آخر 10 مشاركات
جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          594- فراشة الليل -روايات عبير دار ميوزيك (الكاتـب : Just Faith - )           »          أسيرة الثلاثمائة يوم *مكتملة * (الكاتـب : ملك علي - )           »          ☆باحثاً عن ظلي الذي اختفى في الظلام☆ *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : Ceil - )           »          أجمل الأسرار (8) للكاتبة: Melanie Milburne..*كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )           »          شعر ثائر جزائري (6) *** لص ذكي سارق عجيب *** (الكاتـب : حكواتي - )           »          تناقضاتُ عشقكَ * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : ملاك علي - )           »          219 - صديقان ...وشيئا ما - جيسيكا ستيل (الكاتـب : Fairey Angel - )           »          رواية صدفة للكاتبة : bella snow *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : bella snow - )           »          خادمة القصر 2 (الكاتـب : اسماعيل موسى - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-02-10, 05:29 PM   #1

*my faith*

نجم روايتي وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية *my faith*

? العضوٌ??? » 170482
?  التسِجيلٌ » Feb 2010
? مشَارَ?اتْي » 8,920
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Yemen
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » *my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute
افتراضي السوسن .. قصه رومنسيه دراميه من الواقع الفلسطيني " مكتملة "


السلام عليكم
ان هذه اول روايه اكتبها :blushing:
وهذه ايضا اول مشاركه لي في هذا المنتدى المميز الذي اثار اعجابي بكثره صفحاته الزاخره بالابداع والمبدعين من محبي المطالعه ..
اتمنى ان تنال روايتي اعجابكم

الرواية كاملة بعد تعديلها ...

رابط لتحميل الرواية word ط§ظ„ط³ظˆط³ظ†.docx

السوسن


بقلم : إيمان عبد العزيز


بداية الطريق ..


في صباح يوم من أيام أغسطس 2007 في مدينة غزة استيقظت آية على صوت زوجة خالها منى من الغرفة المجاورة توقظ ولداها رأفت ويوسف .. ظلت آية مستلقية على سريرها لبرهة ثم نهضت بكل حيوية ونشاط لتستقبل يومها الجديد الذي تتوقع أن يكون حافلا بالأحداث .
ألقد تحيه الصباح بمرحها المعتاد على جدتها التي تشاركها حجرتها :
- صباح الخير يا جدتي .
ردت عليها الجدة فاطمة وهي تحتضنها بعينيها :
- صباح الخير يا عيون جدتك .
تبتسم آية لمداعبة جدتها لها فتقبل رأسها وتخرج من غرفتهما التي تحوي سريران ومكتب صغير عليه كتب آية الدراسية وصورة لوالديها المتوفيان ومجموعة من الروايات التي تحبها ودولاب صغير للملابس عليه مرآة .. وقفت آية على باب غرفة الأولاد تنظر إلى ولدي خالها وهي تبتسم .. ثم قالت مشاكسة :
- متى سيكبران ولداكِ يا خالتي ؟!.. إن الحارة كلها استيقظت وهذان الكسولان مازالا نائمين .
أجابتها الخالة منى بضجر :
- آه يا آية بالله عليك لا تزيدي همي .. إني لن أيقظ أحد بعد اليوم وليعتمد كل واحد على نفسه .
أخرج رأفت رأسه من تحت اللحاف وقال مبتسما :
- ما هذه العائلة النكد .. الناس تفيق على كلام جميل ووجوه باسمة ونحن نفيق على صوت أمي الصاخب ومزاج آية الرائق .
ردت عليه آية :
- صدقني .. انتهز فرصة أنني بينكم سيأتي يوم ستفتقدون هذا المزاج .
ضحك يوسف وهو مستلقي فوق سريره:
- لماذا .. ستستشهدين ؟!.
شهقت الجدة من الصالة عندما سمعت كلمة الاستشهاد ونهرته بخوف :
- الله يحرسها ويحرسكم جميعا .. ويبعد عن أولادنا كل سوء .
حدثها رأفت وهو متجه إليها ليقبل رأسها :
- وهل في الاستشهاد سوء يا جدتي .. إنه غاية نرجوها وشرف نسعى إليه لنطهر أرضنا ممن دنسوها .. فادعي لنا نكن من الشهداء لتفخري بنا أحياء وأموات .
- بارك الله بكم يا ولدي وقدر لكم كل الخير .
ابتسمت آية وهي تسمع دعاء جدتها ورددت بحب :
- آمين .
انتهز يوسف الجو الهادئ الذي أثارته الجدة بدعائها فخطف المنشفة من يد آية وركض إلى الحمام ليستحم قبلها .
تفاجأت آية من حركة يوسف وركضت ورائه وهي تصرخ مهدده :
- الأيام بيننا يا يوسف .. وابحث عمن يساعدك في دروس الرياضيات .
قال يوسف بصوت مرتفع من داخل الحمام :
- تعيش وتأخذ غيرها يا أرسطو .
خرج خال آية من غرفته على صراخ الأولاد :
- صباح الخير .. ما هذا الصراخ ؟.. مؤكد سببه يوسف .
وقبل أن يجيبه أحد .. نادت الخالة من المطبخ :
- أسرعوا يا أولاد كي لا تتأخروا على مدارسكم .. وجامعاتكم .
اتجهت آية إلى المطبخ لتساعد خالتها بفكر شارد .. كانت الخالة منى تتأملها بهدوء ثم تساءلت برفق :
- هل تشعرين بالقلق ؟.
أجابت آية والتوتر بادٍ على ملامحها :
- نعم .. فهذا يومي الأول في دراستي الجامعية .. وكليه الطب ليست بالكلية السهلة .
طمأنتها الخالة منى :
- لا تقلقي كثيرا يا حبيبتي .. مؤكد سيوفقك الله فلقد اخترت مجالا سيفيد من حولك .
وقبل أن ترد آية انطلق صوت يوسف صارخا من داخل غرفته :
- يا أمي .
أجابت الأم بنفس الصوت المرتفع وهي تخرج من المطبخ لتضع الطعام على الطاولة :
- نعم يا يوسف .
استفسر يوسف ببساطة :
- أين حقيبتي المدرسية ؟.
هز الأب رأسه ضاحكا على استهتار ابنه ولكن الأم رفعت حاجباها بدهشة .. ثم اتجهت إلى غرفة ابنها قائلة بغضب :
- ألم أقل لك منذ الأمس أن ترتب أغراضك ؟.
أجابها يوسف مبررا :
- لقد نسيت .
ابتسم كلا من رأفت وآية .. ثم تحدث رأفت مازحا :
- يجب أن تستلم أمي شهادة الثانوية بدلا منك .
تساءل يوسف متحديا وهو يضع يده على خصره :
- ولم ؟.
تدخلت آية لتكمل مشاكسة رأفت :
- لأنها تقوم بعمل كل شيء بدلا عنك .
حاول يوسف تغير الموضوع بعفوية :
- كفانا تضيعا للوقت ولتساعدوني على البحث عنها .
قال رأفت متجها إلى باب الخروج بعد أن أختطف بعض اللقيمات على عجله :
- هذه ليست مشكلتي .
أردفت آية وهي تنسحب من الغرفة :
- وأنا أيضا .. يجب أن أسرع بالخروج .
نظر يوسف إلى أمه متوسلا .. ولكنها تجاهلته قائلة :
- أنا لدي حصة ثالثه في المدرسة وفي مقدوري التأخر .. ولكنني لن أساعدك كي تتعلم النظام .
خرجت آية من حجرتها .. وذهبت لتقبل يد جدتها :
- ادعي لي يا جدتي بالتوفيق .
ربتت الجدة على رأس آية :
- ربنا يحرسك يا بنتي .. ويسخر لك قلوب الناس .
فتحت آية باب البيت وقبل أن تخرج مر بجانبها يوسف مسرعا قائلا وهو يلوح لها بحقيبته :
- لقد وجدتها .. وسأسبقك في الخروج .
ضحكت آية على يوسف .. وتبعته بعينين محبتين لشقاوته .. ثم وقع نظرها على شجرة السوسن التي في الحديقة .. فابتسمت وكأنها تبتسم لشيء عزيز وقريب إلى قلبها .. وعندما مرت بجانب الشجرة أخذت نفس عميق لتستعين بذلك العبير الناعم على تهدئه أعصابها المشدودة .. فهي تخاف من كل جديد وتريد أن تنجح في كل خطوة تخطوها على طريقها الواعد لتفخر بها روح والديها ومن حولها .
بعد بضع خطوات سمعت وقع خطوات سريعة خلفها وصوت يعاكسها :
- أنت يا حلو .. سلم علينا إن السلام لله .
التفتت آية لترى صديقة طفولتها شذى .
سلمت عليها والفرحة تلمع في عينيها :
- حبيبتي شذى كيف حالك .. لما غيرتي رأيك ألم تقولي بأنك لن تحضري من أول يوم .
قالت شذى متباهية :
- نعم قلت ذلك ولكنني غيرت رأيي من أجلك خفت عليك أن تضيعي وأنا لست معك .


وصلت الصديقتان إلى الجامعة .. عالم جديد على آية لم تعرفه من قبل .. افترقتا كل واحدة إلى كليتها .. آية إلى الطب وشذى إلى الهندسة واتفقتا على موعد ومكان اللقاء بعد انتهاء اليوم الدراسي .

مر اليوم بسلام مابين المحاضرات والتعرف على زميلات جدد وعند المساء وقبل أن يأتي الخال من ورشة النجارة خاصته .. أخذت آية مفكرتها الصغيرة ووضعت حجابها فوق رأسها وخرجت إلى الحديقة لتجلس بجانب شجرة السوسن .
فتحت آية المفكرة التي كانت تكتب بها خواطرها وأفكارها وما مر بها خلال يومها وكانت بذلك تحدث والداها وتحس بأنهما ينصتان إليها بشغف من بين السطور .. فهي شديدة التعلق بهما و حريصة على إشراكهما بكل مراحل حياتها وكأنهما يعيشان بين صفحات مفكرتها ..
إحساس غريب هذا الذي تشعر به آية وهي تخط بقلمها لتحادث والديها قد لا يستوعبه البعض ولكن آية الرقيقة لا تجد صعوبة في تجسيد روحهما بداخلها .. فهي فتاة محبه للهدوء .. تحمل روح مرحة ومعطاءة .. ولا تقوى على رؤية إنسان يتألم .. وهذا ما دفعها للالتحاق بكلية الطب .. لتخفف عن شعبها الجريح .. فأمنيتها أن يأتي اليوم الذي يندمل فيه الجرح الذي استنزف دماء شعب فلسطين .
دخل الخال من باب الحديقة ليجد آية في خلوتها بوالديها بجانب شجرة السوسن التي زرعتها هي وأمها قبل وفاة أمها بأيام .
ناداها الخال عز الدين بصوته الحنون :
- أنت هنا يا آية .. مؤكد تكتبين لأبويك عن يومك الأول في الكلية .. صحيح ؟
وقفت آية بجانب خالها الذي تحبه جدا فقد كان هو وزوجته نعم الأب والأم لها وأحست منذ طفولتها أنها أخت لولديهما بل كانت هي الابنة المدللة والقريبة إلى قلب كل من حولها .
أخبرته بصوتها الناعم :
- نعم يا خالي .. أنا أحب أن أكتب لأبي وأمي وخاصة بجانب هذه الشجرة لأن أمي قالت لي ونحن نزرعها ( إن فلسطين مثل هذه الشجرة الناعمة ستبقى صامدة إلى الأبد .. وكلما اعتنيت بها ستتعمق جذورها وتتفرع جذوعها ومهما خسرت من أوراقها ستظل باقية .. لتزهر وتعلن للعالم بعبيرها عن صمودها وجمالها )) .
ابتسم الخال ودخل البيت محتضنا آية بذراعه :
- بالرغم من أن أمك استشهدت وأنت في الرابعة من العمر إلا أنك تتذكرين كل كلامها والكثير الكثير من تصرفاتها .
قالت الخالة منى مؤكدة على كلام زوجها :
- بل وأصبحت نسخة من أمها نفس الجمال والمشاعر المرهفة .. وأخذت منها أيضا صبرها وقوة تحملها لذلك أنت في نظري ( فراشة الألمنيوم ) لأنك فراشة برقتك وصلبة كالألمنيوم بتحملك .
حضنت آية خالتها بحب :
- ربنا لا يحرمني منكم أبدا فأنتم جميعا أسرتي التي عوضني الله بها .
دخل يوسف في هذا الوقت بثيابه المتسخة وشعره أشعث مختلسا النظر بعينيه الشقيتان من وراء الباب ليرى الوضع داخل البيت ولكنه صدم باستقبال أمه له صارخة في وجهه :
- ما هذا الذي حل بك وكأنك عدت من معركة .
قال يوسف بحماسته المعهودة :
- إنها أشد المعارك يا أمي لقد لعبنا كرة قدم نحن وأولاد الحارة المجاورة وكانت مباراة ساخنة جدا ولكننا غلبناهم فيها .
ردت آية على كلامه :
- وماذا استفدنا نحن من سخونة المباراة وفوزكم .. غير أكوام من الرمال ننظفها بعدك ؟.
أجابها يوسف مازحا :
- كوني محضر خير يا آية .. في الأساس تستحقون ذلك .. إذا لم تمنعوني من الإنظمام إلى حركه حماس لكنتم الآن تتشوقون لرؤيتي والتنظيف ورائي .
رد الخال محتدا :
- ادخل إلى الحمام .. متى ستقلع عن الفلسفة الكثيرة ؟.
- عندما تشتري لي الكاميرا التي حدثتك عنها .
تدخلت الخالة مسرعة لتقطع كلام يوسف :
- ليس وقته الآن يا يوسف .. ادخل واستحم .
اتجه يوسف إلى الحمام وآية تسير بجانبه .. وتمسك طرف قميصه بأصابعها ويدها الأخرى على انفها .. قائلة بتأفف مصطنع :
- رائحتك لا تطاق .. أنت واثق أنك كنت تلعب كرة .
- استهزئي كيفما شئتي .. يوم ما ستطلبين توقيعي .
ضحكت آية ودخلت لتساعد خالتها في إعداد العشاء ولتحكي لها تفاصيل يومها كما تعودت أن تفعل دائما .. بعد انتهاء الأسرة من العشاء دخل رأفت مسرعا إلى غرفته لينهي المشروع الذي بدأه على الكمبيوتر .. وساعد يوسف آية في تنظيف الطاولة .
أخبرته آية وكأنها تذكرت شيئا مهما :
- لقد جاءت براءة تبحث عنك اليوم .. وظلت تنتظرك إلى أن غلبها النعاس .. وجاء والدها وأخذها إلى البيت .
- هل تصدقي أنني اشتقت إليها كثيرا .. هذه الملاك الصغير تأسر النفس بشقاوتها اللذيذة .
- هي أيضا تحبك جدا تصور اليوم سمعتني انتقد فوضويتك .. غضبت مني ولم ترضى عني إلا بعد أن رشوتها ببسكويته .
ابتسم يوسف وأردف قائلا :
- لقد قابلت والدها اليوم وسيضطر أيضا للغياب عن البيت لأنه مشغول مع الجيش لذلك وعدته بأن أهتم ببراءة وأوصلها إلى الروضة كل يوم .
- إذن يجب عليك الاستيقاظ باكرا حتى لا تتأخر أنت أيضا عن دروسك .
- لا تقلقي عليّ .. فأنا صاحب المهمات الصعبة .
ردت عليه مازحه وقد انتهت من تنظيف صحون العشاء :
- تصبح على خير يا سوبرمان .
- وأنت من أهل الخير .
قبلت آية خالها وخالتها وقبل أن تدخل غرفتها مرت بغرفة الأولاد ووقفت ترمق رأفت وهو منكب على الكمبيوتر ووجهه متجهم .. فتساءلت :
- هل تواجه صعوبة في مشروعك الجديد ؟.
- لا .. ولكنه أيضا يحتاج إلى الكثير من الدقة .. أنا أود أن أقدم شيء يجعل قسم الكمبيوتر للسنة الثالثة ينبهر ولا يجد كلام لوصف مشروعي .
- أنت ولد عبقري .. وأنا أثق بقدراتك فلا تقلق كثيرا اجتهد وتوكل على الله .
تنهد رأفت وشرد بنظره قليلا .. ثم رد عليها :
- ما فائدة عبقريتي في بلد يقتل شبابها كل يوم دونما اهتمام بأفكارهم وحياتهم وما قد يخلفه موتهم من ألم في قلوب ذويهم ..
أجابته آية وهي تحتضنه بعينيها الواسعتين :
- لما تتحدث بهذه الطريقة يا رأفت ؟.
رد رأفت بحرقة وقد تعقد حاجباه :
- لأنني أحس بالنقص يا آية .. فكثيرا ما احلم مثل أي شاب في عمري بأن أكون فخرا لأهلي .. وارتبط بمن تكمل معي حياتي .. ولكننا محرومين من كل شيء .. حتى الحب .. فأحلامنا تنتهي عند حقيقة واحدة وهي أننا العاب ورقية في أيدي الطفل اليهودي يلهو بها كيفما شاء ويمزقها حينما يريد ..

وقفت آية منبهرة بكلام ابن خالها .. وفي نفس الوقت أحست كأنه ينطق بتلك
الأفكار التي تصطخب بداخلها ..
حدثته بصوتها الحزين :
- من منا لا يحلم بغد أفضل .. وبأرض حرة يمارس أهلها الحياة الكريمة .. يعيش أطفالها دون خوف .. ويبدع شبابها .. وينعم كبارها بالسكينة .. ونحب فيها كل من حولنا .. لكننا لو فكرنا بهذا المنطق اليائس لن تستمر الحياة .
أردف رأفت قائلا وكأنه لم يسمع كلام آية :
- كم أود أن اصرخ بوجه العالم ليحس بنا .. لا كصور على التلفاز تستدر عطفه ولكن كشعب عربي يحتاج إلى موقف رجولي منه .. كم أود أن أبيد كل إسرائيلي دنس أرضنا الطاهرة واغتصبها .. وأطلق علينا صفة الإرهاب .
راحت آية تحدثه بثقة :
- ستفعل .. لأننا أثبتنا للعالم أننا أقوياء بأيماننا وصبرنا .. أقوياء بأطفالنا الذين لا يخافون الموت .. لذلك سيأتي يوم وننتصر فيه إنشاء الله .
افتر ثغر رأفت عن ابتسامة ساخرة :
- أي نصر يا آية .. إننا شعب سلبت منه كل حقوقه .. حتى حق المقاومة .
ظلت آية صامتة .. في حين دخول يوسف إلى الحجرة .. فأردف رأفت بعصبية :
- إن ما أستغربه كيف لا يرى العالم ما نعانيه .. لقد سمعت اليوم في نشرة الأخبار الرئيس الأمريكي يقول : ( إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ) .. ممن ؟؟ من طفل بريء يرمي بحجرة نحو دبابة مدججة بالسلاح ؟!..
تدخل يوسف قائلا بتحدي :
- لابد سيأتي اليوم الذي تتحول فيه الحجارة إلى قنابل .
أجابه رأفت :
- وأين سنكون نحن من هذا اليوم ؟.. إنني أعرف أنها ستظل معركة غير متكافئة ولكني بالمقابل مستعد أن أهدر دمي لأحدث تغير .. ابسط تغير .
أردف يوسف مؤيدا لكلام أخيه :
- مؤكد سنحدث تغيرا .. فالحجارة التي يرميها طفلنا تزلزل قلوبهم الجبانة .
نظرت إليهما آية وعلى شفتاها ابتسامة حب ثم مررت أناملها بين خصلات شعر رأفت بحنان :
- أسمعت ما قاله أخوك الصغير ؟ لتتأكد يا رأفت أن لنا رب عادل سيثبتنا على الحق .
صمت الأخوان .. فهمت آية بالخروج :
- تصبحان على خير .. ولا تطيلا السهر .
- وأنت من أهل الخير .

اتجهت آية إلى غرفتها وقبلت جدتها بفكر شارد .. يزدحم بنقاش ولدي خالها ..
لقد تحرك بداخلها ما تحاول دائما تجاهله .. وهو الإحساس بالحقد ..
الحقد على من حرمها أباها قبل أن تولد ..
وحرمها حنان أمها قبل أن تعي الحياة ..
إنها تتألم كل يوم عندما ترى مزيدا من المجازر على أرضها ..
وتتألم أكثر عندما يزيد الحقد بداخلها فهي أرق من تلك الأحاسيس البغيضة ..
ولكن الصهاينة قتلوا كل إحساس جميل بداخلها ..
فهي تشاهد كل من حولها وهم يعيشون حياة مرهونة بطلقة من فوهة بندقية هوجاء ..
ترى الأم تودع أولادها كل يوم وهي لا تعلم من سيعود ومن سيودعها للأبد !!!
وهي تفكر دائما بولدي خالها .. كم تحبهما وتفزع لتخيلها اليوم الذي تفرقهما فيه لأي سبب كان ......


استقبلت آية صباح يوم جديد .. على صوت خالتها توقظ الأولاد مثل كل يوم ..ابتسمت وهي تتذكر وعيد خالتها بالأمس بألا توقظ أحد ..
خرجت من المنزل بعد تناول إفطارها ومرت على شذى فوجدت أباها خارجا من الباب ليذهب إلى المشفى ..
ألقت آية تحيه الصباح وابتسامتها اللطيفة ترتسم على شفتيها :
- صباح الخير يا خال كمال .
هز الخال رأسه فرحا عندما رأى آية تحتضن الأوفر كوت الأبيض بيدها :
- صباح الخير يا طبيبة المستقبل .. خلاص يا آية من اليوم أعينك مساعدة لي إلى أن تتخرجي وتصبحي أفضل مني .
- أشكرك يا خال كمال .. وإنشاء الله أكون عند حسن ظنكم .
- أنت كذلك .. ونصيحة مني كلما وجدتي وقت فراغ تعالي إليّ في المستشفى فتعاملك مع المرضى سيفيدك أكثر في دراستك .
- إنشاء الله .
خرجت شذى مهرولة من المنزل .. ودّعت والدها وسحبت آية من يدها :
- كفاك ثرثرة لدينا محاضرات سنتأخر عنها .
وفي طريقهما وجدتا رأفت وشقيق شذى هيثم فسارتا معهما .. نظر رأفت إلى شذى وعيناه ملئهما الحب .. وبدأ يسألها عن دراستها :
- كيف حال المهندسة شذى .. هل مازلت تحلمين بأن تبني أكبر برج في العالم ؟.
- نعم مازلت .. أليس من حقنا أن نحلم ؟.
قاطعها هيثم مازحا :
- وهل تستطيعين غير ذلك ؟.
ردت عليه آية موبخة :
- لا تحطمها يا هيثم .
تدخل رأفت ونبره الإعجاب ترن في صوته :
- إن ما يعجبني بشذى أحلامها الكبيرة .. فكلما كبرت الأحلام كلما تمسكنا بها أكثر .
ابتسمت شذى لذلك الإطراء اللطيف ..وتساءلت آية :
- كيف حال الصحافة يا هيثم ؟.
- إنها أهم سنة في حياتي فهي الأخيرة .
- وماذا تنوي أن تفعل بعد التخرج ؟.
- أنوي الكثير .. ولكن تظل الأمنية الأولى أن نصبح بلد حر يعترف بحق الإنسان قبل حق الكلمة .
تدخل رأفت متحمسا لحديث صديقة :
- صحيح يا هيثم .. هل فكرت في مشروع التخرج ؟.
- أنا محتار بعض الشيء .. ولكني أعتقد أنني سأقدم موضوع ( اليهود النازيين )
تساءلت شذى باستغراب :
- اليهود النازيين ؟..
أجاب هيثم بحماسة :
- إنه يناقش التعذيب النازي لليهود والذي استدروا به عطف العالم لسنين .. ويكشف على لسان مؤرخيهم أنهم استغلوا ذلك ليصبح عذرا يسمح لهم باحتلال فلسطين .. كما أنهم أصبحوا يمارسون معنا نفس الظلم .
ردت آية بإعجاب :
- إنه موضوع رائع .. وسيثير الكثير من الجدل .
أضاف رأفت مؤيدا :
- وستضمن به الامتياز .. إنشاء الله .
أضافت شذى بفخر :
- وسينظم إلى أمي في صفوف المحاربين بالأقلام ...
ابتسم رأفت .. وبدأ الحديث يجمعه بشذى .. ثم تشترك فيه آية وهيثم .. ليعود ويجمعه بشذى .. إلى أن وصل الأربعة إلى الجامعة ليفترق كل واحد منهم إلى كليته .. ولكن ظلت عينا أية ترمق ابن خالها بحنان ..
كانت كلمات رأفت بالأمس ما تزال تصرخ بداخلها .. فهو محق في كل كلمة قالها ..
وكل كلمه لم يبح بها ..
والتي تدركها آية بإحساس الأخت المحبة ..
إنها تدرك تلك الأحاسيس التي يكنها لصديقة عمرها شذى .. والتي يروضها بداخله ..
لأنه مثلما قال كشاب فلسطيني محروم حتى من الحب ..
إن رأفت بالرغم من مرحه الدائم إلا أنه يحمل أفكار اكبر من سنه ..
وآية تحس به يتجاهل مشاعره لأنه لا يجد لها منفذ طبيعي مثل أي شاب ..
فأطفال فلسطين قبل شبابها وهبوا أعمارهم رخيصة من أجل القضية ..
فكيف يعد فتاة بالحب .. وبأن يعيشا العمر سويا وهو لا يملك عمره ..
إنها تتفهم تفكيره هذا لأنها تفكر بمثل طريقته ..
وتحس بأنهم عاجزين عن كل شيء .. ماعدا أن يحيوا من اجل الوطن ..
دخلت آية الفصل وهي تحس ببعض الألفة عن يوم أمس وبدأت تفكر بعرض الدكتور كمال لها .. إنها تستطيع أن تعمل في المستشفى وتدرس وبذلك ستكتسب خبرة وتقدم العون للمرضى والمصابين ..
فتكون قد وضعت قدمها على أول الطريق ..
طريق البداية ..
بداية نضالها .. مع شعبها الجريح ..



(2)
هل من مجيب ؟!


خرج يوسف من غرفته متسللا إلى المطبخ .. فوجد أمه تعد شاي ما بعد الغذاء لوالده .. وقف يوسف خلف أمه ثم احتضنها وقبلها .. ثم راح يحدثها :
- كيف حالك يا أجمل وأحن أم في الدنيا .
وقفت آية ضاحكة تنظر إلى يوسف وهو يداعب أمه ..
ردت الأم وهي تحاول أن تخفي ابتسامتها عنه :
- ادخل بالموضوع يا يوسف .
قال يوسف وهو يدعي البراءة :
- أي موضوع يا أمي .. ألا يحق لي أن أمازحك متى ما أردت ؟!.
نظرت إليه الأم بأعين فاحصة :
- يحق لك .. ولكن كل مزحة ألقاها منك تنتهي بتلبية طلب جديد لك .
رد عليها يوسف وهو يحاول أن يستدر عطف أمه بملامحه الطفوليه :
- أنت تعلمين يا أمي أنني لا أريد سوى شيء واحد فقط .
تساءلت الأم مستفسرة :
- وما هو هذا الشيء ؟.
أجاب يوسف ببساطة :
- الكاميرا .
ردت عليه الأم زاجره :
- ألا تمل ؟ .. شهور وأنت ترجونا أن نشتريها لك .
توسل يوسف بإلحاح :
- والله يا أمي إذا اشتريتموها لي لن اطلب منكم شيء إلى الأبد .
تدخلت آية وهي تكتم ضحكها :
- وكأنها ستصدقك .
ردت عليها الخالة منى :
- حتى وإن صدقته ليس بيدي شيء أقدمه له .
ثم وجهت كلامها ليوسف :
- إن أباك في الصالة اذهب وتحدث معه .
أجاب يوسف :
- سأتحدث معه .. ولكنني أريدك أن تأتي لتهدئي الموقف .
ثم نظر إلى آية :
- وأنت أيضا يا آية .. إن لك تأثيرك الخاص على أبي .
تبادل الثلاثة النظرات .. ثم هزت الخالة رأسها موافقة باستسلام :
- حسنا .. لنرى آخر جنونك يا يوسف .
كشفت ابتسامة يوسف الواسعة عن أسنانه البيضاء .. وعن الفرحة المتراقصة بداخله .. فخطف صينية الشاي من يدي آية واتجه إلى الصالة وهما خلفه .. قدم يوسف الشاي لوالده ثم جلس بالقرب منه .
تناول الخال كوب الشاي وبدأ يرشف منه أول رشفة .. وهو ينظر بريبة إلى أسرته الملتفة حوله .. ثم لمح الفرحة تلمع في عيني يوسف .. فقال :
- قل ما عندك يا يوسف .
انكمشت ابتسامة يوسف وضرب فخده بقبضة يده :
- لم تسيئون الظن بي دائما ؟.
أجابته آية وهي لا تتمالك نفسها من الضحك :
- الحقيقة أنهم يفهمونك جيدا .. أيها المخادع المكشوف .
قال يوسف وهو يشير لآية بعينيه محذرا :
- ماذا اتفقنا يا آية ؟
وضعت آية يديها فوق فمها مجيبه :
- لن انطق بكلمة بعد الآن .
اعتدل يوسف في جلسته .. ثم وجه حديثه لوالده بكثير من الرهبة :
- أريد أن اطلب منك طلب يا أبي ولكن بالله عليك لا ترفضه .
تساءل الأب ببرود :
- خير .
راح يوسف يتحدث متحمسا :
- أريدك أن تشتري لي تلك الكاميرا .
رد الأب محتدا وعلى وجهه التعجب :
- ما قصة هذه الكاميرا التي أضاعت عقلك .
أجاب يوسف مبررا :
- افهمني يا أبي إنني أريدها لعمل مهم يطول شرحه الآن .
- يوسف .. أغلق الموضوع وانتبه لدروسك فهي الأهم .
- لكن يا أبي ...
قاطعه والده وهو يضع كوب الشاي على الطاولة بحده :
- وهذا الشاي .. لا أريده ..
ثم وقف ليصرخ بعصبية :
- أنا لا أريد نقاش في هذا الموضوع .. إن الناس لا يجدون أساسيات الحياة وأنت تبحث عن الرفاهية .. ألا تحس بما يحدث حولك .. إننا نعيش على هذه الأرض أمواتا دون مقابر ..
استمر الوالد في ثورته وهو متجه إلى باب الدار .. ثم خرج وصفعه ورائه بقوة .
خيم الصمت لبرهة .. ثم قطعته الخالة وهي تؤنب يوسف :
- هل ارتحت الآن يا أستاذ يوسف ؟.. لقد عكرت مزاج والدك .
ردت عليها الجدة مهدئة :
- اتركيه يا منى يا ابنتي .. إنه لا يزال طفلا .. غدا سيكبر وسيجعلكما تفخران به .
قام يوسف بعصبية وملامحه توحي بالاستياء واتجه إلى غرفته .. ثم تبعته آية فوجدته يجلس على سريره ويفتح كتابا دراسيا ثبت عينيه على صفحاته .
جلست آية بجانبه وراحت تحدثه مواسية :
- لا تغضب يا يوسف .. أنت تعرف مزاج خالي المتقلب .. وتدرك أنه يعاني في عمله ليوفر لنا حياة كريمة .
أجابها يوسف وعيناه مليئة بدموعه الحبيسة :
- أنا لم أخطئ يا آية .. كان باستطاعته أن يرفض دون أن يصرخ في وجهي .
ربتت آية على كتفه وهي تبتسم له بحنان :
- مؤكد لم يقصد .. ولكنه ككثير من أبناء جيله يشعر بالعجز إزاء أوضاعنا التي تسوء يوما بعد يوم .

دخل رأفت إلى البيت واتجه إلى غرفته ليجد آية تجلس بجانب يوسف متجهم الوجه .. والصمت مخيم على الغرفة ..
تساءل رأفت مستغربا :
- ماذا بكم يا شباب ؟.. كأنكم شيعتم شهيدا .
أردت آية مفسرة :
- لقد فتح يوسف مع خالي موضوع الكاميرا فاحتد عليه بعض الشيء .
وجه رأفت كلامه ليوسف وقد ظهرت على ملامحه علامات الاندهاش :
- ما حكاية تعلقك بهذه الكاميرا ؟!.
أجابه يوسف بضيق :
- بالله عليك اتركني في حالي يا رأفت .
تقدم رأفت من أخيه وجلس بجانبه ثم حضنه بذراعه :
- ماذا بك يا يوسف إن لك أياما وأنت متغير .. وأنا أعرفك عندما يسيطر شيء على تفكيرك .
رد يوسف وفي وجهه ملامح الرجولة :
- أنا أريد اقتناء الكاميرا لأن برأسي أفكار أريد تحقيقها .. يصعب علي شرحها .. وانتم دوما تعاملونني كأنني طفل أسعى وراء لعبة .
أجابته آية بحنان :
- لا تقل مثل هذا الكلام .. لأنك رجل في نظرنا جميعا .
زفر يوسف بسخرية :
- بدليل صراخ والدي علي .
حدثته آية مبررة :
- إن خالي أحن إنسان وأنت تدرك أنه سيأتي في المساء و يصالحك .
أردف رأفت مازحا :
- يا أخي يكفيك أن تكون كبيرا في نظر براءة .
افتر ثغر يوسف عن ابتسامه خجولة .. فوكزه رأفت زاجرا :
- ابتسم .. ابتسم ودع الموضوع لي .. أنا سأقنع أبي .
قالت آية مؤمنة على كلام رأفت :
- نعم ابتسم .. وإلا جعلناك تبتسم بالقوة .
ظل يوسف عابسا .. فأشارت آية إلى رأفت بعينيها .. وتعاون الاثنان على دغدغه يوسف في خصره .. فانفجر ضاحكا وهو يحاول التخلص منهما .. في تلك الأثناء طرق باب المنزل وكانت جارتهم مها وابنتها براءة ..
دخلت مها محيية الخالة والجدة :
- كنا في الكنيسة أنا وبراءة فأصرت أن تزوركم .
رحبت الجدة بالجارة اللطيفة :
- أهلا وسهلا يا بنتي .
أردفت الخالة منى وهي تقبل براءة :
- لقد أصبحنا لا نحتمل يوم يمر دون رؤية ملاكنا الصغير .
اتجهت براءة مسرعة إلى غرفة الأولاد باحثة عن يوسف ومتتبعه لصوت الضحك المنبعث من الغرفة .. وعندما رأت آية ورأفت منكبان على يوسف يدغدغانه .. ضحكت وألقت بجسدها الصغير فوقهما صارخة بمرح :
- دعاه .. إنه واحد وأنتما اثنان .
أجابها رأفت :
- الآن أصبحنا اثنان ضد اثنان .
وأمسك ببراءة ليدغدغها .. وبدأت معركة الوسائد بين الأربعة .. ثم أتت الخالة منى تتبعها مها على اثر الصراخ والضحك المنبعث من الحجرة .. حدثتهم الخالة مبتسمة :
- وكأنني أرى أطفالا في عمر براءة .
توقف الشباب عن لهوهم وتوجهت أية إلى مها لتسلم عليها .. ثم رحب بها الولدان .. وسألها رأفت :
- هل مازال الخال نضال غائبا عن المنزل ؟.
أجابت مها وعلى وجهها ملامح الاشتياق لزوجها الغائب :
- نعم يا رأفت .. فعمله دائما ما يحتاج إليه في تدريب الملتحقين الجدد بالجيش .
ربتت الخالة على كتف مها بحنان :
- إنشاء الله سيعود إليك سالما .
وأردف يوسف بصدق :
- إننا في خدمتك في أي وقت .. وبراءة مثل اختنا الصغيرة .
هزت مها رأسها وابتسامه صادقه تعلو شفتيها .. ثم خرجت من الحجرة بصحبه الخالة منى .
اجلس يوسف براءة على قدميه .. وراحت هي تحدثه بحماسة الأطفال :
- أرأيت كيف حميتك منهما ؟.
ضحكت أية قائلة :
- لقد فزنا عليكما أنتما الاثنان .
اعترضت براءة وقد عقدت حاجباها :
- لا أحد يستطيع الفوز على يوسف .. إنه أقوي ولد في العالم .
ابتسم رأفت .. وحدث أخاه مشاكسا :
- ألم أقل لك أنك كبير في نظر براءة ؟.
تساءل يوسف بحنان :
- كيف كان يومك في الروضة ؟.
- كان رائعا .. لقد لعبنا وتعلمنا ثم لعبنا .
- ماذا تعلمتم اليوم ؟.
- تعلمنا إشارات المرور متى يجب أن نسير ومتى يجب أن نقف .
- وهل حفظتِ الإشارات .
أجابت براءة وهي تقف في وسط الغرفة بحماس :
- نعم .. يجب عليك عندما تقطع الطريق أن تنظر يمينا وشمالا .
أجابت آية :
- وماذا أيضا .
ردت براءة بثقة :
- وإذا وجدت الإشارة خضراء يمكنك أن تسير وإذا وجدتها حمراء يجب عليك أن تقف .
صفق رأفت لبراءة مشجعا :
- أحسنت يا براءة .. غدا ستكبرين لتصبحي طبيبة أو مهندسة .
نظرت براءة إلى يوسف متسائلة :
- ماذا تريد أن تصبح يا يوسف ؟.
أجابها يوسف مبتسما :
- أريد أن أصبح محاميا .
رددت براءة بنفس لهجة يوسف الواثقة :
- وأنا أيضا سأصبح محامية .
لم تتحمل أية مدى خفة روح تلك الطفلة البريئة .. فاقتربت منها لتقبلها :
- ستكونين أجمل محامية .

بعد فترة أتت مها تستعجل براءة لتعودا إلى البيت .. ولكن براءة أصرت أن تبقى مع الأولاد .. فتدخل يوسف :
- اتركيها تلعب بجانبنا وإذا ما مللت سأعيدها إلى البيت .
- إنها لن تمل .. وأنا أخاف أن تزعجكم وانتم تدرسون .
تدخلت الخالة منى :
- ليس هنالك إزعاج فهي تجلس بجانب الأولاد وتلعب بهدوء .
أردفت آية بلطف :
- دعيها فهي تحب الجو الأخوي الذي تجده هنا .
قال يوسف متباهيا أمام آية :
- بل تحبني أنا .
نطت براءة صارخة بفرح :
- نعم .. أنا أحب يوسف .
ضحك الجميع واستسلمت مها وعادت وحيدة إلى البيت .. أخرجت آية صندوق ألعاب براءة الذي ساهم الجميع في شراء محتوياته .. وجلست براءة تلعب بألعابها وتذهب إلى يوسف بين الحين والآخر لتريه لعبتها أو لتروي له ما حدث لها خلال يومها .
بعد تناول براءة لطعام العشاء غلبها النعاس فحملها يوسف عائدا بها إلى بيتها .. طرق الباب .. وفي تلك الأثناء سمع خطوات تأتي خلفه .. التفت ليجد والد براءة نضال في الوقت الذي فتحت به مها بابها .. فتفاجأت برؤية زوجها العائد فاحتضنته وهي تغالب دموعها :
- لقد وحشتني كثيرا .
ربت نضال كتف زوجته ثم قبلها فوق رأسها .. وكان يوسف مازال يحمل براءة على كتفه وبين شفتيه ابتسامة خجولة .. سلم نضال على يوسف وحمل ابنته واخذ يقبلها في كل أنحاء وجهها وهي مستغرقة في نوم عميق كالملاك ..
عاد يوسف إلى المنزل وهو يفكر بالحب الذي يجمع هذه الأسرة الصغيرة ..
ومدى الألفة التي تجمع أسرته بهم .. على الرغم من اختلاف الأديان إلا أنه لم يسبب أي وجه خلاف بين الأسرتين .. حتى أن مها كانت دائما ما تدخل بيتهم لتجد براءة مرتدية الحجاب ومنتصبة بجانب يوسف لتقلد حركاته وهو يصلي .. ولم تكن تزجرها أو تبدي استياءها ..
وهذا ما جعل يوسف يدرك أن صراعهم مع اليهود ليس صراع أديان ولكنه صراع أفكار فهم أناس يسيطر عليهم الإحساس بأنهم أبناء الله .. وان دونهم من البشر مجرد بهائم خلقوا لخدمتهم ..
دخل يوسف إلى البيت وكان الخال عز الدين قد وصل .. وقبل أن يتجه نحو غرفته استوقفته تلك الابتسامات التي تنطلق من شفاه الجميع وهم يرمقون يوسف .
تساءل يوسف بريبه :
- لماذا تبتسمون ؟.
تكلم الوالد أولا :
- اجلس يا يوسف بجانبي .
جلس يوسف بجانب والده متعجبا .. فتحدث الوالد :
- أمازلت غاضبا مني ؟.
رد يوسف محاولا تبرير موقفه :
- أنا لا استطيع أن اغضب منك .. ولكني استأت من صراخك علي .. فأنا لم اعد طفلا يا أبي .
قال الوالد وهو يبحث عن شيء بداخل كيس :
- ولأنك لم تعد طفلا .. أحضرت لك هذه .
اخرج الوالد علبة من الكيس وقدمها لابنه .. أمسك يوسف العلبة بين يديه وعلى وجهه علامات استفهام .. ثم فتحها ليجد بداخلها كاميرا رفع يوسف حاجبيه إلى أعلى .. واخذ يقفز في جميع أرجاء المنزل وفرحة صادقة بادية في ملامحه .. ثم تقدم من أباه واحتضنه بقوة :
- أشكرك جدا يا أبي .
ابتسم الأب لفرحة ابنه .. بعدما هدأ يوسف .. وتساءل مستفسرا أباه :
- كيف حصلت عليها ؟.
أجاب الوالد :
- لقد جاء صديق لي يطلب مني أن أجد له من يشتريها منه .. لأنه محتاج لنقودها .. ففكرت أنها مؤكد من نصيبك .
ابتسم يوسف وعادت الفرحة تزغرد في عينيه وهو ينظر إلى الكاميرا وكأنها كنز ثمين بين يديه ..
تحدثت الأم والهدوء يرتسم عليها :
- لقد أرحتنا من إزعاجه .

في صباح اليوم التالي أفاق يوسف نشيطا على غير المعتاد .. وقبل أن توقظه أمه .. وضع الكاميرا في حقيبته المدرسية .. واخبر الجميع على الإفطار أنه سيتأخر بعد الدوام الدراسي .. فهو ذاهب في مشوار مهم مع صديقه محمد ..
عاد الجميع إلى المنزل لتناول طعام الغذاء .. وجاء العصر .. يليه المغرب .. يتبعه العشاء ويوسف لم يعد للبيت .. وبداء القلق يتسلل إلى القلوب .
تساءلت الجدة بقلق :
- هل اتصل أخاك يا آية ؟.
ردت آية والحيرة تلفها :
- لا يا جدتي ..
راحت الأم تحدث نفسها وهي تحوم في أرجاء الحجرة كمن فقد عقله :
- مؤكد أنه سيدفعني للجنون .. ليس هنالك أي مبرر لغيبته هذه .
دخل رأفت إلى البيت ليرى الوجوه القلقة فتساءل مندهشا :
- ألم يعد يوسف حتى الآن ؟.
هزت آية رأسها بالنفي .. وقبل أن يهم رأفت بالبحث عن أخاه .. سمعوا باب الدار يفتح .. تعلقت العيون على الباب .. ولكنهم وجدوا الخال عز الدين .. استغرب الخال من طريقه تجمعهم وعدم وجود يوسف بينهم :
- أين يوسف ؟.
ازداد خوف الأم وبدأت الدموع تنهمر من مقلتيها .. وتكفل رأفت بالإجابة :
- لم يعد منذ الصباح .
عقد الأب حاجبيه متسائلا :
- ألم يحضر منذ الصباح ؟.
وقبل أن يجيبه أحد سمعت العائلة وقع أقدام تقترب من باب المنزل .. فأسرع رأفت فاتحا الباب .. ليجد يوسف أمامه .. صرخ رأفت في وجهه :
- أين كنت حتى الآن ؟.
لم ينطق يوسف ببنت شفه .. لأن أمه ركضت نحوه .. لتحتضنه بحنان وهي توبخه من خلال عبراتها الساخنة :
- كيف استطعت أن تخيفني عليك ؟.. كنت سأموت قلقا .
تساءل الأب بحزم :
- ما الذي أخرك يا يوسف ؟.
دخل يوسف إلى البيت وأغلق الباب خلفه بهدوء وقال معتذرا :
- أنا أسف لأنني سببت لكم كل هذا الإزعاج .. ولكني كلمتكم في الصباح إنني ذاهب بمشوار مهم .
تساءل الوالد محتدا :
- أي مشوار هذا ؟.
أجابه يوسف بصوت متئد وكأنه كبر مئة عام في يوم واحد :
- لا تستعجل في الحكم يا أبي .. وتعالوا معي لأريكم أين كنت .
توجه يوسف إلى غرفته وفتح الكمبيوتر وشبكه بالكاميرا التي حصل عليها بالأمس .. دخل الأب والأم ورأفت .. تتبعهما الجدة تسندها آية .. ليجدون يوسف يستعرض لهم مجموعة من الصور التي التقطها
صور لخيمة مهترئة تصل بين جدارين وبجانب الخيمة مكب للنفايات ..
وأخرى لما بداخل الخيمة .. ركن يحوي أدوات مطبخ .. وببقيتها كرسي وسرير متهالكين ..
وهنالك صور لسكان الخيمة رجل يشير إلى تلفاز بداخل الخيمة ..
وامرأتان ومجموعه فتيات يرتدين الحجاب أحداهن تجلس على موقد من الحطب ..
وأطفال تغطيهم الأمراض الجلدية ..
وطفل أخر يركض نحو الخيمة وثيابه مبتلة ..
وشاب يذاكر على ضوء الشموع ..
والكثير من الصور التي تهيج المشاعر وتثير الأحاسيس .. أكمل يوسف استعراض الصور ودار بجسده مواجها عائلته المصعوقة .. وهو ما زال جالسا على الكرسي .. خيم صمت طويل على كل أفراد الأسرة .. كل يفكر في هول ما رآه ..
وكيفية حصول يوسف على مثل هذه الصور .. قطع يوسف الصمت موضحا :
- لقد ذهبت اليوم إلى مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة بصحبة صديقي محمد .. والتقطت هذه الصور .
تساءل الأب وعيناه شاردتان :
- هل كنت تعلم أنك ستجد ما أريتنا إياه ؟.
- نعم .. لقد حدثني زميلي في المدرسة عن هذه الأسرة وغيرها الكثير من الأسر .
تساءلت آية بصوت منخفض :
- ألهذا كنت تريد الحصول على الكاميرا ؟.
أجابها يوسف :
- اجل .. لكي اظهر للعالم أننا نعاني كل يوم والمعاناة لا تقتصر على الاحتلال والرصاص ولكنها أيضا معاناة مع الفقر والحياة الوضيعة .
تساءلت الجدة بشفقة :
- ومن هؤلاء الذين صورتهم يا يوسف ؟.
رد يوسف بأسى :
- إنهم عائلة فلسطينية يا جدتي .. تعيش في خيمة نصبها رب الأسرة ما بين جدار مستشفى وملعب .. وكثيرا ما سقطت الحجارة التي تثبت الخيمة وكادت أن تجرح أحد أطفاله .. وبجانبهم مكب نفايات يشاركهم سكنهم بالإضافة إلى الفئران والزواحف والحشرات التي تشعرك بأنها جزء من تلك الأسرة .
قالت الأم والألم يعتصرها :
- لهذا أصيب الأطفال بتلك الأمراض الجلدية ؟ .
- نعم يا أمي .. إنهم معدمون .. وأمانيهم تتمحور بأن يعيشوا حياة كريمة تحفظ أدميتهم .. فهم لا يملكون شيء حتى الحمام .. يحفرون حفرا في الأرض ويدفنوها بعد قضاء حاجتهم .. وتظل النساء محجبات دائما من عيون المارة التي تختلس النظر .. أما الأطفال فإذا أرادوا الاستحمام يلجئون إلى حمامات المدرسة المجاورة .. ولكنهم يلقون أصناف الإهانة من طلابها ..
تساءل رأفت :
- وما حكاية ذلك التلفاز ؟.
- إنهم يشبكونه بسلك كهربائي ممتد من الملعب المجاور ليكونوا على علم بما يدور حولهم .. مع أنهم أسوء حالا .. إن هذه الأسرة مكونه من خمسة عشر شخصا .. الأب وزوجتان وعشرة أطفال .. إضافة إلى ابنا أخ الأب اليتيمان واللذان يعولهما منذ زمن .
أردف الأب باستياء :
- لقد أصبح الفقر كالسرطان ينتشر في جسد الأسر الفلسطينية .. ولكن من يحس بألمنا .
سأل رأفت أخاه والأفكار تحتشد في رأسه :
- وماذا تنوي أن تفعل ؟.
أجاب يوسف ورأسه منحني يهتز يمينا وشمالا بحيرة :
- لا اعرف .. ولكني أريد أن أوصل هذه الصور لأكبر عدد من الناس .
أجابه رأفت ببساطة :
- انشرها بالنت .
رفع يوسف رأسه متفاجئا وكأنه أخيرا وجد حلا مناسبا .. وراح يتساءل بفضول :
- كيف ؟.
- سأصمم لك موقع تستطيع أن تنشر من خلاله هذه الصور والمزيد منها ويمكنك أيضا أن تكتب تعليقات عنها .. أو اذهب إلى هيثم ليساعدك في صياغة أحداث كل صورة .. بالإضافة إلى عمل مساحة حوار يتناقش فيها زوار موقعك ..
أضاف الوالد وهو ينظر لولداه بفخر :
- إنها فكره ممتازة .
وقبل أن يهم بالخروج .. وقف ليتأمل يوسف وهو لا يصدق أنه يرى ولده الصغير قد أضحى رجلا يحمل ألآم وطنه .. قبله فوق رأسه قائلا بتأثر :
- بارك الله فيك يا بني .. وليجعل الله عزة هذه البلد في شباب مثلكم .
أمّن الجميع على دعاء الأب .. وبعد خروجه من الغرفة لحقت به الأم والجدة .. ولكن آية بقيت تتفحص ابن خالها يوسف بعينين مرهفتين .. فهي تحس بأنه يكابد نيرانا تشتعل بداخله .. سحبت آية كرسيا وجلست بجانبه :
- ما بك يا يوسف ؟.
شردت عينا يوسف وكأنه يركض وراء خيط رفيع من الأمل يوشك أن يفقده :
- كثير علي ما رايته اليوم يا آية .. لقد تأثرتم بصور ولكني عشت الواقع .
وقف رأفت ينظر في صمت إليهما .. بينما أجابت آية :
- أنا أدرك مدى ألمك .. ولكن ليس بيدنا شيء نقدمه لهم .. أكثر مما ستفعل أنت .
بدأت الدموع تترقرق في ضعف من عينا يوسف وهو يجيب :
- لقد كان بينهم شاب في مثل عمري يحاول أن يذاكر على ضوء الشموع بعد ما خيم الظلام .. أليس من حقه أن يعيش حياة مثلي .. أليس من حقي أنا أن أحيا كأي شاب دون خوف بعيدا عن الألم .
لم تستطع آية الرد فقد خنقتها العبرات .. لتصاحب دموعها دموع يوسف المنكسرة .. تقدم رأفت من أخاه وأوقفه أمامه ممسكا رأس يوسف بكفيه :
- لا تبكي يا يوسف .. إنك رجل .. ولقد بدأت اليوم مشوار الأحرار .. فأنت تسير في طريق مستقيم .. ففخر بنفسك يا أخي .
احتضن يوسف أخاه وافرغ على كتفه دموع معاناته .. وجففت آية دموعها بيديها ثم وقفت وقبلت يوسف على خده .. وتركتهما متجهه إلى غرفتها ..
لقد كشف لها يوسف من خلال تجربته هذه عن شخصيه جديدة لديه ..
كشف عن جرأته ورقة مشاعره ..
واظهر الجرح القديم الذي ينزف في فلسطين دون علم الكثيرين ..
صوّر المعاناة التي تعتصر أهلها ..
وزرع حقد جديد في صدر آية على الصهاينة ..
ولكن أكثر ما تخشاه الآن ..
أن صوَره قد لا تجد صدى لصرخاتها ..
فكم هي تلك الأذان المدعية الصمم ..
لذلك يحوم السؤال في خيال آية ..
يا ترى هل من مجيب ؟!!.

-----------------------


(3)
الملاك الحارس

خرجت آية بعد الظهر من المنزل .. متجهة إلى بيت الدكتور كمال ليصطحبها معه إلى المستشفى التي ستتطوع فيها .. طرقت آية باب الدار وسمعت صوت شذى يتساءل :
- من ؟.
- افتحي يا شذى .. أنا آية .
فتحت شذى لتدخلها إلى البيت .. قبلت آية والدة شذى بحب :
- كيف حالك يا خالة جهاد ؟.
أجابت الخالة والحنان ينطق من عينيها :
- الحمد لله يا حبيبتي .. أنا أفضل مادمتم بخير .
ابتسمت آية .. وهي تتأمل الخالة جهاد .. كم هي حنونة هذه المرأة وتحمل الكثير من الأحاسيس الفياضة .. إن آية متعلقة جدا بها .. فالخالة جهاد لم تكن تميز بينها وبين شذى أبدا .. لقد كانت تعتبر أن لديها ابنتان .. وكلما أحضرت لابنتها شيء كان لآية مثله ..
خرج الخال كمال من غرفته بعد ما دخلت الخالة جهاد تستعجله وسلم على آية بحرارة :
- هل أنت مستعدة أيتها الطبيبة ؟.
أجابت الخالة جهاد نيابة عن آية :
- ابنتنا مستعدة لأي تحدي وجديرة بالثقة .
رد الطبيب كمال:
- إذن هيا لنذهب أمامنا عمل طويل .
خرجت آية بصحبة خالها كمال .. وأحس الخال برهبتها فحدثها مداعبا :
- لا تقلقي كثيرا إن الممرضات لطيفات جدا .. وما أن تبدئي العمل ستشعرين كأنك ولدت بداخل تلك المستشفى .
أجابته آية بصدق :
- أتمنى أن أقدم ولو القليل لأخفف آلام من حولي .
هز الدكتور كمال رأسه بالإيجاب .. وابتسامة رضا تظهر على شفتيه .. وصلت آية إلى المستشفى .. لم تكن تتوقع أنها بمثل هذه النظافة .. وبدأ الدكتور كمال يطوف بها بين الغرف .. ويعرفها على الأطباء والممرضات .. أقبلت آية على العمل بروح نشيطه .. وتعلمت الكثير في يومها الأول .
عند حلول المغرب استأذنت لتعود إلى البيت .. وفي طريق عودتها وجدت شذى متجهة نحوها .. أحست آية بملامح الذعر البادية على شذى .. فوقفت متسائلة بخوف :
- شذى .. ما الذي أتى بك إلى هنا ؟.
أجابت شذى وهي تستحث آية على متابعة سيرها :
- جئت لأصطحبك إلى بيت آلاء .. لقد أغمي عليها اليوم .. وكان يجب علينا أن نزورها .
تساءلت آية والخوف يتسلل إلى قلبها :
- هل هي بخير الآن ؟.
ردت شذى مطمئنة :
- إنها في أحسن حال .
شردت شذى بعينيها بعيدا عن آية .. وكأنها هي نفسها لا تصدق أن آلاء بأحسن حال ..
فعادت آية تلح عليها :
- لا تخفي عني شيء يا شذى .
أجابتها شذى والكلمات تخرج ثقيلة من بين شفتاها :
- إنها حقا بأحسن حال الآن .. ولكني أخاف عليها من الغد .. إن آلاء مصابة بسرطان الدم منذ فتره طويلة .. وإهمال مرضها بهذه الطريقة قد يسيء حالتها .
شردته آية هي الأخرى والحزن يسيطر عليها :
- معك حق يا شذى .. ولكنك تعلمين كم حاولوا الذهاب للعلاج خارجا .. وكم سخر منهم اليهود .. لقد كانوا يعدوهم بفتح معبر إيرز .. ثم يرجعوهم خائبي الرجاء .
- إنهم يحاربوننا حرب نفسية .. ففرضهم علينا الحصار ما هو إلا طريقة لإخضاعنا .. ولكن هيهات .. ما دام بعروقنا دم يجري سنظل صامدين .
وصلت الفتاتان إلى بيت صديقتيهما نور وآلاء .. طرقت شذى الباب بخجل .. ففتحت لهما نور مرحبة.
سلمت الصديقتان على نور وآلاء وأمهما .. كانت علامات التعب بادية على وجه آلاء التي تحاول بين الحين والآخر ادعاء القوة .. حدثتهما نور وهي توبخ شقيقتها التوأم :
- إنها سبب كل ما يحدث لها من انتكاسات .. فهي لا تلتزم بإرشادات الأطباء .
ردت آلاء حانقة :
- تلك ليست إرشادات .. بل هي سجن مؤبد .
ثم أردفت مستغربة :
- هل تريدونني أن أعيش كالأموات .
تدخلت آية بهدوء :
- لم يطلب منك أحد ذلك يا حبيبتي .. ولكن أيضا لا يجب عليك التهاون بصحتك فأنت غالية عندنا .

وقبل أن ترد آلاء سمعوا طرقات على الباب .. ذهبت الأم لترى من الطارق .. فإذا بهم يسمعون صوت هيثم ينبعث محييا الوالدة .. انتفضت آلاء عند سماعها صوت هيثم وكأن عقربا لدغها .. وانتصبت في جلستها على سريرها .. فأوحت حركتها المفاجئة تلك بأنها تهم بالقيام من فوق السرير .. فصرخن الفتيات في صوت واحد قائلات :
- إلى أين ؟.
اعتدلت آلاء في جلستها وابتسمت لهن مهدئة .. دخل هيثم وسلم عليها .. وهو لا يستطيع إخفاء خوفه الشديد عليها :
- لقد أقلقتنا عليك يا آلاء .
ابتسمت آلاء خجله وهي تخفي بابتسامتها آلام جسدها .. بدأ الحديث ينساب بين هيثم والفتيات .. وهيثم لا يرفع عينه عن آلاء إلا ليعود ويخصها بنظرات الحب من جديد .. بعد فترة بسيطة وقف هيثم مودعا وموجها حديثة للأم :
- أنا في خدمتكم في أي وقت يا خالتي .. لا تخجلي مني فأنتي مثل أمي تماما .
أجابته الخالة شاكرة :
- لقد كنت خير عون لنا دائما يا هيثم .. ولم تدعنا نحتاج لأي شخص بعد رحيل والد الفتيات .
نهضت آلاء من فوق سريرها وهي تحدث هيثم بنشاط :
- سأحضر لك كتابك الذي أعرتني إياه .. وسأوصلك إلى الخارج .
نهرت نور توأمها العنيد :
- آلاء أنت مريضة ويجب أن ترتاحي !!.
ردت آلاء محتده بإصرار :
- لماذا تحاولن دوما أن تشعروني بالنقص .. وبأنني سأظل حالة خاصة في نظر الجميع .
تدخل هيثم مهدئا :
- دعيها وشانها يا نور .. فهي أدرى بمصلحتها .. صحيح يا آلاء ؟.
أشارت آلاء برأسها مؤيدة لكلام هيثم .. ثم تقدمته لتحضر الكتاب .. وعند باب الدار وقفت تودع هيثم وهي تكابر تلك المشاعر بداخلها .. ولكن حب هيثم لها لا ينتظر أن تكشف له عن أحاسيسها بالكلمات .. فهو يدرك محبتها له من خلال تعاملها .. واللهفة البادية في عينيها .. حدثها هيثم وهو يمسك بيدها وكأنه ملك الدنيا :
- عديني بأن تهتمي بنفسك يا آلاء وكفاك استهتارا بصحتك .
ثم نظر إلى عينيها وأردف قائلا :
- مؤكد أنك لا تدركين كم أنت غالية علي .
أجابت آلاء وقد كست الحمرة وجنتاها :
- لا تبدأ يا هيثم .. فأنت تعلم أنه ما من طريق بيننا .
رد عليها هيثم بثقة والحب يرن في كلماته الصادقة :
- ليس من حقك أن تتكهني بالغيب .. واعلمي أنني راض منك بأي شيء .. ولن يمنعني عن حبك سوى الموت .
أسرعت آلاء مجيبة دون إرادتها .. بد أن أنقبض قلبها لذكره للموت :
- ربنا يحفظك ..
ابتسم هيثم بخبث وراح يشاكسها :
- هل سيؤلمك موتي ؟
أجابت آلاء بمثل لهجته الخبيثة :
- وما الذي يمنعني من التألم على أخي .
انفجر هيثم ضاحكا قبل أن يرد عليها بتلك النبرة الدافئة :
- مقبولة منك .. لقد قلت لك أنني راض منك بأي شيء .. وحبي لك لا ينتظر مقابل يكفيني أن أحبك وأعيش سعيدا بهذا الإحساس المجرد .
ثم خرج ليترك آلاء شاردة مع أفكارها .. إنها لا تنكر حبها لهيثم .. ولكنها لا تقوى على البوح به ..
إنها تخشى عليه من كل شيء ..
تدرك مدى تعلقه بها .. وحبه لها ..
وتتألم .. لمعرفتها أنها لا بد وستفارقه ..
كم هو صعب على الإنسان أن يعيش من غير حب ..
والأصعب أن يلقاه ولا يجرؤ على الاستسلام له ..
فاستسلامها يعني دمار هيثم بعدها ..
وهي لا تقوى على جرحه .. حيه كانت أو ميتة ..
دخلت آلاء لتجلس بين صديقتيها وأمها وأختها .. تشيع جو مرح بينهم كما تعودت دائما .. فبالرغم من مرضها الخطير إلا أنها أكثرهم إحساسا وحبا للحياة .. ربما لأنها تشعر دوما أنها ستعيش حياة اقصر منهم جميعا !!.
عادت آية إلى المنزل وهي شاردة الدهن .. تفكر بالصديقة المريضة المحبة للحياة .. ارتمت في حضن جدتها وكأنها تحتمي من أشباح أفكارها .. واضعة رأسها فوق فخد الجدة .. راحت الجدة فاطمة تتخلل بأصابعها خصلات شعر آية وهي تقرأ بعض السور القرآنية .. لقد كانت تحس بأن طفلتها الصغيرة تعاني الكثير .. فهذه الفتاة الرقيقة اختبرت حياة قاسية منذ نعومة أظافرها ..
دخل الخال إلى البيت .. ليرى آية في حضن جدتها .. وآثار الدمع في عينيها .. تساءل بحنان بالغ :
- هل أنت بخير يا آية ؟.
أجابت آية مطمئنة :
- نعم .. ولكني كنت عند آلاء فلقد علمت أنها مريضة.
أحنى الخال رأسه بأسى :
- فتاة بعمر الورد .. تصاب بمثل هذا المرض القاتل .. وغيرها الكثيرين .. لأن إصابتهم بمثله تعود لاستخدام الإسرائيليين لأسلحة غير شرعية في الحرب مما أدى إلى انتشار مثل هذه الأمراض في شعبنا ..
دعت الجدة رافعة يديها إلى السماء :
- اللهم خفف عنا يا رب هذا البلاء .. يا كريم أغثنا ممن لا يخشاك فينا ولا يرحمنا .

بعد تناول العائلة لطعام العشاء .. أخذت آية مفكرتها الصغيرة وخرجت لتجلس بجانب شجرة السوسن .. وخطت لوالديها عما يزعجها .. فهي تتألم كثيرا على صديقتها آلاء .. ولكنها أيضا لا تستطيع أن تنتزع صورة من خيالها .. وهي صورة شاب فلسطيني جاء محمولا من قبل أصدقائه منذ أيام إلى المستشفى .. كان مصابا اثر عمليه قام بها ضد الإسرائيليين .. وحاول الأطباء إنقاذه .. ولكنهم فشلوا .. لقد كانت أول روح تراها آية تزهق أمام عينيها .. وهي تقف بعجز قاسي .. تنظر إليه دونما أمل .. وبعد ما فارق الحياة .. دخلت حجرة الأطباء لتغسل دمائه التي لطخت يداها .. وظلت تحدق بتلك القطرات الحمراء وهي تنسحب بيسر مع مياه الحنفية .. كم هي رخيصة هذه الدماء .. وكم تعود العالم رؤيتها .. غير مقدرين مدى أهميتها بالنسبة للبعض .. إنها قطرة تنزف بعد قطرة .. لتسجل جرائم الصهاينة في حق أجيال من الفلسطينيين ..
أكملت آية خاطرتها .. ثم اتجهت إلى البيت .. وفي تلك اللحظة انقطع التيار الكهربائي عن الحارة .. دخلت آية إلى البيت مسرعة .. فسمعت صوت رأفت يصيح متذمرا وهو يضرب يده على طاولة الحاسوب :
- أهذا وقت يقطع فيه التيار ؟.
أجاب الخال باستسلام :
- لقد أصبح عذابنا يسليهم يا ولدي .
رد رأفت وهو يزفر بضجر :
- لقد ضاع جهدي كله .. فأنا لم أحفظه بعد على الجهاز .
حاولت آية مواساته :
- لا تغضب .. مؤكد ستعوضه فيما بعد ..
لم يرد عليها رأفت وخرج من البيت وهو يدق الأرض بقدميه .. بعد ثوان دخل يوسف إلى البيت وفي يده شمعة واحدة .. تساءلت آية ساخرة :
- أهذه كل ما استطعت ابتياعه ؟.
أجاب يوسف ضاحكا :
- نعم .. فأنت لا تعلمين قصة هذه الشمعة .
تساءلت الأم مبتسمة :
- أطربنا بقصصك يا يوسف .
رد عليها يوسف بمرحه المعهود :
- لقد كنت أنوي أن ابتاع أكثر من واحدة .
قاطعته الجدة متسائلة بطيبة :
- ولما لم تفعل يا بني ؟.
رد يوسف وهو يجلس بجانبها ويقبل يديها مبتسما :
- لقد قرر البائع أن يجعل سعر الجملة أغلى بكثير من سعر الواحدة .
تساءل الخال باستغراب :
- ولم فعل ذلك ؟.
أجاب يوسف :
- ليضمن أن أكبر عدد من الناس سيحصلون على الشمع ليومهم هذا .. ولن يبتاع واحد أكثر من حاجته .. فالتيار منقطع على كل قطاع غزة لذلك هناك احتمال أن يكون هذا حصار وقود .. وربما يستمر طويلا .
راحت الخالة منى تستفسر منه بقلق :
- وما أدراكَ أنت بهذا الكلام ؟.
رد يوسف ببساطة :
- لقد سمعت الرجال يتحدثون في الشارع .
وقف الخال متجها إلى الخارج وهو يعقد حاجبيه في الظلام :
- سأذهب لأتحقق من صحة هذا الكلام .

لقد بينت الأيام صحة كلام يوسف .. فلقد استمر حصار الوقود على غزة أكثر من شهر .. وفي يوم وآية عائدة من المستشفى دخلت الدار لتجد مها وبراءة في البيت .. ركضت براءة لتحتضن آية .. فقبلتها وذهبت لتسلم على مها :
- كيف حالك يا مها .
أجابتها مها بحزن :
- مثل حال كل أهالي غزة .. نعيش كالأشباح .. حتى أن براءة أصبحت تخاف جدا عندما يحل الليل.
ردت الجدة باستياء :
- مؤكد سوف يرحمنا الله .. ويزيل عنا هذا الهم .
تساءلت آية :
- هل الأولاد في البيت يا خالتي ؟.
إجابتها الخالة :
- رأفت في غرفته ومعه هيثم .. أما يوسف فهو كالعادة خارج البيت مع أصدقائه .
اتجهت آية إلى غرفة الأولاد .. وقبل أن تدخل سمعت رأفت يحدث هيثم بنبره تحدي لم تألفها منه :
- إنه طريق لا بديل لنا فيه .. فهم يدفعوننا في كل لحظه إليه .. من ثم يدّعون أننا المعتدون عليهم !.
أجابه هيثم بصوته الهادئ :
- إن كنت تنوي عملا كهذا يجب عليك التفكير مليا يا رأفت .. فأنت بذلك لا تخاطر بنفسك فقط وإنما بعائلتك أيضا ويجب أن يكون لديهم علم بذلك .. أما بالنسبة لي فانا معك يا صديقي في كل شيء .
انقبض قلب آية لسماعها هذا الحديث .. وسيطر عليها رعب لا تدري منبعه .. ففتحت الباب سائلة رأفت بخوف وصدرها يعلو ويهبط فاضحا توتر أعصابها :
- ماذا تنوي أن تفعل يا رأفت ؟.
بهت الولدان لدخول أية المفاجئ .. ولكن سرعان ما تكلم رأفت مهدئا لها :
- لم كل هذا الخوف يا آية ؟ .. إن كل الشباب الفلسطيني يحيى ليسير في هذا الطريق الذي اخترته أنا.
قاطعته آية قائلة والدمع يترقرق من عينيها بضعف :
- أي طريق هذا يا رأفت ؟.. أبتفجير نفسك تحل القضية ؟.
اندهش الولدان من بكاء آية ولكنهما دهشا أكثر عندما تكلمت عن التفجير .. ثم أدركا أنها لم تستمع إلا إلى الجزء الأخير في حديثهما .. ابتسم هيثم وهو يرى رأفت ينهض ويحتضن آية برفق.. ثم يجلسها على سريره :
- من الذي ذكر التفجير يا آية ؟ ..
أخبرته وهي لا تستطيع السيطرة على دموعها المنهمرة :
- إنني شديدة القلق عليك يا رأفت .. فمنذ بدء الحصار وأنت شارد .. وأنا اعلم أن هنالك ما يشغل تفكيرك .. وكنت أخشى أن تصل لقرار كهذا .. واليوم بالصدفة سمعتك تتكلم مع هيثم فخفت أن تكون شكوكي في محلها .
ضحك هيثم وحدثها مطمئنا :
- لا تقلقي يا آية .. فنحن مستعدون أن نقدم أرواحنا رخيصة لهذا الوطن ولكن ليس بالانتحار .. إننا نود أن نلتحق بصفوف المقاتلين .. فربما يوفقنا الله في أكثر من عملية .
أردف رأفت متمما لكلام صديقه :
- أتعلمين يا آية إن هذا أكثر ما يخيف إسرائيل .. وهو أن شبابنا استغنى عن العمليات الانتحارية .. وأصبح يستطيع أن يصنع سلاحه بيده ويواجه .. لذلك هم يحاربوننا هذه الحرب القذرة ويشددون الحصار على غزة .. فهم يدركون أنها ستظل منبع المقاومة .
وقبل أن ترد آية دخل يوسف إلى البيت تتبعه شذى .. نطت براءة بفرحة وهي تتعلق بذراع يوسف هاتفه :
- لقد جاء يوسف .
حملها يوسف فوق كتفيه واتجه بها إلى غرفته وشذى بجانبه وعندما وجدا آية في الغرفة وأثار الدموع في عينيها .. انزل يوسف براءة على الأرض بينما تقدمت منها شذى تحتضنها بحنان متسائلة :
- ما بك يا آية ؟.
أجابت آية بحزن :
- إن بي الكثير .. فأنا لم اعد أتحمل هذا الضغط .. إنني أعود من المستشفى بعد أن أشيع مزيدا من الأطفال والنساء والشباب الذين يموتون أمام أعيننا .. إن هذا العجز الذي أحس به يمزقني من الداخل .
سكتت آية فقد غلبتها عبراتها .. وظلت براءة محتضنه لساق يوسف بخوف .. وخيم صمت على الشباب .. فعاودت آية حديثها الباكي :
- إن أشد ما يقلق جميع المستشفيات .. هو كمية الأرواح التي تتوقف حياتها على الأجهزة فإذا نفذ الوقود من داخل المستشفيات ستحدث إبادة جماعية لكثير من المرضى .
تمم هيثم على كلامها والقهر يسيطر عليه :
- إن ما يدعوا إلى السخرية هو الموقف العربي منا .. فهناك دول عربيه قدمت لنا المعونات ولكن لم تفتح أي معابر لتوصلها إلينا .
تدخل يوسف مستغربا :
- بالرغم من أن هنالك معابر لا دخل لإسرائيل فيه .
ردت عليه شذى :
- إن إسرائيل تتحكم بكل شيء .. ولكنها لن تجرؤ على ما تفعله بنا إذا كان العرب متحدون .. لقد باعنا إخواننا العرب .. فما الذي يمنع إسرائيل بأن تسخر منا .
في تلك الأثناء سمع الشباب المجتمعين في غرفة رأفت ويوسف طرقات متواصلة على باب الدار .. انتفض كل من في البيت وكانت الأم أول من فتحت الباب لتجد آلاء أمامها قائلة بكثير من الحياء :
- سامحيني يا خالة منى على الإزعاج .. لقد جاء التيار في منزلنا دون بقيه المنازل وفكرنا أنا ونور بأن نعيد شحن الهواتف النقالة لأهل الحارة .
خرج الشباب على صوت آلاء .. فسألها هيثم بتعجب :
- أحقا ما تقولين يا آلاء ؟.
أجابته آلاء وهي تستعجلهم :
- نعم .. فلا تضيعوا مزيدا من الوقت ولتحضروا هواتفكم إلى بيتنا .
خرج الشباب من المنزل متجهين إلى بيت نور وآلاء وهم يضحكون غير مصدقين ما يحدث .. وقاموا بمساعدة نور وآلاء في استغلال التيار بعمل المثلثات الكهربائية لتستوعب الكهرباء أكبر قدر من الهواتف النقالة .. وبعد فترة انقطع التيار .. ومع انقطاعه شهقت آلاء وخيبه الأمل تسيطر على ملامحها الجميلة :
- لقد نسيت أن أشحن هاتفنا النقال يا نور !!.
تعالت الضحكات .. ثم ودعوا التوأمان كل متجه إلى بيته ..

لقد انتهى الحصار بعد أن خلف كثير من الشهداء .. وفي إحدى الأمسيات كانت آية تجلس في غرفتها تقرأ .. عندما قفزت إلى ذاكرتها تلك المواقف التي مرت عليهم أيام الحصار .. شردت قليلا .. وهي تفكر بروح شعبها العالية ..
كيف يستطيع انتزاع الابتسامة من قلب المعاناة .. فهو شعب مؤمن .. صامد .. مفعم بالأمل .. مع كل معاناة يزداد تمسكا بالحياة .. وذلك التمسك يخلق فيه مزيدا من القوة والإصرار على البقاء .
رن هاتف المنزل .. لتفيق آية من شرودها وإذا به الطبيب كمال يحدثها بعجله :
- لقد وصلت إلينا حالات جديدة ونحن نحتاج مساعدتك يا آية .
صمتت آية لبرهة .. فخالها وولداه لم يكونوا بداخل البيت حينها .
أردف الطبيب كمال بعد أن طال صمتها قليلا :
- أنا اعلم أن الوقت متأخر بعض الشيء يا آية .. فإن كان باستطاعتك المجيء سنكون شاكرين لك .. واعذريني الآن فيجب أن أغلق الخط .
ردت آية بصوت منخفض :
- سأحاول ما بوسعي أيها الطبيب كمال .
وضعت السماعة وهي عازمة على الذهاب .. ولكنها تفكر في كيفية نقل الخبر لجدتها والخالة منى .. دخلت إلى غرفتها مسرعة لتحضر حجابها .. فتساءلت الخالة بقلق :
- إلى أين يا آية ؟.
أجابتها بتلقائية :
- إلى المستشفى .. فهم يحتاجون إلي .
تدخلت الجدة متسائلة بخوف :
- ألا تنتظرين أحد أخويك ليوصلك إلى هناك ؟.
ردت عليها آية وهي تتجه نحو الباب :
- لا استطيع يا جدتي .. فالموقف لا يحتمل التأخير .. إلى اللقاء .
ودعت الجدة والخالة آية وهما يتبعانها بنظرات قلقة .. رفعت الجدة رأسها داعية :
- ربي يحفظك يا حبيبتي .. ويوصلك سالمة .
سارت آية على الطريق بخطوات وجلة .. وبعد فترة بدأت تشعر بخطوات ثلاثة شبان خلفها .. ازداد خوفها وأسرعت خطواتها .. ثم أدركت من لهجتهم أنهم إسرائيليين ولكنهم بلباس مدني .. ذعرت آية .. وتوقف تفكيرها فهي لا تعلم كيف وصلوا إلى هذا المكان .. وفوجئت بأحد الثلاثة يمسك بيدها ويشرع في مغازلتها بعربية ركيكة :
- إلى أين يا حلو في مثل هذا الوقت ؟.
حاولت آية التخلص من يده صارخة ولكنه أحكم قبضته عليها وأغلق فمها بيده الأخرى .. ثم قام أخر بنزع حجابها ورميه على الأرض .. ونظره مقرفة تشع من عينيه :
- إنك أجمل هكذا .
تطاير الشعر الناعم الأسود الطويل .. وكأنه يستغيث بدلا عنها .. وفي ثواني لمحت آية جسدا طويلا يحمل جذع شجرة بيده .. يهوي به فوق رأس الإسرائيلي الممسك بها .. ليسقط مغشيا عليه .. فزع صاحباه فأخرج أحدهما مسدسه مهددا به الشاب .. ليتمكن الآخر من سحب زميله وإدخاله في سيارة كانت قريبة منهم .. ظلت آية مصدومة بجانب ذلك الشاب الذي مازال ممسكا بجذع الشجرة في تحد يصرخ من عينيه .. ولكن الغير متوقع .. أن الإسرائيلي الجبان ومع بدء انطلاق السيارة بالفرار أطلق بضعة رصاصات باتجاههما .
فقام الشاب تلقائيا بالالتفاف محتضنا آية بين ذراعيه ليحميها من الرصاص الطائش .. بينما راحت هي تنتفض رعبا في حضنه .. وعندما ابتعدت عنه شعرت بدماء متناثرة على جانب وجهها الأيمن .. وسمعت صرخة مكتومة تنطلق من صدر الشاب .. لقد جرحت إحدى الرصاصات كتفه الأيسر .. وقفت آية مذهولة وهي تنظر إلى سيل الدماء .. وما هي إلا ثواني حتى عاودتها القدرة على التفكير .. تحركت مسرعة وأخذت حجابها المرمي على الأرض وربطت به الجرح لتمنع النزيف .. ثم حدثته بصوتها المهزوز من شده الخوف وهي تجذبه من يده :
- إن بيتنا لا يبعد كثيرا .. تعال معي لا نظف جرحك .
وقبل أن يسير برفقتها .. خلع الكوفية الفلسطينية الملتفة حول عنقه .. وفردها بيده السليمة ثم وضعها على رأس آية .. استغربت آية من ذلك الحرص الذي يلمع في عينيه .. بالرغم من أنهما لا يعرفان بعضهما ..
وصلت آية إلى الدار وهو يتألم بجانبها من الجرح الذي ما زال ينزف من ذراعه .. طرقت الباب بعصبية .. فانتفضت الخالة لتفتحه مسرعة .. وتفاجأت عند رؤيتها وجه آية الملطخ بالدماء .. ثم حولت نظرها إلى الشاب الطويل الأسمر المصاب بجانبها .. ولم تعد تستطيع النطق .
أدخلته آية إلى البيت واتجهت مسرعة لتحضر حقيبة إسعافات أولية .. أجلست الخالة الشاب على أحد الكراسي .. وتساءلت الجدة بقلق :
- ما الذي حدث لكما يا آية ؟.
أجابت آية بكلمات مبعثره غير مفهومة .. وهي تجلس بجانبه منشغلة بإخراج الأدوات من الحقيبة :
- لقد هاجمني ثلاثة إسرائيليين .
ردت الخالة فزعة :
- إسرائيليين .. ومن أين جاءوا ؟..
رفت آية كتفيها تعبيرا عن حيرتها هي الأخرى .. وكل ذرة فيها ترتجف من هول التجربة :
- لا اعرف يا خالتي .
تحدثت الجدة بحنان وهي تنظر إلى الشاب وهو يتألم من الدواء الذي تطهر به آية جرحه :
- مؤكد أنك أنقدتها يا بني وأصبت بدلا عنها .
هز الشاب رأسه خجلا مجيبا لها :
- أي شاب في مكاني ما كان ليتأخر عنها .
تدخلت الخالة شاكرة وهي تنظر إلى الشاب بعطف :
- إنه جميل سنحمله لك دوما .
أردفت آية وهي تربط الجرح مرة أخرى بحجابها :
- اعذرني .. فقد نفذ لدينا الرباط الطبي .
رد عليها الشاب بخجل :
- لقد أتعبتكم معي .. فالجرح لم يكن يستحق كل هذا الاهتمام .
ثم وقف مغادرا بعد أن كررت الخالة شكرها الجزيل .. وشيعته الجدة بدعواتها .. وخرجت آية لتوصله إلى باب الحديقة .. فصافحها مودعا .. وهو يحدثها بلطف :
- اعتني بنفسك .
ردت آية وهي تغالب حيائها :
- أشكرك على معروفك هذا .
ابتسم لها .. وظلت هي ترقب جسده المبتعد بشموخ وخطواته القوية التي يدق بها الأرض .. ثم رفعت يدها لتعدل من وضع حجابها .. فتنبهت إلى أنها مازالت ترتدي كوفية ذلك الشاب الشهم ..
وتذكرت أيضا أنها لم تسأله عن اسمه ..
وفي ذلك الوقت تحركت أحاسيس قوية بداخلها لا تعرف ما منبعها .. ولم تألفها من قبل ..
إن اهتمامه بها .. جعلها تتعجب ..
وما زاد تعجبها وجوده في الوقت الذي احتاجت فيه إلى منقذ ..
حماها على حساب نفسه ..
وكان ظهوره وسط الظلام .. كأنه ملاك ..
ابتسمت آية بسرور عندما وصل تفكيرها به لأن تصوره بالملاك ..
فهو حقا ملاك ..
إنه ملاكها الحارس ..



(4)
أهذا هو الحب ؟

عاد رأفت إلى البيت ليجد آية تقف عند باب الحديقة بفكر شارد ووجهها ملطخ بالدماء وعلى رأسها كوفية فلسطينية .. أثار منظرها الشاحب الرعب في نفسه .. فأسرع خطاه نحوها ثم أمسك كتفيها ووجهه ينبض بقلقه عليها :
- ما بك يا آية ؟.. هل أصابك مكروها ؟... هل أنت بخير .
لم يترك لها مجالا للحديثة فابتسمت مهدئه :
- لا تقلق يا رأفت إنها حكاية طويلة سأخبرك بها في الداخل .
ظل رأفت محدقا بوجه آية الهادئ القسمات .. ثم تحسس وجهها بحنان بالغ :
- المهم هل أنت على ما يرام ؟.
عادت آية تبتسم تلك الابتسامة اللطيفة :
- نعم .
احتضنها رأفت وهو يطلق تنهيدة راحة من صدره .. ثم سارا نحو البيت وهو يصب أسئلته عليها :
- هل كنت بالمستشفى ؟.. وما هذه الكوفية التي فوق راسك ؟.
دخلت آية إلى البيت لتجد جدتها وخالتها يتطلعان إلى ما ستقوله فأجابت :
- لقد كنت في طريقي إلى المستشفى ....
وقبل أن تكمل حديثها دخل الأب إلى البيت ضاحكا من حديث يوسف الذي كان يسير خلفه .. وعندما وجدا آية تقف في الصالة بذلك المنظر .. ركض يوسف نحوها ملتقطا وجهها بكفيه متسائلا بقلق :
- ما هذه الدماء التي على وجهك يا آية ؟.
أسرع خالها عز الدين نحوها يفحصها بعينين فزعتين .. ومتسائلا بنفس لهجة يوسف القلقة :
- ما الذي حدث لك يا بنتي ؟.
أجابتهم آية مطمئنة :
- لم يحدث لي شيء .. الحمد لله إنني بخير أمامكم .. لقد اضطررت فقط أن أذهب إلى المستشفى وفي طريقي شعرت بثلاثة شبان خلفي .. حاول أحدهم الإمساك بي .. وعندما هممت بالصراخ أغلق فمي وقام الآخر بنزع حجابي .. لقد عرفت من لهجتهم أنهم إسرائيليين ..
قاطعها الأب وولداه بصوت واحد :
- إسرائيليين ؟.
أتممت آية حديثها بهدوء :
- نعم كانوا بلباس مدني .. في ذلك الوقت جاء شاب فلسطيني يحمل جذع شجرة ضرب بها الإسرائيلي الممسك بي .
سكتت آية حتى تلتقط أنفاسها .. فحثها يوسف على الكلام متسائلا :
- وماذا حدث بعد ذلك ؟.
ردت عليه آية والإعجاب يتخلل نبرتها المتهدجة :
- لقد أخرج الإسرائيلي الآخر مسدسا ليهددنا به ليتمكنوا من الفرار فلقد كان لديهم سيارة .. ولكنهم أطلقوا علينا الرصاص مع تحرك السيارة .. فقام الشاب بحمايتي وأصيب بدلا عني .
تساءل رأفت :
- وهل هذه الكوفية ملك للشاب ؟.
هزت آية رأسها بحياء وهي تتذكر موقف ذلك الشاب معها :
- نعم .. لقد خفت عندما رأيته ينزف فربطت جرحه بحجابي وعرضت عليه أن يأتي معي إلى البيت .. فخلع كوفيته من فوق كتفيه ليلبسني إياها .
شرد رأفت ويوسف وهما يفكران بما تعرضت له آية .. ثم قالت الخالة منى :
- حقا إنه شاب شهم .. وهو أيضا خجول جدا .
أكدت الجدة على كلامها بدعوة صادقة :
- اللهم احرسه يا رب العالمين .. واحجب عنه كل سوء .
أردف الخال باستياء :
- لقد ستر الله علينا .. ولكن الموضوع كبير جدا .. فوصول الوجود الإسرائيلي إلى داخل غزة يدعو إلى القلق .
تساءل يوسف بحيرة :
- هل تعتقد أنهم يخططون لعمل ما يا أبي ؟
أجاب الأب :
- ربما يا بني .. فهم أشخاص لا يؤمن العيش معهم بسلام .. ولكن ما يحزنني أنهم إن استطاعوا الدخول خلسة إلى غزة فهذا دليل على وجود عملاء فلسطينيين يمهدون لهم الطريق .
حل الصمت بين أفراد الأسرة ثم قطعته الخالة منى وهي تحدث آية بلهجتها الأمومية الحنونة :
- اذهبي يا حبيبتي واستحمي بينما احضر طعام العشاء .
ردت آية باستسلام :
- حاضر يا خالتي .. ولكني لن أشارككم العشاء فأنا أود أن أنام .
قاطعها الخال معترضا :
- تناولي عشائك أولا من ثم اذهبي للنوم .
تدخل رأفت قائلا :
- اتركاها .. فهي تحتاج الآن إلى الراحة .
دخلت آية لتستحم من ثم اتجهت إلى غرفتها .. فسمعت رأفت يحدث والداه بقراره بأن يلتحق بصفوف المقاتلين .. فدار نقاش حاد بين الأسرة .. كان يوسف أول من تكلم بحماسه المعهود :
- خذني معك يا رأفت .
قاطعته الخالة ناهره :
- اهدأ يا يوسف فنحن لم نسمح لأخاك بالذهاب .
حدثها رأفت راجيا :
- وما الذي يمنعكم عن الموافقة يا أمي ؟.
أجابت الأم بحزم :
- إنه قرار كبير .. سيحين وقته لاحقا .
رد عليها رأفت بغضب :
- متى يحين وقته ؟.. عندما نموت ضحايا تحت القصف الإسرائيلي .. هل حياتي رخيصة بالنسبة لكم؟.
تساءلت الأم بحده :
- وهل خوفي عليكم يدل على رخص حياتكم ؟.
أجابها رأفت بإصرار :
- نعم .. لأننا نحيا على هذه الأرض ونحن لا نعلم متى سنموت .. وأنا اخترت أن أموت شهيدا في معركة .
خيم صمت على الأسرة .. ثم التفت رأفت إلى والده يستحثه على الحديث :
- ما رأيك يا أبي ؟.
أجاب الأب بهدوء :
- هذا قرار خطير يا رأفت .. ويجب أن تكون واثقا منه .
تساءلت الخالة والخوف يسيطر عليها :
- هل ستوافقه على جنونه يا عز الدين ؟.
أجابتها الجدة مهدئة :
- لقد أضحى رجلا يا ابنتي ولن يستطيع أحد منعه عن مبتغاة .
تدخل يوسف بسرعة :
- وأنا أيضا أصبحت رجلا .
ضربت الخالة كفيها فوق فخديها ووقفت قائله بما يشبه الصراخ :
- ليفعل كل واحد منكم ما يريد .
ثم اتجهت إلى غرفتها بعصبية .. التفت الأب لولداه :
- اسمع يا رأفت .. مثلما قالت جدتك لقد أصبحت رجلا .. لذلك يجب أن تتحمل نتيجة قراراتك .
ثم وجه حديثه إلى يوسف :
- أما بالنسبة لك .. فاهتم أنت بدروسك وبنشاطك الذي تقوم به على النت وعندما يجد أخاك الوقت مناسب لأن تلتحق به سيأخذك معه .. اتفقنا .
امتعض وجه يوسف وهم بالحديث .. ولكن والده نظر إليه وقاطعه بحزم:
- اتفقنا يا يوسف ؟.
خفض يوسف رأسه وهزه بالموافقة ..ثم قبل الولدان يد والدهما ورأس جدتهما ووقفا متجهين إلى غرفتهما .. ولكن رأفت مر بغرفة آية .. فطرق بابها مستأذنا .. أجابه صوت آية الناعم :
- ادخل .
فتح رأفت الباب وطل برأسه على آية :
- هل مازلت مستيقظة ؟
ابتسمت آية بحب :
- كنت استمع لحديثكم .
دخل رأفت إلى الغرفة وجلس بجانبها على حافة السرير واحتضن يديها الرقيقتين في كفيه .. وبدأ يحدثها والألم يعتصره :
- لن أسامح نفسي أبدا يا آية إن حدث لك مكروه .
نظرت إليه آية بحنان .. فهي تدرك مدى حرص رأفت عليها :
- لا تقل مثل هذا الكلام يا رأفت .. نحن نعيش في بلد لا يملك الإنسان فيها روحه .. لذلك لن تستطيع حمايتي دائما .
عاد رأفت يحدثها بإصرار :
- أنا اعرف هذا .. ولكني أخاف عليك جدا يا آية .. فمنذ موت عمتي وأنا أحس بأنني مسئول عنك .. ولا أريد أن يأتي يوم تلومني فيه على تقصيري معك .
ردت عليه آية مبتسمة :
- لن تلومك يا رأفت .. فلقد كنت لي نعم الأخ والصديق .. وإن كان لدي أخ من أبي وأمي لن يحبني مثلما تفعل أنت .
صمت رأفت .. فتابعت آية كلامها والحزن يتسلل خلسة إلى قلبها الرقيق :
- أنا لا استطيع تخيل البيت من دونك .. فكيف ستقوى على فراقنا يا رأفت ؟.
تساءل رأفت مندهشا :
- هل تعارضين ذهابي يا آية ؟.
أجابته آية وهي لا تستطيع أخفاء مشاعرها :
- ليس من حقنا جميعا أن نعارض مثل هذا القرار .. ولكن يصعب علينا احتماله .. فأنا مثلا احتاجك في كل وقت .. قل لي من سيهتم بي مثلك ؟.. و كيف سيمر يومي بدونك يا رأفت ؟.
ربت رأفت على كفيها وابتسم لها مداعبا :
- هل تعتقدين أنني استطيع الابتعاد عنك ؟.. سأظل احمل همك .. وستبقي أختي الصغيرة ما حييت .
قبل رأفت آية على جبينها ووقف مودعا :
- تصبحين على خير .
- وأنت من أهل الخير .
خرج رأفت .. وحاولت هي النوم .. إلا أن تفكيرها لم يدعها .. لقد كانت تفكر بأخيها الحبيب .. فهي متعلقة جدا برأفت وستفتقده كثيرا .. وفي تلك الأثناء ظهر في خيالها ذلك الشاب الأسمر الطويل .. الذي أصيب بدلا عنها .. كم كان شجاعا معها .. ولكنها لم تطل التفكير به .. لقد غلبها النعاس وغضت في نوم عميق .


في منطقة أخرى لا تبعد كثيرا عن حارة آية .. كان الشاب الفلسطيني أدهم قد تعرض لنفس الأسئلة القلقة من أمه وأخته .. إذ دخل أدهم إلى بيته بكتفه المصاب وكانت أخته نسمة هي أول من رأته فركضت نحوه لتمسك بكتفه المصاب ومتسائلة بلوعة :
- ما بك يا أدهم ما الذي أصابك ؟
خرجت الأم من المطبخ فزعه عند سماعها سؤال ابنتها .. وضربت صدرها بكفيها وهي ترى ابنها الجريح :
- ابني .. ما الذي حدث لك يا حبيبي ؟.
ابتسم أدهم مطمئنا :
- لا تخافا إنه جرح بسيط .
لم تفلح كلمات أدهم المطمئنة مع الأم .. فانهمرت دموعها وهي تتحسس يد ابنها بحنان بالغ :
- أنت تكذب علي .
قاطعتها نسمة قائلة بقلق وهي تجلس أخاها على اقرب كرسي :
- دعيه يرتاح أولا يا أمي .
ثم نظرت إلى أخاها وهي تغمره بنظراتها المحبة :
- هل يؤلمك ؟.
أجابها أدهم :
- بعض الشيء .. ولكنه ليس عميقا .
تساءلت الأم وهي تتحسس رأس ولدها الوحيد :
- كيف أصبت به يا أدهم ؟.
حدثهما أدهم والألم يرتسم في ملامحه بين الحين والآخر :
- لقد تعرضت فتاة للمضايقة .. فساعدتها ولكن اتضح لنا أن الذين ضايقوها إسرائيليين .. فأطلق أحدهم الرصاص علينا قبل أن يفروا .. فأصبت أنا بأحد الرصاصات .. ولقد أخذتني الفتاة إلى بيتها وداوت جرحي .. فلا تقلقوا عليّ .
عادت الأم تتساءل باستغراب :
- وكيف وصل الإسرائيليون إلى غزة يا ولدي ؟.
أجابها أدهم وهو يعدل من جلسته :
- ربما كانوا جواسيس يا أمي .. فلقد علمت من قادة حركة المقاومة حماس أن الإسرائيليين دائما ما يحاولون القبض على بعض الملتحقين بالحركة .. لأخذ المعلومات منهم عن طريق تعذيبهم .
أضافت نسمة والرهبة تتسلل إلى قلبها :
- قد تكون أنت أحد هؤلاء المقبوض عليهم .
أجابها أدهم ببساطة :
- ربما .. من يدري .
ثم وقف وقبل رأس والدته التي بدت شاردة :
- لا تفكري كثيرا يا أماه .. دعيها على الله يدبرها كيفما شاء .
هزت الأم رأسها باستسلام ثم رفعت يديها داعية :
- ربنا يحميك يا حبيبي .. فأنت كل ما تبقى لنا بعد أباك الشهيد .
احتضن أدهم أخته وهو يتجه بها إلى غرفته وقبلها مشاكسا :
- ألن تساعديني في تغيير ملابسي ؟.
ابتسمت نسمة مجيبه بحب :
- بلا .. سأفعل .
دخل الأخوان إلى الغرفة .. فاستلقى أدهم على السرير .. وبدأت نسمة بإخراج ملابس أخاها من داخل الدولاب ووضعتها على سريرة .. ثم جلست بجانبه وهي تدقق النظر إليه فسألته مستغربه :
- أين الكوفية التي كنت ترتديها ؟.
أجابها أدهم بخجل .. وابتسامه لطيفه تداعب شفتيه رغما عنه :
- لقد أعطيتها لآية .
رفعت نسمة حاجباها في دهشة :
- ومن هي آية هذه ؟.
أجابها أدهم ببساطة :
- إنها الفتاة التي حدثتكم عنها .
راحت نسمة تلح بأسئلتها محاوله إحراجه أكثر .. وهي تسلط عليه عينيها الفاحصتين :
- ولما أعطيتها الكوفية ؟.
رد أدهم ممازحا لأخته الصغيرة :
- هذا ليس من شانك .
هددت عليه نسمة مهدده :
- تكلم وإلا أخبرت أمي .
أجابها أدهم باستهتار :
- كلميها .
صرخت نسمة بأعلى صوتها :
- يا أمي ..
وقبل أن تكمل صراخها .. نهض أدهم ليطبق فمها بكفه السليمة :
- حاضر .. حاضر .. سأخبرك بكل شيء .
تساءلت الأم من الصالة :
- ما بك يا نسمة ؟.
ردت نسمة مبررة صراخها :
- كنت أود أن أسالك عن شيء .. ولكنني تذكرت مكانه .
ثم استلقت بجانب أخاها وراحت تحثه على الحديث .. وابتسامة خبيثة ترتسم على شفتاها :
- احكي لي بالتفصيل الممل .
نظر إليها أدهم مبتسما .. والمرح يشيع بوضوح في ملامحه :
- أي تفصيل .. يالك من فتاة شقية .. لم تتوقعين أن تكون قصة شيقة ؟.. لقد نزع أحد الإسرائيليين حجاب تلك الفتاة فخلعت كوفيتي وألبستها إياها .. هل ارتحت الآن ؟.
لم تكتفي نسمة بذلك القدر :
- وكيف عرفت أن اسمها آية ؟.
أخبرها أدهم باستخفاف :
- من نداء أهلها لها يا ذكية .
قالت نسمة وهي تهز رأسها ضاحكة :
- وأخيرا عرف الحب طريقه إلى قلبك يا أدهم .
أدعى أدهم البراءة وهو يهز رأسه باستغراب :
- أي حب .. أتسمين المعركة التي عشناها حبا .. إن أي شاب ليقوم بما فعلت .
رفعت نسمة أحد حاجبيها غير مصدقة لكلام أخاها .. فنهرها بحزم :
- هيا اذهبي الآن ونامي .. لديك ثانوية غدا صباحا .
قبلت نسمة أخاها وخرجت مهدده :
- لن اضغط عليك فأنت مرهق اليوم .. ولكن حسابك معي في الغد .
ضحك أدهم من شقاوتها اللذيذة .. ثم نهض ليغير ملابسه .. بفكر مشوش .. وبعد أن أتم لبسه طرقت أمه الباب لتتساءل بعطف :
- ألن تتناول عشاءك يا أدهم ؟.
أجابها أدهم متوسلا :
- لا أريد يا أمي فأنا منهك وأود أن أنام .
أردفت الأم باستسلام :
- كما تريد يا حبيبي ولكن إن أحسست بالجوع فالأكل بداخل الثلاجة .
هز أدهم رأسه مجيبا على والدته .. فأوصته قبل خروجها :
- ارتاح الآن .. وليس ضروريا أن تذهب غدا إلى الكلية .
أجابها أدهم مطمئنا :
- حسنا يا أمي .
خرجت الأم .. واستلقى أدهم على سريره محاولا النوم .. ولكنه لم يستطع .. ظل فكره المشوش يعيد أمامه صور الماضي .. كم كان الموقف الذي مر به اليوم شبيها بيوم استشهاد والده .. لقد كان يومها في السادسة من العمر .. وكان والده يعمل في التجارة يأتي ببضائع من الأردن ويبيعها في فلسطين .. فاصطحب أدهم معه في آخر رحله له .. وفي طريق العودة كان والد أدهم يحمل دبدوب أبيض صغير في يده اشتراه لنسمة التي وضعتها أمها وهو في السفر .. وعلى الحدود أوقف أحد جنود الاحتلال السيارة الممتلئة بالركاب .. وبدأ التفتيش الروتيني على كل من في السيارة بإنزالهم منها وأخذ بطاقاتهم .. من ثم حضر جندي أخر وأعاد البطاقات وأمرهم بالتحرك .. فركبوا السيارة حامدين الله لأن التفتيش لم يطل مثل كل مرة .. بدأ السائق بتحريك السيارة .. في حين سمع الجندي الذي أوقفهم يصرخ من الخلف :
- قف .
فتوقف السائق .. لكن الجندي الآخر الذي أعاد لهم بطاقاتهم قال بعصبية :
- تحرك .
فأخرك السائق رأسه مستفسرا :
- أقف أم أتحرك ؟!.
أجابه الجندي الآخر :
- قلت تحرك .
قام السائق بتحريك السيارة ولكن الجندي الذي خلفه شحذ بندقيته وأطلق الرصاص على السيارة بصورة عشوائية .. خفض كل من في السيارة رؤوسهم .. ولكن استقرت إحدى الرصاصات في رأس والد أدهم مخلفة سيل من الدماء لتغرق تلك الدمية التي في يده بدمائه الساخنة .. ظل أدهم ينظر إلى أباه مصعوقا ..
شعور صعب ذلك الذي أحس به أدهم وهو يرى أباه غارقا بدمائه ..
كيف تستطيع إقناع طفل صغير بعمر أدهم أن والده قد فارق الحياة ..
فهو لم يكن يدرك أن رصاصة صغيرة مثل تلك .. قد تنتج هذا الكم من الدماء .. وتتسبب بحرمانه من أباه ..
لم يكن يعي معنى الموت .. كم هو مؤلم أن تقف مكتوف اليدين .. ألا تستطيع أن تحمي من تحب ..
ولكن كيف كان سيحمي أباه بينما هو طفل بريء يحتاج للحماية ..
إنه يتألم كل يوم عندما يتذكره ..
ذلك الإنسان الحنون الذي كان يلعب معه لساعات طويلة ..
والذي كان يتحرق شوقا لرؤية المولودة الجديدة ..
لقد عاد أدهم إلى أمه بجسد الشهيد .. وبدمية دامية يهديها لأخته التي لم تعرف أباها قط ..
كم تعذب وهو يرى أمه تصارع الحياة لتوفر لهم حياة كريمة ..
وفطرت قلبه تلك الدموع التي كانت تحبسها طول النهار .. لتطلقها خلسة في كل ليلة .
كم أوجعه سؤال أخته الصغيرة عن أباها .. وحاول جاهدا أن يعوضها ذلك الحنان الأبوي والذي لم يكتفي منه هو الآخر ..
فمن يعوضه هو .. ومن يطفئ تلك النار التي تشتعل بداخله ..
لقد أعلنت الإذاعة الإسرائيلية بعد يومين من استشهاد والده بأن سيارة حاولت أن تدهس أحد الجنود الصهاينة ولكنهم أطلقوا النار عليها فقتل أحد ركابها .
لقد استشهد والده وطويت حادثة استشهاده بكذبة وضيعة ..
وهو الآن يحس بمسئوليته نحو أمه وأخته ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع منع نفسه من أن يسترد حق أبيه .. فهذا ما دفعه للالتحاق بحركة حماس منذ أن قوي ساعد ه .
أخذ أدهم نفسا طويلا .. ثم أطلق تنهيدة حارة حملها بعض همومه .. وفي ذلك الوقت قفزت إلى ذهنه صورة آية بوجهها الملائكي البريء .. وشعرها الناعم الأسود الطويل المتطاير في الهواء .. ابتسم رغما عنه .. وبدأ تفكيره ينصب حول آية .. يالها من فتاة جميلة في غاية الرقة .. لقد حركت بداخله الكثير من الأحاسيس .. فمنذ رآها وهو يحس طعما أخرا للحياة .. بأنه يريد حمايتها من كل شيء .. لقد ساعدها دون وعي منه بعقوبة ما يفعل .. فلقد شعر بأن قطعه من جسده تنتهك عندما رآها تحاول الخلاص من الإسرائيلي الجبان .


في صباح اليوم التالي .. استيقظت آية مع نسمات الصباح الأولى .. كان كل من في البيت لازالوا نائمين .. أخذت آية مفكرتها وخرجت لتجلس بجانب شجرتها الحبيبة .. لتختلي بوالديها .. وبعد أن أكملت خاطرتها وأتمت تجهيز نفسها للذهاب إلى الكلية .. فتحت دولابها لتلقي نظرة أخيرة على كوفية ملاكها الحارس .. ابتسمت آية وهي تتحسس الكوفية بيديها وخيالها يعيد تفاصيل الأمس .. والذي كان جميلا بشكل من الأشكال .. ثم خرجت إلى الصالة لتجد رأفت يحتضن أمه ويقبلها فوق رأسها وفي كل أنحاء وجهها وهي تضحك بين يديه :
- هل تقوين على خصامي يا أمي ؟.
أجابته الأم وهي تغمره بنظرة ملؤها الحب :
- أنا لا أقوى على فراقك يا حبيبي .. ولكنني فكرت بالأمس بحديثك .. وأدركت أنك محق .. وأن هذا القرار مهم بالنسبة لك .
قبل رأفت يد أمة ونفسه مفعمة بالسرور :
- إن ما يهمني هو رضاك عني .
طرق باب المنزل فذهب رأفت ليفتحه ليجد شذى تقف بوجهها الباسم :
- صباح الخير يا رأفت .
رد عليها رأفت بابتسامة حب :
- صباح النور .. تفضلي .
رحبة الخالة منى بالصديقة اللطيفة :
- تعالي وافطري معنا يا شذى .
أجابتها شذى وهي تنظر لآية لتستعجلها:
- شكرا يا خالتي .. ولكننا تأخرنا على الكلية .
ودعت الفتاتان الأسرة واتجهتا إلى الخارج .. وفي الطريق أحست شذى بغرابة صديقتها فتساءلت مستفسرة :
- ما بك يا آية هل أنت متعبة ؟.
أجابتها آية وابتسامة حلوة ترتسم على شفتاها :
- لقد كان يوم أمس يوما خياليا .
تساءلت شذى وهي تبتسم لابتسامة صديقتها :
- وما هو الخيالي في يوم أمس ؟.
بدأت آية تسرد لصديقتها تفاصيل أمسها .. وكانت شذى تستمع بشغف وملامحها تتقلب بين الحين والآخر بين الخوف .. اللهفة على صديقة عمرها .. و لتستسلم بالأخير لابتسامتها .. من ثم حدقت شذى بآية التي كانت قد أنهت قصتها :
- يبدو أن هذا الشاب قد أثر فيك كثيرا يا آية ؟.
أجابتها آية والخجل يربك كلماتها :
- أنا لا أنكر أنه كان شجاعا معي .. ولكن ما شدني إلية تلك النظرة التي رأيتها في عينيه .. وكأنني أرى فيهما حرص رأفت وخوفه علي .
ابتسمت شذى لكلام آية .. فأردفت آية مبرره :
- وأكثر ما أسعدني .. أنني بالأمس حلمت بوالدي .. لقد أفقت من النوم وأنا مرتاحة وكأنني رأيتهما فعلا .
شاركتها شذى فرحتها :
- مؤكد أنهما يشعران بك .. وربما جاءا للاطمئنان عليك .
ردت آية وعيناها تشردان وراء والديها اللذان تعيش معهما في أحلامها :
- إنني لازلت اشعر بحضنهما .. وقبلاتهما لذلك .. وكأنه حقيقة .. لذلك أسعد عندما أحلم بهما .

وصلت الصديقتان إلى الكلية .. قضت آية يومها ككل يوم .. ولكنها كانت تتمنى أن تطمئن على ذلك الشاب .. وتود أن تشكره فهي تحس أنها لم تفه حقه من العرفان بالجميل ..
ولكنها كانت تجهل أنه لا ينتظر منها الشكر .. فهو يأمل منها بما هو أكثر .. فشعور أدهم نحو آية كان أعمق من شعورها .. فآية فتاة رقيقة تسهل محبتها للناس .. ولكن أدهم وبالرغم من طيبة قلبه إلى أنه يدرك أن ما يشعر به نحو آية الجميلة .. إحساس مختلف .. وأقوى منه .. لقد أصبح يفكر بها كثيرا ..
ويتملكه الشغف ليعرف المزيد عن حياتها .. ما تحب .. وما تكره ..
يريد أن يحدثها .. أن يخفف عنها حزنها .. ويشاركها فرحها ..
حتى أنه كثيرا ما يجد نفسه يسلك طريق بيتها عندما يعود من ورشه الميكانيكا التي يعمل بها ..
وفي يوم وجدها تجلس بجانب شجرة بها ورود سوسن .. وبيدها مفكرة تكتب بداخلها ..
لقد ظل أدهم يومها يتأمل آية إلى أن دخلت منزلها .. من ثم سار عائدا إلى بيته وهو يضحك على نفسه ..
ما هذا الذي قلب كيانه بشكل مفاجئ ..
لقد أصبح يجد لحياته معنى وهدف ..
وكأنه زاد حبا للحياة .. ولمن حوله ..
حتى أن حماسه للمقاومة قد تضاعف ..
هل كانت نسمة محقه عندما قالت أن الحب عرف الطريق إلى قلبه ..
ربما .. فإن كان ما يشعر به هو الحب ..
إذا فهو يجد الحب إحساس جميل .. بجمال حبيبته آية ..

----------------------


(5)
من أجلك ..

مرت الأيام ورأفت وهيثم يزدادان ارتباطا بحركة حماس .. وبدؤوا بتنفيذ بعض مهام الحركة من توزيع منشورات .. وأعمال خفيفة طول فترة التدريب .. وأعطي كل واحد منهما سلاحا .. ومع هذه التغيرات عاشت الأسرتان قلقا على الولدين ولكنهما راضيان عن أفعالهما .. إلى أن جاءت الامتحانات النهائية للعام الدراسي 2007-2008 فانشغل الشباب في التحضير لها ..
وفي فجر اليوم الأخير للامتحانات .. استيقظت آية بنشاط ثم ذهبت إلى غرفة ولدا خالها تسير على أطراف أصابعها حتى لا تزعج يوسف .
هزت آية كتف رأفت وراحت تيقظه بصوت منخفض :
- رأفت .. رأفت .. هيا استيقظ لكي تعيد استذكار دروسك .
أجابها رأفت بضيق .. وهو يتململ فوق سريره :
- حسنا يا آية .. سوف ألحقك بعد قليل .
ألحت عليه آية وهي تكرر هز كتفه :
- رأفت .. أنا لن أتركك حتى تنهض .
أخرج رأفت زفرة من أنفه ونهض متذمرا :
- وأنا أعرف مدى عنادك .
ردت آية بصوتها المنخفض وهي تضع سبابتها على فمها :
- هسس .. أخفض صوتك حتى لا تزعج يوسف .
أردف رأفت وهو ينظر إلى يوسف بحسرة :
- يا له من محظوظ .. لقد أنهى امتحاناته وهو الآن ينعم بالنوم .
أجابت آية مبتسمة :
- لم الحسد ؟.. ساعات وسوف ننهي نحن أيضا امتحاناتنا .
ثم أردفت قائلة وهي تجره من يده :
- هيا قم أيها الكسول .. سوف أحضر لك فنجان شاي حتى تفيق .

وفي الصباح خرجت آية بصحبة شذى .. وقبل أن تفترقا كل واحدة إلى كليتها .. نبهتها شذى :
- لا تنسي يا آية أن تأتي إليّ عندما تنهي امتحانك .. حتى نعود إلى البيت سريعا وننهي المفاجأة التي حضرناها لنور وآلاء .
أجابتها آية مطمئنه :
- حسنا .. لا تقلقي .
وبعد انتهاء الامتحان انشغلت آية بالحديث مع زميلاتها عن الامتحان وتوديعهن .. ثم تذكرت فجأة وعدها لشذى فذهبت مسرعة إلى كلية الهندسة .. وعند دخولها الكلية اصطدمت بشاب فأوقع ما بيده من كتب .. نزلت آية لتساعد الشاب في التقاط أشياءه وهي تقول بارتباك دون أن تنظر إلية :
- اعذرني .. فلقد كنت مستعجلة .
أمسكت آية بأحد كتبة ووقفت مع الشاب لتناوله إياه ثم أدركت أنه نفس الشاب الذي أنقذها .. ظلت تنظر إليه بدهشة مشوبة بفرح عقد لسانها .. لكنها نطقت أخيرا :
- كيف حالك .. هل أنت بخير ؟.
أجابها أدهم وهو ينظر إليها بملء عينيه غير مصدقا نفسه أنه يحدثها .. وكأنه يعيش إحدى أحلام يقظته :
- نعم .. أنا بخير .. ولكني كنت قلقا عليك .
عقدت آية حاجبيها باستغراب متسائلة :
- عليّ أنا ؟.
أجابها أدهم موضحا :
- لقد خفت أن يؤثر فيك ما حدث .
ابتسمت آية وهي تخبره بخجل :
- لا تخف .. فلقد كنت سأتأثر لولا أن الله بعث لي من يحميني .
أنتقل خجلها إليه .. فأردفت آية قائلة باهتمام :
- لقد شغلت بالي .. وكنت أود أن أطمئن عليك .
حدثها أدهم مطمئنا :
- أنا بخير .. فلم يكن جرحي خطيرا حتى يستدعي منك القلق .
تساءلت آية بعد أن تذكرت شيئا مهما :
- آه صحيح .. أنا إلى اليوم لا اعرف اسمك .
رد عليها أدهم وهو يمد يده مصافحا :
- أدهم .
صافحته آية وهي تبتسم :
- وأنا اسمي آية .
وفجأة سمعت آية صوت شذى يصرخ من خلفها :
- آية .
التفتت لتجدها تشير لها ليذهبا .. فعادت تقول لأدهم وهي تناوله كتابه الذي مازال في يدها :
- لقد كانت صدفة جميلة .. عرفت بها اسم منقذي .
أجابها أدهم وهو يمرر يده بين خصلات شعره ليداري خجله :
- لا تعطي الموضوع أكبر من حجمه .. لأنني لم أصنع معجزة .
ثم أردف قائلا وهو يعيد لها كتابه :
- خذي هذا الكتاب فهو كتاب شائق باسم ( اليهود والعالم ) .. سوف يفيدك كثيرا .
أخبرته آية والحيرة ظاهرة عليها :
- ولكنني لا أعرف كيف سأعيده إليك فاليوم آخر يوم دراسي .
رد أدهم وهو يغرقها بنظرات حب :
- ليس مهما .. أعيديه مع بداية السنة الجديدة .. حتى أضمن أنني سأراك .
ثم أردف مبتسما :
- لتكون هذه المرة لقاء مقصود وليس صدفة .
خفضت آية رأسها بحياء وهي تبتسم وقبل أن تجيب .. علا صوت شذى مرة أخرى هاتفه بها بعد أن نفذ صبرها :
- هيا يا آية سوف نتأخر .
عادت آية تقول لأدهم وهي تبتعد عنه مودعه :
- مع السلامة يا أدهم .. انتبه لنفسك .. وشكرا على الكتاب .
- في أمان الله .. واعتني أنت أيضا بنفسك .
أسرعت آية نحو صديقتها ثم خرجتا من الكلية .. وأدهم لا يزال واقفا ينظر إليها إلى أن اختفت .
اتجه إلى بيته وهو يشعر أنه يسير فوق السحاب .. لقد كان يحس بأنه يحلم .. ثم بدأ يقلب كتبه ليكتشف أن كتابا ينقصها فيثبت لنفسه أن ما مر به كان حقيقة .. دخل أدهم البيت وهو يدندن بأغنية لكاظم :
- " أحبيني .. بعيدا عن بلاد القهر والكبت بعيدا عن مدينتنا التي شبعت من الموت " .
انتبه أن أمه وأخته ينظران له باستغراب فسكت عن الغناء وقبل أمه على رأسها .. ثم اتجه إلى غرفته .. تبعته نسمة فوجدته يهم بخلع قميصه .. فوكزت كتفه بكتفها وشاكسته ضاحكه :
- من تكون ؟.
نظر إليها أدهم مستفسرا :
- من تكون ؟!!.
أجابت نسمة ببساطة :
- التي تطلب منها أن تحبك ؟.
صرخ أدهم وهو يتجه إلى الصالة محدثا أمه :
- يا أمي .. متى سنزوج هذه الفتاة ونرتاح منها ؟.
ابتسمت الأم مداعبه :
- عندما نفرح بك أولا يا حبيبي .
ضحكت نسمة عليه :
- لقد أوقعت نفسك بنفسك .
رد أدهم على أخته :
- إذا كان زواجك مشروط بزواجي .. فيبدو أنك ستنتظرين كثيرا .
قاطعته الأم ناهره :
- ولم الانتظار يا بني .. وأنت لا ينقصك شيء ؟.
أجابها أدهم بصوت هادئ وهو يخرج تنهيدة قصيرة من صدره :
- إن حياتنا كلها عبارة عن لحظات انتظار .. ننتظر أن نكبر .. لننجح في حياتنا .. ونعمل .. ثم ننتظر أن نحب ..لنتزوج وننجب أطفالا .. ومع كل تلك المراحل نعيش لننتظر الموت .
وبخته الأم على ذلك الحديث اليائس :
- ما هذا الكلام يا أدهم .. كن حسن الظن بالله ليكرمك .
هز أدهم رأسه باستسلام .. فتحدثت نسمة لتغير مغيرة للموضوع :
- دعنا من هذا الكلام المتشاءم .. وقل لنا كيف الامتحان ؟.
أجابها أدهم وهو يتجه إلى المطبخ بعد أن تذكر لقائه الأخير بآية :
- كان ممتازا .
تساءلت نسمة وهي تتبعه أينما ذهب :
- ألن تخبرني عن سبب سعادتك إذا ؟.
تساءل أدهم وهو ينظر إليها مستفسرا بعد ما اخرج عصير من الثلاجة واتجه إلى غرفته :
- وهل أنا كئيب في العادة ؟.
حدثته نسمة مبررة :
- لا لست كذلك .. ولكن اليوم بك شيء مختلف .. انظر إلى نفسك لترى هذا البريق الذي يلمع في عينيك .
جلس أدهم على حافة السرير وابتسم قائلا بعينين شاردتين وباحثتين عن آية الساكنة في مخيلته :
- لقد رأيتها اليوم .. وتحدثت معها أيضا .
تساءلت نسمة بفضول أكبر وهي تقف أمامه :
- من هي التي رايتها ؟.
أجابها أدهم باستغراب :
- آية .
حاولت نسمة تذكر الاسم :
- أليست هذه الفتاة التي أنقذتها ؟.
أجابها أدهم مؤكدا :
- نعم إنها هي .
رفعت نسمة حاجباها والدهشة تتملكها :
- كل هذه الفرحة لمجرد أنك رايتها ؟.
خفض أدهم رأسه مبتسما .. وهو يرشف من الكأس الذي في يده ..
فأردفت نسمة بمرح أكبر :
- ألم اقل لك يا أخي أن الحب عرف طريقه إلى قلبك ؟.
أجابها أدهم بخجل وهو يرفع كتفاه :
- ربما .
ضحكت نسمة ثم جلست بجانبه وهي تحثه بلهفة :
- اخبرني بكل شيء .. كيف رأيتها .. وماذا قلتما لبعضكما ؟.
وقبل أن يتكلم أدهم .. نادت الأم على نسمة :
- نسمة .. اتركي أخاك ليرتاح .. وتعالي لتساعديني في شغل المطبخ .
تغضن وجهها معلننا عن ضيقها .. فقال أدهم ضاحكا :
- أسمعت ما قالته أمك .. هيا انهضي ودعيني ارتاح منك .
ردت عليه نسمة وهي تخرج من الغرفة مشيرة بسبابتها :
- سوف أعود إليك .. فلن ترتاح مني أبدا .
ابتسم أدهم .. ووضع الكأس الذي بيده على الطاولة واستلقى على السرير .. وبدأ يفكر بكلام أمه ..
هل يستطيع أن يفكر بالارتباط ..
لم يخطر ببالة قط مثل هذا السؤال ..
فكل همومه تتمحور حول أمه وأخته .. وتوفير احتياجاتهما ..
وفي المقاومة التي يثأر بها لدماء أبيه المهدورة ..
وهو أيضا لم يشعر باحتياجه إلى الارتباط ..
ولكنه الآن دائم التفكير بآية ..
هذه الفتاة الرقيقة .. كيف احتلت قلبه دون استئذان ..
إن كل ما يتمناه الآن .. هو رؤيتها سعيدة ..
وإذا فكر في الارتباط .. فلن يحب أن تشاركه حياته سواها ..

في تلك الأثناء كانت آية وشذى تجلسان في غرفة آية .. وتقومان بصنع بطاقة معايدة كبيرة من الورق المقوى .. قامتا برسم أشكال مختلفة وإلصاقها في البطاقة كرسم سماعة طبيب وكرة قدم وشاشة حاسوب وعمارة طويلة ودفتر بجانبه قلم وورده .. وأشياء أخرى ليشارك الكل في الكتابة بداخل واحدة من تلك الأشكال التي تشير إلى اهتماماته .. وبعد بضع ساعات أصبحت البطاقة غنية بخطوط عائلة شذى وآية وحتى براءة رسما من اجلها دمية صغيرة لتكتب عليها بمساعدة يوسف كلمة ( أحبكما ) ..
اتجهت الصديقتان إلى بيت نور وآلاء وفاجأتهما بالهدية اللطيفة .. تحدثت نور وهي تنقل عينيها بين السطور :
- إنها أجمل هدية رأيتها في حياتي .
فأردفت آلاء مؤكدة :
- إنها هدية رقيقة جدا .. وتحمل الكثير من المشاعر الطيبة .
قبلت التوأمان صديقتيهما .. وقبل أن تخرج الصديقتان أخبرتهما آية :
- صحيح .. إن خالة منى ستقوم بتحضير الغداء لنا غدا بمساعدة خالة جهاد وكلفتني بدعوتكم .
قالت آلاء مازحة :
- أهذا كله بمناسبة يوم مولدنا ؟.
أجابتها شذى ضاحكة :
- إنه بمناسبة انتهائنا جميعا من الامتحانات .
أردفت نور وهي تطلق تنهيدة راحة :
- لقد كان هما وانزاح .
خرجت شذى وآية من بيت صديقتيهما .. وتساءلت شذى مستفسرة بلؤم في طريق عودتهما :
- آه كدت أنسى أن أسالك .. من ذلك الشاب الذي كنت تتحدثين إلية ؟.
ضحكت آية على صديقتها :
- وهل تذكرتي الآن ؟.
أجابتها شذى مبتسمة بخجل :
- لقد لهيت بصنع البطاقة .
أجابت آية وإحساس غريب يداعب قلبها :
- إنه نفس الشاب الذي أنقذني .. واسمه أدهم .
صمتت شذى قليلا وهي تقلب الاسم في رأسها :
- اسم مناسب له .. فأدهم يعني اسم من أسماء الأسد .
ابتسمت آية لصديقتها :
- لقد أعارني كتابا .. ويبدو أنه كتاب شائق .
مازحتها شذى وهي تودعها عند مدخل البيت :
- مؤكد أنك ستقرئينه اليوم ولن تدعيه حتى تكمليه .. كعادتك في التهام الكتب .
ودعت آية صديقتها ودخلت إلى غرفتها لتختلي بكتاب أدهم .. وبعد العشاء جلست الأسرة في الصالة وبدأ الحديث يدور بينهم .. كل يحكي عن أخبار يومه .. وقبل أن يتوجهوا إلى النوم .
أستوقف رأفت والديه :
- أريد أن أحدثكما بأمر ؟.
تساءل الوالدان والاهتمام ظاهر عليهما :
- خير .
أردف رأفت بصوت هادئ :
- أريد أن استأذنكما .. فغدا لن أبات في البيت .
قاطعته الأم متسائلة :
- لم .. أين ستبات ؟.
أجابها رأفت برفق :
- غدا وبعد صلاة العشاء سنتجه أنا وهيثم إلى مقر المقاومة .. فقد تحددت أول عملية سنقوم بها .
مرت سحابة قلق على وجوه كل من في البيت .. ثم تساءلت الأم بقلب ملتاع :
- هل هي عملية خطيرة ؟.
ابتسم رأفت وتقدم منها مقبلا يدها :
- ليس هنالك عملية خطيرة وعملية سهلة يا أمي .
أردفت الجدة وهي ترفع يديها إلى السماء :
- اللهم احمي ولدي واصرف عنه أبصار العدو .. ليعود سالما إلينا .
ظلت الأم تنظر إلى ولدها صامتة وهي تغالب دموعها .. فتحدث الأب وهو يربت على كتف رأفت :
- ليبارك بك الله يا ولدي .. وموفقون بإذن الله .
كان يوسف وآية ينظران إلى الحوار بدهشة .. وبعد أن انتهى الحديث بين رأفت ووالديه دخل إلى غرفته ليضع أشياءه المهمة بداخل حقيبة رياضية .. فتبعته آية ومعها يوسف .. تحدثت آية أولا وهي تساعده في ترتيب الحقيبة :
- أحقا ستذهب غدا ؟.
أجابها رأفت وهو يبتسم لها بحنان :
- نعم يا آية ؟.
تساءل يوسف باهتمام :
- لماذا لم تخبرنا من قبل ؟.
أجابه رأفت بنفس ذلك الهدوء :
- لأنه لم يكن مسموحا لي أن أكلم أحدا قبل أن يتحدد موعد العملية .
نظرت إليه بحزن لم تستطع منعه من التسرب إلى ملامحها الرقيقة :
- سنشتاق إليك كثيرا يا رأفت .
أخبرها رأفت مازحا وهو يداعب خدها بأنامله :
- كلما اشتقت إلى ادعي لي .. فهذا ما أحتاجه منكم .
ثم وجه حديثه ليوسف :
- انتبه على أختك يا يوسف .. ولا تغضب والديك منك .. وأرعى جدتك .. إنهم أمانة عندك الآن .
طمئنه يوسف وهو يحتضنه :
- لا تقلق .. ولتعتني بنفسك من اجلنا يا رأفت .
ضم رأفت أخاه إليه :
- إنشاء الله .
ابتعد يوسف عن أخاه قليلا ليرى عينيه :
- في المرة القادمة لن أدعك تذهب لوحدك .
ضحك رأفت .. واستمر الحديث ينساب بين الثلاثة .. إلى وقت متأخر من الليل .. ثم تركتهم آية لتذهب إلى غرفتها وتكمل كتابها ..
في الصباح جاءت الخالة جهاد وشذى ليساعدا آية وخالتها .. وفي الظهيرة استقبلت أسرة آية عائلة الخال نضال وصديقتيهما نور وآلاء وأمهما .. كان يوما جميلا .. اجتمعت الأسر الأربعة على الغذاء وكان الحوار يدور بين الجميع ولا يفهم منه شيء .. فهو يدور بين أكثر من شخص ويناقش أكثر من موضوع .
بعد انتهاء الأسر من الغذاء بدأ البيت ينقسم إلى ثلاثة مجاميع .. جلس الرجال في الصالة .. والنساء في غرفة آية .. وتسلل الشباب إلى الحديقة وبرفقتهم براءة يحملها يوسف على ظهره ..
تساءلت شذى وهي تساعد آية في فرش حصيرة ليجلسوا عليها :
- هل انتهيت من الكتاب يا آية ؟.
أجابتها آية بحماس :
- لم أنم حتى أكملت جزءا كبيرا منه .. إنه حقا كتاب شائق .. يحمل الكثير مما كنا نجهله عن اليهود .
تساءل هيثم باهتمام :
- أي كتاب هذا يا آية ؟.
أجابت آية ببساطة :
- إنه كتاب باسم ( اليهود والعالم ).
قال رأفت مستفسرا :
- من أين حصلت علية ؟.
أجابته آية بحياء وهي تتذكر أنها لم تخبر أهلها برؤيتها لأدهم :
- لقد نسيت أن أخبركم .. بالأمس لقيت ذلك الشاب الذي انقدني .. وهو الذي أعارني إياه .
تساءل يوسف :
- وأين لقيته ؟.
ردت آية بعفويتها :
- في كلية الهندسة .. يبدو أنه يدرس هناك .
أردفت شذى مؤكدة على كلام آية :
- نعم إنه يدرس هناك .. وأنا أعتقد أنه في قسم الميكانيكا لسنة الثالثة .
تدخلت آلاء وقد نفذ صبرها :
- دعونا من كل هذه الأسئلة .. واحكي لنا يا آية ما قرأته في الكتاب .
أجابتها آية وهي تهز رأسها باستياء :
- إن به أشياء لا يستوعبها عقل .. لو تعلموا كم هم بشعين هؤلاء اليهود .. فهم لا ينتقصون العرب فقط وإنما كل إنسان لا يعتنق اليهودية .
أيدت نور على كلامها :
- لقد ذكر هذا في القران .. فاليهود يعتقدون أنهم أبناء الله .. وأنهم الشعب المختار .
رد عليها يوسف :
- هذا صحيح يا نور .. بالرغم من أنهم أكثر شعب جاحد بالله .. فمثلا النجمة السداسية المرسومة على علمهم .. تدل على ما جاء في الثورات المحرفة بأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام وفي اليوم السابع استراح وتنفس .
أكملت آية حديثهما :
- إن الذي المني حقا .. أنه ذكر في الكتاب أن الكنيس الذي يتعبد بداخله اليهود لا يمكن أن يخلو من دماء الضحايا – غير اليهود طبعا - ففي كل مناسبة يؤخذ دم الضحايا ويجفف على صورة حبوب ويمزج بعجين الفطائر .
قاطعتها آلاء والذعر المشوب بالقرف يرتسم على ملامحها :
- أحقا ما تقولين يا آية ؟.
ردت آية بثقة :
- اجل يا آلاء .. والأبشع أن هنالك أعياد مثل عيد الختان تحضر تلك الفطائر من دماء الأطفال .. وهناك طرق أيضا في استنزاف تلك الدماء .. فأحيانا يتم ذلك عن طريق ما يسمى ( البرميل الإبري ) وهو برميل مثبت على جوانبه من الدخل إبر حادة توضع فيه الضحية حية فتغرز هذه الإبر في جسمها وتسيل الدماء ببطء من مختلف أعضاها وتظل كذلك في عذاب اليم حتى تفيض روها .. بينما يكون اليهود الملتفين حول البرميل في أكبر نشوة بما يبعثه هذا المنظر في نفوسهم من لذة وسرور .. وينحدر الدم إلى قاع البرميل .. ثم يصب في إناء .. وأحيانا تقطع شرايين الضحية في عده مواضع ليتدفق الدم من جروحها .. وأحيانا تذبح الضحية كما تذبح الشاه ويؤخذ دمها .. وبعد أن يجمع الدم بطريقة من الطرق السابقة أو غيرها تسلم إلى الحاخام أو الكاهن أو الساحر الذي يقوم باستخدامها في إعداد الفطائر المقدسة أو عمليات السحر .
حل صمت رهيب بين الشباب غير مصدقين ما سمعوه .. ثم قطعت الصمت براءة وهي تتشبث بقميص يوسف وتسأله بخوف :
- هل سيقوم اليهود بقتلي أنا أيضا يا يوسف ؟.
احتضنها يوسف وراح يربت على رأسها مطمئنا :
- لن يجرؤ أحد على إيذائك طالما أنا معك .
تداركت آية وهي تربت على رأس براءة بعد أن تذكرت أنه لا يجب أن تستمع لمثل هذا الكلام :
- لا تخافي يا براءة .. فهذا لا يحدث في بلادنا .
أردف رأفت متمتما :
- نعم .. لأنه يحدث ما هو أبشع من ذلك .
أيد هيثم على كلامه باستياء :
- إن اليهود قساة القلب وهم مذكورون في القران بأنهم قتلة الأنبياء .. وهذا غير بعيد عن طبيعتهم الشيطانية .
ردت آية على كلامه :
- لقد ذكر الكتاب أيضا بعض قوانين اليهود المذكورة في التلمود .
تساءل يوسف باهتمام بالغ :
- وما هو هذا التلمود .
أجابه هيثم موضحا :
- إنه كتاب يضم بعض قوانين اليهود التي تكشف مدى تفكيرهم الجهنمي المتعالي على دونهم من البشر .
تدخلت شذى مستفسرة :
- مثل ماذا ؟.
وقفت آية فجأة :
- دعيني أحضر لكم الكتاب لأنني لا أتذكر الكثير من قوانينهم .
غابت لفترة قصيرة ثم عادت وهي تحمل الكتاب بيدها .. وبدأت تقلب بين صفحاته إلى أن وصلت إلى الصفحة المعنية .
بدأت آية تقرأ وهي تنقل عينيها بين سطور الكتاب :
- اسمعوا هذا .. 1) اليهودي يعتبر عند الله أكثر من الملائكة .. فإذا ضرب (جوييم) يهوديا فكأنه ضرب العزة الإلهية ويقصد بالجوييم من هم غير يهود .
2) لو لم يخلق اليهود لانعدمت البركة من الأرض ولما خلقت الأمطار والشمس .
3) الأجانب غير اليهود كالكلاب .. والأعياد لبني إسرائيل وليست للكلاب .
4) مصرح لليهودي أن يطعم الكلب ولا يطعم الأجنبي .. فالكلب أفضل .. والشعب المختار يستحق الحياة وحده .
5) بيوت غير اليهود زرائب للحيوانات .
6) لا يجوز لليهودي أن يشفق على غير اليهودي من الأمم .. ويحق له أن يغش غير اليهود .. وأن ينافق ويجامل الأجنبي عند اللزوم على أن يضمر له الشر والأذى .
7) لليهودي حق امتلاك الدنيا ومن فيها .. فكل البشر بهائم خلقوا لخدمه اليهود .
8) كل من يقتل أجنبيا يقرب قربانا إلى الله .
9) الزنا بغير اليهود سواء كانوا ذكورا أو إناثا مباح ولا عقاب عليه .
10) مصرح لليهودي أن يسلم نفسه للشهوات والرذائل .
11) اليمين التي يؤديه اليهودي للأجنبي لا قيمه له ولا يلزم اليهودي بشيء لأنه لا أيمان بين اليهودي والحيوان .
12) مباح لليهودي أن يؤدي عشرين يمينا كاذبة يوميا .. وتمحى ذنوب هذه الأيمان في اجتماعات الغفران التي يعقدها الحاخامات .
13) التلمود وجد قبل الخليقة .. ولولاه لزال الكون .. ومن يخالف حرفا منه يمت .
14) إن الله يدرس التلمود منتصبا على قدميه .
أغلقت آية الكتاب وهي تنظر إلى تلك الوجوه المتجهمة حولها .. وأردفت :
- وغيرها الكثير من القوانين التي تنافي الفطرة البشرية .
تحدثت شذى بحرقه :
- لقد قاسينا نحن الفلسطينيين الكثير منهم .. ونحن ندرك أنهم سيئون ولكنني لم أكن أتصور أنهم يفكرون بهذه الطريقة .
أردفت آلاء والحيرة تلفها :
- إنها حقا كارثة .. أن يكون هذا الدمار الذي يسببونه عبارة عن أوامر لا يستطيعون مخالفتها .
أضافت نور على كلام توأمها :
- وأيضا يعتقدون أنهم يؤجرون على كل جريمة يقومون بها .
أضاف رأفت بسخرية مريرة :
- ونُسأل بعد ذلك لما لا نتعايش معهم بسلام .. كيف نأمن العيش مع أناس لا يصونون العهد .. ويعيشون على الخداع .
تدخل هيثم مضيفا :
- إن بالرغم مما يسببه اليهود من هلاك لمن حولهم .. إلا أن هنالك يهودا يرفضون مثل هذه الأفكار المتطرفة .. ويعلنون براءتهم من ممارسة مثل تلك الجرائم .
حاولت ألاء كعادتها تغيير الموضوع بعد أن أطلقت تنهيدة حارة من صدرها :
- دعونا الآن من هذا الموضوع الكئيب .
أيدتها شذى بسرعة :
- نعم .. لقد عرفنا ما فيه الكفاية عن اليهود .
أردف رأفت وهو يبتسم ابتسامته الساخرة :
- وسنعرف .. فالتجربة خير برهان .
نهرهم يوسف أخيرا وهو يقف حاملا براءة التي كانت تجلس بهدوء في حضنه وتنصت للكلام بكل حواسها :
- لقد أخفتم الصغيرة بكلامكم هذا .
تساءلت براءة وقد عاد الخوف إليها :
- هل أنت متأكد يا يوسف بأن اليهود لن يقتلوني مثل الأطفال الذين تحدثت عنهم آية .
اجلس يوسف براءة فوق كتفيه وهو يخبرها مداعبا :
- مؤكد لن يستطيعوا ذلك .. فهم إذا رأوك سوف يحبونك فورا .
ضحكت براءة .. ووقفت آية لتعيد الكتاب:
- كان يجب أن نؤجل حديثنا هذا .. فلقد أخفنا براءة .. إضافة إلى أنه كان يجب أن نودع رأفت وهيثم وداعا ألطف من هذا .
تساءلت آلاء بلهفة وهي تنظر إلى هيثم :
- لم .. إلى أين ستذهب يا هيثم ؟.
أجابها هيثم متصنعا البساطة وهو يغالب مشاعره التي تحتد مثلها :
- سوف نتجه أنا ورأفت اليوم إلى معسكرات المقاومة .. لأنه يجب علينا أن نتواجد هناك .
لم تملك آلاء سوى الصمت .. وهي تنظر إلى هيثم وقد تملكها القلق .. فتساءلت نور وهي تحول نظرها بين رأفت وهيثم :
- أحقا .. ما تقولان ؟.
أجابها رأفت :
- نعم يا نور .
بدأ البيت ينفض من زواره .. وقرب موعد رحيل الولدان فبدأ الجو يتوتر .. والمشاعر ترق .. ذهب هيثم ليوصل نور وآلاء وأمهما إلى البيت ليعود ويودع أهله .. وعند باب التوأمان قبل هيثم والدة نور وآلاء على رأسها فودعته داعية :
- ربي يحرسكما يا ولدي أنتم وكل شباب المسلمين .. ولا يوجع قلب أم على ولدها .
سلمت نور عليه متمنية له التوفيق .. وظلت آلاء واقفة أمامه بعد دخول أمها وأختها إلى البيت .. كان هيثم يشعر بالشفقة عليها من ذلك القلق الذي يتملكها :
- لا تحزني يا آلاء .. فأنا لا أحس أنني سأفارقك لأنك معي دائما .
أجابته آلاء وهي خافضة لرأسها :
- أنا لست حزينة .. ولكن خوفي عليك سيميتني يا هيثم .
رفع هيثم رأسها بأصابع يده .. فرأى دموعها تنساب بضعف والتي كانت تحاول أن تخفيها .. مسح هيثم تلك الدموع وراح يحدثها بحب :
- أتبكي من أجلي يا آلاء ؟.
هزت آلاء رأسها والعبرات تخنقها .. فأردف هيثم :
- إن دموعك غالية عليّ .. فلا تبكي .. واعلمي أنني سأعود بإذن الله .
نظرت آلاء إليه غير مصدقة :
- لماذا أحس إذا أنني لن أراك ثانية ؟.
ابتسم هيثم وتساءل مداعبا :
- هل تعتقدين أني سأموت ؟.
نهرته آلاء وهي تشيح بوجهها عنه :
- لا تقل هذا الكلام يا هيثم .
ضحك عليها ثم أمسك بوجهها بين كفيه :
- صدقيني .. لن أموت وسأظل أركض ورائك إلى أن تحبيني مثلما احبك .
ابتسمت آلاء من خلال دموعها وحمرة الخجل تغزي وجنتيها .. ثم خلعت السلسلة التي كانت معلقة حول عنقها وأعطتها لهيثم :
- خذ هذا المصحف .. ليحميك ويذكرك بي دائما .
اخذ هيثم السلسلة التي يتدلى منها مصحف صغير الحجم .. ولبسه ثم أدخله تحت قميصه .. وعاد ليحتضن يديها بين كفيه الدافئتين :
- سوف أعود يا آلاء .. سوف أعود من أجلك أنت .
ثم ودعها وذهب .. ظلت آلاء تنظر إليه بيأس .. وكأنها تريد أن تتزود برؤيته ما يصبرها على فراقه .. بينما قلبها يتلوى بين الضلوع ..
كيف ستتحمل حياتها من دونه ..
إننا نشعر بمحبتنا لمن حولنا عندما نفترق عنهم ..
وآلاء كانت تدرك أن هيثم يحتل مكانة في قلبها لن يحتلها سواه أبدا ..
كم تخاف أن تفقده أو يتعرض للأذى ..
ولكنه قطع لها وعدا بأن يعود ..
فقط من أجلها ..

-------------------------


(6)
بقاء الروح !

ودع هيثم عائلته ثم مر ليصطحب رأفت .. حمل رأفت حقيبته الرياضية على ظهره وذهب ليقبل جدته فوق رأسها :
- لا تنسيني بدعائك يا جدتي .
تجمعت العائلة حوله تنظر إليه بحزن .. فوقف رأفت وسلم على أباه الذي جمدت الكلمات على لسانه .. فلم يستطع سوى تقبيل ولده على جبينه .. تقدم يوسف من أخاه ليحتضنه :
- سأنتظر أن تأتي وتأخذني معك .. فلا تطل غيابك .
ابتسم رأفت .. ثم طوق أمه بذراعيه والتي انفجرت بالبكاء وهي تقبله في كل أنحاء وجهه :
- اعتني بنفسك يا حبيبي .. وعد إلي سالما .
سكت رأفت وذهب إلى آية بعد أن أفلت نفسه من حضن والدته .. حدثها رأفت وهو ينظر إلى تلك الدموع الحبيسة في أعين آية :
- لم تنظرون إلي وكأنني لن أعود ؟.
نهرته آية وهي تحاول التجلد أمامه :
- لم تحب المزاح في كل وقت ؟.
داعبها رأفت بصوت منخفض وهو يقترب منها ضاحكا :
- إذا استشهدت فالحاسوب ملك لك .
ضربت آية صدره بقبضتها وأجهشت بالبكاء .. فاحتضنها ضاحكا وهو يهمس في أذنها :
- كفى .. لا تبكي .. وإلا أعطيته لشذى .
سمعت العائلة صوت هيثم يستعجل رأفت :
- هيا يا رأفت سنتأخر على الشباب .
هم رأفت بأن يخرج من البيت .. فاستوقفته آية لتدخل إلى غرفتها .. أحضرت قرآنا صغير الحجم وأعطته لرأفت :
- اقرأه دائما كلما أحسست بضيق .
ابتسم لها وربت على كتفها .. ثم خرج ليبدأ مشواره الصعب هو وصديق عمره هيثم .. وقبل أن يبتعدا جاءت شذى تركض خلفهما وهي تنادي على أخاها .. ثم ناولته هاتفا نقالا وهي تتحدث لاهثة :
- لقد كدت أن تنساه .. أتريد أن تقلقنا عليك منذ الآن ؟.
أشاع مجيء شذى الفرحة في ملامح رأفت .. والذي مد يده ليسلم عليها :
- لقد كان نسيانه للهاتف في صالحي إذا .. كي اسلم عليك قبل أن نذهب .
سلمت شذى على رأفت والخجل يلفها تحت نظراته الهائمة .. ضغط رأفت على يدها برفق .. وكأنه يهمس لها من خلال أنامله بحبه المكتوم ..
حدثتهما شذى بكثير من الارتباك :
- اهتما ببعضكما .. وعودا سالمين .
هز هيثم كتف صديقه ليستعجله :
- هيا يا رأفت .. لقد أضعنا الكثير من الوقت .
ودع الولدان شذى التي ظلت ترقبهما ..
لقد كانت تحس بأحاسيس الفتاة أن رأفت يميزها عن غيرها ..
وكانت تحدث نفسها دائما بأنه يحبها مثل آية ..
فوطنت نفسها على أن تحبه كأخ أكبر ..
ولكنه اليوم أثار في نفسها إحساسا جديدا ..
فهي تراه وهو يختفي أمامها .. وتشعر بأنه انتزع قلبها معه ..
فهل تصْدُق أحاسيسها .. ويكون رأفت يحبها ..
هزت شذى رأسها محاوله أن تطرد تلك الأفكار منه .. وقالت متمتمة وهي تعود إلى البيت :
- يا رب احميهما .. فهما غاليين علينا .

وصل الصديقان إلى المعسكر وسلما على الشباب الموجودين .. ثم بدأ قائد العملية يفرد خريطة أمامه ويعيد لهم شرح العملية ..
ثم أخبرهم بعد أن انتهى من حديثه :
- سوف نقسمكم على شكل مجاميع كل ثلاثة شباب في مجموعة .. لتهاجموا الموقع المقصود من أكثر من اتجاه .. وعند انتهاء العملية انسحبوا وعودوا فرادا حتى لا تثيروا الشكوك .
هز الشباب رأسهم بالموافقة .. فبدأ القائد بتقسيمهم إلى أن وصل إلى رأفت وهيثم فقال لهما :
- إن هنالك شاب .. سوف يكون معكما .. ولكنني لا اعرف لماذا تأخر .
وفي تلك الأثناء ظهر أدهم .. فسلم على الشباب و القائد:
- اعذروني على التأخير .
أجابه القائد ببساطة :
- المهم أنك استطعت الحضور .
ثم أردف القائد مشيرا إلى رأفت وهيثم :
- هذان يا أدهم شريكاك في العملية .. وهي عمليتهم الأولى .
صافح أدهم الصديقان .. وتبادلوا كلمات التعارف .. فعاد القائد يحدث الشباب :
- حاولوا أن ترتاحوا إلى أن يحين موعد العملية .
خلد الشباب إلى النوم .. ولكن رأفت ظل مستيقظا يتقلب فوق فراشه .. ثم خرج ليشم الهواء النقي .. وبعد برهة أحس بخطوات خلفه وصوت يحدثه :
- هل تشعر بالقلق ؟.
التفت رأفت ليرى أدهم واقفا .. فبتسم وهو يرد على سؤاله بسؤال آخر :
- ألا يحق لي ذلك ؟.
ابتسم أدهم وتقدم من رأفت :
- هل يمكنني الجلوس معك ؟.. فأنا أيضا يتملكني القلق مع كل عملية .
هز رأفت رأسه بالإيجاب :
- وهل يمكنني رفض طلب كهذا ؟.
جلس أدهم بجانبه .. فعاد رأفت يتساءل طارقا باب الحديث :
- هل يبعد بيتك كثيرا عن هنا ؟.
أجابه أدهم :
- لا ليس كثيرا .
تساءل رأفت باستغراب :
- إذا لماذا تأخرت ؟.
أجاب أدهم وهو يشرد ببصره :
- أوقفتني دموع أمي التي تودعني بها دائما .. ونظرات أختي الصغيرة التي أرى بها الخوف من عدم عودتي .
أطلق رأفت زفره من أنفه :
- معك حق .. إننا جميعا نشارك في هذه المعركة .. حتى أهالينا يشاركننا الجهاد بقلوبهم المعلقة خوفا علينا .
ظل الولدان يتحدثان إلى ما بعد منتصف الليل .. ثم أفاق الشباب وخرج هيثم باحثا عن صديقه .. فتساءل مستغربا وهو يراه يجلس مع أدهم :
- ألم تنامان ؟.
ضحك أدهم وهو يسمع رأفت يجيبه بمرح :
- لا أيها الكسول .. كيف استطعت أنت أن تنام ؟.
رد هيثم ببساطة :
- وما الذي يمنعني عن ذلك ؟.
وقف الولدان .. وأحاط رأفت صديقه بذراعه :
- يال أعصابك الباردة .

مرت دقائق قصيرة والشباب يتحضرون ليتجهوا إلى موقع العملية .. ثم خرجوا متسللين بين الجبال وبرد الليل يخترق ملابسهم .. إلى أن وصلوا إلى أحد معسكرات اليهود .. واقتحموه كما تقتضي الخطة من عدة اتجاهات .. وبدأت الاشتباكات الدامية بين الطرفين .. وكان الموقف لصالح الشباب .. فظهورهم المفاجئ أشاع الرعب في قلوب الجبناء .. وفي وسط المعركة صرخ أدهم منبها رأفت وهيثم بعد أن استنفذ ما بداخل سلاحه من رصاص :
- يجب أن ننسحب يا شباب قبل أن تفرغ ذخيرتنا جميعا .
وفي تلك الأثناء حاول إسرائيلي أن يصيب رأفت .. فقام هيثم بإطلاق رصاصة عليه ولكنه لم يفلح بإسكات الرصاصة الصهيونية .. فأسرع أدهم ليحمي رأفت بجسده .. ليصاب بخاصرته بدلا عن صديقه الجديد .. خر أدهم على ركبتيه مستندا بإحدى يديه على الأرض والأخرى يمسك بها موضع الرصاصة .. فانحنى رأفت بجانبه ونهره وهو يخلع كوفيته الفلسطينية ويربط بها خصر أدهم :
- لم فعلت ذلك يا أدهم ؟.
لم يجب أدهم .. فلقد بدأ وجهه يتقلص .. وأطلق صرخة ألم بغير إرادته ..
كان هيثم مازال يقف بجانبهما وهو يحاول حمايتهما بالبندقية التي يحملها بين يديه .. ثم أخبر رأفت وهو يلف ذراعه حول أدهم :
- هيا يا رأفت .. ساعدني لنخرجه من هنا .. فليس أمامنا الكثير من الوقت .. مؤكد أن الإسرائيليين قد اتصلوا طلبا للعون .
ساعد رأفت صديقه وانسحب الثلاثة من المعسكر .. وهيثم لا يزال يحمل البندقية .. وفي الطريق ومع نسمات الفجر الأولى بدأت خطوات أدهم تتباطأ .. والدماء لازالت تتدفق من جرحه حتى أخمص قدميه فحدثهما باستسلام :
- اتركاني فلا فائدة مما تفعلان .
رد عليه رأفت بإصرار :
- سوف نوصلك إلى منزلي .. فستجد هناك من يخرج لك الرصاصة ويعتني بك .
رفع أدهم إحدى يديه وضغط بها على رأسه محاولا إسكات ذلك الصداع الشديد وأردف بوجهه الشاحب :
- إنني أحس بدوار ولا اعتقد أني سأصل إلى أي مكان .. ومنظري هذا سيكشفكما .
أجابه هيثم زاجرا :
- لتكشفنا يا أخي .. إما أن نصل سويا أو لنبقى سويا .
لقد كان الطريق طويلا .. وطال أكثر في نظر الثلاثة الشبان .. إلى أن وصلوا إلى البيت .. بدأ رأفت بطرق الباب طرقات خافته بعض الشيء حتى لا ينتبه الجيران .. كانت آية أول من أفاق على وقع تلك الطرقات الملحة .. وجاء صوتها من خلف الباب متسائلة بوجل :
- من الطارق ؟.
أجابها رأفت وقد تملكه الضيق :
- افتحي يا آية هذا أنا .
أسرعت آية نحو الباب .. فأدخل رأفت وهيثم أدهم الذي كان قد أغمي عليه .. ووضعاه على سرير رأفت .. تحدث هيثم وهو يركض نحو الباب :
- سوف اذهب لأحضر والدي .
كانت آية تنظر إلى أدهم وقد تصلب كل جزء فيها فلم تقوى على الحركة .. وأفاق كل من في البيت على صوت الولدان .. تساءل يوسف بقلق على الشاب الملطخ بدمائه :
- من هذا الشاب يا رأفت .. وما الذي حدث معكم ؟.
وقبل أن يجيب روع الوالدان رؤية ابنهما بثيابه الملطخة بالدماء فأسرعت الأم تحتضنه وتتفقده :
- هل أنت بخير يا رأفت ؟.
ثم أدركت أنه بخير وهي ترى ذلك الشاب المصاب على السرير .. أتت الجدة بخطواتها المتئدة وقالت بلهفه بعد أن اطمأنت على حفيدها ودققت النظر إلى أدهم :
- أليس هذا هو الشاب الذي أنقذك يا آية ؟.
ظلت آية تنظر إلى أدهم غير مصدقه .. فهزها رأفت ليحدثها برجاء :
- آية ما بك .. حاولي مساعدته أرجوك فلولاه لكنت مكانه الآن .
دخل الطبيب كمال لينقذ آية من ذهولها وأمرها وهو يخرج أدواته الطبية من حقيبته :
- آية .. احضري لي ماء ساخن .. وليخرج الجميع من الغرفة عداك .
تحركت آية نحو المطبخ مسرعه وتفكيرها متوقف .. ومر الوقت ببطء والطبيب كمال يحاول إخراج الرصاصة من خاصرة أدهم .. والجميع في الخارج يتطلعون على باب الغرفة بوجوه جزعة .. تساءل الأب والحزن يسيطر على كلماته :
- هل أصيب في المعركة ؟.
أجاب رأفت وهو يحس بنار تتأجج بداخله :
- لقد حاول إنقاذي يا أبي .
ثم أردف وهو يدق يده بالحائط :
- لن أغفر لنفسي أبدا إذا حل به سوء .
أم*** يوسف مهدئا .. وهو يشعر بقلق أخيه يتسرب إلى قلبه :
- سينجو بإذن الله يا رأفت .
خفض هيثم رأسه محاولا تصديق يوسف .. فتحدث الأم باستغراب :
- كم هو غريب هذا الشاب .. فلقد حمى آية من قبل .. وهو الآن ينقذ رأفت .. وكأنه ملاك بعثه الله لنا .
أكدت الجدة على كلامها داعية بصدق :
- اللهم احميه .. مثلما حمى أولادنا .
خرج الطبيب كمال أخيرا بعد ساعات مشحونة بالتوتر .. لم يعد أحد يدرك ما مر من وقت وهم يترنحون تحت وطأه الخوف والهواجس تعصف بهم من كل جهة .. طمئنهم بهدوء :
- الحمد لله .. لم تكن إصابته خطيرة ولكن يبدو أنه نزف الكثير من الدماء .
أطلق الكل تنهيده راحة .. ثم تنبه هيثم وهو يحدث رأفت :
- يجب علينا الخروج قبل أن يفيق الناس .. ونغير ثيابنا فعليها الكثير من الدماء .
تساءلت الخالة منى وهي تنظر إلى ابنها بحنان ودموع الشوق تترقرق من عينيها دون إرادة :
- ألا تستطيعان البقاء ؟.
أجابها رأفت بفكر شارد :
- مؤكد سوف تقلب إسرائيل الدنيا لتجدنا .. وأنا لا اعرف كيف سنخبئ أدهم وهو بهذه الحالة .
طمئنه يوسف وهو يضع يده على كتفه :
- لا تقلق يا أخي .. اذهبا أنتما واتركا هذا الموضوع عليّ .
تسلل الولدان إلى الخارج .. ثم خرج الطبيب كمال بعدهما بدقائق حتى لا يثير الشكوك .. أغلقت آية الباب بفكر مضطرب ثم اتجهت إلى المطبخ محاولة أن تشغل نفسها :
- سوف احضر لكم الإفطار .. ولتذهبي لترتاحي يا خالتي .
استوقفتها الخالة وهي ترثي حالها المضطرب :
- لا يا آية اذهبي لتهتمي بالشاب .. فربما يحتاج لشيء .
هزت آية رأسها موافقة .. ودخلت إلى غرفة ابنا خالها .. التي كان يرقد بها أدهم ووجهه مسترخي بعد أن عانى كثيرا في إخراج الرصاصة فأعطاه الطبيب كمال إبرة مهدئه لينام .. جلست على سرير يوسف المقابل له لتتأمل أدهم بحب ..
دخل يوسف وجلس بجانبها وهو يستدعيها من شرودها الحزين بصوت حنون :
- أهو حقا يا آية نفس الشاب الذي أنقذك ؟.
أجابته آية محاوله السيطرة على نبضاتها المتزايدة بينما تراقب صدر أدهم الذي يعلو ويهبط بأنفاس منتظمة :
- نعم .. إنه هو مل ...
ابتسمت لنفسها وعينيها لا تزالان معلقتين بأدهم النائم بهدوء .. وأكملت جملتها في صدرها ((إنه ملاكي الحارس)) ..
حدثها يوسف وهو يشاركها النظر إلى الشاب المصاب :
- إنه فعلا شاب غريب مثلما قالت أمي .. ولكنه شجاع أيضا .
ردت عليه آية وقد تذكرت شيئا مهما :
- صحيح يا يوسف .. كيف ستخبئ أدهم إذا جاء الإسرائيليون بحثا عنه .
راح يوسف يشرح لها فكرته .. وعيناه تشعان بذكائه :
- سوف اخرج الآن إلى الحديقة .. واحفر بجانب شجرة السوسن حفرة سنضعه بداخها إذا علمنا بقدومهم .
تساءلت آية بوجل وهي تتخيل خطته :
- وكيف سيستطيع التنفس ؟.
أجاب يوسف ببساطة :
- سنترك له فراغا صغيرا يتنفس منه .
فكرت آية قليلا ثم أضافت :
- وأنا سأذهب لأضع إحدى زهرات السوسن في أصيص لنغطي به الفراغ الذي ستتركه حتى لا يسترعي انتباههم .
مازحها يوسف محاولا التخفيف من ذلك الحزن المسيطر على ملامحها الجميلة :
- يبدو أن لديك عقل يفكر .
ردت آية وفكرها مازال مشغولا :
- ولكن يبقى هنالك شيء ناقص .. كيف سنعلم بمجيء الإسرائيليين ؟.
طمئنها يوسف :
- سوف أحاول الجلوس خارجا أكبر وقت ممكن .. ومؤكد سيصلني الخبر عبر الناس .. فهم لن يتركوا بيت إلا وسيقومون بتفتيشه .
وحقا لم يطل الانتظار .. ففي الظهيرة كان الإسرائيليين يهجون على كثير من بيوت غزة المشكوك فيها .. ويأخذون كل من يشتبهون به من شباب ونساء .. فجاء جاء يوسف مسرعا لينقل أدهم إلى الحفرة بمساعدة آية :
- أسرعي يا آية .. فليس لدينا الكثير من الوقت .
وفي الوقت الذي انتهيا فيه من إخفاء أدهم دخل مجموعة من الجنود المسلحين .. وأمسكوا بهما يدفعانهما إلى داخل البيت ثم وقف قائد الجنود صارخا باحتقار بتلك العربية الركيكة :
- أين هو الإرهابي الذي تخفيانه ؟.
أجاب الخال عز الدين وقد خرج من غرفته تتبعه الخالة :
- عن أي إرهابي تتحدث ؟.
قال القائد وهو يمسك ذراع الأب بقسوة مشيرا إلى يوسف ببندقيته :
- أتحدث عن الإرهابي الآخر .
أجابت آية والحقد يتقد بداخلها :
- إن من يدافع عن نفسه لا يعتبر إرهابيا .
اقترب القائد منها وهو ينظر إليها وكأنه يعريها بعينية :
- وأنت من سيدافع عنك أيتها الجميلة ؟.
حاول الخال التقدم نحوها فأمسك به أحد الجنود المسلحين .. ولكن يوسف كان أقرب إليها فحال بينها وبين القائد الإسرائيلي معلننا بتحدي .. وهو يضغط على أسنانه بقرف :
- اتركها .. فلا يوجد بيننا إرهابيين سواكم .
ضحك الإسرائيلي بسخرية وهو يضع فوهة بندقيته على صدر يوسف :
- آه .. لدينا بطل جديد يحاول التباهي .
صرخت الجدة ذعر وراحت تدعو الله من خلال دموعها .. بعد أن رأت البندقية الموجهة نحو صدر حفيدها :
- الله لا يوفقكم .. الله لا يوفقكم .
زاد يوسف التصاقا بالبندقية مقتربا من وجه القائد باستخفاف واضح .. وابتسامه ساخرة ترتسم جلية على شفتيه .. فرجع القائد الإسرائيلي خطوه إلى الوراء بعد أن أربكته حركه يوسف .. ثم صرخ أمرا جنوده ليداري رهبته :
- خذوه .
سحب الجنود يوسف وخرجوا بعد أن قلبوا البيت رأسا على عقب .. وقفت الأم تبكي ولدها وتنتحب :
- اللهم احرقهم مثلما يحرقون قلوبنا .
احتضنها الأب ليربت عليها برفق :
- كفى يا منى .. فصراخك لن يفيد .. إن له ربا رحيما .
مسحت آية وجهها بكفيها .. شعرت بعبرات ساخنة على وجنتيها .. ولكنها حاولت استعادة شجاعتها وامتصاص الصدمة التي سببها انتزاع الصهاينة ليوسف المرح .. ثم تساءلت وشعور قوي بالضياع يلفها :
- يجب أن نخرج أدهم يا خالي .
أجابها الخال مهدئا :
- انتظري قليلا يا آية .. ربما يراقبوننا .
خرج الإسرائيليين من الحي بعد أن أثاروا زوبعة من الفوضى .. وخلفوا ورائهم الصراخ وبكاء الأمهات والأطفال ..
وعندما اطمئن الخال عز الدين بعض الشيء قام بإخراج أدهم بمساعده آية .. كان أدهم ما يزال تحت تأثير الإبرة المهدئة .. ولكن وجهه زاد شحوبا بسبب الإجهاد الذي وقع عليه ..
وبعد لحظات جاءت براءة باكيه بصحبه أمها .. وهي تحاول البحث عن يوسف في كل أنحاء المنزل وتصرخ مناديه عليه :
- يوسف .. أين أنت يا يوسف ؟.
اعتذرت مها بخجل وهي تنظر إلى ابنتها الصغيرة مشفقة :
- لقد رأت الإسرائيليين يأخذونه .. فأصرت أن تأتي وتتأكد بنفسها .
أمسكت براءة بيد آية لتهزها :
- قولي لي يا آية أين يوسف ؟.
أجابتها آية وهي تجلس على ركبتيها محاوله إقناع الصغيرة :
- لقد أخذوه الجنود الصهاينة يا براءة .
تساءلت براءة وهي تدق رجلها بالأرض :
- ولم تركتيهم يأخذونه ؟.
احتضنتها آية مهدئة وراحت تربت عليها بعطف :
- لا تبكي يا براءة فهو سوف يعود قريبا .. إنهم فقط سيسألونه بعض الأسئلة .
ابتعدت براءة عنها غير مصدقة والذعر يلوح في عينيها البريئتين :
- مؤكد سوف يقتلونه مثلما قلتي لنا في ذلك اليوم .
تدخل الخال مقاطعها وهو يحملها بذراعه :
- لا تقولي هذا الكلام يا براءة .. ادعي الله يا حبيبتي أن يعيده إلينا سالما .
أردفت الجدة مؤمنة على كلام ولدها :
- أمين يا رب .. وينصر ويحفظ أخاه أيضا .
سمعت العائلة أنين أدهم من غرفة الأولاد .. فأسرعت آية إليه .. واعتقدت براءة أنه يوسف .. فلحقتها وهي تنط بفرحة :
- لقد عاد يوسف .
ولكنها صدمت برؤية شاب آخر فتساءلت مستفسرة ببراءتها الطفولية :
- من هذا ؟.. أهو صديق يوسف ؟.
ابتسمت آية وهي تحسن من وضعية نوم أدهم .. وتعدل والوسادة التي تحت رأسه برفق :
- نعم يا حبيبتي .. إنه صديق يوسف ورأفت .
تقدمت براءة منه وأخذت تتأمله بإشفاق :
- أهو مريض ؟.
أجابتها آية وهي تربت على رأسها بحنان :
- نعم إنه مريض .
عاد أدهم يئن من جديد .. فأمسكت براءة بيده وهي تربت عليها محاوله التخفيف من آلامه .. فجاءت مها تسحب ابنتها :
- هيا بنا يا براءة .. فلا يجب أن نزعجه .
راحت براءة تتوسل والدتها :
- دعيني يا أمي اعتني بصديق يوسف .
ابتسم الجميع على كلام الصغيرة .. فتدخلت آية :
- اتركيها يا مها .. فربما يشغلها هذا عن التفكير بيوسف .
ذهبت مها وهي تعد الوالدين :
- لقد خرج نضال ليعرف إلى أين سيأخذون هؤلاء الشباب والنساء .. وسوف يأتي ليطمئنكم .
ودعت العائلة الجارة اللطيفة شاكرين لها موقفها معهم .. وبدأ القلق يتملك القلوب فأي طرقه على الباب كانت تشيع الرعب في النفوس .. بينما آية تعيش في عالم آخر بعيدا عن أهل البيت .. تجلس على السرير الآخر وتعتني بأدهم في ليالي المرض وترقبه وهو يتأوه ويئن تحت سطوة الحمى التي تلهب جسده .. فتشعر أن قلبها يشتعل بحمى أشد حرقه وألما على ملاكها الحارس .. كانت تتأمله بالساعات وهو يهذي بكلام غير مفهوما .. وكثيرا ما كان ينطق باسمها وكأنه يراها أمامه .. أو يحس بوجودها ..
وفي صباح أحد الأيام أفاق أدهم بجسده المكدود وبدأ يتأمل الحجرة التي يرقد فيها .. ثم شعر بيد ناعمة تمسك بكفه .. فنظر بجانبه ليجد فتاة تجلس على الأرض محتضنة كفه بيدها .. كانت تنام فوق يدها الأخرى على حافة سريره .. حاول أدهم النهوض .. ولكنه أحس بألم في خاصرته فسحب يده من يد آية ممسكا مكان الجرح .. شعرت آية بحركته .. فأفاقت مذعورة .. وعندها رأت أدهم ينظر إليها غير مصدقا أنها من كانت تعتني به .. قالت بلهفه وهي تمسك يده وتتحسس بيدها الأخرى وجهه بحنان بالغ :
- هل أنت بخير ؟.. هل تشعر بأي ألآم ؟.
استمر أدهم الطواف بعينيه على إنحاء وجهها .. فخافت آية أن يكون قد أصابه مكروه فعادت تحدثه بقلق وهي تحاول ابتلاع دموع فرحتها برؤيته .. غريب هذا الشعور الذي يختلك بداخله لرؤيتها عيني شاب غريب عنها :
- أدهم .. لم لا ترد علي ؟.
حدثها أدهم أخيرا وهو يضغط على أناملها الرقيقة بكفه برفق .. وكأنه يتأكد من حقيقة ما يراه ويحس به :
- آية .. هل أنا احلم أم أنك أمامي حقا ؟.
أجابت آية بعد أن أثار صوته الدافئ دموعها الحبيسة فراحت تنساب بضعف من عينيها.. أنه سليم .. معافى أمامها .. بعد أن قضت ليالي طويلة ترجوا من الله أن يرده إليها من غيبوبته :
- نعم يا أدهم .. هذه أنا .
راح أدهم يمسح دموعها بيده الأخرى رافضا التخلي عن أنامل يدها الناعمة في كفه :
- لا تبكي .. فأنا لن استطيع رؤية دموعك .
ابتسمت آية ووقفت وهي تخبره بفرحة :
- سأذهب وابشر جدتي .
خرجت من الغرفة بخطوات تحفها السعادة .. وبدأ أدهم يحوم بنظره في أنحاء الحجرة وقبل أن تتوارد التساؤلات إلى ذهنه .. دخلت آية وهي تسند جدتها التي كانت تسير مردده بفرحه صادقة :
- الحمد لله على سلامته .. لقد استجاب الله دعائي .
اعتدل أدهم في جلسته عندما رآها .. وجلست الجدة بجانبه على السرير .. لتحدثه بطيبة وهي تضع يدها على جبينه :
- هل أنت بخير يا حبيبي ؟.
أجابها أدهم وهو يلتقط يدها ويقبلها :
- أنا بخير .. بفضل دعائك يا جدتي .
ربتت الجدة على يده .. في تلك الأثناء دخلت الخالة منى إلى البيت .. ولم تصدق نفسها عندما سمعت صوت أدهم .. فأسرعت نحو الغرفة .. كان ووجهها يزغرد من الفرحة :
- كم أنت كريم يا رب .
ثم تقدمت منه وأردفت وهي تمرر يدها بين خصلات شعره .. وتغمره بعاطفة الأمومة :
- لقد كنت أتألم وأنا أفكر بأمك .. وكم ستكون قلقه عليك .
أحمر وجه أدهم خجلا بسبب هذا الاهتمام الذي أحيط به من قبلهن .. فتساءلت الخالة برفق :
- ماذا تحب أن أحضر لك على الغذاء ؟.
مرر أدهم أنامله بين خصلات شعره كعادته عندما يشعر بالحياء :
- لا تتعبي نفسك يا خالتي .
قاطعته آية محذره بمرح :
- يجب أن تأكل جيدا فلقد مرت عليك أياما لم يدخل جوفك شيء .. سوى المغذيات والأدوية .
هز أدهم رأسه مستسلما .. ثم خرجت الجدة والخالة .. وقبل أن تستأذن آية أيضا بالخروج .. تساءل أدهم بحيرة :
- كيف جئت إلى هنا ؟.
ابتسمت آية وأجابت مبرره :
- لقد أحضراك رأفت وهيثم .
شرد أدهم محاولا كشف العلاقة التي تربطهما بأسرة آية :
- وهل هما أقربائك ؟.
- إن رأفت ابن خالي .. أما هيثم فهو صديق رأفت وجارنا أيضا .
هز أدهم رأسه .. فأردفت آية وهي تهم بالخروج من الحجرة :
- سأدعك تستريح .. وإذا احتجت لشيء فلا تخجل من ندائي .
رد عليها بابتسامه لطيفه .. فخرجت آية وأخذت مفكرتها لتختلي بوالديها الحبيبين .. فلقد هجر قلمها صفحاتهما .. منذ جاء أدهم إلى البيت .. وبعد دقائق رأته يخرج متوكئا على الجدار .. تركت آية ما بيدها وذهبت مسرعة لتساعده وتؤنبه بحزم :
- لم خرجت يا أدهم ؟.. إن جسمك يحتاج إلى الراحة .
أجابها أدهم مطمئنا وعينيه تشردان بعيدا :
- لا تقلقي علي .. فأنا لم أتعود الاسترخاء والمكوث في البيوت .. وشفائي يكمن في الخارج .
أجلسته آية بجانب شجرتها المقربة إلى قلبها والتي تتدلى منها ورود السوسن الناعمة .. ثم جلست بجانبه .. فسألها بحيرة وهو يسبح ببحر عينيها الواسعتان :
- ألن تخبريني عن سبب تعلقك بهذه الورود ؟.
رفعت آية حاجباها مستغربة من استنتاجه :
- وما الذي أوحى لك بذلك ؟.
ابتسم أدهم بمرح :
- إحساس .
ضحكت آية .. ثم راحت تخبره وهي تحتضن مفكرتها والكثير من الحزن يطل من نظراتها رغما عنها :
- لقد زرعناها أنا وأمي قبل وفاتها بأيام .
تساءل أدهم بأسى :
- كيف ماتت ؟.
نظرت إليه محاوله الابتسام :
- إنها حكاية طويلة .. لا أريد أن اشغل بالك بها .
راح أدهم يلح عليها :
- ولكني أستطيع الاستماع إليها .. إلا إذا فضلت عدم الكلام ؟.
أجابت آية مبررة :
- لا .. ليس هذا ما عنيته .
صمتت لبرهة .. ثم أطلقت تنهيده من صدرها وهي تسند رأسها إلى سور الحديقة خلفها وتشرد ببصرها نحو الماضي :
- لقد توفي والدي قبل أن أولد بساعات .. فلقد كان والداي يعيشان برام الله .. وعندما داهمت أمي الآم الوضع .. أصرت أن تلد عند أمها في هذا البيت .. وعند الحدود أوقفوهم الإسرائيليين ولم يسمحوا لهم بالمرور .. كان أبي يصرخ بجانب سائق السيارة محاولا أن يفهمهم وضع زوجته .. ولكن نفذ صبر أحد الجنود الإسرائيليين فأطلق سيل من الرصاص على سيارة الأجرة .. أصابت الرصاصات والدي والسائق واردتهما قتيلين .
كان صوتها المهزوز يكشف توترها .. فسكتت قليلا وهي تحاول تمالك نفسها .. ثم أكملت حديثها وهي لا تنظر إلى أدهم الذي كان يستمع إليها خافضا لرأسه بأسى :
- كانت أمي ما تزال تتألم في الخلف وتبكي الآم الولادة وزوجها الشهيد .. وكان الجو ممطرا عندها قام الإسرائيليين بإخراجها وانتزاع كل الثياب التي عليها ورموها تحت المطر لمدة ساعة إلى أن وضعت .. فاستدعوا بعد ذلك سيارة الإسعاف لأخذها .
ضغط أدهم على أسنانه .. ولم تستطع آية حبس دموعها أكثر من ذلك .. ثم أردفت بهدوء :
- لقد عاشت أمي بعد والدي الشهيد لمدة أربع سنوات وكلما خرجت من البيت .. كانت جدتي تخاف ألا تعود .. إلى أن جاء اليوم الذي أحضرت فيه هذه الورود وقالت لي ونحن نزرعها (إن فلسطين مثل هذه الشجرة الناعمة ستبقى صامدة إلى الأبد .. وكلما اعتنيت بها ستتعمق جذورها وتتفرع جذوعها ومهما خسرت من أوراقها ستظل باقية .. لتزهر وتعلن للعالم بعبيرها عن صمودها وجمالها(( .
عادت آية تكمل من خلال دموعها وهي تخفض رأسها والألم يعتصرها بيده القاسية :
- بعدها بأيام .. احتضنتني وقبلتني كأنها تودعني ثم خرجت .. وجاءنا خبر أن هنالك امرأة فجرت نفسها على حدود رام الله .. فأيقنا جميعا أنها أمي التي استعادت شرفها ودم زوجها الشهيد .. والتي لن تعود أبدا .
حدثها أدهم والحنان ينطق في عينية .. كان يحس بألمها .. وكأنه لم يعد ألمها وحدها بعد الآن :
- ليس هنالك بيت خال من هذه القصص الموجعة .. فهذه التفاصيل القاسية هي ما يدفعنا لكرههم .. ورفض التعايش معهم على أرضنا المسلوبة .
ردت عليه آية بألم ودموعها تبلل صفحات مفكرتها:
- إنني كثيرا ما افتقدهما .. وأحس أنه ما من شيء سيعوضني عن وجودهما .. ودائما ما أشعر أنني أعيش حياة خاوية بدونهما .
ثم أردفت وهي تمسح دموعها :
- ولكني أيضا أجد سلواي بجانب هذه الشجرة .. فكلما تنفست عبيرها أحسست بهما .
أخذ أدهم كف آية ومسها برفق وكأنه يخشى أن يجرح أنامل حبيبته الرقيقة .. ثم وضع راحة يدها فوق قلبها :
- بماذا تحسين يا آية ؟.
تسارع النبض بداخلها .. ولم تعد تعي سوى لمسه أدهم اللطيفة على ظاهر يدها .. ولكنها أجابته بالرغم من عدم فهما لما يرمي إليه :
- أحس بنبضات قلبي .
ابتسم أدهم .. ثم أخبرها وهو ينظر إليها بملء عينيه :
- إذا فهما باقيان ..
عقدت آية حاجبيها باستغراب .. فأردف أدهم موضحا :
- ابحثي جيدا يا آية .. وستجدينهما بداخلك .. لأنهما باقيان فيك بقاء روحك .
شردت آية قليلا وهي تفكر بكلامه ..
كم هو محق .. فهي لا تستطيع نسيانهما أبدا ..
ودائما ما تتذكرهما .. وتفكر بهما ..
وترجو من كل خطوه تخطوها فخرهما بها ..
إذا فهما بداخلها مثلما قال أدهم .. باقيان بقاء الروح !.



(7)
حق يسترد

جاء الخال عز الدين من عمله وتفاجأ عندما رأى أدهم يجلس في الحديقة مع آية .. فاتجه نحوهما مسرعا والفرحة بادية على وجهه :
- الحمد لله على سلامه ابننا الشجاع .
حاول أدهم الوقوف فساعدته آية وتقدم منه الخال ليعينه .. ثم أردف مؤنبا :
- لماذا أجهدت نفسك يا بني ؟.. كان يجب عليك أن ترتاح في المنزل .
أيدته آية موبخة وهي تنظر إلى أدهم :
- يبدو أنني سأتعامل مع مريض عنيد لا يستمع لكلام ممرضته .
ضحك أدهم بخجل .. وحدث خال وهو يسير إلى البيت مستندا على يد آية :
- لقد أتعبتكم معي .. وسببت لكم الكثير من القلق .
عاتبه الخال عز الدين :
- ما هذا الكلام يا أدهم .. إنك مثل أبنائي .. ونحن لن ننسى أبدا معروفك معنا .
دخل الثلاثة إلى المنزل .. وعلى الغداء كان الكل مهتما بأدهم مما زاده خجلا ..
راحت الجدة تحثه على الأكل :
- كل يا حبيبي حتى تستعيد قوتك .. وتعوض ما خسرته من دماء .
تدخلت آية وهي ترى الخجل الذي يبدو عليه :
- لا يوجد لدينا سواك الآن يا أدهم .. لذلك يجب أن تتحمل اهتمامنا بك .
ابتسم أدهم .. وسألت الخالة منى زوجها بعد أن أثار كلام آية قلقها على ولدها :
- ألم تعرف شيء يا عز الدين عن يوسف ؟.
أجابها الخال وقد تملكه الضيق :
- لا جديد .. مازال بالأسر كغيره من الشباب .
التفت أدهم إلى آية وفي عينيه نظرات متسائلة .. فأجابته بصوتها الحزين على غياب يوسف :
- إن يوسف هو أخ رأفت الأصغر .. وفي يوم عمليتكم اعتقله الإسرائيليون .
هز أدهم رأسه بضيق :
- إلى متى سنظل هكذا .. نعيش تحت رحمة الجبناء .
أجابه الخال بثقة :
- إلى أن نستعيد شرف هذه الأرض الطاهرة .
في العصر جاءت براءة باحثه عن يوسف كعادتها .. فاحتضنتها الخالة منى وقبلتها .. ثم راحت تداعبها :
- أمازلت تنتظرين عودة يوسف يا براءة ؟.
هزت براءة رأسها بالإيجاب .. ثم تساءلت بدلال طفولي :
- متى سيعود يا خالتي ؟.
شردت الخالة ببصرها وهي تطلق تنهيدة ألم من صدرها :
- لا اعرف يا حبيبتي .. ولا ادري هل أقلق عليه أم على أخاه الآخر .
ردت عليها الجدة مطمئنة :
- لا تقلقي يا ابنتي .. فهما بحماية ارحم الراحمين .
خرج أدهم من حجرة الولدان على صوت براءة .. فشهقت لرؤيته بفرح وركضت لتنط أمامه :
- هل شفيت ؟.
ضحك أدهم وجلس على كرسي بجانب الجدة والخالة منى .. ثم أجلسها على ساقيه :
- نعم شفيت .
تساءلت براءة والفرحة مازالت تلمع في عينيها :
- وهل ستحضر لي يوسف ؟.
سكت أدهم ولم يعرف ماذا يقول لهذه الطفلة البريئة .. فأنقذته آية عندما خرجت من المطبخ وتقدمت منهما محاولة أخذ براءة من فوقه :
- تعالي يا براءة حتى لا تتعبي أدهم ؟.
ظل أدهم ممسكا ببراءة وهو يحدث آية :
- اتركيها فانا لا أحس بالتعب .
التفتت براءة إليه .. وعاودها مرحها :
- هل اسمك هو أدهم ؟.
ابتسم أدهم لتلك الملاك الصغيرة :
- نعم .
وضعت يديها الصغيرتين على صدرها وهي تبتسم له ملئ شفتيها :
- وأنا اسمي براءة .

مر ما يقارب الشهر وأدهم يعيش بين أفراد الأسرة وكأنه أحد أبنائها .. فأحبه الكل .. وتعلقت به براءة .. حتى آية كانت تحس مع كل يوم يمر بها وهو بينهم .. أن هذا هو مكانه الطبيعي .. بجانبها .. ولم تكن تفكر باليوم الذي سيرحل فيه .. أما أدهم فلقد ازداد قربا منها .. وأصبحا يعرفان الكثير عن بعضهما ..
وفي يوم جمعة وبعد عودة أدهم والخال من الصلاة .. جلس بين أفراد الأسرة موجها كلامه للخال :
- لقد كنت انوي أن استأذنكم للرحيل .
رد عليه الخال:
- ولكنك يا بني لم تستكمل فترة نقاهتك .
أجابه أدهم بنظرات شاردة وبلهجة حادة بعض الشيء :
- فترة نقاهتي سأكملها على أرض المعركة .. فهذا ما سيريحني .
تدخلت الخالة محاولة أن تخفف من حدته :
- أهذا هو السبب يا أدهم .. أم أنك مللت منا ؟.
هز أدهم رأسه بخجل :
- العفو يا خالتي .. لقد اعتنيتم بي وكأنني ولدكم .. وشعرت بداخل هذا البيت بكثير من الحب .
قالت الجدة وهي تربت على كتفه بحنان :
- ونحن أيضا يا حبيبي .. فوجودك معنا أنسانا همنا وخفف من اشتياقنا لولدينا .
قبل أدهم يد الجدة ثم وقف مستأذنا واتجه إلى غرفه الولدان .. تبعته آية ووقفت على الباب تنظر إليه وهو يستعد للرحيل ويبتسم لها مواسيا :
- هل أنت مصر على قرارك ؟.
أجابها أدهم بثقة :
- نعم يا آية .. فأنا لم اعد أطيق الجلوس كالنساء . وأود أن اطمئن أهلي عليّ بعد أن شفيت .
وقبل أن ترد عليه آية سمعت طرقات وهنه على الباب .. استغرب الكل تلك الطرقات وذهب الخال ليفتح الباب .. فإذا به يرى ابنه الأسير .. فكان أول ما قام به أن اختطفه إلى حضنه وهو يضمه بفرح غير مصدقا نفسه :
- يوسف .. كم أوحشتني يا بني ؟.
أحست الأم يدا تنتزع قلبها وهي تسمع اسم يوسف على لسان زوجها فاتجهت مسرعة نحو الباب .. وأمسكت برأس ابنها الحبيب الذي أصبح شاحب الوجه وازداد نحول جسده .. وراحت تحدثه من خلال دموعها وهي تقبله :
- ابني .. حبيبي .. هل أنت بخير ؟.
ثم أردفت وهي تتحسس جسده النحيل بلهفة :
- ما الذي أصابك يا بني ؟.
حاول يوسف تهدئتها وهو يحاول إفلات نفسه من أحضانها :
- إنني بخير يا أمي .
فتحت الجدة ذراعيها وهي تنادي على حفيدها باكيه :
- أين أنت يا يوسف ؟.. أين أنت يا حبيبي ؟.
تقدم يوسف منها فاحتضنته وقبلت رأسه بحب :
- الحمد لله أن عدت إلينا سالما يا حبيبي .
سمعت آية الحديث الذي يدور في الصالة وهي ما تزال تنظر إلى أدهم غير مصدقه أذنيها .. ثم فجأة خرجت من الغرفة .. يلحق بها أدهم وعندما رأت يوسف بين أحضان جدته انهمرت دموعها لرؤيته ولإحساسها بذلك الألم الذي يكسو ملامحه .. فابتسم يوسف لها وتقدم يمسح دموعها:
- أمازلت تبكين كالأطفال يا آية ؟.
ضمته آية إليها بقوة دون أن تنطق بكلمة واحده بعد أن خنقتها العبرات .. فاحتضنها يوسف وربت على رأسها .. ثم همس وهو ينظر إلى أدهم الذي كان يقف خلف آية مبتسما :
- كفى يا آية .. لا تدعي أدهم يضحك علينا .
أفلتته آية .. فذهب ليسلم عليه :
- كيف حالك يا أدهم .
أجابه أدهم وهو يشد على يد يوسف :
- إنني بخير .. المهم هو أنت .
أخبره يوسف وكأنه يحدث نفسه :
- سوف أصبح بخير .
أمسكت آية بكتف ابن خالها متجه به إلى غرفته :
- هيا يا يوسف ادخل وارتاح .. لا بد أنك متعب .
دخل يوسف إلى حجرته .. وجلس أدهم في الصالة مع الأسرة .. والصمت يلف الجميع فلقد روعهم منظره .. لم يكن يوسف المرح الذي تنبض عيناه بشقاوته الحلوة .. وكأنه شخص أخر .. ليس فقط بمظهره الشاحب وإنما بذلك الانكسار المؤلم الذي يبدو في نظراته .. جاءت براءة لتقطع الصمت .. وعندما رأتها آية وهي تخرج من حجرة يوسف أشارت لها مبتسمة :
- ادخلي يا براءة إلى الغرفة .. فهناك مفاجأة بانتظارك .
وقفت براءة لبرهة .. ثم ركضت نحو الغرفة صارخة بفرحة بعد أن فهمت تلك الابتسامات التي علت الوجوه :
- لقد عاد يوسف .. لقد عاد يوسف .
دخلت براءة .. لتجد يوسف يخلع قميصه .. فأذهلتها تلك الجروح التي تملأ ظهره .. تقدمت منه ببطء والخوف يتملكها .. ثم تساءلت وهي تضع يدها الصغيرة على جروحه :
- هل فعل اليهود بك هذا يا يوسف ؟.
لم يكن يوسف قد انتبه إلى دخول براءة إلا عندما لمست ظهره .. فجلس على ركبتيه واحتضنها بحب وهو يمطر وجهها الصغير بالقبلات :
- حبيبتي براءة .. كم اشتقت إليك يا ملاكي الصغير ؟.
وضعت براءة يدها على خد يوسف وفي عينيها خوف عليه :
- هل أنت مريض يا يوسف ؟.
أجابها مستغربا .. وهي ما تزال في حضنه :
- لا .. لماذا تسألين ؟.
حدثته والدموع تنساب من عينيها البريئتين وهي تنظر إلى تلك الجروح التي تغطي جسده النحيل :
- لأن بك الكثير من الجروح .
ضمها يوسف إليه محاولا طمأنتها :
- لا تخافي يا براءة .. فهي لا تؤلمني كثيرا .
أجابته براءة وهي تهز رأسها رافضة تصديقه :
- أنت تكذب علي .
ثم أردفت بحرقة وهي تبتعد عنه :
- أنا أكره اليهود .. وعندما أكبر سوف أجرحهم مثلما قاموا بجرحك .
دخلت آية فزعه على صوت براءة الباكي .. فروعتها هي أيضا خطوط التعذيب المنتشرة على جسد يوسف وتقدمت منه لتتفقده بحنان :
- ما هذا يا يوسف ؟.. لماذا لم تخبرني بأنك مصاب ؟.
لم يجب يوسف فلقد طرق الباب مرة أخرى .. ففتحه أدهم ليجد رأفت يقف أمامه .. فوجئ رأفت عندما رأى صديقة المصاب يفتح له الباب .. وضمه بفرحة صادقة :
- أهذا أنت يا أدهم ؟.
ضحك أدهم وهو يحتضنه بالمثل .. فأردف رأفت :
- هل التأم جرحك ؟.
أجاب أدهم من خلال ابتسامته :
- لا تقلق .. إنني بأحسن حال .
ركضت آية نحو الباب عند سماعها لصوت رأفت .. وجرت الدموع مرة أخرى على خديها وهي تحتضنه بشوق :
- لما أطلت غيابك علينا يا رأفت ؟.. لقد أقلقتنا عليك كثيرا .
قبل رأفت آية على رأسها .. ثم دخل ليشيع الفرحة من جديد في العائلة .. كان الأب ينظر إلى ابنه الذي سجنته أمه وجدته في أحضانهما بحنان وأغرقتاه بالقبلات :
- ما ضاقت حلقاتها إلا وفرجت .
أردفت الأم وهي ترفع يديها للسماء شاكره ربها :
- الحمد لله .. الذي أكرمني برؤيتكما في يوم واحد .
تساءل رأفت مستفسرا :
- هل يوسف موجود في البيت ؟.
أجابت آية مشيره إلى غرفتهما :
- إنه بالداخل برفقة براءة .
أسرع رأفت متجها إلى حجرته .. وضم أخاه بشوق ولهفه .. ثم أمسك رأسه يتحسسه بحنان :
- هل أنت بخير يا ...
وقبل أن يكمل سؤاله لاحظ علامات التعذيب التي تملأ جسد أخاه .. بدأت أنفاس رأفت تتلاحق والألم يعتصره .. ودخلت آية إلى الغرفة برفقة أدهم .. لتجد رأفت قد ترك أخاه وضرب قبضتا يديه بالحائط بقوة .. تقدمت منه آية ووضعت يدها على كتفه مهدئه :
- اهدأ يا رأفت .. سوف اعتني به وستلتئم جراحه بأذن الله .
أجابها رأفت وهو يواجهها بعينين حمراوان بدموعه الحبيسة :
- أنا السبب يا آية .. أنا من سببت له هذه الجروح .
بدأ يوسف بارتداء قميصه محدثا أخاه بهدوء :
- لا تلم نفسك يا رأفت .. فهذا لن يفيدنا .
أيده رأفت والنار تشتعل بقلبه :
- نعم .. هذا لن يفيدنا .. ولكني لن ارتاح حتى استرد حقك .
هنا صرخ يوسف بعصبية :
- أنا لا أريدك أن تسترد حقي .. عاملني كالرجال وخذني معك .
صمت رأفت وهو ينظر إلى ذلك التحدي الذي ينطلق من عيني أخاه الصغير .. وذعرت براءة من صراخ يوسف فركضت نحو أدهم واختبأت خلفه .. سقطت دموع رأفت الحبيسة فأمسك يوسف بكتفيه يهزه بإصرار :
- هل تسمعني يا رأفت ؟.. خذني معك لكي ارتاح .
هرول الوالدان نحو الغرفة على اثر الصراخ .. وتساءل الأب بقلق :
- ما الذي حدث لكما يا أولاد ؟.
تقدمت الأم تتحسس ولدها الجريح .. بينما تساءل الأب وهو يرى جروح ابنه الظاهرة من تحت القميص الذي لم يكمل ارتدائه بعد :
- ما هذه الجروح يا يوسف ؟.
تخلص يوسف من يدي أمه برفق .. وقال بصوت موجوع وهو يدق راحة يده بصدره :
- إنها اكبر حافز لتدعاني التحق بحركة المقاومة .
حاولت الأم تهدئته بكلماتها اللطيفة .. وكأنها تحدث طفلا :
- غدا ستلتحق بمن تشاء يا حبيبي .
تجاهل يوسف كلامها وراح يتوسل لوالده بحرقة :
- أرجوك يا أبي .. دعني استرد كرامتي بيدي .. دعني أحاول استعادة حق هذا البلد المنتهك .
ربت الأب على كتف ابنه وهو ينظر إليه بإشفاق من ذلك العذاب المتأجج في عينيه :
- حسنا يا بني .. افعل ما تريد .. ولكن يجب عليك أن ترتاح أولا .
تنهد يوسف برضى وقد أحس بأنه حصل على مبتغاة أخيرا:
- لقد حصلت الآن على راحتي .
خرج الجميع من الغرفة .. عدا آية التي ظلت بجانب يوسف تداوي جروحه وتتحسس شعره لتجلب النوم إلى عينيه .. من ثم خرجت لتودع رأفت وأدهم:
- ماذا تنوي أن تفعل يا رأفت ؟.
أجابها رأفت وقلبه مازال يحترق من اجل أخاه :
- دعيه ينام الآن حتى يستطيع الانضمام إلينا في المساء .. فيبدو أنه الحل الوحيد لتهدأ نفسه .
ثم أردف بحيرة :
- لقد كنت أنوي أن أمر على بيت هيثم لأطمئن أهله عليه .. ولكننا تأخرنا .. لذلك طمئنيهم نيابة عني.
هزت آية رأسها موافقة .. ثم حولت نظرها إلى أدهم الذي كان يرمقها بنظراته المحبة والتي تربكها كثيرا .. فحدثته بخجل :
- انتبه لنفسك يا أدهم .. ولا تتهور كثيرا فجرحك مازال يحتاج إلى عناية .
ابتسم لها ورد عليها ممازحا .. وهو يضع يده على كتف رأفت ليزيل سحابة الكآبة التي على رأسه :
- انصحي ابن خالك بأن يتوخى الحذر .. حتى لا أتهور أنا في إنقاذه .
ضحك رأفت وقبل آية على جبينها مودعا .. وعندما وصل الولدان إلى باب الحديقة صادفا نور وآلاء .. فتساءلت آلاء بلهفة وشوقها يفضحها :
- هل جاء هيثم معك يا رأفت ؟.
رد عليها رأفت مبتسما بإشفاق :
- لا يا آلاء .. فلقد كلفته الحركة بمهمة في اللحظة الأخيرة .
بدا الاستياء عليها .. فأردفت نور :
- المهم يا رأفت .. هل أنتما بخير ؟.
هز رأفت رأسه وأجابها مستسلما :
- الحمد لله .. فحالنا مثل كثير من الشباب .
عادت آلاء تتساءل وقد تذكرت شيء :
- هل يمكنك أن تنتظرني قليلا يا رأفت ؟.. سوف اجلب لك شيء تعطيه لهيثم .
سار رأفت معها ليلحق به أدهم :
- سوف أتي معك .. لأنه لا يوجد لدينا الكثير من الوقت .
وصل الشابان وآلاء إلى بيتها .. فغابت قليلا ثم عادت تحمل رسالة في يدها سلمتها له :
- أعطه هذه الرسالة .. وقل له أننا سنسافر بعد يومين إلى مصر لإتمام علاجي .. وابلغه سلامي أنا ونور ودعوات أمي .
أخذ رأفت الرسالة .. ثم سار برفقة صديقة مودعا آلاء .. عادت آلاء إلى بيت آية فلقيت شذى وأمها في طريقهما لزيارة عائلة آية .. دخلت الصديقتان مع الخالة جهاد .. وبدأ الحوار بين النساء والفتيات .. كانت آية أول من تحدث :
- لقد كنت انوي زيارتكم .. فرأفت جاء إلينا اليوم وطلب مني أن أطمئنكم على هيثم .
تساءلت الخالة جهاد باهتمام وهي تسمع اسم ابنها :
- أحقا ما تقولينه يا آية ؟.
أجابتها آية مبتسمة :
- نعم يا خالتي .
أردفت شذى بحزن :
- لقد حرمونا من كل شيء .. فأصبحنا نعيش حياة مشوهة .
أيدتها آلاء وهي تفكر بالحبيب الغائب :
- لماذا كتب علينا أن نعاني دون غيرنا من البشر .. ونظل نعيش الخوف في كل لحظة ؟.
تدخلت الجدة وهي تطلق تنهيدة :
- إنه امتحان يا بنتي .
أضافت الخالة جهاد باستياء :
- ولكنه امتحان صعب يا خالة .
ثم أردفت :
- لقد كنت قبل فترة أقوم بتغطيه أخبار سجناءنا .. فلقد علمت بانتحار زوجه أحد كوادر حركة المقاومة حماس بعد خروجها من السجن الإسرائيلي مخلفه لثلاثة أطفال صغار ..
كانت الفتيات ينصتن باهتمام .. فأكملت الخالة جهاد قصتها :
- لقد حزنت عليها .. وألح علي حسي الصحفي بأن اجري وراء الحقيقة فاستطعت التواصل مع زوجها .. وعلمت أن الإسرائيليين قد اغتصبوها أمامه كوسيلة للضغط عليه ليكشف عن زملائه وأسرار الحركة .. وقال بأنه يعتبر الكلام في هذا الموضوع تمثيلا بجثة زوجته وكل ما يستطيع قوله أنها ماتت طاهرة .. وهي تدافع عن عائلتها .
بدى الاستياء على الخالة منى :
- لقد أصبحنا عرضه للكلاب .
أردفت آية:
- والموجع في الأمر أنهم ينتهكونا بكل الوسائل .. من ثم يشوهون الحقائق ليظهروا بصورة المدافع عن نفسه .
تساءلت نور بحرقة :
- أين ذهبت إنسانيتهم ؟.
ردت عليها الخالة جهاد وهي تطلق زفرة ساخرة من انفها :
- بل قولي أين ذهبت إنسانية العرب ؟.
دعت الجدة بضعف وهي تتذكر أحفادها :
- اللهم انصرنا على من عادانا .. واحمي أولادنا .
أمن الجميع على دعائها باستسلام :
- اللهم أمين .
من ثم وقفت التوأمان مغادرتين .. وقالت نور :
- يجب علينا الانصراف .. فلدينا أشياء كثيرة نقوم بها استعدادا للسفر .
تساءلت آية مستفسرة والحزن يسيطر عليها :
- هل تأكد موعد سفركم ؟.
أجابتها آلاء :
- سوف نحاول الذهاب إلى مصر عن طريق معبر رفح .. فادعوا لنا بالتوفيق .
وقفت شذى وآية تحتضنان صديقتيهما واختلطت عبرات الوداع .. وغادرت التوأمان والجدة تشيعهما بدعواتها .. من ثم استأذنت شذى وأمها ..
دخلت آية إلى غرفة يوسف فوجدته نائما كالأطفال .. وقسمات وجهه مسترخية .. وكانت براءة لا تزال معه في الغرفة تلعب بألعابها في هدوء .. فحدثتها هامسة :
- ألا تريدين أن تخرجي معي لتلعبي في الحديقة يا براءة ؟.
أجابتها براءة وهي تنظر إلى يوسف :
- لا .. سوف انتظر هنا إلى أن يستيقظ يوسف .
ابتسمت آية وتركتهما وخرجت لتهمس لوالديها بما يختلج في صدرها من أحاسيس .. ولتحدثهم بتلك المشاعر المتضاربة بداخلها ..
قلقها على ولدي خالها .. وخاصة يوسف ..
ودعواتها المخلصة في شفاء صديقتها الرقيقة آلاء ..
والضيق الذي يتملكها من حياة الفقر والذل التي يعيشها الناس من حولها ..
ومع تجسد المعاناة بداخلها .. يظهر اشتياقها لملاكها الحارس ..
لقد تعلقت به كثيرا .. وأدركت حبه لها ..
من نظرته المميزة والخجولة التي يخصها بها ..
تلك النظرة التي تخبرها بحبه البريء .. وحرصه عليها ..
توقفت آية عن الكتابة .. وابتسمت بعد تذكرها لأدهم .. من ثم فترت الابتسامة على شفتيها وعادت تنهي خاطرتها لوالديها بعبارة مؤلمه :
" إن الحب إحساس جميل .. ولكنه في بلدنا الحبيب يولد في مهد الخوف .. "


في المساء دخلت آية إلى غرفة يوسف لتجده مازال نائما .. ومحتضن لبراءة التي غلبها النعاس بجانبه .. اقتربت آية منه وظلت تتأمله .. وتتحسس شعره بحنان إلا أن شعر بها .. ففتح عينيه ليتساءل بخمول :
- كم الساعة الآن ؟.
أجابته آية مازحه :
- لقد حل المساء أيها الكسول .
جلس يوسف على السرير وشرد ببصره قليلا وهو ينظر إلى براءة التي تغض في نومها وداعبت شفتيه شبح ابتسامه :
- كم أحب هذه الطفلة ؟.. وأحس أنني سؤجن إن حدث لها مكروه .
نهرته آية بخوف :
- لما تقول هذا الكلام ؟.. لن يحدث لها شيء .. بإذن الله .
ضحك يوسف بسخرية وهو يقف استعدادا للرحيل :
- على من تكذبين يا آية .. عليّ أم على نفسك .. أنسيت أننا نحيا دون ضمانات .
نهرته آية وهي تربت على خده مازحة :
- ماذا فعلت بيوسف الشقي الذي اعرفه ؟.
ابتسم يوسف ابتسامه حزن ثم حمل براءة واخذ يقبلها .. وخرج ليودع والداه وجدته ..
تساءلت الأم بأسى :
- هل أنت مصر يا يوسف بأن توجع قلبي .. ألا يكفيني ما أعانيه بسبب أخيك ؟.
قاطعها الأب :
- اتركيهما يا منى .. فقدرهم أن يحرموا من الحياة .. وقدرنا أن نحرم منهم .
تساءلت الجدة وهي تراه حاملا لبراءة :
- إلى أين ستأخذ براءة يا يوسف ؟.
ابتسم يوسف مطمئنا وهو يتطلع إلى الملاك النائم بين ذراعيه :
- سوف أعيدها إلى البيت مثلما كنت افعل دائما .. فربما لن أراها ثانيه .
تعقد حاجبي آية باستياء :
- كفى تشاءما يا يوسف ؟.. فأنت تزيد من قلقنا .
خرج يوسف لتتبعه آية مودعة .. وراحت تحدثه بحنان وهي تشفق على حاله :
- ابتسم .. وأعد إلينا يوسف القديم .
أجابها يوسف بتحديه المعهود :
- سوف يعود يا آية .. سيعود مع كل روح إسرائيلية تزهق أمامه .
تغضن وجه آية الرقيقة .. وتملكها الخوف وهي تتخيل يوسف المرح يحارب الجبناء :
- لا تتكلم بهذه اللهجة القاسية يا يوسف .
ابتسم لها بحب بعد أن رقت ملامحه :
- إنني لا أتصور أن هنالك إنسان سوي يقوى على قتل بشر مثله .. ولكنه حق يسترد يا آية .

ذهب يوسف .. وظلت كلمته الأخيرة تتردد في مسامعها ..
إنه حق يسترد ..
نعم .. إنه حق كل طفل طعنت براءته .. أو ولد ليتلقاه الموت ..
حق كل امرأة اغتصبت ..
وكل شيخ أهين ..
حق كل شاب طمس بداخله حبه للحياة .. فأصبح يعيش بلا روح ..
إنه حق شعبها الذي تضعف الكلمات أمام مآسيه ..
ماضي موجع .. وحاضر مخيف .. ومستقبل مظلم ..
وصرخات ألم تدوي .. لتصل أذان العالم أنغاما ناعمة يستمتع بها .. فيرى وحشيه العدو .. أوتارا مبدعه .. تجتهد .. لتنتج روائع الصرخات .



(8)
مهر لحبيبتي


وصل يوسف إلى معسكر المقاومة ليجد أخاه في انتظاره .. وتلقاه الشباب بترحاب حار .. وسلم عليه القائد ووجه حديثة لرأفت :
- سوف أقوم بتدبير سلاح من اجل أخاك غدا بإذن الله .. وحاول أنت أن تشرح له طبيعة عملنا .
تدخل أدهم وهو يربت على كتف يوسف :
- لم لا نشركه معنا في عمليتنا الجديدة ؟.. فيوسف ولد نشيط ويعتمد عليه .
فكر القائد قليلا ثم أجاب :
- حسنا .. ولكن هذا يعتمد على حصولي على السلاح من اجله .
رد يوسف بحماس :
- ستحصل عليه .. بإذن الله .
ضحك القائد .. وخرج وهو يمازح يوسف :
- يبدو أنك فعلا ولد يعتمد عليه .
راح يوسف يسأل رأفت بلهفة :
- ما هي عمليتنا الجديدة يا رأفت ؟.
أجابه رأفت بهدوء :
- بعد يومين .. سوف نقوم بإطلاق صواريخ على المناطق الإسرائيلية .
رد عليه يوسف متحفزا :
- وهل توجد لدينا صورايخ ؟.
هز رأفت رأسه بالإيجاب :
- نعم .
زادت حماسة يوسف وهو يعاود حديثه :
- إذا لقد أضحينا نمتلك السلاح الذي يمكننا من المقاومة .. وقريبا سيتغير كل شيء لصالحنا .
رد رأفت بفكر مشغول :
- ربما .
فجأة انطفاء البريق الذي يلمع في عيني يوسف :
- يبدو أنك غير متحمس لهذه العملية ؟.. هل هنالك شك في نجاحها .
أجابه أدهم موضحا :
- إننا يا يوسف قد أضحينا مثلما قلت نمتلك السلاح .. ولكنه في نفس الوقت لا يقارن بما تملكه إسرائيل .. لذلك تظل مخاوفنا في كيفية درء الضربة التي ستوجهها إسرائيل .
أردف يوسف وقد استعاد حماسته :
- ولكن هذا لن يمنعنا عن المقاومة .. فنحن نحارب منذ أن كانت الحجارة سلاحنا .. وامتلاكنا للسلاح الآن يعتبر خطوة هامة في طريق حريتنا .
أضاف رأفت مؤمنا على كلام أخاه :
- هذا صحيح .. إضافة إلى عون الله لنا .
تساءل يوسف وهو ينقل نظره على من حوله :
- أين هيثم ؟.
طمئنه رأفت :
- مؤكد سوف يعود بعد قليل .. فلقد كلف بمهمة منذ الصباح ولابد أنه قد انتهى منها .
وفي تلك الأثناء دخل هيثم .. وتفاجأ عند رؤيته ليوسف وأدهم فتقدم منهما .. وهو يحتضنهما بقوه :
- الحمد لله على سلامتكما ؟.
رد الشابان السلام :
- الله يسلمك .
تفحصه هيثم .. ثم أردف بحرقه وقد أدرك ما تعرض له يوسف من تعذيب :
- يبدو أنك عانيت الكثير .
أجابه يوسف مطمئنا :
- لا تقلق علي .. فلقد أصبحت كالحجر لا اشعر بشيء .. وكان تعذيبهم لي كالتمثيل بالشاة الميتة .
نظر رأفت إلى أخاه وقد عاد الغضب يمزقه :
- والله لن ارتاح حتى أسترد حقك يا يوسف .
قاطعه يوسف ونظرة إصرار في عينيه :
- افهمني يا رأفت .. أنا لا أريدك أن تسترد حقي .. وإنما أريدك أن تساعدني على أن أصير رجلا قادرا على استرداد حقه .. وحق وطنه .
ابتسم هيثم رواح يربت على كتف يوسف قائلا بلهجة كبار السن :
- وأخيرا .. أفلحت تربيتي لك يا يوسف .
ضحك الكل .. ثم تذكر رأفت وراح يبتسما بخبث وهو يبحث عن رسالة آلاء في جيبه :
- لقد أحضرت لك مفاجأة يا هيثم .
تساءل هيثم بفرح بعد أن خمن نوع المفاجأة :
- لابد أن أمي أعدت لي طعاما أحبه .
قاطعه أدهم ضاحكا .. وقد فهم مقصد رأفت :
- لقد احضر لك غداء للمشاعر .. وليس للبطن أيها الشره .
شارك رأفت صديقه أدهم الضحك .. ثم أخرج الرسالة من جيبه ولوح بها في الهواء :
- أحزر من شغل نفسه بك .. ليخط لك رسالة .
أختطفها هيثم والفرحة ترقص في عينيه:
- آلاء .
أمسك الرسالة يحتضنها بين أنامله برقة خوفا من أن تجرح يده الخشنة تلك الصفحات الرقيقة .. وظل يتأملها بعيون محبة .. ويتحسسها برفق وكأنه عاشق متيم يلتقي حبيبته بعد طول غياب .. كان الشبان الثلاثة في ذلك الوقت يرقبونه وعلى وجوههم ابتسامات .. ثم تحدث أدهم مازحا :
- افتحها يا أخي .. وطمئنا على آلاء .
أفاق هيثم من شروده .. ثم ابتسم لأصدقائه بخجل وهو يتجه إلى الخارج ليستمع من بين السطور إلى نجوى الحبيبة الغائبة ..
جلس فوق ربوة تطل على منظر جميل .. أو أن أحاسيسه المرهفة هيأت له جمال المنظر .. وفتح الرسالة وقلبه يدق بعنف .. يا ترى بأي صيغة خاطبته آلاء .. كأخ لها .. أم كصديق مقرب .. أم تُراها حدثته كحبيب .. هل سيفضحها قلمها فتريحه قليلا .. هل سيجد بين سطورها بعض ما يرجوه منها .. أم أنها بعثت له بهذه الرسالة لتواسيه وتهون عليه بعده عنهم .. بدأ هيثم بقراءة الرسالة التي كتب فيها :
" من أجلك ..
أحببت الحياة
تجاهلت الأحزان
أصبحت الأيام أجمل من عهدي الذي كان
نضب الحزن وما عدت أحفل بالآلام
تملكني الفرح .. وكدت أخاف .. على قلبي أن يتعوده
ويعود من جديد لرحلة الأحزان
من أجلك ..
تجسدت أمالي
وبُعدك
جعلني أنشد القرب
وأزكي الأيام
أحلامي .. أفكاري .. ملك لك
من أجلك ..
أحسب الزمن
أتحسس لحظات تذهب عني وأنت بعيد
وأستعذب لقاء يجمعني بك
وفي كل لقاء
سيدي
أعيش فرحة العيد
أتمنى .. أحلم .. أن تأتي غدا مع الأنسام
لتعزف لي لحن الحياة
كلما حزنت خلت أنك بجانبي تمسح أدمعي
وكل فرحة مرتبطة بوجودك
فهل هذه الأحاسيس تمثل الحب
أو أن للحب تعريف آخر
ربما ولكني سعيدة بما آلت إليه نفسي من رضى حتى وأنت بعيد هناك ..
تفصل بيني وبينك آلاف المسافات تتجسد الأحاسيس في صدري يوما عن يوم
فأنت باق في نفسي
من أجلك ..
أغفر .. أسامح .. أعطف .. أحب ..
ما عدت أخاف
كل شيء من حولي صار له معنى
فهل سيدي
ما أحسه هو الحب . "
أغلق هيثم الرسالة ونبضه يتسارع .. وكأن ذلك القلب المتلهف لحب آلاء يصفق فرحا بين الضلوع ..
هل يسمح لنفسه بتصديق هذه الأحاسيس الفياضة ..
لقد كان راض من آلاء بأي شيء ..
كان راض بأن يحبها العمر كله دون أمل ..
فحبه لها ليس صفقة متبادلة الفوائد .. وسعادته تكمن في حبه المجرد لها ..
وفي كل يوم يزداد تعلقا بها .. وبذلك الخيط الرفيع بينهما ..
الكائن بفعل نظرات الحب .. والتي تصرخ في عيون آلاء ..لتزيد قلبه جنونا بها ..
ولكنه لم يجرؤ في التفكير باليوم الذي ستستسلم آلاء لحبها له ..
وتسطر كلمات الهوى من اجله .. فقط من اجله ..
فتح هيثم الرسالة .. وأعاد قراءتها مرة تلو الأخرى .. ليشعر في كل مرة بإحساس جديد .. أقوى وأجمل بفعل تلك المفردات التي مست شغاف قلبه كالسحر ..
شعر رأفت بتأخره في الخارج .. فجاء ليجده هائم في صفحات الرسالة .. أخبره رأفت وهو يجلس بجانبه :
- لقد قالت لي بأن أخبرك أنهم سيسافرون إلى مصر بعد يومين من اجل علاجها .
نظر هيثم إلى رأفت بلهفة :
- ألم تقل لك كم سيغيبون ؟.
هز رأفت رأسه مبتسما :
- ربما هي نفسها لا تعرف كم سيستغرق منها العلاج .. ولكنها قالت لي أن أبلغك سلامها هي ونور ودعوات أمهما .
أخذ هيثم يفكر بحبيبته المريضة :
- هل تعتقد يا رأفت أن آلاء ستشفى من مرضها ؟.
نظر إليه رأفت مجيبا وقد تعقدت حاجباه :
- وهل يفرق عندك هذا الموضوع ؟.
انتفض هيثم مندهشا من سوء ظن صديقه :
- أيعقل هذا السؤال يا رأفت ؟.. لقد أحببت آلاء قبل أن نعلم بمرضها .. ولن يفرق معي شيء في حبها .. ولكني أيضا أود أن تعيش حياتها كغيرها من الفتيات .. وأنا مستعد أن افديها بروحي كي تبقى سعيدة .
ابتسم رأفت بحب وهو يستمع إلى حديث صديقه الولهان .. ثم أردف بأسى بعد أن أثار حديث هيثم اشتياقه لشذى :
- إننا نعيش في وضع لا يشجع على الحياة .. ولكن الحب إحساس عنيف .. مهما تجاهلناه يظل يركض خلفنا ليربطنا بأشخاص لن نرى روعه الحياة إلا من خلالهم .
تنهد هيثم وهو يحاول استيعاب خفقات الحب التي تنبض في رسالة آلاء :
- آه يا رأفت .. لو كنت تدرك مدى محبتي لهذه الفتاة .
ابتسم له رأفت .. فأردف هيثم وقد عاوده الحزن :
- لقد قالت لي وهي تودعني أنها تحس بأنها لن تراني ثانية .. ووعدتها بأن أعود من اجلها .. وإحساسها هذا يزيد قلقي عليها الآن .
حاول رأفت طمأنت صديقه المهموم :
- ادع لها يا هيثم .. وإنشاء الله ستشفى وتعود إليك بأحسن حال ؟.
هز هيثم رأسه باستسلام :
- إنشاء الله .

بعد يومين جاء القائد ليؤكد العملية للشباب وقبل أن يخرج أعطى يوسف سلاحا :
- يبدو أن حظك حلو يا يوسف .. فلم أكن أتوقع حصولي عليه بهذه السهولة .
اخذ يوسف يتحسس السلاح بذهول .. ثم تنبه إلى أنه لم يشكر قائده فقال بصدق :
- أشكرك جدا .
- إن هذا أقل ما يمكننا تقديمه لشباب وهبوا أرواحهم رخيصة من اجل وطننا الحبيب .
خرج القائد .. وتهيأ الشباب للنوم استعدادا للعملية التي سيقومون بها غدا صباحا .. وخرج يوسف وجلس يفكر بالبندقية التي بين يديه ..
هل سيستطيع استعمالها في قتل بشر مثله ..
وهل سيقوى على إزهاق روح ..
في ذلك الوقت .. أحس يوسف بالحنق على عدوه ..
لماذا يجبره هذا العدو على أن ينغمس في سخافة الحرب ..
لقد عاش عمره بإحساس المظلوم الذي يتمنى فرصة يدافع فيها عن نفسه ..
وهو الآن يتحسس بندقيته .. ويشعر بأن فرصته بين يديه ..
ولكن لماذا يحس بكل هذا الضيق أيضا .. فهو يشعر بأنه قاتل ..
تنهد يوسف بألم .. ثم أغمض عينه وهو يستعيد كل ذلك التعذيب الذي تعرض له في السجن الإسرائيلي ..
وبدأ يسمع بأذنيه .. تلك الضحكات الهستيرية التي أطلقها معذبوه ..
وكأنهم يؤدون عملا ممتعا ..
ثم قفز إلى ذاكرته كل تلك المجازر الوحشية التي قام بها اليهود على أرضه المقدسة ..
والتي شاهد بعضها .. وسمع بالأخر على لسان والده ..
لحق أدهم بيوسف .. وحدثه مازحا ليخفف من الصراع النفسي الذي يعانيه :
- هل أنت مستعد للغد يا يوسف ؟.
ابتسم يوسف لأدهم الذي جلس بجانبه ببساطة :
- إنشاء الله .. ولكن فكري مشغول بعض الشيء .
تساءل أدهم مشاكسا :
- وما الذي يشغلك ؟.. هل تحب ؟.
ابتسم يوسف بسخرية مريرة .. ثم أجاب بحزن وعيناه تشرد بعيدا كأنه يفكر بمحبوبته :
- نعم أحب .. ومشكلتي أن حبيبتي في أيد نجسه .
وقبل أن يرد عليه أدهم جاء رأفت مقاطعا :
- إنني استغرب على أعصاب هيثم الباردة .. كيف سيأتيه النوم ونحن مقبلين على عمليه كبيرة كهذه .
وفي تلك الأثناء لحقه هيثم :
- لقد طار النوم من عيني .. فيبدو أنك حسدتني .
ضحك رأفت ورفع يديه كمن ينفي عن نفسه تهمه :
- لا تتهمني .. وكن صريحا معنا .. فهناك شخص آخر سرق النوم من عينيك .
ضحك الشباب .. وتملك هيثم الخجل .. فتدخل أدهم مبتسما .. وهو يحاول التخفيف عن يوسف :
- دعه يا رأفت .. وتعال لتسمع اعتراف أخيك .. بأنه يحب .
رفع رأفت حاجباه بدهشة .. وتقدم منهما وهو ينظر إلى وجه أخاه محاولا أن يكتشف ما بداخله :
- هل صحيح ما يقول أدهم يا يوسف ؟.
انفرج فم يوسف بابتسامة ضعيفة وهو يرى دهشة أخاه .. فأردف أدهم مؤكدا وهو يمسح رأس يوسف بكفه :
- نعم صحيح .. وغدا سوف يذهب لينتزع حبيبته ممن أسروها أعواما طويلة .
ابتسم رأفت وهيثم بعد أن فهما مقصد صديقهما .. وجلسا بجانب يوسف الذي نظر لأدهم باستغراب .. فأتم أدهم حديثه بهدوء :
- كلما كبر حبك لها .. كلما تمسكت بها أكثر .. وفي كل مرة تدافع عنها ستشعر بالراحة .. وكأنك تهديها مهرها الذي تستحقه .. فأرواحنا جميعا ترخص أمام حريتها .
بدأ الحزن ينقشع عن وجه يوسف تدريجيا .. وقال بعد أن استعاد حماسته :
- يبدو أنك محق يا أدهم .. فمجرد قيامي بأي عمل يسهم في حريتها .. يدل على حبي لها .. وسوف يخفف من هذا العذاب الذي أحسه .
ربت رأفت على رأس أخاه رواح يرمقه بحب :
- لقد كبرت فعلا يا يوسف وأصبحت رجلا .. ولكني لا اعرف لماذا يزداد خوفي عليك .. وأحس بأنني مسئول عن حمايتك .
ابتسم يوسف ووضح له مازحا :
- لا تخلط الأمور يا رأفت .. فأنا يوسف ولست آية لتخاف علي .
هز رأفت رأسه بعناد:
- لن تقنعني .. وسأظل أخاف عليكما أنتما الاثنين .
ضحك يوسف .. ثم أطلق تنهيده حملها ما استطاع من هموم :
- هل تصدق أن آية أوحشتني كثيرا ..
ثم أردف بنبره دافئة وهو يتذكر ابنة عمته :
- إن وجودها في البيت يضفي عليه إحساسا آخرا .. وكأنها روح البيت .
شرد أدهم عند سماعه لاسم آية .. وبدأ يهيم بدنيا بعيده عنهم .. يفكر بآية الرقيقة .. كم يشتاق إليها .. وخاصة بعد أن تعود عليها .. لقد أحبها قبل أن يعرف تفاصيل حياتها .. وعندما عاش معها أحس بمدى جمالها وروعتها .. فزاد تعلقا بها .. لاحظ رأفت شرود أدهم :
- بماذا تفكر يا أدهم ؟.
أسرع أدهم يجيب بخجل وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره :
- لا شيء .
تدخل هيثم مازحا :
- يبدو أن أدهم يحب أيضا .. وهنالك من يسرق النوم من عينيه .

ضحك الشباب .. وظلوا يتسامرون إلى أن استقبلوا اليوم التالي .. وفيه تمت عمليتهم بنجاح والتي كانت تحديدا في 26/12/2008 .. لقد كانت تلك الصواريخ التي أطلقوها على المناطق الإسرائيلية بمثابة شرارة أوقدت نيران العدوان الإسرائيلي .. فلقد جاء القائد قائلا بحرقة :
- لقد بدأت إسرائيل بالقصف على المدنيين .
تساءل أحد الشباب بغضب :
- ولكن ما هو ذنب المدنيين ؟.
رد عليه أدهم :
- إن إسرائيل تعلم أنهم نقطة ضعفنا .
تساءل يوسف بحماس :
- ولكن هل هذا يعني توقفنا عن المقاومة ؟.
أجابه القائد :
- إن إسرائيل تحاصر غزة من كل الاتجاهات برا وبحرا وجوا .. ويبدوا أنها تحاول القيام بعملية اجتياح جديدة .
تساءل شاب أخر :
- كيف سنستطيع الدفاع عن أنفسنا وعن المدنيين ونحن لا نملك مثل عدتهم وعتادهم ؟.
رد عليه يوسف بغضب :
- إذا اضطررنا سوف نحاربهم حتى بالتراب الذي تحت أقدامنا .
أيده هيثم :
- هذا صحيح .. فغزة هي قلب المقاومة .. وسقوطها يعني دمار فلسطين .
ظل النقاش يحتد بين الشباب لتزداد حماستهم للمقاومة .. فأنها القائد الحوار بابتسامة رضى :
- بارك الله فيكم يا شباب .. ولقد علمت أن كل الفصائل وكتائب المقاومة الأخرى سوف تقوم بالتصدي لهذا الاجتياح .. وهذا يزرع فينا الثقة في الله أولا وبأنفسنا .
أكد رأفت بحماس :
- نحن مستعدون للمواجهة .
ثم اخرج القرآن الذي أعطته إياه آية .. ليناوله للقائد :
- وأنا أول من أقسم بهذا على كتاب الله .
اخذ القائد القرآن من بين يدي رأفت بإحدى يديه واضعا يده الأخرى عليه .. فتجمع الشباب حوله .. كل يضع يديه فوق يد الآخر .. فتلا القائد آية قرآنية :
- بسم الله الرحمن الرحيم .. قال الله تعالى " ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ".
ثم اقسم والشباب يكررون قسمه :
- اقسم بالله العظيم .. بأن أجاهد في سبيل الله حتى آخر قطرة من دمي .. لأنول أحد الحسنين إما النصر أو الشهادة .. والله على ما أقول شهيد .
انفض الشباب من حول القائد ليتلقوا مهامهم الجديدة .. من ثم توجهوا للحدود .. لتبدأ الاشتباكات البرية بينهم وبين الجيش الإسرائيلي .. فكانت مجزرة دامية أسفرت عن موت كثير من شباب المقاومة ..
وبعد بضعه أيام من بدء الاجتياح أطفأ رأفت الراديو وهو ينظر للشباب بحرقة :
- إلى ماذا تستمعون ؟.. إن هذا لن يطمئنكم على أحد .. فكل شبر في غزة يعيش قسوة الحرب .
ثم ابتعد بعصبية فلحق به أدهم محاولا تهدئته :
- ما بك يا رأفت ؟.
أجابه رأفت بعد أن أطلق تنهيدة من صدره :
- لا اعرف يا أدهم .. إن أعصابي ممزقة كل يوم معارك واشتباكات .. وآلاف المصابين ومئات القتلى في صفوفنا وفي صفوف المدنيين .. ولا نتيجة ترجى .
أنبه أدهم برفق :
- ولكن هذا ليس بالوضع الجديد يا رأفت .. لقد تعود الناس على مثل هذه المعاناة .. وكل ما يهمهم الآن أن تبقى غزة حرة .
تقدم يوسف من أخاه ممسكا كتفاه :
- تجلد يا رأفت .. ولا تشفق علينا .. ولكن أشفق على من باع ضميره ولم يحرك ساكنا ليوقف هذا العدوان .
تدخل هيثم مؤيدا :
- لقد صدقت يا يوسف .. فنحن مأجورون .. وشهدائنا أحياء عند ربهم .. والذي يستحق الرثاء هم حكامنا العرب .. وابسط مثال أشقاءنا العرب الذين يقفلون أبواب معابرهم في وجوهنا دائما .
اخذ رأفت نفسا عميقا ثم رد عليهم وقد استعاد نشاطه وحماسته :
- ليقفلوا ما استطاعوا .. فالنصر من عند الله .
ربت أدهم على كتف رأفت وأحاطه بذراعه وهو يعيده للجلوس بين الشباب المرابطين على أرض المعركة ..
وفي وقت متأخر من الليل أكمل العدو زحفه نحو مناطق غزة .. فتصدى له الشباب من كل حركات وكتائب المقاومة الفلسطينية ..
وفي زخم المعركة .. تنبه رأفت إلى ذلك الإسرائيلي المختبئ خلف صخرة والذي أطلق وابل من الرصاص نحو يوسف .. فلم يستطع سوى أن يحميه بجسده .. فاحتضن أخاه موجها ظهره نحو الرصاص .. ولكنه لم يشعر إلى برصاصه واحده تسببت بتشوه في خده الأيسر .. التفت رأفت خلفه ليرى صديق عمره هيثم مرمي على الأرض بعد أن قفز ليتلقى الرصاص بدلا عن رأفت .. كان أدهم ينظر كالمذهول .. لما يحدث حوله كلمح البصر .. سحب رأفت هيثم إلى مكان آمن .. ثم وضع رأسه فوق فخده .. وحاول إيقاف الدماء التي تنزف من إصاباته .. فحدثه هيثم مبتسما :
- اسمعني يا رأفت .
صرخ رأفت وهو يستحث أدهم ويوسف المصدومان بجانبه :
- فليعطني أحدكما أي شيء أوقف به هذا النزيف .
تقلص وجه هيثم وهو يعاني الآم الإصابة ثم صرخ بإصرار :
- كفى يا رأفت .. واسمع ما أود قوله لك .
بدأت الدموع تتجمع في عيني رأفت وهو ينظر إلى صديقه العمر يتسرب من بين يديه :
- قل لوالداي أنني كنت انشد دوما فخرهما بي .. وأنا الآن أحس براحه لم اشعر بها من قبل .. لذلك أوصيهما بأن لا يحزنا من اجلي .
جلس يوسف على الأرض وهو يمسك رأسه بيديه و سيل من الدموع تنهمر من مقلتيه .. بعد أن أدرك أن صديق طفولتهم يحتضر .. أكمل هيثم حديثه ببطء وهو يصارع الألم :
- انتبه لشذى يا رأفت .. فهي تحبكم كثيرا .. ولن يتبقى لديها أحد سواكم يحرص عليها من بعدي .
قاطعه رأفت وهو يحاول حبس دموعه :
- لا تقل هذا الكلام يا هيثم لأنك سوف تعيش .. ويجب عليك الآن أن ترتاح فالكلام يتعبك .
ابتسم هيثم لصديقه وعاود حدثه متجاهلا لرأفت :
- اسأل آلاء أن تغفر لي وعدي لها .. فلقد وعدتها بأن أعود من اجلها .. وكنت أود أن اقضي معها العمر كله .. ولم أكن أدرك أنه ما من بقية في عمري لأقضيه معها .. ولكن اخبرها بأنني سأظل أحبها .. حتى بعد أن أموت .. فقلبي ملك لها وحدها .
سقطت دموع أدهم رغما عنه فأشاح بوجهه بعيدا عن صديقه .. حول هيثم نظره بين الشباب الثلاثة .. ثم راح يحدثهم بحب :
- عدوني بأن تتجلدوا من بعدي .. فأرواحنا جميعا هي أقل شيء نقدمه للمساهمة في مهر حبيبتنا فلسطين ..
وقبل أن يجيبه أحد .. كان هيثم ينطق بالشهادة .. ثم هدأت أنفاسه المتقطعة .. ولم تبقى إلا ابتسامة هادئة بين شفتيه .. ظل رأفت يرمق صديقه .. ثم بدأ يهز جسده بقوه :
- هيثم .. هيثم .. لماذا سكت ؟.
احتضن رأفت جثه صديقه وأجهش بالبكاء صارخا :
- لا .. لا تتركني يا صديقي .
جلس أدهم خلف رأفت وربت على ظهره برفق :
- كفى يا رأفت .
نظر رأفت لأدهم الذي كان وجهه مبلل بالدموع :
- كيف سأستطيع نقل كلامه لحبيبته .. ودويه .
عاد رأفت يبكي بحرقة وهو يصرخ :
- ماذا أقول لهم يا أدهم .. ماذا أقول لهم وأنا قاتله .
وقبل أن يجيب أدهم .. لم يستطع يوسف احتمال الموقف فمسح دموعه .. وأمسك بندقيته وركض ليعود إلى المعركة .. ولكن أدهم ركض خلفه ليستوقفه :
- لا يا يوسف .. ليس الآن .. يجب أن نجد وسيله ننقل بها هيثم إلى بيته .. ونخبر أهله .
توقف يوسف .. واستطاع الثلاثة بعد ذلك حمل هيثم والذهاب به إلى مقر المقاومة .. وفي طريقهم إلى بيته كانت الجملة الأخيرة التي قالها شهيدهم الحبيب تصدر طنينا في أذان أدهم ..
" إنه مهر لحبيبتنا فلسطين .... "


(9)
عريسان في الجنة

ومع خيوط الفجر الأولى .. وصل رأفت إلى منزل هيثم وظل واقفا ينظر إلى البيت ودموعه تحتشد في مقلتيه .. أمسك أدهم بكتفه وحدثه بلطف .. كان يخشى عليه من هذا الألم الذي يلفه :
- هل تريدني أن أحدثهم بدلا عنك ؟.
هز رأفت رأسه بالنفي .. من ثم تحدث دون أن ينظر إلى صديقه بصوت متحشرج من أثار البكاء :
- هل يمكنني أن اذهب إلى بيتنا أولا ؟.
ربت أدهم على صديقه وأحاطه بذراعه واتجها نحو بيته .. طرق رأفت الباب طرقات ضعيفة .. فسمعته آية التي كانت تستعد للذهاب إلى المستشفى .. انقبض قلب آية وهي تتقدم إلى الباب بخطوات وجله .. فلقد مرت عليهم أيام تحت نار العدو .. يسقط فيها شهداء وجرحا وكأنهم أوراق الشجر في وقت الخريف .. تساءلت آية برهبة :
- من ؟.
كلمها أدهم مطمئنا :
- افتحي يا آية هذا أنا .
أسرعت آية لتفتح الباب عندما ميزت صوت أدهم .. وقلبها يكاد يشق صدرها من عنف النبضات .. فلقد فرحت بصوت الحبيب العائد .. وتوجست خيفة مما قد يحمله من أخبار عن ولدي خالها .. فتحت آية الباب وحين رأت رأفت أمامها احتضنته بقوة:
- لقد خفت أن يكون حدث لكم مكروه .
ظل رأفت بين أحضانها وكأنه جسد دون روح .. فأحست به آية فابتعدت عنه لتدخله متسائلة :
- ما بك يا رأفت ؟.
ثم نقلت بصرها بين الاثنين .. وعادت تتساءل بريبه :
- أين يوسف ؟.
جلس رأفت على أقرب كرسي .. وأخفى وجهه بين كفيه لتنهمر دموعه بضعف .. صعقت آية و خرج الخال وزوجته على صوت بكاء ابنهما .. وقبل أن يتكلما تقدمت آية من أدهم وأمسكته من كتفيه تهزه بقوة وهي تقول من خلال دموعها :
- أين يوسف يا أدهم ؟. لما لا تردون علي ؟.
خفض أدهم رأسه بصمت والعبرات تخنقه .. وكان الأب يقف مشدوها وقلبه معلق بكلمة تخرج من فم أحد الشابين .. وقبل أن تنهار الأم .. تكلم رأفت قائلا بصعوبة وبصوت غير مفهوم تخنقه العبرات :
- إنه بخير .
كانت آية لا تزال تنظر إلى أعين أدهم الممتلئة بالدموع .. فاتجهت نحو رأفت وهي تمسك برأسه بين يديها .. وقالت من خلال دموعها :
- وإذا كان بخير .. لماذا لم يأتي معكما ؟.
صمت رأفت .. وضغط أدهم على أسنانه بحرقه وهو يشيح بوجهه نحو الحائط ليخفي تلك الدموع التي لم يستطع السيطرة عليها .. فخرجت الجدة فزعة على صراخ الأم التي تنظر إليهما بجنون :
- ليتكلم أحدكما .. أين ابني ؟.
جفف رأفت دموعه .. وأخذ نفسا عميقا ثم قال :
- لقد بقي في مقر المقاومة لينقل جثة هيثم إلى المستشفى .
حل صمت رهيب على أفراد الأسرة .. وكأنهم صفعوا على غفلة .. ولم يتنبهوا إلى شذى التي دخلت إلى المنزل بعد أن لمحت رأفت .. وجاءت لتطمئن على أخاها .. فتساءلت دون أن تبدي أي تعبير على ملامحها .. وكأن مشاعرها قد قتلت بداخلها :
- بقي مع جثه من ؟.
التفت الكل إلى شذى الواقفة على الباب .. والمسلطة نظراتها الخالية من أي تعبير إلى رأفت .. وقف رأفت مرتبكا .. فتقدمت منه لتحثه على الحديث وفي ملامحها خوف من إجابته :
- هل استشهد هيثم ؟.
أشاح رأفت بوجهه عنها ولم يستطع سوى أن يهز رأسه بالإيجاب .. بدأت دموع شذى تنهمر .. وهي تحرك رأسها يمينا وشمالا وكأنها ترفض تصديقه :
- مؤكد أنك تكذب علي .
ثم فجأة أمسكت بيد رأفت ووضعتها على رأسها .. فنظر إليها رأفت بعينيه الحمراوتين من أثار دموعه مستغربا .. راحت تصرخ فيه وهي تسلط عليه نظرة متحديه من خلف دموعها :
- احلف يا رأفت .. احلف أنه قد استشهد .
لم يتمالك رأفت نفسه وخر على الأرض باكيا بحرقة .. وكان الكل يرمقهما بصمت وبقلوب موجوعة لفقدان شهيدهم الشاب .. تملك آية الخوف على صديقتها .. فتقدمت منها .. واحتضنتها .. فانفجرت شذى بالبكاء وهي تحدثها من خلال نشيجها المتعالي :
- لقد تركني يا آية .. كيف استطاع فعل ذلك بي .
ظلت آية تحتضنها بقوة وتربت عليها بحنان .. فعادت شذى تقول من خلال أنينها :
- لقد رحل دون عودة .. ولن استطيع رؤيته بعد الآن .
وقف رأفت .. وركض خارجا من البيت فلحقه أدهم .. أردف الخال بحسرة وهو يطالع باب الدار المفتوح :
- إنا لله وإنا إليه راجعون .
اقتربت الخالة منى من الفتاتين بعد أن أفاقت من ذهولها :
- كفى يا حبيبتي .. لقد مات شهيدا ولن يصله الآن سوى دعائنا له ولغيره من الشهداء بالرحمة .
أردفت الجدة من خلال دموعها :
- لقد ارتاح .. ولكن الله يصبرنا من بعده .
ثم رفعت يديها للسماء :
- اللهم أوهب أهله الصبر يا رب .. وارحمهم برحمتك يا ارحم الراحمين .
حدث الخال عز الدين زوجته :
- لا بد أن نخبر والداه يا منى .. فذهبي إليهما ولا تقولي لهما بأنه استشهد .. حتى نصل إلى المستشفى التي بها هيثم .
ذهبت الخالة إلى أم هيثم التي كانت تحوم في أرجاء المنزل بقلق بسبب تأخر شذى .. وعندما لمحت الخالة جهاد أثار الدموع في عيني جارتها ابتسمت بحزن وكأنها تعرف الجواب مسبقا :
- هل استشهد هيثم ؟.
لم تجد الخالة منى سوى الدموع تجيب بها أم الشهيد .. فعضت الخالة جهاد على شفتها السفلى حتى كادت تدميها وراحت تهز رأسها بأسى :
- لقد شعرت به .. فلقد أحسست وكأن قلبي ينتزع مني .
ثم ضربت صدرها بيديها وأجهشت بالبكاء :
- آه .. يا ولدي .. آه .. يا حبيبي .
تقدمت منها الخالة منى محاوله تهدئتها .. وبعد لحظات كانت العائلتان تتجهان إلى المستشفى التي يعمل بها والد هيثم .. وكانت آية تتمنى أن يصلوا قبل أن يعرف الخال كمال باستشهاد ابنه .. حتى يخففوا عليه وقع الصدمة .. ولكن شاءت المصادفة بأن تسلم جثه هيثم إلى يد والده .. ولم يكن سيشك الوالد إلا عندما رأى يوسف يقف بجانب الجثة بملامحه الحزينة .. فكشف الغطاء عن ولده معتقدا في بادئ الأمر أنه سيرى رأفت ولكنه صعق عند رؤيته لهيثم .. ظل الدكتور كمال يحول نظرة وهو غير مصدق بين ابنه الشهيد ويوسف الذي خفض رأسه واخذ يبكي .. ثم بعد لحظات أدرك حقيقة استشهاد ابنه .. فتساقطت دموع صامته من بين عينه لتبلل رأس ولده الشهيد .. وانحنى ليقبل رأسه بحنان بالغ .. ثم أعاد تغطيته .. وقبل أن يتجه إلى الخارج دخلت زوجته وابنته مسرعتين .. وكانت شذى هي أول من وصل إلى جثه أخاها وأشاحت عن وجهه الغطاء .. وعند رؤية أمه له .. أطلقت زغرودة من فمها .. وأخذت تبكي وتزغرد وهي تحدثه :
- هذا عرسك يا بني .. هذا عرسك يا حبيبي .
قبلت شذى رأس هيثم .. ثم هربت لتدفن أنينها في حضن أباها .. فقبلها الأب ودموعه تبلل رأسها.. بينما تنتفض هي بحضنه :
- كفى يا حبيبتي .. فاليوم عرس أخاك مثلما قالت والدتك .
لم تحتمل آية الموقف فخرجت من الغرفة .. ودموعها تحجب عنها الرؤية .. ثم اصطدمت بجسد .. فإذا بها نور .. وقفت آية ترمق نور بدهشة .. فحدثتها نور بهلع :
- آية .. الحمد لله أنني وجدتك .
سحبت نور آية من يدها .. وأردفت واللوعة في عينيها :
- لم يسمحوا لنا بالدخول إلى مصر بسبب الحرب .. ولقد عانينا كثيرا على الحدود المصرية .. واستاءت حالت آلاء .. ونحن الآن لا نعرف كيف نخفف عنها .
كانت آية تسير بجانب نور بغير وعي منها .. وكأنها تعيش كابوسا مخيفا .. ثم وجدت نفسها تقف بجانب سرير .. استلقت عليه صديقتها .. وكان وجه آلاء شاحب جدا ويبدو في ملامحها ما تعانيه من الآم .. ظلت آية تنظر إلى صديقتها التي كانت تهذي بجملة واحده:
- أين أنت يا هيثم ؟.. لماذا لم تعد يا حبيبي ؟.
تحدثت أم آلاء وهي تنظر إلى ابنتها بأسى :
- إنها على هذه الحالة منذ أن وصلنا .. لا تذكر إلا هيثم .
جففت آية دموعها .. وحاولت التجلد لتستطيع مساعدة صديقتها .. وطمأنت الأم والأخت القلقتين :
- سوف اذهب لأحضر أحد الأطباء ليراها .
أجابتها نور بحزن :
- لقد جاء الخال كمال .. ولكنه لم يخبرنا بشيء .. خرج وكأنه يهرب منا .
فهمت آية أن صديقتها في حالة خطيرة .. مما جعل الخال كمال يستصعب مصارحة أهلها .. فجلست آية بجانب آلاء وأمسكت يدها محاولة أن تحدثها :
- حبيبتي آلاء .. هل تسمعيني ؟.. أنا آية .
فتحت آلاء عينين وهنتين وتساءلت بفرحة عن رؤيتها لآية :
- آية .. هل رأيت هيثم ؟.. هل هو بخير ؟.
ربتت آية على كفها الضعيفة وهي تحاول التماسك :
- نعم يا آلاء إنه بخير .
عاودت آلاء حديثها وهي تبكي من شدة الألم :
- إنني أحس بالألم يمزقني يا آية .
خنقتها العبرات ولم تستطع سوى تحسس كفها الرقيقة بحنان وتحدثها بصوتها المهزوز :
- سوف يخف يا حبيبتي .
حولت آلاء نظرها متفحصة تلك الوجوه التي حولها :
- لم لا تقولون لهيثم بأنني احتضر ؟.
أجابتها الأم من خلال دموعها :
- لا تقولي هذا الكلام يا ابنتي فأنت بخير .. وستشفين بإذن الله .
ابتسمت آلاء لأمها مواسية ثم طلبت منها بصوتها الخفيض :
- أجلسيني يا أمي فأنا أريد أن أحدثكم .
أجلست الأم ابنتها .. فاحتضنتها آلاء بيديها الضعيفتين:
- أنا احبك كثيرا يا أمي .
قبلت الأم ابنتها دون أن تتكلم .. فأردفت آلاء وهي تمسك بيد توأمها :
- عديني يا نور بأن لا تحزني إن حدث لي شيء .
لم تجبها نور وأخذت تبكي .. فمسحت آلاء دموع أختها بحنان :
- عديني يا نور .. بأنك ستكملين حياتك من بعدي وتعيشي من اجلي .. فأنا سأظل رفيقتك وتوأمك مدى الحياة .
احتضنت نور أختها وأجهشت بالبكاء وهي تنهرها :
- كفى يا آلاء .. لماذا تصرين على هذا الكلام .
تساءلت آلاء وهي تنظر إلى آية :
- أين شذى ؟.. لماذا لم تأتي لزيارتي ؟.
لم تعرف آية بماذا تجيب .. ثم فكرت أن شذى ستود رؤية آلاء .. فوقفت مسرعه :
- سوف احضرها الآن لك .
غابت آية لتعود وهي تطوق شذى بذراعيها بحنان .. تقدمت شذى من آلاء وجلست بجانبها محاوله إخفاء عيونها .. فتساءلت آلاء :
- هل كنت تبكين يا شذى ؟.
صمتت شذى .. فأردفت آلاء وهي تتفحص ملامح صديقتها :
- لقد كنت أود رؤية هيثم .. فلقد وعدني بأن يعود من اجلي .
ضغطت شذى على أسنانها لتكبت ذلك الأنين بداخلها .. فعادت آلاء تحدثها بحزن :
- قولي له يا شذى بأنني لم أحب أحدا مثلما أحببته .. وأنه كان يحتل مكانه في قلبي لا تصح لسواه .. اخبريه بأنني كنت أتوق لرؤيته قبل أن ارحل .. وعاتبيه على عدم وفائه بوعده لي .
سكتت آلاء .. فقد أحست بالألم .. فتجمعت الفتيات حولها .. وجعلوها تستلقي .. وأخبرتها آية وهي تعدل الوسادة التي تحت رأس صديقتها برفق :
- لا تتعبي نفسك يا آلاء .. يجب أن ترتاحي .
أغمضت آلاء عينيها بهدوء .. وارتسمت السكينة على ملامحها .. توقفت قلوبهم جميعا وهم يدركون أنها قد فارقت الحياة .. فكانت آية هي أول من تحرك .. فأخذت يدها لتقيس نبضها .. عبثا دون جدوى .. فوضعت يد آلاء وأخذت تبكي .. ظلت الأم تسال آية بخوف :
- ما بها آلاء يا آية ؟.. لماذا تبكين يا ابنتي ؟.
فهمت نور بكاء آية .. واحتضنت أختها وهي تصرخ بحرقة :
- أفيقي يا آلاء .. فأنا لن أقوى على العيش بعدك .
أثارت كلمات نور دموع شذى الحبيسة .. فخرجت من الغرفة وظلت نور تحتضن توأمها :
- أفيقي يا آلاء .. فأنت نصفي الآخر .. وأنا من دونك سأحيى حياة ناقصة .

ماتت آلاء على أرض الشهادة لتلحق بحبيبها هيثم .. ولتحدث جرحا أخر في الجسد الفلسطيني ..
وفي العصر جمعت كل الجثث في ساحة المستشفى ليصلى عليها صلاة الميت .. كانت آية ترقبهم من خلف النافذة بحجرة الممرضات .. كان منظر تقشعر له الأبدان ..
ولم تكن تعرف آية دموعها تبكي من ! ..
هل تبكي ذلك الكم من الجثث التي تحوي النساء والشباب والأطفال ..
أم تبكي هؤلاء الأشخاص المنتصبين للصلاة .. والألم يعتصرهم ..
إن غزه تحتضر .. والعالم يشاهد من بعيد ..
ما بين أجانب ساخطين ..
وشعوب عربيه ثائرة ..
وحكام عرب .. لم يتفقوا على انعقاد قمة لأجل غزة المنتحبة .. فكيف يا ترى سيستطيعون إنقاذها ..
ومشاعر آية لم تعد تتحمل تلك الأرقام التي وصل إليها عدد الشهداء والجرحى ..
كانت تنظر من خلف النافذة وكان يدا قاسيه تعتصر قلبها ..
فتبكي بحسرة وألم على من استشهدوا ..
وخوف وهلع على من ستطوله يد العدو الذي لا يرحم ..
ثم ابتسمت ابتسامة حزينة وهي تفكر بالحبيبين الراحلين ..
لقد أحبا بعضهما على أرض الموت .. والتقيا في جنه الخلد ..
جاءت شذى .. لتقف بجانب آية .. وعندما شاهدت ذلك المنظر المؤلم .. أجهشت بالبكاء ..
فاحتضنتها آية هامسة بحنان من خلال دموعها :
- إنهما حقا عريسان يا شذى .. إنهما عريسان في الجنة .



(10)
دموع الملائكة

عاد أدهم إلى البيت بجسده المنهك وقلبه المكروب .. وصوت القذائف تتوالى على مسامعه .. دخل ليجد والدته تجلس في الصالة مم*** بالقران .. وتتلوا بعض السور بصوت خافت وجميل أغمض أدهم عينه ليحبس ما تبقى من دموعه .. ووقف ينصت إلى صوت أمه الناعم الحنون .. الذي كان يشعر به يغمره بالسكينة .. ويطهر قلبه المجروح ..
لم تطل وقفه أدهم فلقد خرجت نسمة من غرفتها .. وعندما رأته ركضت نحوه واحتضنته بحب :
- أدهم .. لقد اشتقت إليك كثيرا .
ضم أدهم أخته إليه بحنان .. وقبلها على خدها وهو ينظر إلى أمه التي أغلقت المصحف بهدوء .. والتفتت لتراه :
- لقد قلقت عليك كثيرا يا بني .. هل أنت بخير يا حبيبي ؟.
تقدم أدهم من أمه وقبلها فوق رأسها .. وجلس بجانبها دون أن ينطق بكلمة واحده .. ظلت الأم ونسمة ترقبانه .. وهما تدركان ما يعانيه .. تساءلت نسمة برفق وهي تربت على كتفه :
- ما بك يا أدهم ؟.
هز أدهم رأسه يمينا وشمالا .. ثم وضع رأسه في حضن أمه والدموع تترقرق من عينيه بحرقة :
- أنا متعب جدا يا أمي .
ربتت الأم على ابنها وبدأت تمرر أصابعها بين خصلات شعرة وهي تتلو عليه آيات قرانيه .. كانت نسمة ترقب أخاها وهو يغفو في حضن أمها .. وبعد دقائق كان يغرق في نوم عميق .. انسحبت الأم برفق .. وقامت نسمة بإحضار لحاف لتغطيته .. من ثم قبلته بحنان على خده .. فحدثتها الأم هامسة حتى لا تزعج ولدها :
- تعالي يا نسمة لنحضر لأخاك الطعام .
اتجهت نسمة إلى المطبخ برفقة أمها وهي ترد بنفس الطريقة الهامسة :
- لابد أنه مشتاق إلى طعام البيت .
أجابتها الأم بحسرة :
- متى سيرفع عنا هذا البلاء يا رب ؟.
أجابتها نسمة :
- إن الأوضاع تزداد سوءا والإسرائيليون لم يتركوا مساحة بغزة إلا وقاموا بقصفها .. فأصبحنا لا نعرف من أين ستأتينا القذيفة التالية .
رفع الأم رأسها داعية وهي تفكر بولدها الحبيب :
- يا رب أحفظ أولادنا واحمي ولدي .. فهو كل ما تبقى لنا .
في المساء استيقظ أدهم فزعا على صوت إحدى القنابل .. فربتت الأم على ظهره :
- لا تخف يا حبيبي .
جلس أدهم وضغط على رأسه بكلتا يديه :
- كم الساعة الآن ؟.
ردت نسمة :
- إنها السابعة مساءا .
اسند أدهم ظهره على ظهر الكنبة التي كان يرقد عليها .. واخذ نفسا عميقا محاولا إزالة ذلك الضيق الذي يسيطر عليه :
- يجب أن اذهب إلى بيت رأفت بعد ساعة .
حثت الأم ابنتها :
- اذهبي يا نسمة واحضري لأخاك الغداء .
أجابها أدهم وهو ينهض متجها إلى غرفته :
- ليس هنالك ضرورة للغداء يا أمي .. يكفيني أن استحم وأغير ملابسي .
أصرت نسمة وهي تتجه إلى المطبخ :
- غير ملابسك و تناول غذائك .. من ثم اذهب حيثما تريد .
بعد دقائق خرج أدهم من الحمام ليجدها قد حضرت له المائدة .. فأتم ارتداء ملابسه وخرج من حجرته وهو يسمع تزايد صوت القنابل :
- هل تسمعون هذه القنابل يوميا بمثل هذه القوة ؟.
أجابت الأم بحيرة :
- والله يا بني .. لقد تعودنا عليها .. وأصبحت جزء لا يتجزأ من يومنا .. فهي لا تهدأ ليلا ولا نهارا.
أردفت نسمة وهي ترى أخاها يستعد للرحيل :
- ألن تتذوق ما أعددته لك يا أدهم ؟.
ابتسم أدهم بحنان .. وتقدم منها ليطبع قبله على وجنتها :
- لا أحس بأن لي قابلية لتناول الطعام .
وبخته الأم :
- يجب أن تتغذى يا أدهم وإلا لن اسمح لك بالخروج .
أجابها أدهم والحزن يلمع في عينيه :
- والله يا أمي لقد أصبحت احتار كثيرا .. فكلما ابتعدت عن البيت .. اشعر بأنني أتخلى عنكما .
قبلته الأم وراحت تطمئنه :
- لا تحمل همنا يا حبيبي .. وليحميك الله .
احتضن أدهم أمه وأخته .. ثم خرج من البيت وأمه تشيعه بالدعوات .. ونسمة ترقبه إلى أن اختفى ..
وقبل أن يتوجه إلى بيت صديقه رأفت .. وقف يتأمل بيته .. والخوف يتملكه على أمه وأخته .. من ثم نفض تلك الهواجس بداخله .. وأكمل طريقه .. كان أدهم يسير في الطرقات .. وصوت القنابل يشتد .. فتزيد من اضطراب مشاعره .. ومع وصوله إلى بيت رأفت .. بدأت نفسه تستقر بعض الشيء .. فلقد تذكر آية .. وأنه لابد سيراها .. ابتسم أدهم .. فمجرد تفكيره بآية .. يشيع في نفسه كثير من الرضي والاطمئنان .. طرق أدهم الباب .. فاتاه صوت الخال عز الدين :
- من ؟.
أجاب أدهم بصوته الهادئ :
- أنا أدهم يا خال .
فتح الخال الباب مرحبا بحرارة كعادته عندما يرى أدهم :
- أهلا بابننا الشجاع .
ابتسم أدهم بألم .. وأحنى رأسه بعد أن تذكر هيثم :
- ليت شجاعتي ساعدتني في إنقاذه .
نهره الخال وهو يربت على كتفه ويدعوه للدخول :
- هون عليك يا بني .. فهذا قدره .. ولم يكن بمقدوركم جميعا ردع القدر .
دخل أدهم وألقى التحية على الجدة والخالة منى اللتان كانتا تجلسان في الصالة .. فتساءلت الخالة مبتسمة له بحنانها الفياض وكأنها تنظر لأحد أبنائها :
- كيف أصبحت يا أدهم ؟.
هز أدهم رأسه مبتسما هو الآخر :
- الحمد لله يا خالتي .
لم تكتفي الجدة من أدهم بتلك التحية فنادته ليجلس بجانبها :
- تعال يا حبيبي .. دعني اسلم عليك قبل أن تذهب .
جلس أدهم بجانب الجدة بحياء .. فاحتضنته وهي تتأمله بنظرات حنونة :
- والله لقد أوحشتنا كثيرا يا أدهم .. فلقد تعودنا وجودك معنا .. وصرت أراك بمعزة الأولاد .
تلقى أدهم كلام الجدة بكثير من الحياء .. من ثم تساءل وهو يبحث بعينيه عن آية :
- أين الشباب ؟.
أجابه الخال عز الدين إنهما يحضران نفسيهما للرحيل ولكني سأذهب لأخبرهما بمجيئك .. ذهب الخال إلى غرفه أبنائه فعاد أدهم يسأل الجدة بحياء :
- وأين آية ؟.
ردت عليه الجدة وهي تبتسم بطيبة :
- إنها بالمستشفى يا حبيبي .
خفض أدهم رأسه وقد تملكته خيبه الأمل .. كم تمنى رؤيتها .. فمؤكد أنها كانت ستبعث في نفسه مزيدا من الصبر .. أردفت الخالة مواسية وقد أحست بكآبته :
- لقد أصبحنا لا نراها .. فيومها ولياليها كلها تقضيه في المستشفى ..
عاد الخال يتبعاه ولداه فوقف أدهم .. وتساءلت الخالة وهي تنظر إلى ولديها بيأس :
- هل كان يجب عليكما أن ترحلا اليوم ؟.
رد رأفت وهو يقبل يدها :
- نعم يا أمي .
تساءلت الأم متوسلة والدموع تتجمع في مقلتيها :
- ماذا سيضركما إذا أخذتما يوما راحة ؟.
ضحك يوسف .. وهو يجيب بسخرية :
- وأين الراحة هذه يا أمي .. وسط هدير المدافع .. وصوت القنابل .. يبدو أن الراحة ستأتي بعد أن نموت .
قاطعته الجدة بحدة :
- ربي يحفظكم يا ولدي .
التفت يوسف لرأفت وأدهم وقد تذكر شيء :
- هل يمكنكما انتظاري قليلا ؟.
تساءل رأفت بقلق :
- ماذا تود أن تفعل ؟.
أجاب يوسف مبتسما بخجل :
- أود أن أرى براءة .
تسللت الابتسامات لشفاه الجميع .. وحدثه أدهم مازحا :
- اذهب .. يبدوا أنك لن تستطيع أن تحب سوى هذه الطفلة التي أخذت عقلك .
وقبل أن يخرج يوسف سمعت الأسرة صوت قذيفة هزت الأرض تحت أقدامهم .. فانخفض الجميع .. وأسرعوا بالخروج من المنزل لأن جزء منه بدأ بالانهيار .. وفي الحديقة كان الغبار والدخان يهيج حولهم ولم يدركوا أن القذيفة أحالت بيت براءة إلى رماد .. إلا عندما سمعوا صوت براءة يصرخ .. كان يوسف أول من اخترق الدخان وتبعه الولدان .. وبدءوا بإزاحة الأحجار لينقذوا براءة وأمها .. ولكنهم اكتشفوا أن مها .. تلك الجارة اللطيفة .. قد فارقت الحياة بينما كانت تحتضن براءة لتحميها من القذيفة وحجارة البيت المدمر .. كانت براءة تصرخ من الألم .. وهي تغرق بدمائها .. فحملها يوسف وجرى بها إلى المستشفى بصحبه أدهم ورأفت .. وعند وصولهم بدأ يوسف يصرخ طلبا للمساعدة .. فقامت إحدى الممرضات بأخذ براءة من بين يديه والتف حولها مجموعة من الأطباء والممرضات .. في حركة هستيرية لمساعدتها ومساعدة غيرها من المصابين والتي كانت المستشفى تكتظ بهم .. جاءت آية فوجدت ولدا خالها وأدهم ينتظرون خارج إحدى الحجرات .. فتساءلت بخوف وهي تطالع قميص يوسف الغارق بالدماء :
- ما الذي أتى بكم إلى هنا ؟.
أمسك يوسف آية من كتفيها وقد افلت دموعه .. وراح يحدثها بكلام متقطع غير مفهوم تخنقه عبراته الحارة :
- آية .. ساعديني .. إنها براءة يا آية .
دخلت آية إلى الحجرة التي بجانبها .. تتبع صوت الصراخ المنبعث من سرير ترقد فوقه طفلة تبكي من الآم الحريق الذي شوه جسدها الصغير .. وكانت الدماء تغطي ملامحها البريئة .. أسرعت آية نحوها .. وحاول الكل مساعدة هذه الملاك .. ولكنهم وقفوا عاجزين أمام جروحها وشدة الإصابات التي بها .. جاء الخال نضال وهو يلهث والدموع تغرق وجهه .. وحاول رأفت تهدئته :
- لا تقلق يا خال .. فآية معها وإنشاء الله ستتحسن حالتها .
خرجت آية بعد لحظات .. وملامحها تنبض بالألم .. فتقدم الخال نضال منها يحدثها بإلحاح :
- ماذا هناك يا آية ؟.. أرجوك طمئنيني ..
صمتت آية وهي تكابد تلك الدموع التي تجمعت في عينيها .. فراح الخال نضال يهزها :
- تكلمي يا آية .. قولي أنها ستعيش .. فلم يعد لي سواها الآن .
كان الشباب ينظرون إليها بقلوب وجله .. فجرت نحو رأفت واختبأت بحضنه وهي تجهش بالبكاء .. قائلة بصوت مختلط بنشيجها :
- لا نستطيع مساعدتها .. إن إصاباتها كثيرة وبالغه وأتلفت أعضائها الداخلية .. ويبدو أن جسدها الصغير لن يستطع التحمل .
تعالى صراخ براءة من الحجرة .. فدخل والدها .. واقترب منها وهو يشعر بالحريق يشتعل جسده :
- كفى يا حبيبتي .. سوف تصبحين بخير .
لم يستطع يوسف رؤية ملاكه الصغير يصارع الموت .. وكان يحس بدموعها وصراخها وكأنها سوط يجلد قلبه .. خرج من المستشفى .. وتبعه أدهم .. وقف يوسف أمام باب المستشفى الكبير ورفع يديه إلى السماء صارخا بأعلى صوته :
- يا رب .. يا رب .
تقدم أدهم منه والألم يمزقه .. فخر يوسف على ركبتيه وغطى وجهه .. وكان جسده كله ينتفض من شدة بكاءه .. جلس أدهم بجانبه وربت على كتفه مواسيا :
- تجلد يا يوسف .. فهي تحتاجك الآن .. ويجب أن تعود إليها .
رفع يوسف رأسه والبكاء يخنق كلامه :
- كيف سأعود إليها يا أدهم ؟.. كيف سأقوى على رؤيتها تتعذب ؟.
أوقفه أدهم بإصرار وهو يعاني الوجع معه :
- حاول يا يوسف .. من اجل براءة .
نهض يوسف باستسلام .. وتوقف لبرهة محاولا استعادت قوته .. ومسح دموعه .. ثم دخل إلى المستشفى .. ليجد براءة لا تزال تبكي :
- أين ماما ؟.. أنا أريد ماما ؟.
لم يستطع والدها الإجابة .. فحدثتها آية وهي تحتضن يدها الصغيرة :
- سوف تأتي يا حبيبتي بعد قليل .
عادت براءة تبكي :
- أين ذهب يوسف .. هل تركني ورحل ؟.
تقدم يوسف منها .. وهو يحاول إسكات ذلك الأنين بداخله .. فتشبثت براءة به وكأنها وجدت منقذها :
- لا تتركني وحدي يا يوسف .. فانا أحس بالخوف .
احتضن يوسف يدها .. وربت على رأسها هامسا بحنان :
- لا تخافي يا حبيبتي .. فأنا سأظل بجانبك .
كان الجميع يرقب تلك الملاك الصغيرة وهي تتعذب .. وتصارع الموت بطئ .. والنار تغلي في صدورهم ..عادت براءة تقول بصوتها الطفولي الباكي :
- جسمي يؤلمني كثيرا .. يا يوسف .
أشاح يوسف بوجهه حتى لا ترى براءة دموعه .. فحاول الخال نضال تهدئتها وهو يرمقها بحسرة :
- سوف يزول يا حبيبتي .. ولكن كفي أنت عن البكاء حتى لا تتعبي نفسك .
ظلت براءة تعاني الآم الحروق مدة ساعتين .. إلى أن هدأ صراخها وهدأت معه أنفاسها .. فحل صمت مخيف على كل من حولها .. ثم قطع الصمت نشيج الأب وهو يعتصر جسدها الصغير بين ذراعيه :
- لا يا براءة .. اصرخي يا حبيبتي .. ولكن لا تتركيني أنت أيضا .
عادت آية تبكي بحضن رأفت .. ووقف يوسف كالمذهول ينظر إلى براءة الغارقة بدمائها .. ودموعه قد تحجرت في مقلتيه ..
تقدم منه أدهم وربت على خديه بحنان :
- ما بك يا يوسف ؟.
أجابه يوسف وهو يهز رأسه باستسلام .. كأن مشاعره قد وئدت بداخله مثلما وئد ملاكه البريء :
- لا شيء .
بعد دقائق كان الشباب يجتمعون لتشيع جثث أخرى من بينها جثه براءة وأمها .. وعلى قبر براءة .. وقف يوسف ينظر إلى قبرها بذهول .. فتقدم منه الخال نضال :
- هيا يا يوسف يجب أن نذهب .
نظر يوسف .. إلى الخال نضال .. ودموعه مازالت متحجرة في مقلتيه وتساءل راجيا :
- هل يمكنني أن اختلي بها قليلا ؟.
هز الخال نضال رأسه بالموافقة وربت على كتفي يوسف ثم ذهب .. ظل رأفت وأدهم يرقبانه من بعيد وهو يقف أمام قبر براءة .. ثم راح يحدثها :
- هل حقا تركتني يا ملاكي الصغير ؟.. وهل سأقوى على تحمل ألم فراقك ؟.
بدأت دموع يوسف تتساقط بهدوء لتبلل قبر براءة :
- ألن أراك بعد اليوم ؟.. ألن اسمع صوتك ؟.. كيف سأعيش بدونك يا حبيبتي ؟.. كيف سأتحمل البيت وأنت لست فيه ؟.. كيف استوعب حقيقة موتك ؟.
لم يقوى يوسف على الوقوف فجلس بجانب القبر على ركبتيه واضعا كفيه فوق فخديه .. وأجهش بالبكاء .. حاول رأفت الذهاب إليه ولكن أدهم أمسك به :
- دعه يا رأفت .. فدموعه هذه ستريحه قليلا .
عاد يوسف يحدث طفلته البريئة في قبرها بصوت مهزوز من اثر الدموع :
- كيف استطعت رؤيتك تتعذبين أمامي ؟..
بدأ يوسف يضرب فخديه بقبضتا يديه :
- كم كنت ضعيفا ؟. كيف هانت علي دموعك ؟.. كيف هان علي ألمك ؟.
عاد جسده يئن من شدة البكاء .. ثم مسح دموعه بكلتا يديه وأخذ حفنه من تراب قبرها والتحدي يصرخ في عينيه :
- اقسم بقدسية هذه الأرض .. وبراءة من ترقد تحت هذا التراب .. اقسم بحبي لك يا ملاكي .. بأنني لن اضعف بعد الآن .. ولن ابكي أبدا .. وسأحيى بعدك .. سأحيى فقط لأدمر كل صهيوني قاتل .. سأحيى حتى استعيد كل قطرة نزفها جسدك الطاهر .. وكل دمعه بكتها عينيك البريئتين .
وقف يوسف .. وحاول الذهاب ولكنه لم يستطع .. فتقدما منه رأفت وأدهم .. واحتضنه أخاه بإحدى ذراعيه :
- دعنا نذهب يا يوسف .
أجابه يوسف وهو ينظر إلى أخاه والوجع يغشى ملامحه .. وقد عاد الدمع يتجمع في
عينيه :
- أنا لا استطيع تصديق أنها ترقد تحت هذا التراب يا رأفت .
ربت أدهم على رأسه :
- كفى يا يوسف .. إن بكائك عليها مؤكد سيؤلمها .
مسح يوسف دموعه قبل أن تتساقط ورد بإصرار :
- نعم .. إن دموعي هذه لن تفيدها ..
ثم نظر إلى رأفت والتحدي يصرخ في عينيه :
- هيا بنا يا رأفت لا بد أنهم ينتظروننا في مقر المقاومة .
وصل الشباب إلى مقر المقاومة فوجدوا القائد قد قسم المهام الجديدة على الشباب .. وبعد وصولهم بلحظات عاد القائد ليخبرهم :
- أريد ثلاثة شبان في عملية خطيرة جدا .. فمن يجد في نفسه الجرأة للمشاركة فيها فليخبرني الآن .
وقف يوسف بثقة :
- أنا سأشترك في هذه العملية .
رد عليه القائد بتردد :
- ولكنك صغير جدا يا يوسف وعمليتنا هذه تتطلب الكثير من الدقة وهي بمثابة عملية انتحارية .
أردف يوسف بإصرار أكبر :
- وأنا مستعد للقيام بأي شيء .. حتى الانتحار .
حاول رأفت ردع يوسف .. ولكن أدهم قاطعه موجها حديثه للقائد :
- وأنا معه أيضا .
استسلم رأفت لإصرار أخيه .. وصديقه :
- وأنا أيضا معهما .
نبههم القائد محذرا :
- إنها ليست بالعملية الهينة يا شباب ويجب أن تكونوا مخلصين في قراركم هذا .
رد عليه يوسف بحماسة :
- نحن مخلصون .. فلتقل لنا أنت تفاصيل هذه العملية .
أجابه القائد وهو يربت على كتف يوسف :
- ارتاحوا الآن .. وفي الصباح سوف أناقشكم بكل شيء .
خلد الشباب إلى النوم .. ولكن ظل يوسف يتقلب فوق الفراش دون جدوى .. من ثم تسلل إلى الخارج ليختلي بحزنه .. وبعد لحظات جاء أدهم وجلس بجانبه ليحدثه بحنان :
- هل استطيع الجلوس معك ؟
هز يوسف رأسه بالموافقة .. كان رأفت يرقبهما من مسافة .. راح أدهم يتحدث ليقطع ذلك الصمت البغيض :
- إننا نعيش على أرضنا الحبيبة .. ونحن ندرك أننا لا نملك أرواحنا .. ولا أرواح من نحبهم .. ولكننا أيضا نتألم على فراقهم .
شرد يوسف ببصره .. فأردف أدهم:
- إنه قدرنا يا يوسف .. أن نحيا لنفارق من نحب .. ثم نلحق بمن فارقناهم .. فنحن في هذه الدنيا عابري سبيل .
تساءل يوسف باستغراب :
- وهل هذا هو الحل ؟.. الاستسلام لواقعنا المؤلم .
أجابه أدهم موضحا :
- أنا لم اقل الاستسلام .. فنحن لم نخلق لذلك .. إن دافعنا الوحيد للبقاء يكمن في المقاومة .. ومن دونها لكنا قد انتهينا .
تساءل يوسف ويأسه يسيطر عليه :
- وهل المقاومة ستعيد من فقدناهم ؟.. هل ستعيد هيثم وآلاء .. أم ستعيد براءة وأمها .. وآلاف الأطفال والنساء الذين يستشهدوا منذ بدء الحصار .
أثار ذكر هيثم الدموع في أعين رأفت .. فرفع يده يتحسس خده الأيسر والمشوه بسبب الرصاصة الوحيدة من بين الرصاصات التي تلقاها هيثم بدلا عنه .. فابتعد عن الشابان مواريا دموعه .. حتى لا يزيد همهما ..
عاد أدهم يخبره وهو يمسح شعره بكفيه ويطلق تنهيدة حارة من صدره :
- إن ما قصدته هو أن الألم الذي تشعر به ونشعر به جميعا هو شيء طبيعي .. فالحزن .. هو الشيء الوحيد الذي يولد كبيرا ويصغر مع الأيام .. ولكن هذا لا يعني توقف الحياة .
أجابه يوسف وهو يعاود الشرود :
- يا ليتني كنت املك حق التوقف عن الحياة .. لكنت ارتحت بلحاقي بها ..
صمت أدهم .. فأردف يوسف بألم وهو يخفض رأسه :
- اخبرني يا أدهم .. كيف سأتحمل حياتي بعدها .. إنني اشعر وكأني أصبحت جسد بلا روح .
رد عليه أدهم بثقة :
- لا يمكن أن تعيش بلا روح .. وحبك لها يحيى بداخلك .
صمت يوسف وهو يفكر بكلام أدهم .. فأردف أدهم بصوته الدافئ :
- لا تقسو كثيرا على نفسك يا يوسف .. فبراءة لن تحب رؤيتك محطما هكذا .
هز يوسف رأسه وقد بدأ يقتنع بكلام أدهم :
- معك حق يا أدهم .. إن قلبي الذي وئد بداخلي .. سيبعث للحياة بفضل حبها .. ولكي أعاقب أولائك الجبناء الذين تسببوا في قتل براءة .. وغيرها من الأطفال الأبرياء .. واستنزفوا دماء ودموع ملائكتنا الصغار .
ربت أدهم على كتف يوسف مؤيدا على كلامه :
- هذا ما كنت أود سماعه منك .. وصدقني يا يوسف .. لن تهون علينا أبدا دموع الملائكة ...

-----------------------


(11)
وداعا .. حبيب الروح

في الصباح اختلى قائد حركة حماس بالشبان الثلاثة .. وشرح لهم العملية الجديدة التي يقدمون على تنفيذها .. وفي نهاية حديثه قال بجدية :
- إنها عملية خطيرة مثلما حدثتكم ويجب أن تنفذ بقدر كبير من السرية والدقة .
هز الشباب رؤوسهم بالموافقة .. فأردف القائد :
- ولكن يظل هنالك شيء ينقصكم .
قاطعه يوسف بحماسه المعهود :
- وما هو هذا الشيء ؟.
أجابه القائد :
- إن عملية كهذه تعد عملية انتحارية .. وأرواحكم ليست رخيصة بالنسبة لنا .. لذلك يفضل اصطحاب شخص ذو مهارة طبية .. لينتظركم على مقربة من موقع العملية للإسعاف .. في حال أصيب أحدكم .
بدأ الشباب يفكرون .. فقال يوسف فجأة :
- أنا اعرف من سيساعدنا بمثل هذه المهمة .
التفت القائد والشابان إليه راح هو يحدثهم وعيناه تلمع بفكرته :
- آية .
قاطعه رأفت معارضا :
- لا يا يوسف .. لا يجب أن نعرض آية لمثل هذا الخطر .
علت ملامح يوسف خيبه أمل .. وكان أدهم لا زال صامتا يفكر بكلام يوسف .. فتساءل رأفت:
- ما رأيك أنت يا أدهم ؟.
أجاب أدهم بهدوء :
- والله لا اعرف .. ولكن يبدو أنه لا يوجد لدينا خيار آخر .
راح يوسف يقنعه وقد عادت حماسته :
- أرجوك يا رأفت أن توافق .. فعملية كهذه إذا نجحنا في تنفيذها سوف نزلزل العدو .. ونشيع في نفوسهم الجبانة مزيدا من الرعب .
أردف أدهم بفكر شارد يحلق حول حبيبته الرقيقة :
- إن آية وبالرغم من رقتها إلا أنها إنسانه قوية ويعتمد عليها .
أجابه رأفت وقد بدأ يقتنع بكلامهما :
- لقد أصبحت غزة كلها تحترق بنيران العدو .. ولم نعد نعرف أين يكمن الخطر ..
فحتى المستشفيات لقيت نصيبها من قذائفهم الهوجاء .
كان القائد يستمع إلى نقاشهم بصمت إلى أن وصلوا إلى هذا الاتفاق .. وقف قائلا :
- إذا على بركه الله .
حدثهما رأفت بحيرة :
- سوف اذهب اليوم لأخبرها بهذه العملية .. وفي المساء سنكون مستعدون لتنفيذها بإذن الله .
خرج القائد .. ليترك الشبان الثلاثة مع حيرتهم وقلقهم على آية .. فحاول أدهم بعث الطمأنينة في نفسه قبل صديقيه :
- سوف نتركها في كهف بعيدا عن موقع العملية .. حتى نضمن سلامتها .
هز رأفت رأسه باستسلام :
- سأذهب الآن لأخبرها .. فربما لا تجد في نفسها الجرأة لمثل هذه المخاطرة .
ابتسم له أدهم :
- إن ما يزيد قلقي عليها .. أنني متأكد أنها ستوافق ولن تتردد للحظة .
رد رأفت على ابتسامه صديقه القلقة بابتسامه مشابهه .. وودعهما ليشق طريقه نحو المستشفى التي تعمل بها آية .. ومشاعر متضاربة تعصف بداخله ..
كيف سيستطيع تعريض آية لمثل هذا الخطر ..
هل ستهون عليه أن تعرضت للأذى ..
ضغط رأفت على أسنانه .. محاولا إسكات ذلك الغضب الذي يصرخ بداخله ..
إن هول الأحداث التي يعيشونها تحت نيران الحصار .. تجعل اشتراك آية بعمليتهم شيء هين ..
ولكن حبه لها .. وحرصه الدائم عليها .. لا يسمح له برؤية ذلك ..
وصل رأفت إلى المستشفى .. وبحث عن آية فوجدها تحمل أدوات طبية .. وثيابها ملطخه بالدماء .. وتعلو ملامحها علامات الإرهاق والأرق .. فابتسم لها بحنان .. تقدمت منه آية متسائلة بخوف :
- ما بك يا رأفت ؟.. هل أصيب أحدكم ؟.
ربت رأفت على ذراعها:
- لا تقلقي يا آية فأنا جئت لأطمئن عليك .
تنفست آية الصعداء .. وحدثته وهي تبتعد عنه :
- انتظرني قليلا .. سأذهب لإعطاء الطبيب هذه الأدوات وأعود إليك .
هز رأفت رأسه .. ولم تطل غيبة آية .. فعادت وأجلسته في حجرة الممرضات وهي تتحسس خده المصاب :
- كيف حال إصابتك ؟.. هل تؤلمك ؟.
أجابها رأفت بحزن :
- نعم تؤلمني .
ثم رفع عينيه إليها وهو يشير بيده إلى قلبه :
- ولكنها تؤلمني هنا .
صمتت آية .. فهي تدرك شدة حساسية رأفت .. وتعلم أنه سيعيش العمر كله يبكي صديقه الشهيد ..
عاد رأفت يحدثها وهو يتحسس خده المصاب :
- لقد أصبحت أتجنب النظر إلى نفسي في المرآة .
قاطعته آية موبخة :
- لماذا يا رأفت ؟.
أجابها والألم يعتصره :
- لأنني أرى قاتل هيثم يا آية .
نظرت إلية آية بحنان محاوله مواساته :
- لا يا رأفت .. لا يجب أن تعاقب نفسك على استشهاد هيثم .. فلو كنت مكانه لفديته بروحك مثلما فعل معك .
خفض رأفت رأسه .. فأردفت آية بصوتها الناعم :
- هذا قدره يا رأفت وقدر كل الشهداء الذين استشهدوا معه .
تنهد رأفت متسائلا بضيق :
- إلى متى سيستمر هذا الحصار ؟.. إن أرقام الشهداء والمصابين تدعوا إلى الجنون .. والعالم يشاهدنا .. ولا يحس بأن هذه الأرقام هي أرواح كانت تعيش معنا .. وكنا نحبها .. ونتألم عليها ..
أجابته آية والأسى يسيطر على ملامحها المجهدة :
- في الحقيقة .. لقد تفاعل معنا العالم العربي والأجنبي أيضا .. وخرج الملايين في كثير من المظاهرات من اجلنا .. وحتى أن بعض الحكام الأجانب مثل الرئيس التركي والإيراني .. يرفضون وبشدة ما تقوم به إسرائيل .. ويعتبرون أن حربها علينا ليست بالحرب النزيهة ولكنها حرب إبادة .
أضاف رأفت بسخرية :
- الأجانب يرثون حالنا .. وحكامنا لا زالوا يتصارعون على مجرد انعقاد قمة عربية .. حتى اليهود يا آية .. منهم من أحرق جوازه اليهودي .. ليثبت للعالم براءته من جرائم الإسرائيليين البشعة .
ردت آية وهي تحاول أن تغالب دموعها .. وتشير إلى تلك الدماء التي لطخت معطفها الأبيض :
- انظر يا رأفت .. لقد أصبحت أعيش بداخل المستشفى .. ولا نتوقف دقيقة في تشيع مزيد من الشهداء .. ولقد اكتشفنا أيضا أن هنالك حالات تأتينا مثل حالات براءة .. تغطيهم الحروق وأعضائهم الداخلية تالفة .. بفعل تلك القنابل الفسفورية والتي تعد من الأسلحة المحرمة دوليا .. فنقف مكتوفي الأيدي لا نقوى على إنقاذهم .
أيد رأفت كلامها :
- إن إسرائيل ضربت بكل القوانين والقيم عرض الحائط .. وأثبتت أنها لا تعمل حساب لأحد .. لقد مر أكثر من أسبوع وهي تزداد في انتهاكها لكل الأعراف .. حتى أنها قصفت مبنى التلفزيون والذي يضم الكثير من الصحفيين والمراسلين العرب والأجانب ..
أردفت آية قائلة :
- ليس هذا فقط حتى أنها دمرت مبنى الأنروا .. والذي يعد إحدى وكالات إغاثة اللاجئين والتابعة للأمم المتحدة ..
قست ملامحه وهو يحدثها :
- إنها تحاول أن تجتاح غزة بكل وسائلها الحربية .. والغير شرعية .. ولكنها فوجئت بهذا الصمود الذي واجهناها به ..
صمت رأفت قليلا .. وشعرت آية بذلك التردد البادي في ملامحه .. فتساءلت برفق :
- ما بك يا رأفت ؟.. يبدوا أنك تود قول شيء .
أجابها رأفت :
- في الحقيقة يا آية .. لقد جئت اليوم لأخبرك أن هنالك عملية سنقوم بها في المساء ونحن بحاجة مساعدتك لنا .
ردت آية بثقة :
- وأنا مستعدة لتقديم أي مساعدة .
شرد رأفت ببصره .. فربتت آية على يديه بحنان :
- لا تقلق عليّ يا رأفت .. فقدري سألقاه في أي مكان .
نظر إليها رأفت بحيرة :
- أنا لم أسامح نفسي بعد على ما فعلته بصديق عمري .. فكيف سأغفر لنفسي إن أصابك أي مكروه .
وقفت آية لتودعه وهي تخبره مطمئنة :
- لن يصيبني شيء .. فلتطمئن .. واذهب لتخبرهم بموافقتي .
أجابها رأفت وهو يهم بالذهاب .. وفكره لا يزال مشغولا عليها :
- سأمر لاصطحابك من البيت في المساء .
قاطعته آية بخوف :
- لا .. يستحسن أن تأتي لأخذي من هنا .. فليس هنالك داعي لأن نشغل بال جدتي والخالة منى .. يكفي ما يعانيانه من قلق عليكما .
قبلها رأفت على رأسها .. واتجه نحو الباب فاستوقفته آية مداعبه :
- ألن تسلم على شذى يا رأفت ؟.
تسارع النبض في صدر رأفت وهو يسمع اسم شذى .. تلك الحبيبة التي حكم على نفسه بالحرمان منها .. فأردفت آية محاولة استمالته :
- إنها بالمستشفى .. وهي تساعدنا أيضا في التمريض .
رد عليها رأفت ببساطه مصطنعه .. وهو يتحاشى النظر إلى ابنه عمته التي تفهمه دون حاجتها للنظر إلى عينيه :
- يكفي أن تبلغيها سلامي .
خرج رأفت من الحجرة وكأنه يهرب .. وقبل أن يبتعد رأته شذى فنادته :
- رأفت .
توقف رأفت لبرهة دون أن يلتفت إليها .. من ثم أسرع خطاه نحو باب المستشفى متجاهلا ندائها له .. ظلت شذى تناديه بإصرار :
- رأفت .. رأفت .
ولكن دون جدوى .. فلقد كان يمعن في ابتعاده عنها .. فخرجت آية من الحجرة على صوت صديقتها .. وربتت على كتفيها مواسية :
- يبدو أنه لم يسمعك فلقد كان على عجلة من أمره .
نظرت شذى إلى آية والدموع تمتلئ في عينيها :
- لقد أوحشني كثيرا يا آية .. وكنت أود أن أتحدث معه .
سارت آية بها داخل المستشفى :
- غدا سيرفع عنا الله هذا الحصار .. وستحدثينه كيفما شئت .
أجابتها شذى وهي تحاول كبت دموعها :
- إنني لم أراه منذ أن توفي هيثم .. وأخاف أن يتركني هو الآخر .
ابتسمت آية لصديقتها بحنان :
- صدقيني سيعود .. ولن يتركك أبدا يا حبيبتي .
خرج رأفت من المستشفى وهو يحس بيد قاسية تعتصر قلبه ..
فبالرغم من حبه لشذى .. إلا أنه لا يجرؤ على النظر في عينيها ..
لقد أصبح يشتاق إليها .. ويخشى رؤيتها في نفس الوقت ..
فهي تذكره بأنه حرمها من أخاها الوحيد ..
لذلك لن يقوى أبدا على رؤية ذلك الحزن في عيني حبيبته ..
وسيظل يقتل حبه لها .. ويحرم نفسه منها ..
حتى يتجنب نظرة لوم يتوهم رؤيتها في عيون شذى ..
في المساء .. عاد رأفت لاصطحاب آية من المستشفى مثلما اتفقا .. وبعد أن قطعا مسافة التقيا بأدهم ويوسف .. أشاع ظهور آية الفرحة في قلب أدهم .. فظل يرمقها بنظراته الحنونة إلى أن اقتربت منهما .. فكان يوسف أول من سلم عليها .. إذ احتضنها بشوق وشبح ابتسامه يطوف على شفتيه .. فحدثها أدهم وهو يصافحها بحب :
- وأخيرا غزت الابتسامة شفتي يوسف بفضلك يا آية .
ابتسمت آية .. لملاكها الحارس ثم سحبت أناملها برفق من قبضه يده بعد أن كانت لمسته سببا في تسارع نبضاتها .. والتفتت إلى يوسف :
- ليتني استطيع استعادت روحه المرحة .. وشقاوته .
احتضنها يوسف بذراعه .. وسار بها وعيناه تلمعان بالتحدي :
- ستعود بأذن الله بعد هذه العملية .
حولت آية نظرها إلى رأفت :
- صحيح .. أنا لا اعرف ما هي هذه العملية التي سنقوم بها .
أجابها رأفت محاولا تبسيط المهمة لآية :
- سوف نتسلل إلى أحد المعسكرات الإسرائيلية .. وسنختبئ فيه إلى وقت متأخر من الليل .. وبعد ذلك سيقوم يوسف بالخروج من مخبأه وسيلقي عليهم بالقنابل اليدوية .
قاطعته آية وهي تنظر إلى يوسف بخوف :
- ولكن هذا يعد خطرا على حياته .. فمن الممكن إصابته بسهوله .
أجابها أدهم مطمئنا :
- هنا تظهر مهمتي أنا ورأفت .. وهي بأن نحميه بسلاحنا من أي رصاصه تحاول استهدافه .
صمتت آية لبرهة ثم عادت تنظر إلى أدهم :
- إنها عملية خطيرة حتى بالنسبة لك أنت ورأفت .
أجابها أدهم وهو يغمرها بنظرات حب وحرصه عليها يفضحه :
- لا تحملي همنا .. فبالرغم من خطورة العملية إلا أننا نمتلك عنصر المفاجئة .. وهو ما سيربك عدونا الجبان .. ولكن يبقى خوفنا عليك .
تساءلت آية بفضول :
- وما هو دوري في هذه العملية ؟.
أجابها رأفت :
- سوف تنتظريننا في أحد الكهوف التي بجانب المعسكر بأدواتك الطبية .. في حال إصابة أحدنا .
هزت آية رأسها موافقة .. ثم أردفت والخوف يتملكها على الشباب الثلاثة :
- بإذن الله لن تصابوا .. فمؤكد أن الله سيحميكم .
تحدث يوسف وعيناه تنطلق منهما نظرات تحديه المجنون :
- المهم هو أن تنجح العملية .
بعد بضع ساعات كان الشباب يتسللون إلى المعسكر الإسرائيلي.. وكانت آية في الكهف القريب من المعسكر وكأنها تجلس فوق جمر داعية الله ليحفظ أخويها وملاكها الحارس .. وبعد ساعات من الانتظار المخيف .. بدأت آية تسمع صوت القنابل ينبعث من داخل المعسكر .. فتسارع نبضها .. وأحست بأن قلبها يوشك أن يشق صدرها من عنف الضربات ..
في تلك الأثناء وبداخل المعسكر .. كان يوسف يركض بخفه وهو يرمي بالقنابل اليدوية التي زود بها في كل اتجاه .. مما أشاع الذعر في صفوف الصهاينة الأذلاء .. وكان أدهم ورأفت كل واحد يحميه من جهة .. وما هي إلا لحظات حتى صار المعسكر يضج بالموتى .. لقد كانت العملية تعتمد مثلما قال أدهم على عنصر المفاجئة .. فهي التي ساعدت على تشتيت قوى العدو وسمحت للشباب بإسقاط كل هؤلاء القتلى بسهوله .. وقبل أن ينسحبوا .. كان هنالك أحد الجنود الإسرائيليين يلفظ أنفاسه الأخيرة فلم ينتبهوا إليه .. إلا بعد أن رفع بندقيته وصوبها نحوهم .. وأطلق سيل من الرصاص .. لتستقر في جسد يوسف .. التفت رأفت وأدهم ليجدا الإسرائيلي قد فارق الحياة .. مخلفا تلك الإصابات التي هزت جسد يوسف فأسقطته أرضا وجعلته يتقوس من الألم .. ذهل الشابان .. وأسرعا في حمل يوسف ..
دخل رأفت وأدهم إلى الكهف وهما يحيطان يوسف الذي كانت دمائه تنزف من كل أنحاء جسده .. فوضعاه برفق أمام آية التي بدأت تشق قميصه بحركة هستيريه وتحاول أن توقف النزيف بكل ما تملك من وسائل .. وهي أكثرهما إدراكا بأن يوسف يحتضر ..
انطلقت صرخة ألم من شفتي يوسف .. ثم ضغط على أسنانه ليكتم غيرها من الصرخات .. كان رأفت ينظر إلى أخاه الملقى أمامه وكأنه يعيش في كابوس .. وآية لا تزال تحاول جاهدة السيطرة على ذلك النزيف ..
أمسك يوسف بيد آية وابتسم لها :
- كفى يا آية .. لا فائدة مما تقومين به .
انفجرت آية بالبكاء .. وصمت يوسف لبرهة ليكبت ذلك الألم الذي يمزقه .. ومحاولا استجماع قوته ..
ثم حول نظره إلى أدهم الذي كان يقف على مقربه منه وقد غلبته الدموع .. فابتسم له قائلا بصوت خافت :
- لقد سعدت كثيرا بالتعرف إليك يا أدهم .. فأنت شاب شجاع .. ورجل بمعنى الكلمة .. كما أنك تحمل قلبا حنونا بداخلك .
لم يستطع أدهم الرد على يوسف .. فلقد خنقته عبراته الساخنة .. تقدم رأفت من أخاه وجلس بجانبه وهو يسكته بإصرار :
- كفى يا يوسف .. لا تتعب نفسك .. فيجب أن نأخذك الآن إلى اقرب مستشفى .
أخبره يوسف بصوته المنهك .. والذي يغالب به تأوهاته :
- لا يا رأفت .. فأنا الآن أحس بتلك الراحة التي شعر بها هيثم عند وفاته .
أجهش رأفت بالبكاء بعد أن أدرك أنه سيفارق أخاه مثلما فارق صديق عمره .. فعاد يوسف يحدثه بإلحاح :
- اسمعني يا رأفت .
هز رأفت رأسه يمينا وشمالا وكأنه يحاول الاستيقاظ من هذا الكابوس الذي يعيشه .. فانطلقت صرخة أخرى من صدر يوسف لتبدد سكون ذلك الكهف الموحش .. ثم هدأ بعدها وعاد يحدث أخاه :
- اسمعني يا رأفت .
نظر رأفت إليه وعيناه تغرقهما الدموع .. فأردف يوسف محذرا :
- إياك يا رأفت .. إياك أن تلوم نفسك على استشهادي .. واعلم أنني لم أحس أبدا بمثل هذه السعادة التي تتملكني الآن .
ظل رأفت يبكي بحرقة .. فحول يوسف نظره بينه وبين آية وهو يكابد الآم الإصابات :
- اخبرا أبي بأن لا يحزن من اجلي .. فلقد كنت أتمنى دوما أن أصير رجلا يشرفه ويرفع رأسه عاليا .. وارجوا أن أكون قد صرت ذلك الرجل .
لم يستطع يوسف كتمان مزيد من الصرخات .. فأسرعت آية تربت على يديه بحنان ودموعها تترقرق بضعف :
- كفى يا يوسف .. أرجوك لا تزيد ألآمك بالحديث .
أردف يوسف لاهثا ومتجاهلا كلامها :
- عندما تنقلا لامي وجدتي خبر وفاتي .. كونا رفيقين بهما .. فأنا يصعب علي أن أكون سبب وجيعتهما .
كانت دموع آية تنهمر فوق صدر يوسف فأخذ يدها ووضعها برفق على شفتيه .. وقبل أناملها بحنان .. فشعرت آية بلهيب أنفاسه .. وأخبرها بصوته الهامس وهو يربت على أناملها التي مازالت فوق شفتيه :
- لا تبكي يا آية .. فدموعك هذه تحرقني .. ألم تتمني دائما عودة روحي المرحة ؟.. ها هي تعود ولكن إلى مكانها الطبيعي .
وقبل أن تجيبه آية .. كان يوسف يتلو الشهادتين .. وغشت ملامحه السكينة .. فتوقفت آية عن البكاء مع توقف أنفاس يوسف التي كانت تلفح أناملها .. وقف رأفت مبتعدا عن جثه أخاه وهو يهز رأسه غير مصدقا .. وراح يصرخ:
- يا رب .. ساعدني يا ألله .. فأنا لم اعد استطيع التحمل .
احتضنه أدهم مهدئا .. ونشيجه يمنعه من الحديث .
وطوقت آية جسد يوسف متوسلة من خلال أنينها الموجع :
- استيقظ يا يوسف .. فأنت روحي الحلوة .
ظلت تبكي وهي تتشبث به.. وكانت تحس وكأن خنجرا يغرس بداخل قلبها ليعود ويغرس من جديد :
- لا تتركني يا حبيبي .. لا تتركني يا حبيب الروح .

--------------------


(12)
وأنا أيضا .. أحبك

كانت كلمات آية تشق سكون ذلك الليل الذي بدا حزينا على رحيل حبيب روحها .. وبعد لحظات تقدم منها رأفت وهو يحاول تمالك نفسه .. وأوقفها محدثا أدهم بهدوء :
- هيا يا أدهم .. يجب عليكما الذهاب .
تساءل أدهم باستغراب وهو يمسح دموعه :
- وأنت يا رأفت ؟.
أجابه رأفت وهو يجلس بجانب أخاه ويتحسس رأسه بحنان بالغ :
- أنا سأحمل يوسف .. وسأسلك طريقا آخر حتى نصل إلى المستشفى .
قاطعه أدهم بحزم :
- هل جننت يا رأفت ؟.
حول رأفت نظره إلى أدهم وهو يقول بنفس ذلك الهدوء :
- اذهب يا أدهم .. فيجب أن تعود آية سالمة .. وأنا لا أود أن اعرض حياتها للخطر بصحبتي لها .
اعترض أدهم بعصبية :
- وتعرض حياتك أنت للخطر ؟!.
أجابه رأفت بإصرار :
- غير مهم .. فما يهمني الآن هو سلامة آية .. وأن لا اترك جثه أخي للأوغاد .
حاول أدهم الحديث ولكن رأفت قاطعه ملحا :
- ليس لدينا المزيد من الوقت لنضيعه يا أدهم .. فيجب علينا أن نتحرك قبل طلوع الفجر .
كانت آية تنظر إليهما كطفل لا يملك أمر نفسه .. فأخذ أدهم نفسا عميقا .. ومرر أنامل يديه بين خصلات شعره محاولا التماسك .. ثم تقدم من آية التي مازالت تبكي وهي تنظر إلى ولدي خالها .. وربت عليها قائلا بحنان :
- كفى يا آية .. إن بانتظارنا مشوار صعب ويجب أن تكفي عن هذا البكاء .
نظرت إليه آية وكأنها تود أن تقول شيئا ولكنها سرعان ما خفضت رأسها بحزن .. ثم عادت تنظر إلى يوسف وكأنها تودعه ..
حدثه رأفت وهو يبتسم لآية بحب من خلال دموعه المتحجرة :
- حافظ عليها يا أدهم .. فهي في أمانتك الآن .
خرجت آية وهي تنظر ورائها .. لتسترق أخر النظرات إلى ولد خالها الراحل .. ثم سارت بجانب أدهم باستسلام حزين ..
قام رأفت بحمل جثه أخاه على ظهره .. وبدأ يشق طريقه .. متسللا بين الجبال .. ومستترا بعتمة الليل .. وريح باردة تخترق عظامه .. والتعب يستبد به .. ومشاعر مختلفة تتصارع بداخله ..
حزن وألم على الشهيد الراحل ..
وخوف من عدم مقدرته على إيصال جثه أخيه سالمة ..
شعور بالضعف ..
وضمير معذب ..
وإحساسه بالضياع ..
وقلب يتقد فيه لهيب الحقد على من سلبه صديقه وأخاه ..
وفكر مشغول على آية وأدهم ..
وكلما قربت المسافة .. كلما ازداد تعبه الجسماني ..
فيعود ويتذكر أخاه الحبيب الذي يحمله فوق ظهره ..
فتتبدد تلك المتاعب مع تساقط قطرات الدموع من عينيه ..
وتنشط حواسه من جديد .. حتى يستطيع الوصول إلى المستشفى ..
وبعد بضع ساعات .. كان رأفت يدخل إلى المستشفى .. ولم يخطر بباله أنه سيلقى أباه فيها ..
فلقد كان الخال عز الدين يجلس برفقه شذى ووالدها .. وبفكر شارد تساءل والقلق يمزقه :
- ترى أين ذهبت يا شذى ؟.
صمتت شذى بحيرة ومخاوفها تزداد بداخلها .. فأردف الخال متسائلا :
- ألم تخبرك بشيء ؟.. فربما تكون قد تحدثت معك بموضوع ما ؟.
هزت شذى رأسها بالنفي وهي تجيبه بحيرة :
- لا يا خال .. فلقد كنا بالأمس برفقة بعضنا .. ولم تخبرني بأي شيء .. وعندما لم أجدها هذا الصباح في المستشفى .. اعتقدت أنها عادت إلى البيت .. فاتصلت بكم لأطمئن عليها .
وقف الخال عز الدين بعصبيه :
- يجب علي أن ابحث عنها .
أمسك به الطبيب كمال مهدئا :
- وأين ستبحث عنها يا عز الدين ؟.. انتظر فربما يصلنا خبر عنها ..
قاطعه الخال بإصرار وهو يتجه إلى خارج الحجرة :
- أتريد مني الانتظار حتى تأتي ابنتي إليّ وهي جثه هامدة .
تبعه الطبيب كمال قائلا وابنته تلحق بهما :
- على الأقل خذ شذى معك .. فربما تساعدك .
وقبل أن يجيب الخال .. صادف ابنه رأفت في ممر المستشفى .. حاملا لأخاه يوسف .. تصلب الجميع وكأنهم أصنام من الشمع .. وعندما رأى رأفت والده توقف ووضع يوسف على الأرض برفق وجلس بجانبه .. وأجهش بالبكاء .. شهقت شذى بعد أن فهمت بأن يوسف قد استشهد .. ثم اخفت دموعها في صدر والدها الذي أغمض عينيه وهو يحاول إبعاد صورة ولده الشهيد عن ذهنه ..
تقدم الوالد من يوسف وتحسس رأسه بذهول .. دون أن ينطق بكلمه .. فقال رأفت بصوت منكسر ومتحشرج :
- سامحني يا أبي .. فأنا لم استطع حمايته .
نظر الوالد إلى رأفت الذي كان يبكي بحرقة بجانبه .. فبدأت الدموع تترقرق من مقلتيه لتبلل ولده الحبيب وقد أدرك أنه سيودعه دون عوده .. ثم انحنى بهدوء ليقبل رأس يوسف بحنان .. وعاد ينظر إلى رأفت بضعف .. ثم ضمه بحب قائلا من خلال عبراته :
- الحمد لله .. الحمد لله .. الذي أخذ قطعه مني .. وأكرمني بأن ابقي لي الأخرى .
تقدم الطبيب كمال منهما وربت على الوالد :
- تجلد يا عز الدين .. فيجب علينا أن نخبر والدته وجدته .. ولا يصح أن ترياك بمثل هذه الحالة .
حاول الوالد التماسك .. ثم هم بالوقوف فواجه صعوبة في ذلك .. فتقدمت منه شذى لتسنده .. وتعاون رأفت والدكتور كمال بحمل يوسف.. ووضعاه على أحد أسرة المستشفى .. وجه الطبيب كمال حديثه لشذى :
- اذهبي يا شذى واخبري أمك حتى تحضر والده رأفت وجدته إلى هنا .
أجابت شذى وهي تمسح دموعها :
- سأوصيها بأن لا تخبرهما بشيء .. فربما لا يتحملان الصدمة وهما بعيدتين عنا .
هز والدها رأسه بالموافقة .. فخرجت شذى من الحجرة واتصلت بوالدتها وأخبرتها وهي تعاود البكاء :
- أمي ..
تساءلت الأم بلهفة :
- ما بك يا شذى ؟.. هل حل بوالدك أي مكروه ؟.
ردت شذى من خلال عبراتها :
- إنه يوسف يا أمي .
صدمت الخالة جهاد .. فعادت شذى تخبرها :
- يجب أن تحظري والدته وجدته إلى المستشفى يا أمي .. ولكن لا تخبريهما باستشهاده حتى تصلان إلى المستشفى .
ردت عليها والدتها باستسلام حزين ودموعها تبكي يوسف وولدها الراحل :
- حسنا يا حبيبتي .. وليهبنا الله الصبر وإياهم .
بعد دقائق دخلت الخالة منى إلى المستشفى وهي تتعثر بخطواتها .. فلقد كانت تحس بيد قاسية تحكم قبضتها على قلبها ..
خلفها كانت الخالة جهاد تسند الجدة التي كانت تسير داعية :
- استر يا رب .. استر يا رب ..
استقبلتهم شذى أمام الحجرة التي كانت تحوي جثه يوسف .. وعند رؤية الخالة منى لشذى .. تقدمت منها قائلة وهي ترمقها بنظرات مجنونة خوفا على آية التي اختفت منذ ليله أمس ولا يعرفون مكانها :
- ماذا حدث يا شذى ؟.. لماذا أحضرتمونا إلى هنا ؟.. وأين هي آية ؟.
صمتت شذى محاولة أن تغالب دموعها .. فاعتقدت الخالة منى أن مكروها أصاب آية .. وتركتها ودخلت إلى الغرفة بحرص وكأنها تسير على الشوك .. وحينما وقع نظرها على يوسف انطلقت من شفتيها صرخة دون إرادتها .. ثم ركضت نحوه تحتضنه وتقبله وهي تبكي بحرقة :
- أخذوك مني يا حبيبي .. أخذوك يا نور عيوني ..
دخلت الجدة والدموع تغرق وجهها .. بعد أن فهمت صرخة منى .. ثم تقدمت الجدة من الجسد الذي كانت منى تحتضنه بشدة وكأنها تود إدخاله في قلبها حتى لا يفارقها أبدا .. دققت الجدة في ملامح حفيدها لتكتشف بأنه يوسف .. فقالت بألم وهي تتحسس رأسه :
- يوسف .. حتى أنت يا حبيبي لم يطل صبرك .. فأسرعت إلى جنتك يا عريس .
تركت الأم جثه ابنها بعد أن تذكرت أن اليوم عرس شهادته .. فرفعت يدها ناحية فمها لتطلق زغرودة .. وخنقتها العبرات لبرهة ثم عادت تطلق زغرودة أخرى .. لم يحتمل الأب ذلك الموقف فأخفى وجهه بيديه وأجهش بالبكاء .. فوقف رأفت بجانبه وربت على ظهره بحزن :
- لقد قال لي يوسف قبل أن يستشهد .. بأنه مرتاح ولم يشعر قط بمثل تلك الراحة .
حل الصمت على كل من في الحجرة .. صمت يتخلله دموع حسرة وأسى على الشهيد الشاب .. فأتم رأفت حديثه من خلال دموعه :
- وقال أيضا .. بأنه كان يود أن يكون رجلا تفتخر به يا أبي .
هز الوالد رأسه بألم وهو ينظر إلى ابنه الشهيد .. فعاد رأفت ينظر إلى والدته وجدته :
- وأوصاني أنا وآية بأن نكون رفيقين بأمي وجدتي عندما ننقل لهما خبر استشهاده .. فهو لا يقوى على أن يكون سبب وجيعتهما .
انتبهت شذى عند سماعها لاسم صديقتها .. فتقدمت من رأفت وسألته بخوف :
- هل كانت آية برفقتكما ؟.
هز رأفت رأسه بالإيجاب وقد توجس خيفة من سؤال شذى :
- نعم .
عادت شذى تسأله بهلع :
- وأين هي الآن ؟.
تلفت رأفت حوله بعد أن أدرك أنه لم يرى آية منذ أن حضر إلى المستشفى .. فعادت شذى تسأله بأعصاب مشدودة :
- ما بك يا رأفت ؟.. لم لا تجيب ؟.
كان كل من في الحجرة ينتظر إجابته بقلوب وجله .. فتحدث بحيرة وهو يشرد ببصره :
- لقد كانت برفقتنا في تلك العملية .. وعندما استشهد يوسف .. فضلت أن تعود برفقة أدهم .. لأنني خفت أن اعرض حياتها للخطر إذا ما عادت معي .
صمت رأفت لبرهة ثم قال وهو يواجه شذى بعينيه لأول مرة بعد وفاة هيثم .. والجنون يوشك أن يسيطر عليه :
- كان يفترض وصولهما قبلي ..
جلس الخال عز الدين متهالكا على أقرب مقعد :
- ألطف بنا يا رحمن .
خرج رأفت من المستشفى مسرعا .. لا يعرف إلى أين سيذهب .. وكانت كل الهواجس السوداء تغزو تفكيره ..
يا ترى أين أنت يا آية ..
هل حدث لها أو لأدهم مكروه ..
كيف استطاع أن يتركها ..
كيف تجرأ على تخليه عنها ..

توقف رأفت وهو يضغط على رأسه بيديه باحثا بعينيه عنها .. فرأى الناس يركضون بجانبه كمن بهم مس .. ما بين أطفال جرحى .. وشهداء محمولون على الأكتاف .. وأمهات يشيعن أولادهم بالصراخ والزغاريد .. وكان هدير الطائرات وصوت القنابل يتوالى على مسامعه .. ليزيد من اضطراب نفسه .
وقبل أن تعاود رأفت أفكاره السوداء .. وقبل أن يشرع في إلقاء اللوم على نفسه .. استطاع رؤية أدهم يركض نحوه حاملا آية بين ذراعيه .. والدماء قد لطخت ملابسهما .. تقدم رأفت منه بلهفه :
- ماذا حدث معكما يا أدهم ؟..
قاطعه أدهم وهو لا يزال يركض نحو باب المستشفى :
- سوف أحكي لك لاحقا يا رأفت .. ولكن دعنا ننقذ آية أولا .
دخل الولدان المستشفى .. وأدهم يصرخ طلبا للمساعدة .. وما هي إلا لحظات حتى كانت آية ترقد في غرفة العمليات .. انشغل رأفت وأسرته بقلقهم على آية ..
وانسحب أدهم من بينهم وجلس على كرسي في أحد الأركان .. مسندا رأسه بكفيه .. ثم أغمض عينه .. لتتسابق أحداث الأمس إلى ذاكرته بغير إرادة منه .. لقد كانت أقسى ليلة في حياته .. في الأول استشهاد يوسف الذي رحل لينخر قلب أدهم ويحدث فراغا آخرا .. من ثم إصابة آية والتي يخشى أن تكون السبب في خسارته للحبيبة الرقيقة ..
لقد خرجا من الكهف وكانت آية تسير بجانبه والدموع تترقرق من مقلتيها في صمت مؤلم .. ولم يجد هو كلمات يواسيها بها فشاركها صمتها .. وما هي إلى دقائق حتى قطع صمتهما صوت يصرخ من خلفهما بحده :
- قفا .
توقف أدهم وآية .. ثم التفتا بهدوء ليجدا جنديين إسرائيليين يصوبان بندقيتهما نحوهما وعلامات الذعر بادية على ملامحهما .. ظل أدهم يرمقهما بحقد وهو يمسك ببندقيته .. فأمره أحد الجنديان بلهجته المذعورة :
- ارمي سلاحك على الأرض .
ضغط أدهم على أسنانه .. فهدده الجندي الآخر :
- ارمي سلاحك وإلا قمت بقتلكما .
رمى أدهم السلاح .. فالتقطه الجندي .. ثم قاما بالالتفاف حولهما وصوبا سلاحهما إلى ظهريهما .. ثم تحدث احدهما :
- تحركا .
سار أدهم ببطء وعقله يفكر بالطريقة التي يستطيع بها أن يحمي آية وينجوان من هذا الموقف .. تجمدت آية ولم تستطع السير .. فوكزها الجندي الآخر بفوهة بندقيته في كتفها وصرخ بها :
- فلسطينية قذرة .. هيا تحركي .
توقف أدهم ونظر إليه والنار تستعر بداخله :
- إياك أن تفكر في إيذائها .
أجابه الجندي باستخفاف وثقة بعد أن اطمئن بأن أدهم مجرد من السلاح :
- وإن أذيتها .. ماذا ستفعل بي ؟.. ستقتلني ؟.
ضحك الجندي الآخر .. فأردف أدهم بثقة وهو لا يزال يرمق الجندي بنظرات تحدي :
- بل سأدمرك ..
ارتبك الجندي قليلا فلقد هزته كلمات أدهم .. وأرعبته أكثر نظرة التحدي التي تنطلق من عينيه .. ولكن الجندي الآخر طاف حول أدهم وهو لا يزال يصوب بندقيته نحوه ليحدثه بسخرية :
- يبدو أن لدينا عاشقا هنا .
ثم فجأة وجه بندقيته نحو آية التي كان قلبها يدق بعنف خوفا على أدهم .. ثم راح يستفزه :
- هيا أيها العاشق أرنا ماذا ستفعل الآن ؟.
وما أن أنهى حديثه حتى أطلق رصاصه استقرت في صدر آية الأيسر .. فسقطت على إثر الإصابة .. لم يتوقع أدهم ما حدث .. ولكنه وبدون تفكير قام بلكم الجندي على وجهه فأسقطه أرضا .. وبلمح البصر اخذ بندقيته وقتل بها الجندي الآخر .. ثم عاد وقتل بها الجندي الذي كان يتألم من قوة اللكمة ..
رمى أدهم البندقية من يديه .. وأسرع نحو آية ليأخذها بين ذراعيه .. وراح يربت على خدها بكفه :
- آية .. آية .. أجيبيني يا آية .
لم ترد عليه .. وأيقن أدهم أنها فارقت الحياة .. فأجهش بالبكاء وهو يضمها إليه بقوه :
- لا تتركيني يا آية ..
عاد أدهم يبكي وهو لا يزال يحتضنها .. وأنينه يقطع كلماته :
- أفيقي يا حبيبتي .. أفيقي فأنا لم أخبرك بعد بحبي لك .
حبس أدهم صراخه لبرهة .. بعد أن شعر بأنفاسها تتراقص بضعف على خده .. فأبعدها عنه برفق وعاد يتحسس وجهها بلهفة :
- هل تسمعيني يا آية ؟.
أجابته آية هامسة بضعف :
- أدهم .
رد عليها أدهم ودموعه لا تزال تبلل وجهها :
- نعم يا آية .. هذا أنا أدهم .
رفعت آية يدها لتتحسس تلك الدموع التي تترقرق من عينيه .. ثم عادت تتساءل وهي تنظر إلية بحنان:
- لماذا تبكي يا أدهم ؟.
صمت أدهم وهو يحاول إسكات نشيجه .. فعادت آية تحدثه وهي تغمره بنظرات محبه :
- أتبكي من اجلي ؟.
أجابها أدهم قائلا وهو يتجاهل سؤالها :
- يجب أن أسرع وأخذك إلى المستشفى .
ابتسمت له آية وهي تضع يدها فوق موضع إصابتها وتحاول كتمان ألمها :
- لا يا أدهم .. ليس هنالك فائدة .. أذهب أنت وأنجو بنفسك .
عاد أدهم يبكي بحرقه :
- كيف أنجو إن تخليت عني يا آية ؟.. كيف سأتحمل فراقك ؟.
ثم أردف بصوت خافت تحبسه العبرات :
- كيف وأنا احبك ؟.
افتر ثغر آية عن ابتسامة وهنة .. ثم همست براحه .. قبل أن يغمى عليها :
- وأنا أيضا .. احبك .


(13)
لن أتركك

كانت ساعات الانتظار تمزق الأعصاب .. والقلوب تبتهل إلى الله بصدق حتى تنجح عملية آية .. دعت الجدة وهي ترفع يديها إلى السماء :
- اللهم سلم ابنتي .. ولا توجع قلوبنا عليها يا كريم .
كانت الخالة منى لازالت تبكي ابنها الشهيد .. والخوف يتملكها على الابنة الوحيدة .. فتقدم منها الخال عز الدين وجلس بجانبها وهو يضمها إليه بذراعه .. ثم حدثها وهو يشعر بنفس ما تعانيه :
- ادعي لها يا منى .. وادعي أيضا لولدنا بالرحمة .. و لنسأل الله أن يهبنا الصبر والرضا على ما قدر لنا .
أسندت الخالة منى رأسها على كتف زوجها والإرهاق بادي في ملامحها .. وحدثته وهي تلتمس الراحة بين ذراعيه :
- يا رب .. نحن لسنا حمل كل هذا العذاب .. فلا تحرمنا من ابنتنا يا رحيم .
كانت شذى تقف بجانب باب غرفة العمليات .. والقلق يستولي على كل مشاعرها .. وعيناها تتبعان رأفت بحنان والذي كان يحوم في الممر .. ويتحاشى النظر إليها ..
من ثم تقدم رأفت من أدهم لينتشله من ذلك الصمت المخيم عليه .. إذ كان يجلس بهدوء وهو شارد البصر .. والدموع يغرق عينيه .. راح يحدثه مواسيا :
- إن آية فتاة قوية .. فبالرغم من كل الأهوال التي مرت بها .. إلا أنها لا تضعف من إرادة البقاء بداخلها مطلقا .
ظل أدهم صامتا .. فعاد رأفت يقول بحزن وهو يختلس النظر إلى شذى :
- إن ما يؤلمني .. هو أنني ومع كل يوم أعيشه على أرضنا المسلوبة .. اكتشف مدى ضعفنا .. ليس فقط ضعفنا عن التصدي للجبروت الصهيوني .. وإنما أيضا عجزنا عن حماية من نحب .
أجابه أدهم بصوت خافت وهو يرد على تلك الأحاسيس التي تصطخب بداخله .. أكثر من رده على حديث رأفت :
- ليتني كنت مكانها الآن ..
صمت رأفت وهو يتحسس خده المصاب .. وقد تذكرا صديق العمر وأخاه الصغير .. فنظر إليه أدهم متسائلا والحيرة تكاد تقتله :
- هل ستضيع منا يا رأفت ؟.
قاطعه رأفت محاولا طرد مخاوفه :
- لا تقل هذا الكلام .. إنها بحاجة دعائنا لها الآن .
اسند أدهم رأسه إلى الجدار الذي خلفه داعيا بإخلاص :
- يا رب ..
ثم عاد يخفي وجهه بين كفيه .. حينما خرج الطبيب كمال من غرفة العمليات فالتفت عائلة آية حوله والهلع يعلو الوجوه .. ورفع أدهم رأسه .. والنبضات تتسارع في قلبه حتى خيل إليه أنها تكاد تسمع .. وعينيه تتطلعان برهبة إلى شفتي الخال كمال .. والذي بكلمه ينطق بها سيصدر الحكم على روح أدهم المعلقة ..
لم تطق شذى الانتظار فسألت والدها لتحثه على الكلام :
- هل آية بخير يا أبي ؟
ابتسم الطبيب كمال مطمئنا .. وربت على كتف ابنته :
- في الحقيقة .. إصابتها كانت خطيرة جدا .. فالرصاصة بجانب قلبها .
حبس الجميع أنفاسهم .. فأتم الطبيب كمال حديثه :
- ولكننا استطعنا إخراجها بفضل الله .. وسوف ننقل آية الآن إلى غرفة العناية المركزة .
شاعت الفرحة بين الوجوه .. وانطلقت كلمات الحمد من أفواه الحاضرين .. ثم تقدم رأفت من أدهم الذي بدأ صدره يعلو ويهبط وهو لا يستطيع السيطرة على دموعه .. فحدثه رأفت بحنان وهو يربت على رأسه :
- كفى يا أدهم .. ألم تسمع بنفسك حديث الخال كمال ؟.
مرر أدهم أنامل كفيه بين خصلات شعره محاولا تمالك نفسه .. ثم أطلق زفره حارة من صدره .. وهو يشعر بأن روحه قد ردت إليه .. وتمتم بصوت غير مسموع :
- الحمد لله الذي لم يحرمني منها .
ابتسم رأفت وقد شعر بما يختلج في صدر صديقه من مشاعر طيبة نحو آية .. ثم وقف أدهم بهدوء :
- يجب علي الذهاب يا رأفت .. فأنا لم اطمئن بعد أهلي عليّ .
رد عليه رأفت برفق :
- حسنا .. وحاول أن تحظى بقسط من الراحة .
أجاب أدهم بأسى وهو ينظر إلى عيني صديقه :
- يبدو أننا لن نعرف الراحة أبدا يا رأفت .
خفض رأفت رأسه وهو يتحسس خده المصاب .. وقد عاوده الشرود :
- أو ربما سنعرفها بالاستشهاد فقط .
خرج أدهم من المستشفى بعد أن أطمئن على آية .. واتجه نحو بيته وهو لا يزال يفكر بكلام رأفت ..
إن الاستشهاد أمر هين بالنسبة له ..
فمنذ أن التحق بالمقاومة ونفسه تهفو إليه ..
ولكن العسير هو أن يستشهد من حولك .. ليتركوك تعاني ألم البعد ..
كم هو صعب على الإنسان أن يفارق من يحبهم ..
والأصعب هو كيفيه استيعابه لحقيقة موتهم ..
تحمل حرمانه منهم ..
وممن كان وجودهم يشكل إحدى وجوه السعادة بالنسبة إليه ..
أغمض أدهم عينيه لبرهة محاولا أن يطرد ذلك الخاطر من فكره ..
الخاطر الذي يبث في نفسه مزيدا من الخوف على آية ..
أمن الممكن أن يخسرها ..
وهل يقوى على الاستمرار بعدها وهي التي تمتلك قلبه ..
أيقدر الإنسان على العيش دون قلب !..

وصل أدهم إلى حارته .. وتلفت حوله بعد أن وجد صعوبة في تمييز معالمها .. لقد أصبحت حارته الجميلة والتي صرف طفولته في أزقتها .. وقوي ساعده بين أحضانها .. رمادا يتطاير من حوله .. ليدخله في دوامة جديدة من الأحزان .. تشده بعنف إلى قاع اليأس ..
أسرع أدهم خطاه نحو ما كان يجب أن يكون بيته .. والذي أضحى الآن كومة من الحجارة والحديد .. وقف أدهم وهو يحملق بتك الكومة .. التي كانت تضم أسرته الصغيرة .. والتي يحوي كل ركن فيه على آلاف الذكريات .. ثم ضغط على رأسه بكفيه محاولا طرد فكرة وجود أمه وأخته تحت هذا الركام.
وبعد لحظات ارتفع صوت القنابل .. لتفيق الإحساس بداخل أدهم .. فخر على ركبتيه ليبلل بيته الحبيب بدموعه الساخنة ..
وقعت قذيفة في منطقة قريب جدا من بيت أدهم .. فبدأ الناس يهربون فزعين .. وظل أدهم جالسا باستسلام .. وهو يحول نظره إلى أنقاض المنزل .. ثم لمح شيء عزيز عليه كان محشورا بين الحجارة .. فوقف وتقدم منه .. وأخذه ليحتضنه برفق بين يديه .. إنه ذلك الدبدوب الأبيض الذي أعطاه لنسمة والذي كان يغرق بدماء والده ..
قلب أدهم الدبدوب بين يديه وكأنه يرى شيء غريب عنه .. فلقد فقد لونه الأبيض الطاهر ..
لأنه أصبح يحمل مزيدا من القطرات الحمراء ..
إنها قطرات أمه الحنونة .. وأخته المرحة ..
عادت الدموع تتساقط من أعين أدهم بضعف .. لتختلط بتلك القطرات الحمراء التي تغطي الدبدوب الصغير ..
ولم يشعر إلى بيد شاب من شباب حارته يجذبه بقوة من ذراعه .. ثم جرى به ناهرا :
- هل جننت يا أدهم حتى تقف وسط هذا القصف ؟.

هدأ القصف ليواصل إرهابه في مناطق أخرى .. من قطاع غزة .. ووجد أدهم قدماه تعيدانه إلى ركام منزله .. وقضى ليلته بجانبه يجلس على أحدى حجارته ويحتضن ذلك الدبدوب بيديه .. كان الألم يعتصر قلب أدهم وكأنه يد قاسية .. وسيل الدموع لا يتوقف من عينيه ..
تسلل الفجر بنسماته الباردة ليوقظ أدهم من شروده وليجفف تلك الدموع التي تجري من مقلتيه .. وبدأ شباب الحي بمساعدته في إخراج جثه أمه وأخته ..
كان أدهم يسير بين الناس وهم يشيعون جنازات أحبائهم كالمذهول .. وكأنه ينتظر أن يفيق من هذا الكابوس .. ولكنه كلما تحسس ذلك الدبدوب الصغير الأحمر اللون أدرك واقعه الأليم ..
وفي المساء وجد نفسه في المستشفى .. وكأنه يستنجد بمجرد وجوده بجانب الحبيبة الغائبة عن الوعي من ذلك الحزن الذي يكاد يقضي عليه ..
تقدم أدهم من ذلك الزجاج الذي يطل على غرفة العناية المركزة .. وهو لا يزال يحتضن ذلك الدبدوب بين أنامل يده برفق ..
ثم رفع يده الأخرى ليمس بها الزجاج .. وراح يحدث آية بصوت خافت وهو يرمقها بحزن :
- أرجوك يا آية .. أرجوك لا تتركيني .. فلم يعد لدي سواك الآن .
صمت أدهم مع تساقط الدمع من عينيه واسند جبينه إلى الزجاج .. وصادف مرور شذى من جانبه .. فأشفقت عليه .. واقتربت منه تواسيه بلطف :
- هون عليك يا أدهم .. فحالتها تدعو إلى الاطمئنان .
خفض أدهم رأسه وهو يسرع في مسح دموعه حتى لا تراها شذى .. فأردفت شذى وابتسامة جميلة على شفتيها :
- هل تود الدخول إليها ؟.
رفع أدهم رأسه .. وتساءل والفرحة ترتعش في عينيه المليئة بالدموع :
- وهل استطيع هذا ؟.
تلفتت شذى يمينا وشمالا ثم أجابته بصوت خافت :
- أنا اعتقد أنك لا تستطيع .. ولكني سأدخلك خلسة .. فحاول أن تكون هادئا .. اتفقنا .
هز أدهم رأسه بحماس واخبرها مؤكدا :
- اتفقنا .
دخل أدهم إلى الغرفة .. واقترب من آية ببطء .. ثم جلس على كرسي بجانبها .. وأخذ كفها الناعمة ليحتويها بيديه :
- أنا أعلم أنك تشعرين بي .. وتستطيعين سماعي .. لذلك لا تطيلي غيابك عني يا حبيبتي .. فأنا احتاج إليك كثيرا ..
انحنى أدهم ليقبل كفها .. وظل بجانبها طول الليل يقرا القرآن ويدعو الله أن يبقيها من اجله .. حتى غلبه النعاس فاسند رأسه على حافة السرير وغفا ..
في الصباح الباكر جاء رأفت للاطمئنان على آية .. وعندما رأى أدهم بجانبها .. لم يستطع منع تلك الابتسامة من التسلل إلى شفتيه .. ثم أحس بخطوات تقترب نحوه فإذا به الخال كمال .. وقف بجانبه ليشاركه النظر إلى أدهم وآية ..
تحدث الخال كمال مشفقا على حال أدهم :
- لقد مررت في المساء لأطمئن عليها .. فوجدته يقرأ القرآن بجانبها .. فتركتهما .. فيبدو أن وجوده معها سيساهم في شفائها .
ظل رأفت يتأمل تعابير الراحة والسكينة التي ترتسم على وجه صديقه وهو يمسك بكف آية وكأنه طفل بريء .. لقي الأمان في حضن أمه :
- لقد مررت على بيته لأطمئن عليه .. فوجدت البيت قد صار ترابا .. وقال لي الجيران .. أن والدته وشقيقته قد استشهدتا تحت البيت المنهار .
التفت الخال كمال إلى رأفت غير مصدقا .. ثم أطلق تنهيده ضيق من صدره :
- لا حولا ولا قوة إلى بالله .
أردف رأفت بحرقه :
- إن اليوم هو اليوم 23 من بدء الحصار .. وقد بلغ عدد الشهداء 1330 .. وعدد الجرحى 5650 .. وهنالك عائلات فقدت أكثر من شهيد .
ثم نظر إلى الخال كمال متسائلا وقد تعقد حاجباه :
- متى ستكتفي إسرائيل ؟ ..
أجابه الخال كمال بأسى :
- يبدو أنها لن تكتفي أبدا يا بني .. ولن تضيع أي فرصه تمكنها من القضاء علينا .. فهي تجد لذتها بهذا الموت الجماعي والذي يسعى لإبادتنا .
صمت رأفت .. فأردف الخال كمال :
- سوف أتركك الآن يا رأفت .. فلدي الكثير من الأعمال .
هز رأفت رأسه .. ثم تساءل بقلق واضح :
- أنا لم أسألك بعد عن حالة آية ؟.
أجابه الخال كمال وهو يبتسم لرأفت مطمئنا :
- إنها تتحسن .. وربما تستيقظ اليوم فنخرجها من العناية المركزة .
ذهب الخال كمال بعد أن قام رأفت بشكره .. وفي ذلك الوقت كان أدهم قد استيقظ من نومه ليرى رأفت ينظر إليه مبتسما من وراء الزجاج .. فرد له أدهم بابتسامة حزينة ثم خرج ليسلم عليه .. ضمه رأفت وشد عليه برفق :
- كيف أنت يا أدهم ؟.
حاول أدهم إخفاء معاناته :
- الحمد لله ..
سار الصديقان وجلسا على كراسي الانتظار التي في ممر المستشفى .. فحدثه رأفت برفق وهو يخشى أن يجرح مشاعر أدهم :
- لقد علمت هذا الصباح بما حل ببيتك .
هز أدهم رأسه بحسرة .. وهو لا يزال يقلب ذلك الدبدوب بين كفيه .. ثم نظر إلى رأفت والوجيعة تقطر من عينيه :
- لم استطع أن أنقذ سوى هذا الدبدوب الصغير .
خفض رأفت رأسه .. ثم عاد يتساءل :
- وماذا تنوي أن تفعل الآن يا أدهم ؟.
أجابه أدهم وهو يهز رأسه يمينا وشمالا وقد عاد يشرد ببصره :
- لا أعرف .. ولكن ما يزيد وجعي هو أنني خسرت أسرتي .. ولم استطع أيضا حماية آية .
ابتسم رأفت وهو يربت على كتفه :
- ستكون بخير بإذن الله .. فلقد قال لي الخال كمال أن من الممكن أن تفيق اليوم .
عاد أدهم يخفض رأسه قائلا :
- إنشاء الله .
وقف رأفت .. فنظر إليه أدهم متسائلا :
- إلى أين ؟.
رد عليه رأفت :
- أفكر أن احضر أمي وجدتي .. حتى تراهم آية عندما تستيقظ .

هم رأفت بالخروج من المستشفى في الوقت الذي حضرت فيه شذى للاطمئنان على آية .. وعندما لمحته نادته .. وقلبها يخفق بعنف لرؤيته :
- رأفت .
ضغط رأفت على أسنانه .. وهو يحاول إجبار نفسه على السير .. وإقناع قلبه بتجاهل ندائها .. فاستمر في خروجه دون أن يلتفت .. ولكن شذى لحقت به .. حتى استطاعت إيقافه في حديقة المستشفى .. ثم وقفت لتواجهه بعينيها .. وهو لا يزال يخفض رأسه متحاشيا النظر إليها فعاتبه برقه :
- لماذا تتجاهلني يا رأفت ؟.. هل أغضبتك بشيء ؟.
صمت رأفت .. فعادت شذى تسأله بحزن :
- لماذا لم تعد تطيق النظر إلي ؟.
أجابها رأفت وهو يشيح بوجهه عنها حتى لا ترى تلك الدموع التي تجمعت في عينيه :
- كيف تستطيعين أنت النظر إلى شخص مثلي ؟.
اعتقدت شذى أن رأفت يقصد خده المشوه .. فابتسمت بحنان وهي تتحسس خده بأناملها الناعمة :
- يبدو أنك لا تدرك كم أراك جميلا يا رأفت ..
تساقطت الدموع من عينيه .. فقاطعها وهو ينظر إليها بتحدي يشوبه الكثير من الألم :
- كيف تستطيعين رؤيتي جميلا .. وأنا من حرمك أخاك الوحيد ؟.
صعقتها كلماته .. وعاد هو يحول وجهه عنها .. وحلق الصمت فوق رئسيهما .. فتساءلت شذى من خلال دموعها .. بعد أن ذكرها بأخاها الشهيد :
- هل تعرف يا رأفت عندما انظر إليك ماذا أرى ؟.
سكت رأفت وجمد الدمع في مقلتيه .. فأردفت شذى:
- أرى إنسانا مرهف الأحاسيس .. يحب من حوله .. ويحرص عليهم .
عادت شذى تحدث رأفت الذي يقف أمامها صامتا ودون أن ينظر إليها :
- لقد كنت أرى دائما في عينيك نظرات حبك البريء .. وعندما مات هيثم .. حمدت الله بأن أبقاك من اجلي لتحرص علي مثلما كان يفعل .. ولكني لم أدرك أنني مثلما حرمت منه .. حرمت منك أيضا .. ومن تلك النظرات .
خفضت شذى رأسها بحياء وهي تحدثه :
- لا تتركني يا رأفت .. فأنا كلما انظر إليك لا أرى سوى الإنسان الذي أحبه .
اتسعا عيني رأفت بعد أن اعترفت له شذى بحبها .. ولم يعرف ماذا يفعل ..
يا ألله كم كان يحلم بمثل هذا اليوم ..
كم كان يتمنى أن تأتي اللحظة التي يتأكد بها من مشاعر شذى نحوه ..
هل هذه إحدى أحلام يقظته ..
أم أنه حقا يعيش هذا الواقع الجميل .. والذي طال حرمانه منه ..
همت شذى بالرحيل بعد أن يئست رد رأفت عليها .. ولكنه أمسك ذراعها برفق .. ليستوقفها :
- إلى أين يا شذى ؟.. أتطلبين مني البقاء .. لتقومي أنت بتركي ؟.
لم تستطع شذى تمالك نفسها .. فارتجفت تعابير وجهها مع تراقص الدموع على خديها .. فمسح رأفت دموعها بأنامله وعينيه تنبضان بعشقه لها :
- لا تبكي يا حبيبتي .. فيكفيني ما سببته لك من الآم .
هزت شذى رأسها والابتسامة تتسلل إلى ثغرها بحياء :
- لن يعد هنالك الآم بإذن الله .. طالما أنت بجانبي .
أردف رأفت مازحا :
- ولكن إياك أن تتذمري مني بعد الآن .. فأنا مثلما طلبتي .. لن أتركك أبدا .
ضحكت شذى من خلال دموعها .. ثم ودعها رأفت .. ليحضر أمه وجدته ..
وفكره يشرد بعذوبة هذه المشاعر التي تختلج صدره ..
كم هو غريب هذا الإحساس الذي كان يكنه دوما لشذى ..
وكيف كان حبه الأخرس لها هو دوما ما يدفعه نحو التميز ..
ولكن الأغرب .. ما فعلته تلك الكلمات القليلة التي نطقت بها شذى ..
وكأنها ألقت على قلبه بسحر .. أحياه من جديد ..
فاستعاد الروح المرحة التي هجرته طويلا ..
وارتاح القلب المعذب .. بعد أن قطع وعدا للحبيبة التي فشل في حرمان نفسه منها .. بأن لا يتركها أبدا ..



(14)
حتى آخر العمر

تسلل أدهم مرة أخرى إلى غرفة آية .. وجلس بجانبها وهو يتلو على مسامعها القرآن الكريم بصوت خافت .. ويحتوي يدها بيده الأخرى .. وبعد لحظات شعر بأن يدها الناعمة ترتعش في كفه .. فأغلق القرآن برفق وبحلق بكفها وهو يحبس أنفاسه .. فعادت آية تحرك كفها بحركة أشبه بنبضة القلب .. وكأن الحياة قد بدأت تسري في جسدها ..
أقترب منها أدهم وهو يتحسس رأسها بحنان والفرحة تزغرد في عينيه :
- آية .. هل تسمعيني يا حبيبتي ؟ .
تأوهت آية وهي تحرك رأسها بتململ .. وعينيها لا تزالان مغمضتين .. فعاد أدهم يحدثها برفق :
- هيا يا آية .. حاولي فتح عينيك .. ألم تشتاقي إلي ؟.
فتحت آية عينيها المجهدتين ببطء .. وهي لا تستطيع الشعور بجسدها .. ولا تقوى على تحريك عضله واحده فيه .. انفرج فم أدهم بابتسامة فرحة واسعة .. ثم تركها وركض لينادي الدكتور كمال .. وبعد لحظات عاد وبصحبته الدكتور كمال .. والذي تقدم منها قائلا وهو يتحسس نبضها .. وشذى تطل عليها من خلفه والسعادة تكلل وجهها :
- ممتاز .. فابنتنا قوية مثلما توقعت .
وقف الخال كمال قائلا لشذى قبل أن يخرج من الغرفة :
- تستطيع الآن الخروج من العناية المركزة .
هزت شذى رأسها لوالدها .. ثم احتضنت صديقتها بشوق .. وتحدثت مازحه وهي تشير إلى أدهم بعينيها .. والذي وقف على مقربه منهما ليخص آية بنظرات حب حزينة :
- هل أنت قوية .. أم أنك حصلت على القوة من شخص أخر ؟.
ابتسمت آية بعيونها وهي تنظر إلى أدهم .. وبعد لحظات كانت قد نقلت إلى غرفة أخرى .. وجاءت عائلتها لتحيطها بالحنان والاهتمام ..
ضمتها الجدة إلها بعطف :
- الحمد لله على سلامتك يا حبيبتي .
وأردف الخال عز الدين وهو يربت على يديها بحنان :
- لم أكن أدرك أنك غالية بالنسبة لنا لهذه الدرجة ..
قاطعته الخالة منى :
- إنها قطعه منا يا عز الدين .. ولن نقوى أبدا على فراقها .
تساءلت آية بخوف :
- أمازال الحصار مستمرا ؟.
أجابها الخال عز الدين :
- لقد أعلنت إسرائيل اليوم أنها وبعد مفاوضاتها مع قادة حماس .. سوف توقف عدوانها على قطاع غزة طالما تلتزم حماس بعدم بدء العدوان عليها .
عادت آية تتساءل وهي تحاول بعث الأمل والفرحة إلى نفسها :
- وهل هذا يعتبر عهد تلزم إسرائيل بتنفيذه ؟ .
هزت الخالة منى رأسها بحزن :
- إنشاء الله ..
تساءل أدهم الذي كان يقف بجانب باب الغرفة .. وهو يزفر بسخرية :
- وهل نأمن نحن عهد اليهود ؟.
صمت الجميع فأكمل أدهم بصوت خافت ولكنه مسموع .. وهو يخفض رأسه ويتأمل ذلك الدبدوب الصغير الذي بين يديه :
- أم أن عهدهم هذا سيعيد شهداءنا الذين فارقوا الحياة بسبب جرائمهم البشعة ؟.
أثارت كلمات أدهم الوجيعة في قلوب كل الموجودين .. وحل صمت رهيب بينهم .. فقطعه رأفت وهو يمسح دموع آية التي تنساب لتذكرها يوسف .. وقبلها على رأسها قبل أن يخرج :
- المهم الآن .. هو رجوعك إلينا سالمة .
وقبل أن يتجه نحو الخارج استوقفته آية بلهفة :
- أين ستذهب يا رأفت ؟.
أجابها رأفت مبتسما :
- سوف أعود بعد قليل .
وقف الخال عز الدين ليتبعه :
- ونحن أيضا يجب علينا الذهاب .. فلدينا الكثير من الأعمال لنقوم بها .. وليقدرنا الله على تعمير مدينتنا الجميلة من جديد .. وانتزاع أرضنا المقدسة من مغتصبيها .
أمنت الجدة وهي تحاول الوقوف :
- آمين يا رب .
فالتفتت آية إلى جدتها متسائلة بخوف :
- وأنت أيضا يا جدتي ستتركينني ؟ .
إجابتها الخالة منى وهي تربت عليها :
- يجب علينا الذهاب حتى نقوم بإعداد الغداء من أجلك .. وغدا صباحا ستعودين
برفقتنا إنشاء الله .
خرجت أسرة آية .. فوقفت شذى أيضا وهي تختلس النظر إلى أدهم الذي لا يزال واقفا بجانب الباب :
- أنا أيضا سأعود إلى العمل يا حبيبتي .. وإن احتجتني لا تخجلي في ندائي .
هزت آية رأسها بالموافقة وهي تبتسم لصديقتها التي كانت تتجه خارجا .. فخلت الحجرة إلا من أدهم وآية .. والتقت عينيهما .. فشعرت آية برجفة تسري في جسدها .. فلقد هزتها نظرة ملاكها الحارس .. وآلمها ذلك الحزن الساكن في عينيه ..
تقدم منها أدهم وجلس على كرسي بجانبها .. واغتصب ابتسامة من بين شفتيه .. فعادت آية ترمقه بنظرات فاحصة .. محاولة أن تستشف ما بداخله .. وأخيرا تساءلت بصوتها الناعم :
- ما بك يا أدهم ؟.
خفض أدهم رأسه بشرود وهو يهزه يمينا وشمالا :
- لا شيء .
ابتسمت آية محاولة التخفيف عنه:
- وهل تتوقع مني تصديقك ؟.
ظل أدهم صامتا .. فتساءلت آية وهي تحاول تخمين ما يحزنه :
- هل قمت بالاطمئنان على عائلتك ؟.
هز أدهم رأسه بالإيجاب .. فاطمأنت .. ولكنه وضع ذلك الدبدوب الدامي فوق ساقيها:
- أترين هذا الدبدوب يا آية ؟.
لم تجب .. وظلت تستمع لملاكها الجريح علها تستطيع فهم معاناته .. عاد أدهم يخبرها وهو ينظر إلى عينيها ودموعه تترقرق بضعف رغما عنه :
- أترين هذه الدماء التي تلطخه ؟.
انسابت دموع آية لتشاركه حزنه دون إرادتها .. وهي مازالت لا تفهم سبب بكاءه .. فأردف أدهم بحرقة :
- هذه هي عائلتي يا آية ؟.

صعقت آية .. وشعرت بأن النبض يتوقف بداخلها .. واستبد بها الحزن على ملاكها الحارس .. حتى وقفت عاجزة أمام مصيبته .. لا تدري كيف تستطيع مواساته .. أشاح أدهم بوجهه عنها محاولا إخفاء دموعه .. وبدا وكأنه يعاني صراعا نفسيا بداخله يكاد يدمره .. فلقد تعقد حاجباه .. وضغط على أسنانه .. وبدأ يضرب فخده بقبضة يده بضربات متوالية ..
أحست آية بالألم يعتصر قلبها .. ثم أمسكت قبضة أدهم بكفها الرقيقة .. وربتت عليها دون أن تقوى على النطق ببنت شفه ..
هدأ أدهم لبرهة من ثم خرج من الغرفة مسرعا .. دون أن ينظر إليها .. وعند الباب صادف رأفت .. والذي قبل أن يتحدث قاطعته آية بصوتها الملتاع على حال أدهم :
- الحق به يا رأفت .. ولا تدعه وحيدا .
هز رأفت رأسه مطمئنا لآية .. ثم ركض خلف أدهم .. واستطاع الإمساك به بعد خروجهما من المستشفى .. حدثه رأفت وهو يلهث :
- ما الذي حدث يا أدهم ؟.
أجاب أدهم وهو يشوح بيديه في الهواء :
- الذي حدث .. ما تراه حولك هو الذي حدث .
تلفت رأفت حتى يرى ما حوله .. فلم يجد سوى الدمار .. أخفى أدهم وجهه بكفيه .. وعاد يكمل من خلال نشيجه :
- لقد بت أكره نفسي يا رأفت .
لم يستطع رأفت قول شيء .. ولكنه قام بضم صديقه إليه مهدئا :
- كفى يا أدهم .. فأنت تعذب نفسك بهذا البكاء .
لم يقدر أدهم إمساك دموعه .. وظل يبلل بها كتف رأفت .. فهمس رأفت مازحا وهو يربت على رأس أدهم بحنان بالغ :
- توقف يا أدهم عن البكاء .. فالناس ينظرون إلينا .
ابتعد أدهم عنه محاولا السيطرة على نفسه .. فعاد رأفت يخبره وهو يحتضن وجهه بين كفيه :
- أنت أخي الذي فقدته يا أدهم .. وأنا أحس منذ أن استشهد يوسف بأن الله عوضني بك .. لهذا مؤكد سيأتي اليوم الذي تدرك فيه مدى تعلق عائلتي بك .. وستشعر أنها تشبه كثيرا عائلتك التي حرمت منها.
أغمض أدهم عينه وهو يهز رأسه باستسلام .. فأردف رأفت وهو يحتضنه بذراعه ويسير به :
- دعنا نذهب الآن .. فأنت تحتاج إلى النوم .
رد أدهم بسخرية :
- وأين سأنام ؟.. على ركام المنزل .
قاطعه رأفت مؤنبا .. ومحاولا جهده التخفيف عنه :
- ماذا كنت أقول لك الآن .. يبدو أنك يا صديقي قد فقدت حاسة السمع من كثرة القنابل التي سمعتها .
ارتسمت ابتسامة ضعيفة على شفتي أدهم .. فعاد رأفت بحدثه .. وهما يقتربان من البيت :
- لقد فتح هذا البيت لك منذ أن قمت بإنقاذ آية .. وسيظل مفتوحا من أجلك ما حييت .
دخل أدهم إلى البيت وهو يشعر بالغربة .. على الرغم من أنه قضى الكثير من الأوقات بداخله .. حين رأته الجدة فتحت ذراعيها مرحبة به بطيبتها المميزة :
- أهلا وسهلا يا بني .. نورت منزلك يا حبيبي .
تقدم منها أدهم مقبلا رأسها .. فاحتضنته بحنان .. وخرجت الخالة منى من المطبخ مسرعة .. فشاعت السعادة على ملامحها عندما وجدت أدهم يجلس بالصالة .. بين أحضان الجدة .. فطلب منها رأفت بتهذيب :
- أيمكنك يا أمي أن تحضري لأدهم الحمام .. بينما أخرج له ملابس يغيرها .
تحركت الأم نحو الحمام مسرعه :
- حالا يا حبيبي .
حاول أدهم إيقافها بخجل :
- لا تشغلا نفسيكما بي يا رأفت .. فأنا لا أحس بحاجتي إلى النوم .
وقبل أن يرد عليه رأفت .. قاطعه الجدة وهي تتحسس شعره :
- لما يا حبيبي .. إن الإرهاق يبدو عليك .. ويجب أن تعطي جسدك حقه من الراحة .
أردف رأفت مؤمنا على كلام جدته وهو يشد أدهم من يده ليقف :
- هيا .. هيا .. أدخل واستحم .. وحاول أن تنام .. وصدقني ستفيق بروح عالية جدا .
دخل أدهم إلى الحمام .. وشعر بكل قطرة ماء تمس جسده .. وكأنها تغسل بعض هموم قلبه .. ثم استلقى على سرير يوسف .. وما أن وضع رأسه على الوسادة حتى غرق في نوم عميق ..
وفي المساء شعر بيد حنونة تعيد اللحاف فوق جسده .. من ثم قبلته صاحبتها برفق على جبينه .. فتح أدهم عينيه على أثر تلك القبلة الناعمة .. فرأى الخالة منى تبتسم إليه معتذرة بلطف :
- هل أزعجتك ؟.
نهض أدهم وراح يمرر أنامله بين خصلات شعره بحياء :
- لا أبدا .
ثم تساءل بصوته الهادئ :
- كم الساعة الآن ؟.
أجابته الخالة :
- إنها السادسة والنصف مساءا .
شرد أدهم ببصره وهو يفكر بآية ..
تلك الحبيبة الرقيقة .. كم كان مرعوبا وهو يتخيل رحيلها عنه ..
ولكنه كان قاسيا معها .. وخصوصا بعد أن خرجت من غرفة العناية المركزة ..
فلقد كان يجب عليه أن يعتني بها .. بدلا من أن يزيد همها ..
لكن الصدمة كانت قاسيه عليه .. لم يملك حتى حق توديعهما .. خسر كل شيء بطرفه عين ..
ولم يتبقى له سوى ذلك الدبدوب المضرج بدماء عائلته ..

لاحظت الخالة منى شروده .. وتلك الخطوط الحزينة التي راحت ترتسم على ملامحه السمراء .. فحاولت استرعاء انتباهه بصوتها الهادئ :
- سوف احضر لك الطعام يا أدهم .. فأنت لم تأكل شيء منذ يومين .
رجاها أدهم بلطف :
- هل يمكن إعفائي عن تناوله ؟ .
رفضت الخالة منى بحزم .. وهي تحاول التخفيف عنه :
- لا .. لا يمكن إلا إذا قلت أن طعامي لم يعد يعجبك .
ابتسم لها أدهم .. ثم دخل رأفت إلى الغرفة .. وأردف مازحا :
- هذه فرصتك يا أدهم .. قل أن طعامها غير جيد .. فهي ترفض تصديقي .
أجابته الأم وهي تخرج من غرفة ولديها مهددة :
- سترى يا رأفت من سيعد لك الأطباق التي تحبها بعد الآن .
لحق بها رأفت مبررا موقفه :
- لا يا أمي .. أنت الخير والبركة .. ولا أحد يستطيع أن يعد أشهى من طعامك .
خرج أدهم من الغرفة .. وهو يحس بأنه قد استيقظ بنفسية جديدة .. مثلما قال له رأفت .. كانت الأسرى تعاني جرحا غائرا في قلوبهم جميعا .. جرحا سببه شهيدهم الشاب يوسف .. ذلك الفتى المرح المفعم بالحياة .. لكنهم كانوا يحاولن مواساة أدهم بكل السبل .. وغمره أحساس دافئ بينهم .. كان الخال عز الدين يجلس بالصالة يقرأ إحدى الجرائد .. فتقدم منه أدهم ليسلم عليه .. فشد الخال على يده مرحبا به كعادته :
- كيف حال ابننا الشجاع ؟.
ابتسم أدهم لمداعبة الخال .. وحدثه مطمئنا بعد أن رأى نظرات القلق في عيون الجدة الطيبة :
- الحمد لله .
أردفت الجدة وهي تربت على ظهره بحنان :
- يستحق الحمد والشكر يا حبيبي .

وبعد أن أصرت الأسرة على تناول أدهم للطعام .. وشاركه رأفت في تناوله محاولا أن يفتح شهيته .. استأذن ليخرج من البيت .. وقبل أن يتجاوز باب الحديقة .. توقف أمام شجرة السوسن .. وأخذ نفسا عميقا من عبيرها .. ثم انحنى ليقطف إحدى تلك الورود الجميلة المتميزة بلونها الناعم .. ثم أكمل سيره نحو المستشفى ..
طرق أدهم باب الحجرة التي كانت ترقد بداخلها آية .. فأتاه صوت آية الناعم مجيبا :
- ادخل .
فتح أدهم الباب .. وطل بوجهه على آية .. لاحظ عبرات نديه على وجنتيها .. ولكن سرعان ما انفرجت شفتيها بابتسامه وهنه عند رؤيتها لأدهم .. دخل هو إلى الغرفة .. فحدثته بلهفة :
- لقد قلقت عليك كثيرا .. هل أنت بخير الآن ؟.
جلس أدهم بجانبها على حافت السرير وراح يمسح دموعها بينما يخفي يده التي بها الوردة .. وينظر إليها بنظرات حبه البريء :
- أنا بخير .. طالما أستطيع رؤيتك سعيدة أمامي .
ابتسمت آية بخجل وهي تحاول السيطرة على عبراتها .. أخرج أدهم يده التي كان يخفيها خلفه .. وناولها وردة السوسن .. شهقت آية بفرحة صادقة وكأنها رأت والديها .. احتضنت تلك الوردة بين يديها .. وقربتها من أنفها لتتنفس شذاها :
- لقد أوحشتني كثيرا .
أجابها أدهم وهو ينظر إلى الوردة التي بين يدي حبيبته الرقيقة :
- إن حياتي مثل هذه الوردة .. كانت تبدو جميلة .. ولكنها بنفس الوقت لا تخلو من الأشواك ..
نظرت إليه آية نظرة حنونة .. وهي تستمع بشغف إلى حديثه .. فأردف أدهم وهو يقطع إحدى براعم تلك الوردة التي بين يديها :
- ولكن في لحظة انكسرت تلك الحياة الجميلة .. وتسربت من بين أناملي .. ففقدتها كلمح البصر ..
علت الشفقة ملامح آية .. فابتسم لها أدهم بحنان .. ثم تابع وهو يلف ذلك البرعم الطري بيديه ويبرمه بإصبعيه حتى أصبح شكله كخاتم الخطوبة :
- ولكنني أود أن ابدأ معك حياة أجمل .. وأحرص عليك فيها وعلى سعادتك .. وأعدك بأنني سأحاول جهدي لكي لا تنكسر .. حتى آخر العمر .
حاولت آية أن تغالب دموعها التي لم تعد تعرف سببا محددا لها .. هل هي دموع حزينة على من استشهد .. أم هي دموع تعبر عن تلك الفرحة المتسللة بخجل إلى قلبها .. خنقتها العبرات ولم تستطع الحديث .. بيمنا كان أدهم يشاركها دموعها المترقرقة بضعف وهو يحاول مسح عبراتها .. لكنه تساءل أخيرا وهو ينظر إلى عينها بهيام .. ويمسك بالخاتم الذي صنعه من برعم زهرة السوسن :
- أنا أعرف أن هذا الوقت غير مناسب .. لكنني أتمنى بدء حياة جديدة معك يكللها الأمل .. فهل تقبلين الارتباط بي يا آية ؟.
هزت آية رأسها بالموافقة .. فالتقط أدهم كفها والبسها الخاتم برفق .. وهو يسألها مؤكدا :
- حتى آخر العمر ؟.
أجابته آية وهي تغمره بنظرات حبها الحزين .. بعد أن ألبسها الخاتم وطبع قبله دافئة على يدها :
- حتى آخر العمر ...



(15)
ليبقى السوسن

كانت آية تتجول في أرجاء منزلها .. لتنهي ترتيبه .. ثم اقتربت نحو النافذة التي تطل على الحديقة وهي تحمل إبريق به ماء .. وقامت بصب الماء في مزهرية صغيرة تحوي إحدى زهرات السوسن التي تحبها .. والتي أهداها إياها أدهم في المشفى ..
ظلت آية تصب الماء لوردتها .. وكأنها تغذيها بروح الحب التي تغمرها .. تلك الروح التي أحياها أدهم بداخلها .. بالرغم من كل ما قاسته في حياتها ..
شردت بعد أن وقع نظرها على ذلك الدبدوب الصغير الدامي والذي وضعته بداخل علبه زجاجيه على أحدى الرفوف ..
وراح فكرها ينقب في قسوة الماضي ..
الماضي البعيد الذي جعل شعبها غرباء في وطنهم .. وسلبها والديها ..
والماضي القريب الذي شاهدت فيه مدينتها الجميلة غزة وهي تصبح مدينة للموتى .. لا تحوي سوى الجثث وركام المنازل ..
أنه الماضي الذي انتزع منها أحب الناس إلى قلبها .. أولائك الأشخاص الذين قضت معهم أجمل أيام الصبا ..
أغمضت آية عينيها محاولة أن تنتزع ألم الحرمان الذي يستعر بداخلها .. ولكن دون جدوى .. فهي تعلم أنها ستحيى مع وجيعة الفراق ..
وأكثر ما يزيد ألآمها إدراكها بأنها ستظل تعيش عذاب الماضي والحاضر .. وتترقب بقلق المستقبل المجهول ..
بعد لحظات أفاقت آية من شرودها وهي تطل من النافذة .. لتبحث بعينيها عن حبيبها ..
تسلل القلق إلى قلبها .. عندما فشلت عينيها في رؤيته .. فخرجت إلى الحديقة وبدأت تناديه :
- يوسف .. يوسف .. أين أنت يا حبيبي ؟.
لم يجبها أحد .. وقبل أن تفقد آية أعصابها من الخوف .. جاء طفل صغير في الرابعة من عمره يركض نحوها .. ثم احتضنها بحب :
- ماما .
تنفست آية الصعداء .. ثم ابتسمت لطفلها الصغير .. وجلست على ركبتيها لتؤنبه وهي ترتب ملابسه :
- أين كنت أيها الشقي ؟.. لقد أفزعتني ؟.
أجابها يوسف مبررا وهو يرشوها بابتسامته البريئة :
- لقد كنت ألعب في الجهة الأخرى من الحديقة .
ثم أردف والملل يعلو ملامحه :
- متى سيأتي بابا ؟.
وقفت آية وهي تحمله بين ذراعيها .. وتضمه إليها بحب :
- بعد قليل يا حبيبي .
ثم عادت تهمس في أذنه :
- ما أن يصل حتى نقوم بزرع الشجرة .. موافق .
هتف يوسف بفرحة الأطفال :
- موافق .
وفي ذلك الوقت كان أدهم يدخل من باب الحديقة فرأته آية .. وقبل أن تصدر أي تعبير .. وضع أدهم سبابته على فمه مشيرا لها بالسكوت .. وتقدم بهدوء نحوهما .. ثم وضع يديه على عيني ولده الذي لم يكن قد رآه بعد .. شهق يوسف بفرحة وهو يمسك بكفي والده :
- بابا .. حبيبي .
اخذ أدهم يوسف بين ذراعيه .. واحتضنه برفق وهو يتساءل :
- كيف حال ابني البطل ؟.
أجابه يوسف بحماسه :
- بخير .
عاود أدهم تساؤله بحزم :
- هل أزعجت ماما بشقاوتك ؟.
أجابه يوسف وهو يهز رأسه بالنفي :
- لا .. لم أزعجها .
ثم حول نظره نحو آية وتساءل ببراءة :
- هل أنا شقي يا ماما ؟.
ضحك الوالدان .. وقبلت آية يوسف على خده بحنان :
- لا يا عيون ماما .. فأنت روحي المرحة .
ضحك يوسف لمداعبة والدته .. ثم حدثها أدهم وقد تذكر شيء :
- صحيح يا آية .. يجب علينا اليوم زيارة خالك .
وقبل أن تجيب آية قاطعها يوسف بفرحة :
- هل سنذهب لزيارة هيثم وآلاء ؟.
أجابته آية مبتسمة :
- نعم يا حبيبي .
ثم تساءلت بقلق :
- هل حدث شيء ما يا أدهم ؟.
احتضنها أدهم بذراعه الأخرى وهو يسير بها إلى البيت .. ثم ابتسم مطمئنا :
- لم يحدث شيء يا حبيبتي .. ولكني قابلت الخال عز الدين في السوق اليوم .. ووبخني كثيرا .. وقال أن الخالة منى مشتاقة لك .. وكذلك رأفت وشذى .. وتوأماهما هيثم وآلاء .. فاعتذرت منه بسبب انشغالي في العمل .. ووعدته بزيارتهم اليوم .
قاطعهم يوسف مهددا وهو يلوح بإصبعه السبابة :
- ولكن لن نذهب قبل أن نزرع وردة السوسن ؟.
طمئنه أدهم بنفس لهجة يوسف الطفوليه :
- حسنا .. لن نذهب قبل أن نزرع وردة السوسن .
التفت العائلة الصغيرة حول مائدة الطعام .. والحديث لا ينقطع بينهم .. والحب لا يفتر في نظراتهم .. ثم ركض يوسف نحو النافذة بعد انتهاءهم من الغذاء .. وسحب كرسي .. ووقف عليه حتى استطاع الوصول إلى وردة السوسن .. ثم أخذها بين يديه وجلس على الكرسي وانزلق بجسده حتى يقف على الأرض من جديد .. كان والديه يرقبانه بحب .. فالتفت نحوهما ليستعجلهما :
- هيا لنخرج ونزرعها سريعا .. حتى لا نتأخر على هيثم وآلاء .
خرجا أدهم وآية إلى الحديقة يتقدمهما يوسف وهو ينط من الفرح .. وقبل انتهاءهم من زراعة وردتهم الجميلة .. شردت آية ببصرها وهي تتأمل تلك الأزهار بلونها الخلاب .. فوكزها أدهم برفق لينتشلها من شرودها .. ثم أشار إليها بعينه نحو يوسف .. ابتسمت آية بعد أن فهمت مقصد أدهم .. وراحت تحدث يوسف برقة :
- أتعرف يا يوسف .
نظر يوسف إلى والدته .. فأردفت هي قائلة :
))- إن فلسطين مثل هذه الشجرة الناعمة ستبقى صامدة إلى الأبد .. وكلما اعتنيت بها ستتعمق جذورها وتتفرع جذوعها ومهما خسرت من أوراقها ستظل باقية .. لتزهر وتعلن للعالم بعبيرها عن صمودها وجمالها ..)) .
ابتسم يوسف .. وهو يستمع لوالدته محاولا فهم كلامها .. والذي تدرك آية أنه سيفهمه يوما ما مثلما فعلت هي ..
وقفت آية وأدهم على مقربة من يوسف الذي كان يلهو ويلعب حول وردة السوسن .. فاحتضنها أدهم من الخلف وراح يهمس في أذنها برفق .. بعد أن عاودها الشرود :
- ما بك يا آية ؟.
تنهدت بحزن وحدثته وهي لا تزال ترقب ولدها الصغير :
- لقد أصبح نسخة مصغره من يوسف .
ابتسم أدهم وهو يشاركها النظر إلى ولدهما الوحيد .. فأردفت آية قائلة وقد سقطت دمعة كئيبة
من عينيها :
- هل سيأتي يوم افقده فيه .. مثلما فقدنا يوسف ؟.
أجابها أدهم وهو يضمها إليه بحنان .. ويمسح دمعتها بأنامله :
- هذا ما لا استطيع وعدك به .
ازداد الضيق في قلب آية .. وأفلتت المزيد من دموعها .. فعاد أدهم يهمس لها مواسيا :
- ولكن بالرغم من تساقط أوراق شجرتنا الحبيبة .. ستظل نفوسنا على يقين بقوتها وصمودها .. وهذا ما كنت تخبرين به يوسف منذ قليل .
أجابت آية مبرره :
- ولكن يا أدهم .. يصعب علينا أيضا مفارقة تلك الأوراق التي لطالما أحببناها .
رد عليها أدهم بصوته الدافئ :
- معك حق .. ولكن يبدو أنه قدرنا .. وهو أن نتجلد لتبقى حبيبتنا فلسطين .
هزت آية رأسها باستسلام .. فأردف أدهم وهو يعاود الهمس في أذنها :
- وليبقى السوسن ..
ابتسمت آية بحزن .. ثم التفت لتحول نظرها نحو حبيبها ..
ذلك الحبيب الذي حماها دائما ..
وغمرها بحبه الطاهر البريء ..
والذي يحرص دوما على مشاعرها الرقيقة ..
ظلت آية تنظر إلى عيني أدهم .. وكأنها تستمد منهما الإحساس بالأمان ..
ذلك الأمان الذي يفتقده بلدها الحبيب .. ولا يزال يبحث عنه ..
والذي في سبيله تتساقط المزيد من أوراق السوسن ..
لتنمو بعدها أوراقا أكثر قوة وثبات ..
ثم حولت نظرها نحو يوسف وغمرته بنظرة حنونة ملؤها الحب .. يتسلل من خلالها ذلك القلق الدائم عليه .. حتى من نسمة الهواء اللطيفة ..
كم تحب طفلها الصغير .. وتود لو باستطاعتها حمايته ..
ولكنها تدرك في قرارت نفسها .. أنه لابد سيفارقها ليستعيد الحبيبة فلسطين ..
اختبأت آية في حضن أدهم .. وكأنها تحاول الهرب من مخاوفها .. وكلمته الأخيرة تصرخ ملء أذهنيها .. وتوقظ بداخلها صبرها وتحديها .. وتثير مخاوفها في نفس الوقت ..
ثم قالت بصوت خافت محدثتا نفسها .. وكأنها تحاول بث القوة في نفسها من جديد :
- ليبقى السوسن ...

النهاية واتمنى قراءه ممتعه للجميع


*my faith* غير متواجد حالياً  
التوقيع




رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 05:36 PM   #2

*my faith*

نجم روايتي وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية *my faith*

? العضوٌ??? » 170482
?  التسِجيلٌ » Feb 2010
? مشَارَ?اتْي » 8,920
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Yemen
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » *my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute
افتراضي

السوسن




(1)
بداية الطريق ...


في صباح يوم من أيام أغسطس 2007 في مدينة غزة استيقظت آية على صوت زوجة خالها منى من الغرفة المجاورة توقظ ولداها رأفت ويوسف .. ظلت آية مستلقية على سريرها لبرهة ثم نهضت بكل حيوية ونشاط لتستقبل يومها الجديد الذي تتوقع أن يكون حافلا بالأحداث .
آية :
- صباح الخير يا جدتي .
الجدة فاطمة :
- صباح الخير يا عيون جدتك .
تبتسم آية لمداعبة جدتها لها فتقبل رأسها وتخرج من غرفتها التي تحوي سريران ومكتب صغير عليه كتب آية الدراسية وصورة لوالديها المتوفيان ومجموعة من الروايات التي تحبها ودولاب صغير للملابس عليه مرآة .. وقفت آية على باب غرفة الأولاد تنظر إلى ولدي خالها وهي مبتسمة .
قالت آية مازحة :
- متى سيكبران ولداكِ يا خالتي ؟!.. إن الحارة كلها استيقظت وهذان الكسولان مازالا
نائمين .
قالت الخالة منى :
- آه يا آية بالله عليك لا تزيدي همي .. إني لن أيقظ أحد بعد اليوم وليعتمد كل واحد على نفسه .
أخرج رأفت رأسه من تحت اللحاف وقال مبتسما :
- ما هذه العائلة النكد .. الناس تفيق على كلام جميل ووجوه باسمة ونحن نفيق على
صوت أمي الصاخب ومزاج آية الرائق .
ردت آية :
- صدقني .. انتهز فرصة أنني بينكم سيأتي يوم ستفتقدون هذا المزاج .
ضحك يوسف وهو مستلقي فوق سريره وقال :
- لماذا .. ستستشهدين ؟!.
شهقت الجدة من الصالة عندما سمعت كلمة الاستشهاد , وقالت :
- الله يحرسها ويحرسكم جميعا ويبعد عن أولادنا كل سوء .
قال رأفت وهو متجه إلى جدته ليقبل رأسها :
- وهل في الاستشهاد سوء يا جدتي .. إنه غاية نرجوها وشرف نسعى إليه لنطهر


أرضنا ممن دنسوها .. فادعي لنا نكن من الشهداء لتفخري بنا أحياء وأموات .
- بارك الله بكم يا ولدي وقدر لكم كل الخير .
ابتسمت آية وهي تسمع دعاء جدتها وقالت :
- آمين .
انتهز يوسف الجو الهادئ الذي أثارته الجدة بدعائها فخطف المنشفة من يد آية وركض إلى الحمام ليستحم .
تفاجأت آية من حركة يوسف وركضت ورائه وهي تصرخ :
- الأيام بيننا يا يوسف .. وابحث عمن يساعدك في دروس الرياضيات .
قال يوسف بصوت مرتفع من داخل الحمام :
- تعيش وتأخذ غيرها يا أرسطو .
خرج خال آية من غرفته على صراخ الأولاد وقال :
- صباح الخير .. ما هذا الصراخ ؟.. مؤكد سببه يوسف .
وقبل أن يجيبه أحد .. نادت الخالة من داخل المطبخ :
- أسرعوا يا أولاد كي لا تتأخروا على مدارسكم .
اتجهت آية إلى المطبخ لتساعد خالتها بفكر شارد .. كانت الخالة منى تتأملها بهدوء ثم قالت متسائلة :
- هل تشعرين بالقلق ؟.
أجابت آية والتوتر بادٍ على ملامحها :
- نعم .. فهذا يومي الأول في دراستي الجامعية .. وكليه الطب ليست بالكلية السهلة .
قالت الخالة مطمئنة :
- لا تقلقي كثيرا يا حبيبتي .. مؤكد سيوفقك الله فلقد اخترت مجالا سيفيد من حولك .
وقبل أن ترد آية انطلق صوت يوسف صارخا من داخل غرفته :
- يا أمي .
أجابت الأم بنفس الصوت المرتفع وهي تخرج من المطبخ لتضع الطعام على الطاولة :
- نعم يا يوسف .
قال يوسف مستفسرا ببساطة :
- أين حقيبتي المدرسية ؟.
هز الأب رأسه ضاحكا على استهتار ابنه ولكن الأم رفعت حاجباها بدهشة .. ثم اتجهت إلى غرفة ابنها قائلة بغضب :
- ألم أقل لك منذ الأمس أن ترتب أغراضك ؟.
قال يوسف مبررا :
- لقد نسيت يا أمي .

ابتسما رأفت وآية .. ثم قال رأفت مازحا :
- يجب أن تستلم أمي شهادة الثانوية بدلا منك .
تساءل يوسف متحديا واضعا يده على خصره :
- ولم ؟.
تدخلت آية قائلة :
- لأنها تقوم بعمل كل شيء بدلا عنك .
قال يوسف مغيرا الموضوع :
- كفانا تضيعا للوقت ولتساعدوني على البحث عنها .
قال رأفت متجها إلى باب الدار ليذهب إلى كليته :
- هذه ليست مشكلتي .
أردفت آية وهي تنسحب من الغرفة :
- وأنا أيضا .. يجب أن أسرع بالخروج .
نظر يوسف إلى أمه متوسلا .. ولكنها تجاهلته قائلة :
- أنا لدي حصة ثالثه في المدرسة وفي مقدوري التأخر .. ولكنني لن أساعدك كي تتعلم النظام .
خرجت آية من حجرتها .. وذهبت لتقبل يد جدتها قائلة :
- ادعي لي يا جدتي بالتوفيق .
قالت الجدة وهي تربت على رأس آية :
- ربنا يحرسك يا بنتي .. ويسخر لك قلوب الناس .
فتحت آية باب البيت وقبل أن تخرج مر بجانبها يوسف مسرعا قائلا وهو يلوح لها بحقيبته :
- لقد وجدتها .. وسأسبقك في الخروج .
ضحكت آية على يوسف .. وتبعته بعينين محبتين لشقاوته .. ثم وقع نظر آية على شجرة السوسن التي في الحديقة .. فابتسمت وكأنها تبتسم لشيء عزيز وقريب إلى قلبها .. وعندما مرت بجانب الشجرة أخذت نفس عميق لتستعين بذلك العبير الناعم على تهدئه أعصابها المشدودة .. فهي تخاف من كل جديد وتريد أن تنجح في كل خطوة تخطوها على طريقها الواعد لتفخر بها روح والديها ومن حولها .
بعد بضع خطوات سمعت آية وقع خطوات سريعة خلفها وصوت يعاكسها :
- أنت يا حلو .. سلم علينا إن السلام لله .
التفتت آية لترى صديقة طفولتها شذى .
قالت آية والفرحة تلمع في عينيها :
- حبيبتي شذى كيف حالك .. لما غيرتي رأيك ألم تقولي بأنك لن تحضري من أول


يوم .
قالت شذى متباهية :
- نعم قلت ذلك ولكنني غيرت رأيي من أجلك خفت عليك أن تضيعي وأنا لست
معك .
وصلت الصديقتان إلى الجامعة .. عالم جديد على آية لم تعرفه من قبل .. افترقت الصديقتان كل واحدة إلى كليتها .. آية إلى الطب وشذى إلى الهندسة واتفقتا على موعد
ومكان اللقاء بعد انتهاء اليوم الدراسي .
مر اليوم بسلام مابين المحاضرات والتعرف على زميلات جدد وعند المساء وقبل أن يأتي الخال من ورشة النجارة خاصته .. أخذت آية مفكرتها الصغيرة ووضعت حجابها فوق رأسها وخرجت إلى الحديقة لتجلس بجانب شجرة السوسن .
فتحت آية المفكرة التي كانت تكتب بها خواطرها وأفكارها وما مر بها خلال يومها وكانت بذلك تحدث والداها وتحس بأنهما ينصتان إليها بشغف من بين السطور ... فهي
شديدة التعلق بهما و حريصة على إشراكهما بكل مراحل حياتها وكأنهما يعيشان بين صفحات مفكرتها ..
إحساس غريب هذا الذي تشعر به آية وهي تخط بقلمها لتحادث والديها قد لا يستوعبه البعض ولكن آية الرقيقة لا تجد صعوبة في تجسيد روحهما بداخلها .. فهي
فتاة محبه للهدوء .. تحمل روح مرحة ومعطاءة .. ولا تقوى على رؤية إنسان يتألم .. وهذا ما دفعها للالتحاق بكلية الطب , لتخفف عن شعبها الجريح .. فأمنيتها أن يأتي اليوم الذي يندمل فيه الجرح الذي استنزف دماء شعب فلسطين .
دخل الخال من باب الحديقة ليجد آية في خلوتها بوالديها بجانب شجرة السوسن التي زرعتها هي وأمها قبل وفاة أمها بأيام .
قال الخال عز الدين بحنان :
- أنت هنا يا آية .. مؤكد تكتبين لأبويك عن يومك الأول في الكلية .. صحيح ؟
وقفت آية بجانب خالها الذي تحبه جدا فقد كان هو وزوجته نعم الأب والأم لها وأحست منذ طفولتها أنها أخت لولديهما بل كانت هي الابنة المدللة والقريبة إلى قلب كل من حولها .
قالت آية بصوتها الناعم :
- نعم يا خالي .. أنا أحب أن أكتب لأبي وأمي وخاصة بجانب هذه الشجرة لأن أمي
قالت لي ونحن نزرعها ( إن فلسطين مثل هذه الشجرة الناعمة ستبقى صامدة إلى
الأبد .. وكلما اعتنيت بها ستتعمق جذورها وتتفرع جذوعها ومهما خسرت من أوراقها ستظل باقية .. لتزهر وتعلن للعالم بعبيرها عن صمودها وجمالها ..)) .
ابتسم الخال ودخل البيت محتضنا آية بذراعه قائلا :
- بالرغم من أن أمك استشهدت وأنت في الرابعة من العمر إلا أنك تتذكرين كل كلامها
والكثير الكثير من تصرفاتها .
قالت الخالة منى مؤكدة على كلام زوجها :
- بل وأصبحت نسخة من أمها نفس الجمال والمشاعر المرهفة .. وأخذتي من أمك صبرها وقوة تحملها لذلك أنت في نظري ( فراشة الألمنيوم ) لأنك فراشة برقتك وصلبة كالألمنيوم بتحملك .
حضنت آية خالتها وقالت :
- ربنا لا يحرمني منكم أبدا فأنتم جميعا أسرتي التي عوضني الله بها .
دخل يوسف في هذا الوقت بثيابه المتسخة وشعره أشعث مختلسا النظر بعينيه
الشقيتان من وراء الباب ليرى الوضع داخل البيت ولكنه صدم باستقبال أمه له صارخة في وجهه :
- ما هذا الذي حل بك وكأنك عدت من معركة .
قال يوسف بحماسته المعهودة :
- إنها أشد المعارك يا أمي لقد لعبنا كرة قدم نحن وأولاد الحارة المجاورة وكانت مباراة
ساخنة جدا ولكننا غلبناهم فيها .
ردت آية على كلامه :
- وماذا استفدنا نحن من سخونة المباراة وفوزكم .. غير أكوام من الرمال ننظفها
بعدك ؟.
قال يوسف مازحا :
- كوني محضر خير يا آية .. في الأساس تستحقون ذلك .. إذا لم تمنعوني من الإنظمام
إلى حركه حماس لكنتم الآن تتشوقون لرؤيتي والتنظيف ورائي .
رد الخال محتدا :
- ادخل إلى الحمام .. متى ستقلع عن الفلسفة الكثيرة ؟.
- عندما تشتري لي الكاميرا التي حدثتك عنها .
تدخلت الخالة مسرعة لتقطع كلام يوسف :
- ليس وقته الآن يا يوسف .. ادخل واستحم .
اتجه يوسف إلى الحمام وآية تسير بجانبه ممسكة طرف قميصه بأصابعها ويدها الأخرى على انفها .. قائلة بتأفف :
- رائحتك لا تطاق .. أنت واثق أنك كنت تلعب كرة .
- استهزئي كيفما شئتي .. يوم ما ستطلبين توقيعي .
ضحكت آية ودخلت لتساعد خالتها في اعداد العشاء ولتحكي لها تفاصيل يومها كما
تعودت أن تفعل دائما .. بعد انتهاء الأسرة من العشاء دخل رأفت مسرعا إلى غرفته لينهي المشروع الذي بدأه على الكمبيوتر .. وساعد يوسف آية في تنظيف الطاولة .
قالت آية ليوسف وكأنها تذكرت شيئا مهما :
- لقد جاءت براءة تبحث عنك اليوم .. وظلت تنتظرك إلى أن غلبها النعاس .. وجاء
والدها وأخذها إلى البيت .
- هل تصدقي أنني اشتقت إليها كثيرا .. هذه الملاك الصغير تأسر النفس بشقاوتها
اللذيذة .
- هي أيضا تحبك جدا تصور اليوم سمعتني انتقد فوضويتك .. غضبت مني ولم ترضى عني إلا بعد أن رشوتها ببسكويتة .
ابتسم يوسف ثم قال:
- لقد قابلت والدها اليوم وسيضطر أيضا للغياب عن البيت لأنه مشغول مع الجيش
لذلك وعدته بأن أهتم ببراءة وأوصلها إلى الروضة كل يوم .
- إذن يجب عليك الإستيقاظ باكرا حتى لا تتأخر أنت أيضا عن دروسك .
- لا تقلقي عليّ .. فأنا صاحب المهمات الصعبة .
قالت آية وقد انتهت من تنظيف صحون العشاء :
- تصبح على خير يا سوبرمان .
- وأنت من أهل الخير .
قبلت آية خالها وخالتها وقبل أن تدخل غرفتها مرت بغرفة الأولاد ووقفت ترمق رأفت وهو منكب على الكمبيوتر ووجهه متجهم .. ثم قالت :
- هل تواجه صعوبة في مشروعك الجديد ؟.
- لا .. ولكنه أيضا يحتاج إلى كثير من الدقة .. أنا أود أن أقدم شيء يجعل قسم الكمبيوتر للسنة الثالثة ينبهر ولا يجد كلام لوصف مشروعي .
- أنت ولد عبقري .. وأنا أثق بقدراتك فلا تقلق كثيرا اجتهد وتوكل على الله .
تنهد رأفت وشرد بنظره قليلا .. ثم قال :
- ما فائدة عبقريتي في بلد يقتل شبابها كل يوم دونما اهتمام بأفكارهم وحياتهم وما قد يخلفه موتهم من ألم في قلوب ذويهم ..
قالت آية وهي تحتضنه بعينيها الواسعتين :
- لم تتحدث بهذه الطريقة يا رأفت ؟.
رد رأفت بحرقة وقد تعقد حاجباه :
- لأنني أحس بالنقص يا آية .. فكثيرا ما احلم مثل أي شاب في عمري بأن أكون فخرا لأهلي .. وارتبط بمن تكمل معي حياتي .. ولكننا محرومين من كل شيء
.. حتى الحب .. فأحلامنا تنتهي عند حقيقة واحدة وهي أننا العاب ورقية في أيدي
الطفل اليهودي يلهو بها كيفما شاء ويمزقها حينما يريد ..
وقفت آية منبهرة بكلام ابن خالها .. وفي نفس الوقت أحست كأنه ينطق بتلك
الأفكار التي تصطخب بداخلها ..
قالت آية بصوت حزين :
- من منا لا يحلم بغد أفضل .. وبأرض حرة يمارس أهلها الحياة الكريمة .. يعيش أطفالها دون خوف .. ويبدع شبابها .. وينعم كبارها بالسكينة .. ونحب فيها كل من
حولنا .. لكننا لو فكرنا بهذا المنطق اليائس لن تستمر الحياة .
أردف رأفت قائلا وكأنه لم يسمع كلام آية :
- كم أود أن اصرخ بوجه العالم ليحس بنا .. لا كصور على التلفاز تستدر عطفه ولكن كشعب عربي يحتاج إلى موقف رجولي منه .. كم أود أن أبيد كل إسرائيلي دنس أرضنا الطاهرة واغتصبها .. وأطلق علينا صفة الإرهاب .
قالت آية بثقة :
- ستفعل .. لأننا أثبتنا للعالم أننا أقوياء بأيماننا وصبرنا .. أقوياء بأطفالنا الذين لا
يخافون الموت .. لذلك سيأتي يوم وننتصر فيه إنشاء الله .
افتر ثغر رأفت عن ابتسامة ساخرة .. ثم قال :
- أي نصر يا آية .. إننا شعب سلبت منه كل حقوقه .. حتى حق المقاومة .
ظلت آية صامتة .. في حين دخول يوسف إلى الحجرة .. فأردف رأفت بعصبية :
- إن ما أستغربه كيف لا يرى العالم ما نعانيه .. لقد سمعت اليوم في نشرة الأخبار
الرئيس الأمريكي يقول : ( إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ) .. ممن ؟؟ من
طفل بريء يرمي بحجرة نحو دبابة مدججة بالسلاح ؟!..
تدخل يوسف قائلا بتحدي :
- لابد سيأتي اليوم الذي تتحول فيه الحجارة إلى قنابل .
أجابه رأفت :
- وأين سنكون نحن من هذا اليوم ؟.. إنني أعرف أنها ستظل معركة غير متكافئة
ولكني بالمقابل مستعد أن أهدر دمي لأحدث ابسط تغير .
قال يوسف مؤيدا لكلام أخيه :
- مؤكد سنحدث تغيرا .. إن الحجرة التي يرميها طفلنا تزلزل قلوبهم الجبانة .
نظرت إليهما آية وعلى شفتاها ابتسامة حب ثم مررت أناملها بين خصلات شعر رأفت قائلة :
- أسمعت ما قاله أخوك الصغير ؟ لتتأكد يا رأفت أن لنا رب عادل سيثبتنا على الحق .
صمت الأخوان .. فقالت لهما آية :
- تصبحان على خير .. ولا تطيلا السهر .
- وأنت من أهل الخير .
اتجهت آية إلى غرفتها وقبلت جدتها بفكر شارد .. يزدحم بنقاش ولدي خالها ..
لقد تحرك بداخلها ما تحاول دائما تجاهله .. وهو الإحساس بالحقد ..
الحقد على من حرمها أباها قبل أن تولد ..
وحرمها حنان أمها قبل أن تعي الحياة ..
إنها تتألم كل يوم عندما ترى مزيدا من المجازر على أرضها ..
وتتألم أكثر عندما يزيد الحقد بداخلها فهي أرق من تلك الأحاسيس ..
ولكن الصهاينة قتلوا كل إحساس جميل بداخلها ..
فهي تشاهد كل من حولها وهم يعيشون حياة مرهونة بطلقة من فوهة بندقية هوجاء ..
ترى الأم تودع أولادها كل يوم وهي لا تعلم من سيعود ومن سيودعها للأبد !!!
وهي تفكر دائما بولدي خالها .. كم تحبهما وتفزع لتخيلها اليوم الذي تفرقهما فيه لأي سبب كان ......

استقبلت آية صباح يوم جديد .. على صوت خالتها توقظ الأولاد مثل كل يوم ..
وابتسمت وهي تتذكر وعيد خالتها بالأمس بألا توقظ أحد ..
خرجت آية من المنزل بعد تناول إفطارها ومرت على شذى فوجدت أباها خارجا من الباب ليذهب إلى المستشفى ..
قالت آية مبتسمة :
- صباح الخير يا خال كمال .
هز الخال رأسه فرحا عندما رأى آية ممسكة الأوفر كوت الأبيض بيدها .. وقال :
- صباح الخير يا دكتورة المستقبل .. خلاص يا آية من اليوم أعينك مساعدة لي إلى أن تتخرجي وتصبحي أفضل مني .
- أشكرك يا خال كمال .. وإنشاء الله أكون عند حسن ظنكم .
- أنت كذلك .. ونصيحة مني كلما وجدتي وقت فراغ تعالي إليّ في المستشفى فتعاملك مع المرضى سيفيدك أكثر في دراستك .
- إنشاء الله .
خرجت شذى مهرولة من المنزل .. ودّعت والدها وسحبت آية من يدها قائلة :
- كفاك ثرثرة لدينا محاضرات سنتأخر عنها .
وفي طريقهما وجدتا رأفت وشقيق شذى هيثم فسارتا معهما .. نظر رأفت إلى شذى وعيناه ملئهما الحب .. وبدأ يسألها عن دراستها .. قائلا :
- كيف حال المهندسة شذى .. هل مازلت تحلمين بأن تبني أكبر برج في العالم ؟.
- نعم مازلت .. أليس من حقنا أن نحلم ؟.
قاطعها هيثم مازحا :
- وهل تستطيعين غير ذلك ؟.
ردت عليه آية موبخة :
- لا تحطمها يا هيثم .
تدخل رأفت قائلا :
- إن ما يعجبني بشذى أحلامها الكبيرة .. فكلما كبرت الأحلام كلما تمسكنا بها أكثر .
ابتسمت شذى ..
قالت آية مستفسرة :
- كيف حال الصحافة يا هيثم ؟.
- إنها أهم سنة في حياتي فهي الأخيرة .
- وماذا تنوي أن تفعل بعد التخرج ؟.
- أنوي الكثير .. ولكن تظل الأمنية الأولى أن نصبح بلد حر يعترف بحق الإنسان قبل
حق الكلمة .
تدخل رأفت قائلا :
- صحيح يا هيثم .. هل فكرت في مشروع التخرج ؟.
- أنا xxxxx بعض الشيء .. ولكني أعتقد أنني سأقدم موضوع ( اليهود النازيين ) ..
قالت شذى متسائلة :
- اليهود النازيين ؟..
أجاب هيثم بحماسة :
- إنه يناقش التعذيب النازي لليهود والذي استدروا به عطف العالم لسنين .. ويكشف على لسان مؤرخيهم أنهم استغلوا ذلك ليصبح عذرا يسمح لهم باحتلال فلسطين .
قالت آية بإعجاب :
- إنه موضوع رائع .. وسيثير الكثير من الجدل .
أضاف رأفت قائلا :
- وستضمن به الإمتياز .. إنشاء الله .
ردت عليه شذى :
- وسينظم إلى أمي في صفوف المحاربين بالأقلام ...
ابتسم رأفت .. وبدأ الحديث يجمعه بشذى .. ثم تشترك فيه آية وهيثم .. ليعود ويجمعه بشذى .. إلى أن وصلوا إلى الجامعة ليفترق كل واحد منهم إلى كليته .. ولكن ظلت عينا أية ترمق ابن خالها بحنان ..
كانت كلمات رأفت بالأمس مازالت تصرخ بداخلها .. فهو محق في كل كلمة قالها ..
وكل كلمه لم يبح بها ..
والتي تدركها آية بإحساس الأخت المحبة ..
إنها تدرك تلك الأحاسيس التي يكنها لصديقة عمرها شذى .. والتي يروضها بداخله ..
لأنه مثلما قال كشاب فلسطيني محروم حتى من الحب ..
إن رأفت بالرغم من مرحه الدائم إلا أنه يحمل أفكار اكبر من سنه ..
وآية تحس به يتجاهل مشاعره لأنه لا يجد لها منفذ طبيعي مثل أي شاب ..
فأطفال فلسطين قبل شبابها وهبوا أعمارهم رخيصة من أجل القضية ..
فكيف يعد فتاة بالحب .. وبأن يعيشا العمر سويا وهو لا يملك عمره ..
إنها تتفهم تفكيره هذا لأنها تفكر بمثل طريقته ..
وتحس بأنهم عاجزين عن كل شيء .. ماعدا أن يحيوا من اجل الوطن ..
دخلت آية الفصل وهي تحس ببعض الألفة عن يوم أمس وبدأت تفكر بعرض الدكتور كمال لها .. إنها تستطيع أن تعمل في المستشفى وتدرس وبذلك ستكتسب خبرة وتقدم العون للمرضى والمصابين ..
فتكون قد وضعت قدمها على أول الطريق ..
طريق البداية ..
بداية نضالها .. مع شعبها الجريح ..


رابط تحميل الرواية كاملة على ال mediafire
محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي
محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي


رابط ثانى على ال 4hared
محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي
محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي



التعديل الأخير تم بواسطة هبة ; 04-07-11 الساعة 12:13 AM
*my faith* غير متواجد حالياً  
التوقيع




رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 05:42 PM   #3

*my faith*

نجم روايتي وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية *my faith*

? العضوٌ??? » 170482
?  التسِجيلٌ » Feb 2010
? مشَارَ?اتْي » 8,920
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Yemen
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » *my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute
افتراضي

منتظره ردودكم على احر من الجمر فلا تبخلوا عليا حتى بالانتقادات البناءه ... واذا ما اعجبتكم الروايه انشاء الله بعرض بقيه الفصول

*my faith* غير متواجد حالياً  
التوقيع




رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 06:51 PM   #4

فاطمة كرم

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية فاطمة كرم

? العضوٌ??? » 103308
?  التسِجيلٌ » Nov 2009
? مشَارَ?اتْي » 18,261
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond repute
B11

my faith اهلا بيكى حبيبتى ومنوره بروايتك اعجبنى موضوعها جداااا
لان فلسطين حبى وجرح غائر فى قلب كل مسلم لن يندمل الا بعودة
الاقصى وتطهيره من دنس اليهود الغاصبين
((
بداية انا هناديكى ايمان لو تسمحى
((
نيجى لروايتك جميله بالنسبه لاول مره بدايه مبشره جدا احييكى عليها واستمرى
((
شخصيات الابطال رائعه فيهم ايمان وحماس وعزيمة ولكن بنفس الوقت احساس
بعدم الامان والاستقرار لانهم ابتلوا بالمحنه دى وهى من الاصل محنة كل مسم
((
فى اعتراض بسيط يكاد يكون غير ملحوظ (اية) بطلة روايتك انتِ ذكرتى انها محجبه
مفيش واحده محجبه يا ايمان هتمرر اصابعها فى شعر ابن خالها لانه ليس من محارمها
حتى لو كان كل اللى بينهم مشاعر اخوه
((
يارب اكون مش كترت عليكى دمتِ اختى بامان الله
وبانتظار باقى الفصول


فاطمة كرم غير متواجد حالياً  
التوقيع


لقراءة أعمالي (روايات- قصص- مقالات- جوابات :D ) انقر هنــــا
رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 07:58 PM   #5

*my faith*

نجم روايتي وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية *my faith*

? العضوٌ??? » 170482
?  التسِجيلٌ » Feb 2010
? مشَارَ?اتْي » 8,920
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Yemen
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » *my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute
افتراضي

f- troy 2010 اولا تسلمي حبيبتي على ردك اللطيف وكمان لانك اول من رد على روايتي
واحب اقول لك انا انا كمان مثلك اتالم كثير للي يحصل باراضينا المقدسه وبالاستسلام العربي الغير مبرر
وبالنسبه لاسمي يشرفني طبعا انك تناديني ايمان وفي الحقيقه هذا هو اسمي الحقيقي
واخيرا اشكرك على الملحوظه اللي اضفتيها .. بس يمكن انا حبيت ابين مدى قوه العلاقه الاخويه بين ايه واولاد خالها .. بس بالنهايه برضه كلامك هو الصحيح
تسلمي حبيبتي


*my faith* غير متواجد حالياً  
التوقيع




رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 08:14 PM   #6

*my faith*

نجم روايتي وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية *my faith*

? العضوٌ??? » 170482
?  التسِجيلٌ » Feb 2010
? مشَارَ?اتْي » 8,920
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Yemen
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » *my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute*my faith* has a reputation beyond repute
افتراضي

(2)
هل من مجيب ؟!!


خرج يوسف من غرفته متسللا إلى المطبخ .. فوجد أمه تعد شاي ما بعد الغذاء لوالده .. وقف يوسف خلف أمه ثم احتضنها وقبلها قائلا :
- كيف حالك يا أجمل وأحن أم في الدنيا .
وقفت آية ضاحكة تنظر إلى يوسف وهو يداعب أمه ..
قالت الأم وهي تحاول أن تخفي ابتسامتها عنه :
- ادخل بالموضوع يا يوسف .
قال يوسف وهو يدعي البراءة :
- أي موضوع يا أمي .. ألا يحق لي أن أمازح أمي متى ما أردت ؟!.
نظرت إليه الأم بأعين فاحصة ثم قالت :
- يحق لك .. ولكن كل مزحة ألقاها منك تنتهي بتلبية طلب جديد لك .
قال يوسف وهو يحاول أن يستدر عطف أمه بملامحه الطفوليه :
- أنت تعلمين يا أمي أنني لا أريد سوى شيء واحد فقط .
قالت الأم مستفسرة :
- وما هو هذا الشيء ؟.
أجاب يوسف ببساطة :
- الكاميرا .
قالت الأم زاجرة :
- ألا تمل ؟ .. شهور وأنت ترجونا أن نشتريها لك .
قال يوسف ملحا :
- والله يا أمي إذا اشتريتموها لي لن اطلب منكم شيء إلى الأبد .
قالت آية ضاحكة :
- وكأنها ستصدقك .
ردت الخالة منى :
- حتى وإن صدقته ليس بيدي شيء أقدمه له .
ثم وجهت كلامها ليوسف قائلة :
- إن أباك في الصالة اذهب وتحدث معه .
أجاب يوسف :
- سأتحدث معه .. ولكنني أريدك أن تأتي لتهدئي الموقف .
ثم نظر إلى آية وقال :
- وأنت أيضا يا آية .. إن لك تأثيرك الخاص على أبي .
تبادل الثلاثة النظرات .. ثم هزت الخالة رأسها موافقة قائلة :
- حسنا .. لنرى آخر جنونك يا يوسف .
كشفت ابتسامة يوسف الواسعة عن أسنانه البيضاء .. وعن الفرحة المتراقصة بداخله .. فخطف صينية الشاي من يدي آية واتجه إلى الصالة وهما خلفه .. قدم يوسف الشاي لوالده ثم جلس بالقرب منه .
تناول الخال كوب الشاي وبدأ يرشف منه أول رشفة .. وهو ينظر بريبة إلى أسرته الملتفة حوله .. ثم لمح الفرحة تلمع في عيني يوسف .. فقال :
- قل ما عندك يا يوسف .
انكمشت ابتسامة يوسف وضرب فخده بقبضة يده قائلا :
- لم تسيئون الظن بي دائما ؟.
قالت آية وهي لا تتمالك نفسها من الضحك :
- الحقيقة أنهم يفهمونك جيدا .. أيها المكشوف .
قال يوسف وهو يشير لآية بعينيه :
- ماذا اتفقنا يا آية ؟
وضعت آية يديها فوق فمها وقالت :
- لن انطق بكلمة بعد الآن .
اعتدل يوسف في جلسته .. ثم وجه حديثه لوالده بكثير من الرهبة :
- أريد أن اطلب منك طلب يا أبي ولكن بالله عليك لا ترفضه .
قال الأب في برود :
- خير .
قال يوسف متحمسا :
- أريدك أن تشتري لي تلك الكاميرا .
قال الأب محتدا :
- ما قصة هذه الكاميرا التي أضاعت عقلك .
أجاب يوسف مبررا :
- افهمني يا أبي إنني أريدها لعمل مهم لن استطيع شرحه لك .
- يوسف .. أغلق الموضوع واهتم بدروسك فهي الأهم .
- لكن يا أبي ...
قاطعه والده وهو يضع كوب الشاي على الطاولة بعصبية قائلا :
- وهذا الشاي .. لا أريده ..
ثم وقف قائلا بصوت مرتفع :
- أنا لا أريد نقاش في هذا الموضوع .. إن الناس لا يجدون أساسيات الحياة وأنت
تبحث عن الرفاهية .. ألا تحس بما يحدث حولك .. إننا نعيش على هذه الأرض
أمواتا دون مقابر ..
استمر الوالد في ثورته وهو متجه إلى باب الدار .. ثم خرج وصفعه ورائه بقوة .
خيم الصمت لبرهة .. ثم قطعته الخالة قائلة :
- هل ارتحت الآن يا أستاذ يوسف .. لقد عكرت مزاج والدك .
قالت الجدة مهدئة :
- اتركيه يا منى يا ابنتي .. إنه لا يزال طفلا .. غدا سيكبر وسيجعلكما تفخران به .
قام يوسف بعصبية وملامحه توحي بالاستياء واتجه إلى غرفته .. ثم تبعته آية فوجدته يجلس على سريره ويفتح كتابا دراسيا ثبت عينيه على صفحاته .
جلست آية بجانبه وقالت مواسية :
- لا تغضب يا يوسف .. أنت تعرف مزاج خالي المتقلب .. وتدرك أنه يعاني في عمله ليوفر لنا حياة كريمة .
قال يوسف وعيناه مليئة بالدموع :
- أنا لم أخطئ يا آية .. كان باستطاعته أن يرفض دون أن يصرخ في وجهي .
قالت آية مبتسمة وهي تربت على كتفه :
- مؤكد لم يقصد .. ولكنه ككثير من أبناء جيله يشعر بالعجز إزاء أوضاعنا التي تسوء يوما بعد يوم .
دخل رأفت الى البيت واتجه إلى غرفته ليجد آية بجانب يوسف متجهم الوجه .. والصمت مخيم على الغرفة ..
قال رأفت مستغربا :
- ماذا بكم يا شباب ؟.. كأنكم شيعتم شهيدا .
ردت آية مفسرة :
- لقد فتح يوسف مع خالي موضوع الكاميرا فاحتد عليه بعض الشيء .
قال رأفت موجها كلامه ليوسف وقد ظهرت على ملامحه علامات الاندهاش :
- ما حكاية تعلقك بهذه الكاميرا ؟!.
أجاب يوسف :
- بالله عليك اتركني في حالي يا رأفت .
تقدم رأفت من أخيه وجلس بجانبه ثم حضنه بذراعه قائلا :
- ماذا بك يا يوسف إن لك أياما وأنت متغير .. وأنا أعرفك عندما يسيطر شيء على
تفكيرك .
قال يوسف وفي وجهه ملامح الرجولة :
- أنا أريد اقتناء الكاميرا لأن برأسي أفكار أريد تحقيقها .. يصعب علي شرحها .. وانتم دوما تعاملونني كأنني طفل أسعى وراء لعبة .
قالت آية بحنان :
- لا تقل مثل هذا الكلام .. لأنك رجل في نظرنا جميعا .
قال يوسف ساخرا :
- بدليل صراخ والدي علي .
أجابت آية مبررة :
- إن خالي أحن إنسان وأنت تدرك أنه سيأتي في المساء و يصالحك .
قال رأفت مازحا :
- يا أخي يكفيك أن تكون كبيرا في نظر براءة .
افتر ثغر يوسف عن ابتسامه خجولة .. فوكزه رأفت زاجرا :
- ابتسم يا أخي ودع الموضوع لي .. أنا سأقنع أبي .
قالت آية مؤمنة على كلام رأفت :
- نعم ابتسم .. وإلا جعلناك تبتسم بالقوة .
ظل يوسف عابسا .. فأشارت آية إلى رأفت بعينيها .. وتعاون الاثنان على دغدغه يوسف في خصره .. فانفجر ضاحكا وهو يحاول التخلص منهما .. في تلك الأثناء طرق باب المنزل وكانت جارتهم مها وابنتها براءة ..
دخلت مها محيية الخالة والجدة قائلة :
- كنا في الكنيسة أنا وبراءة فأصرت أن تزوركم .
قالت الجدة مرحبة بالجارة اللطيفة :
- أهلا وسهلا يا بنتي .
أردفت الخالة منى وهي تقبل براءة :
- لقد أصبحنا لا نحتمل يوم يمر دون رؤية ملاكنا الصغير .
اتجهت براءة مسرعة إلى غرفة الأولاد باحثة عن يوسف ومتتبعه لصوت الضحك المنبعث من الغرفة .. وعندما رأت آية ورأفت منكبان على يوسف يدغدغانه .. ضحكت وألقت بجسدها الصغير فوقهما قائلة بمرح :
- دعاه .. إنه واحد وأنتما اثنان .
أجابها رأفت :
- الآن أصبحنا اثنان ضد اثنان .
وأمسك ببراءة ليدغدغها .. وبدأت معركة الوسائد بين الأربعة ثم أتت الخالة منى تتبعها مها على اثر الصراخ والضحك المنبعث من الحجرة .. قالت الخالة مبتسمة :
- وكأنني أرى أطفالا في عمر براءة .
توقف الشباب عن لهوهم وتوجهت أية إلى مها لتسلم عليها .. ثم رحب بها الولدان .. وسألها رأفت :
- هل مازال الخال نضال غائبا عن المنزل ؟.
أجابت مها وعلى وجهها ملامح الاشتياق لزوجها الغائب :
- نعم يا رأفت .. فعمله دائما ما يحتاج إليه في تدريب الملتحقين الجدد بالجيش .
قالت الخالة وهي تربت على كتف مها بحنان :
- إنشاء الله سيعود إليك سالما .
وقال يوسف بصدق :
- إننا في خدمتك في أي وقت .. وبراءة مثل اختنا الصغيرة .
ابتسمت مها وهي خارجة من الغرفة متجهة إلى الصالة بصحبة الخالة .
اجلس يوسف براءة على قدميه .. وقالت له بحماسة الأطفال :
- أرأيت كيف حميتك منهما ؟.
ضحكت أية قائلة :
- لقد فزنا عليكما أنتما الاثنان .
قالت براءة وقد عقدت حاجباها :
- لا أحد يستطيع الفوز على يوسف .. إنه أقوي ولد في العالم .
ابتسم رأفت قائلا :
- ألم أقل لك أنك كبير في نظر براءة ؟.
قال يوسف لبراءة :
- كيف كان يومك في الروضة ؟.
- كان رائعا .. لقد لعبنا وتعلمنا ثم لعبنا .
- ماذا تعلمتم اليوم ؟.
- تعلمنا إشارات المرور متى يجب أن نسير ومتى يجب أن نقف .
- وهل حفظتي الإشارات .
قالت براءة وهي تقف في وسط الغرفة بحماس :
- نعم .. يجب عليك عندما تقطع الطريق أن تنظر يمينا وشمالا .
أجابت آية :
- وماذا أيضا .
قالت براءة بثقة :
- و إذا وجدت الإشارة خضراء يمكنك أن تسير وإذا وجدتها حمراء يجب عليك أن تقف .
صفق رأفت لبراءة قائلا :
- أحسنت يا براءة .. غدا ستكبرين لتصبحي طبيبة أو مهندسة .
نظرت براءة إلى يوسف متسائلة :
- ماذا تريد أن تصبح يا يوسف ؟.
قال يوسف :
- أريد أن أصبح محاميا .
قالت براءة بنفس لهجة يوسف الواثقة :
- وأنا أيضا سأصبح محامية .
لم تتحمل أية مدى خفة روح براءة فاقتربت منها تقبلها قائلة :
- ستكونين أجمل محامية .
بعد فترة أتت مها تستعجل براءة لتعودا إلى البيت .. ولكن براءة أصرت أن تبقى مع الأولاد .. فتدخل يوسف قائلا :
- اتركيها تلعب بجانبنا وإذا ما مللت سأعيدها إلى البيت .
- إنها لن تمل .. وأنا أخاف أن تزعجكم وانتم تدرسون .
تدخلت الخالة منى قائلة :
- ليس هنالك إزعاج فهي تجلس بجانب الأولاد وتلعب بهدوء .
قالت آية :
- دعيها فهي تحب الجو الأخوي الذي تجده هنا .
قال يوسف متباهيا أمام آية :
- بل تحبني أنا .
نطت براءة قائلة بفرح :
- نعم .. أنا أحب يوسف .
ضحك الجميع واستسلمت مها وعادت وحيدة إلى البيت .. أخرجت آية صندوق ألعاب براءة الذي ساهم الجميع في شراء محتوياته .. وجلست براءة تلعب بألعابها وتذهب إلى يوسف بين الحين والآخر لتريه لعبتها أو لتروي له ما حدث لها خلال يومها .
بعد تناول براءة لطعام العشاء غلبها النعاس فحملها يوسف عائدا بها إلى بيتها .. طرق يوسف الباب .. وفي تلك الأثناء سمع خطوات تأتي خلفه .. التفت ليجد والد
براءة نضال في الوقت الذي فتحت به مها بابها .. فتفاجأت برؤية زوجها العائد فاحتضنته قائلة وهي تغالب دموعها :
- لقد وحشتني كثيرا .
ربت نضال كتف زوجته ثم قبلها فوق رأسها .. وكان يوسف مازال يحمل براءة على
كتفه وبين شفتيه ابتسامة خجولة .. سلم نضال على يوسف وحمل ابنته واخذ يقبلها في كل أنحاء وجهها وهي مستغرقة في نوم عميق كالملاك ..
عاد يوسف إلى المنزل وهو يفكر بالحب الذي يجمع هذه الأسرة الصغيرة ..
ومدى الألفة التي تجمعهم بهم .. على الرغم من اختلاف الأديان إلا أنه لم يسبب أي
وجه خلاف بين الأسرتين .. حتى أن مها كانت دائما ما تدخل بيتهم لتجد براءة مرتدية الحجاب ومنتصبة بجانب يوسف لتقلد حركاته وهو يصلي .. ولم تكن تزجرها أو تبدي استياءها ..
وهذا ما جعل يوسف يدرك أن صراعهم مع اليهود ليس صراع أديان ولكنه صراع
أفكار فهم أناس يسيطر عليهم الإحساس بأنهم أبناء الله .. وان دونهم من البشر مجرد بهائم خلقوا لخدمتهم ..
دخل يوسف إلى البيت وكان الخال عز الدين قد وصل .. وقبل أن يتجه نحو غرفته استوقفته تلك الابتسامات التي تنطلق من شفاه الجميع وهم يرمقون يوسف .
تساءل يوسف :
- لماذا تبتسمون ؟.
تكلم الوالد قائلا :
- اجلس يا يوسف بجانبي .
جلس يوسف بجانب والده متعجبا .. قال الوالد :
- أمازلت غاضبا مني ؟.
قال يوسف محاولا تبرير موقفه :
- أنا لا استطيع أن اغضب منك .. ولكني استأت من صراخك علي .. فأنا لم اعد طفلا يا أبي .
قال الوالد وهو يبحث عن شيء بداخل كيس :
- ولأنك لم تعد طفلا .. أحضرت لك هذه .
اخرج الوالد علبة من الكيس وقدمها لابنه .. أمسك يوسف العلبة بين يديه وعلى وجهه علامات استفهام .. ثم فتحها ليجد بداخلها كاميرا رفع يوسف حاجبيه إلى أعلى .. واخذ يقفز في جميع أرجاء المنزل وفرحة صادقة بادية في ملامحه .. ثم تقدم من أباه واحتضنه بقوة قائلا :
- أشكرك جدا يا أبي .
ابتسم الأب لفرحة ابنه .. بعدما هدأ يوسف .. وقال مستفسرا أباه :
- كيف حصلت عليها ؟.
أجاب الوالد :
- لقد جاء صديق لي يطلب مني أن أجد له من يشتريها منه .. لأنه محتاج لنقودها ..
ففكرت أنها مؤكد من نصيبك .
ابتسم يوسف وعادت الفرحة تزغرد في عينيه وهو ينظر إلى الكاميرا وكأنها كنز ثمين بين يديه ..
قالت الأم والهدوء يرتسم عليها :
- لقد أرحتنا من إزعاجه .

في صباح اليوم التالي أفاق يوسف نشيطا على غير المعتاد .. وقبل أن توقظه أمه .. وضع الكاميرا في حقيبته المدرسية .. واخبر الجميع على الإفطار أنه سيتأخر بعد الدوام الدراسي .. فهو ذاهب في مشوار مهم مع صديقه محمد ..
عاد الجميع إلى المنزل لتناول طعام الغذاء .. وجاء العصر .. يليه المغرب ..
يتبعه العشاء ويوسف لم يعد للبيت .. وبداء القلق يتسلل إلى القلوب .
قالت الجدة سائلة لآية :
- هل اتصل أخاك يا آية ؟.
ردت آية في حيرة :
- لا يا جدتي ..
قالت الأم وهي تحوم في أرجاء الحجرة :
- مؤكد أنه سيدفعني للجنون .. ليس هنالك أي مبرر لغيبته هذه .
دخل رأفت إلى البيت ليرى الوجوه القلقة فقال مندهشا :
- الم يعد يوسف حتى الآن ؟.
هزت آية رأسها بالنفي .. وقبل أن يهم رأفت بالبحث عن أخاه .. سمعوا باب الدار يفتح .. تعلقت العيون على الباب .. ولكنهم وجدوا الخال عز الدين .. استغرب الخال من طريقه تجمعهم وعدم وجود يوسف بينهم فقال :
- أين يوسف ؟.
ازداد خوف الأم وبدأت الدموع تنهمر من مقلتيها .. وأجاب رأفت والده :
- لم يعد منذ الصباح .
عقد الأب حاجبيه متسائلا :
- ألم يحضر منذ الصباح ؟.
وقبل أن يجيبه أحد سمعت العائلة وقع أقدام تقترب من باب المنزل .. فأسرع رأفت فاتحا الباب .. ليجد يوسف أمامه .. صرخ رأفت في وجهه :
- أين كنت حتى الآن ؟.
ولم ينطق يوسف ببنت شفه .. لأن أمه ركضت نحوه .. لتحتضنه بحنان وهي توبخه قائلة :
- كيف استطعت أن تخيفني عليك ؟.. كنت سأموت قلقا .
تساءل الأب في حزم :
- ما الذي أخرك يا يوسف ؟.
دخل يوسف إلى البيت وأغلق الباب خلفه بهدوء وقال مفسرا :
- أنا أسف لأنني سببت لكم كل هذا الإزعاج .. ولكني كلمتكم في الصباح إنني ذاهب في مشوار مهم .
قال الوالد محتدا :
- أي مشوار هذا ؟.
أجاب يوسف بصوت متئد وكأنه كبر مئة عام في يوم واحد :
- لا تستعجل في الحكم يا أبي .. تعالوا معي لأريكم أين كنت .
توجه يوسف إلى غرفته وفتح الكمبيوتر وشبكه بالكاميرا التي حصل عليها
بالأمس .. دخل الأب والأم ورأفت .. تتبعهما الجدة تسندها آية .. ليجدون يوسف
يستعرض لهم مجموعة من الصور التي التقطها ..
صور لخيمة مهترئة تصل بين جدارين وبجانب الخيمة مكب للنفايات ..
وأخرى لما بداخل الخيمة .. ركن يحوي أدوات مطبخ .. وببقيتها كرسي وسرير متهالكين ..
وهنالك صور لسكان الخيمة رجل يشير إلى تلفاز بداخل الخيمة ..
وامرأتان ومجموعه فتيات يرتدين الحجاب أحداهن تجلس على موقد من الحطب ..
وأطفال تغطيهم الأمراض الجلدية ..
وطفل أخر يركض نحو الخيمة وثيابه مبتلة ..
وشاب يذاكر على ضوء الشموع ..
والكثير من الصور التي تهيج المشاعر وتثير الأحاسيس .. أكمل يوسف استعراض الصور ودار بجسده مواجها عائلته المصعوقة .. وهو ما زال جالسا على الكرسي .. خيم صمت طويل على كل أفراد الأسرة .. كل يفكر في هول ما رآه ..
وكيفية حصول يوسف على مثل هذه الصور .. قطع يوسف الصمت قائلا :
- لقد ذهبت اليوم إلى مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة بصحبة صديقي محمد .. والتقطت هذه الصور .
تساءل الأب وعيناه شاردتان :
- هل كنت تعلم أنك ستجد ما أريتنا إياه ؟.
- نعم .. لقد حدثني زميلي في المدرسة عن هذه الأسرة وغيرها الكثير من الأسر .
قالت آية بصوت منخفض :
- ألهذا كنت تريد الحصول على الكاميرا ؟.
أجاب يوسف :
- اجل .. لكي اظهر للعالم أننا نعاني كل يوم والمعاناة لا تقتصر على الاحتلال والرصاص ولكنها أيضا معاناة مع الفقر والحياة الوضيعة .
تساءلت الجدة في شفقة :
- ومن هؤلاء الذين صورتهم يا يوسف ؟.
رد يوسف بأسى :
- إنهم عائلة فلسطينية يا جدتي .. تعيش في خيمة نصبها رب الأسرة ما بين جدار مستشفى وملعب .. وكثيرا ما سقطت الحجارة التي تثبت الخيمة وكادت أن تجرح أحد أطفاله .. وبجانبهم مكب نفايات يشاركهم سكنهم بالإضافة إلى الفئران والزواحف والحشرات التي تشعرك بأنها جزء من تلك الأسرة .
قالت الأم والألم يعتصرها :
- لهذا أصيب الأطفال بتلك الأمراض الجلدية .
- نعم يا أمي .. إنهم معدمون .. وأمانيهم تتمحور بأن يعيشوا حياة كريمة تحفظ
أدميتهم .. فهم لا يملكون شيء حتى الحمام .. يحفرون حفرا في الأرض ويدفنوها
بعد قضاء حاجتهم .. وتظل النساء محجبات دائما من عيون المارة التي تختلس
النظر .. أما الأطفال فإذا أرادوا الاستحمام يلجئون إلى حمامات المدرسة المجاورة ..
ولكنهم يلقون أصناف الإهانه من طلابها ..
تساءل رأفت :
- وما حكاية ذلك التلفاز ؟.
- إنهم يشبكونه بسلك كهربائي ممتد من الملعب المجاور ليكونوا على علم بما يدور حولهم .. مع أنهم أسوء حالا .. إن هذه الأسرة مكونه من خمسة عشر شخصا .. الأب وزوجتان وعشرة أطفال .. إضافة إلى ابنا أخ الأب اليتيمان واللذان يعولهما منذ زمن .
أردف الأب باستياء :
- لقد أصبح الفقر كالسرطان ينتشر في جسد الأسر الفلسطينية .. ولكن من يحس
بألمنا .
سأل رأفت أخاه والأفكار تحتشد في رأسه :
- وماذا تنوي أن تفعل ؟.
أجاب يوسف ورأسه منحني يهتز يمينا وشمالا في حيرة :
- لا اعرف .. ولكني أريد أن أوصل هذه الصور لأكبر عدد من الناس .
قال رأفت ببساطة :
- انشرها بالنت .
رفع يوسف رأسه متفاجئا وكأنه أخيرا وجد حلا مناسبا ثم قال :
- كيف ؟.
- سأصمم لك موقع تستطيع أن تنشر من خلاله هذه الصور والمزيد منها ويمكنك أيضا أن تكتب تعليقات عنها .. أو اذهب إلى هيثم ليساعدك في صياغة أحداث كل صورة .. بالإضافة إلى عمل مساحة حوار يتناقش فيها زوار موقعك ..
قال الوالد وهو ينظر لولداه في فخر :
- إنها فكره ممتازة .
وقبل أن يهم الوالد بالخروج .. وقف يتأمل يوسف وهو لا يصدق أنه يرى ولده الصغير قد أضحى رجلا يحمل ألآم وطنه .. قبله الوالد فوق رأسه قائلا بتأثر :
- بارك الله فيك يا بني .. وليجعل الله عزة هذه البلد في شباب مثلكم .
أمّن الجميع على دعاء الأب .. وبعد خروجه من الغرفة لحقت به الأم والجدة .. ولكن آية بقيت تتفحص ابن خالها يوسف بعينين مرهفتين .. فهي تحس بأنه يكابد نيرانا تشتعل بداخله .. سحبت آية كرسيا وجلست بجانبه قائلة :
- ما بك يا يوسف ؟.
شردت عينا يوسف وكأنه يركض وراء خيط رفيع من الأمل يوشك أن يفقده :
- كثير علي ما رايته اليوم يا آية .. لقد تأثرتم بصور ولكني عشت الواقع .
وقف رأفت ينظر في صمت إليهما .. أجابت آية :
- أنا أدرك مدى ألمك .. ولكن ليس بيدنا شيء نقدمه لهم .. أكثر مما ستفعل أنت .
بدأت الدموع تترقرق في ضعف من عينا يوسف وهو يقول :
- لقد كان بينهم شاب في مثل عمري يحاول أن يذاكر على ضوء الشموع بعد ما خيم الظلام .. أليس من حقه أن يعيش حياة مثلي .. أليس من حقي أنا أن أحيا كأي شاب دون خوف بعيدا عن الألم .
لم تستطع آية الإجابة فقد خنقتها العبرات .. لتصاحب دموعها دموع يوسف المنكسرة .. تقدم رأفت من أخاه وأوقفه أمامه ممسكا رأس يوسف بكفيه قائلا :
- لا تبكي يا يوسف .. إنك رجل .. ولقد بدأت اليوم مشوار الأحرار .. فأنت تسير في طريق مستقيم .. ففخر بنفسك يا أخي .
احتضن يوسف أخاه وافرغ على كتفه دموع معاناته .. وجففت آية دموعها بيديها ثم وقفت وقبلت يوسف على خده .. وتركت الولدان متجهه إلى غرفتها ..
لقد كشف لها يوسف من خلال تجربته هذه عن شخصيه جديدة لديه ..
كشف عن جرأته ورقة مشاعره ..
واظهر الجرح القديم الذي ينزف في فلسطين دون علم الكثيرين ..
صوّر المعاناة التي تعتصر أهلها ..
وزرع حقد جديد في صدر آية على الصهاينة ..
ولكن أكثر ما تخشاه آية ..
أن صوَره قد لا تجد صدى لصرخاتها ..
فكم هي تلك الأذان المدعية الصمم ..
لذلك يحوم السؤال في خيال آية ..
يا ترى هل من مجيب ؟!!.


*my faith* غير متواجد حالياً  
التوقيع




رد مع اقتباس
قديم 17-02-10, 09:49 PM   #7

هبة

روايتي مؤسس ومشرفة سابقة وقاصة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية هبة

? العضوٌ??? » 3455
?  التسِجيلٌ » Mar 2008
? مشَارَ?اتْي » 23,166
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » هبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond repute
افتراضي

أهلاً و سهلاً بك إيمان فى أسرتنا الكبيرة منتدى روايتى ... أتمنى أن تجدى كل ما تبحثى عنه من التشجيع و النقد و المتابعة هنا فى روايتى ...



لا أعرف ماذا أقول فالغصة قد خنقتنى ... و توقفت يداى عن الطباعة ... و لكنى أشجعك على الإستمرار بالكتابة ... رائع ما تخطيه و واقعى بصوة قد لا يتقبلها العقل ... و لكنه الواقع الذى يُعاش ...



إيمان متابعاكى و شكراً لك


هبة غير متواجد حالياً  
التوقيع






اللهم ارحم والدى برحمتك الواسعة ...إنه نزل بك و أنت خير منزول به و أصبح فقيراً إلى رحمتك و أنت غنى عن عذابه ... آته برحمتك رضاك ... و قهِ فتنة القبر و عذابه ... و آته برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين ...

اللهم آمين ...
رد مع اقتباس
قديم 18-02-10, 01:34 AM   #8

فاطمة كرم

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية فاطمة كرم

? العضوٌ??? » 103308
?  التسِجيلٌ » Nov 2009
? مشَارَ?اتْي » 18,261
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond repute
B11

شكرا ايمان على البارت الرائع( اسمى فاطمه)
بالفعل الطفل الفلسطينى يولد برجوله ينافس بها من سبقوه عمرا وخبره
رجوله جائت مبكره فى ظل الخطر والارهاب الدائم الذى يراه يوميا
ففلسطين اصبحت بالنسبه للحكومات الاخت اليتيمه او الارمل
التى يتعطفون عليها بالمعونات بعض الملابس بعض الاطعمه بعض الادويه
بعض العنايه الطبيه ولا ينسى كلا منهم ان يتباهى بها امام شاشات
التلفزيون فالدولة الفلانيه قد اعطتت واعطتت والشعب العلانى
يساند الشعب الفلسطينى فى محنته فبكل غباء قد سقط عمدا
ان تلك المحنه محنتنا جميعا والشعب الفلسطينى يتحملها وحده منذ سنين
((
ايمان بالفعل تتمتعى بلغه حساسه ومشاعر مرهفه ولكن توجد بعض النصائح
التى ارجو ان تاخذيها من اختك لانى بجد اعجبتنى فكرتك
ابطال قصتك كلهم اخلاق جميله لكن اكاد اراهم مبتسمين دائما
هم عائله عربيه ولكنك تجعلى بهم مثاليه مفرطه نوعا ما
مثلا الافلام الابيض والاسود كنا نجد الناس الطيبين دائما ضاحكين باسمين
والشريرن مقطبين عابسين
ايضا القال والقالت فى الروايه ممكن تقل عن كده
يعنى بالبلدى كده كل بطل يكون مع نفسه شويه نعرف مشاعره على حده
بعيد عن الباقى
فكرتك رائعه واسلوبك جميل وهيتقدم كتير وبجد متشوقه لمعرفة الباقى رغم خوفى
من النهايه بس الواقع هيفرض نفسه للاسف اسال الله ان يتغير فى القريب
متبعاكى ايمان حبيبتى بامان الله


فاطمة كرم غير متواجد حالياً  
التوقيع


لقراءة أعمالي (روايات- قصص- مقالات- جوابات :D ) انقر هنــــا
رد مع اقتباس
قديم 18-02-10, 01:45 AM   #9

هشام265
 
الصورة الرمزية هشام265

? العضوٌ??? » 107022
?  التسِجيلٌ » Jan 2010
? مشَارَ?اتْي » 980
?  نُقآطِيْ » هشام265 is a name known to allهشام265 is a name known to allهشام265 is a name known to allهشام265 is a name known to allهشام265 is a name known to allهشام265 is a name known to all
افتراضي

بديع بديع بديع اسمحى اعلق بهذا البيت

روحى اليك بكلها قد اجمعت
لو ان فيك هلاكها ما اقلعت
تبكى عليك بكلها فى كلها
حتى يقال من البكاء تقطعت



اسلوبك بديع فى انتظارك


هشام265 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 18-02-10, 01:54 AM   #10

فاطمة كرم

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية فاطمة كرم

? العضوٌ??? » 103308
?  التسِجيلٌ » Nov 2009
? مشَارَ?اتْي » 18,261
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond reputeفاطمة كرم has a reputation beyond repute
B11

ايمان الكتب دى رائعه هتعجبك كتير قرأتهم من شهر تقريبا
يارب تستفيدى منهم وان شاء الله يكونوا فيهم جديد ليكى حبيبتى
رواية رأيت رام الله لمريد البرغوثى
https://www.4shared.com/file/89717834...rified=17988a7
كلمة السر لفتح الكتاب
tipsclub
رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور
https://www.4shared.com/get/52287980/...1F5EE3FE.dc137
رواية واحة الغروب لهاء طاهر
https://www.4shared.com/file/68775778...nline.html?s=1


فاطمة كرم غير متواجد حالياً  
التوقيع


لقراءة أعمالي (روايات- قصص- مقالات- جوابات :D ) انقر هنــــا
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:26 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.