مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب | 1 ـ أريــد زوجـــاً ! (( هل تتزوجني , غارد )) ؟ . أخذت (( روزي )) تــــذرع أرض غرفتها , وقد توترت ملامحها , وانقبضت يداهـــا , كمـا أظلمت عيناهــــا الزرقاوان , الصريحتان فــي العادة , وهي تكرر نفس الكلمات مرة بعد مـــرة بصـــوت خافت ومع ذلك ما زالت غير واثقة من أنها ستتمكن من قولها بصوت عــال : (( هل تتزوجني ؟ هل تتزوجني ؟ هل تتزوجني ؟ )) ها أنها قالتها , وإن لم تبد الكلمات بالحزم والتأكيد المطلوبين . على أي حال , اجتازت الآن الحاجز الأول , وبإمكانها إذن اجتياز الآخــر . . . هكذا أخذت تحدث نفسها بشجاعة . ابتلعت ريقها بصعوبة , ثم نظرت إلى التليفون القائم بجانب سريرها : (( لا فائدة من التردد , ومن الأفضــل الانتهاء من هذا الأمر الآن ! )) . ولكن ليس هنا ! ليس وحدها في غرفتها المنعزلة بينما هي . . . وحولت عينيها فجأة عن غطــاء السرير المزين بباقات الأزهار , بذوق الفتيات الصغيرات . فقد كانت في الرابعة عشرة عندما اختارته , بينما هي الآن في الثانية والعشرين تقريباً . في الثانية والعشرين ! ولكنها ما زالت بالسذاجة والبساطة التي كانت عليها . . . أو هكذا قيل لها . شعرت بغصة في حلقها , وهي تتذكر من قال لها هذه الكلمات . فتحت باب غرفتها , ثم أسرعت تهبط السلم . ستستعمل تليفون الغرفة التي كانت مكتب أبيها وجدها من قبل . من الأفضل أن تقول تلك الكلمات من غرفة المكتب تلك , فهذا يمنحها وزناً وكرامة . رفعت السماعة ثم أخذت تدير الأرقام , توتر جسمها وهي تسمع الرنين . ثم قالت للفتاة التي أجابتها من الطرف الآخر : ـ أريد (( غارد جيميسين )) , من فضلك ! أنا (( روزي وندهام )) . أخذت تنتظر الاتصال وهي تقضــم باطن شفتها السفلى متوترة . . . وهذه عادة تملكتها منذ طفولتها وظنت أنها تجاوزتها . ـ الأطفــال فقط يفعلون هذا , أمـــا النساء . . . كان هذا ما حذرها منه غارد عندما كانت في الثامنة عشرة . ثم سكت حينذاك ونظر إليها ساخراً , ما جعلها تســأله دون تفكير : (( مــاذا تفعل النساء ؟ )) . مال إلى الأمـــام وأشــار إلى شفتها السفلى المتورمة , ثم قال بالسخرية نفسهـــا : ـ النساء , يا روزي العزيزة البريئة , لا يكون هذا الأثر على شفاههن إلا بفعل عــاشق . . . لقد ضحك طبعاً لاحمرار وجنتيها . هذا هو غارد ! (( لو كان عاش في الزمن القديم , لكان قاطع طريق أو قرصاناً . . . رجلاً لا يهتم لأحد ويضع بنفسه قوانينه وأنظمته )) ! هذا ما كان يقوله جدها على الدوام . جدها الذي كانت تشعر أنه يكن له دوماً نوعاً من العطف رغم عدم اعترافه بذلك . ـ مــاذا تريدين يا روزي ؟ ماذا حدث ؟ دفعتها خشونة صوته إلى تشديد قبضتها على السماعة مدركة أنه ما زال يثير في نفسها الإضطراب . هذا رغم أنها تعلمت أثناء نضجها كيف تتجاهل تعليقاته الساخرة التي ما زال يعذبها بها أحياناً . لم يكن يتصرف على هذا النحو مع النساء الأخريات , بل كان يفيض معهن إحساساً ودفئاً . لكنه , طبعاً , لا يعتبرها امرأة , وإنما فقط . . . ـ روزي هل ما زلت على الخط ؟ . أعادها الضيق الذي بدا على صوته , إلى الواقع . تنفست بعمق : ـ نعم , ما زلتُ هنا ! غارد . . . هناك شــيء يا غارد أريد أن أســألك عنه الآن . . . ـ لا أستطيع الكلام الآن , يا روزي ! إنني بانتظار مكالمة هامة . اسمعـــي ! سأزورك هذه الليلة ونتحدث في ما تريدين . شعرت روزي بالذعر , وقالت على الفـــور : ـ لا ! لا ! تريد أن تســأله من مسافة بعيدة . إنها لا تريد أن تعرض عليه الزواج وجهاً لوجه . وغصت بريقها , لكنه كان قد وضع السماعة فلم تستطع إخباره بأنها لا تريد رؤيته . عندما وضعت سماعتها , أخذت تحدق في أنحاء الغرفة بحزن . أربعمائة عام من التاريخ تنام في هذه الغرفة من هذا المنزل الذي أنشــئ هنا منذ وهبت الملكة اليزابيت الأولى قطعة الأرض لـ بيبرس ويندهام , هدية مقابل خدمات أداها لها . هكذا قيل رسمياً , لكن الشائعات حينذاك قالت إنها مقابل علاقة شخصية حميمة . أطلق (( بيرس )) على المنزل اسم (( مرج الملكة )) اعترافاً منه بكرم اليزابيت . لم يكن منزلاً فخمــاً , حتى ولا فسيحاً . لكنه في نظر روزي كان فسيحاً للغاية بالنسبة إلى شخص واحد , أو حتى أســـرة واحدة . . . خصوصاً عندما علمت أثناء عملها في الملجـــأ كم من الناس دون مأوى وفــي حاجة ماسة إلى سقف فوق رؤوسهم . آخر مرة طرقت هذا الموضوع مع غارد , قال لها ساخراً معنفاً : ـ لو كان لك الخيار ماذا كنت ستفعلين ؟ تسلمينهم المنزل ؟ ثم تتفرجين عليهم وهم ينتزعون خشب الجدران ليستعملوه حطباً في المدفــأة ؟ تتفرجين عليهم وهم . . . ؟ . احتدت حينذاك بغضب : ـ هذا ليس إنصافاً ! أنت غير منصف . . . حتى (( رالف )) , المسؤول عن الملجــأ , قال في أكثر من مناسبة إنها غير واقعية , وإنها مبالغة في المثالية ورقة القلب , كما أن ثقتها بالآخرين هي أكثر مما يجب . خُـــيل إليها أن رالف يميل إلى احتقارها , إذ كان , منذ البداية , عدائياً نحوها , ساخراً من بيئتها التي نــشأت فيها ولهجتها المميزة , مديناً ثروتها وأسلوب حياتها , مقارناً كل ذلك بحياة أولئك القانطين في الملجــأ . قال ذات مرة , هازئاً : ـ إن قيامك بعمل إنساني يجعلك تشعرين بالرضى عن نفسك , أليس كذلك ؟ . فــأجابت حينذاك بصدق : ـ هذا ليس صحيحاً ! لأن أموالي , أو ثروتي كما تحب أن تسميها , هي . . . تحت الوصاية , ولا يمكنني التصرف بها حتى لو رغبت في ذلك . وأعتقد أنني إذا سعيت إلى عمل (( حقيقي )) , أي عمل بأجر , أكون سلبت ذالك العمل من شخص بحاجة إليه ليعيش . تحسنت الــعلاقة بينهما هذه الأيام كثيراً , رغم أنهما كانا شديدي الكراهية لبعضهما البعض , والأحرى القول إن رالف هو الذي يكره غارد , ذلك أن غارد لم يكن يعبر عن مشاعره تجاه أي كان . وفي الواقع , كان الشك يساورها أحياناً في أن غارد قد عرف حقاً المشاعر البشرية في حياته . إنها تعلم مبلغ كراهية رالف الذهاب إلى غارد كي يطلب مساعدة مالية للملــجأ , لكن غارد كان أغنى رجل في المنطقة , وأعماله أكثر الأعمـــال رواجاً . قال لها أبوهـــا ذات مرة : ـ إنه مزيج نادر جداً ! إنه مقاول ناجح للغاية , كما أنه رجل نزيه وذو مثل عليا ! أمـــا رالف فكان يدعوه (( بغلاً متعجرفاً )) . ـ جذاب ! همست بذلك إحدى زميلات روزي القديمات في المدرسة عندما جاء لزيارتها . كانت متزوجة , وقد سئمت زوجها على ما يبدو . فقد نظرت إلى غارد بنهم مكشوف لم تجده روزي محرجاً فحسب , بل مذلاً أيضاً . كانت سارا , بنظراتها المحرقة التي أخذت تلقيها على غارد باستمرار , والتلميحات والإيماءات المكشوفـــة , وبعض الملامسات المتعمدة , تبرز , بشكل ما , عدم نضج روزي , مبررة بذلك ما اعتاد غارد أن يوجهه إليها من انتقادات ساخرة . هي تعلم جيداً أن غارد يظنها ساذجة غافلة . . لا بأس ! فلتتحمل تعليقاته وسخريته المربكــة , والمؤلمة أحياناً , لكنها سبق وعاهدت نفسها منذ زمن طويل ألا تندفع في علاقة غرامية من خارج مشروع الزواج , ومع رجل له مثل مشاعرها , رجل يحبها ولا يخجل من الإعتراف بحبه , مــا يجعلها تتخلى معه عن تحفظاتها وتكشف له عن الجانب العاطفي من طبيعتها . إنها لم تقابل ذلك الرجل حتى الآن , وستعرفه عندما تقابله , لكنها غير مستعجلة , على كل حال . فهي ما زالت عذراء في الحادية والعشرين . في الحادية والعشرين وعلى وشك عرض الزواج على رجــل . . . ليس بالتأكيد من النوع الذي تطلبه ! نظرت إلى ساعتها , إنها الرابعة ! كانت تعلم أن غارد غالباً ما يبقى في مكتبه فترة طويلة بعد مغادرة الآخرين . وهذا يعني أنه لن يــأتي إليها قبل السابعة أو حتى الثامنة . كل تلك الساعات للانتظــار ! . . . ولتهيئ نفسها لعرض الزواج ذاك ! واحمر وجهها ضيقاً . ماذا سيقول ؟ سيضحك منها دون شك ! كل ذلك كان ذنب محاميها ! لو أن (( بيتر )) لم يقترح . . . وسارت نحو النافذة وهي تتذكر آخر كلمات بيتر قبل أن يخرج : ـ عديني بأن تسأليه , على الأقل , يا روزي . حينذاك أجابته غاضبة : ـ ولماذا أضحي بنفســي لأنقذ هذا البيت ؟ هذا غير ممكن حتى ولو كنت أريده . . . أنت تعرف شعوري . رد عليها بيتر معترضـاً : ـ أنت تعلمين ما الذي سيحدث إذا ورثه (( إدوارد )) . سيهدمـه بالتأكيـــد وهو يشعر بالسرور . ـ وأيضــاً ليعود إلى منزل جدي . نعم , أعلم هذا . كان إدوارد ابن عم أبيها . وقد تشاجر مع جدها قبل أن تولد روزي بوقت طويل , شجاراً خطيراً بسبب سلوكه والمال , كان من نتيجته أن منعه الجد من وضع قدمه في هذا المنزل مرة أخرى . لكل أسرة نعجتها السوداء , كما يقال , وأسرتهم غير مستثناة من ذلك . حتى وهو في منتصف عمره الآن , وبالرغم من مظهره المحترم وزواجه , ثمة شــيء غير سار في شخصية إدوارد . قد لا يكون تجاوز القانون في معاملاته المالية , ولكنه بالتأكيد تجاوز حدوده تحت ستار الظلام غير مرة , كما اعتاد أبوها أن يقول أبوهــا . . . أشاحت روزي بوجهها عن النافذة , ونظرت نحو الـمكتب . كانت صورة أبيها الفتوغرافية ما زالت فوقه . صورة أخذت له بالبذلة العسكرية قبل موت أخيه الأكبر بوقت قصير . لقد ترك الجيش , حينذاك , وعاد إلى البيت ليكون بجانب أبيه . . . ولم يكن هو نفسه غريباً عن الموت منذ وفاة والدة روزي . كان المنزل (( مرج الملكة )) يعني الكثير بالنسبة إلى أبيها وجدها . كانت هي تحب البيت طبعـــاً ــــ ومن ذا الذي لا يحبه ؟ ــــ وإنما دون شعــور بالتملك . لم يكن ما شعرت به وهي تجول في حجراته , هو الزهو , وإنمــا الشعــور بالذنب . يا ليت الأمــور كانت غير ما هي عليه الآن ! يا ليت إدوارد غير ما هو عليه ! إذن , لغادرت هذا المنزل بسهولة وسرور واشترت أو استأجرت لنفسهــا شقة صغيرة في المدينة ومنحت كل وقتهـا واهتمامها للعمل في الملجـــأ . ولكن كيف بإمكــانها أن تفعل ذلك الآن ؟ لقد حذرهــا بيتر حينذاك , قائلاً : ـ سيهدم إدوارد المنزل . سيجمع أولاً كــل ما يستحق البيع من محتوياته ثم يهدمه حجراً بعد حجر , ثم يبيع الأرض لأحد أصدقائه المقربين الذي سوف . . . قاطعته محتجــة : ـ كلا ! لا يمكنه القيام بذلك . المنزل مسجــل تراثياً و . . . ـ حسب معرفتي بإدوارد , لن يصعب عليه أبداً العثور على من يدعي أن البنائين أساوؤا فهم التعليمات التي أعطيت لهم . هل تظنين أن هذا البيت سيصمد طويلاً عندما يهاجمه نصف (( دزينة )) من الرجال مع (( بلدوزراتهم )) ؟ وطبعاً , لن تكون لإدوارد أية صلة بما حدث ! إنه يكره جدك , يا روزي , وهو يعلم كم كان هذا المنزل غالياً عليه وعلى أبيك . قالت روزي متنهدة : ـ كثيراً جداً ! لا , يا بيتر , هذا المكان أكبر من أن تسكنه أســرة واحدة , مهما يكن مقدار جماله . . . آه ! لماذا لم يستمع جدي إلــي ويسجله مؤسسة خيرية ؟ لماذا لم يفعل ذلك ؟ . ـ أنت إذن لا تهتمين بما يحدث للمنزل ؟ إلا يهمك أن يرثه إدوارد ويدمره . . . يدمـر أربعمئة عام من التاريخ ؟ . قالت متبرمـــة : ـ طبعاً يهمني ! ولكن ماذا بإمكاني عمله ؟ إنك تعرف شروط تلك الوصية الحمقاء , التي تركها جدي , كما أعرفها : في حال وفاة ولديه قبله , يذهب منزله ومزرعته إلى أقرب أقربائه بشرط أن يتزوج خلال ثلاثة أشهـر من وفاته ويصبح قادراً على إنجاب وريث . لقد كتب تلك الوصية منذ سنوات بعد وفاة عمــي توم , ولو أن أبــي لم . . . سكتت حينذاك مختنقة بالدموع . لم تكن استوعبت بعد فكــرة وفاة أبيها بنوبة قلبية قبل أسابيع فقط من وفاة جدها بعد إصابته بغيبوبة توفي على أثرها . ثم قالت بــأسف : ـ شروط تلك الوصية مكتملة جميعها في إدوارد . . . قاطعها بيتر بهدوء : ـ إنك أقرب أقــرباء جدك . أجابته حينذاك , بجفــاء : ـ نعم , لكنني لست متزوجة , ومن غير المحتمل أن أتزوج , على الأقــل ليس خلال الأشهــر الثلاثة القادمة . حينذاك قال بيتر بثقة : ـ بل يمكنك عقد زواج مصلحة . زواج لغرض محدد يمكنك من استكمال شروط وصية جدك . زواج يمكن إنهاؤه بسرعة وسهولة . ـ زواج مصلــحة ؟ وحدقت به روزي باهتمام . بدا لها الأمر وكــأنه من إحدى الروايات الخيالية التي تحب قراءتها . موضوع شــاعري جميل لكنه لا يحدث في الحياة الواقعية . ـ لا ! قالت ذلك بانفعال واستنكــار , وهي تهز رأسهــا بعنف جعل خصلات شعرها السوداء تترامى على كتفيها . دفعتها عن وجهها بضيق . كان شعرها آفة حياتها . . . أسود داكناً متمرداً يضج حيوية ؛ ولطالمـا دعاها جدها , وهو يدللها , بالغجرية الصغيرة . لكنها كلما حاولت ترويضه وتنظيمه , كان يثور ويعود إلى شكله السابق , كومة من الخصل الجعدة حالما ينغلق باب الحلاقة خلقها . وهكذا تخلت في النهاية عن كل محاولة للسيطرة عليه . ـ هذا مستحيل ! وحتى زواج المصلحة , يحتاج إتمامه إلى شخصين . وأنا لا أعرف شخصــاً يقبل . . . لكن بيتر قاطعها , حينذاك , قائلاً : ـ أنا أعــرف . أتراها سمعت نبرة شؤم في هذه الكلمات , أم أنها تخيلت ذلك ؟ سكتت وهي ترفع بصرها إلى وجه محاميها , بارتياب ثم سألته بحـــذر : ـ من ؟ ـ غارد جيميسن ! ما إن قال ذلك حتى انهارت جالسة على السلم وهي تقول بحــزم : ـ لا ! أبداً هذا غير ممكن ! . لكنه تابع يقول بحماسة وكأنه لم يسمع اعتراضها : ـ إنه اشخص الناسب تماماً ! وهو على أي حال , لا يخفي رغبته في امتلاك هذا المنزل . أجابت بجفاء وهي تتذكر كم من المرات كان غارد يزعج جدها متوسلاً إليه أن يبيعه المنزل : ـ أبداً ! إذا كان يريد هذا المنزل حقاً , يمكنه إقناع إدوارد ببيعه . رفع بيتر حاجبيه : ـ هيا , يا روزي ! أنت تعلمين أن ادوارد يكره غارد بقدر ما كان يكره جدك تقريباً . تنهدت روزي . كان هذا صحيحاً ! ذلك أن غارد وإدوارد عدوا مصلحة قديمان . وكما قال أبوها في أكثر من مناسبة : لم تحدث بين الرجلين مواجهة , إلا كان غارد هو الرابح . قالت : ـ نعم ! ومجرد معرفته بمبلغ حب غارد لهذا المنزل , يقوي رغبته في هدمـــه . ـ إن حديثنا يتناول فقط بعض الترتيبات العملية بينكما , أنتما الاثنين . بعض الاجراءات الشكلية البسيطة التي تمكنك من استيفاء شروط الوصية , وفي الوقت المناسب , يمكن فسخ الزواج . يمكنك أن تبيعي البيت لغارد و . . . فسألته بارتياب : ـ في الوقت المناسب ؟ كم من الوقت يستغرق ذلك ؟ . ـ سنة أو سنتين . . . لا أظن أن هناك شخصاً آخر تريدين الزواج منه , أليس كذلك ؟ وإلا لما كان هناك مشكلة أو حاجة للزواج من غارد . قالت بحـــزم : ـ لا يمكنني القيام بذلك , الفكرة كلها تبدو لــي كريهة منفرة . ـ حسناً ! عليك إذن أن توطني نفسك لقبول حقيقة أن إدوارد سيرث . لقد مضى على وفاة جدك شهــر تقريباً . قالت متجاهلة قول بيتر : ـ لا يمكنني القيام بذلك . لا يمكنني أن أطلب من رجـــل أن يتزوجني , خصوصــاً غارد . . . ضحك بيتر حينذاك : ـ إنه عرض عملي , ليس إلا . فكـــري في ذلك , يا روزي . إننــي أعرف تذبذب مشاعرك نحو المنزل (( مرج الملكة )) , لكنني لا أصدق أنك تريدين أن تري إدوارد يهدمــه . ـ لا ! لا أريد ذلك بالتأكيــد ! . ـ ومــاذا ستخسرين إذن ؟قالت عند ذاك : ـ حــــريتي ! عند ذلك ضحك بيتر : ـ آه , لا أظن غارد سيتدخــل في هذا الأمر . إنه أكثر انشغالاً من أن يهتم بما تفعلين . عديني بأن تفكري في الموضوع على الأقل , يا روزي . إنني أفعل هذا لأجلك , لأنك إذا سمحت لإدوارد بهدم المنزل , فلن يمكنك التخلص من الشعور بالذنب . فسألته بجفــاء : ـ هل تخدمني بابتزازي ؟ . وإذ بدا عليه , حينذاك , شـــيء من الضيق , قالت : ـ لا بأس . ســأفكــر في الأمــر . وأخيراً , فعلت أكثر من مجرد التفكير في الأمر , كما اعترفت روزي وهي تعود بأفكارها إلى الحاضر . ـ المشكلة معك هي أنك أرق قلباً مما يجب أن تكونــي . كم من المرات سمعت هذا الإتهام يوجه إليها على مر السنين ! مرات لا تحصى ! لكن بيتر على حق . لا يمكنها أن تدع إدوارد يدمر المنزل من دون أن تحاول منعه , بتضحيتها بنفسها ! وارتسمت على شفتيها ابتسامة حين التمعت في ذهنها فكرة ماكرة . يا لخيبة غارد لو أنه تمكن من قراءة أفكارها ! كم من النساء يعتبرن , مثلها , الزواج منه تضحية . . . ؟ لسن كثيرات . . . حتى ولا واحدة , على ما تعتقد . حسناً إنها فتاة غريبة إذن . . . وشاذة بحيث أنها , لسبب ما , لم تستطع أن ترى فيه أية جاذبية كسائر النساء . إنها إذن حصينة إزاء مواهبه التي تنهار أمامها النساء . . . تنضح أعينهن رهبة وهن يهذين بشكله المثير وعينيه الملتهبتين . . . بفمه وكتفه وجسمه , وشخصيته المهيبة وهالة الغموض التي تحيط به . من الغريب أن آخر شــيء كن يذكرنه هو ثروته ! حسناً , لا يمكنها أن ترى فيه ما يجذبها عاطفياً . فهو بالنسبة إليها خنزير ساخر متغطرس لا يسره شــيء أكثر من جعلها موضعاً للهزل . أثناء حفلة عشاء منذ شهر واحد فقط , قالت لها المضيفة إن ابن عمها يرغب في الجلوس بقربها أثناء العشاء . مال غارد نحو روزي , وكان قد سمع الحديث , قائلاً بتهكم : ـ إذا كان يرجو أن يجد امرأة تحت هذه الكتلة الشعثاء من الشعر , وهذا الثوب المضحك الذي ترتديه , يا روزي , سيصاب دون شك بخيبة أمل مرة , أليس كذلك ؟ . ولما كان (( الثوب المضحك )) الذي أشار إليه عزيزاً جداً عليها , إذ صنعته بنفسها من قطع قماش أحضرتها من المبرات الخيرية , فأصلحتها وغسلتها ونسقتها بكل فخر واعتزاز ــــ إذ كان الأمر كذلك , فقد رمقته بنظرة بالغة المرارة وهي تقول : ـ ليس كل الرجال يحكمون على المرأة من خلال إغرائها , يا غارد ! . فكان أن أجاب حينذاك , دون اهتمام بمشاعرها : ـ هذا من حسن حظك ! لأنك , حسب الأقاويل , ليس لديك أدنى فكـــــرة عن هذا الموضوع ! . احمر وجهها طبعاً , ليس فقط لما قاله فهي , على كل حال , لا تشعر بالخجل لأنها غير مستعدة لإقامة علاقات عابرة ولكن للطريقة التي كان غارد ينظر بها إليها . . . للسخرية البادية في عينيه , وأيضاً للصورة المفزعة التي مرت للحظة في خيالها إذ تمثلته مع إحدى عشيقاته المغـــرمات ! نبذت هذه الصورة من ذهنها على الفور , لائمة نفسها على خيالها الخصب وتهويماتها المزعجة . ذاك المساء , كانت قد تابعت الجدال مع غارد , قبل أن يغادر المنزل مع شقراء رائعة الجمال والأناقة كانت بصحبته . كانت قالت له و هي ترفع ذقنها الصغير تحدياً : ـ على كل حال , من الأصوب هذه الأيام عدم إقامة علاقات عاطفية . أجابها بلطف موافقاً : ـ من المؤكد أن الظروف الحالية مناسبة جداً للتهرب والاختباء , خصوصــاً . . . ـ خصوصاً ماذا ؟ فقال متهكماً : ـ خصوصاُ في مثل وضعك ! ومنعتها عودة صاحبته من قول أي شــيء آخر , حينذاك . زواج مصلحة من غارد ! ستكون مجنونة إذا سمحت لبيتر أن يقنعها بهذه الفكرة الحمقاء . لكنه كان قد أقنعها بذلك ولم يعد بإمكانها التراجع الآن . هل رغبة غارد بتملك منزل (( مرج الملكة )) تكفــي لكي يوافق ؟ ـ حسناً يا روزي , ما سبب مكالمــــتك إذا كنت تسعين إلى هبة أخرى منــي لمؤسستك الخيرية تلك ؟ عليك أن تعلمـــي أنني , حالياً , لا أشعر بأية رغبة في العطــاء . . . أخذت روزي تنظر إليه صامتة وهو يدخــل الردهة . كان قلبها يخفق بقوة وكــأنه على وشك أن يخترق صدرها . لم تتذكر أنها شعرت من قبل بمثل هذا التوتر . . . حتى ولا عندما علم جدها بتسللها خفية في إحدى الليالي لســرقة السمك من مزرعته مع كليم أنجرز . كادت تغرق في تداعياتها ولكنها ما لبثت أن عادت بأفكـــارها إلى الواقع , بحزم . حضر غارد مبكــراً أكثر مما توقعت . حضر ببذلته الأنيقة الغالية الثمن , وقميصه القطني المنشى الناصع البياض , ولو لم يكن مألوفاً لديها بهذا الشكل لوجدت ذلك مثبطاً جداً لعزيمتها . لكن غارد قد يكون مثبطاً حتى في ملابسه العادية , على ما حدثت نفسها . ولم يكن هذا بسبب طول قامته , حتى ولا عرض كتفيه وعضلاته المشدودة التي طالما تأوهت صديقاتها لرؤيتها . بل كان هناك شــيء يتعلق بغارد نفسه . . . شــيء معين لا تدركه الحواس . . . هو الذي يجعله مختلفاً عن غيره من الرجال . . . هالة من القوة والسيطرة , من . . . الرجولة الخالصة التي تعترف بها روزي نفسها . كانت تشعر بها إنما لا تنجذب إليها , كما ذكرت نفسها بحدة . لا يمكن أبداً أن تنجذب إلى غارد , فهو ليس نموذجها المفضل بين الرجال . إنها تحب من الرجال الرقيق الدافــــئ العواطف . . الأليف , والأكـــثر . . . إنسانية , والأقـــل . . . الأقــل هوســـاً . وتنحنحت متوترة . ســـألها بجفــاء : ـ مــاذا حدث ؟ إنك تحدقين في كأنك تحدقين في كلب ! . ردت عليه بحدة وألم : ـ أنا لست خائفة منك ! . ـ أنا مسرور جداً لسماع ذلك . علي أن أستقل الطائرة إلى بروكسل عند الصباح , يا روزي , ولدي حقيبة يد مليئة بالمستندات لأقــرأها قبل ذلك . أخبريني فقط ماذا تريدين , يا فتاتي الطيبة , إنما لا تتراجعي الآن قائلة إن الأمر غير هام . نحن الاثنين نعلم جيداً أنك ما كنت لتتصلي بي لو كـــــان الأمر عادياً . قطبت جبينها قليلاً للسخرية البادية في صوته , لكنه كان ينظر إليها بنفاذ صبر وهو يفك أزرار سترته ويحل ربطة عنقه . وعندما ركزت نظراتها على حركات يديه , شعرت بالإنقباض في قلبها يشتد . ـ هيا , يا روزي ! لا أريد أية ألاعيب ! مزاجي , حالياً , لا يحتمل هذا . ذكــرها تحذيره الشفهي المصحوب بنظرته العنيفة الثاقبة , بزلتها القديمة مع (( كليم أنجرز )) وعقابه القاسي لهما . ابتلعت ريقها متوترة . فات أوان التراجع الآن . استجمعت شجاعتها وجذبت نفساً عميقاً . ـ غارد ! أريدك أن تتزوجــــني . . . * * * * * * : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : |