(26)
الفصل السادس و العشرون
عنوان الفصل: لحظة فاصلة...
الهاتف بيدها، و التردد هو ما يجعلها تقلبه بكل الاتجاهات...
جالسة على مكتبها، و ذهنها انطلق يرحل عن عملها في بحور شخصية...
ذاكرتها تنحرف لمحادثتها بالأمس مع زوجة المدير... فاتن تختلي بها في المطبخ، لتتحول من تلك المشاكسة، لامرأة حازمة، مهتمة...
"دعد... أمك بحاجة لك..."
لم تكمل، و لم تحتاج للإكمال... دعد و أمها باتا الحدث الرسمي في كل مناسبة تجمع دعد بفاتن...
حتى زياد بدأ يسأل بحذر عن أمها، و كأنه يشعر أن صفاء قلبها يجب أن يشمل كل الناس...
اضجعت على مقعدها و هي تفكر... الغفران كان سهلاً للجميع، إلا هي...
أكان جرمها ضخم كي لا تغفر، أم أن حبها يمنعها أن تثق بها مرة أخرى؟؟... و كأنها إن وثقت بها سترى الكارثة الأكبر و الأضخم...
تنهيدة متخمة تسربت من شفتيها، و فاتن تذكرها بعقوق الوالدين و عقوبته، و غضب الله على فاعله...
غصة خنقتها و هي تعتدل في جلستها...
نعم هي اشتاقت...
و نعم هي متألمة...
و نعم غفرانها مؤلم مثل غضبها...
كلاهما بحاجة للسكين أن تمر عبره لتخرج منه...
أغلقت عينيها بألم و هي تتذكر كم كانت صداقتها مع أمها كثيرة...
ربما هدوء و صمت أمها، أحبط الجانب الصاخب المرح منها...
لكنها أبداً لم تنتقدها أو تقلل منها...
تذكرت تضحياتها في بلجيكيا...
عملها كعاملة نظافة ثم كنادلة، إلى أن اعتمدت شهادتها و استطاعت أن تعمل بشهادة التمريض خاصتها...
و بالمقابل لم تطلب منها أي جهد إلا أن تتعلم و ترتقي بنفسها...
و بتفكير حيادي ندر أن تمتلكه امرأة تذكرت كيف رعت والدها و أعطته كل ما هي قادرة على اعطاءه...
لم تمنع شيء منها عنه برضاها،
لكن يشهد الله، أنها لم ترى أو تسمع عن امرأة رعت بيتها و زوجها و أولادها كما فعلت أمها...
ربما هي دون أن تدري أحبته حبا هادئ يليق بعلاقتهما...
لم تحبه حباً مزلزلاً كما ترى حياتها مع حاتم...
و ببساطة و دون تزويق...
هي لم تتعمد صنع كلا الحبين!
لحظات ظلت مغلقة عينيها، قبل أن تفتحهما بعزم...
و بحسم طلبت رقمها و قلبها يرتجف بقوة...
لكن الهاتف كان يرن كامل رناته، ثم يتوقف...
تعيد الاتصال مرة أخرى، و قد علمت من مهاب أن المرأة لا تخرج من البيت كثيراً...
لذلك من المفترض أن ترد عليها...
رنة أخرى...
و أخرى و أخرى...
و مع كل رنة كان قلبها يرتجف بقوة...
شعور غريب سرى فيها أن مصيبة ما ستحدث!
***
امرأتان واقفتان أمام واجهة السوبرماركت
نظرات احداهن متوجسة، و الأخرى كلها كراهية بحتة...
منذ البداية عرفت أنها تريد الايذاء...
منذ أن وجدتها تنتظرها على عتبة المتجر...
بل منذ أن علمت مخططها المجنون للتفرقة بينها و بين زوجها...
و بالفعل قامت بمحاولات مجنونة لتكبله خسارة لا ممكنة على الأقل مادياً، إلا أنه مع مهاب استطاعا أن يحلا الأمر بأقل قدر من الخسائر...
و الآن هذه المجنونة تقف قبالتها في ظلال الغيوم التي تتكدس أكثر و أكثر...
نظرات الكراهية تجمعت كلها تجاه بطن ماجدة الضخمة البارزة، و رغم قوتها إلا أن يدها امتدت تحيط ببطنها بحماية!
"إذن هذا ما دفعه لأن يتزوجك!"
عقدت حاجبيها بلا فهم، لترد المرأة باحتقار...
"حامل في الشهر التاسع، بينما زواجها لم يمر عليه ثمانية أشهر... لسنا بحاجة لمبرمج ليفهم سبب ارتباطه بامرأة مثلك!"
أغلقت عينيها بحلم و هي تشعر بالقطرات التي بدأت تحذرهم بالنزول...
"سيدة رضوى، أظن أن الأمر لا علاقة لك به أبداً... تزوجني لأنه يعشق التراب الذي أسير عليه، أم تزوجني ليجعلني حامل، أم تزوجني لأنني حامل... كل هذا لا يخصك... في الحقيقة انا لا أفهم........."
بترت عبارتها و المرأة المجنونة تقترب منها بسرعة و هي تصرخ فاقدة كل عقلها...
"بل يخصني... ابن الحرام الذي تريدين أن تلصقيه بحاتم يخصني... تريدين أن تجعلي ابني أخ لابن الحرام الذي في بطنك... و الذي ربما لا أب له!"
بلا ارادة ارتفعت يدها بصفعة قوية تجاه المرأة المجنونة و قد انفلت زمام سيطرتها...
"ابني أنا ابن حرام أيتها المجنونة؟؟!!... أيتها الغبية... كيف تتجرئين و تنعتيه بهذه الصفة... كيف تسمحين لنفسك فعل هذا التصرف الحقير؟!..."
إن كانت ماجدة فقدت عقلها لثوان فتلك فقدته منذ زمن، و الدليل هو انقضاضها المجنون على ماجدة التي تراجعت بحركة حادة غير مدروسة لتسقط على ظهرها أرضاً لكن ذلك لم يشفع للأخرى أن تتوقف عن تهجمها...
كانت خطتها أن تواجهها في هذا الوقت حيث أن المطر يقلل من عدد الشهود، أو حتى يجعله معدوم... تريد أن تراها... تريد أن تحرقها... تقتلها...
تلك التي توسدت صدر حبيبها...
بل حملت في أحشائها قطعة منه!
لذلك بكراهية لا محدودة رفعت ساقها في ركلة محددة لبطنها، لكن ذلك توقف مع الصوت الصارم...
"توقفي!"
للحظة بدا أنها ستكمل، لكن مهاب قفز بسرعة ناحية ماجدة يحيمها من هجوم أمه المجنون...
"هل جننت لتفعلي هذه الفعلة؟؟... أقسم أن......."
بتر عبارته و هو يحاول أن يحافظ على شيء من كلمة أم بالنسبة له، ثم أخذ نفس قصير يلجم لسانه به، قبل أن يلتفت لماجدة المتألمة، التي أخذت ثواني تعض بها على شفتيها تكتكم الأنين، قبل أن تقبل ساعده المعاون دون كلام، ثم أخذ يتفحصها بنظراته القلقة المشعة بالاهتمام...
"هل أنت بخير؟؟"
المنظر قهر المرأة الواقفة تحدق بهما بكل غلها و قهرها و خسارتها...
كم تكره الخسارة...
كم تكره أن تسلم الرايات...
يا إلهي!...
نظرات ابنها المهتمة للمرأة تقتلها...
انتبهت على صوته القلق و هو يسأل ماجدة إن كانت قادرة على السير للسيارة... ضمت شفتيها و هي تعي أن هذه الحقيرة لم تتوسد فقط صدر حبيبها حاتم، بل ازاحتها أيضاً عن مكانتها في صدر ولدها...
ولدها الذي ساند المرأة المثقلة بحملها، و هو يتجاهل أمه المجنونة...
مرغمة بشعور فقدٍ تام، صاحت تناديه...
"مهاب... ولدي... انتظر".
التفت من خلف كتفه لأمه الواقفة في الجو الغائم الرمادي...
لحظات حدق بها، قبل أن يهز رأسه برفض...
"ما فعلته اليوم أثبت لي حقا أن مكانك ليس بيننا... ما فعلته اليوم أثبت لي أن كلمة أم سقطت عليك جهلاً بكونك فارغة من كل قيمها... لذلك لا أستطيع إلا أن أقول... وداعاً يا أمي!"
و بهدوء ساعد المرأة لتسير معه حتى سيارته... بينما تلك بقيت واقفة مكانها تغتسل بالمطر الذي انفجر مرة واحدة!
بينما الغل الذي يطل من نظراتها يكاد يبخر المطر من شدة حرارة كراهيتها...
لم ينتهي أمرك ماجدة...
أقسم أنه لم ينتهي!
***
"يجب أن نذهب بك للمشفى".
ظلت ساكنة تحدق بالنافذة بهدوء على الرغم من بعض الألم الذي بدأ يسري في ظهرها، إلا أنها تجاهلته، و هي تحاول أن تبدو بخير...
فقط لأجل هذا الشاب الذي سيشله الألم إن حدث لها شيء بسبب أمه...
ربما تصبر لهذا اليوم و تذهب صباحاً وحدها للمشفى دون علمه!
بسمة مرة ارتسمت على شفتيها و هي تشعر بالهاتف يهتز برنين خافت، لترى اتصالاً من دعد...
و كأنها تشعر ما يحل بها...
دقيقة مرت و انتهى الرنين ليعود يصدح مرة أخرى...
تسمع الصوت و ألمها يشتد...
شعور غريب يسري فيها...
تغلق عينيها و الرنين مازال يحدث...
و فجأة شريط حياتها بدأ يعرض امامها...
ذكريات لا تفهم كيف، و لِم توالدت في عقلها،
بل كيف فتح باب عقلها أمامها لتظهر متزاحمة بطريقة غير مترابطة!
تتذكر ولادة دعد...
بشرى حصلت عليها و حلم يتحقق...
جميلة كما لو كانت دمية...
اكتمال حياة كانت تمثل القمة أمام عينيها...
تتنافس هي و أبوها على اللعب معها... و بها!
ولادة أخيها لم تنقص ذلك الحب و لو نقطة واحدة...
تستمر بحبها...
شحب وجهها و موت حسين مع ابنها يتصدر الذاكرة...
شدت على شفتيها بألمين جسدي و نفسي، و هي تتذكر الألم الحارق وقتها...
الوحدة و القهر...
الجور...
الظلم...
يا ربي... لم تجد وقتها لتبكي فقداها!...
لم تجد وقتا للحداد لأجلهم...
يتدخل والد زياد في وسط معمعة المشاعر...
و لتأجل النواح لوقت آخر...
تحاول أن تنهض...
تقاوم بكل قوتها...
و تخسر بكامل ضعفها...
تقدم الطفلة قرباناً لأجل السلام...
و كأن السلام مع الشياطين يمكن انجاحه!
تقفز الذاكرة مرة واحدة لدعد و هي في قصر الصانع المهجور...
منظرها...
كدمة على خدها...
كدمة لم تنسها أبداً...
المنظر مازال يكبر و يكبر...
و الرنين مستمر...
و فجأة سكن كل شيء...
حتى الوجع سكن و كأنه يعدها بحصة أكبر.
و بهدوء فتحت عينيها، محدقة بالنافذة جوارها...
المطر على أوجه و قد اثقلت كل الغيوم بمطرها فسكبته مرة واحدة...
تحدق في الظلام...
ثم بلا تفكير وجدت أصابعها تعيد الاتصال بها...
سمعت شهقة ارتياح من دعد التي اندفعت مرة واحدة تسأل بقلق و كأن القطيعة بينهما لم تحدث...
دون أن تدري وجدت نفسها تقاطعها...
"ألاء أنا متعبة!"
قفزت مرة واحدة و هي تسمع صوت أمها المنهك يبرز عبر الإشارات الرقمية في أذنها، بينما مهاب يشد بقوته محاولاً السيطرة على السيارة في هذا الجو، و الاسراع بها للمشفى... اسمها القديم جعل شعوراً بالأسوأ يتسلل إليها...
"كلي منهكة... أشعر أنني أقاتل خيالاً وهمياً... ألاء لم لا تحاولين أن تغفري... تسمعي... لم لا تحاولين أن تري الأمر من جانبي... حتى و إن أخطأت بحقك... بربك ابنتي... ألا توجد ذكرى واحدة بيننا تشفع... ألا توجد لمحة واحدة في عقلك تشفع للغفران... أهو صعب... أهو ثقيل..."
"أمي أين أنت؟؟"
همست بهدوء و هي تدخل عبر دوامات الألم الذي ينغزل كشرنقة حول المرأة، التي تابعت دون وعي بالسؤال، و كأن فرصة الاستماع ستكون الأولى و الأخيرة...
"ألاء أنا أحبك... أقسم لك أنني أحبك... أحبك أكثر من أي كائن آخر... ألاء لا تحاكميني على شيء لم أكن أسيطر عليه عندما حدث... حبي لأبوك كان بغير ارادتي... لكنني الآن أقسم لك أنه غالي على قلبي... أبوك كان شيء ثمين أكثر من أن أصف... ربما أحببته بنفس ما يريد... لا أعلم... لكنني عشت معه أحلى سنين تحلم بها امرأة".
أرادت أن تفكر بما تقوله المرأة، و بما يدفعها الآن لأن تقوله، لكنها سمعت صوت تكتكة عبر الهاتف لتيقن أنها تسمع صوت المطر...
"أمي بربك أين أنت؟؟"
تنهدت المرأة بتعب و هي تلتفت لمهاب بدموع عينيها... بسمة غريبة رسمت عبر الألم...
"أنا بأمان مع مهاب..."
خفق قلبه و هو يسمع لتلك الكلمة من المرأة...
"فقط أرجوك اغفـ............"
وجدت نفسها تقاطعها و قد تبعثرت سيطرتها مرة واحدة...
"كيف أغفر لك و أنت لم تخطئي... أنت أمي... هل تفهمين؟؟... بكل ما بها من معنى... بكل ما بها من وصوف... أعلم ذلك، لكن استيعابه احتاج مني لثورة ضد جنوني...
أنت التي أرجوك أن تغفري لي...
بربك اغفري لي أمي!"
و دون تردد نهضت عن مقعدها و هي تسحب سترتها الثقيلة لترتديها بعجل و هي تخرج من المكتب، بينما تكفلت بطريقة ما أن تظل السماعة على أذنها...
"اسمعي... أنا في طريقي إليك... يوجد الكثير مما أريد أن أخبرك إياه... فقط انتظريني... لن يأخذ مني الكثير من الوقت في الطريق لبيتك..."
تسير بسرعة عبر أروقة الشركة، و هي تشعر بفورة من المشاعر و قلبها يخفق بقوة، و كأنها تشعر بصدمة الحياة مرة واحدة...
تقفز بسعادة على درجات السلم، و الغفران بينها و بين أمها يشحنها بطاقة ايجابية ضخمة...
بينما بسمة جميلة ترتسم على شفتي المرأة التي تجلس جوار الشاب و مشاعرها تنفجر مرة واحدة... هو الآخر أخذ العدوى ببسمة تمددت على شفتيه، و هو ينظر بطرف عينيه للمرأة التي تمسح الدموع عن أطراف رموشها...
"و أنا انتظرك ابنتي... انتظرتك طويلاً و سأنتظرك غاليـ........................."
بترت عبارتها و إضاءة قوية تبرز مرة واحدة من نافذتها... تسمع شتيمة قذرة من مهاب و هو يدير المقود بحدة على الأرض الزلقة، و برد فعل فيزيائي انزلقت السيارة أكثر، قبل أن تدور حول نفسها بقوة، ثم مرة واحدة تنقلب من ناحيتها و تزحف على جانبها عبر الطريق الزلق...
و بعدها حل صمت مهيب... صمت قاتل!
*** |