الفصل الثاني عشر:
عنوان الفصل : حادث...
واقفة بثبات مجنون انتحاري تتأمل السيارات المقبلة... لا يرف لها جفن و كأن كل شيء انفصل عنها... حتى أنها ترى نفسها من الخارج و تحدق ببرودها و ثباتها... و تهنئها عليه!
سيارة خضراء...
نصيبها كان سيارة خضراء مسرعة و السائق يصرخ بكل قوة و قلة حيلة... فرامل، و صوت احتكاك المعادن بالأرض المعبدة...
ملحمة أصوات حادة لا تسمعها الوقفة بل تسمعها هي المراقبة..
ثم فجأة نالت صدمة قوية...
شهقة واحدة خرجت منها و السيارة تضربها بلا مفر...
تطير للأعلى لفترة لا محدودة... ترى كل شيء... ترى السماء بتدرج ألوان غروبها...
ترى كل شيء و كأنها تدرك أنها آخر مرة ستراه بها...
ثم تبدأ مرحلة السقوط...
الأرض الصلبة الخشنة تتلقفها بسرور شامت...
تتدحرج لعدة مرات...
عدتهم... ست مرات و السابعة لم تكملها لأنها ظلت ملقاة على وجهها...
الألم بدأ يغزو مفاصلها...
على الرغم من كل مسكناتها، بدأ الألم يتكوم فيها...
بقعة حمراء لم ترها و لكنها شمتها تمتد و تتسع على الأرض... أصوات بشرية، تقتحم ملحمة حواسها...
لعنات و رجل يقسم أنها كانت تقف بلا وعي في الطريق...
يد متلهفة مجنونة تمتد لتقلبها، لكن صراخ حاد لشاب دخل في المعمعة...
"لا تحركوها... قد تكون مصابة بالعمود الفقري... ربما كُسر... لا تحركوها، فقد تصاب بشلل رباعي إن فعلتم!"
و هنا فقط بدأت تشعر بالرعب!
***
لا تدري كيف مر الوقت...
وقفت معه في الهواء الطلق قبل أن تتحرك المركب التي ستسير ببطء قريباً من الميناء ثم تعود مع منتصف الليل...
من يريد أن يغادر فليغادر بزورق صغير...
اختاروا أن يجلسوا على السطح الخارجي، حيث الهواء البارد للخريف يتلاعب بكل شيء...
لعنت بسرها، أنها ارتدت فستان بكم قصير... طويل حتى كاحليها، لكن قماشه خفيف لا يمنح أي دفئ!
المهم أنها تجاهلت البرد، و الذي لن يحل بأن يخلع سترته ليدفئها بها... لأنه ببساطة لا يرتدي سترة!
فقط قميص بني داكن باللون الذي يحب، طويل الأكمام، مع سروال بنفس اللون...
دعت ربها أن يكون قد ارتدى بلوزة نصف كم تحت قميصه كي يخلع قميصه و يدفئها!!
حمقاء...
مجنونة!!
لا تدري لم تفكيرها ينحرف لأشياء غريبة و هي معه!!
المهم أن الرجل تجاهل الرجفة التي تسير على جسدها و بدأ يطلب... بلؤم شديد، قرر أن يلاعبها...
"آيسكريم بالشوكولاتة... أليس هذا ما تحبينه؟؟"
للحظة تمنت لو تطلب سحلب ليدفئها... لكنها تخيلت وجه النادل و هي تطلبه على هذه المركب السياحية...
لذلك بدون أن تكثر من الكلام...
"كاكاو حار... و بالحليب و الكريمة و اللوز المحمص... كامل الدسم... "
كانت تتحدث بانهيار و هي تعد السعرات الحرارية التي ستتكوم في كأس واحد... لكنها بحاجة فعلا لبعض الدفء!
أما الآخر فكعادته طلب كوب قهوة اسبرسو ثقيلة...
أمالت عنقها لتحدق بالبحر الذي تحول لبركة فاتنة من كل الألوان... تحدق بالشمس التي بدأت تغرب...
تذكرت و هي صغيرة كيف كانت تحاول أن تحدق بشمس الظهيرة دون جدوى... و أخيراً بعدما وجدها والدها تبكي من خبث الشمس أخبرها أن تستغل ضعفها...
و حينما تساءلت عن ما يعنيه دون فهم، أخبرها أن الشمس تكون بأضعف حالتها وقت المغيب...
ساعتها يحق لها أن تحدق بها بقوة، و الشمس لن تحرمها أن ترى هذا البهاء!
"مركب جميل..."
سمعته يبدأ محادثة فقررت أن تجاريه...
"نعم هو كذلك..."
ردت دون اهتمام و كأنها قضت حياتها على المراكب...
"سعيد أنه أعجبك!"
أصبحت شفتيها خط رفيع، و هي تتذكر مرة واحدة اهانته لها..
"في الحقيقة، أنا لا أهتم... مركب جميل أو قبيح... لا أهتم زياد... تريد أن تتحدث... لم لا تقول ما لديك و تنهي الأمر!"
تعالى صوت في داخله يأمره، أن يتصرف ببدائية معها... ربما صفعة و بعدها قبلة... أو العكس!... لا يهم الترتيب، لكنه عدل عن ذلك، و هو يدير عينيه للبحر عله يبتلع كل مرارته، ليكمل ساهماً دون أن يولي كلماتها أي شأن...
"في الحقيقة تمنيت أن أكون صانع مراكب!"
عقدت حاجبيها دون فهم... غضبها تشتت بسرعة و هي لأول مرة تستمع له يتحدث عن نفسه... أكمل بنفس الهدوء...
"تعلمت في باريس على يد أشهر صانعي التخوت السياحية... أحببت الصنعة... أحببتها كثيراً"
ظل صامتاً لوقت طويل، و هي كذلك تنتظره يكمل ما حدث...
أخيراً سألت و قد عيل صبرها...
"و ماذا حدث؟؟"
التفت إليها يحدق بها للحظات، ثم أكمل بهدوء المرغم على الرضا بقضائه و قدره...
"ما حدث انني لم أنل ما أريد... فقط حلقة في سلسة الإحباط التي أعيشها!"
عاد ببصره للبحر، و هي أخذت راحتها تحدق به، متسائلة عن السبب الحقيقي، لحرمانه من حلمه...
حل صمت طويل و كلاهما يتجنب النظر للآخر بل أعطى الطبيعة فرصة التحدث... لكن ذلك قطع مع صوت رنين هاتفها...
لعنت غبائها أنها لم تحوله للوضع الصامت، أو تقفله... لكنها نسيت ذلك في غمرة توترها...
و الآن هي جامدة كحمقاء لا تدري أتجيب، فينفجر بها، أم تتركه يرن.. أم تعطي مشغول، أم......
أم أنه أراحها و انتهى الرنين...
لذلك و بسرعة، و أمام عينيه اللتان تشعان بما فيه، أخرجته و حولته فوراً على وضع صامت...
"أهو المغني.... أحمد ولي الدين؟؟"
لم يمنع نفسه من أن يسأل، أخذت نفساً عميقاً و هي تجيب ببرود...
"كما ترى أنا لم أرى المتصل... و بما إنني أمتلك فراسة سحرية... فأظن أنني لم أعرف من هو!"
"لا بد أنك وضعت له نغمة خاصة!"
"و لِم أفعل؟؟"
رفع حاجباً مكذباً، و هو يجيب...
"لأنه... أحمد ولي الدين!"
نفس عميق آخر من الهواء النقي...
"لا... لا إنه ليس أحمد ولي الدين... إنه فقط عميل... لا أكثر و لا أقل... و للعلم... لا يوجد سوى أمي و فاضل المفتي بنغمات خاصة!"
"فاضل؟؟"
رفعت عينيها لأعلى بضجر من لهجته الحادة التي أثارت بها شيئاً، قبل أن ترد ببرود شديد...
"سيد زياد... أظن أنك أردت أن تقول شيء محدد... أليس كذلك؟؟ إذن لم لا تخبرني إياه و لننهي هذا اليوم الذي لا يريد أن ينتهي!"
للحظات ضم شفتيه بمشاعر مكبوتة، قبل أن ترتخي كل ملامحه مرة واحدة...
عاد يحول بصره للبحر، و كأنه يحوي دائما نقطة البداية... ثم فجأة تحدث و كأنه يكمل محادثة قديمة...
"كنت في حال صعب..." تحدث بهدوء محايد...
"كنت قد قابلت والد..... والد مها... و كل ذكريات أفعالها قد نشطت في عقلي... "
الدفء الذي بدأ يتغلغل في جسدها مع كوب الكاكاو أخذ ينحسر مع كلماته... التفت ليحدق بعينيها و هو يكره نفسه لما سيقول... لكنه بحاجة لكسبها بصفه، و لو ظاهرياً لتعود له...
"في الحقيقة، هي انتحرت لأنني اكتشفت خيانتها..."
خفق قلبها بقوة و ملامحها مرغمة تشمئز بينما مازال هو يتحدث بشكل محايد، و إن دخلت نبرة غاضبة في ترددات صوته...
"و حينما رأيت والدها تذكرت كل شيء... خيانتها... حقارتها... كنت غاضب دعد... غاضب لأنها فرت من دون عقاب... غاضب لأن لا أحد يعرف حقيقتها سواي...
كانت منافقة كبيرة... الكل يرى في الخارج فتاة متدينة ارتدت الحجاب مبكراً... فتاة هي مادة لسيدة دار... لأكتشف أنها خائنة حقيرة منافقة شاذة مدعية فاجرة سافلة.. "
كان التردد الضعيف تحول ليغطي كل صوته... الآن هو غاضب... غضبه من تلك الخائنة لم ينتهي... لم يبرد... حتى و هو يعلم أن الله يحاسبها بعدل تام، إلا أنه لا يستطيع السيطرة على غضبه...
و هي لأول مرة ترى ذلك...
ترى رجل مجروح بكرامته... برجولته...
ترى رجل، نال شيء حقير مقزز...
يشعر بالقرف مما انحدر له الحال...
صمتها جعله يرفع عينيه إليها...
عادت له بصيرته و هدفه من هذا اللقاء... الضعف الذي بدأ يظهر في عينيها جعل شيء فيه يرتاح...
لذلك أخذ نفس عميق و هو يعاود التحدث مع البحر...
"و كما أخبرتك... نلت أنا كل اللوم على ما آلت إليه هذه الكتلة من السفالة... هل تعلمين دعد ما المؤلم؟؟؟ المؤلم أنني أتجرع هذه الحقيقة كل يوم... أنها هي السافلة أفلتت، و أنا ألام بالكامل على مصيرها... كنت غاضب دعد وقتها... سد غضبي كله تحطم...
و كنت انت هناك..."
خفق قلبها و نبرته تتحول من الغضب لهدوء مريح...
"نعم كنت هناك... تعرضين شيء أثير... تعرضين شيء لا يصدق... و للحظة، للحظة يتيمة اختلطت الصور... شعرت أنني بكل جنوني ذاك سأنال ثأري...
شعرت أنني بكل تحقيري لحبك، سأرتاح..."
لم يكذب أو يدعي... كان هذا حاله... كان هذا شعوره وقتها... يثأر من الكل في تسفيه حبها المزعوم!
"لكنني و بعدما وضحت لي الرؤيا علمت كم ظلمتك..."
الآن ملامحه بدأت تتراوح في الغموض...
الإضاءة كانت خافتة و البحر قد ابتلع قرص الشمس...
تحدق بلمعة عيونه القوية و هي لا ترف برغم كل ما ناله...
قلبها يخفق بقوة، و هي تحدق به...
ترى عينيه و هي تغلق لثانية و كأنه يستصعب ما سيقوله...
"انا آسف!"
ببساطة خرجت... و ببساطة هدمت كل ما فعله بها...
كل تبريره الفائت لا شيء...
كل هداياه و وروده و تودده الفائت لا شيء...
لكن تلك الكلمة فعلت العجاب بها...
"أنا فعلاً آسف دعد.. آسف لأنني حقرت شيئاً بهذه القيمة... آسف لأنني أهنتك في كبريائك و أنوثتك و خلقك... آسف لأنني كنت أعلم أن كل كلمة قلتها باطل في حقك... آسف لأنني لم أقدرك جيداً... لم أقدر ما تمنحينه بكل كرمك... بينما أنا..... لم أكن أستحقه!"
لا تدري أن دمعة تسللت عبر رموشها، ليمد يده و يمسحها برقة...
تلك الدمعة لحقتها ثانية و ثالثة و رابعة... صوتها متهدج بغصة مكتومة خرج...
"آذيتني كثيراً زياد... لم يفعلها أحد قبلك... لم اتلقى مهانة كما حدث معك؟؟ لم فعلت هذا بي؟؟"
"لأنني.... لأنني لا أعلم!!... أرجوك أعطني فرصة دعد... فرصة أخيرة... دعينا نضع نقطة على آخر هذا السطر، و نبدأ سطر جديد... سطرنا وحدنا..."
ظلت تحدق به بسكون شملها... راحة تسللت لكل خلاياها تدفعها لأن توافق... ترضى...
كانا خارج إطار الزمن...
للحظات نسي من هي...
و هي نسيت كل جرمه بها...
و خلال تلك الحظات انعزلا عن الكون...
تحدق به...
تريد أن تخبره أنها سامحته...
أنها لا تهتم...
فقط تريد أن يمنحها ما تستحق من اهتمام... و ستعلمه أن يحبها...
أن يمنحها قلبه دون شروط، و هي ستحفظه له و كأنه روحها نفسها...
ليتزعزع هذا الوصل مع رنين هاتفه...
دون تفكير قرر أن يتجاهله...
يكمل غزو روحها و يضع علمه هنالك...
توقف الرنين... و نظراتهما لم تتوقف...
حديث طويل بينهما...
وعود مجنونة كلاهما يعلم أن الوفاء بهم مستحيل!
خروج عن كل أسطر قواعدهما و التحليق بما لا يملكان أن يفعلا...
و عاد الرنين...
و هنا قطع الوصل تماماً...
أشاحت بخجل بوجهها الأحمر... نفسها قصير بلهاث لما بذلته من جهد نفسي...
"ألن تجيب؟؟..."
حدق بالشاشة ليرى رقم غريب؛ ليقرر أن يتجاهله، لكن شيئاً فيه أرغمه أن يرد...
جمد تماماً مكانه و هو يستمع... ثم وقف مصدوماً لا يدري ما الذي سيفعله...
و كل تفكيره تمركز عند أهم شيء في حياته...
لين!
*** |