كانت تقف بتوتر و حقيبة صغيرة بها الضروريات... تنتظر بترقب سماع نداء طائرتها...
لآخر مرة أخذت جرعتها، و هي تودع بيت أخوها بجبن المتسلل و شجاعة الانتحاري!
أنهت إجراءاتها، فجلست على مقعد الانتظار تنتظر طائرتها...
الوجهة: فرنسا...
الهدف: مصحة خاصة لعلاج حالات الإدمان المشابهة لحالاتها...
لماذا وحدها؟؟ هي من طلبت من مهاب أن يفعل ما بوسعه كي يدير الأمر، دون أن يظهر في الصورة...
عادت تسبح بتفكيرها في شيء آخر...
العم حاتم...
والد زوجها المنكوب...
نظر إليها للحظات، و تقبل وجودها كما نتقبل وجود البعوض في المنزل...
لم تهتم...
في الحقيقة لم تهتم...
لقد أصرت على أن يتعرف عليها قبل أن تسافر...
أن يعلم أنها ركن من عائلته قبل أن تعود...
يجب أن يعي أنها منهم...
بالمقابل، لم يستطع مهاب أن يوقف جنونها و هي تقتحم حياته بفجاجة، و كأنه غير مطمئن لها...
ابتسمت... الفكرة مرسومة بعينه أنها قد تستغل الحادث و ضعفه لتصبح زوجته علناً... فقط بإضافة الإدمان،
لذلك حذرها ببساطة و بكلمات مباشرة أنها لو نكثت عهدها معه، فسوف يطلقها طلقة بائنة!
و كأنها تحلم بعدما وجدت هدفها الحقيقي في الحياة يتحقق...
و مع تذكر الهدف، وجدت نفسها مرغمة تفتح حقيبتها و تخرج منها صورة ايكو لطفل يسبح في رحم أمه...
أمه التي تحولت لنبات...
أمه التي تتسابق انفاسها بهجر جسدها...
طفل مقاتل... متشبث في الحياة...
طفل بحاجة لأم...
و هي بكل بساطة ستكون تلك الأم!
***
هذه المرة تقف وحدها أمام غرفة العناية...
اليأس الذي بها أوقف الدعوات أن تخرج من فمها...
تنتظر جوار حاتم الخبر النهائي...
أغلقت عينيها على دموعها، التي توقفت هي الأخرى عن النزول، و كأن الحداد في روحها قد اكتمل على أمها...
كلمات الطبيب الهادئة...
حال أمها لا يتغير... لا أمل...
فقط يقولها باعتيادية، و كأنه يجنبهم ألم الأمل...
ثم يخبرهم عن صحة الطفل الجيدة بالمقابل...
أغلقت عينيها بيأس و هي تفكر كم هي متكاملة تلك الأم...
حتى في تلك الحالة التي لا تدري، جسدها يرحم أبنائها و يحفظهم...
بتلقائية لم تفقدها، حدقت بالمكان الذي يجب أن يقف به زياد...
لم يعد موجود...
لقد استقل بألمه حالما شك بأنها تعلم...
المضحك المبكي أنها لم تعلم إلا بعدما سألت مرة عن مهاب، ليخبرها حاتم أنه مع زوجته ينهي اجراءات السفر...
كان يتحدث بهدوء و كأنها تدري عن الموضوع...
و لما أخبرته بجهلها عن أنه أصلاً متزوج، وجدت الرجل يرفع عينيه إليها بقلق خافت...
"لابد أنكم تعلمون أنه متزوج..."
عادت تهز رأسها بجهل، ليكمل بما جعلها تحمل هماً اضافيا لهمّها...
"لأنه متزوج بأخت زوجك!"
يومها هزت رأسها بلا تصديق، لكن ملامح الرجل الجادة، منعتها أن تطلب تأكيد...
لين و مهاب؟؟
غير ممكن... بل غير معقول!
وجدت نفسها تستأذنه، و خرجت تجلس في الحديقة تفكر بالأمر...
لين و مهاب؟؟
مازال الأمر عسير التصديق!
بل أقرب للمستحيل...
لكن تفكيرها عاد مرة أخرى يتفعل، لتتذكر كيف كانت لين في النادي الرياضي تشرب العصير بتلك الطريقة المغرية...
كانت تظن أنها تريد أن تستثير علاء... لكن واضح أن الهدف شيء آخر!
و بلا تردد اتصلت بمهاب لتفهم منه...
لكنه لم يجب...
مرة بعد مرة... و هاتفه لا يرد...
و مرت ليلة نامت خلالها جوار زوجها، و هي تكره ما تشعر به من ذنب لمداراتها بما تعلم...
و في اليوم التالي أخيراً رد عليها...
و ببساطة وافقها على ما سمعته من والده...
أما ما صدمها هو معرفتها أن لين قد سافرت...
فرت من البلاد...
و قبل أن تجد الفرصة لتخبر زياد، وجد زوجها كعادته فيها كبشاً لينتقم من كل قهره...
رجفة ضخمة نفضت جسدها و هي تتذكر ما حدث في ذاك اليوم الفاصل، الذي اكتشف فيه زياد سفر أخته...
***
لأول مرة تراه بهذا المنظر...
منذ أن عملت بالبيت و هي تراه مجنوناً إلا ربع، أو عشر عاقل... لكنها لم ترى شيئاً كما رأته اليوم على ملامحه...
عيونه حمر تبرق بطريقة مخيفة...
صوت تنفسه يعلو بطريقة تهدد بإصابته بشلل كامل...
يده بلا إرادة تعصر الورقة التي بين يديه و كأنه يعصر يد كاتبتها...
بل يعصرها كلها...
أول شعور ظهر داخله هو المرار...
مرار حرقه كله...
كلمات الرسالة بسيطة جداً و كأن كاتبتها تدرك أنه يعيب عليها طلب الغفران...
تخبره بهدوء أنها مسافرة، لتتعالج من الادمان الذي تعانيه، بمباركة زوجها...
زوجها...
الكلمة ظلت تتردد في دهنه، لينفجر مرة واحدة بغضب حارق...
صرخة عالية ارجفت مدبرة المنزل و هي تتراجع للخلف بعيداً عن كل نيران غضبه...
كم تكره أنها هي من عرفت غياب السيدة و أخبرته، لتواجه جنونه!
"الحقير... الحقيرة... سأقتله... بل سأقتلهما... أقسم أن أقتلهما كلاهما... الحقيران... سأقتلهما... أقسم أن أقتلهما كلاهما..."
شعرت بالرعب و هي تخرج فراراً من الغرفة؛ لتحاول أن تجد عوناً، لو افنجر شيء في قلبه أو شرايين دماغه!
أما هو فجنون تلبس كل أعضائه...
كل عضلة في جسده تحلم بالتحرر لتحرق كل ذكراها مرة واحدة!
حدق في غرفتها...
دار حوله بلا حيلة...
ثم انقض بجنون يبحث في الأدراج...
و كأنها تنتظره بوثيقة زواج قانونية، في أول درج...
صوت عقل ضعيف حاول أن يقنعنه أن يهدأ لكنه ظل بذات الجنون، يبحث إلى أن وجدها...
موجودة في درج أخير مخفاة خلف ملابسها الداخلية...
علب و علب و علب...
علب صغيرة ممتلئة بالحبوب المسكنة...
بجنون أخذ يقذفها حوله لترتطم بالحائط متحطمة، لكن جنونه لم يتوقف...
بل قهره... غضبه... حممه...
نيرانه...
يا إلهي...
لم يكن له أن يتصور أن النار تتألم باحتراقها...
لكنه كان ناراً و حريق بذات الوقت...
يكوي نفسه بناره...
لذلك انطلق بذات السرعة لورشته يريد أن يحضر منشاره و ازميله و سكينه و لحامه... بل سيحضر مسدسه المرخص!
و قبل أن يتحرك سمع صوت باب الدار يفتح...
و بهدوء دخلت أول شريكه في الجريمة!
***
"دعــــــــــــــــــــــ? ?ـــــــــــــــد"
انتفضت مرة واحدة و هي تسمع صرخته... نظرت لمفاتيح الدار التي سقطت منها مع الصرخة التي أشعلت مخاوفها منه مرة أخرى...
أخدت نفساً تحاول به أن تسيطر على مشاعرها، و هي تتوقع السبب... لكنها قوت نفسها و هي تذكر نفسها أن الأمر لا يخصها...
هي لا علاقة لها بالأمر...
صرخته الأخرى، جعلتها تتجه إليه على قدمين مرتجفتين، لتجده يغلي في المكتب...
ضوء الغروب الخافت يتسلل من النافذة، و ضوء مصباح القراءة يسانده ليبرزا نيران غضبه أكثر!
يدور حول نفسه و هو يمسك ورقة بين يديه...
ينظر إليها لثوان ثم يرفع رأسه للأعلى بغضب حارق...
أخيراً رآها...
حدق بوجهها بنظرات حارقة...
لحظات و تجاوزها بكل قوته، لتجده يغلق الباب بكل قوة... ثم يقف مشرفاً عليها بقامته و غضبه حولها لقزمة أمامه...
"بكلمة واحدة أريد الجواب..."
ابتلعت ريقها و هي لا تجد فيها قوة لترد، فأكمل و هو يمد الورقة المكرمشة في وجهها...
"هل كنت تعلمين أي شيء عن هذا؟؟"
ظلت جامدة و هو يكاد يلصق الورقة في وجهها...
لم تحتج لكثير من الجهد أن تقرأ الحروف...
رسالة وداع من لين...
اعتراف بسيط بزواجها من مهاب...
لا تبحثوا عني...
الصدمة الحقيقية ترتسم على ملامحها و هي تكتشف أنها في مصحة سرية لأنها تعاني من الإدمان...
عيناها متسعة على آخرها، لكنها لم تستطع أن تكمل الرسالة للآخر، و هو يسحبها، من أمام وجهها و صمتها يدينها أكثر...
فقط نفسه يخرج بجنون، و هو يحدق بها بعيونه المحمرة النارية...
"هل كنت تعلمين دعد؟؟"
"زياد أنـــ......"
هز رأسه بنفي و أصبعه ينزل على شفتيها بقوة و كأنه يصفع شفتيها به...
"قلت كلمة واحدة... تعلمين أين هي أم لا تعلمين؟؟"
حدقت به بعجز، لثوان و هي تعض على شفتيها، ليميل ناحيتها بفحيح أقوى ألف مرة برعبه من صراخه...
"هناك..."
ارتجفت برعب و هي تتبع اشارته، لتقع عينيها على صندوق زجاجي... صندوق به رمل و صخر و وعاء ماء...
فروع أشجار و وكر خبيث يلائم سيده...
صندوق يحوي أغلى كائن حي على قلبه...
صندوق فارغ!
و قبل أن تحلل هدفه من اشعارها به و قد بدأت علامات مخاوفها تظهر عليها بتنفسها المتسارع و حدقتيها المتسعة بشكل مرعوب، مال يهمس بأذنها بفحيحه المشابه لفحيح بدأت تتخيل وجوده حولها في كل مكان...
"أنت لا ترينه... أليس كذلك؟؟" دارت بعينها ناحية الرجل، ليكمل بذات الفحيح الكريه...
"هل تعلمين لم هو فارغ دعد؟؟ لأنني ببساطة أطلقته في الغرفة..."
قفزت برعب شديد، من مكانها ناحيته، و كأنها تنوي التعلق به بحماية و قد نسيت أنه هذه المرة عاد لخانته الأولى كعدو...
"لا..." دفعها بعيداً عنه برفض منحها أي شيء منه، لتتعثر بوقفتها، و تستند بآخر لحظة، بمسند المقعد...
"لا، دعد... أخبريني قبل أن يجذبه دفئ لحمك... أنت تشعين حرارة الآن في هذا الجو البارد... سيجدك... لذلك أخبريني ما تعرفينه... تحدثي لعنة الله عليك!"
كانت متجمدة مع كلمته و دون أرادة ضمت نفسها برعب و هي تنظر للأرض بفزع...
لا تستطيع أن تتحدث.. تريد أن تخبره كل شيء... لكنها لم تقدر... الحروف لا تستطيع الخروج و الرعب يصوره يسير من ورائها لتنتفض بقوة مستديرة للخلف...
مرة أخرى تشعر به يتسلق ساقها...
تدور كمجنونة و الرعب يسيرها...
أخيراً همسها المرعوب وصل لقلبه المتحجر...
"أخرجني زياد..."
عبر شفاه متقلصة و أنفاس متسارعة تهدد باختناقها، تابعت تستجديه بصوت بدأ يعلو دون وعي منها...
"أخرجني من هنا زياد... أخرجني... أرجوك!"
ثم انطلقت بلا وعي ناحية الباب تحاول ان تفتحه و هي مازالت تصرخ بجنون...
"أخرجني... أخرجني من هنا... افتح الباب زياد... افتح هذا الباب اللعين... افتحه..."
كانت محاولاتها لفتح الباب مجنونة و المفتاح أصلاً غير موجود... ليجذبها بقوة عن الباب ممسكاً إياها بين كتفيه و هو يصرخ بقهر
و صمتها أتعبه...
"أكنت تعلمين... أكنت مرسالاً بينهما... تحدثي... لأين أخذها... تحدثي... أين ذهب بها... تحدثي و ارحمي نفسك!"
آخر كلمة كانت صرخة عالية و هو يهزها من كتفيها و هو يعيد مرة أخرى أمره أن تتحدث...
تحدثي... ارحمي نفسك و تحدثي...
لكنها لم تكن معه... كانت هناك مع مخاوفها... تعيش معها... تعاد أمامها مراراً و تكراراً...
تراها حولها في كل مكان...
تلفتت حولها برعب...
و فجأة امتلئ المكان أفاعي... المكان كله أفاعي...
نظرت للسقف لتراها تتسلقه...
الحيطان...
النافذة التي ذبل ضوئها...
المكتبة...
المكتب...
هلوسة كاملة سيطرت على عقلها...
صراخه يبدو بعيداً عبر ألف ألف سنة ضوئية...
لا تسمعه و هو يعيد سؤاله... لا تشعر بيديه التي تهزانها...
لم تكن تفهم اتهاماته لها بأنها شريكة له في اسقاط أخته...
لم تكن إلا مع جنون تعيشه بكل تفاصيله...
و أخيراً لم يعد في جسدها أي مقاومة و هي تبرد باستسلام تام...
مستسلمة كما نحتها بتمثاله لكل مخاوفها أن تسيطر عليها...
تحاول أن تخرج من هناك، لكن الأفاعي تشلها... تلتف حول فوق جسدها...
عيناها متسعة على أقصى قدر، لكنها لا ترى شيء حولها...
فقط ترى الأفاعي و هي تتراكم فوق جسدها... تسيطر عليها...
شلل كامل لكل أعضائها مما تعيشه...
الصدر يضيق و التنفس المتسارع بدء يبطئ... اختناق قوي حرقها، و كأنها تعتصرها كما تعتصر فئرانه...
تشعر بثقل على صدرها...
و فجأة دون مقدمات، فقدت الوعي، لتسقط مرة واحدة على الأرض التي تفترشها كل أفاعيها الوهمية!
أما هو فلم يحرك ساكناً، و هو يحدق بها مصفرة أمام قدمية...
و كأنه انتقم بجزء يسير من جرمها بحقه!
ثم انطلق بجنونه ناحية الحقير السافل الآخر!
*** |