(( بيلا فيغرا )) مطعم ليلي يقع في شارع (( فيا فيتيتو )) الذي يبعد عدة أمتار
عن شقة ماركو . حال وصولها المكان أحست هارييت بأن الجو عابق بالثقافة
والعلم , وتساءلت كم من النساء أحضرهن ماركو إلى هنا .
قادها إلى مائدة منفردة بعض الشيء . لم يكن البرنامج الترفيهي قد
ابتدأ , و كان النادلون يسرعون ذهاباً وإياباً لتلبية الطلبات . استدعى ماركو
أحدهم بنظره واحدة , ما أغاظ عدداً من الزبائن الذين طال انتظارهم .
جلست هارييت بارتياح حتى أن انزعاجها بسبب ثوبها الضيق بدأ يزول .
ـ آسف لتقصيري هذا . أمي غاضبة جداً مني . هل أنت كذلك أيضاً ؟
فقالت غير صادقة تماماً : (( لا . لا بد أن لديك عملاً كثيراً بعد سفرك )) .
فأومأ : (( لدي سكرتيرة جيدة , لكنني أفضل أن أتابع الأعمال بنفسي .
أنا شاكر لك تفهمك , و آسف لأن أمي لا تتفهم ذلك . إنها تظن أن هذا
يجرحك ويجعلك تسرعين بالعودة إلى انكلترا )) . ـ
فقالت ببشاشة : (( لا , فأنا مسرورة جداً هنا , أنا وأمك منسجمتان
ـ هذا ما فهمته منها , بالمناسبة , أتراني رأيتك في شارع (( فيا فيتيتو ))
ـ ربما . فقد استأجرت سيارة من هناك بعد أن اشتريت بعض
الحاجيات . لقد وجدت متجراً على بعد شارعين . . . )) .
أخبرته كل شيء دفعة واحدة . . . زيارتها إلى روما , النفائس الأثرية
التي اكتشفتها , اللحظة التي ساورها فيها شعور بالذنب لإطلاق العنان
لنفسها في الشراء , بهجة التملك . . . أصغى ماركو إليها , أولاً بابتسامة , ثم
فقالت بلهجة دفاع : (( إنها صفقة . وهي ستبدو رائعة في المتجر )) .
ـ المتجر الغارق بالديون ؟ بحق الله يا امرأة , أليس لديك إحساس بقيمة
ـ إسمع , أنا أعرف أهمية المال , فأنا لا أنكرها .
فقال بلهجة لاذعة : (( هو ذا تنازل منك الآن ! )) .
ـ ولكن المال ليس الأول في قائمة أولوياتي . . .
ـ يهمني أن أعرف مرتبته في قائمة أولوياتك .
جعلها الغيظ تقول بصراحة : (( في أسفل القائمة إذا كان التفاوض هو في
ـ لا بأس . هيا أخبريني بأنني مخطئ .
لم تستطع . خبراء الاثار يعرفون أكثر من غيرهم كم يكلف الجمال ,
واضطرارها للاعتراف بذلك أثار سخطها أكثر من أي شيء آخر .
ـ لا تنسي أنني رأيت حساباتك , وأذكر جيداً كم كانت مثيرة للشفقة .
أظنك تعتبرين القيام بالعمل بشكل جيد ومسألة غير إلزامية .
ـ لا بأس . أنا أعترف بأنني أميل إلى ترك هذا النوع من الأشياء يعالج
فحدق في عينيها الشاردتين : (( هل هذا حقاً ما تفعلينه ؟ )) .
ـ حسناً , أنت تعلم أنني كذلك ؟
ـ نعم , لكنني لم أعلم أنك ستحافظين على عاداتك في روما أيضاً .
فقال بتمرد : (( أنا هكذا في كل مكان )) . ـ
ـ هذا ما ابتدأت أدركه . ربما كان علي أن أوضح لك أن قرضي لك
مشروط بعدم الوقوع في الدين مجدداً.
ـ لست أقع في الدين , بضاعتي تجلب ربحاً .
ـ دوماً تفترضين أن بإمكانك أن تجدي بيوتاً رفيقة بالقطع التي
تبيعينها . . . إسمعي , أنت بائعة . ألا تعلمين أن من التهور شراء بضاعة من
بائع آخر بثمن كامل لا ربح فيه ؟
ـ طبعاً أعلم ذلك , لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي .
ـ لم تستطيعي منع نفسك ؟ دعينا جميعاً نعيش تبعاً لدوافع عاطفية دون
فقالت ببرودة : (( هذا مختلف )) .
ـ لأنك لا تعرف كيف تعيش تبعاً لدوافع عاطفية .
فقال بحماسة : (( الحمد الله )) .
ـ أنا لا أقلل من شأن المسؤولية . أنا أعرف كل هذه الأمور . . .
ـ ليس كافياً أن تعرفيها . عليك أن تعيشي بها .
ـ عندما رأيت تلك القطع الأثرية , أُغرمت بها . أنت لا تفهم مثل هذه
ـ بل أعرفها جيداً . لقد أحببت تلك التحف , فتخيلت عن كل حس
منطقي وكل تقدير وموضوعية . إياك ثم إياك أن تقرري أمراً و أنت عاشقة .
وسكت عندما لاحظ أنه يتنفس بسرعة . وتملكه السرور لرؤية النادل
قادماً , لم ينظر إليها بينما كان هذا الأخير يبذل لهما الأطباق , وعندما عادا
وحدهما , ابتسم وكأنما شيئاً لم يكن : (( أنا لم أحضرك إلى هنا لأنتقدك . ربما
ـ قليلاً فقط . أظنني أبدو مجنونة بالنسبة إلى شخص يعمل في مجالك .
فقال ضاراً : (( لا تدعينا نبدأ ذلك من جديد . ولكن دعيني ألقي نظرة
على أوراق العمل , يمكنني أن أخبرك كيف . . . أستطيع أن أقترح أشياء قد
فقالت بوداعة : (( شكراً )) .
أوشك أن يجيبها ثم رأى لمعان عينيها فآثر الصمت .
ـ أنا اعمل في مصرف تجاري وأتعامل بالأسهم والسندات , وأقدم
أخذ يشرح لها كل شيء عن عمله , بينما كانت هي تصغي إليه
باهتمام . قال : (( السيطرة سر النجاح . عليك دوماً أن تكوني المسيطرة وأن
تتفوقي بشيء ما على الآخرين . أنت فقدت السيرة على متجرك , وأنا الآن
المسيطر . . . لا , لا تغضبي , أنا لا أريد شيئاً منك . إنني فقط أساعدك لكي
تتجنبي مسيطراً مثلي في المستقبل )) .
ـ لا بأس , تابع حديثك . ـ
كانت مبهورة إلى حد لم تفكر فيه في الدفاع عن نفسها مرة أخرى .
وعندما راجع نفسه قال : (( دعيني أوضح لك ذلك بطريقة أخرى . . )) .
أجابته ساخطة : (( أنت لست بحاجة إلى تبسيط حديثك عن الموضوع ,
فأنا أفهم كل كلمة تقولها )) .
ـ إدراكك إذن يفوق إدراك أختك . ـ
انفجرت هارييت ضاحكة , ثم قالت والضحك يخنقها : (( أتصورك
تتكلم بهذا الشكل إلى أولومبيا , بينما هي تحاول أن تبدو مهتمة )) .
فقال بابتسامة عريضة : (( كانت عيناها ستبدوان جامدتين , وبالمناسبة ,
أكثر النساء يصبحن هكذا بعد أول دقيقة من حديث كهذا )) .
ـ هذا هو رأيي أنا أيضاً , إذا أنت أخذت امرأة في موعد , فهي لا تريد
أن تسمع محاضرة عن الأسواق المالية .
ـ هذا مختلف . نحن شريكان في العمل .
فقال بعد لحظة : (( هكذا إذن , ونحن الآن في اجتماع عمل )) .
ـ لكي نفكر في تقدم مشروعنا حتى الآن , ونخطط للمرحلة المقبلة .
ـ حسناً , أولاً , هل يمكننا أن نتفق على أن تكبحي غريزة الشراء لديك
ـ أتعني أنك تريدني أن أتوقف عن إنفاق المال ؟
ـ كنت أحاول قول ذلك بشكل مهذب ولكن من الآن فصاعداً أنا من
تبدد فجأة ذلك الإعجاب الذي كان قد بدأ ينمو داخلها فسألته بنبرة
تبعث الحذر في النفس : (( ماذا قلت ؟ )) .
ـ لا مزيد من الشراء . هذا يكفي .
ـ أنا , إنني أقوم بإصلاح كامل لنظامك المالي . ولا يجدر بك أن تفعلي
ـ حسناً , حسناً ! وماذا حدث للذوق واللياقة ؟
ـ أي ذوق ولياقة ؟ سيسببان لك الإفلاس ؟
فقال بفروغ صبر : (( كلام فارغ . ليس بإمكانك أن تفلسني )) .
ـ كم هذا ممتع ! حقاً على أن أتزوجك لأجل أموالك . دعنا نعلن
ـ يا له من عرض لا يمكن مقاومته !
ـ حسناً , لنواجه الأمر , ليس لديك شيء آخر تعرضه . فأنت فظ ,
مستبد , متغطرس ومتكبر . . . ـ
ـ هل يُفترض بي أن أتأثر بهذا الكلام ؟ فكري جيداً . لا عيب في
الغطرسة إذا كان الشخص واثقاً من نفسه .
ـ وأراهن على انك دوماً واثق من نفسك . ـ
ـ تماماً . وهذا يمنعني من أن أخطئ بسبب الناس الذين لا يعرفون ما
ـ أعني أي شخص بهذه الصفة .
ـ تعني بقية العالم بالنسبة إليك . لهذا ستحصل الآن بالضبط على
الزوجة التي تحتاجها . تلك التي رأت أسوأ صفاتك وستتحملك لأجل
قال ساخراً : (( أتظنين أنك رأيت أسوأ صفاتي ؟ )) .
ـ حسناً , أرجو ألا تكون بقية أسوأ منها .
ولمعت عيناه : (( قد تكون أسوأ بكثير . فكري جيداً قبل أن تقبليني
ـ جميل ! لقد انتهى كل شيء . هنا تنتهي أقصر خطوبة في التاريخ . بطلا
الرواية لم يستطيعا احتمال بعضهما بعضاً .
خفض صوتها عند آخر كلماتها , وهي تلاحظ أنها تجتذب انتباه
الزبائن . وكذلك نظر ماركو حوله , قبل أن يخفض صوته ويميل نحوها
قائلاً ببرودة : (( لق تصرفت بشكل مسرحي مثير . لا حاجة بك لإظهار كل
هذا الانفعال العاطفي )) .
مالت هي أيضاً نحوه : (( لم أكن منفعلة , بل كنت واقعية هادئة . لم لا ؟
فقال بحدة : (( أنت لا تعرفين شيئاً عني . كل هذا لأنني أردت أن أنظم
ـ أنت لا تريد أن تنظم وضعي المالي , بل تريد أن تتحكم بي وبه , وإذا
أنا سمحت لك بذلك , أين ستتوقف ؟
ـ سمحت لي ؟ أتظنين أنني أطلب إذناً ؟
ـ هارييت , أنا أقول لك ألا تشتري المزيد .
ـ وأنا أقول لك إنك منحتني قرضاً ولم تشتري روحاً وجسداً . المتجر هو
ـ إلى متى سيبقى كذلك إذا أنا قررت أن أكون لئيماً ؟
ـ أنت لئيم ؟ لست كذلك بكل تأكيد . إصغ إلى يا ماركو . ذلك المتجر
هو ملكي , وأنا أديره , وأنا وحدي أقرر ما هو بحاجة إليه . إذا رأيت بضاعة
أعجبتني , لن أسألك أولاً , بل سأشتريها أخبرهم بأن يرسلوا إلي
ـ وإذا أنا أصريت على إعادتها .
ـ سيكون ذلك صعباً لأنني سأكون قد عدت إلى إنكلترا .
فقال بسخرية بالغة : (( بعد أن تسرقي قلادة (( أترورية )) أو اثنتين تخبئيهما
فقالت وهي تصرف بأسنانها : (( كانت زائفة وأنا سأفعل كل ما هو
رفع الإثنين نظرهما ليريا رجلاً متوسط السن يقترب من مائدتهما .
نهض ماركو يصافحه , مقدماً هارييت إلى الفريدو أوريس . وهو على
الأرجح صاحب مصرف (( أوريس ناشيونال )) حيث يعمل ماركو .
ـ مقاطعة طيور الحب أمر لا يغتفر .
قال الفريدو هذا بمرح وهو يجر كرسياً مجاوراً ليجلس معهما : (( ما أجمل
رؤية شابين مستغرقين في بعضهما البعض , رأساً لرأس , غافلين عن
لا بد أن هذا ما كانا يبدوان عليه كما أدركت هارييت وهي تبتسم
بصمت . فقال ماركو بلطف ومودة : (( لا تقل شيئاً يا الفريدو . دعنا نحتفظ
وضع الفريدو إصبعه على شفتيه وغمز بعينه . لم تبد ثيابه أنيقة , بل بدا
كرجل يحب أن يمضي وقتاً طيباً أكثر منه صاحب مصرف . وأخيراً تركهما
وقال ماركو وهو يزفر : (( آسف لذلك . لكنه رجل طيب وحــسن
فقالت ساخرة : (( ويحب العبث وأن يمثل دور صاحب المصرف )) .
ـ من اسمه . لكنني أظن أن الاسم هو السبب الوحيد لوجوده هنا .
فضحك : (( نعم , وهو يعلم ذلك , لكنه , والحق يقال , لا يتدخل في
شيء . أنصحك بأن تتزوجيه فهو يملك عشرة أضعاف ما أملكه أنا ,
وسيدعك تبذرين الكثير من أمواله من دون أن يحتج )) .
ـ آه , لكنه بن يتشاجر معي كما تفعل أنت .
ـ يمكنك أن تعتمدي علي بشأن المشاجرات .
ـ لا بأس , سأوافقك على أن الإدارة المالية ليست . . .
ـ ما كنت لأصف تصرفك بالإدارة المالية .
فسألته بعذوبة مصطنعة : (( أتريد أن تتشاجر مرة أخرى ؟ )) .
ـ لا . ما زال الوقت مبكراً لذلك بعد آخر مرة . دعينا نسترد أنفاسنا
ـ هل ستكون هادئاً بينما أقوم بنوع من التنازل ؟
ـ أعترف بأنني ارتكبت بعض الأخطاء , وسأهتم بسماع نصيحتك .
فلوى شفتيه : (( تهتمين ؟ )) .
ـ دعنا نر ما يحمله المستقبل .
ضحك . وغير الهزل وجهه وكأنما أضاء شيء في داخله . رأت أن
بإمكانه أن يكون ساحراً إذا سمح لنفسه بالاسترخاء . كانت قد ابتدأت
تفهم عادته في وصفه كل شيء بعبارات العمل . كانت كلمات يفهمها
بسهولة لكنها تغطي شيئاً عميقاً ف داخله , بدأ الفضول يتملكها معرفة كنه
قال : (( يكفي لهذه الليلة )) .
عندما قُدمت القهوة , خُفضت الأنوار , واتخذت الفرقة الموسيقية
مكانها على خشبة المسرح . ثم تقدمت امرأة شابة إلى وسط المسرح أخذت
تغني بصوت هامس . كانت أغنية من الفراق والشوق واستمرار الرغبة
كانت فنانة ماهرة , تمكنت من أن تقتص الإحساس من كل كلمة حتى
آخر قطرة . وانتشر في المكان جو شاعري رقيق , غامض .
وشيئاً فشيئاً ابتدأت هارييت تستيقظ شاعرة بالحياة لإحساسها بأنها
تجلس بجانب رجل جذاب لا يفصل بينه وبينها سوى طاولة صغيرة .
اختلست نظرة إلى ماركو لترى إن كان يشعر بها كما تشعر به لكنه كان ينظر
إلى المسرح حيث المغنية . ـ
كان من السخافة أن تشعر بمشاعرها تستجيب لمجرد فكرة , لكنها لم
تستطيع أن تسيطر على السخونة التي تسللت إلى كيانها . أخذت نفساً عميقاً
مرتجفاً وسمرت نظراتها على الأرض .
أما ماركو , فقد كان مواجهاً نظراته إلى كل مكان ما عداها . لقد ذهب
إلى منزل أمه الليلة مستعداً لتناول العشاء ثم الرحيل , وهكذا يكون قد
أدى واجبه . وإذا بنظرة واحدة إلى هارييت تغير رأيه . ها هي ذي مخلوقة
رائعة الجمال , كانت متخفية في ملابس , تكايده بمراوغاتها منذ أول
تصميمه على إخراجها معه كان من وحي اللحظة , وهذا شيء صدمه
لكنه لم يمنعه . عندما دخل بها إلى روما , تساءل كيف ستمر بهما السهرة ,
وما الذي سيتحدثان عنه . اختلس نظرة إليها فرأى وجها متحولاً عن
خشب المسرح نحوه قليلاً , لكنها لم تكن تنظر إيه مباشرة . أدرك أنها تائهة في
عالم داخلي هو ليس مدعواً إليه . كان الشعور بالغيرة شيئاً سخيفاً , وتمنى لو
تنتبه إليه , لكنها لم تفعل . ـ
الضوء الأزرق المنبعث من المسرح أبرز الظلال بحدة , وللحظة لم تبد
كامرأة حية ولكن أشبه بتمثال لملكة قديمة ربما نفرتيتي أو كليوبترا . . .
تمثال امرأة عظيمة مسلطة رائعة . لكنه يعلم أن هذا جزء واحد فقط منها ,
وفي اللحظة التالية ستعود إلى الحياة بضحكة صبية عفريتة , أو تحملق فيه
بشراسة غريم . لا أحد يعلم . كان الفريدو يجذب انتباهه فاضطر إلى أن
يبتسم له . كان الفريدو رجلاً طيباً , ليس فطناً للغاية ولكنه ودود , وسينفعه
في الحصول على شراكة . كان يشير إلى هارييت غامزاً بعينه مشيراً إلى أنهما هما
الإثنين الرجلين الوحيدين في العالم اللذين يعلمان بهذه العلاقة . و فجأة شعر
ماركو بأنه يريد أن يضربه . ـ
توارت المغنية ضمن عاصفة من التصفيق , وعزفت الفرقة موسيقى
راقصة . سألها ماركو بأدب : (( هل تحبين أن ترقصي ؟ )) .
أمسكت بيده فقادها إلى حلبة الرقص التي سرعان ما ازدحمت ليصبح
الرقص عبارة عن حركات ثقيلة . أمسك بها بحزم , يشدها إليه ولكن من
دون مبالغة , ووجدت هي خطواتها تنسجم مع خطواته بسهولة . كان تأثير
الأغنية ما زال يتملكها , طارداً كل الأفكار ما عدا أنها مستمتعة بهذه
اللحظة . وابتسمت . فسألها على الفور : (( ما الأمر ؟ )) .
ـ أنا فقط مستمتعة بوقتي . ـ
ـ لا , بل أكثر من ذلك . أخبريني . هذه الابتسامة تعني شيئاً ما .
أقلقها إلحاحه , فنظرت في عينيه ورأت فيهما شيئاً أكثر حدة بالنسبة إلى
سؤال تافه . ثم اصطدم بها شخص ما فشعرت بيدي ماركو تشتدان
وتثبتانها . فأصبح وجهه قريباً من وجهها . وحلقت مشاعرها عالياً ,
فأغمضت عينيها لتخفي ما قد تكونا قد كشفتا له .
تمتم بقول : (( أنظري إلي )) . ـ
فتحت عينيها فوجدته يراقبها بحدة وأحست بسخونة يده على ظهرها ,
كانت الأفكار والمشاعر التي صدمتها , قد تملكتها . وصدرت عنها شهقة
ـ أنا . . . لا شيء . . . لا شيء . إنه الحر .
ـ نعم , أصبح الجو حاراً نوعاً ما . شقتي قريبة من هنا , دعيني أدعوك
عندما خرجا , كانت الساعة الثانية والنصف , وكانت النجوم تتألق في
السماء , والشارع خالياً إلا من بعض المتسكعين . تأبط ماركو ذراعيها ثم
اجتازا المسافة القصيرة إلى الشقة .
شعرت هارييت بالارتياح بعد أن هداها المشي وهواء الليل . وعندما
استقلا المصعد إلى الطابق الخامس , عادت تسيطر على نفسها مرة أخرى .
كان الفضول يتملكها لرؤية شقة ماركو فقد حاولت أن تتخيلها ولم تستطع .
بدا ماركو متكتماً إلى حد كان من المستحيل معه أن تتصور أي شيء لا يريد
أن يكشفه . وقد رأت الحقيقة الآن . فوجئت بها في البداية , ثم أدركت أنها
بالضب ما توقعته في عقلها الباطن . ـ
لا يمكن أن يكون هناك بيت أكثر تحفظاً وغموضاً وتقشفاً من هذا .
كانت الإثارة خفية , وقد عُلقت على الجدران عدة صور عصرية , وزُينت
الرفوف ببعض التحف الفنية . بدا لها أن البيت ينتمي إلى رجل أخفى نفسه
من خلال باب مفتوح يؤدي إلى غرفة نومه رأت هارييت جهاز
كومبيوتر وجهاز فاكس وعدة هواتف وجهازي تلفزيون . هذا الرجل أخذ
عمله إلى سريره . وتذكرت قول أولمبيا : ( معروف عنه أنه يدمر النساء , فما
إن يقيم علاقة مع المرأة حتى يتركها ) .
مهما كان ما حدث في حياة ماركو الخاصة , فقد حدث هنا في هذا المنزل
وربما في تلك الغرفة بالذات .
نادى من المطبخ : (( سأحضر القهوة )) .
كان المطبخ أيضاً بسيطاً متقشفاً , ولكن رائع الجمال , ببياض جدرانه
المزينة باللون الأزرق . وبدا من سهولة تحركه في أنحائه أنه اعتاد أن يطهو
لنفسه , وهذا جعله يصنع القهوة بشكل ممتاز .
قالت وهي ترشفها متلذذة : (( إنها لذيذة , كما أن البيت رائع )) .
ـ شكراً , لكنه لا يعجب الكثيرين .
ـ إنه هادئ ومريح , وأنا أحب ذلك كثيراً . كما أنك تعرف كيف
تتباهى بتحفك مظهراً محاسنها بخلفياتها البسيطة وطريقة تنظيمها وإنارتها .
ـ شكراً , المدح منك هو مدح حقيقي هل لك أن تعطيني رأيك
أنهت قهوتها قبل أن تقترب من إناء قائم على قاعدة مربعة . كان يبدو
بزخرفته غريباً جداً بالنسبة إلى خلفيته البسيطة , وكان تقييمها له بأنه فرنسي
من القرن الخامس شر صحيحاً , وأنه أصلي . فقال بحزم : (( كل شيء في
ابتسمت وهي تعيد (( الإناء )) إلى قاعدته وتبتعد : (( دعنا لا نتجادل في
فقال وهو يقف أمامها : (( أوافقك , فالجدل مضيعة للوقت )) .
ومال إلى الأمام , ووضع يده خلف رأسها وجذبها إليه معانقاً إياها
بحذر , ثم بقوة وكأنه يريد أن يتأكد من ردة فعلها قبل أن يتخذ الخطوة
التالية , كان الإحساس بهيجاً فاستسلمت هارييت له . تصرف وكأن لديهما
كل الوقت الذي في العالم ليكتشفا بعضهما بعضاً , ووجدت هذا مريحاً .
وعندما التفت ذراعه حول خصرها أحاطته بذراعيها تاركة يديها تستمتعان
بالإحساس بقوته التي كانت تتسرب من خلال ملابس سهرته الأنيقة .
كل ما في ماركو بدا منسجماً , رائعاً , وخصوصاً عناقه , بدا خبيراً
رقيقاً في هذا كما هو في كل مهاراته الاجتماعية الأخرى . لكن إحساساً
غريباً أوجعها فتحركت بين ذراعيه بقلق .
شيء ما لم يكن صحيحاً في هذا الأمر . دفعت ماركو بعيداً عنها لكنه
قاوم وبقي يحتضنها , وإذا بالغضب يتملكها , فاشتدت يداها على كتفه
وقالت بحزم : (( هذا يكفي )) .
ثم ابتعدت عنه وهي تتابع قائلة : (( حقاً إنك جريء )) .
فقال ساخطاً : (( ما العيب في العناق ؟ لقد أمضينا معاً سهرة سارة
للغاية , ثم رقصنا معاً واحتضن الواحد منا الآخر , فما الخطب ؟ )) .
قالت بصوت مرتجف : (( أنت لم تعانقني , وإنما كنت تتفحص ما
ـ أنت تعلم ما أعنيه . لم يكن ذلك عناقاً بل نظرة عامة لترى إن كان
فقالت غاضبة : (( أنا واثقة من أنك كنت تحسب الأمر من كافة جوانبه .
أنت لا تريدني أن آخذ أي فكرة قبل أن تقرر ما تريد , كي لا أزعجك فيما
بعد , أيها الحذر البارد الشعور )) .
فقال بحدة : (( لا تكثري الكلام ! لقد وضحت لي الصورة , لكنني فقط
أتمنى لو أعلم ما تريدين )) .
ـ ذلك بسيط جداً . إذا كنت تريد أن تعانقني فافعل ذلك بحرارة ,
لم تستطع أن تنهي كلامها لأنه انقض عليها بعناق عنيف . لم تتذكر كيف
أصبحت بين ذراعيه , لكنهما كانتا تحيطان بها تجمدانها مكانها , حاولت أن
تحتج لطريقته هذه , لكنه تمتم : (( إخرسي ! أنت قلت إن هذا ما تريدينه ,
وهذا ما ستحصلين عليه )) . ـ
لم تحاول أن تستمر في الجدل . فهذا رجل غاضب للغاية , ولا يمكنها أن
تشكو فهي التي جلبته لنفسها . ولكنها وجدت أنها لا تريد ان تتذكر . سرت
في كيانها مشاعر لم تعرفها من قبل , أشبه بالنار في الهشيم .
كان على هارييت أن تتخذ قرارها بسرعة وتبتعد عنه , إنها تلعب
بالنار . لكن ذلك كان صعباً لأن جسدها كان متوتراً وأحاسيسها مشوشة ,
ما محى كل شيء من ذهنها . كيف يحصل ذلك وهما شبه عدوين ؟
كان رنين الهاتف خافتاً بحيث أنها بالكاد سمعته . حاولت أن تتجاهله
لكن ماركو ابتعد عنها منزعجاً من المكالمة . ـ
أخذت تنظر إليه كالحالمة وهو يرفع السماعة , منتظرة أن ينهي المكالمة .
لكنه , بدلاً من ذلك , توتر منتبهاً . ثم قال بصوت مرتفع : (( نعم , أنا ماركو
حدقت إليه هارييت ذاهلة لسرعة تحويله انتباهه عنها , وكأن ذلك
العناق لم يكن . لم تستطع أن تصدق ذلك .
وأخيراً رفع ماركو السماعة عن أذنه , لكنه لم يقفل الخط : ((( آسف ,
لكن هذا أمر هام . لن أستطيع أن أوصلك إلى البيت , لكن هناك شركة
تاكسيات ممتازة . تجدين رقم الهاتف في ذلك الدفتر )) .
سألته ورأسها يدور : (( ما . . . ماذا ؟ )) .
ـ إنه على المنضدة بجانبك . . . آلو ؟ نعم , أنا ما زلت هنا .
عاد إلى مكالمته الهامة . ـ
قالت تحدث لوشيا الغاضبة فيما بعد تلك الليلة : (( أتعلمين ما الذي
أفقدني صوابي حقاً ؟ أنه جعلني أنا أستدعي سيارة الأجرة )) .
نهاية الفصل (( الرابع )) . . .