خـــلال الـيــومين التـــاليين , لم تـحظ هـــارييت بوقت للتفكير لكثرة
التحضيرات المتوجبة عليها , تفحص ماركو دفاتر المتجر , واستغرب
الطريقة التي تتبعها في تسيير أعمالها . لكنه سدد ديونها , كما ترك لها مبلغاً
إضافياً لمديرة المتجر الممتازة التي استلمت عنها , وبلغت دهشة ماركو مبلغها
عندما جاءها زبون وكان على وشك أن يشتري قطعة ثمينة للغاية , وإذا بها
تتكلم عن القطعة باستخفاف حتى فقد الزبون اهتمامه بها وخرج من دون أن
يشتريها . فقال لها ماركو , الذي كان جالساً ينظر مذعوراً : (( ليس في القطعة
ـ نعم , لكن الزبون لم يعجبني .
ـ لم يكن ليمنح القطعة العناية اللازمة . أنت لم تفهمني , أليس كذلك ؟
فأجابها عابساً : (( مطلقاً )) .
ـ هذه ليست مجرد أشياء أشتريها وأبيعها . فأنا أعشقها . هل تبيع كلباً
صغيراً مدللاً لرجل تعرف أنه لن يعتني به ؟
ـ الكلاب كائنات حية يا هارييت , بخلاف هذه .
ـ وهذه أيضاً حية , أنا لا أبيع شيئاً لشخص لا أثق به . ـ
ـ أنت مجنونة , تتصورين أشياء خيالية , فلنذهب من هنا .
سافرا ظهر اليوم التالي إلى روما , حيث كانت بانتظارهما السنيورا لوشيا
كالـﭭانـي , وأشرق وجهها ما إن رأت هارييت . هتفت وهي تتقدم نحوها
فاتحة ذراعيها : (( إيتا , عزيزتي الغالية إيتا )) .
شعرت هارييت بغصة في حلقها لهذا الترحيب غير المنتظر . وسألتها
لوشيا وهي تمسك بكتفيها وتتراجع خطوة : (( أنت تعلمين لماذا دعوتك باسم
ـ كان أبي يدعوني بهذا الاسم في طفولتي . وكان يقول إن أمه . . .
ـ نعم , كان تصغير اسمها إيتا , آه , كم تشبهينها .
وعادت تحتضنها مرة أخرى , بدا استقبالها لابنها متحفظاً , لكن
نظراتها لم تدع مجالاً للشك في أنه محور حياتها . ثم عادت , على الفور ,
بانتباهها إلى ضيفتها لتمسك بذراعها وتقودها إلى حيث كانت سيارة الرولز
اجتازوا منطقة ريفية إلى أن وصلوا جنوب المدينة , كانت المنازل
الفخمة مبنية بعيداً عن الطريق , مستترة خلف أسوار عالية وبوابات حديدية
مزخرفة , حيث تقطن الأسر التي كانت تدير العالم بهدوء . ولم يكن بإمكان
عائلة كالـﭭانـي أن تعيش في مكان آخر .
بدت السنيورا كالـﭭانـي امرأة رائعة الجمال , بيضاء الشعر , بالغة
الأناقة , وتكهنت هارييت بأنها على الأرجح تناهز السبعين من العمر , لكنها
بقامتها الطويلة النحيفة ومشيتها المرنة تبدو أصغر سناً .
ـ فرحت كثيراً عندما أخبرني ماركو أنك ستزوريننا , فمنزلنا يبدو خالياً
قالت لها هذا وهم يجتازون بالسيارة البوابة الحديدية للفيلا . انسابت
السيارة بين الأشجار إلى أن لاحت لهم الفيلا فجأة . بدت بيضاء بالغة
الفخامة والاتساع , تتدلى الأزهار من شرفاتها , وتؤدي إلى بابها الأمامي
فتح أحد الخدم الباب , فسارت لوشيا أمامها بمهارة إلى الردهة ومنها
إلى صالون فسيح . جاءت خادمة فأخذت معطف هارييت , وأتت خادمة
أخرى بعربة الشاي . فقالت لوشيا : (( شاي انكليزي , لك خصيصاً )) .
إلى جانب الشاي كان هناك بسكويت وحلوى تناسب كل الأذواق .
تبادلوا الدعابات والمزاح لفترة , رغم أن هارييت أحست بأن انتباه
لوشيا الحقيقي كان في مكان آخر . فقد راحت تتفحص ضيفتها , وبدا
واضحاً أن ما رأته قد سرها . إذ لم تعرف هارييت في حياتها ترحيباً بمثل تلك
الحرارة , وبدا ماركو مسروراً لما رآه . ـ
نهضت لوشيا قائلة : (( والآن , سأريك غرفتك )) .
بدت غرفتها رائعة للغاية بنوافذها المطلة على الريف الإيطالي البديع
وعلى النهر وأشجار الصنوبر الممتدة تحت أشعة الشمس . كان السرير يتسع
لثلاثة وقد صُنع من خشب الجوز المحفور وزُين بالملاءات المطرزة . أما
الأرض فخشبية مصقولة , والأثاث قديم الطراز مصنوع من خشب الجوز
أيضاً . وكانت التحف تقليدية , بعضها ثمين كما لاحظت هارييت بعينها
الخبيرة . لكنها لم تشأ أن تفكر في العمل حالياً . ـ
سألتها لوشيا بلطف : (( أتظنين أنك ستكونين مرتاحة هنا ؟ أتريدين أن
ـ كل شيء رائع . وأنا فقط لم . . . ـ
وتملكها الذعر عندما اغرورقت عيناها فجأة بالدموع فأشاحت
بوجهها . فأجفلت لوشيا : (( ماذا حدث ؟ هل كنت فظاً معها يا ماركو ؟ )) .
فأجاب على الفور : (( كلا , بكل تأكيد )) .
فقالت هارييت بصوت أحش : (( على العكس كلاكما . . . لم أعرف
فقال ماركو وعدم الارتياح بادٍ على وجهه : (( علي أن أذهب إلى العمل ,
فقد أهملته أكثر مما ينبغي . . . )) . ـ
فسألته أمه باشمئزاز : (( ماذا تعني بقولك ( أكثر مما ينبغي )؟ )) .
ـ أرجو المعذرة منك ومن هارييت لم أقصد أن أكون عديم التهذيب .
ولكن علي حقاً أن أعود إلى مكتبي ومن ثم إلى شقتي لعدة أيام .
ـ ألن تأتي إلى العشاء الليلة ؟ إنه أول مساء لإيتا معنا .
ـ للأسف لن أتمكن من تناول العشاء معكما , لكنني سأزوركما قريباً .
قبل أمه وبع لحظة تردد , قبل خذ هارييت , ثم خرج بسرعة . هتفت
لوشيا : (( يا له من تصرف ! )) . ـ
ـ إنه مدمن على العمل . وأظنه ضيع الكثير من الوقت .
ـ أنا وأنت سنمضي الأيام القليلة المقبلة معاً . كم أنا سعيدة .
شعرت هارييت بأنها دخلت الجنة على غير توقع . فلوشيا فعلت ما
بوسعها لترضيها وأمرت بإعداد الطعام الانكليزي خصيصاُ لها .
طبت لك ذلك لأنني أعلم أنك نصف إنكليزية , لكن الإيطالية تسري
وافقتها هارييت وهي تتساءل عما قاله ماركو عنها , فقد كانت عينا
لوشيا تنضحان تفهماً . ومنذ ذلك الحين أصبحت الإيطالية لغتها , وسرعان
ما أصبحتا صديقتين , سألتها لوشيا : (( لماذا لا تتصلين بأبيك لتعلميه بأنك
لم تشأ هارييت القيام بذلك . لكنها عملت بنصيحة مضيفتها . أجابها
صوت غير مألوف أخبرها بأن السنيور ديستينو وأسرته في رحلة لعدة أيام ,
لكنه لم يخبرها بمكان وجودهما حتى عندما أخبرته هارييت إنها ابنته , بدا
واضحاً أنه لم يسمع بها قط من قبل . تركت رسالة لأبيها طالبة منه فيها أن
يتصل بها . ثم أقفلت الخط رافضة أن تشعر بالألم . ـ
استيقظت هارييت في الصباح التالي منتعشة , لتجد أن لوشيا قد
وضعت برنامجاً لنهارهما : ((سنتغدى في المدينة , ثم ذهب في جولة )) .
أسعدها أن تجدد معرفتها بروما , هذه العاصمة العظيمة التي عاشت في
أحلامها . لقد كانت ذات يوم عاصمة العالم , فأصبحت الآن تعج بالسياح
وزحمة السير , ومع ذلك ما زالت مليئة بالآثار القديمة الخالدة . بعد الغداء
أخذتا تتمشيان في شارع (( فيا فيتيتو )) الرائع , وأشارت لوشيا إلى شقة ماركو
التي كانت في الطابق الخامس رفعت هارييت نظرها إلى النوافذ , لكنها
أمضت اليوم التالي وحدها لأن لوشيا كانت عضواً في عدة جمعيات
خيرية وعليها أن تحضر اجتماعاتها . وهكذا انطلقت , سعيدة , تتجول في
شوارع روما المبلطة , مستكشفة الأزقة الضيقة لتصل أخيراً إلى متجر يختص
ببيع تحف إغريقية . وعندما غادرت المتجر كان دينها قد ازداد بشك كبير .
كانت تتطلع بشوق لترى ما اشترته لماركو , لكنها حتى الآن لم تسمع
عنه شيئاً . تناولت المرأتان عشاءهما ذلك المساء وحدهما . وفيما بعد , وهما
تحتسيان القهوة معاً قالت لوشيا فجأة : (( هل يبدو لك فظيعاً أنني أبحث
لابني عن عروس مناسبة ؟ )) . ـ
ـ ربما يبدو ذلك غريباً نوعاً ما . ألا يعترض ماركو على فكرة الــزواج
ـ هذا أسوأ ما في الأمر , فهو لا يمانع أبداً . كان خاطباً مرة لكن الخطبة
فشلت ومنذ ذلك الحين وهو يتصرف وكأن المشاعر لا تعني له شيئاً .
ـ أعتــقــد ذلـك , لكنه لا يـتـحــدث عــــن هذا الموضوع أمــام أحــــد ولا حتى
أمامي . ربما أنــا عــاطفية حمقــاء , لكنني كنت أحب إيتا كثيراً وقــد ماتـت
صغيرة جداً . كل ما أطلبه هو أن أرى عائلتينا متحدتين في الـزواج والأولاد .
ـ كنت صديقة لإحدى أخواتها فأخذتني لتعرفني إلى أهلها . كانت إيتا
أكبر مني بعشر سنوات , لكنها أخذتني تحت جناحـها لأن أمي كانت ميتة .
وكنت اشبينتها في عرسها وأول من رأى أبيك حين ولد . لقد رغبتا أن ينشأ
أولادنا معاً , لكنني تزوجت متأخرة . ثم مرت سنوات كثيرة قبل أن يولد
ماركو . لذا لم يحدث ذلك . ثم ماتت عزيزتي إيتا وما زلت أفتقدها كثيراً .
كانت الشخص الوحيد الذي استطعت أن أفضي إليه بما في نفسي .
جــوابــاً على ذلك فتحت لوشيا خزانة وأخــرجـت مـنهــا ألـبـــوم الصــور .
ناولتها إياه وبدأت تريها الصرة تلو الأخرى : (( هذه هي . . . إنها إيتا عندما
كانت الشابة في الصورة ترتدي ملابس قديمة الطراز , أما وجهها فكان
شبيهاً بوجه هارييت وكأنه انعكاسها في المرآة . وقالت بعجب : (( أنا حقاً
ـ أكثر من أولمبيا بكثير : فهي لم تكن مناسبة مطلقاً . إنها فتاة ظريفة
حلة لكنها طائشة , ومع ذك فقد فكرت فيها أولاً لأنني عرفتها منذ
سنوات طويلة . يا ليتني عرفتك أكثر . و يا ليت أمك لم تبعدك عنا !
ـ قال أبوك إنها لم تشأ أن ترى أياً من بعد أن تطلقا . وأصر على العودة
إلى إنكلترا . ونفاها إلى هناك نهائياً )) .
فقالت لوشيا على الفور : (( يا لتلك المرأة ! لم أحب أباك قط . إنه ضعيف
الشخصية وغير جدير بأمه . والآن , أثار اشمئزازي تماماً )) .
فقالت هارييت غاضبة : (( وأنا كذلك . لق أنكر علي تراثي الإيطالي
ـ حسناً , يمكنك أن تستعيديه هنا .
قالت لوشيا هذا بحرارة , فأجابت هارييت متألمة : (( نعم . بالطبع )) .
ـ هل من الفظاظة أن أقترح عليك أن ترتدي أزياء بلادنا ؟
ـ أتعنين أن ملابسي تبدو حقيرة ؟
ـ كلا بالطبع . ولكن بين المواهب الإنكليزية الكثيرة , ربما تفصيل
وتركت بقية الجملة ون نهاية . فقالت هارييت بلهجة حاسمة : (( لا ,
معك حق . حان الوقت لكي أبدو بشخصيتي الحقيقية )) . ـ
ثم اهــتـزت ثقتها بنفسهــا وتــابعت مترددة : (( مهما كــانت تلك
ـ لا تقولي شيئاً كهذا مرة أخرى . منذ هذه اللحظة عليك أن تعيشي
في الصباح التالي ذهبتا إلى (( فيا دي كوندوتي )) أغلى متاجر روما . وهناك
راحت لوشيا تنتقي الأثواب مبعدة هذا بغطرسة , واضعة ذاك جانباً , إلى أن
تكدست الملابس شيئاً فشيئاً . وعندما غيرت هارييت ملابسها كلها شعرت
بأنها شخص آخر . كان شعوراً غريباً لكنه أعجبها .
بعد ذلك عرفتها السنيورا إلى السيدة تالي مصممة الأزياء المتفوقة , التي
أمضت فترة العسر في دراسة وجه هارييت وما يليق به . وكانت هارييت
نادراً ما تعبأ بالماكياج . لكنها الآن أدركت خطأها . ـ
عيناها , بخضرتهما الرائعة , يجب أن تبدوا أوسع وأكثر تألقاً . وأحمر
الشفاء يجب أن يكون متلائماً مع لون العينين , ويبدو أن كل درجات الألوان
تلائمها ما عدا اللون الذي اعتادت استعماله . كانت الشابة التي بادلتها
النظر في المرآة غريبة , ذات عينين كبيرتين مظللتين وفم ممتلئ , لطالما حاولت
وعندما أمسكت تالي المقص , هتفت هارييت : (( ليس شعري )) .
ـ لا يمكنك أن تخفي وجهك خلف ذلك الستار من الشعر .
قالت لوشيا هذا , لكن هارييت , التي بقيت لينة مرنة حتى الآن ,
تمسكت فجأة بالعناد وقد تملكها رغب غير مفهوم من التفكير في خسارة
شعرها . استسلمت المرأتان أخيراً , لكنهما أصرتا على أن ترفعه عن وجهها .
وبعد لحظات كان شعرها المرفوع ق غير شكل رأسها بأكمله . كاشفاً عن
عنق طويل رائع كادت تنسى أنها تملكه . أخذت تتأمل نفسها , ممزقة بين
الذعر والحماسة , مفكرة رغماً عنها بأن كارلو سيندهش حين يراها .
اختارتا أخيراً ستة أثواب . أبقتا خمسة منها في المتجر حتى اليوم التالي
لك يتم تقصيرها , ولم تأخذا معهما سوى بنطلون زيتي اللون وقميص من
الساتان , وعندما جلست هارييت تتناول العشاء مع لوشيا , كانت معنوياتها
مرتفعة للغاية , وفكرت في أن ماركو سيعجب بها لو جاء الآن . ـ
لكن الأمسية مرت من دون أن يظهر له أثر , اتصلت به لوشيا ولكن
عندما سمعت المجيب الصوتي قالت بحدة : (( لا . لن أترك له رسالة )) .
حاولت هارييت أن تهدئها بهذه الكلمات وإن كانت في الواقع تشعر
بأنها تريد أن تصرخ مثلها .
ـ مرت عدة أيام وهو . . . مشغول . ألا يمكنه أن يستغني عن بعض
الوقت لأجل . . . لأجل . . .
ـ لكنني لا أعني له شيئاَ . أنا هنا فقط لكي نستطيع , أنا وهو , أن نعرف
ألقت لوشيا عليها نظرة معبرة : (( حسناً , أنت ابتدأت لكل تأكيد
تتعرفين إلى ابني . إنه أناني وغير مبالٍ )) . ـ
بدا لها هذا صحيحاً . هل هذه حقاً نظرة ماركو إلى الغزل والتودد ؟ أن
يتركها هنا لكي تكسب رضى أمه وكأن ذلك هو الشيء الوحيد المهم ؟
وصلت بقية الملابس عصر اليوم التالي فجعلتها لوشيا تستعرض نفسها
قالت هارييت : (( أنا لست واثقة بالنسبة إلى ثوب السهرة هذا . إنه
ـ بل إنه يلائم جسمك . وهو يبرز ثناياك بشكل بديع .
اقتربت هارييت من المرآة : (( ولكن ليس لدي ثنا . . . آه , بل لدي )) .
وأخذت تستجير , محاولة أن ترى الثوب الزعفراني اللون قدر
الإمكان , من دون أن تجفل من الطريقة التي يكشف بها جسمها
قالت هذا وقد ابتدأ السرور يتملكها .
ـ كان عليك أن تشتري لنفسك ملابس لائقة من قبل , بدلاً من تضييع
وقتك على تاريخ الآثار . الرجال الأموات بأحسن حال في قبورهم , لكنهم
ـ ربما أنا لا أريد أن يصفر لي الرجال .
ـ هل أنت امرأة أم لا ؟ أنت جميلة وعليك أن تبرزي جمال جسدك .
قالت هذا وهي تحاول عبثاً أن تشد فتحة الثوب إلى أعلى : (( هذا الثوب
ضيق لدرجة أنني أبدو كأنني عارية تماماً )) .
ـ إنه ممتاز , ماركو , يا ولدي العزيز .
فاستدارت هارييت مجفلة لتجـــد أن مــاركو قـــد دخــــل إلى الغرفة بهدوء
وهو ينظر إليه مـســروراً . نهضت لوشيا وعانقته , فعانقها بـدوره بعطف
قبــل أن يلقـــي بقبلة على وجنة هارييت . فعبقت خيــاشيمها برائحة عطره
ممزوجة برائحة رجولته الحادة القوية .
سألته أمه : (( ألا تظن أن مظهر هارييت يتحسن ؟ )) .
ـ أظنها رائعة الجمال . ولكن يجب أن ترفع شعرها .
ـ الحق معك . ماذا لم ترفعيه اليوم يا إيتا ؟ كان يبدو جميلاً جداً أمس .
وأمسكت بخصلات شعرها رفعتها فوق رأس هارييت .
فقالت هارييت مجفلة : (( لا )) .
ثم عادت تسدله على كتفيها , ولكن كان هناك سبب آخر يمنعها , لم
تستطيع أن تفهمه ابتدأت تشيح بوجهها مبتعدة , لكن يدي ماركو أمسكتا
بكتفيها تديرانها إليه لتواجهه , ثم شعرت بأصابعه على رقبتها تجذب شعرها
إلى أعلى . وسألها : (( لماذا تريدين أن تخفي وجهك ؟ )) .
ونظر إليها لحظة قبل أن يقول برقة : (( وأظن أيضاً أن على أبيك أن يجيب
ـ لا أدري ماذا تعني . . .
وماتت الكلمات على شفيتها , ذلك أنها فهمت تماماً ماذا يعنيه وهو
يقول : (( إذا كنت تظنين بأن أحداً لن يرغب برؤية وجهك , لمجرد أن أبيك لم
يكن يسر برؤيته , فأنت مخطئة )) .
ذهلت لهذا الكشف المفاجئ , فصحيح أن معاملة أبيها تلك , التي
ظنت أنها استطاعت أن تتجاوزها , ما زالت تؤثر فيها حتى الآن . لكنها لم
تتوقع أن يرى تلك الحقيقة رجل بارد عديم المشاعر . قابلت عينيه , ثم
أخذت نفساً حاداً وجمدت وهي ترى فيهما شيئاً ما . . . أم أنها مخطئة ؟ لكن
تبد ذلك بسرعة ظنت معها أنه وهم . قال ماركو فجأة : (( إرفعيه . الشعر
الطويل لا يناسب أبداً هذا الثوب )) .
هذا السبب الواقعي المبتذل أعادها إلى الواقع . أسرعت إلى غرفتها لتجد
الخادمة التي كلفتها لوشيا بمرافقتها , فساعدتها على رفع شعرها كما كان في
وعندئذ نزلت إلى الطابق الأسفل , لم يقل كارلو شيئاً عن مظهرها بل
اكتفى بإيماءة راضية . أما لوشيا فكانت قد استفاقت من فرحتها بحضور
ابنها وتذكرت أنها مستاءة منه .
ـ أظن علينا أن نكون شاكرتين لأنك تنازلت وتذكرتنا أخيراً . هل
سنحصل على خمس دقائق من وقتك الثمين أم عشر ؟
فقال ضاحكاً : (( لا تغضبي مني يا أمي ! لقد جئت لأكفر عن ذلك ,
وأدعو هارييت لتخرج معي الليلة )) .
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :