(27)
الفصل السابع و العشرون
عنوان الفصل: التفوق في الخسارة!
مرت لحظات ذهول لا مصدقة و هو يستمع للهاتف...
حواجبه معقودة بتفكير مطحون، و هو يستمع لكلمات لين الراجية...
يسكن كل شيء حوله و تلك الكلمات تعاد مرة أخرى...
نظفني...
أكون معك...
سنداً لك...
معك...
معك...
تتردد الكلمة أكثر من مرة، ليتحرك مبتعداً عن الغرفة خارجاً للبرد، عله يستفيق من تلك الصدمة!
"لين هل أنت بوعيك؟؟"
تبتسم الأخرى بسمة جذلة...
بل بكامل عقلي...
تركته في فترة رقاد اختياري، ثم أردته أن يستفيق...
و قد فعل...
لقد استفاق بكل قوته!
"نعم مهاب... لأول مرة أكون بكامل عقلي..."
وصلته تنهيدة ألم لأجله!! و هي تكمل بحزن...
"مهاب، حينما أخبرتني بحال دعد لمّا رأت أمها... حينما أخبرتني بخوفك مما سحيل بوالدك... حينما أخبرتني بكل ذلك أدركت كم أن الحياة قصيرة..."
واقفة أمام المرآة تتغزل بوجهها الفاتن و هي تلون حروف كلماتها بالاهتمام و الرغبة في أن تكون معه...
"أدركت أننا في لحظة واحدة قد نخسر كل شيء دون أن نتحضر لأجل ذلك... لذلك أريد أن أستغل كل ثانية لأكون معك... و إن كان الشرط الذي تشترطه لأجل ذلك، هو أن يتطهر جسدي من الحبوب إذن أنا موافقة... فقط ساعدني... أنا لا أعرف أي طريق أسلك!"
للحظات، فقط للحظات، آمن...
آمن أنها من الممكن أن تكون السند الذي احتاجه...
آمن أنها ستكون دعوة مستجابة...
لكن عقله الذكي اتفاق مرة واحدة...
"لماذا الآن لين؟؟"
عقدت حاجبيها و هي تفكر أن مهاب لن يكون سهلاً...
"لماذا الآن تتذكرين أن الأحباب يروحون و يأتون، و الفقد قد مر عليك بكل ألوانه و أشكاله... لماذا الآن لين؟؟"
خفق قلبها برعب أن تفشل خطتها، لكنها بعزم قررت أن تقاتل لآخر نفس...
"لأنني لأول مرة أحب!"
خفق قلبيهما مرة واحدة، و هي تتحدث بصدق من قلبها...
"لأنني لأول مرة أشعر بأنني دونك لا شيء... حبوبي لا شيء مقارنة بك مهاب... حبي لك يعني أن خسارتك - أو احتمال حدوثها- هو القاضية... لن أتحمل أن يحدث لك أي شيء... مهاب أرجوك... أرجوك، لا تدعني وحدي... أنا خائفة أن أعود وحدي... خذ بيدي و كن معي... أرجوك كن معي!"
أغلق عينيه لثوان، قبل أن يتحدث بصرامة مقاوماً كل ما بداخله من تيارات متضادة...
"لو مددت يدي و شددت على يدك... هل ستتمسكين بها... هل ستفعلين كل ما يجب عليك فعله... هل ستكونين قوية لتواجهي ما أنت عالمة أنك ستواجهين..."
بسرعة جائه الجواب مفاجئاً له...
"نعم... سأفعل أي شيء... أي شيء فقط لأكون معك... أعلم أن الأيام المقبلة صعبة على الجميع... سأذهب لأي مصح... ٍسأفعل كل ما يطلبه الطبيب... سألتزم... لن أتراجع... أقسم لك أنني لن أتراجع... و لن أجبرك أن تترك أهلك في هذه الظروف الصعبة... فقط دلني على الطريق، و تواصل معي و ادعمني!"
مرة أخرى خفق قلبه مع الصدق البائس في صوتها...
"هذه فرصتي الأخيرة مهاب... هذه فرصتي الوحيدة، لكي أنهض... فهل ستكون سندي... أم أن كل وعودك هي جدار بالوني سينفجر مع أول ضغط حقيقي!"
رن هاتفه بتلقيه اتصال آخر... شعور مؤلم مر عبره و هو يرى رقم والده...
لكنه قبل أن ينهي اتصالها ليتلقى اتصال الرجل، تحدث بوعد صادق...
"بل سأسندك لين... ستكون يدي معك من أول خطوة لآخرها... فقط اثبتي أنت على موقفك..."
و انتقل فوراً يتلقى اتصال والده ساكباً بعض الكذبات على مسامعه ليمنحه اطمئناناً محرفاً!
***
العجز يخنقه و هو يراها على حالها من يومين...
جالسة، أم واقفة، تستند عليه أو على مسند المقعد أمام غرفة العناية حيث ترقد أمها... انفعالاتها جامدة و كأنها تجهز نفسها للفقد الأعظم...
فاتن و فاضل يكونان حاضرين بالتناوب كل يوم لكنها تبدو بعالم لا يصلها بمن حولها...
لا يستطيع أن يلومها على حزنها، و ألم الاستنزاف يقتلها...
لا يعلم أيهما أهون...
موت مفاجئ مريح كبتر كامل لكل الوجع، أم أيام و ليالي تمر و كلاهما يستنزف روحه في أمل مجنون للنجاة!
الأطباء دوماً يعطونهم تقرير يومي عن تقدم حالة الطفل في بطنها فقط، مسقطين الأم من حساباتهم...
تنهد دون كثير من الكلام و هو يعاون زوجته للنهوض و العودة معه... لو الأمر بيدها فستبقى هنا للأبد دون أي نشاط تسابق أمها في خطواتها للقبر!
"دعد... هيا نعود للمنزل... يجب أن تبدلي ملابسك و ترتاحي..."
لم تجد فيها القوة لتهز رأسها برفض، و قواها كلها تخور، لتسلم كل أمورها بتراخي له، لكنه لم ييأس و هو يتحدث معها و كأنه ينشط مخها للتفاعل مع المحيط الخارجي...
"أنت بحاجة لقوتك... فقط سويعات ترتاحين بها و تبدلي ملابسك... أمك بحاجة لك بكامل قوتك!"
رفعت عينيها إليه بعيون بائسة، بينما تهز رأسها بيأس...
"ليست أمي من تحتاج لي زياد... لقد ولت... كله ولى و انتهى!"
أغلق عينيه لثوان يرجع حزنه على حالها للخلف...
"مازال في صدر أمك نفس، و مازال في جسدها روح... لذلك لا تقنطي حبيبتي... هيا تعالي و أعدك أن أعيدك لهنا وقتما تريدين..."
ثم داعب أنفها بألفة...
"ثم ما ببطنها هو منها... الطفل الذي بداخلها هو هدية لكم منها..."
رفعت عينيها لأعلى زاهدة كل الزهد في هذه الهدية، ثم بتراخي نهضت و كلهما متبلد دبق متألم...
و قبل أن تغوص ذاكرتها بكلمات الطبيب لمحت الشريك الوحيد لها بالألم يتلفت حول نفسه بضياع، لتنفصل عن زياد بقوة و تركض ناحية حاتم و هي تنفجر مرة واحدة بالبكاء المرير...
أما حاتم فقد صدم بمنظر دعد الذابل...
كان مهاب قد مهد له -و هو يحاول أن يجمل الأمر- أول ما وصل و لم يجد زوجه بالبيت، لكن منظر دعد جعل الرعب يشله ليستقبل احتضانها بلا أية ردة فعل،
بينما هي تشهق بيأس شديد...
"لقد راحت حاتم... راحت... فقدناها... للأبد راحت!"
***
يقف كغريب ينظر لها جالسة جوار زوج أمها و انهاك مرسوم على الوجهين...
لقد أصبحت رفيقة له... فجأة بات كتفه لا يكفيها، فلجأت لكتف تعلم أن سيدها ممتلئ بذات الجرعة من ألمها، إن لم يكن أكثر!
على الجانب الآخر يقف رجل يخاف أن يقترب، ليكون مرئي و لا يبتعد لأنه لا يطيق ذلك!
بذات الخشية يحدق مهاب بهما و عدم لوم أبيه و عتابه له يقتله...
فقط انفجر به أول ما وصل، ثم بات ينظر إليه بخيبة أمل، مع هزة رأس يائسة، ثم يدير عينيه عنه
كلاهما موجودان طوال الوقت و كأنهما يتنافسا الانتماء لهذه النكبة...
و بالمقابل كان حاتم يجلس هنالك يحاول أن يتماسك...
كانت الصدمة قاسية...
لا يمكنه تخيل حدة في الألم التي شعر بها...
ألم حاد و كأنه مسمار بطول الأرض و عرضها...
ينهشه بكل حدة و هو يمر عبر لحمه، و عصبه و عضله و عظمه...
يفتته فلا يبقى منه شيء يذكر!...
ارتجفت ذقنه بدموع متكومة بحلقة...
صوتها و هي تشكو له مهاب قبل عدة أيام يتردد في عقله...
ترجوه بدلال يناسبها أن يعود ليريحها من حمايته المفرطة...
تهمس له بحياء أنثوي فطري و جرأة عاشقة بشوقها له...
تصفد العرق على جبينه، و حنين مجنون يحرقه و هي تشكو من ركلات الطفل في بطنها المتضاعف حجمه...
الطفل الذي أرادا ألا يعرفا جنسه، و قد اختلفا بأمنياتهما...
هي تريد ولد، و دون أن تشرح علم أنها تريد تعويضاً به عن ابنها المفقود...
و هو يريد طفلة يعشقها بكل فتنة أمها...
استند على يده مغطياً عينيه و جبينه، و ذكرى كذبة مهاب تنطلي عليه...
يقلق بخفة و هو يخبره أن حمل ماجدة في خطر، لذلك هي في المشفى و لا تستطيع أن ترد عليه...
عاد يتذكر كيف انفجر به لأول مرة في حياته و هو يدعو عليه بقهر...
لماذا لم تخبرني منذ البداية؟؟... لم تركتني أضحك و أشغل عقلي بما لا يستحق بينما هي هنا تبرد بالتدريج...
نظرات ابنه الجامدة و هو يتلقى جلد الملامة بصمت، أخبرته أنه غير قادر...
غير قادر على المواجهة...
كان ينتظر أمل مجنون بحدوث شيء خيالي كأن تستفيق!
يريد أن يمنح والده أي شيء إلا خبر وفاة زوجته سريرياً!
و بعدها امتلئ بصمت منكوب، و هو ينهار على الكرسي خلفه... لا يجد فيه قوة لتحمل هذه الصدمة...
دعد دائماً جواره...
تبكي عنه و هي تسنده، و تستند عليه!
أحياناً يتكلمان بأمل غبي أنها ستعود... بجنون يفقدان المساحة الزمنية و هما يتحدثان عن العطلة الصيفية و كيف ستكون معهم...
و كثيراً يكونان صامتين بفقد للحرف، خاصة بعد زيارات لا فائدة منها لغرفتها... المنظر الذي يقتل كل آمالهما و هي نبات لا تتحرك و لا تفعل أي شيء...
الطبيب ينظر بشفقة لهما، و هو يخبرهما، أنه من الأفضل تركها تذهب...
شد على عينيه بقوة و دعد تتذكر شيئاً لا يمكنه نكرانه...
لقد أرادت دوماً بأن تتبرع بأعضائها...
أي شيء فيها مفيد يمكنه أن تتبرع به...
و يوجد فيها الكثير مما هو مفيد... شد على نواجده و فكرة حياة غريب، بقلب زوجته يحرقه... آخر ينظر عبر قرنيتها... و آخر يشفى بنخاعها... و مشوه يستعيد جمال جلده بجلدها.
يا للهول كم هو مرعب طلبك ماجدة!
الفكرة أرسلت قشعريرة في جسده...
لكنه لن يجد فيه القوة ليقول لا!
*** |