زياد معها يقف جواره أمام غرفة العمليات حيث ترقد أمها تحت مائدة الجراح...
دموعها مازالت تسيل و هي تتذكر صوت المعمعة...
تصرخ مرة بعد مرة على أمها، لكن تلك الأصوات شلت لسانها مرة واحدة...
تتجمد بوقفتها المصدومة تحت المطر، بينما تستمع لصوت الحادث من هاتف أمها الذي مازال متصل...
تسمع أنين أمها...
شتيمة مهاب...
تسمع الكثير و الكثير بينما المطر يغرقها حتى النخاع...
تمثال يستمع لعملية قتل كاملة...
لا تفهم كيف رآها الحارس، و بدأ يسألها عما بها... و كيف جاء فاضل و كيف استطاعوا معرفة كل شيء...
حتى زياد لا تفهم كيف حضر و لا متى...
فقط على صدره وجدت نفسها تبكي بجنون و فقدان تام...
و الآن تقف معه أمام الباب و رعب يشلها و هي تنتظر الأسوأ...
أمها في غرفة العمليات...
مهاب خرج بخدوش و جروح بسيطة مع كدمات امتصتها قوة بدنه...
لكن كله تركز في أمها...
بلا شعور جلست بألم و هي تدعو الله بكل قوتها أن يفعل أي شيء لأجل أمها...
عادت تتذكر المكالمة التي حدثت قبل الحادث
هل هي السبب؟
هل هي من آذت أمها؟
يا إلهي... لقد كانت ترجوها...
ترجو وصلها...
ترجو فقط أن تستمع لها...
عادت الدموع تسيل من عينيها بينما زياد يتحرك ناحيتها ليحتضنها من كتفها بدعم...
لا يتحدث لكنه يدعمها بكل طاقته...
لا ينكر أن ألما ما اشتعل به لأجل ماجدة، اضافة لألمه لأجل زوجته...
لم يحب ماجدة من قبل... و لا بعد...
لكنه و للغرابة يتألم لأجلها...
تنهد بتناغم مع تنهيدة زوجته التي ختمت بها بكائها، لكنها لم تبتعد عن الدعم الذي منحه إياها...
بعدها جلسا بهدوء المتقبل لقدره ينتظران الطبيب أن يخرج ليخبرهما ما حل بالمرأة...
***
"أستحلفك بالله ألا تبلغ حاتم بأي شيء عن أمك!"
ابتلع ريقه و هو يتذكر هذه الجملة تخرج منها بوعي مفقود و الدم يحيط بها و يغرقها به، بينما هو يحاول بكل قوته أن يخرجها من السيارة...
ثم توقف عن تلك المحاولة و هو يجد سيارة غريبة عنه تقف و شبان يعرضون المساعدة...
يعاونوه على أن يرجع السيارة على عجلاتها الأربع برفق...
يعاونوه أيضاً على فتح الباب، ثم يتقدم أحدهم معرفا نفسه كطالب طب، يزجرهم أن يحركوا المريضة...
فقط يتصل بالإسعاف و يحاول أن يفحص مهاب الذي يغرق وجهه بالدم...
ساعات... لحظات... دقائق... أعوام، و أخيراً وصلت السيارة...
الأنين... الدم... المطر... رائحة البنزين... البرق... الرعد...
و الضعف... الكثير منه!
تمازج مازال يراه و يستشعره حوله...
أغلق عينيه بعجز و هو يلكم الحائط خلفه...
كله من أمه... كله منها...
أمه المجنونة التي لم تتوقف عن السؤال عن ماجدة؟...
لم يتوقع أن تفقد عقلها مرة واحدة بهذه الطريقة...
يا إلهي...
لقد كادت أن تركلها في بطنها...
دار بعينيه في المكان حوله ليلمح دعد واقفة مع زوجها أمام الغرفة...
لم يحاول أن يقترب منهما و هي لم تفعل بل بقيت متحصنة بجسد زوجها بخوف...
هذا التصرف خنقه أكثر و كأنه المتسبب بحادثة المرأة!
شعور بوحدة خنقه و وعد ماجدة يكبله...
بحاجة لشخص واحد يهتم لأمرة، أن يقف جواره...
ذهنه مرغماً حاد للمجنونة التي تستلذ بقتل الألم بالحبوب...
بحسد تمنى –في لحظة جنون- لو كان مثلها...
يده تمتد للضمادة التي تغطي جبينه...
هذه حصيلته من كل هذه الفوضى...
فقط عشر غرز تجميلية تزين جبينه!
كدمات و سجوح خفيفة...
يخرج غير مبالي من غرفة الفحص يبحث عنها...
ألم مرعب يسري في جسده... و هو يعاود تذكر ما قاله الطبيب، قبل أن تدخل غرفة العمليات...
كذب عليهم و هو يعرف نفسه على أنه ابنها و المسؤول عنها، ليوقع على موافقة عمليتها...
عاد يلكم الجدار بعجز...
هو السبب...
لو لم يقد بتلك الرعونة لما حدث ما حدث...
هو السبب!
للحظات تمنى لو كانت كل الاصابات حدثت له، و تلك الأمانة لم تمس...
لكنها أماني لا معنى لها، أو قيمة!
و فجأة انتفض الجميع و تقدم مرغماً ناحية الطبيب الذي خرج من غرفة العمليات...
***
لا تزال تنظر أمامها بتخشب غير مصدقة...
ما قاله الطبيب بدا و كأنه يحاط بكل أنواع التشويش ليصلها همهمات لا معنى لها...
تحاول بكل قوتها أن تفهم...
تستوعب...
لكنه لم يكن بيدها أو ارادتها...
مرة أخرى تسمع شذرات من الطبيب...
غيبوبة كاملة... بل موت سريري تام،
فشل شبه كامل في كل الوظائف الحيوية و إن نُزعت عنها الاسلاك ستموت على الفور...
التشوش يختفي مرة واحدة و الكلمات تصل لعقلها...
الطفل سليم برحمها، و هذه رحمة من الله...
و في حالة نادرة مازال جسدها قادر على أن يمنحه ما يحتاج من مقومات الحياة...
هو بعمر خمس و عشرون أسبوع... لو استطعنا ان نحافظ عليه في رحمها حتى يكمل الشهر السابع أو حتى ينتصفه، سيكون بحال أفضل بكثير... فقط أسبوعان أو ثلاث... و يدخل مرحلة جيدة، أكثر أمان...
ماذا عن أمي؟؟
برز السؤال في عينيها، ليشيح الطبيب بعينيه بيأس...
"أدعوا لها بالرحمة؟!"
و هنا شعرت هي بالانهيار...
قدماها مرة واحدة تراخت عن حملها لتسقط على الأرض دافنة وجهها... و نحيب يخرج منها و هي تقيم عزاء لأمها في روحها...
"اذكري الله دعد... اذكري الله... لا تيأسي من رحمته..."
قالها و هو ينهضها بقوة لتقف على قدمين لا فائدة منها، لكنها تحاملت على نفسها بطريقة ما...
تنظر للطبيب برجاء مس قلبه...
"هل يمكنني..." تمسح دموعها بأمل أن تنجلي تلك الغصة عن حلقها...
"هل يمكنني أن أراها؟؟"
ظلت تنظر إليه برجاء و كتفي زوجها تحيط بها، بينما مهاب يقف على بعد خطوة و كأن وجوده لا معنى له...
لحظات مرت و الطبيب يفكر، قم تنهد بقلة حيلة...
"لو سيطرت السيدة على انفعالاتها يمكنني أن أسمح لها بالدخول... و فقط لمدة ربع ساعة لا أكثر..."
***
على الرغم من خشيتها و من توقعاتها، و من وصف الطبيب للحالة، إلا أنها لم تكن متهيئة لهذه الصدمة...
يدها تشتد بقوة على فاها تمنع أي صوت يخرج منها، بينما منظر أمها الساكن يحفر موسعاً مقدار يأسها...
تتقدم مرغمة ناحية السرير... لحظات ثمينة مرت، قبل أن تجد عزماً بها، لتسيطر على بعض مشاعرها...
تقترب أكثر... تنحني، لتمسك اليد الفارغة من المحاليل بتوتر... تصدمها البرودة...
تلك البرودة المشابهة للموت...
لحظات مرت و هي فارغة من كل شيء...
تحاول فقط أن تنقل بعضا من دفئها لأمها...
لكن كل تلك الحرارة كانت تذهب هباء...
مرغمة مدت يدها لتضعها على بطن أمها الضخمة... لم تشعر بأي شيء...
ذات البرودة المهلكة...
اقشعر بدنها منها و هي تسحب يدها بسرعة عن بطنها...
لحظات طويلة مرت قبل، أن تجد الطبيب يطلب منها بهدوء أن تتبعه للخارج...
نظرت له بغربة و يتم حارق...
ثم مالت تقبل تلك اليد قبلة طويلة... لا تدري كيف استطعمت ملوحة دموعها مع القبلة، لكنها لم تفلتها إلا عندما شعرت بلمسة الطبيب منبهة على كتفها...
لحظات أرادت بأنانية أن تتجاهله، لكنها وجدت نفسها تعتدل بهدوء...
تنظر إليها نظرة مودعة أخيرة...
ثم تستدير خارجة!
***
كان يتوقع أن تتحسن حالتها، لكنها تلحفت بسكون أخافه حالما عادت من تلك الغرفة المعقمة...
فقط تنظر بيتم مريع مر ذاق مثله، رغم أن ماجدة تحمل حروف كلمة أم بلا نواقص، عكس أمه!
يتلقفها بحضنه غير مبالي بجمودها و هي ساكنة بنظرات ميتة...
يا ربي كم هو مؤلم الفقد!
ربت على ظهرها المتصلب و هو يحاول أن يصبرها بذكر الله و الدعاء، و عدم الركون لكلام الطبيب...
ظلت على حالها، حتى عندما ساندها لتجلس هادئة على الكرسي جواره... شعر بمخاوف من صدمة او انهيار عصبي أو شيء من ذلك... فقط تنظر للفراغ و كأنه كل ما تملك...
تنهد أخيراً و هو يعاونها لتنهض متراخية مسلمة مفاتيحها له، ثم جذبها لتتحرك معه للخارج...
"نحن لن نذهب و نتركها، أليس كذلك؟؟"
أغلق عينيه براحة لثوان، وهو يستمع لصوتها المبحوح في أول استجابة للمؤثرات حولها...
"بكل تأكيد لن نفعل..." تحدث بدفء و هدوء... "فقط سآخذك تبدلي ثيابك المبتلة، و تغتسلي ثم تعودين قوية..."
حدقت به لثوان و كأنها لا تعرفه...
"لا... لن أتركها... و لا لثانية واحدة... سأكون معها..."
أغلق عينيه بحلم، قبل أن يقول بهدوء...
"أنت بحاجة لقوتك دعد... تعالي لنبدل ثيابك و تغتسلي ثم تعودي..."
و رغماً عنه، نظر لمهاب بنظرات حاول قتل الكره فيها...
"و هذا... أعني أخوك سيبقى معها إلى أن نعود..."
التفتت لمهاب و كأنه لأول مرة تراه... حدقت بملامحه المشوهة و الدم الذي ينتشر على ثيابه...
لحظات طويلة و كلا الرجلين ساكن ينتظر ردة فعلها، إلى أن عضت شفتيها و هي تتقدم ناحيته بخطوات مهتزة...
"لقد كنت معها في آخر لحظة... أليس كذلك؟؟"
خفق قلبه برعب و هو ينتظر الملامة منها... كان يظن أن الملامة من ذويها ستريحه، لكنه الآن يشعر برعب من كلماتها التالية...
شعر بنبض قلبه يختل مع صوتها المتهدج و هي تقترب منه أكثر بهمسها المنهك...
"هل غفرت لي؟؟ هل دعت علي... هل سامحتني... بالله عليك لا تكذب علي... فقط خبرني..."
لحظات مرت و كلاهما يحدق بالآخر بأمل... على الأقل هي ترجمت مخاوفها، بينما هو يخاف أن يطلب الغفران منها...
من أبوه...
يا ربي... بل من الطفل الذي يرقد في بطنها، مصيره غير معروف...
لحظات مرت، قبل أن يخرج صوته متعب...
"كانت أول مرة أرى البسمة ترتسم صادقة كاملة على شفتي أمك!"
ارتجفت ملامحها و هي تعض على شفتيها تمنع البكاء، بينما هو يكمل بهدوء و عقله يستعيد منظرها قبل الحادث...
"لأول مرة أراها راضية دعد... كانت جد سعيدة... صلحك معها كان ثمين لدرجة لا ممكنة..." ثم هز رأسه و هو يستعيد بذهنه تلك البسمة الصافية السعيدة... بسمة حقيقية مرسومة على ملامح نحتت بالرضى التام...
"نعم دعد... كانت راضية بطريقة لا ممكنة!"
"شكراً لك مهاب..."
فتح عينيه ينظر لدعد التي تسيل دموعها، و صوتها يخرج مخنوق...
"لا تدري كم أزحت من ثقل عن كتفي... شكراً لك مهاب..."
ثم تركته دون كلام و هي تغادر مع وعد بالعودة... بينما الوحدة عادت تغزل سرعة قياسية حوله...
***
صمت قدسي يلفهما...
حاجته للارتواء من الراحة بحضورها لم تحدث...
بؤس يلفه و كلمات الطبيب تعاود الارتسام مكتوبة في عقله...
ألم شديد يتسرب في جسده و هو يتخيل والده الذي سيعود خلال يومين متفاجئاً بهذه المصيبة...
أغلق عينيه بيأس شديد و السيدة الهادئة تحدق به...
لم تتساءل بلسانها عما أصابه و الجرح واضح في جبينه...
فقط عينيها تساءلت قبل أن تخفضها و تحدق بدورق الماء أمامها...
لكن ادراكها به لم يقل و هي تعلم، أن كوب الماء أمامه لم يمس...
حادت بعقلها لذكرى قريبة...
لا تتصور سعادة مثل السعادة التي ارتسمت على ملامحه حينما فوجئ بابنتها في البيت معها...
لم تتخيل أي أحد يفرح لشخص غريب عنه بهذا الصدق...
صدق ملئ عيونه الخضر جعل حزناً لأجل هذا الشاب يتسلل لروحها...
تعلم أن زياراته الداعمة لهم بإنسانية بحتة، تثريه...
لكنه بحاجة لعون كي يجد هدفاً لروحه كي يستمر...
قاطع ألمه و تفكيرها، ابنتها الخجول التي لا تنفتح إلا معه...
تبتسم و هي تدفع كرسيها المتحرك ناحيته...
كانت الهدية الأولى التي جلبها لهم...
كرسي متحرك متطور...
لا يحتاج لمجهود عضلي من يديها كي تحركه، و لوحة أزرار على مسدنه هي الوسيلة...
"مهاب... كيف تخرج في هذا البرد؟؟"
فتح عينيه ببهجة كاذبة، و عيونها السود تتسلق ملامحه...
"اشتقت لك أيتها الأميرة..."
احمرار ارتسم على ملامحها، و هي تنظر إليه بحياء... ثم انعقد حاجباه، و هي تحدق في وجهه لثوان مشدوهة، قبل أن تنفجر بقلق تسأله عما حل به...
لمسة الاهتمام و القلق ناحيته لمسته بطريقة لا ممكنة، لذلك بتلقائية وجد لسانه يخبرها ربع الحقيقة، مسقطاً زوجة أبيه و طفلها، لكنه أجاد بسخرية من روحه أن يعرض الباقي بشكل ساخر خفف قلقها...
"و بهذا تجدين يا أميرة أن أجمل شاب في المدينة قد نال دمغة في وسط جبينه!"
ابتسم لأجل ضحكتها الهادئة مع عبارته التي ختم بها قصته الملفقة عن حادث بسيط مع عجوز متصابية...
لحظات مرت بعد الضحكة، إلى أن قطعته الصبية و هي تنظر لأصابعها في حضنها...
"ألم تخبرك أمي قراري؟"
ابتسم ابتسامة هادئة و ألمه يتراجع للخلف...
لا يصح أن ترى هذه الفتاة أي ألم بعد الآن... حتى و إن كان معكوساً في عينيه، لا يصح ذلك...
"في الحقيقة، أحب أن أسمع القرارات منك أنت يا أميرتي..."
ابتسمت و هي تدير الكرسي لتدخل للداخل، بينما بسمة فخور ترتسم على شفاه أمها و هي تراقبها بحنان...
لحظات قصيرة مرت، لتعود مرة أخرى و هي كلها محمرة بطريقة لذيذة...
و على الرغم منه شعر بفخر لا محدود، أنساه فعلاً ألمه الذي يعشعش داخله...
"مبارك يا أميرة... مبارك يا أميرة البنات..."
رغم تحرره...
رغم انفتاحه...
رغم بعده عن الدين، و صلته المحدودة بربه و ذلك بصلاة كان يؤديها بلا انتظام...
رغم كل هذا إلا أن قلبه تبعثرت نبضاته و هو يرى الفتاة بحجابها الحديث و قد تلائم لونه الوردي مع بشرتها العاجية المحمرة...
"كما قلت لك أمي... مهاب سيكون أكثر من سعيد به..."
ابتسم ابتسامة واسعة و هو يقترب من الفتاة بهدوء، فرغم قربه من الأسرة التي مازالت تنهض... و رغم أن المرأة أخبرته أنها أوهمت الجميع أنه من جمعية ما تعاون المهجرين، لذلك أصبحت زيارته شيء ليس بغريب أو خاطئ...
رغم كل ذلك، مازالت المرأة ترفض أن تخرج الفتاة من الشقة...
ليست من حديد لتتحمل احتمال فقدانها للفتاة، و هي كل ما تملك...
"تعالي لننظر سوياً من النافذة للمطر..."
و بهدوء أدار الكرسي المتحرك و حوله للنظام اليدوي ثم دفعها للنافذة...
"كم هو جميل المطر..."
ابتسمت ابتسامة واسعة و لهجتها تبرز بشدة... كونها استيقظت منذ شهر و نصف، و كون أمها تحبسها بحماية مفرطة، كل ذلك جعل لهجتها ثابتة لا تتأثر بأي لهجة أخرى... حتى لو كانت لهجته...
لكنه هو من تحدث بطريقة مضحكة بلهجتها...
"نعم جد جميل... فقط للنظر..."
"كم أتمنى لو أخرج للسير تحته..."
و التفتت لأمها برجاء حار لأمها، التي أشاحت بوجهها برفض، مما جعل تنهيدة حارة تخرج من قلب الفتاة...
منظر الفتاة... منظر الأم...
المطر...
كل ذلك ذكره بالمرأة التي ترقد في المشفى...
و مرة واحدة انسحبت كل الفرحة التي ارتسمت بتسلل على ملامحه، و هو يستطعم المرار مرة أخرى في كامل عواطفه...
"أميرة..."
التفتت الفتاة بتساؤل لأمها بهدوء من خلف كتفها، فتقدمت تلك بوقارها، لينزاح فوراً مهاب تاركاً لها مهمة تحريك كرسي ابنتها عودةً للمائدة...
"الجو بارد... ربما بعدما تخضر الأرض مرة أخرى نخرج سوياً".
تنهدت الفتاة بهم يفوق سني عمرها الأربعة عشر، لكنها لم تحاول أن تجادل أمها...
حل صمت هادئ مرة أخرى...
حتى الفتاة كانت صامتة و كأنها تقدر تلك النعمة بعد الضجيج المرعب الذي دفعهم ليتركوا بلادهم مرغمين لا فراراً!
"كيف هي زوجتك؟؟"
فجأة سألت مهاب بأريحية، و هي تقتحم أفكاره الكئيبة، ليبتسم نصف بسمة...
"جيدة... كما تريد أن تكون، هي صارت... لذلك بمقياسها هي في أفضل حال!"
عقد حاجبيها بتساؤل بطريقة لذيذة... هذه الفتاة محببة كقطعة فراء في وسط الثلج!
"و هل تختلف مقاييس الجودة للحال؟... الحياة فيها جيد و فيها سيء... فيها كل نوع... لكن الصح واضح، كما أن الخطأ واضح... "
ثم التفت لأمها و هي تحاول أن تتذكر...
"ما هو الحديث الذي يتحدث أمي عن الحلال و الحرام..."
بهدوء تحدثت المرأة و عينها ثابتة على ابنتها...
"قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ((الحلال بين، و الحرام بين، و بينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه، و من وقع في الشبهات وقع في الحرام))"
تنهد من قلبه و هو يصل على الرسول صلى الله عليه و سلم،
ثم قال بمرار يتزايد...
"للأسف أميرة... ليس كل الناس قد تعلموا هذا الحديث و فهموه... و ربما عرفوه و لكنهم تجاهلوه... و ربما هم يجدون أن الشتبهات مطاطة و تتمدد!"
"و هل زوجتك تفعل هذا الشيء؟!"
قبل أن تؤنبها أمها، ابتسم بسماحة للفتاة...
"زوجتي تعيش في بعد آخر... أظن أنها لا تدرك ما يحدث حولها... أحياناً أشعر..."
ثم انتبه لنفسه أنه يحمل الفتاة حمل همه، فحاول رسم بسمة حقيقية على شفتيه...
"أنت تريدين أن أتوه عن السؤال..." و أكمل مع تضييق عينيه...
"كيف عضلات ساعديك... هل مازلت تعتمدين على الأزرار للحركة متجاهلة تحريكه بشكل يدوي..."
كتم بسمته بشدة بينما يتخذ طابعاً صارماً لملامحه، و الفتاة تعض على شفتيها كمن وقع في الشرك!
"هل تفعلين؟... واضح أنك لا تفعلين... هل تعلمين ما سأفعله أميرة؟؟ هل تعلمين؟؟ سأزيل البطاريات من الكرسي..."
"لقد فعلت..."
قاطعته بسرعة، و هي تحاول أن تستعطفه...
"أعني حاولت، لكنه جد ثقيل... يداي بحاجة لمران..."
"ماذا قال الطبيب أيتها الأميرة؟؟"
تنهدت بتذمر طفولي...
"أعرف ماذا قال الطبيب... لكنني لا أريد أن... أعني لم أتعب يداي، طالما عندي هذا المقعد الالكتروني... أنت ترى أن الحضارة هي أن نستغل كل شيء بكسل... مثلاً كل من أراهم من النافذة يركبون سياراتهم، مع أنهم يستطيعون السير على أقدامهم... ليس فقط في الشتاء، لكن في كل الأوقات... و الكل يلعب ألعاباً التكرونية، و قد أوقفوا عقولهم عن التفكير... يفتحون التلفاز يشاهدون مذيعين كاذبين منافقين حقيرين... يشيدون بمن قتلونا و طردونا من بيوتنا... الكل يهلل... الكل يطبل... لسنا شهداء، بل قتلى... أهلي كلهم خونة... و نحن جبناء لاجئين تركنا بلادنا لهم... الكل لا يريد أن يتعب... لم تريدني أن أتعب مهاب... "
بصدمة تجمد هو أمها مرة واحدة بينما هي تنفجر بكل ما بها من ألم و نقص...
"كثيراً ما أخشى أن أعصي ربي بأن أتمنى أن يقبض روحي... لكنني متعبة مهاب... مخنوقة... أعلم أنني كل ما تبقى لأمي... لست مخنوقة من الحبس أو من الشقة... بل مخنوقة لأحاول... لا أريد سوى أن لا أفعل أي شيء... لأنني لو امتلكت أي شيء، فلن يبقى لي... مصير كل أملكه هو الفناء!"
كانت آخر كلماتها مخنوقة بينما المرأة تقف حاضنة إياها بحنان و هي تمسح على رأسها المغطى في الحجاب... المنظر جمده و المرأة تذكرها بمصير الصابرين الشاكرين... تذكرها بقصة المرأة التي قُطعت يدها ليؤنب أمير المؤمنين الساخرين، بأن يدها سبقتها للجنة...
تذكرها، أن ما مروا به لا شيء مقابل ما مر به الرسول و الصحابة و التابعيين...
أخيراً هدأت نوبة البكاء القصيرة، لتتنهد تنهيدة أخيرة و هي تحاول أن تحرك كرسيها بيديها كما طلب منها للمغسلة المنخفضة لتغسل وجهها...
راقب ظهرها، و هي تتحرك و جمود يقتله أنه ليس بقادر على تخفيف ألمها، أو حتى ألم أمها...
"شكراً سيد مهاب..."
التفت بخوف حقيقي من المرأة أن تطلب منه بهدوء أن يتوقف عن زيارتهم...
"أريد أن أطلب منك طلب..."
لم يكتم تنهيدته المرتاحة، لتبتسم المرأة نصف بسمة...
"لو سمحت لا تذكر السيدة زوجتك لابنتي... أنا آسفة، لكنك الآن تمثل القدوة الذكورية لها... أردتك أن تخبرها أن لك زوجة كي لا تحلم بك بشكل آخر، كأب أو أكثر... أردتها أن تفهم أنك عم لها، لذلك أخبرتها كاذبة عن صلة قرابة بعيدة بيننا... لكن أرجوك... ابنتي بحاجة لصورة أفضل، لكي تتحمل الحياة... أنت تظن أنها قوية، لكن كما ترى هي مازالت طفلة..."
سكن و هو يشعر بغضب حقيقي من كلمات المرأة بحق لين... رغم انها لم تهينيها، لكن تلك الكلمات بشكل عام، تعني أن يترك طرف ثوبهم نظيف دون ذكراها...
"سيد مهاب أنا لا أهين السيدة زوجتك لا سمح الله... فالله وحدة أعلم بحالها... و أقسم لك أنني لا أضمر لها أي ضغينة... لكن كما ترى، لم يبقى لي في هذه الدنيا إلا هذه الطفلة... هي فقط ما أمتلك... لذلك أرجوك... حاول أن تحسن منظارها في الحياة..."
تنهد بقلة حيلة، و هو يجيب متجاهلاً ما فات...
"لو أنك لا تحميها بهذه الطريقة المرضية... أنا مستعد أن أسجلها في مدرسة خاصة لمثل حالتها... لن تشعر بنقص أو ضيق..."
"و ما المقابل... لم تريد أن تفعل كل هذا؟؟"
رفع عينيه لأعلى بقنوط، مرت لحظات طويلة و هو لا يجد م يرد به، قبل أن يتحدث بهدوء ساكن...
"أمي آذت زوجة أبي الحامل... زوجتي مدمنة على الحبوب، و ترفض تركها حتى و إن هجرتها... أبي مسافر و قد ترك زوجته أمانة بين يدي... زوجة أبي حالها بين يدي الرحمن... حياتها في حالة خطر مع حادث سيارة، و قد كنت أنا من يقود بها. هي الآن تحت بند الموت السريري، و كل همنا أن نحافظ على الجنين الذي في بطنها أن يظل حياً لأطول فترة ممكنة...
و بالمقابل أنا فقط خرجت بعشر غرز!"
سكنت المرأة مصدومة بما قاله، لكنه تابع بصوته الشهيد، و هذه المرة عيناه هو على الدورق...
"هذا حالي بالضبط قبل أن آتي إليكم... أكون فارغ... فارغ تماماً... الألم يتطاول على كل ما بداخلي من مشاعر و يقتله... ثم يقتل نفسه مطمئناً، لينتقم مني بالفراغ!...
أنتم لا تحتاجونني... أنا من يحتاجكم... أنا من يحتاج أن يشعر بشيء ما... يشعر بأنه به شيء واحد يستحق أن يعيش لأجله!"
للحظات خانه التعبير قبل أن يكمل...
"أنتم لا تعرفون قيمتكم... أنتم دواء روحي لي... من بعدكم تجددت صلتي بربي... انتظمت في فروضي و صيامي... أنتم شيء ليس من زماننا، و كأنني أقرأ قصة عن صبر الصحابة و تحملهم... أنتم تعطونني أكثر مما تتخيلون... لو تدركون قيمة هذه الثروة التي أثريتموني إياها بتعرفي عليكم، إذن لكنت مديناً لكم بكل حياتي..."
أخيرا رفع عينيه للمرأة و هو يختم كلامه بذات النبرة...
"لذلك، أنا لا أحاول أن أدفع لكم مقابلاً لما منحتموني إياه، فلا أي شيء دنيوي يمكن أن يسدد هذه الهبة... أنا فقط أشكركم... هذه هي الطريقة الوحيدة التي أشكركم بها..."
ثم نهض بتعب شديد، ينوي المغادرة و قد علم أن الفتاة قد اعتكفت بالغرفة المشتركة مع أمها، و لن تأت لتودعه...
"لا تخافي على أميرة... هي قوية مثلك... بإذن الله ستبقى نظيفة و... أميرة... فقط لا تحاولي أن تحفري ذكرى نكبتها بحمايتك المفرطة لها... و أرجوك سيدتي... بل أتوسل لك... إن احتاجت أي شيء، أعلميني... أنتم مسؤوليتي من الآن فصاعدا أمام الله!"
تنهدت المرأة بهدوء و هي تقاوم كل مشاعرها التي تستثار باهتمامه، رغم علمها أنه يفعل ذلك لأجل ما ذكره آنفا... لكن فعلته تلك تحيي بها الحنين لزوجها... لأبيها... لإخوتها الذين كانوا فقط يدللونها هي و طفلتها... للحماية الرجولية التي تزيح ثقلاً كبيراً عن كتفي أي امرأة...
الحمد لله على كل حال...
وقفت تراقبه و هو يتجه للباب، لكنها لم تمنع نفسها أن تقول...
"اذهب لزوجتك سيدي... أخبرها أن الحياة قصيرة...أشركها بألمك... صدقني ستكون سنداً جيداً لك... و صدقني لن ترى إلا راحتك... و بالنسبة لإدمانها، ادع لها الله أن يهيئ الاسباب، لتشفى من هذه الآفة... ثق بأن الله لا يرد راجي أو طالب..."
لم ترى بسمته المرة التي استوطنت شفتيه قبل أن يغادر...
ثم ودعها بهدوء قبل أن يغلق الباب.
*** |