شعرت روزي بالتعاسة وهي تلاحظ الذهول والغضب في صوت
مضى أكثر من أسبوع قبل أن تستطيع حمـل نفسها على إخباره
بزواجها . ليس لأنها كانت تتوقع منه ردة الفعل هذه , بل لأنها خافت
كان بيتر ,مثل غارد , قد حذرها من الوضع الخطر الذي ستضع
نفسها فيه إذا ما تملكت الناس الشكوك في أن زواجها ما هو إلا حيلة
ـ ربما نعلم , أنا و أنت , مبلغ ما تتضمنه دوافعك من إيثار وحب
للغير , ولكن الآخرين قد لا يعلمون ذلك .
ـ قال غارد إن إدوارد ربما يرفع دعوى احتيال ضدنا . هل هذا
قال بيتر حينذاك , بحــذر :
ـ هذا محتمل , ولكن عليه أن يقدم دليلاً كافياً يثبت زيف
الزواج . وأن يتمكن مثلاً من إثبات استحالة إنجاب طفل من هذا
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
ـ لكنك تعلم أن هذا صحيح .
ـ أنا أعلم وأنت تعلمين , وكذلك غارد , لكن غيرنا لا يعلم
تجنبت روزي إخبار رالف عن الزواج , خوفاً من أن لا يستطيع
تمثيل دور الزوجة الغارقة في الحب . ولكن , في النهاية , لم يكن
حبها لغارد ما سألها رالف عنه , وإنما حب غارد لها .
ـ بالله عليك يا روزي , ألا ترين مــاذا يهدف إليه ؟ إنه يريد الشيء
الذي يعلم أن أمواله لا يمكنها شراؤه .
ـ كلا , بل أعني منزل (( مرج الملكة )) . رغبته الدائمة في ذلك
المنزل ليست سراً , وقد رفض جدك أن يبعه إياه .:
قاطعته حينذاك , متشاغلة بتسوية ثنيات ثوبها :
ـ أنا وغارد نحب بعضنا بعضاً , يا راف .
ـ آه يا روزي . . . ألا يمكنك أن تري ؟رجل مثل غارد لا يقع
سكت فجأة واحمر وجهه قليلاً .
ـ اسمعي , لا أريد أن أسبب لك ألمـاً , يا روزي . إنك فتاة
جذابة . . . فتاة بالغة الجاذبية . . . أمـا بالنسبة للخبرة . . . فأنت
وغارد كأنكمـا , تقريباً , من كوكبين مختلفين . لقد رأيت بنفسك , هنا
في الملجأ , ما يمكن أن تسببه العلاقات غير المتوازنة من تعاسة .
الألم الناشئ عن زواج غير متكافئ . هل ترين حقاً أنكمـا متماثلان
في كــل شيء ؟ أنك وهو . . . ؟
ـ إننا مغرمان ببعضنا , و . .
ـ وهو سيعلمك كل ما تجهلينه من أمر العلاقة العاطفية , كلام
فارغ! إذا كنت تعتقدين ذلك حقاً , أنت إذن لست الشخص الذي
أعرفه . إنه سيستمتع بالعبث معك عدة أسابيع , بكل تأكيد , ومن
الممكن , عدة أشهر . . . ولكن بعد ذلك . . . لا تقدمي على هذا
الزواج, يا روزي ّ لستِ بحاجة للزواج به , أنت . . .
نطقت بهذا الاعتراف الهادئ الحزين قبل أن تتمكن من منع
نفسها . خرجت هذه الكلمات رقيقة خافتة لدرجة أن رالف لم يتمكن
رفعت بصرها إلى باب المكتب الذي انفتح فجأة واندفعت منه
امرأة مصحوبة بولدين صغيرين , طالبة التحدث إلى رالف . كانت
(( ليز فيليبس )) إحدى زبائن الملجأ المنتظمات . إنها غالباً ما تهجر
زوجها القاسي العنيف , معلنة بأن لا قوة على الأرض تجعلها تعود
إليه , لتعود إليه بعد أسابيع من تركه .
كانت روزي ترى ببراءة , وذلك في بداية عملها في الملجأ , أن
هذه المرأة تحب زوجها , ولذلك تعود إليه بعد كل خلاف . وكان
ـ نعم , كمـا يحب مدمن الكحول شرابه , ومدمن المخدرات
إنها مدمنة عليه . . على عنف علاقتهما , جزء منها يحتاج
ويشتاق إلى ما تراه إثارة في علاقتهما . ولكن مقابل كل (( ليز فيليبس ))
هنا , هناك مئة امرأة يرغبن بصدق في إنهاء علاقاتهن والبدء من
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــ
جديد , وهن بحاجة إلى مساعدتنا .
ـ بالخبرة . ككـل شيء آخــر .
ذلك الحين , ظنت أن رالف قاسٍ بغير حق . لكنها الآن أصبحت
أكثر حكمة . وها هي للمرة الأولى , تفكر في مشاكلها الخاصة أكثر
ممـا تفكر في الملجأ ونزلاته .
لم يبد السرور على غارد حين أخبرته بأنها ستدعو رالف إلى
حفلة زفافهما . لكن روزي أصرت على الأمر .
كان بيتر هو الذي سيحتل مكان ولي أمرها في الكنيسة , كما أن
المدعوون إلى الاحتفال يتجاوزون بضعة أشخاص .
بقي على موعد الزواج يومان , وبعد ذلك يصبحان زوجاً
وزوجة . كان هذا وضعاً لم تستطع مخيلتها استيعابه . هي وغارد . . .
زوج و زوجة . . . وهي وغارد مشتركان في حيلة إذا ما اكتشفها
هل كل العرائس يتملكهن مثل هذا الشعور ؟ أم برودة يـديها
وجمود ذهنها هما فقط بسبب ظروف زواجها غير العادية ؟ هكذا
أخذت روزي تتساءل بتوتر حين وقفت السيارة أمام الكنيسة وخرج
هذا الصباح , وهي ترتدي ثوب الزفاف وتقف أمام المرآة , بينما
السيدة فرينتون تساعدها وتعتني بها , تملكها من الغم والكرب
والشعور بالذنب ما أوشكت معه أن تمزق الثوب وتهرب . لكن بيتر
كان قد وصل حينذاك حاملاً الأزهـار التي أرسلها غارد إليها , ومـا
لبثت أن تطورت الأحداث على نحو تصعب مقاومته .
وها هي ذي الآن , تدخل الكنسية الشامخة , مارة بالنافذة الأثرية
الملونة , التي كانت هدية من أحد أسلافها , بثوب زفافها الساتان
العاجي اللون الذي كان لأمها من قبلها . ومع ذلك , كان عليها أن
تعصر نفسها , بالرغم مما فقدته من وزن في الأسبوع الأخير . . . فقد
كان خصر أمها بالغ النحافة . وما زال بين ثنياته أثر من عطر تذكرت
روزي أن أمها كانت تستعمله , وعندما تعطرت به شعرت وكأنها
دفعت هذه الذكريات دموعاً حارة إلى عينيها أخذت تغالبها
كان خمارها أبيض , في ما مضى , لكنه بمرور الزمن , أصبــح
عاجي اللون , وقد ورثته عن جدتها . ارتداؤها لهذه الملابس التي
سبق وارتديت بحب كبير , جعلها تشعر بنوع من التعويض عن نقص
زواج ؟ لم يكن هذا زواجاً وإنما اتفاقية عمل , وهذا كل شــيء .
شعرت بجو الكنيسة بارداً . برودة البلاط تحت قدميها تخللت
نعل حذائها الرقيق . كانت الكنيسة خالية بشكل كئيب . لم يكن سوى
الصفين الأولين من المقاعد مشغولاً . شخص مـا , لا بد أنه غارد ,
زين المكان بباقات ضخمة من الأزهار البيضاء والعاجية اللون , ما
أسبغ دفئاً خفف من عتمة المكان وصرامته .
عندما وقع نظرها على غارد , اضطربت خطواتها قليلاً . ومع أنها
كبحت آهة الضيق فلم يسمعها , إلا أنه التفت إليها . بدا شارد الذهن .
كان من الصعب التصور أنها على وشك الزواج به . ارتجفت , وسرها
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
أن الخمار أخفى ما ارتسم على ملامحها . قال بيتر لها محذراً :
ـ إدوارد ! لم تكن روزي لاحظت وجوده في الكنيسة . لكنه رأته
الآن مصحوباً بزوجته وولديه . . . نسختين شاحبتين مقهورتين عن
أمهما . الشعر مسرح إلى الخلف , ويلبسان زيهما المدرسي ,
امتعضت روزي قليلاً وحولت عينيها عن أطول الولدين .
إنها تحرمه , بزواجها من غارد , من وراثة (( مرج الملكة )) .
ولكن , إذا ورثه إدوارد , فلن يكون هناك (( مرج الملكة )) كي يرثه هذا
تعلقت بهذه الفكرة تلتمس فيها العزاء حين وصلت أخيراً إلى
أهـي جلجلة أجراس الكنيسة المبتهجة التي تشعرها بالغثيان , أم
لعلها صدمة تلك اللحظة عندما رفع غارد خمارها ونظر في أعماق
عينيها , بعد أن أعلنهما الكاهن زوجاً و زوجة ؟ أوشكت , لجزء من
الثانية , أن تنخدع بتلك المشاعر الرقيقة التي نطقت بها عيناه وهو
ينظر في عينيها , ظناً منها أنها حقيقة !
كانت هناك مجموعة من الناس تدور حولها . من أين جـاؤوا ؟
ميزت بينهم مجموعة من النساء قدمت من الملجأ , أناساً كانوا
يعرفون أباها وجدها . كلهم باسمون ضاحكون , يلقون بالتعليقات
المازحة عن فجائية هذا الزواج . كلهم ما عدا إدوارد .
توجسن روزي خيفة وهي ترى الحقد في عينيه . كانت تعلم
دائماً أنه لا يحبها . لكن ذلك لم يكن يقلقها قط , فهي لم تكن تحبه
أيضاً , لكنها الآن تدرك أن كراهيته لها مختلفة . إنها الآن تقف بينه
وبين ما يتوق إليه ويعتبره حقاً له , وتملكتها قشعريرة .
أجفلت دهشة لسؤال غارد . لم تكن تتوقع منه أن يلاحظ
قشعريرة التوجس الصغيرة التي تملكتها . إذ كان يبدو مستغرقاً في
حديث مع بيتر بحيث لا يدع له مجالاً للانتباه إليها .
أجابته بذلك , مدركـة أن إدوارد ما زال يراقبها , بل يراقبهما معاً .
ـ شكراً , إنه ثوب أمـي !.
كان هذا غارد! إلتفتت إليه بدهشة فعاد يقول :
ـ كان أبوك يضع صورتها على مكتبه وهي ترتديه , إنه يلائمك ,
ولونه ينسجم مع لون بشرتك . إن له نفس اللون الدافئ . .
قال ذلك وهو يلامس عنقها بأصابعه . نبهته بصوت خافت
ـ إذا كان الأمر كذلك , فهذه ستوقفه عند حده .
ورفعت بصرها إليه مستفهمة , ثم جمدت في مكانها وهي تراه
يأخذها بين ذراعيه ويعانقها بطريقة تظهر للمشاهدين رجلاً بالغ
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
الشغف بعروسه إلى ح لم تمنعه نظرات المتحفظين المستنكرة من
وعلى غير توقع منها , ومن خلف جفنيها المغمضين , شعرت
ليس هذا الوقت مناسباً للانفعالات العاطفية ! ليس وقتاً لمقارنة
مشاعر أمها , حين ارتدت هذا الثوب , بمشاعرها هي الآن . .
عندما ترك غارد روزي , تنهدت زوجة إدوارد بحسد , قائلة :
ـ آه ! يا لشاعرية هذا المشهد ! . . . يا ليت أبوك . . .
سمعت روزي غارد يقول بهدوء :
ـ كان جون يعلم بشعوري نحو روزي .
أقرت روزي في نفسها بصحة قوله , ولكن ليس بهذا المعنى
تماماً . إنها تتذكر ما قاله أبوها مرة بشيء من الحسد , عن أن بإمكان
غارد أن يحصل على المرأة التي يريد .
كانت روزي في السابعة عشرة حينذاك , فتصرفت تبعاً لذلك إذ
ـ إنه لا يستطيع الحصول علي ! .
ـ أنت لم تصبحي امرأة بعد , يا حلوتي . وأنا أشك كثيراً في أن
غارد سيرغب فيك , على كل حال , لأنه يعرف جيداً أي صغيرة
سليطة اللسان أنت أحياناً . . .
سمعت روزي إدوارد يسألها :
ـ أين ستذهبان في شهر العسل ؟ أم غير مسموح لنا بالسؤال ؟
ـ لسانا ذاهبين إلى أي مكان , ليس حالياً على الأقل . لدي اجتماع
في بروكسل بعد يومين لم أستطع التملص منه . سنذهب , أنا
و روزي , إلى هناك غداً صباحاً .
يذهبان إلى هناك ؟! نظرت روزي إليه , لكنه كان ينظر في اتجاه
آخـر يجيب زوجة الكاهن عن بعض الأسئلة . وهكذا كان عليها أن
تنتظر إلى أن يصبحا وحدهما في سيارة الزفاف , لتسأله بضيق :
ـ لماذا أخبرت إدوارد أننا سنذهب معاً إلى بروكسل ؟ سيشك فـي
الأمر عندما يكشف أنني لم أذهب معك .
همست بهذا السؤال رغم أن الزجاج بينهما وبين السائق كان
مغلقاً , وهي تفكر بتعاسة في عواقب الخداع . . إذ يبقى الشخص
حريصاً . . . حذراً . . . شاعراً بالذنب . . .
ـ لن يكون هناك ما يدعوه إلى الشك , لأنني عنيت ما قلته .
ـ أتعني أنك تتوقع مني مرافقتك إلى بروكسل حتى دون
استشارتي ؟ لكنني لن أستطيع ذلك . . . المفروض أنني سأكون في
ـ لا تكوني سخيفة , يا روزي ! رغم أن رالف يكرس نفسه لعمل
الخير , إلا أنه لن يتوقع عودتك إلى العمل بهذه السرعة .
ـ إذا فعلت ذلك , ستعرضيننا للخطر , الزواج يتطلب أكثر من
أشاحت بوجهها عنه بغضب . إنها تعرف جيداً ما هي متطلبات
إتمام الزواج . لكن زواجهما لن يتضمن ذلك الجزء المعين , وغارد
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
يعلم هذا . تابع غارد بهدوء :
ـ إنه يتطلب درجة معينة من العلاقة الحميمة يقوم بها الأزواج .
لكن علينا , أنا وأنت , أن نعثر على طريقة أخرى , إننا بحاجة إلى
قضاء بعض الوقت بمفردنا لنثبت نفسنا في دورنا الجديد , يا روزي .
وعندما لم تجب , قال متصلباً :
ـ أنت التي أردت هذا الزواج , يا روزي ! . . .
ـ لإنقاذ المنزل , وليس لأن . . .
في أعماقها , كانت تشعر أن غارد على حق , لكن آخر ما كانت
تريده هو أن تمضي معه وقتاً بمفردهما . إن هذا , في نظرها , يعقد
المشكلة بدلاً من أن يحلها . قالت بلهجة تنذر بالخطر :
ـ لا أريد أن أذهب معك , يا غارد! لا أريد أن أعود لأرى الناس
ينظرون إلينا . . . متفحصين . . . متخيلين . . . معتقدين . . .
قال رافعاً حاجبيه متحدياً :
تمتمت متجنبة النظر إليه مباشرة :
ـ يظنون أننا كنا معاً في السرير ؟ وأن رحلة العمل ما هي إلا قصة
رأت من زاوية عينها كيف كان يطيل النظر إلى صدرها , فاحمر
وجهها على الفور . قال ساخراً :
ـ يا لهذا الخجل ! سوف تختبئين إذن لو أخبرتك كيف أريد أن
تتصرف معي زوجتي التي أحب !
ـ أنا أعرف كيف تحب أن تهزأ مني , يا غارد ! نعم , أنا أخجل
عندما تتحدث عن مثل . . . مثل هذه الأشياء الخاص جداً . صحيح ,
أن خبرتي لا يمكن مقارنتها بخبرتك , ولكنني أفضل أن أكون دائماً
و عندما لم يحاول مقاطعتها أو السخرية منها , أضافت بشيء من
ـ سؤال صغير فقط , يا روزي . لماذا لا تريدين أن تفعلي هذا ؟
ـ لأنك تدخرين نفسك لرجل أحلامك ؟ وماذا يحدث إذا لم
تعثري عليه , يا روزي ؟ ألم يسبق أن سألت نفسك هذا السؤال ؟
ألقى غارد عليها هذا السؤال بعنف بالغ غير متوقع , ما جعلها
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :
قالت روزي محتجة عندما صعد غارد بسيارتهما المستأجرة في
طريق خاص ثم أوقفها أمام مدخل قصر مهيب مبني بالحجر .
منذ أعلن غارد أنها ستذهب معه إلى بروكسل , أخذت روزي
تحتج وتجادل , ولكن من ون جدوى . ذات مرة انفجرت فيه
ـ وما المفروض أن أقوم به أنا أثناء وجودك في الاجتماعات ؟
ـ لم يخطر ببالي قط أنك أنانية إلى هذا الحد !
حملقت فيه آنذاك بارتياب , وساورتها شكوك في دوافعه الخفية ,
وخيل إليها أنها تعلم جيداً ما هي . إنها ليست حمقاء . . . وكان
ـ لست ذاهبة معك , يا غارد ! ولا أريد الذهاب ! .
ولكن , بطريقة أو بأخرى , لم تنفع كل احتجاجاتها . وها هي
ذي الآن هنا تنظر إليه بقنوط , ساخطة لقدرته على البقاء هادئاً في
حين كانت مشاعرها تضطرب اضطراباً شديداً .
لم تكن معتادة على أن لها زوج , وكرهت افتراض غارد بأنه هو
الذي يقرر ما يجب أو لا يجب عمله .
ـ لا , إنه ليس فندقاً . إنه بيت خاص . و (( المدام )) صاحبة القصر
هي سيدة فرنسية . وبدلاً من أن تبيع البيت بعد وفاة زوجها , قررت
أن تزيد دخلها بتأجير غرفه . ومثل أكثر الفرنسيات , هي ليست
طاهية ممتازة فحسب , وإنما مضيفة ممتاز وماهرة جداً في توفير
قطبت روزي جبينها . شيء ما في صوت غارد وهو يتكلم عن
صاحبة القصر ضايقها . ومن دون حاجة إلى مزيد من الوصف ,
تصورتها روزي على الفور إحدى تينك الفرنسيات الأنيقات دائمات
الشباب اللواتي تشعر , هي شخصياً , بالخوف منهن .
ـ لكن , قلت إن لديك عملاً في بروكسل , وهذا المكان يبعد
ـ ليس أكثر من ساعتين بقليل في السيارة . و هذا كل شيء !
وإقامتي هنا تعطيني عذراً لئلا أتورط في أحداث بروكسل السياسية .
فكرت في أنك ستحبين هذا المكان . كنت تقولين دائماً إنك تفضلين
ابتعدت روزي بنظراتها عنه . كان صحيحاً أنها تفضل الريف ,
وربما كانت ستستمتع بهذه الرحلة في أحوال عادية . لكنها , في
العادة , ما كانت لتأتي إلى هنا مع غارد , زوجة له .
في هذه الأثناء , كان غارد قد نزل من السيارة واستدار ليفتح لها
الباب . ورغم تفضيلها الكنزة والبنطلون عادة , إلا أنها كانت ترتدي
تنورة صوفية طويلة وصداراً مناسباً تحته قميص حريري بني اللون ,
وفوق كل ذلك سترة مناسبة أحضرتها معها تحسباً للبرد . كانت
ارتدت هذه الملابس لعلمها أنها تُظهرها نحيفة , ما جعلها مسرورة
عندما انفتح باب القصر وبرزت امرأة غارد الفرنسية .
كانت ترتدي السواد . . تنورة سوداء من الكريب اشتبهت روزي
في أنها من إحدى دور الأزياء , فوقها قميص بسيط من الساتان
ووشاح من الكشمير حول كتفيها . عقد اللآليء الذي كان يتألق حول
عنقها , والمؤلف من ثلاثة حبال , لا بد أنه حقيقي , وكذلك الخواتم
الماسية في أصابعها والقرطان في أذنيها . ولكن ليست أناقتها هي التي
أذهلت روزي , التي أخذت كارهة تصعد السلم خلف غارد , وإنما
لم تكن المرأة , كما توقعت روزي بين الخمسين والستين من
عمرها , وإنما أقرب إلى الأربعين . إنها أقرب إلى غارد في العمر
منها هي . أما لماذا شعرت بمثل هذا العداء نحو (( المدام )) فلم يكن
لديها جواب . وأما أنه شعور متبادل , فالأمر واضح !
التفتت (( المدام )) إلى غارد , متجاهلة روزي تماماً , لتقول له
ـ آه , لم أدرك أنك ستحضر معك . . . صديقة !
قال غارد بحزم وهو يقدم روزي :
أكانت صديقة أم زوجة , لم يشكل ذلك أي فرق بالنسبة إلى
(( المدام )) كان واضحاً أن وجود روزي لم يسرها .
ـ وضعتك في جناحك المعتاد .
أخبرت غارد بذلك وهي تقف بينهما بشكل جعلها تواجه غارد ,
مديرة ظهرها لروزي , ثم أخذت تتحدث إليه بلغتها الفرنسية .
لكن روزي تتحدث الفرنسية بطلاقة . كان لديها موهبة تعلم
اللغات , نمتها سنوات إقامتها في ألمانيا مع والدها . وفرنسيتها , في
الواقع , أكثر طلاقة من فرنسية غارد بكثير . كانت (( المدام )) تقول :
ـ وعلى كل حال , إذا كنت تفضل غرفة أخرى . . .
غرفة أخرى ! . . وخفق قلب روزي بضيق . كانت تفترض أن
إقامتها ستكون في فندق كبير , وفي غرفتين منفصلتين . كما
افترضت أن رغبة غارد في مشاركتها غرفة واحدة ستكون ضعيفة مثل
ـ لا ! جناحي المعتاد مناسب تماماً !
الردهة الواسعة , المعرضة لتيارات الهواء , جعلت روزي
مسرورة بتنورتها الطويلة .
كان منزلها (( مرج الملكة )) أكثر دفئاً بسقفه المنخفض والخشب
السميك الذي يغطي الجدران . لكن هذا المكان , بغرفة العالية
السقوف , وجدرانه الحجرية العارية , لا بد أنه يسكون كابوساً . . .
بالنسبة إلى الدفء . هكذا أخذت روزي تحدث نفسها , فيما كانت
المرأة تتقدمها صاعدة السلم الحجري .
كانت السجادة التي تغطيه , رغم أنها بالية تقريباً , مطرزة بما
افترضت روزي أنه شعار أسرة الزوج الراحل . وقفت تتفحصها عن
قرب , متسائلة عما إذا كانت ترجمتها صحيحة لما قرأته في ناحية
منها . ومفاده أن إحدى سيدات القصر كانت في وقت ما عشيقة
كانت (( المدام )) تصعد الدرج مع غارد , جنباً إلى جنب , معربة
بالفرنسية عن أسفها لأن وجود زوجته معه يعني أنهما لن يتناولا
العشاء بمفردهما . أجابها هو بالانكليزية بكياسة بالغة :
ـ مع الأسف ! لكنني واثق من أن روزي ستستمتع بتذوق طعامك
قوله هذا جعل روزي تحملق فيه . لم يكن ثمة حاجة لأن يتدرب
هنا على تمثيل دور الزوج المحب .
كادت تقول أن بإمكانهما , هو و المدام , أن يستمتعا بالجلوس
وحدهما قدر ما يشاءان من المرات , دون أي مانع من ناحيتها .
لكنها بدلاً من ذلك , قالت للمدام بابتسامة باردة ولغة فرنسية طليقة
بأنها , في الواقع , تتشوق إلى طعامها اللذيذ .
لم تقل المدام شيئاً , بل نظرت إليها بعينين ضيقتين , وزمت فهما
المصبوغ باللون القرمزي . ولم تعد تتحدث إلى غارد بالفرنسية , وهي
تقودهما خلال الممر ثم تقف أمام باب من الخشب الثقيل قائلة
ـ أنا واثقة من أن كل شيء سيكون حسب رغبتكما !.
وهذه المرة , جاء دور روزي لتكون شاردة الذهن غير متجاوبة .
عندما تركتهما المرأة , خطر في ذهنها أن العلاقة بينها و بين غارد
هي أعمق بكثير من تلك التي بين المضيفة والنزيل . لكن من الغريب
أنها لم تفصح عن شكوكها هذه , علماً أن تسرعها كان على الدوام
مدار مزاح في أسرتها . كانت تعلم , آسفة , أنها تميل إلى الكلام قبل
التفكير , ولكن بالنسبة إلى حياة غارد الشخصية , وخبرته مع النساء ,
لم يكن الإدلاء بتعليقات غير حذرة من شأنه أن يمنح غارد الفرصة
لتعييرها ببراءتها وجهلها .
لم تكن تشعر بمثل هذا الضيق مع الرجال الآخرين , وإنما
العكس تماماً . عندما تجاوزت غارد داخلة إلى غرفة الجلوس في
الجناح , شمت على الفور رائحة عطر المدام في الجو . أخذت
تتفحص ما يحيط بها بصمت . الأثاث المذهب , المرآة الضخمة
المذهبة فوق المدفأة , الأغطية المطرزة باليد , والستائر الحريرية
القديمة الطراز . كما أضفت زهريات تحتوي على زنابق بيضاء أناقة
أدركت روزي ذلك وهي تنظر إلى البساط (( الأوبيسون )) الذي
بهت لونه , مقطبة الجبين , شاعرة بالرهبة من هذا الجو القديم
ـ أنا عادة أستعمل غرفة النوم هذه .
سمعت غارد يقول هذا من خلفها وهو يفتح أحد البابين اللذين
ـ إن لها حمامها الخاص خلافاً للغرفة الأخرى . ولكن إذا كنت
ما تفضله هو أن تكون الآن في بيتها وحدها , كما يعلم جيداً .
ـ هذا لا يهمني . ولكن أليس الأفضل لك أن تنام في الغرفة ذات
الحمام ؟ وبعد , أنا واثقة من أن المدام تتوقع أن تكون مستعداً
تماماً حين تنضم إليها لعشائكما المنفرد! .
هذا اللوم الرقيق غير المتوقع , جعلها تصمت ذاهلة .
تغار . . . كيف يمكن أن تكون كذلك ؟ إن غارد لا يعني لها
شيئاً . المشاعر الوحيدة التي بينهما هي سخريته منها وبغضها العقيم
له . تغار . . . هذا مستحيل ! . . . إن غارد يعلم ذلك , فلماذا إذن
هزت رأسها غير قادرة على الإنكار . ولماذا تفعل وليس هناك ما
تنكره ؟ بدلاً من ذلك , أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بغضب :
ـ لم أكن أريد القدوم إلى هنا , يا غارد .
ـ ربمــــــا هــــــذا صحيــح , ولكنك هــــنا الآن . أنت هنــا , وأثناء
عندما أخذت تبتعد عنه , توجه نحوها ساداً طريقها إلى باب غرفة
ـ انظري إلي يا روزي . إنك لم تعودي طفلة لكي يُسمح لك
بالهرب من النقاش لإنقاذ ماء وجهك حين تعرفين أنك خاسرة .
ـ النقاش ؟ وهل هناك من هو مسموح له بأن يناقشك , يا غارد ؟
إنك كُلي القدرة . . كلك رأي . . وكلك معرفة . استمر إذن . . ماذا
عن (( أثناء وجودنا هنا ))؟ يمكنني الجلوس كطفلة مطيعة بينما أنت
ـ لا شيء بيني وبين الكونتيسة !
ـ ربما كلامك صحيح . لكنها تحب أن يكون ذلك .
استمر يقول متجاهلاً تعليقها :
ـ أكرر أن لا شيء بيننا . ولو كان هذا موجوداً . . .
فساعدته على إتمام كلامه , ساخرة :
ـ ربما هذا صحيح . ولكنه ليس ما كنت أريد قوله . ما كنت أريد
قوله يا روزي هو أن عليك أن تحاولي وضع عداوتك لي جانباً ,
وتستخدمي المنطق والتعقل بدلاً من إطلاق مشاعرك . إن سبب
إصراري على إحضارك معي في هذه الرحلة هو أن نمنح نفسنا وقتاً
نعتاد فيه على وضعنا . . . الجديد . هل من التعقل إذن أن أفعل ذلك
ثم أحضرك إلى منزل عشيقتي ؟ ليس عليك أن تقلقي , يا عزيزتي ,
عندما ألح عليك بالمجيء معي في رحلة عمل , وإنما عندما أبداً
باصطناع المعاذير لئلا آخذك معي . . .
لأمر ما , كان يبتسم , وهذا ما أثار غضب روزي فصعد الدم إلى
وجهها . قال ساخراً وهو يلمس وجنتها بأنامل باردة :
ـ كثير من المشاعر المتوقدة وقليل من المنافذ لتصريفها !
ـ كفى استعلاءً يا غارد ! أنا لست طفلة !
اختفت ابتسامته ليحل مكانها نظرة تقييم هادئة :
ـ لست طفلة ؟ ليت هذا صحيح !
ـ لا , شكراً , لا أريد مزيداً من الشراب !
رفضت روزي ذلك وهي تهز رأسها محاولة كبت تثاؤبها .
لم يبالغ غارد في مدح موهبة (( المدام )) في الطهي . لكن روزي لم
تستمتع حقاً بالطعام . فالطريقة التي تعمدت فيها المدام استبعادها من
الحديث , مقتصرة على غارد , جعلتها تشعر إزاءها بالتسلية أولاً , ثم
بالضيق بعد ذلك . وتوخياً للإنصاف , كان عليها أن تعترف بأن غارد
بذل وسعه لكي يوقف سلوك المدام السيء , محاولاً إدخال روزي في
الحديث , لكن روزي تعبت من هذه اللعبة وتمنت لو تعتذر ثم تهرب
إلى سريرها . قالت بهدوء :
ـ في الواقع , إذا لم يكن هناك مانع , أريد أن أذهب إلى النوم .
ثم وقفت قبل أن يتمكن غارد من قول شيء . حيت مضيفتها
بتكلف , مادحة الطعام . قال غارد بصوت هادئ غير متوقع :
لكن غارد كان سبق وأمسك بمرفقها , مضيفاً شكره إلى شكرها ,
وهو يسير معها نحو الباب . عندما أصبحا في الردهة , قالت له بحدة :
ـ ما كان يتوجب عليك ذلك . كان يمكنك البقاء .
حملقت فيه مزمومة الشفتين وقالت غاضبة :
ـ لا حاجة للسخرية بهذا الشكل ! لست حمقاء على الإطلاق , يا
غارد ! أنا أعلم جيداً أنك . . .
لكن روزي رفضت الجواب مكتفية بهزة من رأسها . ما الفائدة
من قول ما يعرفانه , هما الاثنان؟ أنها آخر امرأة كان غارد سيفكر في
الزواج بها , كما أنه آخر رجل كانت تريد الزواج به .
عادت تكرر اعتراضها السابق , وبانفعال هذه المرة :
ـ لا أدري لماذا أحضرتني إلى هنا ! ما المفروض أن أفعله بنفسي
حين تكون في بروكسل ؟ أطلب من المدام أن تعلمني الطهي ؟
ـ إنك لن تبقي هـنا , بل سترافقينني .
ـ أظنك ستجدين السيد (( ديبوا )) على شيء من الأهمية . وحيث
أنه لا يتكلم الانكليزية , وفرنسيتي ضعيفة نوعاً ما , سأكون شاكراً
ماذا يعني غارد بقوله إنها ستجد السيد (( ديبوا )) مهماً ؟ إن عمل
غارد يتضمن تفاصيل معقدة جداً وبرامج على الكمبيوتر , وهو
موضوع لا تعرف عنه روزي إلا القليل , كما يعلم غارد جديداً . تابع
غارد يقول وكأنه يقرأ أفكارها :
ـ السيد ديبوا عالم خبير بالبيئة . وهو المتحدث باسم مجموعة
بالغة النفوذ في السوق الأوروبية المشتركة تطالب بمزيد من السيطرة
على فساد البيئة في الأرياف . وحيث أنني أعلم اهتمامك بهذا الأمـر ,
ستجدان الكثير لتتحدثا عنه .
ليس من عادة غارد أن يعطيها رأياً لا يتضمن نوعاً من السخرية ,
ما جعلها , لأول مرة , لا تعرف ماذا تقول .
ـ وطبعاً , وجودك معي سيوفر علي أجر مترجم .
نظرت إليه ساخطة . للمرة الأولى تخدع به فتظنه يعتبرها نداً
له . . . امرأة راشدة . تملكها حنق كاد يدفعها إلى رفض الذهاب
معه . لكن البقاء في القصر وحدها لم يكن شيئاً ساراً .
قال لها وهو يفتح باب جناحها :
ـ لدي بعض الملاحظات أريد قراءتها . إذا كنت تريدين استعمال
أدركت أن عليها أن تشكر لباقته هذه , لكنها بدلاً من ذلك ,
شعرت بالانزعاج والارتباك كطفل أرسل إلى النوم لئلا يزعج وجوده
الكبار . هل ادعاء غارد بأنه سيقوم ببعض الأعمال , ليس إلا عذراً
للعودة إلى الطابق السفلي لموافاة المدام ؟
لو كان غارد يريد البقاء مع المرأة الفرنسية , لما كان بحاجة إلى
الكذب ! هكذا فكرت روزي بغضب , إنه حر تماماً من هذه الناحية ,
لماذا إذن شعرت بالضيق حين رأيت فم المدام القرمزي يهمس
سبب ذلك , كما أخذت روزي تفكر باستياء , ليس سلوك المدام
المريب , و إنما هو استياءها من طعامها الدسم في معدتها .
عندما وافقت بيتر على القيام بمحاولة إنقاذ المنزل , لم تدرك
بالضبط ما عليها أن تواجهه . فكرت في هذا باكتئاب وهي تخلع
ملابسها وتنزل في حوض الحمام الضخم . كان ضغط أحداث
الأسبوعين الأخيرين أكثر مما توقعت . . ومما تريد أن تعترف به .
مضت لحظة , أثناء تناولها فطور يوم الزفاف , نظرت فيما حولها
إلى الوجوه المألوفة . فشعرت فجأة , بلهفة قوية إلى أبيها وجدها
ليخففا عنها . وإذ ملأت الدموع عينيها وخنقتها , أكبت فوق صحنها ,
آملة ألا يكون أحد قد لاحظ ذلك . كان غارد مستغرقاً في حديث مع
زوجة إدوارد , أو هكذا ظنت , ما جعلها تشعر بمزيد من الخجل
عندما دس في يدها منديلاً كبيراً نظيفاً , قائلاً بهدوء :
ـ أنا أيضاً أفتقدهما , يا روزي ! إنه , على الأقل , شعور مشترك .
اغرورقت عيناها الآن بالدموع , على غير توقع منها . أخذت
تغالبها غاضبة . ماذا حدث لها هذه الأيام ؟ لم تكن قط من النوع
قد تكون المدام سخية بالنسبة للطعام , لكنها بخيلة بالنسبة للماء
الساخن . أخذت روزي تفكر في ذلك وهي تغتسل بسرعة وتقفز إلى
خارج الحوض , لتلف نفسها بمنشفة كبيرة بيضاء ثم تبدأ بتنشيف
جسمها بسرعة لتبدد بذلك ذكرياتها غير المرغوب فيها .
عندما ارتدت قميصها القطني بالصورة الكاريكاتورية المطبوعة
عليه من الأمام , نظرت في المرآة وعبست .
اعترفت بأن أحداً لن يصدق أنها عروس سعيدة إذا ما رأى
عندما يتزوج غارد , أو إذا تزوج , لا يمكن أن يكون ذلك بفتاة أو
امرأة ترتدي ليلة عرسها قميصاً قطنياً وملابس داخلية عادية , التقطت
ملابسها التي كانت خلعتها , ثم توجهت إلى غرفتها منادية عندما
ـ انتهيت من الحمام الآن , يا غارد ؟
سكوت ! أتراه سمعها ؟ قطبت جبينها وهي تعض باطن شفتها ,
ناقلة نظراتها بين باب غرفتها المغلق وبين السرير . . . آخر ما كانت
تريده هو أن يوقظها طرق غارد على بابها ليعرف أين هي .
تأوهت بصوت خافت ثم سارت إلى الباب تفتحه . كان غارد
جالساً إلى المكتب أمام النافذة , ورأسه فوق أوراق منشورة أمامه .
أخذت تراقبه لبضع ثوانٍ. كان شيئاً نادراً , بالنسبة إليها , أن تتمكن
من مراقبته دون أن يلحظها . يا له من رجل بالغ الوسامة ! اعترفت
لنفسها بذلك وقد خفق قلبها . رجل تتمنى معظم النساء الزواج منه .
لكنها ليست واحدة منهن . . عندما تتزوج . . .
ألقى بهذا السؤال الهادئ من دون أن يرفع رأسه أو ينظر إليها ,
موضحاً بذلك أنه لم يكن غافلاً عن وجودها . وأضاف متجهماً :
ـ إذا كنتِ ستخبرينني بأنك لا تستطيعين النوم من دون دميتك ,
أظلمت عيناها غضباً . إنها لم تنم مع دميتها منذ سنوات . حسناً ,
فقط أثناء الأسابيع الأخيرة , عندما حطمها فقدها لأبيها وجدها .
ـ جئت لأخبرك بأنني خرجت من الحمام .
ـ أتريدين فنجان قهوة قبل النوم ؟
فاجأها سؤاله . اتسعت عيناها قليلاً واحمر وجهها عندما وضع
من يده الأوراق التي يدرسها ثم التفت إليها . شعرت بأنها تحب
أن تتناول فنجان قهوة , لكنها كانت خجلى من كونها في قميص
ـ الأفضل . . . الأفضل أن أذهب لألقي علي رداء آخر . . .
أجفلت عندما وقف , رافعاً حاجبيه الأسودين بسخرية وهو يتقدم
ـ هذه حشمة بالغة يا روزي ! لكنها غير ضرورية . أظن لدي ما
يكفي من السيطرة على مشاعري فلا أستسلم لإغراء منظرك بقميص
النوم . ثم إن قميصك هذا ليس شديد الإغراء , أليس كذلك ؟ إنه ليس
قميص عروس , بالضبط كما . . .
ـ أظنك عندما تذهب إلى سريرك ستلبس بيجاما حريرية .
دافعت روزي عن نفسها بهذا القول متذكرة رواية كان البطل فيها
يرتدي تلك الملابس . وتابعت تقول :
ـ ولكن لمعلوماتك الخاصة . . .
سكتت فجأة عندما أخذ غارد يضحك . لم تكن رأته يضحك من
قبل إلا نادراً . ولأمر ما , سبب ضحكه هذا , لها , طعنة مؤلمة في
قال يهز رأسه والمرح بادٍ في عينيه :
ـ لا يا روزي ! أنا لا أرتدي بيجاما حريرية . أنا , في الواقع لا
أرتدي شيئاً على الإطلاق .
قال جملته الأخيرة , وهو يحدق فيها بإمعان .
لم تستطع روزي منع وجهها من الاحمرار خجلاً وارتباكاً . ليس
فقط لما قاله , حتى ولا لضحكه هذا , وإنما للصورة المفزعة التي
غصت بريقها , وقد منعتها صدمة مشاعرها من ملاحظة كيف
تحول الهزل في عيني غارد إلى تفحص دقيق . قطب جبينه لما بدا
ـ اذهبي إلى سريرك , يا روزي ! لقد عانيت كثيراً من التوتر
والإجهاد , مؤخراً تصبحين على خير . . .
شعرت روزي بأن كل هذا كثير عليها , فقالت بصوت خنقته
ـ أنا لست طفلة , يا غارد . أنا امرأة . . راشدة , وقد حان
الوقت لأن تدرك هذه الحقيقة وتعاملني على أساسها .
غالبت بغضب دموعها التي كانت تحجب عنها الرؤية , وإذا بها
تسمع صوت غارد يقول محذراً :
ـ لا تغريني , يا روزي ! لا تغريني ! .
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :