استيقظت هارييت فجأة عند الفجر وجلست في سريرها تصغي إلى
الصمت . ثم نهضت وسارت إلى النافذة وفتحتها لتنظر إلى الفناء الهادئ
حيث تنتشر أشجار الصنوبر .
ما زالت ذكرى الليلة الماضية حية في كل جزء منها . لقد رأت ناحية
من ماركو لم تعرفها قط من قبل . كانت تعلم أنه مليء بالتناقضات , وأن
بإمكانه أن يكون تارة ساحراً مغرياً , وطوراً أنانياً حذراً . لكنها لم تكن تعرف
أنه قد يصبح خطيراً . فأثناء اللحظات القليلة التي أمضتها بين ذراعيه , كان
الجو بينهما مشحوناً , لكنها شعرت بأنها حية كما لم تشعر من قبل , كان
ذلك مذهلاً إنما حقيقياً .
حاولت أن تستعين بالمنطق لتحلل ما جرى . فرأت أنه على الرغم من
الاضطراب الذي لاحظته على ماركو , كان يحاول أن يثبت نقطة ما . ظن أنها
خدعته وهو لا يتحمل ذلك . فأصلح الأمر أمام الضيوف , لكن الكرامة
دفعته إلى استعراض سيطرته أمامها عندما كانا بمفردهما , أراد أن يريها أنها
له , سواء شاءت أم أبت . ـ
وقد نجح . إنها تعرف الآن أن أقل لمسة منه يمكن أن تذيبها . لكن
تفكيره كان مختلفاً , كما خمنت و هي تستعيد صورة وجهه , وتحاول أن تقرأ
عينيه . أراد أن يريها أنه , بينما لا يسمح لنفسه بأن يكون لها , ليس لها خيار
عندما رفعت عينيها إلى تلال روما البعيدة , استطاعت أن ترى وهج .
الشمس الشارقة . كانت السادسة صباحاً تقريباً . ولا بد أن ماركو قد
استيقظ الآن وهي تريد سماع صوته , لكن هاتفه كان مقفلاً وعندما اتصلت
بشقته لم يجب أحد , لكنها لم تترك له رسالة وكيف بإمكانها ذلك وهي التي لا
كانت بحاجة إلى الخروج من البيت . ارتدت بسرعة بنطلون جينز وكنزة
ثم خرجت من المنزل وسارت في طريق متعرج .
تلك هي حياتها الآن : طريق متعرج مجهول الوجهة والمصير , صوت من
داخلها نبهها إلى أن تعود إلى الوطن , لكن ألماً حلواً مراً في قلبها أرادها أن
وصلت إلى بحيرة صغيرة ثم ابتدأت تسير على ضفافها , مستمتعة
بجمال النهار . كان ضباب الصباح قد تلاشى , والضياء متوهجاً وقد
ارتفعت أغاريد الطيور في الجو .
ثم رأت ما جعلها تقف حاسبة الأنفاس . كان هناك رجل جالساً على
الأرض مستنداً إلى الشجرة , وما زال في ثياب الليلة الماضية نفسها , ما عدا
سترته التي كان قد ألقى بها جانباً . كان قميصه مفتوحاً إلى منتصفه , ورأسه
مستنداً إلى الخلف مُظهراً عنقه القوي الأسمر . جلست بهدوء بجانبه فرأت
عينيه مغمضتين وكأنه نائم , كان التوتر الآن قد زال عن ملامحه , ورق فمه
وكأنه لم ينطق قط بكلمات خشنة قاسية . بقيت هناك فترة تنظر إلى وجهه غير
الحليق , وشعره المتدلي على جبهته , وشعرت بحنان لم يوح به إليها قط من
قبل . كانت تعلم أنه سيكره فكرة أن يتفحصه أحد بهذا الشكل , لكنها لم
تستطع أن تشيح نظرها . . .
بدلاً من أن يبدو غاضباً , أدهشها مرة أخرى إذ بقي جالساً , ببساطة ,
دون حراك , يحدق فيها طويلاً إلى حد تساءلت معه عما إذا كان يراها فعلاً .
وأخيراً ذهبت النظرة الذاهلة من عينيه ليحل مكانها ألم عاجز .
ـ هل أمضيت الليل بطوله هنا ؟
ـ كان علي أن أبتعد عنك , لكنني لم أستطع أن أتركك . إذا كنت تفهمين
لقد فهمت قصده تماماً . فعندما خرج كالعاصفة الليلة الماضية , شعرت
بانقباض في صدرها , وكأنها كانت متصلة به بخيط غير مرئي . وأدركت
الآن أنه شعر به , هو أيضاً .
جلست بجانبه , وأمسكت يده الباردة وأخذت تدلكها . تركها تفعل
ذلك , وقد بدا أن الإرهاق يمنعه من أي ردة فعل , لكن عينيه كانتا على يدها
فقالت تفسر له الأمر : (( لم أبحث عنه بعد . قد يكون في مكان ما في
تلك الغرفة الفسيحة . إفرض أننا لم نعثر عليه ؟ )) .
اكتفى بهزة بسيطة من كتفيه . وبعد لحظة تحركت أصابعه لتمسك
بأصابعها , ثم سألها بهدوء : (( هل أنت بخير ؟ )) .
ـ نعم , أنـا بـأحـسـن حــال .
ـ هل أنت واثقة ؟ أنا سيء الطباع , مع الأسف .
ـ لم تكن تحاول أن تؤذيني .
فقال بصوت أجش : (( لا . لا فقط كنت أحاول أن أثير انتباهك )) .
والتوت شفتاه قليلاً : (( في صغري , اعتدت مواجهة الإحباط بالصراخ .
عند ذلك يصغي إلي الناس )) .
فقالت برقة : (( نعم , كان علي أن أتكهن بذلك )) .
ـ حان الوقت لكي أصبح كبيراً على هذه الأشياء , أليس ذلك ؟
ـ الناس لا يغيرون طباعهم . أنت لم تخفني .
ـ الحمد الله , لأن هذا آخر ما كنت أريد . أرجوك يا هارييت إنسي كل
شيء عن الليلة الماضية . ـ
ـ كل شيء ؟ هل تعني . . . ؟
ـ كل شيء . إذهبي إلى بيت مانيللي متى شئت . وأعدك بألا أثير المشاكل
مجدداً . ما مضى قد مضى . وما حصل كان نوعاً من الجنون لا أكثر .
ـ ولكن ماذا حدث لك يا ماركو ؟
ـ لا أستطيع تفسير ذلك , لكن هناك شيئاً مـا لا أجد له تفسيراً منطقياً .
دعينا فقط نقول إنني أغار بسهولة . إنني متملك , وهذا ليس حسناً . آسف .
ـ ليس هناك ما يستوجب غيرتك .
ـ أعلم ذلك , ولكن هناك أشياء لا يمكنني نسيانها .
ـ عن تلك المرأة ؟ تلك التي كنت ستتزوجها ؟
فتململ : (( وماذا تعرفين عنها ؟ )) .
ـ ليس الكثير . كنتما مخطوبين ثم غيرتما رأيكما .
ساد صمت طويل , ثم قال وكأنه ينتشل الكلمات من هوة مخيفة : (( كان
الأمر أكثر تعقيداً بقليل من ذلك )) . ـ
فقالت تستدرجه : (( فسخ الخطوبات لا يتم دائماً للأسباب نفسها )) .
فأومـأ : (( صحيح . على أي حال ! إنه يجعلني أتصرف بشكل غير
ضغطت على يده تطمئنه وهي تفكر أنها لم تر في حياتها رجلاً تـعيساً
وقال بضعف : (( عندما تعثرين على الخاتم , هل ستلبسينه ؟ )) .
فانفجر ضاحكاً : (( إذا رحلت بهذه السرعة بعد حفلة الليلة الماضية ,
ستكثر الأقاويل . وكذلك . . . )) .
وعاد هدوئه : (( سيؤذي هذا أمي إلى درجة كبيرة )) .
ومال إلى الأمام فجأة مريحاً رأسه عليها كئيباً يائساً فأحاطته بذراعيها ,
متلهفة إلى مواساته , لكنها كانت تعلم أنها لم تصل إلى أعماقه . أحنت رأسها
وأراحت خدها على شعره الأشعث . حاولت أن تجعله يعلم من خلال قوة
عناقها له بأنها إلى جانبه . وظنت أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها وكأنه
وجد شيئاً هو بحاجة إلى التعلق به . ـ
جلسا دون حراك بينما سرت السخونة في جسدها . كان إحساساً مختلفاً
لم تعهده من قبل . كان أشبه برغبة عنيفة في حمايته . أشبه بالحب ! .
يا للكارثة ! لم تكن تنوي أن تحبه , وهي ليست واثقة أنها تريد ذلك .
لقد وقعت في الشرك قبل أن تعرف بوجوده . لماذا لم يتابع شجاره معها ؟ كان
ذلك سيسهل أمـر فراقهما . . . هذا ليس عدلاً ! ابتعدت عنه , فدفع شعره إلى
الخلف وقد سقط على جبينه : (( أظنني أبدو كالمتشرد )) .
فقالت بحنان : (( قليلاً )) . ـ
ابتدأ ينهض ثم أجفل : (( عضلاتي متصلبة )) .
ـ لا يدهشني ذلك ما دمت أمضيت الليلة هنا . دعني أســاعدك .
وضع ذراعاً حول عنقها ثم وقف متألماً , حاملاً سترته المتسخة بأوراق
الشجر . وقالت : (( الأرض رطبة . كان من الممكن أن تصاب بذات الرئة )) .
ـ اعتدت كثيراً النوم في العراء عندما كنت طفلاً . هناك في الغابة كنت
أنصب خيمة وأتظاهر بأنني من جماعة المتمردين .
فقالت وهي تريد أن تطيل هذه الفترة الحلوة بينهما : (( أرني المكان )) .
قادها خلال الأشجار , بينما كانت ذراعاه لا تزال حول كتفيها . ثم
صعدا مرتفعاً يؤدي إلى فسحة مسطحة من الأرض : (( هنا اعتدت أن أنام
ـ نعم , ولا يمكن ( للعدو ) أن يقترب منك على حين غفلة .
فقالت : (( كم كان عددكم ؟ )) .
ـ أنا فقط . كنت أحسد ليو وغويدو لأنهما شقيقين . لقد افترقا في
الواقع عندما كان غويدو في العاشرة وأخذه العم فرانسيسكو ليعيش في
البندقية , تاركاً ليو في توسكانيا لكنني دوماً كنت أفكر فيهما بأنهما
ـ من المؤسف أنك لم تحظَ بأخوة أو أخوات .
ـ مات أبي باكراً , ولم تشأ أمي أن تتزوج بعده .
ـ ولكن لا بد كان لك أصدقاء .
يبدو أن طفولته كانت حزينة , كما أخذت تفكر وهي تأسو لوحدة
الصبي الصغير وللحياة التي عاشها بعيداً عن فتيان عائلة كالـﭭـاني وجلبتهم .
ـ يمكنك أن ترى روما بأسرها من هذه البقعة . في الليل كنت أجلس
تحت هذه الشجرة وأنظر إلى الأضواء . هنا بالضبط .
ووضع سترته على الأرض وأشار إليها بأن تجلس عليها بجانبه . فقالت
وهي تفسح له : (( وأنت أيضاً )) .
جلسا معاً ووجدت يده طريقها إلى يديها . ـ
وقالت : (( هذا مكان رائع . افهم رغبتك في مداومة القدوم إلى هنا )) .
لم يجب . وانتبهت إلى ثقل على كتفها فالتفتت لترى رأسه على كتفها ,
وقد أغمض عينيه مرة أخرى .
رأت الآن شيئاً آخر في وجهه . كان منهكاً ولم يكن لذلك صلة بقلة
النوم . لقد انزاح التوتر والاستنزاف ليحل محلهما إرهاق عميق بدا وكأنه قد
تسرب من ماضٍ بعيد أليم . لم يسبق أن فكرت قط في أن تشفق على ماركو ,
لكنها تشعر الآن بالشفقة عليه إلى حد لم تفهمه تماماً . حان الوقت لكي تصل
إلى أعماقه لترى ما هي مشكلته . وبرفق , رفعت شعره عن جبهته .
تحرك وفتح عينيه ونظر مباشرة إلى عينيها الباسمتين .
قالت بحنان : (( لقد نمت مجدداً )) . ـ
ثم رأت النظرة التي كانت قد أخافتها , وكأن ستاراً نزل على عينيه .
تبدد الضوء من عينيه تاركاً فراغاً متعمداً . ثم تركها ونهض واقفاً من دون
أن يسمح لها بمساعدته هذه المرة . قدم لها يده ليساعدها على النهوض ,
فأخذها ونهضت بسرعة كادت معها تفقد توازنها . تأملها ويده الأخرى على
ذراعها , لكنه لم يجذبها إليه كما كان بإمكانه أن يفعل بسهولة .
أدركت بذعر أن كل شيء قد ذهب , الحرارة والصلة التي كانت من
قبل . أصبحت عيناه الآن يقظتين , وربما أصبح أكثر حرصاً عليها لأنه
سألها وهو ينظر في ساعته : (( كم الساعة ؟ علي أن أذهب الآن . آسف
لتحميلك عبء هذا كله )) . ـ
فقالت محاولة الرجوع إلى داخله : (( أنا مسرورة لأننا تحدثنا فقد أصبحت
أفهمك الآن بشكل أفضــل )) .
فهز كتفيه : (( وماذا هناك لتفهميه ؟ لقد تصرفت بشكل سيء مع أسفي
الشديد , وكنت أنت صبورة جداً معي , ولكنك لست مضطرة لتحمل
طبعي لأنني لن أثور عليك مرة أخرى )) .
كادت تقول : (( حتى ولا عندما نتزوج ؟ لكن لسانها لم يطاوعها . كل ما
كان مؤكداً منذ لحظة , فقد توارى الآن في الوهم . فهي لم تعد تعرفه .
قامت بمحاولة أخيرة : (( الطباع الحادة ليست أسوأ شـيء في العالم . ربما
لا ينبغي أن يكون الناس مهذبين طوال الوقت . أنا لم أكن مهذبة جداً معك
الليلة الماضية وأنت . . . )) . ـ
ـ ردة فعلي كانت عنيفة مع الأسف لكن هذا لن يحدث مجدداً . والآن ,
هل يمكننا أن ننسى الموضوع ؟
ودعك ذقنه غير الحليقة : (( الأفضل أن أعود إلى البيت لأستحم . لا
أريد أن تراني أمي بهذا الشكل . وأرجوك لا تخبريها بشيء )) .
عادا صامتين , وعندما بدا أمامها المنزل قال : (( أدخلي أولاً وأشيري إلي
إذا كانت الطريق سالكة , لا , انتظري ! )) .
أمسك بيدها وجذبها عائداً بها إلى داخل الأشجار عندما ظهرت لوشيا
عند الباب الخلفي . ووصل صوتها إليهما : (( من ترك هذا الباب مفتوحاً ؟ من
المؤكد أنه لم يكن كذلك طوال الليل )) .
فقالت هارييت وهي تتقدم نحوها لوشيا : (( أنا من فتحه . لقد خــرجت
باكراً لأتمشى )) . وركضت صاعدة الدرجات لتقبل لوشيا وتسحبها إلى
الداخل وهي تثرثر معها , ولكنها في الحقيقة كانت تقوم بمناورة لتدخلها إلى
المنزل . قاومت رغبة في النظر إلى الخلف , ولكن خيل إليها أنها تسمع
خطوات تصعد الدرجات بخفة . ـ
بعد ذلك بنصف ساعة , انضم ماركو إليهما على مائدة الفطور بعد أن
اغتسل وحلق ذقنه . شكر أمه بظرف بالغ لنجاح الحفلة , ومدح نجـــاح
هارييت في أول ظهور لها في المجتمع . ولم يذكر أي شيء آخــر .
بعد أيام قليلة جـاءت دعوة إلى حفلة في (( قصر مانيللي )) .
وقالت لوشيا بدهشة : (( لم يسبق أن دُعينا إلى هناك من قبل ! )) .
فقال ماركو : (( إنه في الواقع يريد هارييت يا أمي فهي تريد أن ترى
ومنح هارييت ابتسامة سريعة : (( هذا سيمنحك الشهرة . لم يتحقق هذا
الامتياز لأحد من قبل . طبعاً سنقبل الدعوة )) .
عادت الأمور في الفيلا إلى سابق عهدها , وكانت لوشيا الدائمة
الانشغال بالجمعيات , سعيدة كون ضيفتها تمضي أوقاتها في المتاحف
ومعارض الفنون . كانتا تتلاقيان لتناول العشاء في المنزل أحياناً وأحياناً في
أحد المطاعم قبل الذهاب إلى الأوبرا . وفي المناسبات كان ماركو ينضم
إليهما فقد أدركت هارييت أنه مولع بالأوبرا . ـ
وكانت هارييت قد عثرت على الخاتم فراحت تلبسه في المناسبات قائلة
للوشيا إنها تخاف عليه أن يضيع إذا لبسته دوماً . ولبسته عندما دعاها ماركو
للغداء في المصرف مرة أخرى . كان مسروراً لكنها عرفت بأنه كان يرسل
إليها برسائل صامتة بأن لا سبيل للعودة إلى تلك اللقاءات القصيرة الحميمة
قال لها بنعومة : (( أنت خائفة من أن أثير مشكلة في حفلة مانيللي ,
لكنني وعدتك بألا أفعل ذلك . ولا أحد سيظن شيئاً إذا ذهبت عالمة آثار
مهمة مثلك للتفرج على مجموعته . لا , لا تنظري إلي بارتياب , فأنا أقر الآن
بشهرتك العالمية . ذلك أن عدداً من زملائي هنا عرفوا اسمك وطلبوا
ورفع كأسه : (( أنا فخور جــداً بخطيبتي )) .
بخطيبته , وليس بها , كمـا لاحظت .
يقع قصـر مانيللي في وسط الجزء القديم من روما قرب كنيسة القديس
بطرس . كانت الأنوار تتألق من النوافذ الواسعة والأبواب عندما وصلت
سيارتهم . وكان البارون واقفاً لاستقبالهم .
تملكت البهجة هارييت منذ اللحظة الأولى , إذ كانت تعلم أنها تبدو في
أحسن حالاتها في ثوبها الحريري والعقد الياقوتي الذي أهداها إياه ماركو .
وكانت تعرف معظم المدعوين . ـ
رافقها ماركو في البداية ليقدمها إلى بعض الغرباء , مبدياً زهوه وإعجابه
بها . ثم توارى عنها كما وعدها ووجه انتباهه إلى الضيوف الآخرين . وكان
بإمكان هؤلاء أن يشغلوه طوال السهرة . كل ما كانت تطلبه خطيبته هو نظرة
بين الحين والآخر ليرى إن كانت بحاجة إلى عون منه , لكن يبدو أنها لم تكن
بحاجة إلى أي مساعدة , ذلك أن ثقة هارييت بنفسها قد ازدادت وكذلك
سرعة بديهتها . الأمر الذي أذهل ضيوف مانيللي من دون استثناء . هذا
بالإضافة إلى أن التحول الجسدي الذي أصبحت عليه , جعل منها شخصية
مؤثرة . لم تكن جميلة , لكنها رائعة الشخصية . وبدا وكأنها لفتت انتباه كل
قالت أمه تعنفه : (( ماركو , كيف لك أن تهمل هارييت المسكينة ؟ )) .
فأجاب ماركو بهدوء : (( مسكينة ؟ هارييت ناجحة تماماً من دوني . هل
يبدو عليها أنها مهملة ؟ )) .
فردت لوشيا بحدة : (( الرجال حائمون حولها . واحد منهم يبدو وكـــأن
لعابه يسيل وهو ينظر إليها , وآخــر لا ينفك ينظــر إليها بلهفة )) .
ـ ماما , الرجل الذي ينظر إليها بلهفة يملك النسخة الأصلية لتمثال
قال ماركو هذا وكأنه يفسر كل شيء : (( لا يمكنني أن أنافس كل هذا .
ـ هه . . . مانيللي ليس بريئاً إنه أحد أسوأ رجال روما .
ـ لكن هارييت بريئة , وهذا هو المهم
ـ ما الأمر , يا ولدي العزيز ؟ لماذا تبدو بهذا الشكل ؟
فأجاب وهو يتمالك نفسه : (( لا شيء . أرجوك ألا تزعجي نفسك بهذا
الأمر , يا أمـي . هل تسمحين لي بلحظة ؟ )) . ـ
وابتعد عنها مسرعاً , شاعراً بأنه إذا لم يستطع أن ينفرد بنفسه حالاً ,
فسيختنق وفي الحقيقة استطاع أن يتجنب الأضواء والضحكات ويجد
الوحدة تحت الأشجار المظلمة . وكان يتصبب عرقاً لما حدث لتوه .
لقد قال : ( هارييت بريئة ) وكلمة ( بريئة ) صدرت كقنبلة هشمت
الجدار الزجاجي الذي أقامه بينه وبين الماضي . ـ
( إنها بريئة . . . بريئة ) هذا ما قاله عندما حاول أصدقـاء أن ينبهوه إلى
المرأة التي منحها قلبه ذات يوم , ورفض أن يصدق ما يقال عنها من
شائعات . كان مجرد حب أعمى . . . أعمى وغبي . . . غلطة لا يمكن أن
تتكرر أبداً لأنها لم تكن بريئة , وقد عرف ذلك بطريقة قاسية كادت تدمره .
لقد عادت الذكريات إليه الآن , فتركته يرتجف كرجل تفترسه الحمى .
لكن هارييت كانت مختلفة . فهي ليست بريئة وحسب , بل صريحة
بعد فترة , تمالك نفسه , وعندما تأكد أن بإمكانه الظهور بشكل طبيعي ,
عاد إلى الحفلة بابتسامة عريضة دون أن يسمح لعينيه بالبحث عنها .
وكانت هارييت تستمتع بنجاحها . بعد أن دار بها ماركو في أنحاء
المكان في البداية , تركها وابتعد مبتسماً تاركاً إياها لاهتماماتها , وبعد ذلك
أخذ يسلي نفسه مع أكثر النساء جمـالاً , وهذا ما ناسبها تماماً , كما أخذت
ثم , رأت من أزاح كل تلك الأفكــار من ذهنها .
كانت أختها قد وصلت لتوها , فاندفعت نحو هارييت فاتحة ذراعيها
فعانقتها وهي تهمس لها : (( سمعت الكثير عنك . هل خُطبت حقاً
فقال هارييت بجفــاء : (( لست واثقة )) .
تراجعت أولمبيا ونظرت إليها : (( أريد أن أعلم الحقيقة منك )) .
فضحكـت هارييت : (( وإلا لما كنت أولمبيا . أين كنت طوال تلك
ـ في أميركا مع والدي . ما زالا هناك . لكنني عدت اليوم , ثم أسرعـت
إلى هنا لأنني سمعت أن ( ماركو وعروسه ) سيكونان في الحفلة . آه , يا أختي
الماهرة . حصلت على شروطك إذن ؟
ـ طـبـعـاً فعلت هذا . هــذا الخاتم يا عزيزتي . . . لا بد أنه كلف . . .
فضحكت هارييت : (( لا تبدإي . . )) . ـ
ـ مـعـك حـق . مثلي دور الـــهـدوء . دعيه يـتـكهن . هـذا هـو السبيل إلى
ماركو , وإلى الآخرين أيضاً . يقولون إنك جعلت مانيللي يأكــل من يـدك .
ـ سيأخذني في جولة يريني فيها نفـائسه .
ظهر مانيللي في تلك اللحظة ثم أخــذ المرأتين معه في جولة في منزله
الفخم . تكلم جيداً وبشكل مفيد . وسرعان ما بان السأم في عيني أولمبيا ,
فاعتذرت ثم هربت , من دون أن يلحظها أي منهما . وعندما عادت إلى
الحفلة أحــاط بها المعجبون , فشقت طريقها بينهم حتى وجدت ماركو . لم
يرها منذ اليوم الذي عرض فيه الزواج عليها فرفضته في خمس ثوانٍ . وتبادلا
التحية بمودة . قالت مداعبة : (( لم أكن أعلم ماذا فعلت عندما اقترحت عليك
هارييت , أليس كذلك . هل أسأت إليك بذلك ؟ )) .
ـ لا , أبداً . هارييت خيار ممتاز , ما عدا عادتها في الغياب مع رجـــال
ـ آه , مانيللي يريها فقط لوحاته . لا حاجة بك للغيرة .
ـ لا تكوني سخيفة . أنـا طبعاً لا أغــار . ـ
ـ لا بأس . لا تصرخ بي . هارييت شخص مليء بالمفاجآت , كما أظنك
صرت تعلم . علي أن أعترف بأنني نصحتك بها فقط لكي أغيظك .
فقال ببرودة : (( كان علي أن أتوقع منك مثل هذه الدعابات . أنت لم
تكبري منذ طفولتك عندما كنت أنقذك من على الأشجار التي كنت
تتسلقينها . يمكنني أن أعتني بنفسي ولكن هل فكرت أنك بذلك ربما تؤذين
ـ أتعني أنها قد تكون قد وقعت في حبك ؟ هذا هراء , يا عزيزتي . مــا
كنت لأفعل هذا لو لم أكن واثقة منه . فأنا أعلم أنك غير قادر على الحب .
وهي أيضاً , ألم تعلم أنت هذا بعد ؟
قالت هذا ضاحكـة , ثم ســارت في طريقها موفرة عليه ضرورة الإجابة .
نهاية الفصــ ـل (( السابع )) . . .
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :