد أوثان فكري من قبل, وكنت أكابر وأعاند لأجلها, لم أكن أفهم أن الأوثان ليست مجرد تماثيل حجرية مصنوعة بأيدينا, فقد تكون تماثيل في عقولنا من صنعنا أيضاً, نعبدها من دون الله وننحني لها, أحياناً ننسى أن مرجعنا إلى الله.. قالتها بشرود ثم همست :- أكمل..
شد على يدها وأكمل ..

((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))

تأمل كل منهما القول الحق, تأملت الإعجاز الذي تاهت عن معرفته لسنوات, بدء الخلق كيف يكون؟ تدبر آياته في الأرض! رحمته بها, الولي والنصير لها, ويتأمل هو قوله (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .. هل يئس وكفر بلقائه وآياته, هل فعلها حقا؟ هو الآن تائب عن كل ما فعل, تائب عن يأسه وعجزه, وقنوطه من رحمة الله..
ثم أخذت الآيات تنتقل بهما لحكايات أنبياء ورسل مع أقوامهم, معاناتهم, ابتلاءاتهم, صبرهم.. العذاب المنزل على قومٍ عصوا وعاثوا في الأرض فساداً, تجبروا وأفسدوا, ظلموا وتكبروا ..


((مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ))

توقف فقالت :
- كنت أحسب الوهن في ضعف البناء الشكلي لبيت العنكبوت, وشغلني الأمر كثيراً, فالمعنى لم يتفق مع ما فهمت, فهم اتخذوا من دون الله أولياء, يعني تغيرت قلوبهم, فكيف يشبههم الله بضعف شكلي, حتى فهمت كيف تكون بيوت العنكبوت أوهن البيوت..
سأل مستفهماً :- كيف؟
فقالت :
- البيت واهنٌ من القلب كما فهمت تماماً, بيت العنكبوت أوهن البيوت لأن أنثى العنكبوت تقتل ذكرها بعد أن يلقحها وتأكله، والأبناء يأكلون بعضهم بعضاً بعد الخروج من البيض، ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها.
وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً ومقتلاً لكل حشرة صغيرة تفكر أن تقترب منه وكل من يدخل البيت من زوار وضيوف يقتل.
لذلك كان التشبيه, إن من يتخذ من دون الله أولياء, أو يطيع من يفعل ذلك فإنه يقع في بيت واهن, سيكون فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة.. البيت ضعيف من القلب .. هل فهمت؟
ابتسم وهز رأسه فاهماً, ثم وقف على ركبتيه فرفعت رأسها إليه مستفهمة ورفعت حاجبها استنكاراً, فانحنى يقبل رأسها وقال :
- سلمتْ رأسكِ وبوركتْ ..
ضحكت وهي تدفعه ليجلس ثم قالت :
- أكمل السورة يا مالك, أنت مخادع دائماً..

((خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ * اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ * وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))



قاطعته بيدها ثم قالت :
- أفكر أن يكون كتابي القادم عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام, لقد أوذي من قومه كثيراً..
قال مشجعاً :- توكلي على الله وادرسي الأمر.. ثم ابتسم مكملاً :
- ستسعى دور النشر خلفكِ بعد نجاح كتابكِ السابق, وهذا لن يمنع سفركِ معي..
قالها معترضاً, فضحكت وقالت :
- الفضل بعد الله في ذلك يعود إليك, هذا أولاً, وأما عن ثانياً فأنت تعرف أنني عشقت السفر بسببك, ولكن لن يشغلني السفر عن الكتابة, لنتفق قبل كل شئ..
نظر لها وأغمض عينيه مسترخياً, ثم قال :- هذا يعني أن عشقكِ للكتابة فاق عشقكِ للإخراج ولصاحبه..
ضحكت ثم قالت :
- لا توقع لساني في الخطأ, هيا أكمل..
وصل لقوله
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))


تمتمت :
- يارب اجعلنا منهم .. يا إلهي اقبلنا ..وأكمل مالك السورة حتى نهايتها..
أنهيا وردهما لهذا اليوم, فهتفت :
- أشعر بالجوع, هيا لنحضر طعاماً..
ابتسم وقال:
- أنتِ دائماً جائعة, أحضري لنفسكِ, سأنام الآن..
- ماذا؟ تنام؟ لم يعد وقتاً للنوم, ستذهب لعملكَ بعد ساعة ونصف, هيا بنا..
لم يجد مفراً من فعل ما تريد, وفي المطبخ وقفا, يحاولان قدر استطاعتهما أن يخفضا صوتهما حتى لا يزعجان أمه, وحين انتهيا, ذهبت بنان لتوقظها, واتجه مالك نحو غرفة أخيه, لم يجده, وأثناء خروجه التقته أمه فسألت :- لم يعُدْ بعد؟
أومأ بتردد ثم قال :- يبدو أنه نام في الشركة كالعادة..
وافقته مصطنعة الهدوء, والتفوا حول المائدة يأكلون..
************************
في إشراقة الصباح هذه حاول ياسين أن يهاتف أحمد الذي وجد منه مكالمتين وأكثر من رسالة أثناء نومه, ولكن محاولاته لم تفلح, تلهى بابنته مريم, التي تجمعه بها علاقة خاصة لم تتأثر بوجود المولودة الجديدة في حياتهم, جالسها وحمل الرضيعة يعرفها عليها ويؤلف بينهما, حين خرج سيف من غرفته مستنداً على عصاه خالعاً عنه قدمه الصناعية, نظر إليه ياسين, وكذلك رفعت مريم نظرها نحوه قبل أن تحوله لقدمه, قال ياسين:
- هل تؤلمك قدمك؟
نفى سيف الأمر بقوله :
- لدينا مباراة اليوم, سنلعب هكذا دون حاجة إلى قدم تساندني..
- سيرهقك الأمر, ولست مضطراً له.. قال ياسين, فأردف سيف:
- لا يا أبي, إنه اليوم التحدي..
- أي تحدي.. قالها ياسين ضاغطاً على أسنانه, فراوغ سيف :
- ستأتي لتشجيعي أليس كذلك؟
اقتربت منه مريم, وجلست جواره فربت على كتفها ونظر إليها قائلاً :
- ستأتين وتهتفين باسمي؟
ابتسمت وأشارت برأسها موافقة, فتنهد ياسين, وزفر بضيق, ثم قال :
- متأكدٌ أنكَ ستكون بخير..
- بالتأكيد, تعلم أنني أحب المنافسة في مثل هذه الأشياء!
ابتسم ياسين بقلة حيلة, وعاد يتأمل وجه ابنته الصبوح التي تسكن على ذراعه, والتصقت به مريم بعدما ابتعدت عن أخيها, فأحاطها ياسين بذراعه الحر. دخلت عليهم رحيق وقالت باسمة :- طعامكم جاهز يا صامتون! ماذا دهاكم؟
وقف ياسين, وتبعته مريم ثم سيف الذي نظرت إليه أمه وقالت :
- مصممٌ على رأيكَ إذاً؟
ابتسم ولم يُجِب, فتجاوزها ياسين ومريم, وانتظرت سيف, وضعت يدها على رأسه وسارت تجاوره, التفوا حول الطعام, وحملت رحيق رضيعتها, وانشغلت بها عنهم, حتى تهرب من سؤالها عن عدم تناولها للطعام. ذهب سيف ومريم للمدرسة, وعاد ياسين إليها قائلاً :
- يبدو القلق جلياً على وجهكِ, ماذا حدث؟
هو يعرف السبب جيداً, ويسأل متمنياً خطأه, ولكنها نظرت لعينيه سائلة :
- لم يرد أحمد بعد؟
أشار برأسه أن لا, ثم قال :
- اعتني بنفسكِ جيداً..
- هل عرفت مكانه؟.. ستذهب إليه؟..سألت ملتاعة, فأجابها بعينيه ولم يشأ أن يخبرها برسائل أخيها له ثم قال:
- أنا واثق أنها مشاكل في العمل, وبالطبع يجب أن أكون معه, سأمر على مالك لأخبره بأمري, ثم أذهب مباشرة..
- أشعر أن هناك مشكلة كبيرة.. والتمعت عيناها بقلقٍ واضح مع زيادة تقلصات معدتها..
- ستحل إن شاء الله.. قالها مبتسماً ليطمئنها, ثم قبل رأسها, وقبل يد ابنته, ورحل ..
***********************
في غياهب الألم تسكن, لا تشعر بالعالم المحيط بها, انفصلت عنه منذ زمن, شاحبٌ وجهها كشحوب قلبها, ابيضت شفتاها, وسكنت أطرافها.. في عقلها تلك الأصوات التي تهاجمها..
والآن هي بين الغياب تكمن, تنتظر في حالتها أمراً كان مفعولاً..
وصل ياسين إلى أحمد, لا يدري كيف كانت حالته وهو يخبره بمكانه في رسالة, عرف من الموظفين ما حدث, وسأل الطبيب عنها قبل أن يصل إليه متألماً, جلس جواره ووضع يده على كتفه مطمئناً ثم قال :
- ستكون بخير إن شاء الله ..
نظر له أحمد كمن يستنجد به, ثم قال بوهن :
- أتعتقد ذلك؟ حياتها على المحك..
رسم ياسين ابتسامة يشوبها القلق ثم قال :
- سنحسن الظن بربنا, بيده مقاليد الأمور.. ثم أردف بيقين :- هو قادرٌ على شفائها..
همس أحمد بهم :
- لقد تناولت من الأقراص ما يكاد يقتلها لولا زوجة أبيها رأتها, لما أنقذها أحد وابتلعت العلبة كلها لتموت في توها, يقول الطبيب أنها كادت تموت..
أجاب ياسين مشفقاً :
- ستحيا إن شاء الله
ثم حاول تهوين الأمر عليه فقال مبتسماً :
- لم أكن أعرف أن ابنة بلدي التي تقرعنا دائماً هي التي تشغلك؟
- وستتركني أيضاً؟
- لا تقل ذلك يا رجل, ستكون بخير صدقني..
رأى أباها متلهفاً موجوعاً, جالس في ركن ينتحب, كان يعلم أنه سيفقد ابنته المتمردة ذات يوم, ولم يشأ أن يقيد حركتها فيفلت عقالها من بين يديه, ترك لها حرية التصرف في كل شئ, لم يمنعها ولم يظهر غضبه منها, والآن ابنته راقدة تنتظر موتها, ومن بين أوجاعه انتفض, هل سيبقى ساكناً هكذا منتظراً موتها, تقدم نحو الطبيب يستحلفه أن يراها, يتحدث إليها, يطمئنه عليها, ولم يحدث أياً منها..
الوقت يمر بهم, ويعجز الجميع عن فعل أي شئ, وكأنهم في انتظار مفارقة الروح للجسد, يجيب ياسين مكالمات زوجته ومالك وسارة يطمئنهم أن كل شئ بخير..
مر يومان آخران, يكاد لا يفارق المكان, تبقى عائلته على زيارات لا تنقطع, ولم يستطع ياسين التخلي عنه, دائم الاتصال بمالك ورحيق, يتابع العمل مع الأول, ويطمئن الثانية على أخيها الذي انعزل عن كوكبهم..
لم يراها أحمد كل هذا الوقت, لم يقف حتى على زجاج غرفتها يطمئن قلبه الملهوف عليها, لم يقر عينيه برؤية ملامحها, وفي خضم تفكيره بها قفزت في رأسه فكرة, تحدث بها مباشرة إلى أبيها وقال :
- زوجني ابنتك!
صعق الأب المكلوم, واتسعت عيناه اندهاشاً, وشد ياسين على ذراع أحمد ينقذه من ورطته, ومن سقطات لسانه, ولكن أحمد أكمل :
- نحتاج إلى عقد وشهود, وأنت وكيلها, وهي موافقة, أقسم على ذلك!
حول أبوها نظره عنه متغاضياً عن كل ما قال, وازداد جذب ياسين لذراعه, فلم يزيدا بفعلهما إلا ثورته, فقال :
- لماذا لا تجيبني؟ أنا أريد الزواج بها..
وكأنه طفل يريد إسكاته فقال :
- عندما تنهض من مرضها إن شاء الله ..
- الآن.. أريد الزواج بها الآن.. هتف بها أحمد, فهتف ياسين غاضباً :
- أحمد كف عن ذلك, وهل ترى أن هذا الوقت المناسب لحديثك؟
كتم أحمد غضبه إزاء غضب ياسين, وخرج تاركهما..
عاد لبيته, رأى أمه, انفرد في غرفته, وعكف على صلاته التي لم يفتر عنها, يدعو ربه تضرعاً وخفية, كثرت رجاءاته وآماله, هو رجلٌ فقد كل مآلٍ له في الحياة, أخذ يدعو ويبتهل, يشكو حاله ووجعه..
وانحسر في الغرفة لأيامٍ أخرى, ينتظر خبرٍ عنها, يتتابع دخول أمه ورحيق ومالك إليه, يحدثونه ولا يستجيب.. حتى جاءه ياسين ذات يومٍ وقال :
- لتتزوجها إذا؟...
ماذا حدث؟ لقد وافقت على الزواج! أهكذا تم الأمر؟.. وتم الزواج..
مر يوم يليه آخر, ويستعيد وجهها نضرته, لون أبيض لون المرض, يتحول برفق وهدوء لاحمرار طفيف, يوم بعد يوم يسري الدم نقياً في عروقها ترى آثاره على وجهها, يتحول شحوبها تدريجياً للون عافية. يقترب من غرفتها كل يومٍ بعد نومها, يتأمل ملامحها ويطمئن عليها, وحركة واحدة من خلجاتها كافية بأن تجعله يبتعد, يبتسم كلما اطمأن عليها, ويستبشر بقرب شفائها, ومع ملاحظته للحزن المرتسم على وجهها كان يدفع بالسبب لحالتها, لم يتحمل أن يرى ذلك الحزن مستمراً..
وخرجت من المشفى, وفي بيتها لم تخرج, ولم يستطع الذهاب لرؤيتها, كان يطمئن عليها من خلال رحيق أو بنان اللتين يزروانها باستمرار, يرق قلبه ويزداد فرحاً حين تخبره بنان أنها ضحكت اليوم, أو تحدثت باطمئنان, أو فرحت وابتسمت, وتخبره رحيق أن عينيها سألت عنه, يطمئن نفسه بأنها لن تتخلى عنه..
وانقطعت أخبارها بعدها, لا يربطه بها سوى دعواتٍ في جوف الليل, وركعات يذكر اسمها فيها, كأنه يعرفها لأهل السماء, تزداد لربه رجاءاته أن ييسر له الخير, أن يرضيه بما يقدر, وزاد انقطاع أخبارها, لم تعد رحيق أو بنان تخبرانه بشئ, واستعف عن السؤال خشية أن تصدمه الإجابة ..
بين عمله واختلائه بنفسه مرت أيامه, حتى ذلك اليوم, سمع صوتٌ شبيه لصوتها لا محالة من ذلك, من المؤكد أن المكان الذي جمعهما كثيراً وسط الثلوج, ينحني على صوتها, ويذكره به...
- هل أنتَ سعيد بالزواج الآن؟
ابتسم والتفت لها, وجدها تقترب وتجلس جواره, لم ينطق من دهشته, ولم تتحدث بعدها, وحل الصمت عليهما كما اعتاد, تمالك مشاعره وتنهد وقال :- حمداً لله على سلامتك..
- سلمتَ من كل شر, لماذا فعلتَ كل ذلك؟ هل اطمأن بالك الآن عندما تزوجتني؟.. قالتها بصوتٍ كئيب..
لماذا لم تمت؟ ألم تنهي حياتها بنفسها؟ لماذا تنقذها زوجة أبيها؟ هل انتهت جولتها مع القدر وستسلم بأمره؟..
قال بهدوء :- لأنكِ تستحقين ما هو أكثر.. المهم أن تطمئني لذلك..
- ترد بدبلوماسية دائماً.. قالت شاردة..
التفت إليها بكامل جسده مرة واحدة ففزعت وتراجعت خطوة فقال :
- هل وافقتِ مجبرة؟
قالت :
- لم أكن أعرف إلى أي درجة يصل جنونك..
ثبت نظره لعينيها منتظراً إجابة شافية, ثم قال :
- على أي حال أنتِ موافقة!
قالت باعتراض:
- هناك أشياء يحب أن تعلمها, مثل أنني لن أستطيع يوماً أن أنسى عمر أو ابني..
- أعلم..
- كنت تعلم أنني معترضة دائماً على القدر, حتى صفعني بما حدث, ومع ذلك كنت تتحملني.. هل ستستطيع تحملي لوقتٍ أطول؟
هز رأسه موافقاً, وقد التمعت عيناه بالسعادة, فحكت رأسها مفكرة ثم قالت :
- إذاً, فأنت زوجي الآن!
ابتسم وقد عادت إليه دعابته فقال :- للأسف!
اتسعت عيناها بدهشة ثم ضاقتا وقالت :
- للأسف! مازلت تستطيع التخلي عن الحمل الثقيل الذي ستبتلى به!
بدا مستمتعاً بإغاظتها فقال :- سأفكر بالأمر!
فوقفت لتغادر وقالت :
- أنا في إجازة من عملي لمدة سنة نستطيع الانفصال في أي وقت..
أمسك معصمها يوقفها فسرت رعدة بينهما وقال :
- ما رأيكِ أن تكون سنتين حتى نربي الطفل الأول؟!.. شريطة أن نسميها حور لو كانت فتاة ..
- ماذا؟.. حملقت فيه وانطبقت شفتاها وحبست أنفاسها فوقف ضاحكاً وقال:
- يبدو أنني سأتحمل كثيراً, وافقتِ على الزواج وطلبتِ الانفصال في جلسة واحدة, ستكفرين ذنوبي قبل موتي!
سحبها من يدها وسارا متجاورين, لم تنطق بشئ, تحملق فقط في يدها التي تسجن في يده, حتى وصل بها إلى أمه, جلس وجلست معهما, شعرت بخجلٍ شديد؛ فمواقفها مع أمه مشينة كالعادة, لولا الزيارات التي أغرقتها بها في مرضها, ابتسمت سارة ورحبت بها بحبور, وجاء مالك من عمله ومعه بنان جلسا معهم, لم تفارق يده يدها طوال الجلسة, ومحاولات سحبها كلها باءت بالفشل, لم تزده المحاولات إلا تملكاً ليدها أكثر, حتى رغبت بالرحيل, فرحل معها, ووقف في الحديقة الخلفية وقال :
- إلى أين سترحلين؟
قالت بتوجس:- إلى بيتي!
- وهذا بيتكِ!
- ليس بعد! الآن؟ .. لا أعرف, لم أعتاد الأمر بعدُ!
تنهد ثم أشار للمكان حوله يشرح لها ماذا سيفعل فيه, وعن البيت الذي يخططه, فأعجبها الأمر لإطالة المدة بينها وبين الإقامة معه, ثم وصلها لبيتها, وافترقا على أملٍ منه ورجاءٍ منها بأن تكون قررت الأصلح لهما...
***********************
دخلت ديانا غرفتها, فوجدت آدم قائماً عند رأس ابنته سارحاً في ملكوت هي مركزه, بأصابعها طرقت على كتفه, فانتبه ولم تحِد نظراته عن ابنته, فهمست :
- براون يجلس مع أبيك, ينتظرك منذ وقتٍ لا بأس به, تأخرت عليه كثيراً..
قال بعينين مبهورتين :
- إلى الآن لا أصدق أن هذه ابنتي..
انحنت ديانا تحمل ابنتها مبتسمة, ثم ضمتها إليها وقالت:
- ولماذا إذاً؟ ألأنها صغيرة ورقيقة؟ أم لأنها تشبهني, هادئة ولا تبكي مطلقاً؟
نظر لهما, وابتسم, ثم قال :
- أين براون؟
أشارت برأسها للخارج, فانصرف عنها, وجلست هي على فراشها, تضم ابنتها وتتأمل كل خلية فيها, تمسح على رأسها, وتقبض بإصبعها على يدها, تمسح وجنتها مرة, وتقبل يدها مرة أخرى, تظل ساكنة حتى تبكي, تهدهدها وترضعها, تبدل ملابسها بأخرى مختارة بعناية, وتضعها على السرير جوارها, ثم تقرأ من القرآن ما حفظت على مسامعها..
يعود آدم, يجلس جوارها وبينهما ابنتهما, يحملها عندما يجدها مستيقظة, يداعبها ويلاطفها, وكأنه بذلك يتأكد أنه أصبح أب لهذا الجسد الغض, يتأمل ملامحها, ثم يهتف :
- إنها تشبهني أنا ..
تضحك ديانا ثم تقول :
- لنسأل والديك, ليكونا الحكم بيننا..
ينظر لها بحنق وكأن كلماتها أزعجته, يضع رأس ابنته على صدره مجاوراً لقلبه, ويمسح عليها برفق, ثم يقول :
- سأجعلها تنطق باسمي أولاً..
تزداد ضحكاتها وتردد :
- أنتَ من سيجعلها؟ سأترك عملي كله وأتفرغ لها, وستنطق باسمي أولاً, لا تحاول..
يضم ابنته أكثر وكأنه يثبت ملكيته لها, ثم يهتف فجأة:
- قد أترك عملي أنا أيضاً, أو آخذها معي إليه..
تهتف ملتاعة :
- أنتَ مجنون لا محالة, سأجعلها أنا تنطق باسمك أولاً.
وكأنها طمأنته بقولها, فابتسم وأبعد ابنته عنه يتأمل ملامحها بعدما سمع صراخها معترضة, أخذ يغمغم بكلمات غير مفهومة بغية تهدئتها, وعجز عن ذلك, فمدت يديها له, اعترض أولاً, ولكنه لم يجد بداً من ذلك فابنتهما لم تسكت, أعطاها لها مشفقاً وملهوفاً عليها, حملتها فسكتت, نظر لهما بغيظ ثم قال :
- ما هذا؟ وهل كنت أنا السبب في بكائها؟
همست له :
- لأن صوتك عالٍ, لا ترفع صوتك في وجودها مرة أخرى, ولن تبكي معك..
يصمتان حتى تنام, تضعها ديانا في فراشها, فيعود لتأملها مرة أخرى سامحاً لمشاعره الجياشة نحوها أن تفيض, تنظر لهما ديانا مبتسمة, هل كانت تنتظر سعادة أكبر من هذه؟..
************************
على متن الطائرة المتجهة إلى مكة, نظرت ميرا لزوجها المسترخي جوارها, ثم إلى أمها وإخوتها, وتوسدت ذراع محمد, فقال باسترخاء :
- عرفتِ الآن أن التأخير كان خيراً!
ابتسمت وهي تدفن وجهها في ذراعه وقالت :- عرفتُ..
هل كانت تحلم يوماً بأن تسلم أمها ثم تتبعها الصغيرات يليهن أخوها؟ هل تمنت في أجمل أحلامها ذلك؟ أن تكون عائلتها كلها مسلمة؟ أراحت رأسها بفرحة, وهي تتذكر أخواتها اللائي عرض عليهن محمد الإسلام, وكيف جادلنه, فهن لم يسلمْن مع أمهن, سألت إحداهن :
- وهل الإسلام يكفل لي حق اختيار زوجٍ مناسب وسيم جميل, ويكفل لي حق الانفصال عنه إذا ما مللت منه؟
ورغم أن ميرا سفهت سؤالها وسخرت منه إلا أن محمداً أجابها بنعم, فسألت الثانية :
- وهل الإسلام يحرم الخمر, يعني لو أسلم أخي مثلاً, لن أجده يوماً يعود من الخارج سكيراً يترنح؟
أجاب محمد للمرة الثانية بنعم, فسألت الثالثة :
- وأنا أحب الملابس المكشوفة, وأعرف أن دينكم يحرمها, هل يمكنني الإيمان به, والبقاء على لباسي كما أنا؟
اعترضت ميرا وزمجرت فأخرجها محمد من بينهم وأجاب على الثالثة بنعم, أسلمْن ثلاثتهن بقلبٍ مطمئن, وكانت الثالثة الأسرع فيهن إلى الحجاب..
اتسعت ابتسامتها وهي تتذكر إسلام أخيها منذ شهر واحد فقط, وقد كان هو الوحيد في البيت الذي يدين بغير الإسلام..
شقت الطائرة وجهتها في السماء, ومع اقترابها من الحلم تزداد خفقات قلبها, وتتشبث بذراع زوجها أكثر, تلقي نظرة على ابنيها الذين يجاوران أمها, وتغمض عينيها بعدها لتنعم باسترخاءٍ تتمناه, ولكنها همست إلى محمد :
- هل ستسافر إلى مصر بعد انتهائنا؟..
رد هامساً :- إن شاء الله ..
- وماذا عني؟
- تستطيعين العودة مع عائلتك, لن أتأخر إن شاء الله!
بقبضة قوية ضربته على صدره, فتأوه مكتوماً وقال :- ماذا حدث؟
- ألم أخبرك قبل أنكَ عائلتي ! سأكون معكَ, أم تريدني أتركك لابنة خالتك..
ضحك بصوتٍ منخفض ثم قال :
- اهدئي, لسنا وحدنا.. سآخذكِ معي, لن أستطيع الذهب دونكِ, فقط كنت أشاغبك!
ضربته مرة أخرى, وكتمت صيحته وقالت :- عقاباً على ما فعلت ..
ثم سكنت إلى ذراعه, وتعلقت به, وعلقت قلبها بالتكبير والتهليل, تحضر قلبها لما هي مقبلة عليه, تسبقها سعادتها لفعل كل شئ, يخشع قلبها ويأنس, وتسكن جوارحها ملبية..
***********************
- سيف! اعتني بأختيكَ جيداً, لن أتأخر إن شاء الله..
قالتها رحيق قبل خروجها, وتركت صغيرتيها مع سيف يرعاهما, اختلاطه الكثير بأحمد جعل منه نسخة مصغرة له, نفس الاحتواء الذي يحمله, ونفس المراعاة والاهتمام, بيد أن ياسين لم يكن كعمر في التفرقة بين أبنائه, بل يحافظ على المساواة بينهم, ولكلٍ منهم مكانته الخاصة, فمريم أثيرته, وسيف ابنه القوي الذي يتعلم منه أكثر مما يعلمه, يحب اهتمامه بكل من حوله حيث يناله من ذلك نصيب, والصغيرة تسنيم أنس البيت وبهجته..
تأخرت رحيق, وزاد بكاء الرضيعة, وعلى إثرها بكت مريم, تاه سيف بينهما ولم يعرف كيف يتصرف؟ أمه لا ترد على هاتفها, وكذلك أبوه..
لم يتأخر ياسين بعد عدة اتصالات, ودخل مسرعاً لسماعه صوت البكاء, واحتار في الصغيرتين, يقبل على أيهما أولاً, حمل تسنيم, ثم طلب من سيف أن يجهز ما يرضعها به, وجلس قريباً من مريم, يهدهدهما حتى سكنتا على ذراعه, أتى سيف بما يريده, فناوله للرضيعة يلقمها, ويهزها حتى هدأت واستكانت ثم نامت.. وضعها في سريرها ثم سأل :
- هل تناولتما غداءكما..
أجاباه بالموافقة, وسأل سيف :- أين أمي؟ لقد تأخرت!
تنهد ياسين ثم قال :
- لا أعرف.. فقد هاتفته تخبره بسرعة الذهاب للمنزل خوفاً على أبنائها, حاول الاتصال بها مجدداً, ولكن لا إجابة مرة أخرى, حتى عادت منهكة القوى, بمجرد دخولها أقبلوا عليها جميعهم, تعلقت مريم بقدميها, وشد سيف على يدها, ونظر ياسين لعينيها وقال بقلق :
- ماذا حدث؟ أينَ كنتِ؟
جلست تستريح وبعد اطمئنانها عليهم أجابت :
- صدمت امرأة بسيارتي, فأخذتها للمشفى وانتظرت حتى أطمئن عليها, ثم طلبت تعويضاً حتى لا تشكوني, وانتهى الأمر على خير الحمد لله..
هتف ياسين بلوم:- لماذا لم تخبريني بكل ذلك حين هاتفتكِ؟
ابتسمت براحة وهي تضم ابنيها إليها :
- لا تقلق, أجدت التصرف هذه المرة, لم أكن أستطيع ترك أبنائي وحدهم وأستنجد بكَ.. ثم أكملت مازحة :- لم أعد تلك الساذجة التي تبكي وتنوح عند الوقوع في مصيبة ..
ابتسم وقال :- ولكن على أي حال لم تستطيعي التخلي عن جنونكِ.. الحمد لله أنكِ بخير..
ابتسمت له ثم قامت لتتخلص من تعب اليوم وتطمئن على صغيرتها الثالثة ..
إنها بداية جديدة في حياتهم, وحياة البناء الذي اختاراه معاً...
***********************
انتهى أحمد من التصميم والبناء في وقتٍ حسبته قياسياً, لم تكن تريد الزفاف الذي يرغبه الجميع, ولكنها أشفقت على أمه, ولم ترغب بكسر فرحتها, فوافقت مضطرة, مازالت مضطربة مترددة, تجيب اتصالاته بمجاملة, وتحدثه بتهذيب, أحمد تغير بالفعل, والكل يشهد بذلك, عاد ذلك الفتى المرح لا تفارقه ابتسامته ولا فرحته, هل ستضيعها الآن؟ هي لا ترفضه بقدر رفضها لفكرة الزواج.. وتتابعت أفكارها وتلاحقت حتى يوم الزفاف, علمت بأن زفافها سيقام في قاعة كبرى, عاد محمد وميرا التي ساهمت في الإعداد من سفرهما, وشاركها الجميع فرحتها, رحيق وبنان وديانا, وجاءتها إيلين, تحدثت كثيراً معها, وأقنعها حوارها.. ولكن حين حانت اللحظة التي ستلتقيه فيها بكت بشدة, وهدت زينتها, وتلطخ وجهها, انصرف الجميع من حولها فزعين, ولم يبق أحدٌ, عادت وحيدة كما كانت وأفسدت فرحتهم..
علم بأمرها فصعد لغرفتها المفتوحة ودخل, مزق بكاءها نياط قلبه, جلس جوارها وضمها إلى صدره, بكاءها ازداد ونشيجها علا, فقال متألماً :
- رؤية, لو قلتِ الآن أنكِ لا تريدنني, سأبتعد, والله سأبتعد ولن أقترب منكِ أبداً, ولكن لا تبكي, أرجوكِ لا تحزني ولا تخافي من شئ, سأبتعد إن كان في هذا سعادتكِ!
لم تتوقف عن البكاء, وأخذت تنشج بعلو, فلم يزد على كلماته محاولاً أن يمنحها فرصة للهدوء, هدأت ولم تتوقف دموعها , فأبعدها عنه واحتضن وجهها بكفيه ماسحاً دموعها التي تسيل فقالت:
- أنتَ لا تفهم, أنا لا أرفضك, أنا خائفة فقط, هل ستتحملني بالفعل للنهاية, ستتحمل خوفي وتقلباتي؟
- لقد وعدتكِ, وما زلتُ عند الوعد.. قالها مبتسماً, وقد أثلجت صدره, ثم أكمل :
- لا تقلقي من شئ, لا داعي للزفاف ..
- أحمد أنا حاولت بالفعل تقبل الأمر, ولكني لا أستطيع, يجب أن أرحل, ومتى استطعت تقبله سأعود إليكَ, لقد أقدمت على التخلص من حياتي بالفعل, كيف تطلبون مني أن أتجاوز الأمر وأبدأها كأن لم يكن شيئاً؟..
- لنتجاوزه معاً, لن أترككِ أو أتخلى عنكِ يوماً..
- ولكن لن أقبل بذلك, يجب أن أتجاوزه وحدي كما أقحمت نفسي فيه وحدي...
سيجمعنا القدر مرة أخرى لا محالة من ذلك, ألا تؤمن به؟
ورحلتْ...
***********************
وقفت مقابله بعدما ودعا سارة, وانفض الجميع من البيت, نظرت للشمس التي تغازل الأفق, ولشروقها الذي يبدو هادئاً خفيفاً, ثم قالت :- توكلنا على الله..
فتح مالك سيارته لها فركبت, ثم استدار لمقعد السائق, وقال :
- رحلتنا هذه المرة ستكون في الأدغال, مستعدة؟
ابتسمت وقالت :
- أكيد! بالطبع أنتَ بحاجة إليَّ في هذه الرحلة, أجيد فنون القتال وأستطيع الدفاع عنك إذا ما تعرضت لأسد مهاجم في إحدى الغابات البرية..
ضحك وهما يتحركان بالسيارة وقال:
- لا تخافي أيتها الشرسة, تعلمت ما أستطيع الدفاع به عن نفسي..
تحركت السيارة في طريقها لهدفهما, يتحدثان عن الفيلم الذي ينويان تصويره, ويسألها عن استعدادها, ويشرح لها ما يريد, حتى وصلا بعد ساعاتٍ..
ترجلا من السيارة, وحملا حقيبتيهما, وتحركا في الداخل, وتوغلا , وبدأ كل منهما يرفع الكاميرا الخاصة به, يلتقط ويصور ما يريد, عوناً له وعوناً لها في كل شئٍ , وسيدوم العون إلى أن يشاء الله ...
***********************
عاد أحمد لأمه, لم يتحدث, ولم تسأله, ارتمى بين ذراعيها فأسكنته قلبها كرضيعٍ بحاجة إلى عناية, لم يبحث عن زوجته, لم يسأل أباها, سلم هو بقدره, لماذا تتحجج بالقدر كل مرة؟ لماذا لم تخبره أنها ترفضه فقط؟ لماذا حاولت الانتحار؟ ألف لماذا في رأسه يسكتها عنوة...
يمر من الشهور أكثرها عليه, لا خبر عنها, ينتقل مالك وبنان لكل مكانٍ في الدنيا, يعودان من سفرهما ليقيمان شهراً, يهلك مالك نفسه في العمل والدراسة, حتى يجني من المال ما يعينه على السفر لبلدٍ آخر, وتنزوي بنان في غرفتها باحثة, تكتب كثيراً, فينتهي الكتاب الثاني لها, تطبعه, تنشره, يذيع صيته وصيتها, تلقي المحاضرات, مالك معها دائماً لا يفترقان, تعكف على القراءة أثناء انشغاله بعمله, تساعده في مشروع تخرجه, تذهب معه للجامعة, يبحثان عن زميلٍ لهما يقوم بتمثيل دورٍ في فيلمه, تختاره هي وتذهب لمالك تقول :
- لقد اخترت شارلوت, أعتقد أنه الأفضل لتقديم ما تريد..
ينظر إليها مالك مستنكراً ثم يفصح :
- ولكنني لا أريده, ثم لماذا قمتِ بالأمر بنفسكِ؟.. قالها بشبه غضب, فقالت :
- مالك لا تكن عنصرياً, هل ننفي مجهوده لأنه يهودي..
- ليس يهودي وإنما صهيوني, ومتميزٌ في عمله لا أنكر ذلك , فقط أنا لن أتعامل معه.. ردد وقد بان الغضب على وجهه متحكماً فيه, فقالت :
- آسفة, لم أكن أعرف, سأعتذر له ونبحث عن آخر..
- لا عليكِ, سأفعل أنا.. رغم أنه لا يستحق الاعتذار..
شدت على يده قائلة :
- نحن نتعامل بأخلاقنا لا بأخلاقه, حقاً آسفة..
ابتسم مربتاً رأسها وقد تراجع غضبه في توه كالعادة ثم قال :
-لا داعي لكل تلك الاعتذارات, أعتقد أن أليكس أفضل, مارأيكِ؟..
- ليكن إذاً, لتذهب لمشرفك, وأتحدث أنا معه..
- سنذهب سوياً, هيا بنا..
قالها وهو يسحبها من أذنها فضحكت قائلة :
- آسفة آسفة لن أكررها..
يعمل على إنهائه ويقدمه, يقول لها :
- كنت أتمنى الدراسة في نيورك فيلم أكاديمي .. كما تعلمين أنها الأفضل على مستوى العالم ..
تبتسم, تعلم أنه ما فعل لئلا يسافرا معاً, ويبتعد بها عن العائلة المحيطة, تنظر إليه ممتنة أن لم يفعل, هي أيضاً لم تكن تحتمل أن يبتعد, حتى وإن كانت المسافة الفاصلة يسهل تخطيها..
يتخرج مالك, يحتفلان, ويسافران إلى مومباي في الهند, لا يغيبان, رغم أنه حرص على الالتحاق بدورة للتصوير فيها, ولكن لم يكن له أن يطيل السفر هذه المرة..
سيسافر ياسين إلى مصر, ومعه ستكون رحيق وأبناؤهما, قد يقيمان لشهرٍ يحتميان من برد الشتاء كما قالا, يعرف أبناءه على مصر, لم يقل أنه اشتاق لوطنه, رغم أن الشوق أضناه, يحاول مالك أن يساعد أخاه في العمل, لم يعود أحمد كما كان حزيناً منطوياً, بل عاد إلى أحمد الشاب ذلك الذي كانه قبل أن يغيب عنهم, المرح المشارك لهم في كل شئ, ولكنه كان أيضاً يكتم ألماً في نفسه كالذي يكتمه الآن, رؤية جرحته, جرحته بشدة, لماذا هجرته؟ لماذا وافقت على الزواج إن كانت تنوي الرحيل؟ أخبرته أنها لن تنسَ زوجها, ولكن لم تخبره أنها قد تتركه لأجل زوجها, لأجل أنه لم يفارق قلبها, ليته ما التقاها يوماً, هل عاد ليحبها ثم تجرحه هكذا؟
منذ رحيل أخته وأبنائها وقد خلت الحياة من فرحتها, أبناؤها أبناؤه, لا يمر يوماً دون رؤيتهم, يبقى معه سيف أكثر من بقائه مع أبيه, تأتيه مريم, ويفرح بابتسامة تسنيم..
يجلس في الليل إلى جوار أمه حول المدفأة, يمسك بكتابٍ ويقرأ لها, يطيل القراءة, وتوقفه عند كل فقرة تناقشه, يمازحها ويقول :
- ما رأيكِ لو تدرسين الأدب الإنجليزي؟
تبتسم لتستنير الدنيا في عينيه, ماذا لو ماتت سارة؟ سيفقد حياته بعدها حتماً, يلتقط يدها ويشد عليها برفق, ويكمل القراءة, ثم يقول فجأة :
- أنا أتحدث جدياً, لتحضرين ماجستير ثم دكتوراه في الأدب الإنجليزي.. لنذهب إلى واشنطن, تدرسين في جورجتاون, سأدرس معكِ, نقيم في واشنطن فترة الدراسة..
- لماذا تكره لوس أنجلوس؟.. تسأل ببساطة وكأنها على حق, يجيب بأريحية :
- لا أريد البقاء هنا, رحيق سافرت, مالك لا يستقر, لم يبق لي سواكِ, لتكوني معي..
- ليس لأنك تريدني أن أدرس الأدب الإنجليزي..
يضحك وتضحك, رغم ألمه إلا أنه يستطيع تجاوزه, تعلم ذلك ويؤلمها أن تعجز عن مساعدته..
يقرران الرحيل, يخبران مالك ورحيق, يفرح مالك ويشجعهما, وتبتسم بنان لتقول :
- هذا جيد لتكون لنا زيارات دائمة لجورجتاون..
بينما رحيق يملأها الفراق جزعاً, تعدهم بالزيارة, ويخبرها أحمد أنه سيأتيها كل أسبوعٍ مرة ليتابع العمل مع ياسين, ويرى أبناءها الذين سيشتاقهم, تسأل :
- وماذا عني؟ ألن تعود مرة لأجلي؟..
يقبل رأسها ويقول :- أنتِ الأولى قبلهم, أنتِ ابنة قلبي قبل كل شئ..
تطمئن, تودعهما, وترجو مالك أن يستقر لفترة بسيطة, يستجيب..
في المنزل وحيدين مالك وبنان, يعود من الخارج صائحاً وتسمع صياحه, تقابله هاتفة :
- الأزهر في مصر..
- دعوة إلى باريس..
يصمتان بعدها, وقد خاب أملهما, يفترقان كلٌ في غرفته, يبحث عن مخرج, لم يعتادا الافتراق, ولن تسافر دونه, ولا يفكر في السفر وحيداً, يلتقيان عند مفترق الطرق بين الغرفتين تقول :
- ماذا ستفعل في باريس؟
- تواصلتُ مع شخصٍ ما, سيقدم برنامج من باريس, مدة التصوير شهراً, طلب مني أن أخرج العمل, وافقت, أرسل لي دعوتين اليوم..
- لماذا لم تخبرني من قبل؟.. قالتها بلومٍ
- أردتها مفاجأة لكِ. أعلم كم تحبين باريس..
تنهدتْ.
افترقا ثانية يفكر كل منهما في حل, ثم التقيا بعد فترة وقد أشرق وجهها قائلة :
- لنؤجل مصر لبعد شهر..
ابتسم وهو يقول :
- لا داعي لذلك, أجلتُ سفرنا لباريس لبعد أسبوع إن شاء الله, نذهب إلى مصر, ثم باريس..
- هذا أفضل.. ثم ضحكتْ..
طارقٌ بالباب, ذهب ليفتح, صدم عندما رآها وقال ساخراً :
- رؤية..
وراءه وقفت بنان, حاولت التبسم في وجهها وقالت بتوتر من جفاء زوجها :
- مرحباً رؤية..
تركها مالك ودخل لامبالياً, عذرته بنان لأجل أحمد, ثم قالت لرؤية :
- تعاليْ رؤية, ادخلي..
قالت بتوتر بدا واضحاً في اهتزاز صوتها :
- هل يمكنني مقابلة أحمد؟
- أحمد.. قالتها بنان لتكمل مفسرة مكانه, فأوقفها صوت مالك الغاضب :
- أحمد ليس هنا, ابحثي عنه إن أردتِ, لا نعرف أين يكون؟
- أنا آسفة.. وغادرتْ
راقبتها بنان مشفقة, ثم التفتت نحو مالك لائمة :
- لم يكن عليكَ فعل ذلك, كان يجب أن نحتويها..
- ولماذا لم تفعل هي مع أخي؟ هل خدعكِ مرحه وحيويته الظاهرة؟ إنه يخفي ألماً بسببها..
- يجب أن تعرف أن من يصل لحالتها, ليس علينا أن نلومه, يجب أن نتفهمه أكثر.. حاولت الانتحار لتتخلص من حياتها, هل ستقبل بزوجٍ هكذا بمنتهى السهولة, كان يجب عليها أن تقيم حياتها, هي رحلت لأنها لم تستطع الحياة..
تركها, لا يستطيع التماس عذرٍ لها, قد يفعل لو فعلها أحمد..
تنظر إليه, تهاتف رحيق, تخبرها, لا تعرف أتتعاطف معها, أم تغضب لأخيها؟ ولكنها تقرر في النهاية إخبار أحمد, يجيب بكلمة واحدة :
- لا تخبريها بمكاني..
تستجيب..
هل قال أنه لن يبحث عنها, هل أخبر من حوله أنه لم يحاول البحث عنها, ولكنه كاذب, لقد بحث حتى فقد الأمل, لم يعرف حتى ماذا يفعل إذا ما وجدها, بالطبع سينفصلان, يبحث عنها فقط حتى يطلقها!!
لتبحث عنه إن أرادته يوماً لبعض الوقت, ولكنه عاد, أخبر أمه بما جرى وعاد بها, ذهب إلى عمله, وتحرك في الحي وكأنه ينتشر في المكان كي يسهل بحثها عنه, آذته نعم, ولكنه كان ومازال يحمل بعض الشفقة لحالها, هي الشفقة فقط لا أكثر, ذهب لأبيها من قبل وكان مثله لا يعرف شيئاً عنها, ذهبت إلى الشركة, قابلت ياسين ثم التقته..
نظرتْ إليه, تأملته طويلاً, لم يستطع أن يحرك بصره عنها, قالت معتذرة :
- لم أكن أستطيع سوى ذلك, لو وافقت على الاستمرار سأخدع نفسي, كنتُ لا أزال في تشتتي وحيرتي, لم يكن لأحدٍ أن يستطيع تحملي, و..
قاطعها منفعلاً :
- ولكنني وعدتُكِ..
- الكلام غير الفعل, لم تكن لتفهم ما أمر به أبداً, أنا عدتُ لأعتذر إليكَ فقط, أعرف أنني تأخرتُ ولكن لم يكن الأمر بيدي.. أنا آسفة, أرجو أن تسامحني..
همت بالرحيل فقال :
- أنا لم أطلقكِ..
وقفت, نظرت إليه وقد ظنت أنه فعلها. قالت :- لماذا؟
- انتظرتُ عودتكِ حتى أفعل..
ابتسمت ثم قالت :
- افعل ما يريحكَ, أستأذنكَ..
- أين كنتِ؟.. أوقفها ثانية عن الرحيل. قالت :
- أرض الله واسعة, ابتعدتُ لأؤمن به إيماناً كاملاً..
ثم رحلتْ..
عادتْ لأبيها, لم تذهب لعملها, اهتمتْ بأخيها الذي وضعتْه زوجة أبيها, تبقيه معها ليل نهارٍ, لم يعاتبها أبوها ولم يلومها..
بينما ازداد أحمد مرارة, ألم تهتم به؟ لم تهتم ببقائها معه والعودة إليه؟ طالما آمنتْ لم تعد بحاجته, أم أنها لم تكن بحاجته منذ البداية؟ وما الذي يزعجه؟ يعرف أنها لم تحبه يوماً..
سافر مالك وبنان إلى مصر, وقبل سفرهما عرجت بنان على رؤية, تحدثت إليها, عرفتْ أين كانتْ؟ حدثتْها عن أحمد, ثم تركتْها..
في اليوم التالي ذهبتْ إليه رؤية, ابتسم ياسين في وجهها, ثم سهل دخولها لأحمد, شجعتها ابتسامته على ما نوتْ, وقفتْ أمامه, قال بجفاءٍ يلغي اندهاشه :
- لماذا أتيْتِ؟
- جئتُ لأجيبكَ على سؤالكَ..
أثارتْه وسكتتْ, قال :
- لا أريد إجابة, وإن جئتِ تتعجلين الطلاق, لا تقلقي, سيحدث قريباً..
- ولكنني ما أتيتُ لذلك, أنا لا أريد الانفصال يا أحمد..
لم يرد, مل من الحديث, تعب من كل شئ, وجودها يرهقه, يكفي إخفاءه لمشاعره في حضورها, يكفي لومه لنفسه لأنه يبقي على أي مشاعرٍ لها..
قالتْ :
- كنتُ مع إيلين, أقمتُ عندها..
ثم سكتتْ, انتظرتْ إجابته, تعرف جيداً كم سببت له, مستعدة لتفعل أي شئ كي يسامحها..
قال ساخراً :
- حمداً لله على سلامتكَ..
ووقف مستنداً على عصاه, اقترب من تصميمٍ يعمل عليه, وانشغل به عنها متعمداً, لم تجد بداً من المغادرة, هو يطردها بلباقة...
ما إن خرجتْ, حتى ترك ما في يده, وزفر بضيقٍ ثم رمى عصاه عاجزاً, ضائقاً من كل شئ, لم يخرجه من حالته سوى دخول ياسين, تحدث إليه كثيراً, هل متعاطفٌ معها الآن؟ لماذا وقف الجميع في صفها؟
ذهبت إلى سارة, جلست معها, اعتذرتْ, شعرت بالخجل, لا تستطيع تصور جريمتها, لماذا لم تفعلها سوى في أحمد؟ ألم تستطع رفض الزواج, أو الرحيل قبله حتى؟
ولكنها كانت خائفة بالفعل, لم تتحكم في نفسها وهي تفعلها, لم ترِد له أن يعاني معها, انفردت بمعاناتها الطويلة, لن يفهمها أحد أبداً, لن يفهمون كيف لامرأة تجابه كل ما يحدث لها بقرارٍ واحد؛ سأتحدى القدر, إنها أقرت ذات مرة بأنها من امتلكتْ شفاء مالك, وبأنها من منعتْ ديانا من قدرها, هل يفهمون أي مصيبة كانتها؟..
لم تفطن أنها تحكي لسارة معاناتها إلا عندما ربتت على كفها مطمئنة, لا تعرف كيف ارتمت بين ذراعيها تبحث عن الأمان, ولكنها لم تعد رؤية المتحفظة في تعاملاتها, كانت تحتاج بشدة إلى احتواء سارة, قالت لها :
- ابقِ هنا إن كنتِ تصدقين في مشاعركِ نحوه, أو ترحلي من حياته إن أردتِ أن تسببي له أي أذى آخر..
لم ترَ سارة الحازمة من قبل, ولكنها محقة لأجل ابنها..
عاد أحمد سلم على أمه وبقي يمازحها كعادته قبل أن يدخل لغرفته, صدم وهو يرى امرأة نائمة على سريره, عاد لأمه مصعوقاً, من هذه؟
ابتسمت سارة ثم قالت :
- زوجتك, امنحها فرصة, لقد كانت مريضة تخضع للعلاج..
لم يدخل كما توقعتْ, خرج ولم يعقبْ, جاء الليل, اتصل مالك, اطمأن عليها ثم أنهى اتصاله, جاءتها رحيق, جلستْ معها فعرفت بما حدث, قالتْ :
- اعطِه فرصة, ولكنه على حق..
مر شهر, لا تعرف الاعتذار, ولكنها تعرف التطفل, يقيم أحمد في المنزل الذي أسسه لها, وتقيم هي مع أمه, لا يأتيهما ولكن تذهب إليه رؤية, تتطفل عليه صبح مساء, عندما عادت لم تكن تعرف أنها قد تفعل ذلك, ظنت أنه طلقها وقالت سيرتاح بالها, متى تحركت مشاعرها نحوه, متى اهتمت بألمه؟ متى فكرتْ فيه؟
تحضر له طعاماً, لا يأكله, تتحدث إليه, لا يجيبها, ينهرها, يخرج غضبه فيها, تبدي التجلد, لماذا تتحمله؟ هل أحبته؟ أم اعتذاراً عم فعلت؟
وبعد الشهر ذهب لإيلين, لا يعرف لما قادته قدماه إليها, سألها عنها, أكان يطمئن عليها, أم يبرر لمشاعره نحوها, إنها مجرد شفقة, فلم يعد يحبها..
خرجت من محاولة انتحار فكيف تريدونها بأن تبدأ حياتها كأن لم يكن شيئاً؟ هل هو غاضبٌ لأنها هجرته, أم لأنها لم تثق في وعده لها بالحماية والمؤازرة؟ أقامت مع إيلين شهوراً, ابتعدت عن الجميع, قالت أنها ابتعدت لتؤمن إيماناً كاملاً, هل ساعدتها إيلين في ذلك؟
- لم تكن أفكارها سوية حينها حتى تعاقبها, رؤية تحبك كثيراً, أتعرف كيف بدأت برفض قدرها؟ كيف شعرت بذلك التيه والتردد أنها تؤمن بالله ولا تؤمن بقدره؟ كل ما في الأمر أنها تزوجت لرجلٍ يعشقها, ولم تكن تبادله مشاعره بنفس القدر, تؤجل الزواج باستمرار حتى أشفقت عليه فوافقت, تزوجا لأشهر ثلاث قبل أن يموت, في الشهر الأخير بدأت تشعر بحبٍ نحوه أو شفقة, ولكن موته صدمها شعرت أنها ظلمته, فأبقت على الوفاء له كاعتذار, مات ابنها هو الآخر, فتحول نقمها لقدرها, كل ما في الأمر أنها لم تجيد فهم الكون...
- والآن؟.. سألها..
- والآن هي تحاول أن تقف على قدميها, بصدقٍ هذه المرة, في البداية لم تكن تريد الارتباط بكَ رغم أنها تلاحقك باستمرار, ولكن ملاحقتها لك كانت وكأنها تنتقم من شئٍ لا تعرفه, قد يكون لأنك عدت من الموت كما تدعوك, قد يكون أنها تمنت لو يعود زوجها السابق لتعتذر له, لا تجبرها على الانطواء والعودة لمصيرٍ تجهله ثانيةً...
تركها, وعاد إلى منزله, تردد أمامه لبعض الوقت ثم رحل, منذ أسبوعٍ عادت رؤية لعملها, تذهب في مواعيد منتظمة, يخرج قبلها, ويعود بعدها, ورغم ذلك تعد له فطوره الذي يهجره كما يهجرها, كما في كل مرة تشغل تفكيره فيها, يمشي في الطرقات حائراً, أيسامحها بالفعل؟ هو خائف من ذلك, ماذا لو تركته ثانية؟ ولماذا لا يسامحها؟ وقف أمام متجر لبيع الملابس, لفت انتباهه معطف يحيط بعنقه فراء أبيض, أخبرته مرة أنها تحب ارتداء المعاطف الطويلة ذات الفراء, ابتسم ولا يعرف كيف دخل واشتراه..
عاد للمنزل ودخل, لم يجد طعاماً معداً, فخمن أنها لم تأتِ بعدُ, تسلل لغرفتها يضع ما اشتراه في خزانة ملابسها, ففوجئ بها مضطجعة على فراشها, توقف وصدمت فحاولت الاعتدال, ولكن ألم قدمها الذي تكتمه منعها, وضع ما تحمله يده ثم خرج, فتنهدت بضيقٍ وألم, وعادتْ لوضعها, لماذا أطاعتهم وبقيت معه؟ لماذا لا تستقل بحياتها كما كانت تنوي؟ إن كان لا يريدها فهي لن تفرض نفسها عليه أكثر..
تحاملت على نفسها, لماذا اصطدمت قدمها بالطاولة الآن؟ يجب أن تتحرك إليه, أول خطوة, ثم الثانية, لم تُطِقها فصرخت وتوقفت مكانها لا تتحرك رافعة قدمها ثم مالت نحو السرير الذي لم تبتعد عنه وجلست عليه..
جاء على صراخها بلهفة حاول أن يخفيها, تجلدت أمامه ثم قالت :
- كنت أريد أن أخبرك بشئ..
- لماذا صرختِ؟
- ليس بالشئ المخيف, بعض الألم في قدمي سيزول.. ثم أكملتْ متجاهلة ألمها :
- لقد جئتُ إلى هنا لفعل ما أستطيعه حتى تسامحني, ولكن لن أستطيع أن أفرض نفسي عليكَ أكثر, أنا آسفة, يبدو أنني مصدر لإزعاجكَ منذ البداية..
- الزمي بيتكِ رؤية, لا تهجريه ثانية..
ثم اختفى عن ناظريها..
تنهدتْ, ما الذي جنتْه في حياتها؟ الإيمان بالقدر!! ألا يعرف أنها آمنت أنه قدرها لذلك أبقت على عهدها بالتمسكِ به...
عاد إليها بعد دقيقتين متردداً, ثم قال :
- أنا لم أغضب منكِ, ولكنني فقط كنت قلقاً بشدة عليكِ, ألا تستطيعين قول أنكِ بحاجة لبعض الراحة؟ أنكِ بحاجة لزيارة إيلين؟ كنتُ فعلتُ ذلك لأجلكِ, تسيرين في الطرقات غير عابئة بمن ينشغل عليكِ أو يتحرق لغيابكِ, كيف تفعلين بي ذلك؟ لقد وعدتُكِ بألا أتخلى عنكِ فلماذا تفعلين أنتِ؟...
- أنا آسفة, آسفة.. آسفة.. حقاً آسفة .. قالتها بسرعة مكررة حتى تهدئ ثورته, فزفر واقترب منها, جلس مقابلها وفاجأها سؤال لم تتوقعه :
- لماذا لم تحضري غداء اليوم؟
تراجعت وحملقت فيه ثم قالت :
- آسفة, لم أستطع الوقوف على قدمي, انتظر لبعض الوقت..
سكت وكأنه ينتظر استكمالاً لروايتها, فلم تلبث أن أخبرته كيف اصطدمت قدمها بالطاولة, ينظر إليها وهي تتحدث فقط ولا يفعل شيئاً آخر, يقوم فجأة يقول :
- استريحي الآن..
يغيب ثم يأتيها بالطعام, تبتسم, تنظر إليه وتقول :
- قد أهجره كما فعلت..
- إنما كنتُ أذيقكِ من بعض ما فعلتِ.. قالها ناظراً لعمق عينيها, ارتبكت :
- أنا آسفة..
- لا تكرريها, لا تغيبي ثانية..
- لا أعرف كيف فعلتُ ذلك, صدقني..
تنهد ونظر في أرجاء الغرفة بعيداً عن مجال عينيها, اقتربت منه, ربتت على يده وكأنها تطيب جرحه, رفعتها إلى شفتيبها تقبلها ثم كررت :
- والله آسفة..
شدها إليه يعانقها, هل شعر بالغضب نحوها يوماً؟!!..
**********************
يقف مالك في شرفته يتابعهما بتسلية, ويبتسم بفرح, تأتيه بنان تجاوره وتقول :
- ماذا تفعل؟
يشير إليهما فتضحك, يجلسان في جانبٍ من الحديقة يتحدثان, لاهين عن الدنيا ومن حولهما, وكأنهما تائهيْن التقيا في سفرٍ بعيد فبدد كل منهما غربة الآخر..
تقول بنان ونظرها مسلطاً على رؤية :
- متى سنسافر؟
يبعد مالك ناظريه عنهما ويقول :
- بعد أسبوعٍ إن شاء الله..
تبتسم وهي تتابع الزوجين الذين تركا مقعديهما ثم تقول :
- إلى الصومال هذه المرة, ألم تنوي الذهاب لعمرة أولاً؟
- عندما نعود إن شاء الله حتى يتسنى لأمي الذهاب معنا, وهيا الآن لنستعد اقترب موعدكِ..
قالها وهو يسحبها وراءه, ثم توقف لدى الباب قائلاً :
- ما رأيكِ أن نعد لهم الطعام؟
ضحكت وهي تسأل :- من؟
- للعروسين بالطبع, هيا بنا..
تطيعه, ويقفان في المطبخ, يتفنن في طهي وجبة جيدة, وتحاول تساعده فتفشل ككل مرة, يصيح بها :
- لا تُقطع الطماطم هكذا..
- ولا الجزر..
- ضعي الزيت.. يكفي هذا .. انتبهي للفرن..
يصرخ, تضحك أمه, تدخل رؤية, ينظر نحوها ثم يبتسم ويقول :
- زوجة أخي, هل تجيدين الطهي؟ أم تفشلين فيه كهذه؟
تضحك بنان, ويأتي احمد, يصيح بهما :
- ماذا تفعلان؟
يبتسم مالك له ثم يقول :
- اتصل برحيق, ادعوها للعشاء, سيفوتها ذلك..
يستجيب أحمد, يجتمعون, رحيق وزوجها وأبناؤها, وأحمد وزوجته, ثم مالك وبنان وسارة, يقف مالك ليقطع طعامهم بقوله :
- لتدعو أصدقاءكم جميعاً لحفلٍ يوم الخميس إن شاء الله, سنقيمه لأجل أحمد ورؤية, لا نقاش ولا جدال, لتستجيبوا للأمر..
تخجل رؤية إذ يذكرها كالعادة بجرمها, ينظر إليها أحمد ويبتسم قلقاً..
نظموا حفلاً رائعاً, اكتمل الحضور, من أصدقائهم جميعهم, وبعد انتهائه قال أحمد :
- خفتُ أن ترحلي, لم تفعليها..
- أحمد أنا أحبكَ, ولن أكرر خطأي, أعدك بذلك..
وكأنها طمأنته, يعانقها ويتحدث صمتهما...
*************************
لقد قال – سبحانه -
((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ))
سمعتُها ثم قلتُ, أهكذا إذاً؟ الكل يستطيع قول ذلك, ولكن من يفعلْ؟؟ فقال
(( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ))
آلمني قلبي قليلاً, شعرتُ بوغزٍ لم أستطع تفسير ماهيته, ثم عاندتُ مجدداً, كنتُ قارئة جيدة وقرأتُ الكثير من الأبحاث العلمية ما تثبتُ ذلك, ولكن بدا أنني مستمتعة بالعناد ..
(( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))
هذه وجدتُها مع مالك, آه خرجنا عن أصل الموضوع, عفواً, ولكن إنه مالك, دائماً ما يقتحم حديثي دون استئذان, أعتذر..
(( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ))
إنه يعددُ الأمثلة, نعم إنها آياتٌ للعالِمين, ولكن أنَّى لي أن أكون؟ كلما اهتز قلبي كلما خفتُ ثم تراجعتُ وعاندتُ, هكذا كنتُ دائماً, ولكنه قال :
(( وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ))
ثم ...
(( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ))
هنا توقفتُ, يكفي هذا, لن أعاند ثانية, إنه الله, هو الخالق, هو البارئ, هو الواحد الأحد, إنه القوي القادر, فقلتُها مؤمنة " أنا من القانتين" .. ثم هذه الآية :
(( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))
فسجدتُ... وخشعتْ جوارحي له وبه آمنتُ.. إنه الحق.. إنه النور.. أمازلتم تسائلونني لماذا آمنتُ..
أنهتْ بنان محاضرتها, ثم خرجت إلى مالك الذي ينتظرها أمام القاعة, نظر إليها وابتسم, هذا كل ما يفعله بعد أن تلقي كل محاضرة, يعجز عن الثناء والرد..
تجاوره في السيارة, تغمض عينيها, تدعو الله أن يرزقها الإخلاص, ثم تفتحها على صورته فتبتسم وتقول :
- سأسمي الطفل الأول عبد الله, ما رأيك؟
يبتسم ثم تعانق كفه كفها, ويقطعان الطريق في صمتٍ ليسمحان لأيديهما بالحديث..
تحلم بـ " الجدة التي تمثل سيدة الإمبراطورية بحكاياتها المثيرة, وحكاياتِ زوجها, ولم تكن كذلك سوى بدعمه لها في كل شئ, ومساندته لها, مالك كان دائماً ومازال عند ظن قلبها, لم يخذلها يوماً, ولم ينتقص منها " ..
عوناً له وعوناً لها...






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-15, 12:37 PM   #45

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


تـــــــمــــــــت

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-05-15, 07:08 AM   #46

NIRMEEN30
alkap ~
 
الصورة الرمزية NIRMEEN30

? العضوٌ??? » 283698
?  التسِجيلٌ » Jan 2013
? مشَارَ?اتْي » 1,544
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » NIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond reputeNIRMEEN30 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك mbc4
?? ??? ~
قد تحتاج لساعة كي تفضل احدهم.......و يوما لتحب احدهم.......و لكنك قد تحتاج العمر كله لكي تنسى احدهم
افتراضي

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

NIRMEEN30 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 18-10-15, 01:44 PM   #47

ايمي 2009

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية ايمي 2009

? العضوٌ??? » 141281
?  التسِجيلٌ » Oct 2010
? مشَارَ?اتْي » 825
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond reputeايمي 2009 has a reputation beyond repute
افتراضي



ايمي 2009 غير متواجد حالياً  
التوقيع

GPIC][/SIGPIC
رد مع اقتباس
قديم 30-11-16, 11:07 PM   #48

عبدالسلام احمد

? العضوٌ??? » 384001
?  التسِجيلٌ » Oct 2016
? مشَارَ?اتْي » 344
?  نُقآطِيْ » عبدالسلام احمد is on a distinguished road
افتراضي

رواية جميلة جداجدا

عبدالسلام احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:02 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.