آخر 10 مشاركات
الخلاص - سارة كريفن - ع.ق ( دار الكنوز ) (الكاتـب : امراة بلا مخالب - )           »          كوابيس قلـب وإرهاب حـب *مميزة و ومكتملة* (الكاتـب : دنيازادة - )           »          136 - وجه في الذاكرة - ساره كريفن (الكاتـب : pink moon - )           »          السرقة العجيبة - ارسين لوبين (الكاتـب : فرح - )           »          ♥♥ خـواطـر قلبيــه ♥♥ (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          *** شكرا لكم أيها الحمقى !!!! *** .... (الكاتـب : حكواتي - )           »          حبي الذي يموت - ميشيل ريد (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة(كامله)** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          روزالــــــــــينـــــــــــــــدا ... "مكتملة" (الكاتـب : أناناسة - )           »          إنه انت * مكتملة * (الكاتـب : الكاتبة الزرقاء - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > مكتبات روايتي > منتدى الـروايــات والمسرحـيات الـعـالـمـيـة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22-02-17, 08:52 AM   #71

الحلم

? العضوٌ??? » 1864
?  التسِجيلٌ » Feb 2008
? مشَارَ?اتْي » 501
?  نُقآطِيْ » الحلم is on a distinguished road
افتراضي


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .



الحلم غير متواجد حالياً  
التوقيع
يا عالم بكرة يا حبيبي مخبيلنة ايه يا خوفي بكرة يا حبيبي مشوفكش فيه
رد مع اقتباس
قديم 15-09-17, 07:38 AM   #72

سيلوفينا

? العضوٌ??? » 403030
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 13
?  نُقآطِيْ » سيلوفينا is on a distinguished road
افتراضي

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

سيلوفينا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-11-17, 03:53 PM   #73

hahahoho

? العضوٌ??? » 325229
?  التسِجيلٌ » Sep 2014
? مشَارَ?اتْي » 4
?  نُقآطِيْ » hahahoho is on a distinguished road
افتراضي

Thank you for your survivse

hahahoho غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-01-18, 05:58 PM   #74

ممتاز معتز

? العضوٌ??? » 415546
?  التسِجيلٌ » Jan 2018
? مشَارَ?اتْي » 2
?  نُقآطِيْ » ممتاز معتز is on a distinguished road
افتراضي

أريد تحميل الرواية

ممتاز معتز غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-01-18, 06:03 PM   #75

ممتاز معتز

? العضوٌ??? » 415546
?  التسِجيلٌ » Jan 2018
? مشَارَ?اتْي » 2
?  نُقآطِيْ » ممتاز معتز is on a distinguished road
افتراضي أريد تحميل الرواية أريد تحميل الرواية أريد تحميل الرواية أريد تحميل الرواية أريد تحمي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جيرمون111 مشاهدة المشاركة
الفصل الحادي والعشرون
شجار مؤقت

لو قدر لذلك المنزل الوقور في ريتشموند أن يستحيل مزاراً للأرواح حين أموت , فلا شك أن شبحي سيكون من زائريه . آهٍ لليالي والأيام العديدة التي كانت روحي المعذبة تزور ذلك المنزل حين كانت استيلا تعيش هناك !
ففي داخل المنزل وخارجه , كنت أعاني كل أنواع العذاب الذي تسببه لي استيلا ؛ فطبيعة علاقاتي معها التي وضعتني موضع الألفة بدلاً من موضع التفصيل , كادت تدفعني إلى الجنون . فكانت تستخدمني لمضايقة باقي المعجبين , وكان لها معجبون كثر . كنت أشاهدها غالباً في ريتشموند وتبلغني أخبارها في المدينة , وغالباً ما كنت أصطحبها مع عائلة براندلي التي تقيم معهم للتنزه وحضور المسرحيات والحفلات الموسيقية وحفلات الأنس والسمر وسائر أنواع اللهو , حيث كنت ألاحقها ــ وكان كل ذلك مصدر عذاب وشقاء . ولم أنعم بساع من السعادة بصحبتها , ورغم ذلك فقد بقيت أفكر على مدار الساعة بالسعادة الناجمة عن وجودها معي حتى الممات .
ذات مساء أخبرتني استيلا أن الآنسة هافيشام تود أن تستضيفها ليوم في (( ساتيس هاوس )) , وأن علي اصطحابها إلى هناك والعودة إذا شئت . فوافقت بكل طيبة خاطر , وذهبنا بعد يومين لنجد الآنسة هافيشام في الغرفة حيث رأيتها أول مرة .
كانت هذه أكثر ولعاً باستيلا نحوي بنظرة ثاقبة , وسألتني بتوق حتى على مسمع استيلا : " كيف تعاملك يا بيب , كيف تعاملك ؟ " لكن عندما جلسنا بالقرب من موقدها ليلاً , كانت غريبة للغاية , إذ فيما ظلت تمسك بيد استيلا , جعلتها تذكر أسماء وأحوال الرجال الذين تجتذبهم , وفيما كانت الآنسة هافيشام تصغي باهتمام , جلست تتكئ باليد الأخرى على عصاها وتحدق إلي كالشبح .
استنتجت من ذلك أن استيلا كانت تستخدم لتثأر الآنسة هافيشام من الرجال , وأنها لن تكون من نصيبي إلا حين تثأر لها . واستنتجت من ذلك سبب إبعادي طيلة ذلك الوقت , وسبب رفض وصيي الإقرار بأية معلومات تتعلق بأنها ستكون من نصيبي .
وحدث في هذه الزيارة أن تبادلت استيلا والآنسة هافيشام كلاماً قاسياً , وكان هذه أول مرة أراهما تتعارضان .
كنا نجلس قرب الموقد , والآنسة هافيشام ما تزال تتأبط ذراع استيلا , حين بدأت هذه تسحب يدها تدريجياً .
فقالت الآنسة هافيشام وهي تنظر إليها بحدة : " ماذا ! هل سئمتي ؟ "
أجابت استيلا : " بل سئمت قليلاً من نفسي . " وهي تحرر ذراعها وتتجه نحو المدفأة , حيث وقفت تحد إلى النار .
فصرخت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها بعصبية : " قولي الحقيقة أيتها الجحودة ! لقد سئمتي . "
نظرت استيلا إليها بهدوء تام , ثم حدقت إلى النار ثانية .
فقالت الآنسة هافيشام : " يا لك من جماد وحجر ! يا لقلبك البارد , البارد . "
قالت استيلا : " ماذا ؟ وهل تلومينني لأنني باردة ؟ أنتي ؟ "
فكان الرد العنيف : " ألست كذلك ؟ "
قالت استيلا : " عليك أن تعلمي بأنني كما صنعتني . خذي المديح كله , خذي الملامة كلها , خذي النجاح كله , خذي الفشل برمته , وباختصار خذيني . "
صاحت الآنسة هافيشام بمرارة : " أوه , أنظر إليها , أنظر إليها ! أنظر إليها حيث تربت , كم هي قاسية وجاحدة من رباها ! حيث وضعتها إلى هذا الصدر البائس حين كان ينزف من الطعنات التي أصابته,وحيث أغدقت عليها سنوات من الحنان والعطف."
قالت استيلا : " ماذا تريدين ؟ لقد كنت طيبة جداً معي , وإنني مدينة لك بكل شيء . فما الذي تريدينه ؟ "
أجابت الأخرى : " الحب . "
" لديك إياه . "
قال الآنسة هافيشام : " كلا . "
" والدتي بالتبني , لقد قلت بأنني مدينة لك بكل شيء , كل ما بحوزتي هو لك مجاناً , وكل ما منحتني , لك استرجاعه عند الطلب , وإن سألتني أن أمنحك ما لم تمنحيني إياه , فإن إقراري بالجميل والواجب يتعذر عليه المستحيل . "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تلتفت نحوي بغضب : " ألم أعطها الحب أبداً ! ألم أعطها الحب متقداً , فيما هي تتحدث إلي هكذا ! لتدعوني مجنونة , لتدعوني مجنونة ! "
أجابت استيلا : " ولماذا أدعوك مجنونة أنا من دون سائر الناس ؟ هل من أحد يعرف نواياك نصف ما أعرف ؟ وهل من أحد يعرف ذاكرتك الثابتة نصف ما أعرف ؟ أنا التي جلست بجانب هذا الموقد بالذات أتعلم دروسك وأنظر في وجهك , حين كان وجهك غريباً يخيفني . "
فانتدبت الآنسة هافيشام تقول : " منسية بسرعة ! أحوالي باتت طي النسيان ! "
" كلا , لم تنس , لم تنس , بل هي مخزونة في ذاكرتي . متى وجدتني أخالف تعليماتك ؟ ومتى وجدتني أوافق على ما تعارضين عليه ؟ كوني عادلة معي . " ثم لمست صدرها بيدها .
انتدبت الآنسة هافيشام تقول : " مغرورة جداً , مغرورة جداً . "
قالت استيلا : " من علمني أن أكون مغرورة ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
وزعقت الآنسة هافيشام تقول : " قاسية جداً , قاسية جداً . "
" ومن علمني أن أكون قاسية ؟ ومن كان يمتدحني وأنا أتعلم دروسي ؟ "
صاحت الآنسة هافيشام وهي تمد ذراعيها : " لكن لتكوني مغرورة وقاسية معي . استيلا , لتكوني مغرورة وقاسية معي . "
نظرت استيلا إليها بتعجب هادئ , ثم عادت تنظر إلى النار ثانية . واستقرت الآنسة هافيشام , لست أدري كيف على أرض الغرفة , فانتهزت الفرصة لأغادر الغرفة وأتمشى تحت ضوء النجوم مدة ساعة أو أكثر في الحديقة المهملة . وعندما استجمعت شجاعتي في النهاية لأعود للغرفة , وجدت استيلا تجلس على ركبة الآنسة هافيشام . بعد ذلك لعبت الورق مع استيلا كسابق عهدنا , وبذلك انتقضت الأمسية , فذهبت للنوم.
قبل أن نغادر في اليوم التالي , لم يتجدد الشجار بين الآنسة هافيشام واستيلا , ولم يتجدد في أي مناسبة مماثلة .
يعتذر علي قلب هذه الصفحة من حياتي دون أن أذكر فيها اسم بانتلي درامل , وإلا كنت في منتهى السعادة .
ففي ذات مناسبة , حين كنت أنا وهربرت مجتمعين مع بعض الأصدقاء في نادينا , تراءى لي أنني رأيت بانتلي ينظر باستهزاء نحوي بطريقة مشينة , وما لبث أن عرض على الحاضرين نخب استيلا . سألت : " استيلا من ؟ "
فأجاب درامل : " لا عليك . "
قلت : " استيلا من أين ؟ "
" من ريتشموند أيها السادة , ذات الجمال الفريد . "
فقال هربرت عبر الطاولة بعد أن شُرب النخب : " أعرف تلك السيدة . "
فقال درامل : " حقاً ! "
قلت مضيفاً وقد احمر وجهي : " وكذلك أنا . "
قال درامل : " حقاً ! يا إلهي ! "
أثارت هذه الإهانة غيظي فدعوته بالإنسان الوقح على التجرؤ بشرب نخب فتاة لا يعرف عنها شيئاً , وأفصحت عن استعدادي للمبارزة معه : لكن الحضور قرروا أنه في حال أحضر درامل شهادة من السيدة تفيد أنه يحمل شرف معرفتها , فسيتوجب علي الاعتذار له بصفتي سيداً , نظراً لأنني فقدت صوابي . وفي اليوم التالي جاء درامل يحمل اعترافاً موجزاً بخط استيلا , يفيد أنها حازت شرف الرقص معه عدة مرات , مما لم يترك لي أي خيار سوى الاعتذار له .
يعجز لساني بالتعبير عن الألم الناشئ عن التفكير بأن استيلا تبدي إعجابها بمثل هذا الإنسان الحقير الأخرق . لذا اغتنمت أول فرصة للقائها في حفل في ريتشموند ومفاتحتها حول هذا الموضوع ــ وكان درامل بين الحاضرين .
قلت : " استيلا , أنظري إلى ذاك الرجل في الزاوية لذي ينظر إلينا . "
قالت استيلا : " لماذا أنظر إليه ؟ وما المثير فيه لأنظر إليه ؟ "
قلت : " ذلك السؤال بالذات الذي أريد توجيهه إليك . فما زال يحوم حولك طيلة الليل . "
فأجابت استيلا وهي ترمقه بنظرها : " أن ألعث وسائر المخلوقات الكريهة تحول حول الشمعة المضاءة , فهل يسع الشمعة القيام بشيء ؟ "
" كلا , لكنني أشعر بالخزي يا استيلا إذ تشجعين رجلاً مقيتاً للغاية مثل درامل . رأيتك تمنحينه نظراتك وابتساماتك هذه الليلة بالذات , كما لم تمنحينيها أبداً . "
قالت استيلا : " وهل تريدني إذن أن أخدعك وأوقع بك ؟ "
وهل تخدعينه وتوقعين به يا استيلا ؟ "
" أجل , وبالكثيرين غيره ـ جميعهم ما عداك . ها هي السيدة براندلي مقبلة , لن أقول أكثر من ذلك . "




الفصل الثاني والعشرون
الزيارة المربكة

بلغت الثالثة والعشرين , وكنا تركنا نزل برنارد منذ أكث من سنة وسكنا في (( التامبل )) , وكانت غرفنا في (( الغاردن كورت )) بجانب النهر . وقد دفع العبرحلة لهربرت إلى مرسيليا , فبقيت بمفردي . افتقدت وجه صديقي المرح وعشرته , فجلست أقرأ حتى الحادية عشرة . وما أن أغلقت الكتاب حتى سمعت وقع أقدام على الدرج . حملت قنديل القراءة وخرجت إلى أعلى الدرج .
ناديت وأنا أنظر إلى الأسفل : " يوجد شخص في الأسفل , أليس كذلك ؟ "
" أجل . "
" أي طابق تريد ؟ "
" الأعلى , أريد السيد بيب . "
" ذلك اسمي . "
صعد الرجل , ومن خلال ضوء مصباحي رأيت وجهاً غريباً علي , كان ينظر إلي بتأثر وفرح لرؤيتي .
وفيما حركت المصباح مع إقبال الرجل , تبين لي أنه يرتدي كالمسافرين في البحر.
كان شعره طويلاً رمادي اللون وكان يبلغ نحو الستين من العمر . قوي البنية , وقد اسمر جلده واشتد بسبب تعرضه لعوامل الطقس . ولما صعد الدرجة أو الدرجتين الأخيرتين , رأيته يمد كلتا يديه نحوي . فقلت : " أرجوك ما هو غرضك ؟ "
كرر : " غرضي ؟ " ثم قال : " آه ! أجل . سأشرح غرضي إذا سمحت . "
" وهل تود الدخول ؟ "
فأجاب : " نعم أود الدخول . "
أدخلته الغرفة التي كنت غادرتها لتوي , وطلبت إليه التعريف عن نفسه . نظر حوله بفرح وكأن له نصيباً من الأشياء التي يتطلع إليها , ثم خلع معطفه وقبعته الخشنة ومد يده إلي ثانية , فقلت وأنا أشك تقريباً بأنه مجنون : " ماذا تقصد ؟ "
جلس على كرسي قرب الموقد وغطى جبينه بيديه السمراوتين الكبيرتين , ثم قال وهو ينظر من فوق كتفه : " ما من أحد هنا , أليس كذلك ؟ "
فقلت : " لماذا تسأل هذا لسؤال وأنت غريب جاء إلى منزلي في هذا الوقت من الليل ؟ "
أجاب وهو يهز رأسه إلي بمحبة : " أنت شاب شجاع , إنني مسرور لأنك نشأت شاباً شجاعاً ! لا تسيء إلي , فستندم لاحقاً إن فعلت . "
أقلعت عن نيتي التي أفصح عنها , فقد كنت أعرفه , عرفت المجرم صاحبي , إذ لم يكن بحاجة ليخرج المبرد من جيبه ويريني إياه . لم يكن بحاجة ليتناول المنديل من جيبه ويلفه حول رأسه . تذكرته حتى قبل أن يقدم لي هذه الأدلة . عاد إلى حيث كنت واقفاً , ومد لي ذراعيه مرة أخرى . لم أعرف ماذا أفعل , فمددت له يدي على مضض , فأمسك بهما ورفعهما إلى شفتيه ثم قبلهما , ثم قال : " لقد تصرفت بنبل يا ولدي . بيب النبيل ! ولم أنس ذلك أبداً . "
كان على وشك أن يغمرني , لكنني أبعدته وقلت : " إبق بعيداً ! إن كنت ممتناً لما فعلته عندما كنت طفلاً صغيراً , فحبذا لو أظهرت امتنانك بتقويم سبيلك في الحياة . إنك مبتل وتبدو مرهقاً , هل تشرب شيئاً قبل رحيلك ؟ "
قال بلى , فحضرت له بعض الرم والماء الساخن وقدمته إليه , فوجدت لدهشتي عيناه مغرورغتان في الدموع . لانت مشاعري حيال ذلك فأسرعت أسكب لنفسي بعض الشراب , وقلت له : " آسف لأنني تحدثت إليك بخشونة الآن . آمل أن تكون سعيداً وعلى ما يرام . كيف تعيش ؟ "
فقال : " اشتغلت بتربية الخراف وتربية الماشية , إلى جانب بعض التجارة , بعيداً في العالم الجديد . "
" وهل حققت النجاح كما آمل ؟ "
" لقد حققت نجاحاً باهراً . "
" يسرني سماع ذلك . "
" هل لي أن أتجرّأ بسؤالك كيف حققت النجاح منذ تقابلنا في المستنقعات ؟ "
بدأت أرتجف , وحملت نفسي على إخباره بأنه قد تم اختياري لوراثة إحدى الممتلكات .
" هل لي أن أسأل ممتلكات من ؟ "
" لست أدري . "
" هل لي أن أخمن مقدار دخلك بعد أن بلغت الحادية والعشرين ؟ والآن بالنسبة للرقم الأول , خمسة ؟ وبالنسبة للوصي , لعله أحد المحامين . والآن إلى أول حرف من اسم المحامي هو حرف ( ج ) ؟ لعله جاغرز ؟ "
ثم أخبرني لدهشتي بأنه هو المحسن إلي , وأنه عبر البحر إلى بورتسماوث وحصل على عنواني من ويميك . لقد جعل مني سيداً ! لقد عاش حياة خشنة كي أعيش حياة رقيقة . وعمل بجد كي أترفع عن العمل .
ركع أمامي ودعاني ابنه , لقد عمل راعياً مأجوراً وأقسم أن كل جنيه يكسبه سيكون لي . ثم توفي سيده وترك له المال , فحظي بالحرية وعمل لحسابه فاغتنى وجعل مني سيداً .
وضع يده على كتفي , فارتجفت للفكرة التي أعرفها جيداً , فلعل يده ملطخة بالدم .. ثم سألني : " أين ستضعني ؟ يجب أن أُوضع بمكان ما يا ولدي . "
قلت : " ألتنام ؟ "
أجاب : " أجل , لأنام طويلاً وبارتياح,فقد تقاذفني البحر وأرهقني شهوراً طويلة. "
قلت : " إن صديقي وشريك منزلي غائب , عليك بغرفته . "
" لن يأتي غداً , على ما أرجو . "
قلت : " لا , لن يأتي غداً . "
" أنظر يا بني العزيز , أقول هذا لأن الحذر ضروري . "
" وماذا تقصد بالحذر ؟ "
" إنه الموت , لقد حكم علي بالسجن مدى الحياة , والموت هو لمن يعود . "
كان همي الأول إغلاق مصاريع النوافذ لكي لا يتسرب الضوء من الداخل , ثم إغلاق الأبواب وإقفالها . فأعرته بعض البياضات , وآوى إلى الفراش .
جلست بجانب الموقد أخشى الذهاب إلى فراشي , وبقيت ساعة أو أكثر في ذهول لا أستطيع التفكير ؛ ولم أدرك تماماً , إلا حينما بدأت التفكير , كم كنت محطماً , وأن السفينة التي أبحرت على متنها أصبحت أشلاء . "
نوايا الآنسة هافيشام نحوي , مجرد حلم , استيلا لم تكن من نصيبي ؛ فلم يبق لي سوى المعاناة في (( الساتيس هاوس )) لمثابة جزاء لعلاقات الجشع . تلك كانت أولى الآلام التي عانيت منها . لكن الألم الأشد والأعمق كان أنني هجرت جو وبيدي من أجل المجرم المتهم بجرائم لا أعرفها , والمعرض للشنق .


الفصل الثالث والعشرون
الحقيقة البغيضة
أمضيت ليلة مفعمة بالقلق وأنا أغط قبالة الموقد .استيقظت في السادسة ثم سهوت ثانية وغرقت بنوم عميق , أيقظني منه ضوء النهار بإجفال . اغتسلت وارتديت ملابسي وجلست قرب الموقدة أنتظر قدومه لتناول الفطور .
وما لبث أن فتح الباب ودخل , لم أستطع حمل نفسي على تحمل مظهره , وبدا لي أن مظهره أسوأ من ضوء النهار . أخبرني بأنه انتحل اسم بروفيس على متن الباخرة , ولكن اسمه الحقيقي هو آبل ماغويتش .
بعد الفطور ـ وقد تناول طعامه بشراهة ـ راح يدخن غليونه , ثم أخرج محفظة مكتنزة من جيبه تعج بالأوراق المالية , وألقى بها على الطاولة .
" هناك ما يستحق الإنفاق في هذه المحفظة , يا ولدي العزيز . إنه لك . إن كل ما بحوزتي ليس لي , بل هو لك . "
فقلت : " أود التحدث إليك . أود معرفة ما ينبغي القيام به . أود معرفة السبيل إلى تجنيبك الخطر . "
قال : " حسناً يا ولدي العزيز , الخطر ليس بكبير , إلا إذا وشى أحدهم بي . "
" وكم ستبقى هنا ؟ "
" كم سأبقى ؟ لست بعائد , لقد جئت لأبقى هنا . "
قلت : " وأين ستقيم ؟ وماذا نفعل بك ؟ أين ستكون آمناً ؟ "
أجاب : " يا بني , هناك شعور مستعارة للتنكر , ومساحيق للشعر ونظارات وملابس سودء ـ أما بالنسبة إلى أين وكيف سأعيش , فأعطني رأيك . "
بدا لي بأنني لن أستطيع سوى أن أجد له مسكناً هادئاً يمتلكه بالجوار حين يعود هربرت الذي أتوقع رجوعه بعد يومين أو ثلاثة , أما الإفضاء بالسر إلى هربرت , فكان أمراً واضحاً بالنسبة لي .
أقنعت بروفيس أن يتخذ لباس مزارع غني , وتدبرنا أن يحلق شعره قصيراً مع إضافة بعض المسحوق عليه . وكان عليه الابتعاد عن أنظار خدمي إلى أن يتم تجهيز ملابسه .
كنت محظوظاً حين أمنت له الطابق الثاني من مبنى محتوم للسكن في الجوار , ورحت أنتقل من متجر لآخر أشتري الملابس الضرورية , فارتداها في اليوم التالي . لكن مهما كانت الثياب التي يرتديها , فقد كات أقل ملاءمة مما كان يرتديه في السابق . وباعتقادي , فإن فيه شيئاً ما يجعل من محاولة إخفاء ملامحه أمراً يائساً . فقد كان يجر أحد ساقيه وكأنها ما تزال مثقلة بالحديد . زد على ذلك , فإن عيشة الأكواخ المنعزلة التي قضاها سابقاً أضفت عليه جواً من الفضاضة يتعذر على الثياب تلطيفه , وفي كل طرقه بالجلوس والأكل والشرب كانت هناك شخصية السجين والمجرم واضحة أشد وضوح .
كنت أتوقع وصول هربرت طول الوقت , ولم أكن أجرؤ على الخروج إلا حين أصطحب بروفيس للتنزه بالهواء الطلق بعد حلول الظلام , وأخيراً سمعت ذات يوم خطوات هربرت السارة على السلم , جاء باندفاع مفعماً بالنشاط من رحلته إلى فرنسا .
" هاندل , يا عزيزي , كيف حالك , وكيف حالك من جديد ؟ يبدو كأنني تغيبت طوال سنة كاملة ! لا شك في ذلك , فقد غدوت في غاية الشحوب والنحول ! هاندل , يا ـ هالو ! عفواً . "
قلت وأنا أغلق الباب : " هربرت , يا صديقي العزيز , لقد حدث شيء غريب جداً .هذا أحد زواري . "
تقدم بروفيس يمسك بانجيل أسود صغير أخرجه من جيبه وقال : " لا عليك يا عزيزي . أمسكه بيدك اليمنى . قتلك الله على الفور إن خدعتني . قبله . "
فقلت لهربرت : " إفعل ذلك , كما يريد . " فأذعن هربرت وهو ينظر إلي بدهشة وقلق حميم . ثم جلسنا جميعاً قرب الموقد , وأفضيت بالسر كاملاً .
جلسنا حتى وقت متأخر , وحل منتصف الليل قبل أن أصطحب بروفيس إلى مسكنه وأطمئن عليه . وحين أغلق الباب وراءه , شعرت بأول لحظة ارتياح عرفتها منذ ليلة وصوله .
حين عدت إلى شقتي , جلست مع هربرت للبحث بالسؤال التالي : ماذا ينبغي القيام به ؟ فقلت : " هربرت , لابد من القيام بعمل ما , فهو مصمم على مصاريف جديدة شتى , جياد وعربات وغيرها من الأمور الباهظة . لا بد من إيقافه بطريقة ما . "
" تعني أنه لا يسعك أن تقبل . "
فقاطعنه حين تمهل وقلت : " وكيف يسعني ذلك ؟ تصور ! أنظر إليه ! تصور الحياة التي عاشها ! "
سرت بنا رعشة , وقلت : " لكنني أخشى يا هربرت أن الحقيقة البغيضة هي أنه مرتبط بي , مرتبط بي بشدة . هل هناك ما يشبه هذا الحظ ! ثم تصور كم أنا مدين له . إني مثقل بالدين ـ وهو دين ثقيل جداً علي , في وقت ليست لدي فيه أية آمال ـ ولم أُعَدُّ لأي مهنة , ولا أصلح لشيء باستثناء أن أكون جندياً . "
أجاب هربرت : " الجندية لن تفيد .. لأنك لن تستطيع أن تسدد دينك له , ثم إنها شيء تافه , لعلك تكون أفضل بكثير في مؤسسة كلاريكر , رغم صغرها . إنني أعمل كي أصبح شريكاً , كما تعلم . "
يا لصاحبي المسكين ! فليس لديه أدنى علم بمال من . ثم تابع هربرت يقول : " لكن الأمر الأول والأساس الذي يجب القيام به هو إخراجه من إنكلترا . سيكون عليك الذهاب معه , ومن ثم يصار إلى إقناعه بالذهاب . "
جاء في اصباح التالي لتناول الفطور , فسألته أن يخبرنا المزيد عن نفسه وعن المجرم الآخر الذي تعارك معه في المستنقعات .
وافق على ذلك بعد أن ذكّر هربرت بأنه ملزم باليمين الذي أقسمه بكتمان السر , وهذا باختصار ما أخبرنا به : " لا أذكر أين ولدت أكثر مما تذكران , كان أول عهدي بنفسي في إسكس , أسرق اللفت لأعيش . لم يرني أحد جائع رث الثياب إلا وطردني أو ألقى القبض علي . أدخلت السجن عدة مرات حتى اعتدت عليه , فعشت فعلياً في السجن . مارست التسكع والتسول والسرقة , وعملت أحياناً حين كان يتاح لي , سارقاً للطيور والدواجن مرة أخرى , وعاملاً كادحاً بمناسبة أخرى , ثم صائداً للطيور بواسطة الصقر , وفي أمور أخرى لا تكسب بل تؤدي إلى متاعب ـ حتى بلغت سن الرجولة .
ثم في سباق إبسوم , منذ أكثر من عشرين سنة , تعرفت على رجل لو عثرت عليه لحطمت رأسه بهذا القضيب . اسمه الحقيقي كومبيسون , ذلك هو الرجل يا عزيزي بيب , الذي شاهدتني أتعارك معه في المستنقعات . حاول كومبيسون هذا أن يكون سيداً , والتحق بمدرسة حكومية داخلية حيث تلقى التعليم . كان لطيفاً في حديثه وبهي الطلعة أيضاً . أقنعني بأن نتشارك في نشاطه بالاحتيال والتزوير وتسريب الأموال المسروقة , إلى ما شابه ذلك . فكافة أنواع الحيل التي يدبرها رأسه , دون أن يقع في أسرها وينال فيها الأرباح فيما يدخل غيره السجن بسببها ـ تلك كانت أعمال كومبيسون , لم يكن لديه قلب أكثر من مبرد حديد , وكان بارداً كالموت , وحاذقاً كالشيطان .وسرعان ما انهمكنا بالعمل , واستدرجني لشباكه لأعمل عبداً له.
كنت مديناً له على الدوام , وكنت أعمل رهن إشارته , وأشتغل لصالحه وأعرض نفسي دائماً للخطر . في نهاية الأمر , ألقي القبض علينا بتهمة تسريب الأموال المسروقة , إضافة إلى تهم أخرى سابقة . لكن المحلفون أوصوا بالرأفة بـ كومبيسون نظراً لحسن سلوكه ورفقته السيئة , والتخلي عن كافة المعلومات التي كانت ضدي . فحكم عليه بالسجن سبع سنوات , وأنا حكم علي بأربعة عشر سنة .
كنا في سفينة الاعتقال ذاتها , لكنني لم أستطع الوصول إليه لمدة طويلة , رغم محاولتي ذلك . أخيراً جئت خلفه وضربته على خده لأديره وأنهال عليه بضربة ساحقة ، حين رأوني وألقوا القبض علي , تدبرت أمر الهروب من السفينة واختبأت وسط القبور بالقرب من الشاطئ , وهناك شاهدت فتاي للمرة الأولى !
ومنك يا بني علمت أن كومبيسون طليق أيضاً في المستنقعات . أظن أنه فر خوفاً مني دون أن يعلم بأنني خرجت إلى الشاطئ , فطاردته حتى ألقيت به أرضاً وهشمت وجهه . لم أهتم لنفسي , بل قررت جره إلى سفينة الإعتقال كأسوأ تدبير ألحقه به , حين قدم الجنود وقبضوا علينا سوياً , قُيِّدت بالحديد وجرت محاكمتي ثانية , فحكم علي بالسجن مدى الحياة , لم أبق هناك مدى الحياة يا ولدي العزيز ويا صديق بيب العزيز , فها أنذا . "
سألت بعد فترة صمت : " هل توفي ؟ "
" كن على يقين بأنه يأمل أن أكون أنا الذي توفيت , هذا إن كان على قيد الحياة . لم أسمع عنه شيئاً أبداً . "
كان هربرت يكتب على غلاف كتاب , فدفعه خلسة نحوي فيما وقف بروفيس يدخن وعيناه تحدقان بالنار , فقرأت ما يلي :
" كومبيسون هو الذي تظاهر بأنه عشيق الآنسة هافيشام . "
أغلقت الكتاب وهززت رأسي لهربرت , لكننا لم نتفوه بأي كلمة , ورحنا ننظر إلى بروفيس وهو يدخن قرب الموقدة .




الفصل الرابع والعشرون
الخطوة المميتة

قررت أن أرى استيلا والآنسة هافيشام أن أسافر مع بروفيس إلى الخارج . فذهبت إلى ريتشموند في اليوم التالي , لكن الخادمة أخبرتني بأن استيلا ذهبت إلى ساتيس هاوس .
انطلقت باكراً في الصباح التالي إلى المدينة , وحين وصلت العربة إلى البلو بور , رأيت بنتلي درامل خارجاً , وانزعجت كثيراً لرؤيته في المدينة لأنني أدرك تماماً سبب مجيئه إلى هناك .
دخلنا المقهى معاً , حيث انتهى من فطوره وطلبت فطوراً لي . كان لقاء مزعجاً للغاية , استدعى النادل وقال له : " هل حصاني جاهز ؟ "
" جيء به إلى الباب سيدي . "
" أنظر , إن السيدة لن تركب اليوم , فالطقس غير مناسب . "
" حسناً , سيدي . "
" ولن أتناول الغداء هنا لأنني سأتغذي لدى السيدة . "
" حسناً سيدي . "
ثم رمقني درامل بنظرة , وبدا على وجهه تعبير انتصار أصابني في الصميم . ولم يخيم علي الارتياح إلا حين خرج .
اغتسلت وارتديت ملابسي وذهبت إلى ساتيس هاوس , كانت الآنسة هافيشام جالسة قرب الموقدة , فيما كانت استيلا تجلس على وسادة عند قدميها وهي تعمل بالصوف.
أخبرت الآنسة هافيشام أنني اكتشفت هوية المحسن إلي , فاعترفت بأنها جعلتني أقع في اعتقاد أنها هي المحسنة إلي , قلت : " هل كان ذلك لطيفاً ؟ "
فصاحت الآنسة هافيشام وهي تضرب الأرض بعصاها وتثور غضباً على حين غرة : " من أنا , من أنا , بالله عليك , لأكون لطيفة ؟ "
ثم التفتُّ إلى استيلا قائلاً : " استيلا , تعلمين بأنني أحبك , تعلمين بأنني أحببتك كثيراً منذ زمن بعيد . "
رفعت عينيها إلي لدى مخاطبتها هكذا , لكن أصابعها تابعت الشغل بالصوف ونظرت إلي بهدوء . فقلت : " كان علي أن أقول ذلك من قبل , لولا أخطائي طويلاً بالاعتقاد أن الآنسة هافيشام كانت تنوي تزويجنا من بعض , وفيما اعتقدت أنك لن تقوي على مساعد نفسك,فقد أحجمت عن البوح بذلك,لكن علي أن أقول ذلك الآن. "
هزت استيلا رأسها , فيما بقيت على هدوئها تتابع الشغل بالصوف .
" أعرف , أعرف بأن لا أمل لي باعتبارك من نصيبي يا استيلا . ما زلت أحبك . أحببتك منذ رأيتك في هذا البيت لأول مرة . "
نظرت إلي بهدوء تام فيما تابعت أصابعها العمل , وهزت رأسها ثانية ثم قالت بهدوء : " يبدو أن هناك عواطف لا أستطيع فهمها . فحين تقول أنك تحبني , أعرف ما الذي تعنيه لجهة التعبير , لكن ليس أكثر من ذلك . فأنت لا تخاطب شيئاً في صدري , ولا تلامس شيئاً هناك . إنني لا أكترث بأي شيء تقوله . حاولت أن أنذرك بهذا , أليس كذلك ؟ "
فقلت بلهجة تعيسة : " بلى . "
" بلى , لكنك لم تتعظ , اعتقاداً منك بأنني لا أعني ما أقول , والآن ألم تعتقد ذلك ؟"
" اعتقدت وكان أملي بألا يكون ذلك قصدك , فأنت صغيرة , وغير مجربة , وجميلة . استيلا ! ليس ذلك في الطبيعة , لا شك . "
" إنه من طبيعتي , إنه من الطبيعة التي تكونت بداخلي . "
ثم سألتها إن كانت حقاً تستحث بانتلي درامل , وتركب الجياد برفقته , وإن كان سيتناول الغداء معها في ذلك النهار بالذات .
لم تندهش كثيراً لمعرفتي بذلك , بل أجابت تقول : " هذا صحيح . "
" لا يمكن أن تحبينه يا استيلا ! "
" ماذا قلت لك ؟ هل ما زلت تعتقد , رغم ذلك بأنني لا أعني ما أقول ؟ "
" لن تتزوجينه أبداً يا استيلا . "
نظرت استيلا نحو الآنسة هافيشام , ثم تأملت لحظة وشغل الصوف يديها , وقالت : " ولم لا أخبرك بالحقيقة ؟ فأنا سأتزوجه . "
وضعت وجهي بين يدي , لكنني استطعت تمالك نفسي أكثر مما توقعت , نظراً لعذابي الذي سببه سماعي الكلمات التي قالتها .
" استيلا , عزيزتي , عزيزتي , لا تدعي الآنسة هافيشام تدفع بك إلى هذه الخطوة المميتة . ضعيني جانباً إلى الأبد ـ وقد فعلت ذلك , أعرف هذا جيداً ـ لكن امنحي نفسك لشخص يستحقك أكثر من درامل . فالآنسة هافيشام تمنحك له كأعظم إهانة وتجريح يصيب رجالاً أفضل منه ممن هم معجبون بك , ويصيب القلة الذين يحبونك . "
قالت بصوت ألطف : " سوف أتزوجه , فالتحضيرات لزفافي قيد الإنجاز , وسأتزوجه في القريب العاجل . لماذا تذكر اسم والدتي بالتبني بأسلوب التجريح ؟ أنا التي قمت بذلك . "
" قمت بذلك يا استيلا , لترمي بنفسك على شخص متوحش ؟ مثل هذا المتوحش الحقير الأحمق . "
فقالت استيلا : " لا تخشى أن أكون نعمة عليه . فلن أكون كذلك . اقترب ! هذه يدي , فهل نفترق على ذلك أيها الفتى ـ أو الرجل ـ الخيالي ؟ "
أجبتها ودموعي المريرة تتدفق عل يديها : " أوه يا استيلا , كيف أستطيع أن أراك زوجة درامل ؟ "
أجابت : " هراء هراء , فهذا سيزول بلمح البصر . "
" أبداً يا استيلا . "
" ستخرجني من أفكارك في أسبوع . "
" من أفكاري ! بل أنت جزء من وجودي , جزء من نفسي . أوه , ليباركك الله , ليسامحك الله ! "
انتهى كل شيء ومضى ! انتهى الكثير وولى , حتى أنني حين خرجت من البوابة , بدا ضوء النهار أغمق لوناً مما كان عندما دخلت . سرت الطريق كله إلى لندن , إذ لم أستطع العودة إلى المنزل ورؤية درامل . ولم أستطع تحمل الجلوس في العربة ليوجه إلي الحديث .
كان الوقت تجاوز نصف الليل حين عبرت جسر لندن . وحين وصلت بوابة منزلي , سلمني الحارس الليلي ورقة وأخبرني أن حامل الرسالة الذي جاء بها يرجوني قراءتها على ضوء القنديل .
أخذت الرسالة وقد دهشت كثيراً لهذا الطلب . فتحتها فيما كان الحارس يمسك بقنديله , وقرأت ما بداخلها بخط ويميك : " لا تذهب إلى البيت . "


الفصل الخامس والعشرون
تدابير السلامة


استأجرت عربة واتجهت إلى فندق في (( كوفنت غاردن )) حيث أمضيت الليلة هناك . وباكراً في الصباح التالي , ذهبت لرؤية ويميك في منزله . رحب بي وشرح لي السر . فقد سمع في سجن نوغايت أن بروفيس هو عرضة للشك , وأن شقتي في الغاردن كورت وضعت قيد المراقبة , فاعتبر أن من الضروري إعلامي بذلك , واكتشف كذلك أن كومبيسون كان في لندن , فرأى أن من الأسلم أن يبقى بروفيس مختبئاً في لندن بعض الوقت , وألا يحاول السفر قبل أن يخف البحث عنه . وحين لم يجدني في المنزل , ذهب إلى هربرت لدى كلاريكر واتفقا بينهما على تدابير مرضية لتأمين سلامة بروفيس , فأسكنوه مؤقتاً في طابق أعلى مفروش قرياً من النهر حيث تسكن كلارا صديقة هربرت مع والدها المريض . كانت خطة جيدة , كما أخبرني ويميك لأسباب ثلاث . أولاً , المنزل بعيد عن مسكني , ولن يبحث أحد ني هناك . ثانياً , يمكنني الاطمئنان على سلامة بروفيس من خلال هربرت , دون الذهاب إلى هناك شخصياً . ثالثاً , حين يصبح من الأمان نقله على متن سفينة أجنبية , فسيكون هناك على أتم الاستعداد .
جعلني ذلك أشعر بسعادة أكثر , فشكرت ويميك مراراً وتكراراً , ثم نصحني بالبقاء في منزله إلى أن يحل الظلام , وتركني أستمتع برفقة والده العجوز .
وحين حل الظلام , خرجت أبحث عن مكان يسمونه : (( ميل بوند بانك )) . وبعد أن ضللت الطريق عدة مرات اهتديت إليه بالصدفة . قرعت الباب ففتحت لي الباب امرأة مسنة بهية الطلعة , وما لبث أن جاء هربرت واصطحبني بصمت إلى غرفة الستقبال , ثم قال : " كل شيء على ما يرام يا هاندل , وهو راضٍ جداً رغم توقه لرؤيتك , فتاتي العزيزة مع والدها ( سمعته يصيح في الطابق الأعلى ) ؛ فإن انتظرت حتى تهبط فسأعرفك عليها , ثم نصعد إلى بروفيس . "
وفيما نحن نتحدث بنبرة هادئة , انفتح باب الغرفة ودخلت فتاة نحيلة جميلة للغاية , سوداء العينين , تبلغ نحو العشرين , تحمل سلة بيدها . أخذ هربرت منها السلة بحنان وقدمها لي باسم كلارا .
قال : " أنظر , ها هو عشاء كلارا , يقدمه والدها كل ليلة . فهو يصر على الاحتفاظ بجميع المؤن في غرفته وتقديمها بنفسه . "
كان بروفيس يسكن في غرفتين في الطابق الأعلى , فلم يعبر عن أي خوف ولا ظهر أنه يشعر بذلك , أخبرته كيف سمع ويميك في سجن نيوغايت بأ الشكوك تحوم حوله , وأن شقتي مراقبة , وأن ويميك نصح بإخفاءه لبعض الوقت , وببقائي بعيداً . وأضفت أنه عندما يحين موعد سفره , فسأذهب معه أو أتبعه عن كثب , حسب ما تقتضيه السلامة .
ثم قدم هربرت اقتراحاً جيداً , فقال : " كلانا يجيد قيادة المراكب يا هاندل ويمكننا عبور النهر عندما يحين الوقت المناسب . ألا تعتقد أن من الأفضل لو بدأنا الآن بالاحتفاظ بقارب ومارسنا عادة التجذيف في النهر ذهاباً وإياباً ؟ وحين تكون لك تلك العادة , من سيلاحظ أو يكترث بذلك ؟ "
أعجبتني خطته , وكذلك بروفيس , فاتفقنا على تنفيذها . كما اتفقنا على أن يسدل بروفيس ستارة نافذته المشرفة على النهر كلما رآنا قادمين في قاربنا وأن الأمور تسير بشكل صحيح . ثم تمنينا له ليلة سعيدة وغادرناه .
حين استأذنت مغادراً الفتاة اللطيفة الجميلة ذات العينين السوداوين , والمرأة الحنونة التي تعيش في بيتها , فكرت باستيلا وبفراقنا , فذهبت إلى البيت في حزن عميق .
حصلت على القارب في اليوم التالي , فجيء به إلى سلم التامبل , وأرسي بحيث أستطيع الوصول إليه خلال دقيقة أو دقيقتين . ثم بدأت أخرج للتدب والتمرين , بمفردي أحياناً , وأحياناً برفقة هربرت , فلم يلاحظني أحد كثيراً بعدما خرجت بضعة مرات . في البداية , لم أجذف بعيداً , لكن سرعان ما رحت أبتعد إلى ميل بوند بانك . وكان هربرت يرى بروفيس ثلاث مرات على الاقل في الأسبوع , ولم يحمل إلي أية أخبار مقلقة . لكنني بقيت أعلم بأن هناك سبب للخوف , ولم يسعني التخلص من فكرة أنني مراقباً , إنما لم يكن بالمستطاع فعل شيء , سوى انتظار إشارة من ويميك .


الفصل السادس والعشرين
منذ عشرين سنة
في أحد الأيام بينما كنت أمشي ببطء قبل الغداء , التقيت بالسيد جاغرز ودعاني لتناول الغداء معه في منزله في شارع جيرارد . كنت على وشك الاعتذار عندما قال أن ويميك سيأتي , قبلت الدعوة وذهبنا سوياً إلى مكتبه حيث أنهى عمل اليوم , ثم اصطحبنا ويميك واستقلينا عربة إلى منزل السيد جاغرز .
ما أن وصلنا هناك حتى قدم الغداء . فلفتت انتباهي مدبرة المنزل , امرأة في الأربعين , وكنت قد رأيتها في منزل جاغرز في زيارة سابقة . كانت طويلة في غاية الشحوب , ولها عينان كبيرتان متعبتان , وشعر غزير كثيف . في هذه المناسبة , كانت تضع طبقاً على الطاولة عند كوع سيدها حين خاطبها هذا قائلاً أنها بطيئة . لاحظت حركة من أصابعها حين تكلمت معه . كانت حركة تشبه الحياكة , وقفت تنظر إليه وهي لا تدرك إن كان عليها الذهاب أو أن لديه مزيداً يقوله لها . كانت نظرتها متلهفة , ولم أشك تماماً بأنني شاهدت مثل هاتين العينين وهاتين اليدين , وفي مناسبة جرت مؤخراً أذكرها جيداً .
صرفها فانسلت خارج الغرفة , لكن صورتها بقيت أمامي بوضوح وكأنها ما تزال بشخصها هناك . نظرت إلى تلك اليدين , نظرت إلى تلك العينين , نظرت إلى الشعر الغزير , وقارنتها بعينين ويدين وشعر آخر أعرفه , وبما يمكن لهذه أن تكونه بعد عشرين سنة مع زوج متوحش وحياة عاصفة . فشعرت تمام اليقين أن تلك الفتاة هي والدة استيلا .
بعد انتهاء الغداء , استأذنت مع ويميك بالخروج باكراً وغادرنا سوياً . وفي الطريق , استوضحت من ويميك ما يعرفه عنها . وهذا ما أخبرني به : " منذ نحو عشرين سنة , اتُّهمت هذه المرأة بالقل ثم بُرئت ساحتها . كانت صبية في غاية الجمال , وأعتقد أن دماً غجرياً يجري في عروقها . دافع السيد جاغرز عنها في المحكمة وتولى القضية بشكل مذهل . كانت القتيلة امرأة تكبرها بعشر سنوات , وتفوقها قوة بكثير . كانت مسألة غيرة . وكان سبق لهذه المرأة أن تزوجت في سن مبكرة من رجل متسكع . وجدت القتيلة في حضيرة ماشية , حيث حصلت مقاومة عنيفة أو ربما قتال , وأصيبت بالكدمات والخدوش والتمزيق , ثم أمسك برقبتها أخيراً وخنقت .
أما المتهمة فقد أصيبت بكدمة أو اثنتين , لكن ظهري كفيها كانا ممزقين , والسؤال هو : هل حصل ذلك بالأظفار ؟ لقد أظهر السيد جاغرز أنها عبرت طريقاً شاقاً عبر أشواك كثيرة , وبالفعل فقد عثر على أشواك عالقة في جلدها . كانت النقطة الأشد التي أتى بها هي التالية . فقد اشتبهوا كثيراً بأنها عمدت في الوقت الذي حصلت به الجريمة إلى قتل طفلتها من ذلك الرجل ـ البالغة من العمر ثلاث سنوات ـ لكي تنتقم منه , فقال اسيد جاغرز في معرض الدفاع عنها : " لستم تحاكمونها لأنها قتلت طفلتها , لم لا تفعلون ذلك ؟ " وعلى العموم , فقد برع السيد جاغرز على هيئة المحلفين فرضخوا له . "
" وهل هي تعمل لديه منذ ذلك الحين ؟ "
قال ويميك : " أجل . "
فسألته : " هل تذكر جمبس الطفل ؟ "
" قيل إنها فتاة . "
تبادلنا تحية المساء , وذهبت إلى المنزل بمادة جديدة لأفكاري , رغم أنني لم أسترح من الأفكار القديمة بعد .
كانت الآنسة هافيشام قد بعثت إلي برسالة صغيرة تفيد بأنها تود أن أجتمع بها بشأن قضية عمل ذكرتها لها . فذهبت في اليوم التالي إلى ساتيس هاوس . أما القضية المشار إليها فهي تتعلق بهربرت . وقد سبق وأن أخبرتها بأنني أريد مساعدو صديق , لكنه لم يعد بوسعي متابعة ذلك لأسباب علي التكتم بها . فسألتني عن مقدار المبلغ الذي أحتاجه , فقلت : " تسعمائة جنيه . "
فسألتني : " وهل يطمئن فكرك أكثر لو أعطيتك المال لهذه الغاية ؟ "
" سيطمئن أكثر بكثير . "
فكتبت إيعازاً إلى السيد جاغرز بأن يدفع لي المبلغ المطلوب . كانت شديدة الندم للتعاسة التي سببتها لي , فشدت على يدي وبكت فوقها , ثم صاحت بيأس : " آه , ما الذي فعلته ! ما الذي فعلته ! "
" إن كنت تقصدين ما فعلته في أذيتي , دعيني أجيب : فعلت القليل القليل . فقد كنت سأحبها مهما كانت الظروف , وهل تزوجت ؟ "
" أجل . "
لم يكن السؤال ضرورياً , فالوحشة المستجدة في المنزل الوحش أخبرتني بذلك . ثم قالت : " لو تعرف قصتي , لأشفقت علي , وتفهمتني . "
أجبتها : " أعرف قصتك يا آنسة هافيشام , وقد أثارت حزني العميق . هل لي أن أسألك عن طفولة استيلا ؟ ابنة من هي ؟ "
هزت برأسها
" ألا تعرفين ؟ "
هزت برأسها .
" لكن هل السيد جاغرز هو الذي أحضرها إلى هنا أم أرسلها إلى هنا ؟ "
" أحضرها إلى هنا . "
" هل لي أن أسأل كم كان عمرها آنذاك ؟ "
" سنتان أو ثلاثة , شخصياً إنها لا تعرف شيئاً , سوى أنها تُركت يتيمة فتبنيتها . "
اقتنعت تماماً بأن تلك المرأة هي والدتها , ولم يعوزني دليل لترسيخ هذه الحقيقة في ذهني .
لم أكن آمل تحقيق المزيد من تمديد الزيارة ؟ فقد نجحت في مسعاي من أجل هربرت , كما أن الآنسة هافيشام أخبرتني بكل ما تعرفه عن استيلا , وهكذا افترقنا.




الفصل السابع والعشرون
غيرة وانتقام
قام هربرت بعدة زيارات إلى المنزل المحاذي للنهر حيث تقيم كلارا مع والدها بروفيس . في إحدى الأمسيات , أخبرني قائلاً : " جلست مع بروفيس ساعتين في الليلة الماضية يا هاندل . أخبرني لبمزيد عن حياته . فتحدث عن امرأة كانت له معها مشكلة كبيرة . كانت فتاة غيورة وتحب الانتقام إلى أقصى درجة يا هاندل . "
" إلى أي درجة ؟ "
" القتل . "
" كيف قتلت ؟ ومن ؟ "
" امرأة أخرى أقوى منها , في حظيرة ماشية , حيث جرى عراك ووجدت الضحية مخنوقة , دافع السيد جاغرز عن القاتلة , وكان لشهرة هذا الدفاع من اسمه معروفاً بالدرجة الأولى لدى بروفيس . "
" وهل أدينت المرأة بالجرم ؟ "
" كلا , بل برئت ساحتها . ورزقت الصبية المبرئة وبروفيس طفلة صغيرة كان بروفيس مولعاً بها كثيراً . وعشية تلك الليلة بالذات حين خنقت التي كانت تثير غيرتها , جاءت الصبية إلى بروفيس وأقسمت أنها ستقتل الطفلة , وأنه لن يراها ثانية , ثم اختفت . "
" وهل نفذت المرأة قسمها ؟ "
" بالطبع يا ولدي لقد قال كل ذلك . عانت والدة الطفلة مدة خمس سنوات من الحياة الأليمة التي وصفها لنا , ويبدو أنه سعر بالإشفاق عليها , لذا فخشية أن يستدعى للشهادة بشأن الطفلة المقتولة ويكون سبباً في موت الأم , فقد أخفى نفسه بعيداً عن الناس وعن المحاكمة , ولم يتطرق الناس إلى ذكره سوى بأنه رجل يدعى آبل كان مثاراً للغيرة . لكنها اختفت بعد تبرئتها , وهكذا فقدت الطفلة ووالدتها . أما الشرير كومبيسون , فحين علم بأنه متخف حين ذاك , وبالأسباب التي تدفعه لذلك , احتفظ بالمعلومات كوسيلة لإفقاره وتشغيله في الأعمال المضنية . "
" وهل أخبرك متى حدث ذلك ؟ "
" منذ عشرين سنة تقريباً . "
" أنظر إلي يا هربرت , المسني , ألا تخشى بأنني محموم ؟ "
" كلا يا ولدي العزيز , بل أنت مثار , لست سوى نفسك . "
" أعلم بأنني لست سوى نفسي , والرجل الذي يختبئ عند النهر هو والد استيلا . "




الفصل الثامن والعشرون
الرسالة الغريبة
في صباح يوم اثنين , حين كنت أتناول الفطور مع هربرت , تلقيت الرسالة التالية من ويميك :
(( احرق هذه حالما تقرأها . في مطلع الأسبوع , أو لنقل يوم الأربعاء , يمكنك أن تفعل ما تعرفه , إن أحببت المحاولة , والآن احرقها . ))
حين أظهرت الرسالة إلى هربرت ووضعتها في النار , رحنا نفكر ماذا ينبغي فعله . قال هربرت : " فكرت بذلك مراراً وتكراراً , أعتقد أن لدي طريقة أفضل من اتخاذ بحار التايمز . خذ ستارتوب . إنه شخص طيب وهو ماهر ومولع بنا , كما أنه متحمس وأمين للغاية , هل تذهب مع بروفيس ؟ "
" من دون شك . "
" إلى أين ؟ "
لم يكن يهم إلى أين سنخرج طالما أن بروفيس سيخرج من انكلترا , أي مركب بخاري خارجي نصادفه ويأخذنا على متنه سيفي بالغرض . كانت خطتنا النزول إلى النهر قبل يوم من مغادرة ذلك المركب لندن , والانتظار في مكان هادئ إلى أن يصبح بوسعنا التجذيف إليه .
وافق هربرت , فخرجنا بعد الفطور نستعلم عن مواقيت انطلاق المراكب البخارية , فعلمنا أن مركباً إلى هامبورغ يناسب غرضنا تماماً . كان ستارتوب في غاية الاستعداد لمساعدتنا , فسيجذف هو وهربرت , بينما أتولى أنا الدفة . وكان على هربرت تحضير بروفيس للهبوط إلى ضفة النهر يوم الأربعاء حين يرانا نقترب , وليس قبل ذلك .
بعد إتمام هذه الترتيبات عدت إلى البيت , ولدى فتح باب الشقة , وجدت رسالة في الصندوق موجهة إلي , تقول :
(( إن كنت لا تخشى المجيء إلى المستنقعات الليلة أو ليلة الغد في التاسعة , وأن تأتي إلى المنزل الصغير المجاور لمحرقة الكلس , فالأفضل أن تأتي . إن كنت تريد معلومات بشأن بروفيس , فالأفضل أن تأتي دون أن تخبر أحداً , أو تضيع الوقت . عليك المجيء بمفردك . ))
كان ذهني مثقلاً بما فيه الكفاية قبل وصول هذه الرسالة الغريبة , فلم أعرف ماذا أفعل الآن . تركت رسالة إلى هربرت أخبرته فيها بأنني قررت القيام بزيارة قصيرة للآنسة هافيشام , وأنني استقليت العربة إلى المدينة .
حل الظلام قبل وصولي إلى هناك , تجنبت الإقامة في البلو بور , فنزلت في نزل أصغر في المدينة , وطلبت بعض العشاء , وبعد أن تناولته ارتديت معطفي وتوجهت إلى المستنقعات مباشرة .
كانت ليلة مظلمة , تهب فيها رياح حزينة , وكانت المستنقعات موحشة للغاية . وبعد سير طويل , شاهدت نوراً في المنزل الصغير القريب من الكلاسة . أسرعت نحوه وقرعت الباب . لم يكن هنالك جواب , فقرعت ثانية , كذلك لم يأتني جواب , عندئذ جربت المزلاج فارتفع تحت يدي وانفتح الباب . نظرت إلى الداخل , فرأيت شمعة مضاءة على طاولة ومقعد , وسرير . ناديت بصوت مرتفع : " هل يوجد أحد هنا ؟ " لكن صوتاً لم يجب على ندائي , ناديت ثانية , وحين لم ألق جواباً , خرجت لا أدري ماذا أفعل .
كانت بدأت تمطر , فعدت إلى المنزل ووقفت عند المدخل . ثم أُطفئت الشمعة فجأة , والشيء الآخر الذي علمته هو أن أحدهم ألقى بحبل فوق رأسي وأوثق يدي إلى جانبيي . سمعت صوتاً يقول : " والآن , قبضت عليك . "
صرخت مقاوماً : " ما هذا ؟ من هذا ؟ النجدة ! النجدة ! "
فإذا بيد رجل قوي تكم فمي لكبت صياحي , فيما تم إحكام وثاقي إلى سلم ببعد بضعة بوصات عن الحائط . قال الصوت : " والآن , اصرخ ثانية فأقتلك . "
ثم أشعل الرجل ثقاباً وأنار الشمعة , فرأيت أنه أورليك . قال بعد أن نظرنا إلى بعضنا لفترة من الزمن : " ها قد قبضت عليك . "
" فك وثاقي , دعني أذهب . "
" آه , سأدعك تذهب . سأدعك تذهب إلى القمر . سأدعك تذهب إلى النجوم , إنما في الوقت المناسب . "
جلس يهز برأسه نحوي , ثم وضع يده بجانبه في الزاوية وتناول مسدساً , وقال وهو يصوبه نحوي : " هل تعرف هذا ؟ هل تعرف أين شاهدته من قبل ؟ تكلم أيها الذئب . "
أجبت : " أجل . "( فقد شاهدته في غرفته في ساتيس هاوس , حين كان يشتغل حارساً للبوابة هناك ) .
" كنت السبب في خسارة ذلك المكان . كنت السبب . تكلم ! "
" وماذا كان بمقدوري أن أفعل غير ذلك ؟ "
" فعلت ذلك . وهذا يكفي , من دون زيادة . كيف تجرأت على التدخل بيني وبين الشابة التي أحبها ؟ "
" متى فعلت ذلك ؟ "
" متى لم تفعل ؟ أنت الذي كنت تسيء إلى سمعة أورليك العجوز أمامها . "
" أنت الذي منحتها لنفسك . أنت الذي أكسبتها لنفسك . ماذا ستفعل بي ؟ "
" سأقبض على حياتك . لن أبقي على خرقة منك , لن أبقي على عظمة منك على الأرض . سألقي بجثتك في الفرن المشتعل . "
كان يشرب وقد احمرت عيناه , وحول رقبته كان يتدلى زق معدني . فقربه من شفتيه ليشرب ثانية , ثم قال : " أيها الذئب , سأخبرك شيئاً . أنت الذي صرع شقيقتك . "
فقلت : " أنت الذي فعل ذلك أيها السافل . "
" وأنا أخبرك بأنه من صنيعك . كنت صاحب الخطوة , فيما كان أورليك العجوز يتعرض للإهانة والضرب , والآن ستدفع ثمن ذلك . "
شرب ثانية وازداد في شراسته , ثم تناول الشمعة وقربها مني حتى أبعدت وجهي لأصونه من اللهي , وما لبث أن توقف فجأة , فشرب من جديد وانحنى للأسفل , فرأيت يده تمسك بمطرقة حجرية لها يد طويلة وغليظة . ودون أن أنطق بكلمة رجاء إليه , صرخت عالياً ورحت أصارع بكل ما أوتيت من قوة . في تلك اللحظة بالذات , سمعت صيحات استجابة ورأيت أشخاصاً ووميض ضوء يتسرب من الباب , ثم سمعت أصواتاً ورأيت أورليك يتعارك مع عدد من الرجال . شاهدته يفر منهم ويختفي في عتمة الليل .
فقدت الوعي بعد ذلك , وحين أفقت وجدت نفسي بلا وثاق , ممدداً على الأرض في المكان نفسه , ورأسي ملقاً على ركبة شخص فيما كان آخر منحنياً فوقي . كانا هربرت وستارتوب .
ضمدا ذراعي التي أصيبت أثناء صراعي في تحرير نفسي . وبعد قليل كنا في طريق العودة , فأخبرني هربرت كيف جاءا لإتقاذي . فقد سقطت مني الرسالة في الغرفة إذ كنت على عجلة من أمري , فوجدها هربرت بعد أن جاء هو وستارتوب بعد خروجي . أثارت لهجة الرسالة قلقه , خاصة أنها لا تنسجم مع الرسالة المستعجلة التي تركتها له فانطلق مع ستارتوب , واستعانا بدليل للمجيء إلى المنزل الصغير المجاور للكلاسة .
حين سمع هربرت صراخي , استجاب له واندفع يتبعه الاثنان .
ونظراً لقرب حلول نهار الأربعاء , قررنا العودة إلى لندن في تلك الليلة . كان قد أطل النهار حين وصلنا , فذهبت إلى الفراش حالاً ورقدت هناك طيلة النهار . حافظ هربرت وستارتوب على هدوئي , وأبقيا على ذراعي بالضماد باستمرار , وقدما لي بعض المشروبات المنعشة , وكنت كلما أغط في النوم أستيقظ بإجفالة لاعتقادي بأن الفرصة قد ولت في إنقاذ بروفيس .




الفصل التاسع والعشرون
المجرم العائد
صباح الأربعاء كان أحد أيام شهر آذار \ مارس حين تشع الشمس بحرارة وتهب الرياح باردة . فاصطحبنا معاطفنا البحرية القصيرة وأخذت معي حقيبة . أما أين سأذهب وماذا سأفعل , أو متى سأعود , فكانت بالنسبة إلي مجهولة تماماً .
سرنا ببطء نحو درجات التامبل , ومكثنا نتسكع هناك وكأننا لم نصمم بعد على النزول إلى الماء . ثم صعدنا القارب وانطلقنا , تولى هربرت وستارتوب التجذيف , وتوليت أنا أمر الدفة .
كانت خطتنا كما يلي : نعتزم الإبحار في النهار حتى المساء , فنكون آنذاك بين ( كانت ) و ( أسيكس ) حيث يعرض النهر ويصبح منزوياً , ويقل السكان على ضفتيه , وحيث الحانات المنعزلة تنتشر هنا وهناك فنستطيع اختيار أحدها نلجأ إليه كموطئ للراحة . وكنا نعتزم المكوث هنا طيلة الليل . أما المركب البخاري المتوجه إلى هامبورغ , فإنه سيغادر لندن نحو التاسعة من صباح الخميس , فكان علينا معرفة الوقت لترقبه حيثما نكون فنناديه .
أنعشني الهواء البارد وأشعة الشمس وحركة الإبحار في النهر , بالأمل متجدداً . ما لبثنا أن مررنا بجسر لندن القديم , وفيما كنت أجلس في مؤخرة القارب , كان بإمكاني رؤية المنزل حيث كان يقيم بروفيس , ودرجات المرسى المجاور . قال هربرت : " هل هو هناك ؟ "
قلت : " ليس بعد . بلى , إني أراه الآن ! مهلاً يا هربرت , المجاذيف . "
لامسنا الدرجات برفق للحظة واحدة صعد بها القارب وانطلقنا من جديد . أحضر معه معطفاً بحرياً فظفاظاً وحقيبة من القماش الأسود فبدا وكأنه بحر نهري , وفق ما كنت أتمناه .
وضع ذراعه على كتفي فيما هو يجلس وقال : " ولدي العزيز ! ولدي المخلص العزيز , حسناً فعلت . شكراً لك , شكراً لك ! "
كان الأقل قلقاً بيننا . ليس لأنه لم يكترث , فلقد أخبرني أنه يأمل العيش ليراني واحداً من أفضل الرجال في بلد أجنبي , لكنه لم يكن ليزعج نفسه بالخطر قبل أن يداهمه .
مكثنا نجذف طوال النهار , إلا حين نعود نحو الشاطئ وسط الحجارة الزلقة نأكل ونشرب . لكن الليل كان يخيم بسرعة , فرحت أجيل النظر بسرعة بحثاً عن أي شيء يشبه المنزل .
أخيراً شاهدنا ضوءاً ومنزلاً , فعدنا إلى الشاطئ وسحبنا القارب لتمضية الليل . وجدنا أن المكان هو حانة , كانت قذرة للغاية , إنما كان في المطبخ موقد جيد , وكان هناك بعض البيض واللحم وشتى أنواع اللمشروبات لنشرب . كذلك كان هناك غرفتان بسريرين مزدوجين يناسبان أربعتنا , فحضرنا وجبة ممتازة على الموقد ثم آوينا إلى الفراش .
استلقيت وأنا أرتدي معظم ثيابي , فنمت ملء جفوني لبضع ساعات , عندما استيقظت نظرت إلى النافذة فوجدت رجلين ينظران إلى قاربنا . مرّا تحت النافذة , وفيما كان الظلام ما زال مخيماً لم أستطع رؤيتهما ثانية , فعدت إلى النوم من جديد . نهضنا باكراً وأخبرتهم بما رأيت , فاتفقنا أن نسير أنا وبروفيس على سبيل الحيطة إلى نقطة معينة , ثم ننتقل إلى القارب من هناك .
نُفذت الخطة , وحين أصبح القارب بمحاذاتنا , صعدنا إليه وجذفنا في أثر السفينة البخارية .
كانت الساعة الواحدة والنصف حين لمحنا بخارها , ثم ما لبثنا أن رأينا خلفها دخان سفينة أخرى . ولما كانتا تقبلان علينا بكامل سرعتهما , فقد جهزنا الحقائب وودعنا هربرت وستارتوب .
ثم شاهدت زورقاً بأربعة مجاديف ينطلق من الشاطئ على مسافة قريبة أمامنا , ويسير في نفس الاتجاه . باتت السفينة الآن قريبة جداً , وما لبث الزورق أن عبر طريقنا وأصبح بموازاتنا . كان بالإضافة إلى المجذفين رجلان , أحدهما ضابط يتولى الدفة , أما الآخر الذي كان يرتدي ثياباً تشبه ثياب بروفيس , فبدا وكأنه ينكمش ويهمس إلى رجل الدفة وهو ينظر إلينا .
تمكن ستارتوب بعد دقائق أن يميز أي سفينة هي الأولى , فقال لي بصوت منخفض : " هامبورغ . " . كانت تقترب نحونا بسرعة بالغة , وراحت ضربات مجاذيفها تعلو أكثر فأكثر . وشعرت وكأن خيالها بات فوقنا , حين نادى الرجال في الزورق لنا , فقال الرجل الذي يتولى الدفة : " لديكم مجرم عائد . ذلك هو الرجل المحتجب بالمعطف الفضفاض . اسمه آبل ماغويتش , وأحياناً بروفيس . إني أدعو هذا الرجل أن يستسلم ؛ وأدعوكم أن تساعدوننا . "
في تلك اللحظة , جعل زورقه يصطدم بقاربنا , وأمسك المجذفون بجانب قاربنا قبل أن ندرك ما كانوا يفعلون , مما تسبب بجلبة شديدة على متن السفينة , فسمعتهم ينادوننا , وسمعت الأمر يصدر بيقاف المجاذيف , سمعتها تتوقف , لكنني شعرت وكأن السفينة تسير فوقنا . في اللحظة تلك , رأيت رجل الزورق في يلقي بيده على كتف السجين , ثم رأيت بروفيس يقفز وينتزع المعطف عنق الرجل المنحني , فكان وجهه وجه المجرم الآخر القديم . رأيته يتراجع بنظرة من الخوف الشديد , وسمعت صرخة شديدة على متن السفينة ورشة صاخبة في الماء , فأحسست بالمركب يغرق تحتي . نُقلت من ثم إلى الزورق , حيث كان هربرت وكذلك ستارتوب . لكن مركبنا اختفى كما اختفا المجرمان .
ما لبث أن شوهد شيء غامق في الماء , ولما اقترب أكثر , تبين لي أنه ماغويتش , جاء يسبح . فنقل إلى متن الزورق وقيدت يداه ورجلاه في الحال .
استمر البحث الدقيق عن المجرم الآخر , لكن الجميع عرفوا بأنه غرق , فجذفوا نحو الحانة التي غادرناها مؤخراً , وهناك تسنى لي إحضار بعض الحاجيات إلى ماغويتش الذي تلقى إصابة بالغة في الذدر وأصيب بجرح عميق في الرأس . أخبرني بأنه اعتقد أنه انزلق من تحت السفينة , وأنه لقي صدمة في رأسه أثناء الصعود . حينما وضع يده على كومبيسون , وقف هذا وتهاوى إلى الوراء , فسقطا عن متن الزورق معاً . ثم جرى عراك تحت الماء , لكن بروفيس حرر نفسه وسبح بعيداً .
حين استأذنت الضابط بتغيير ملابس السجين المبتلة , بعد شراء أية ملابس أستطيع الحصول عليها من المنزل , أذن لي بذلك , موضحاً أن مسؤوليته هي التدقيق في أي شيء يخص السجين .
وهكذا انتقلت المحفظة التي كانت بحوزتي فيما مضى إلى يد القائد . بقينا في النزل حتى تراجع المد , فنقل ماغويتش إلى الزورق ووضع على متنه . كان على هربرت وستارتوب العودة براً إلى لندن بأقصى سرعة ممكنة . وشعرت أن مكاني هو بجانب بروفيس طالما أنه على قيد الحياة . فقد تلاشى شعوري بالكراهية تجاهه ولم أعد أر فيه سوى الرجل الذي عمل ليحسن إلي , وشعر نحوي بالمحبة والعرفان بالجميل . لم أر فيه سوى رجل أفضل بكثير مما كنت تجاه جو .
عندما رجعنا إلى لندن , أخبرته بمدى الحزن الذي ينتابني حين أفكر بأنه عاد إلى بلده من أجلي . فأجاب : " يا بني , إنني في غاية الرضى لأنني جربت حظي فقد رأيت ولدي , ويستطيع أن يكون سيداً بدوني . "
كلا . لقد فكرت في ذلك . كلا . كنت أعلم أنه نظراً لإدانته في الحكومة ستأخذ ممتلكاته . لكن لا ينبغي أنه يعلم بأن آماله في إثرائي قد تلاشت .




الفصل الثلاثون
عقاب العودة
في تلك الفترة الكئيبة من حياتي عاد هربرت إلى المنزا ذات مساء , وقال بأنه سيتركني قريباً . فهو ذاهب إلى القاهرة لبعض الأعمال . سألني إذا ما كنت فكرت بمستقبلي , وحين أخبرته بأنني لم أفعل , قال : " في فرعنا بالقاهرة يا هاندل , إننا بحاجة إلى ـــ "
شعرت بأنه لم يشأ قول الكلمة الصحيحة , فقلت : " كاتب . "
" كاتب , ولعله يصبح شريكاً بعد فترة وجيزة . والآن يا هاندل , هل تأتي ؟ "
شكرته بحرارة , لكنني قلت بأنني لست متأكداً من الالتحاق به مثلما تلطف وعرض علي . فقال بأنه سيترك المسألة معلقة لستة أشهر , أو حتى سنة , إلى أن أتخذ قراري . وسر كثيراً حين اتفقنا على هذا الدبير , وقال بأنه سيجرؤ الآن بإعلامي أنه يعتقد بأن عليه المغادرة في نهاية الأسبوع .
ودعت هربرت نهار السبت من ذلك الأسبوع , وكان قلبه يعتمر بالأمل المشرق , لكنه كان حزيناً وآسفاً لمغادرتي . بعد ذلك عدت إلى منزلي الموحش .
اضطجع بروفيس في السجن تحت وطأة المرض الشديد ينتظر محاكمته طيلة الوقت وراحت صحته تسوء وتضعف منذ أن أُغلق باب السجن .
حان موعد لبمحاكمة في الحال , فسمح له بالجلوس على كرسي في المحكمة , وسمح لي بالوقوف إلى جانبه خارج سجن الإتهام , والامساك بيده . كانت المحاكمة قصيرة وواضحة جداً , وقيل ما يمكن أن يقال عنه في الدفاع عنه ـ كيف اتبع عادات كادحة واغتنى وفق ما يمليه القانون والضمير . لكن الحقيقة بقيت في أنه عاد إلى إنجلترا , فكانت عقوبة عودته هي الموت , وعليه الاستعداد للموت . ورحت أتمنى وأصلي بإخلاص أن تكون وفاته بسبب المرض .
وفيما الأيام تمر , رأيت تحولاً عظيماً لم ألحظه لديه من قبل . فسألته ذات يوم : " هل تعاني من الألم الشديد اليوم ؟ "
" لا أشكو من أي ألم يا ولدي . "
" إنك لا تشكو أبداً . "
كان ينطق بكلماته الأخيرة , ابتسم ورفع يدي ووضعها على صدره .
" عزيزي ماغويتش , يجب أن أخبرك الآن أخيراً . هل تفهم ما أقول ؟ "
ظغط على يدي بلطف .
" كانت لك طفلة أحببتها وفقدتها . "
ضغط على يدي بشدة أكثر .
" عاشت ولقيت أصدقاء أشداء . إنها تعيش الآن , وهي سيدة وفي غاية الجمال . وأنا أحبها ! "
وبجهد هزيل أخير رفع يدي إلى شفتيه , ثم انخفض رأسه على صدره بهدوء .




الفصل الحادي والثلاثون
زواج جو وبيدي
والآن بعد أن خلوت بنفسي , قررت التخلي عن المسكن الذي تشاركت فيه مع هربرت . فقد كنت تحت وطأة الدين , وقل المال في حوزتي , وصرت أعاني المرض الشديد . استلقيت على الأريكة ليوم أو اثنين مثقل الرأس والألم ينخر أطرافي .
وذات صباح حاولت القعود في سريري , فوجدت أنني لا أستطيع ذلك .
أصبت بالحمى وعانيت , فرحت أمضي الأيام وكأنني في حلم رهيب . بدا وكأن أحدهم كان بالقرب مني , وبدا لي دائماً أنه جو . وتمكنت في النهاية أن أسأل : " هل أنت جو ؟ " فأجابني صوته الغالي المعهود : " وهو كذلك يا عزيزي بيب . " . فقد مكثت إلى جانبي لطيلة الوقت , إذ بلغه نبأ مرضي بموجب رسالة , فقالت له بيدي : " إذهب إليه على جناح السرعة . "
ثم أخبرني أنه ينبغي مخاطبتي باعتدال , وأن علي تناول القليل من الطعام في أوقات محددة , وأن أتقيد بكافة تعليماته . فقبلت يده واستلقيت بهدوء فيما شرع يكتب رسالة إلى بيدي , وهي على ما يبدو التي علمته الكتابة .
في اليوم التالي , أخبرني أن الآنسة هافيشام قد توفيت , وأنها أورثت معظم ممتلكاتها إلى استيلا , وأربعة آلاف جنيه إلى السيد ماثيو بوكيت " بسبب شهادة بيب عنه " .
أثار النبأ فرحاً عظيماً في نفسي لأنه توج العمل الصالح الوحيد الذي قمت به . وأخبرني كذلك أن أوريك العجوز اقتحم منزل بامبلتشوك فقبض عليه وأودعه في السجن .
بعد أن استعدت شيئاً من قوتي , أصح جو أكثر تكلفاً معي , فأخذ يخاطبني " سيدي " مما آلمني كثيراً . لكن ماذا يمكنني أن أقول ؟ هل أظهرت له ما يحمل على الشك في إخلاصي , والاعتقاد بأنني في البحبوحة لابد سأغدو بارداً حياله وأطرده ؟
ذات صباح نهضت نشيطاً وأكثر قوة , فذهبت إلى غرفته لكنه لم يكن هناك , وقد اختفى صندوقه . أسرعت إلى مائدة الفطور , فوجدت عليها رسالة لم يرد فيها إلا ما يلي :
" لم أرغب في البقاء أككثر من اللازم فانصرفت لأنك استعدت صحتك ثانية يا عزيزي بيب ,وبوسعك أن تتحسن بدوني.ملاحظة ـ ستبقى أفضل الأصدقاء دائماً. "
وكان بداخل الرسالة إيصال بديوني , وقد دفعها لي جو .
ماذا بقي لي الآن سوى أن أتبعه إلى دكانه القديم فأبدي له كم أصبحت متواضعاً ونادماً , وأن أذهب إلى بيدي وأخبرها كيف فقدت كل ما تمنيته فيما مضى , وأذكرها بأسرارنا الماضية أيام تعاستي الباكرة . ثم أقو لها : " أظن أنك أحببتني مرة أخرى يا بيدي . فإن منحتني نصف تلك المحبة ثانية , إن قبلتي بي بجميع أخطائي وفشلي , حبذا لو أستحق أكثر مما كنت في الماضي . "
استعدت قوتي كاملة في ثلاثة أيام , فاستقليت العربة إلى المدينة وتوجهت إلى الدكان فإذا به مغلقاً وساكناً . لكن المنزل لم يكن مهجوراً , فغرفة الجلوس الفضلى كانت قيد الاستعمال , وسواترها البيضاء ترفرف على نافذتها الزاهية بالأزهار . سرت إليها بهدوء بقصد التطلع إلى الأزهار , حين وقف جو وبيدي أمامي , يداً بيد .
دمعت عيني حين رأيتها , ودمعت عينها حين رأتني . أما أنا فلأنها بدت في غاية النضارة واللطافة , وكانت دموعها لأنني في غاية الإنهاك والشحوب .
" كم أنتي أنيقة يا عزيزتي بيدي . "
" أجل يا عزيزي بيب. "
" وأنت يا جو , كم تبدو وسيماً ! "
" أجل يا عزيزي بيب , يا صاحبي القديم . "
نظرت إليهما , من الواحد إلى الآخر , ثم صاحت بيدي بفرح : " إنه يوم زفافي . سأُزف إلى جو . "
أدخلاني إلى المطبخ , كانا في أشد الفرح والاعتزاز برؤيتي , وسرهما أنني أتيت صدفة لأتم المناسبة . فسررت لأنني لم أتفوه بكلمة عن أملي بالزواج من بيدي . هنأتهما بحرارة وشكرتهما على كل ما فعلاه من أجلي . أخبرتهما أنني سأسافر عما قريب , وبأنني لن أرتاح إلا حين أعيد المال الذي جنبني جو بواسطته دخول السجن , وقلت : " والآن , رغم معرفتي بأن ذلك صدر عنكما بقلب طيب , قولا لي سوياً بأنكما تصفحان عني . "
قال جو : " أوه يا عزيزي بيب , يا صاحبي القديم . يعلم الله بأنني صفحت عنك , إن كان هنالك ما يستجوب الصفح . "
وقالت بيدي : " والله يعلم بأنني فعلت . "




الفصل الثاني والثلاثون
فراق الأصدقاء
بعت كل مالدي وسددت ديوني المتوجبة علي , ثم سافرت لألتحق بهربرت في القاهرة . مضت عدة سنوات قبل أن أصبح شريكاً في المل , لكنني عشت بسعادة مع هربرت وزوجته كلارا . وكنت دائماً أراسل جو وبيدي .
كنت لم أرهما لإحدى عشرة سنة عندما ذهبت ذات مساء في شهر كانون الأول \ ديسمبر إلى منزلي القديم المجاور لدكان الحدادة . فوجدت جو جالساً هناك يدخن غليونه في مكانه المعهود بالقرب من موقد المطبخ , بكامل عافيته وقوته كما كان دائماً , رغم بعض الشيب . وهناك , كنت محصوراً في الزاوية بساق جو , أجلس على مقعدي الصغير أنظر إلى النار مرة أخرى .
فقال جو بفرح غامر حين جلست بالقرب من طفله : " لقد سميناه بيب إكراماً لك يا صديقي العزيز , ونأمل أن يصبح مثلك ولو قليلاً . "
في المساء ذهبت لمشاهدة منزل الآنسة هافيشام القديم , من أجل استيلا . فقد بلغني أنها تعيش حياة تعيسة جداً , وأنها انفصلت عن زوجها الذي كان يعاملها بغاية القسوة والدناءة , وبلغني أنه توفي .
لم يكن هناك الآن أي بيت أو مصنع للجعة , ولا أي بناء , بل جدار الحديقة القديمة . رأيت امرأة تسير نحوي , وحين اقتربت , صرخت : " استيلا ! "
" تغيرت كثيراً , أستغرب كيف عرفتني . "
لقد ولّت نضارة جمالها حقاً , لكن وقاره وجاذبيته التي تفوق الوصف لم يبارحانه .
جلسنا على مقعد قريب وقلت : " بعد تلك السنوات الطويلة , غريب أن نلتقي ثانية يا استيلا , هنا حيث كان أول لقاء لنا ! هل تعودين إلى هنا ؟ "
قالت : " كلا . " ثم أضافت بعد صمت : " إنني صاحبة الأرض , إنها ملكيتي الوحيدة التي لم أتخل عنها . ضاع مني كل ما عداها شيئاً فشيئاً , لكنني احتفظت بهذه . "
" وهل سيتم البناء عليها ؟ "
" في النهاية سيتم ذلك , جئت أودعها قبل أن تتغير . هل ما زلت تعيش في الخارج ؟ "
" أجل . "
" وتسير أمورك جيداً , كما أرجو ؟ "
" أجل , أعمل على ما يرام . "
" فكرت بك دائماً . "
" كنت دائماً في مكانك بقلبي . "
" لم أفكر كثيراً بأنني سأودعك أثناء وداع هذه البقعة , إني سعيدة بذلك . "
" هل أنت سعيدة لفراقنا ثانية يا استيلا ؟ فالفراق بالنسبة لي شيء مؤلم . ولطالما كانت ذكرى فراقنا الأخير بالنسبة لي مثار حزن وألم . "
" لكنك قلت لي : ليباركك الله , ليسامحك الله ! فإن استطعت أ تقول لي ذلك آنذاك , فلن تترد أن تقول لي ذلك الآن , بعد أن علمتني المعاناة أن أفهم ما اعتاده قلبي . لقد خضت وتحطمت , إنما لأكون في حال أفضل كما أرجو . كن طيباً معي كما كنت , وقل لي بأنني أصدقاء . "
قلت وأنا أنهض منحنياً فوقها , فيما كانت تنهض عن المقعد : " إننا أصدقاء . "
فقالت : " وسنبقى أصدقاء منفصلين . "
أمسكت بيدها وخرجنا من المكان الخرب , وفي ضوء المساء الهادئ , لم أر أثراً لفراق آخر .


تمت ...

اتمنى تكون الرواية عجبتكم

وكما قلت في البداية ... للأمانة انا من كتب الرواية
أريد تحميل الرواية



أريد تحميل الرواية
أريد تحميل الرواية
أريد تحميل الرواية
أريد تحميل الرواية

أريد تحميل الرواية














أريد تحميل الرواية


ممتاز معتز غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-01-19, 05:48 PM   #76

opsmsmr

عضو فى فريق ترجمة الروايات العالمية

 
الصورة الرمزية opsmsmr

? العضوٌ??? » 113509
?  التسِجيلٌ » Mar 2010
? مشَارَ?اتْي » 165
?  نُقآطِيْ » opsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond reputeopsmsmr has a reputation beyond repute
افتراضي

شكرا جدا على الرواية

opsmsmr غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-12-19, 12:17 PM   #77

fadish

? العضوٌ??? » 459593
?  التسِجيلٌ » Dec 2019
? مشَارَ?اتْي » 1
?  نُقآطِيْ » fadish is on a distinguished road
افتراضي

شكرااا مجهود رائع

fadish غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-20, 08:26 AM   #78

iibtasam

? العضوٌ??? » 447568
?  التسِجيلٌ » Jun 2019
? مشَارَ?اتْي » 80
?  نُقآطِيْ » iibtasam is on a distinguished road
افتراضي

شكرة ..موفقه بإذن الله

iibtasam غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-11-20, 01:41 AM   #79

محمد شويكي

? العضوٌ??? » 480382
?  التسِجيلٌ » Nov 2020
? مشَارَ?اتْي » 1
?  نُقآطِيْ » محمد شويكي is on a distinguished road
افتراضي

شكرااا لكم رواية في غاية الروعة

محمد شويكي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 18-09-21, 06:13 PM   #80

طاووس الزين

? العضوٌ??? » 445025
?  التسِجيلٌ » May 2019
? مشَارَ?اتْي » 418
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
?  نُقآطِيْ » طاووس الزين is on a distinguished road
افتراضي

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

طاووس الزين غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:31 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.