كان ينتظره...
طوال الأمس و الصباح، هو ينتظره...
لم يتوقع أن يكتشف غياب أخته بعد مرور أكثر من يوم على ذلك!
ابتسم بسخرية و هو يتجه للباب يفتحه و ذاك يكاد يكسره بطرقه و شتائمه السافلة التي بكل تأكيد ستؤثر على سمعة العمارة!
أول ما استقبله هو لكمة...
ليس لكمة، لكنها زلزال...
زلزال ألقاه داخل الشقة ليتقدم ذاك دون أن يهتم بإغلاق الباب خلفه، و هو ينقض عليه بقهر يلكمه و يركله و قد فقد السيطرة على نفسه...
يتنفس كالثور و هو ينفجر فيه بقهر الرجال كله...
أما مهاب فعلى الرغم من توقعه لجنون زياد، و عذره نوعاً ما له، إلا أنه فعلاً تفاجأ بقوة الجنون التي برزت فيه... و على الرغم من كونه رياضي متقاعد، و جسده مازال قوي، إلا أنه لم يجد حتى الفرصة ليوقف هجوم المجنون عليه، و هو يلكمه بلا توقف في كل ما يمكن أن تصله قبضاته و ركلاته...
يصرخ بنعوت لا يمكن تحملها، يصفه به هو و زوجته...
و فجأة مع انحطاط تلك الكلمات، و جد نيرانه تشتعل مرة واحدة و قد انفجرت به طاقة هائلة...
و بثوان انقض على زياد بقوة مشتعلة بالغضب المضاد...
و بتعارك ذكرين مجنونين على الشرف و الفضيلة وصل علاء في آخر لحظة!
***
شلل...
شلل يجمد كل انفعالاته...
شلل منعه أن يوقفها...
شلل أثبته بالكرسي الذي يجلس عليه...
كان شلله ختاماً لمحادثة بدأت برنين من المجنونة...
لحظات قليلة أثبت ترتيب أنفاسه، قبل أن يستقبل المكالمة...
و بهدوء فوضوي لا يجيده إلا هي أخبرته أنها مسافرة...
"الآن طائرتي مغادرة علاء..."
أغلق عينيه و كأن الشلل لم يصلهما بعد و كلماتها تعاد مرة أخرى في عقله...
"أنا لست آسفة لأجل أحد إلا زياد... صدق أو لا تصدق... أنا آسفة لأجله... لذلك أريدك أن تقف معه... لن يعلم أبداً أنك كنت تعلم منذ البداية... لن أخبره، و مهاب لن يفعل... و أنت كذلك!"
تنفسه تعالى خارجاً من شلله إلا أن صدمته من كلماتها يمنعه من أن يقاطعها لتتنهد بهدوء و هي تكمل...
"هذا هو سبب اتصالي بك... ستخبره أنني أخبرتك قبل أن أغادر عن سفري... عن زواجي من مهاب... عن..........."
أغلقت عيناها و هي تحارب الدموع أن تتكوم بعينيها تنغص نشوتها بأمومتها الوشيكة...
"عن إدماني!"
وصلها تنفسه المجنون المحتقر لتنهي كامل اعترافها...
"نعم علاء..." أجابت سؤاله دون أن يطرحه...
"أنا مدمنة للحبوب المسكنة... منذ أن فقدت جنيني و أنا أتعاطاها بتزايد... و....."
ابتلعت غصة مرة بحلقها، بينما هو لا يجد حرفاً يخرجه... فقط شلل تراكب على كل عضلاته... حتى يده ثبتت السماعة على أذنه برد فعل ثابت لشلله...
"و الآن مهاب عرض أن يساندني... هو من كشفني... و هو من عرض أن يعينني... أعلم كم تحتقرني... أعلم كم تكرهني... و أعلم كم تتمنى لو تسقط بي الطائرة... لكنني حقاً لا أريد أن أكذب عليك... أنا لست آسفة، لأنها الفرصة الوحيدة لي لأعيش...
أنا آسفة فقط للألم الذي سأسببه لزياد... لكنني سأعود لين أخرى... لين حقيقية... طبيعية... لذلك، إن كان هذا يغفر لي عندكم، فأتمنى أن يفعل..."
وصلته آخر زفرة منها و هي تنهض تجر حقيبتها الصغيرة و هي تنظر لمهاب الذي حضر متأخراً ليودعها...
"لذلك وداعاً علاء... اعتني بزياد... أرجوك افعل!"
و انهت المكالمة و هي تتحرك لأجل أفق جديد في حياتها...
دون ذرة ندم واحدة!
***
أفاق من شروده و هو يتذكر حال زياد حينا اقتحم عالمه... لأول مرة تتصل به مدبرة منزله ترجوه أن يأت ليرى ما سيفعله المجنون...
و بسرعة مجنونة قاد متوجهاً لبيت صاحبه...
مرت رجفة بجسده و هو يجد المرأة تحدثه بلا ترابط عن زوجته فاقدة الوعي و عن خروجه المجنون بسيارته تاركاً الفتاة بحال لا يوصف...
لم يفكر كثيراً و هو ينطلق بسيارته مرة أخرى لشقة مهاب...
تجمد لثوان و هو يرى حطاماً في كل مكان حوله...
عيناه تدوران في حطام الشقة الذي يدل على الجنون الذي لا سيطرة عليه... و بلمحة عقل متأخرة أقفل الباب خلفه بسرعة، تجنباً لفضائح بدأت، لكنها مازالت تتسع!
عاد يتلفت حوله بلا حيلة و الرجلان مازالا يتقاتلان بتنافس للقتل الأكيد...
ملامح الرجلين تشوهت بالكدمات و اللكمات و الدم ينز من شفاه زياد، و بالمقابل من جرح في طرف خد مهاب، بينما غرز جبينه التي اقتربت من الالتئام عادت تنفرج و تنزف بغزارة!
بكل تأكيد هما يتنافسان على الاقتراب من جريمة قتل...
أغلق عينيه لثانية يحسم بها الحل الوحيد...
ثم................
تجمد الاثنان مع صوت رصاصة بدا جداً عالي...
حدق بهما علاء بصرامة شديدة و الدخان يبرز من فوهة السلاح الذي أنزله لأسفل...
"خلال دقائق أو أكثر أو أقل، ستكون الشرطة هنا... "
وقف مهاب ببطء شديد، ليتبعه زياد و هو يشد على نواجده بقهر...
يا ربي كم هو متشبع بالقهر...
قهر و غضب يجعله ينفخ للحظات، قبل أن يتقدم مرة أخرى ناحية مهاب الذي أزاح الدم عن وجهه بتحفز شديد، لكن علاء وقف بالمنتصف و وجهه ناحية زياد...
"إنه لا يستحق أن تقترب منه زياد... هو لم يفعل إلا أن تزوجها برضاها... إن كان هنالك من يستحق القتل فليكن هي!"
تجمد الاثنان من البدائية التي تشع من كلمات علاء الباردة، ليهز مهاب رأسه بسرعة و هو ينظر لظهر الرجل و وجه صاحبه باشمئزاز...
"حقاً يا أشرف شرفاء الأرض... تتحدثان عن الدم الذي يراق ليطهر الشرف... و ماذا فعلتما لأجلها... ها... ما الذي فعلتماه لأجلها..."
انتفض زياد، و لثوان تحفز علاء ليصد هجومه عن مهاب، لكن كلاهما تجمد و مهاب يكمل بكراهية من كلاهما...
"تتركانها كأنها حمل زائد، لأول حقير يطرق بابك... لو كان فيكما دم أحمر كما تحاولان الآن أن تظهرا، إذن لكنتما بحثتما... فقط بحثتما عن خلفية الحقير الذي سلبها كل شيء... قتلها مرة واحدة... و تركها تنعى أشلائها المتناثرة... كنتما ترونها جثة تسير بينكم... كنتما ترونها ميتة... ألم ير أحدكم أي علامة؟... أخوها الذي يعيش معها بنفس الدار لا يعرف أن أخته مدمنة... ثم تأت لتتحدث عن الحساب و الشرف... أي حساب و أي شرف... عن أي حساب و عن أي شرف... فكلاهما لم تسمعا بهما..."
توقف ثانية واحدة ليأخذ نفساً، و هو يمسح الدم عن جبينه بطرف كمه، بينما زياد يتجمد مع هذه الحقيقة، ليتابع مهاب و كراهيته لنفسه و لزياد و علاء تدفعه لأن يفجر كامل الدمل غير عابئ بأحد...
"أختك حاولت أن تنتحر... أين كنت؟... أختك كانت متزوجة بالسر أين كنت؟... أختك مدمنة حبوب، أين كنت؟... هه و هل تعلم ما هي النكتة... أختك خارج البلد لأكثر من يوم... و أين كنت؟..."
و أكمل باشمئزاز و هو يشوح بيده باحتقار...
"يا أخي اذهب إلى أي حفرة جحيم و ألقي نفسك بها... ربما وقتها يبرز دمك الأحمر... لكن لا تتحدث الآن عن أختك و أهميتها... هل تفهم؟؟... و هل تعلم... لو كنت مكانك، لحمدت الله أن همها قد انزاح عن كتفيك كاملاً... ها قد ارتحت من عبئها... اذهب زياد... اذهب للجحيم، عل دمك الأحمر ينز على جمراته!"
برحمة من الله، لم تكتمل المرارة من زياد، و طرقات قوية تدق الباب...
أخيراً جاءت الشرطة!
***
الكلمات تعاد في ذهنه مرة بعد مرة...
تجلده بأقوى من كل اللكمات التي نالها من مهاب...
يشعر بيد علاء تشد على كتفه و هو جالس جواره في مجلس بيت الأخير،
بعدما استطاع بمعجزة أن يخرجه من الحجز بكفالة، خصوصاً مع تنازل مهاب عن القضية...
شد على كتفه أكثر و هو يقول بهدوء و روية...
"زياد، لا تصدق ما قاله... لقد............"
قاطعته هزة رأس ساخرة مرة...
"بل كل كلامه صواب... كل كلامه صحيح... أختي في بيتي... بين حيطاني... متزوجة منذ أكثر من سبعة أشهر بالسر... سبعة أشهر... هل تفهم معنى سبعة أشهر؟!..." ارتجف ذقنه بهوان و هو يكمل باشمئزاز مريع من نفسه... " أختي مدمنة لأكثر من عامين... أختي... يا إلهي... أختي أنا!"
ثم دفن رأسه بين كفيه بانكسار حقيقي...
لأول مرة يشاهد الكسر الحقيقي للرجال...
يا رب خذ بحقه منك يا لين على ما فعلت بأخيك...
يا ربي لا تسامحها...
عاد يستطعم نفس مرارة أخيه الجالس جواره، و حرقهما باتا واحد...
الكسر انتقل له، لكن مهما قيل لن يكون ككسر زياد...
ذلك الرجل الذي تهدلت كتفاه مرة واحدة بعدما واجها كل مصائب الدنيا...
رجل يدفن رأسه بيأس حقيقي بين كفيه و هو يستطعم الاستحقار و يتلحف به...
يا رباه كم هو مؤلم كسر الرجال!...
لم يجد ما يواسيه به...
فقط شاركه الجلسة الصامتة و كأنه يعاونه على جبر كبريائه... عنفوانه...
أخيراً بدأ يهز رأسه بسخرية...
"أراهن أنها تضحك الآن ملئ فيها..."
لكنه و بتعذيب لروحه استمر بصمته، بينما زياد يرفع عينيه لأعلى و كأن جنوناً حقيقيا تلبسه...
"بكل تأكيد أنتِ فخور بفعلتكْ... بكل تأكيد أنتِ راضية... بكل تأكيد حصلت على راحتك التامة... انتقامك التام..."
ثم دار بعينيه في القاعة و هو يخاطب خيالات مجنونة يراها وحده...
"هل تعلمين لين؟؟ ضربة معلم..."
فجأة ارتفع صوته و كأنه صراخ، و هو مازال يدور بعينيه يبحث عنها...
"نعم ضربة معلم، ضربة استاذ محترف... ظللت دوماً تحاولين أن تخدشي... تجرحي... تخمشي... و أخيراً..."
عاد صوته ينخفض بانكسار...
"و أخيراً تجدين عبر تلك العلامات، المقتل... تجد المكان الصحيح، للطعن... تجدين المنطقة التي لا يبرأ جرحها... فعلاً استاذة... فعلا لين!"
*** |