ـ إذن , فقد تزوج غارد أخيراً ! لا يبدو أنني أستطيع لومه !
قال السيد (( ديبوا )) هذا لروزي وهو يصافحها بعد قيام غارد
بواجب التعارف بينهما . ثم سأل غارد بإنكليزيته الحذرة :
قال السيد (( ديبوا )) لروزي معتذراً :
ـ لا بد أنك غاضبة مني جداً , يا سيدتي . ولكن ليس بمقدار
غضب غارد , كما أظن . لكنه الوحيد الذي أثق به للقيام بمثل هذا
العمل الهام لنا . من المهم جداً , عندما نعرض قضيتنا على
السلطات , أن يكون لدينا كل المعلومات . . . الواحد منا , هذه
الأيام , لا يكتفي بالمعلومات والبلاغة , بل عليه أن يقدم وقائع ,
وأرقاماً , ورسوماً بيانية . عليه أن يتعلم الكمبيوتر , أو يتحمل
العواقب . هل أخبرك غارد شيئاً عن أعمالنا ؟
سأل روزي هذا وهو يدعوهما إلى مكتبه الفسيح المشرف على
مركز الأعمال في المدينة .
أجابته بذلك , معترفة لنفسها على كره منها , بأنها مستمتعة ,
نوعاً ما . شعرت بالسرور لاستعمال عقلها وقدراتها اللغوية , وأكثر
من ذلك شعورها بأنها ماهرة في شيء لا يستطيع غارد أن يماثلها فيه
وكما سبق أن قال غارد , كانت إنكليزية السيد (( ديبوا )) محدودة
جداً . كثير من الاصطلاحات التقنية التي كان يستعملها وهو يشرح لها
بحماسة احتياجات مؤسسته , غير مألوفة لديها , رغم أنها
تمكنت بسرعة من تفسير معانيها .
أثناء متابعة غارد لحديثهما . استطاعت أن ترى من تقطيبة
لجبينه , بأنه يجد صعوبة في ذلك . ودون أن تعلم السبب , وجدت
نفسها تسكت السيد (( ديبوا )) بلطف , ثم تلتفت إلى غارد بسرعة لتشرح
له ما كانا يقولان , غير منتبهة أثناء ذلك لجو السلطة والثقة بالنفس
الذي بدا في صوتها أو للنضج الذي أسبغه ذلك عليها .
عندما نظر السيد (( ديبوا )) في ساعته أخيراً , هتف مدهوشاً للوقت
الطويل الذي أمضوه . دهشت هي أيضاً لسرعة مرور الوقت , ولمبلغ
استمتاعها بما كانت تفعل , رغم أنها كانت تزعم دائماً أمام أبيها
وغارد أنها لا تحب الكمبيوتر وملحقاته , ويسعدها جداً أن تدع
عندما نهضا للخروج , التفت السيد (( ديبوا )) إلى غارد , قائلاً :
ـ أنا وزوجتي سنقيم حفلة عائلية صغيرة هذا المساء , احتفالاً
بتخرج ابنتنا الكبرى من الجامعة . و يسرني جداً أن تكونا معنا إلا إذا
كان لديكما خطط أخرى . . .
ـ كلا على الإطلاق ! متى تريدنا أن نكون هناك ؟
حالما أصبحا بمفردهما , التفتت روزي إليه محتجة .
ـ لا يمكنني الذهاب إلى حفلة , يا غارد . لم أحضر معي ملابس
ـ ليست بروكسل قائمة على كوكب آخر ! إن فيها متاجر جيدة
جداً , على ما أعتقد . كما علي أن أحذرك , يا روزي , من أن السيد
(( ديبوا )) رجل تقليدي . وأظن أن تقديره البالغ لك سيصدم بشكل ما إذا
أنت لبست ثوباً في حفلة ابنته سبق واشتريته من الحوانيت الخيرية ,
التفتت إليه روزي غاضبة وقالت بحدة :
ـ لست بحاجة إلى أية محاضرة منك , يا غارد , بالنسبة لما ألبس
كان لديها في بيتها ثوبان أسودان قصيران اشترتهما خصيصاً
لتلبسهما عندما كانت تخرج مع أبيها أو جدها في المناسبات
الاجتماعية المختلفة . ربما كانت تفضل البنطلون المريح , أو الأثواب
المخملية و الحريرية التي تلتقطها من التنزيلات والأسواق الخيرية .
لكنها ما كانت , بأي شكل لتُحرج أيا منهما بارتدائها ثوباً تعلم أنه
لكن غارد كان شيئاً مختلفاً تماماً .
لقد أحبت , على كل حال , السيد (( ديبوا )) , وأدركت بنفسها ,
دون حاجة إلى معلومات غارد , أنه من النوع التقليدي .
قال غارد وهو بنظر إلى ساعته :
ـ لسوء الحظ , لدي اجتماع آخر عصر اليوم , وإلا لذهبت معك
إن آخر ما تريده هو أن يقف غارد معها في متجر أزياء ليخبرها
بما عليها أن تشتري . سألها :
ـ ما رأيك بتناول الغداء ؟
تبددت الآن تلك الغبطة التي كانت تشعر بها . لم يجعها غارد
غاضبة فقط بتعليقاته على ملابسها , وإنما . . . وإنما ماذا ؟ جرح
كرامتها ؟ آلمها ؟ هذا مستحيل . لا شيء مما يقوله غارد يمكن أن
يحدث فيها بهذا الأثر . ذلك لأن ليس له عليها مثل هذا التأثير .
ـ إذا كنت بحاجة إلى نقود , يا روزي . . .
لكنها هزت رأسها نفياً قائلة بغضب :
ـ بمقدوري شراء ملابسي , يا غارد .
ـ نعم , أعلم هذا ! اسمعي , يا روزي ! عندما تعثرين أخيراً على
رجلك الكامل الرائع , أرجو أن تتذكري كم ما زلنا , نحن الرجال ,
رجعيين , من طراز ما قبل التاريخ .
ـ أعني أنه , بالرغم من أنني لا أكره شيئاً كما أكره المرأة التي
تلتصق بالرجل كالنبات المتسلق , إلا أننا , نحن الرجال , ما لنا
تستمتع بكوننا نستطيع تدليل نسائنا وإطلاق العنان لهن .
ـ بمكافأتهن على حسن سلوكهن ! بشراء أشياء تلقونها إليهن
كما تلقون بقطعة بسكويت إلى الكلب ؟
قالت متحدية , وعيناها تنضحان ازدراء وغضباً وهي تتابع :
ـ الرجل الذي أحب , ينبغي أن يعاملني معاملة الند للند يا غارد ,
في كل شيء . آخر شيء يريده هو أن أشعر نحوه بالامتنان لأي شيء .
ما سيعطيه الواحد منا للآخر , يعطيه إياه مجاناً .
سكتت فجأة مقطبة جبينها وهي ترى كيف كان غارد ينظر إليها :
سألته ذلك مترددة . لم تره قط من قبل ينظر إليها بهذا الشكل ,
ويحدق إليها بمثل هذا التركيز العنيف . أجاب بخشونة :
ـ لم يحدث شيء ! ولكن , يوماً ما , يا روزي , سيكون عليك أن
تنضجي وتختبري الألم الذي يرافق مثل هذه المثالية . وعندما يحدث
ذلك أرجو أن يكون بجانبك من يلملم حطامك . . .
تمتمت بتمرد , بصوت منخفض :
ـ على أن لا تكون أنت ذلك الشخص .
مضت ساعة تقريباً منذ أنزلها غارد في منطقة التسوق في
المدينة , لكنها حتى الآن لم تجد شيئاً يعجبها . أخذت روزي تفكر
في ذلك وهي تقف بجانب متجر صغير , تتفرج على الثوب المعروض
في واجهته , والمصنوع من المخمل الأسود والتافتا . كان قسمه
الأعلى من المخمل الأسود , بينما انحدرت فتحة العنق قليلاً عن
الكتفين , هذا إلى كمين طويلين ضيقين . كان المخمل محكم
التفصيل حول الخصر بينما كانت التنورة التافتا تتسع من فوق الوركين
القماش النفيس واللون الأسود منحا الثوب مظهراً رصيناً . لكن
التنورة جعلته ثوباً للفتيات لا يلائم امرأة كالمدام الكونتيسة , مثلاً .
دخلت روزي المتجر مملؤة بعزم . قالت البائعة متشككة عندما
ـ إنه قياس صغير جداً . . . ولكن , نعم قد يلائمك !
أضافت الجملة الأخيرة بعد أن خلعت روزي معطفها لتجرب
الثوب . وأخذت تتأمل صورتها في المرآة .
كان سواد المخمل يبرز لون بشرتها العاجي , وخصلات شعرها
التي تلامس كتفيها المكشوفين تُضفي عليهما شيئاً من النحول ما
جعلها تقطب جبينها قليلاً .
كان عليها أن تشتري حذاء جديداً يلائم الثوب . وفي النهاية ,
كانت عادة غارد في السخرية من ملابسها وذوقها , هي التي جعلتها
تحزم أمرها بينما البائعة تؤكد لها أنها لن تندم على شرائه وهي تلفه
ـ إنه ثوب كلاسيكي لا يبطل طرازه .
وتابعت روزي طريقها إلى متجر الأحذية الذي سبق ومرت به .
وعندما وافاها غارد , في ما بعد إلى المكان المتفق عليه , كان الشيء
ـ إذن , فقد وجدت شيئاً يعجبك !
كانت تحمل عدة أكياس أخرى بالإضافة إلى الثوب . . حذاء ,
حقيبة يد صغيرة للسهرة تلائمهما , وشاحاً ناعماً من الكشمير لتلبسه
فوق الثوب , صندوقاً صغيراً مزخرفاً من طراز القرن الرابع عشر
وجدته في حانوت للتحف اشترته هدية لابنة السيد (( ديبوا )) .
في الطريق إلى الحفلة , أخذت تفكر في أنه ربما كان من
الأصوب لو اشترت شيئاً عادياً , لكن هذا الصندوق كان رائع
قال غارد ذلك فجأة , ما جعل روزي تنظر إلي مستفهمة وتابع
ـ كنت أريد أن أطلب منك شراء هدية لابنة السيد (( ديبوا )) لكن
قالت وهي تلتفت إلى المقعد الخلفي تتناول اللفافة التي سبق
ـ لكنني اشتريت لها هدية , فعلاً .
ثم فتحت اللفافة تريه الصندوق المزخرف . عندما لم يقل شيئاً ,
هبط قلبها قليلاً , يبدو أنه لم يعجبه ! تملكها الغضب . لا بأس , فقد
ـ أتعلمين يا روزي ؟ إنك تدهشينني أحياناً . تتظاهرين بعدم
اهتمامك بالأشياء القديمة , وتعلنين أن من الإجرام تقريباً الاحتفاظ
بمكان مثل (( مرج الملكة )) منزلاً خاصاً , ومع ذلك تذهبين لتشتري
قالت ذلك بتحد , لكن غارد سارع إلى القول :
ـ كلا , لا أقصد . . . إنه رائع الجمال !
جعلها مديحه غير المتوقع لا تدري ما تقول . رفعت بصرها إليه
فباغتتها نظرته , لكأنه . . كأنه . . وتملكها شعور غريب غير مألوف .
لماذا تشعر الآن بقشعريرة لنطقه باسمها , وهي التي طالما سمعته
يتلفظ به من قبل ؟ لماذا تذكرها طريقة لفظه لها بالماء الرقراق في
النهر ؟ باحتكاك المخمل الناعم بالبشرة ؟ بهمس العاشق لحبيبته . . . ؟
اندفعت تتكلم بسرعة , محاولة التخلص من هذه الأفكار
ـ حتى إنني تذكرت شراء ورق ملون , يا غارد , وبطاقة . أتعرف
اسمها ؟ كان يجب أن أسأل عنه السيد (( ديبوا )) . أرجو ألا تظننا
متطفلين , فهذه حفلتها وهي لا تعرفنا .
ـ أعتقد أن اسمها (( هلوزا )) . لا أظنها ستكره حضورنا .
قال ذلك وقد ران عليه هدوء مفاجئ .
لم يتكلم بعد ذلك إلا حين وصلا , فقط ليقول إنهما , ما داما لم
يتغديا , ولا بد أنها جائعة , لهذا سيسأل المدام عما إذا كان ممكناً أن
يتناولا الغداء في جناحهما .
ـ آه ! هذا حسن ! أنت جاهزة إذن , سنكون هناك في الوقت
أحست روزي بالارتباك حين سكت غارد فجأة وراح يتأملها .
أخذت تنظر إليه مترددة من باب غرفة النوم المفتوح .
في المتجر , كانت واثقة من حسن اختيارها للثوب , لكنها الآن ,
صمت غارد , والطريقة التي ينظر بها إليها . . . استجمعت ثقتها
ـ ماذا حدث ؟ إذا لم يكن الثوب مناسباً . . .
هز غارد رأسه وهو يسير إلى حيث سترته فيرتديها :
بدا صوته متوتراً على غير عادة , أبح قليلاً , فانصرفت بذهنها عن
مظهرها هي إلى حركات عضلاته تحت القميص الأبيض , شاعرة
فجأة أصبحت أحاسيسها مرهفة بشكل غير عادي , ما جعلها تشم
رائحة جسده رغم بعد المسافة بينهما . تسارعت خفقات قلبها . احمر
وجهها , واستدارت بسرعة عائدة إلى غرفتها وهي تقول بصوت عال :
ـ وشاحي ! . . . كدت أنساه في هذا الجو البارد . . .
هل استطاع غارد أن يسمع الارتباك والاضطراب في صوتها كما
سمعته هي ؟ لم تكن تشعر أبداً بالبرد , ولكن أي تفسير آخر يمكن أن
سألها هذا وهو يتبعها إلى غرفة نومها , مقطباً جبينه . أجابت
وهي تضم الوشاح حولها بإحكام .
ـ كنت كذلك ولكنني الآن بخير . ظننت . . . ظننتك تريد
الخروج . لا أريد أن نتأخر .
ـ كذلك لا نريد أن نصل باكراً . ثم إننا , على كل حال ,
عندما أخذت تنظر إليه بحيرة , فسر لها الأمر متجهماً :
ـ استعملي ذكاءك , يا روزي ! نحن عريسان من المفترض أنهما
غارقان في الحب . ولو كان الأمر كذلك حقاً , لما سمحت لك
بالخروج من هنا بسهولة , ولما كنت تقبلين بالخروج !
كان صوته انخفض إلى حد الهمس , مشبهاً التنويم المغناطيسي ,
وأطلق رجفة محمومة أخرى في كيان روزي , بينما تابع يقول :
ـ لو كنا حقاً عريسين مغرمين لكان ثوبك الصغير هذا مُلقى على
ـ أسكت , يا غارد , أسكت ! نحن لسنا مغرمين ببعضنا البعض .
نحن لسنا . . . ليس الأمر بهذا الشكل . . و . .
ـ لا ! من المؤكد أننا لسنا كذلك . هل أنت واثقة من أنك تريدين
هذا الوشاح ؟ تبدين متوهجة تماماً . . .
قال ذلك وهو يفتح لها الباب . حملقت روزي فيه وهي تهم
إنه يعلم جيداً ما الذي سبب احمرار وجهها بهذا الشكل . تباً له !
عندما أسرعت تهبط السلم , تملكتها رجفة أخرى , أكثر حدة
هذه المرة , مصحوبة بالألم , ما جعلها تعض شفتها بحدة لتكبحها .
خافت من أن تشعر بالاستغراب والضيق بين أناس لا تعرفهم , أو
أن تكون ابنة السيد (( ديبوا )) كارهة دعوة أبيها لهما . مخاوفها تلك
سرعان ما تلاشت , ليس فقط أمام حرارة ترحيب السيد (( ديبوا ))
وزوجته , وإنما من الاستقبال الحماسي الذي تلقياه من (( هلواز ))
نفسها , وسرعان ما رأت روزي نفسها وسط مجموعة من الشابات
والشبان , بينما بقي غارد يتحدث إلى مضيفه ومضيفته .
كانت (( هلواز )) وأصدقاؤها مجوعة ذكية مليئة بالحيوية من شبان
وشابات أخذوا يتحدثون عن آرائهم ومعتقداتهم بصراحة , مازحين مع
روزي قليلاً لما رأوه من استنكارها مفهوم المواطنية الأوروبية . لكنها
سرعان ما اكتشفت أنهم , مثلها , يهتمون كثيراً بأحوال البائسين , ثم
وجدت نفسها مستغرقة في حديث مع أحد أصدقاء (( هلواز )) عن
المشكلة المتفاقمة لمتشردي المدن .
رغم أن هذا الفتى , واسمه (( رينولد )) , لم يكن يشبه , رالف
شكلاً . . . إذ كانت بنيته أكثر صلابة , شعره كثيفاً جعداً بني اللون ,
وكذلك لون عينيه اللتين كانتا تطفحان حرارة وإعجاباً كلما نظر
إليها . . . إلا أنه كان يشارك رالف كثيراً من مثله العليا التي يغلفها
قال يخاطبها بحماسة وهو يفصلها عن الآخرين ليتمكن من
التحدث إليها على انفراد :
ـ يخيل إلي أن هذه المشكلة عامة في كل البلاد . يبدو لي أننا
جميعاً سنستفيد كثيراً من تبادل الآراء والخبرات , ومشاركة بعضنا
ـ أتعني أن نقيم مؤتمراً ؟
ـ ربما نتدبر شيئاً أقل تمسكاً بالشكليات من المؤتمرات . إنني
أذهب إلى انكلترا أحياناً لإداء بعض الأعمال , وسيهمني أن أزور
الملجأ , إذا كان ممكناً ترتيب هذا الأمر .
ـ أنا واثقة من إمكانية ذلك , وأعلم أن رالف سيهتم جداً بالتعرف
ـ لكنك تعيشين خارج لندن كما أخبرتني . هـــل هنالك
ـ آه , لن يكون ثمة ضرورة لذلك . يمكنك أن تقيم معنا .
ـ إنني الآن أتطلع بشوق إلى ذلك .
قالت (( هلواز )) لها مازحة وهي تنضم إليهما بعد ذلك بعشر
ـ لا تنظري إلى رينولد بجد أكثر من اللازم . إنه مغازل
قال رينولد محتجاً , دون أن يخجله كلاهما :
ـ أنت غير منصفة , يا (( هلواز )) . أنا جاد تماماً في ذلك .
كان الثلاثة ما زالوا يضحكون عندما جاء غارد لينضم إليهم بعد
عدة دقائق . قال لروزي موضحاً للآخرين :
ـ آسف لأن الوقت حان لذهابنا . علينا أن نستقل الطائرة في
قالت روزي ذلك باحتجاج , غير قادرة على إخفاء دهشتها حين
أخبرها غارد عن الوقت . وعندما صارا في السيارة متجهين إلى
ـ لا حاجة لأن أسألك إن كنت استمتعت بالحفلة .
كان في صوته نبرة لم تفهمها روزي . لم تكن غضباً أو ضيقاً
بالضبط , إنما . . . , شيء ما . . .
ـ يبدو أنكما , أنت والفتى (( رينولد بريسيه )) وجدتما الكثير
الفتى رينولد . . . ؟ قطبت روزي جبينها . كان رينولد أخبرها ,
في غمرة الحديث , أنه احتفل لتوه بعيد ميلاده الخامس والعشرين ,
وهذا ربما يجعله أصغر سناً من غارد , لكنه طبعاً لا يجعله يستحق
نبرة الاحتقار الغريبة في صوت غارد . قالت بلهجة المدافع :
ـ كان يحدثني عن اشتراكه في مشروع ملجأ مماثل لملجئنا . بدا
عليه الإهتمام البالغ بعملنا . وأنا . . . أنا دعوته لزيارتنا والتعرف إلى
رالف عندما يذهب إلى لندن لقضاء أعماله .
أسرعت بكلامها متجنبة النظر إلى غارد أثناء كلامها .
أما لماذا تملكها شعور بأنها أخطأت بعض الشيء . . وأنها ,
بشكل ما , أغضبت غارد ؟ فهذا ما لم تجد له تفسيراً واضحاً .
ـ وهل هذا سيكون غرضه الوحيد من زيارته ؟ أن يتعرف إلى
ارتاحت روزي لجو السيارة المعتم الذي أخفى احمرار وجهها .
فقد تضمن صوت غارد شيئاً من التوتر عزز شكلها السابق . قالت :
ـ طبعاً , أي سبب غير هذا يجعله يحضر ؟
ـ هيا , يا روزي ! حتى أنت لست بهذه السذاجة ! كان واضحاً
تماماً أن (( رينولد بريسيه )) أكثر اهتماماً بتفحص سريرك منه بتفحص
ـ هذا ليس صحيحاً , حتى ولو كان ذلك . . .
سكتت فجأة وهي تدرك أن الادعاء الذي كادت تتفوه به , وهو أن
هذا ليس من شؤون غارد , هذا الادعاء لم يعد صحيحاً تماماً . أدركت
أنها نسيت تقريباً علاقتهما الجديدة . سألها بصوت خشن :
ـ حتى ولو كان ذلك , ماذا ؟ أنك غير مهتمة به ؟ ليس هذا ما
ـ كنا نتحدث , وهذا كل شيء .
قالت ذلك وهي تفكر . . . ما الذي حدث لغارد ؟ كان يبدو تقريباً
وكأنه . . . وكأنه ماذا ؟ كأنه يغار ؟ هذا مستحيل ! ورغم ذلك , فإنها
لم تفعل شيئاً يستحق غضبه . ابتدأت السعادة , التي شعرت بها في
الحفلة , تتبدد . أشاحت بوجهها عن غارد وأخذت تنظر من النافذة
شعرت برجفة خفيفة وهي تتذكر ما كان بيتر قاله لها عندما سألته
كيف سينهيان , هي وغارد , (( زواجهما )) ! , قال لها , آنذاك , محذراً :
ـ سيكون عليكما البقاء معاً سنة على الأقل ! أي مدة أقل من تلك
يمكن أن تثير الشكوك بالإمكان في البداية , اختيار الانفصال وبعد
سنة على الأقل ! بدل لها ذلك مدة طويلة . . . طويلة جداً . سمعته
ـ لا فائدة من العبوس والصمت , يا روزي ! إنك تعلمين ما هو
الوضع . . الدور الذي وافقت عليه , واخترت القيام به . إنك عروس
جديدة . و العروس الجديدة لا تتجاهل زوجها لتعبث مع رجل آخر .
ـ إذا كنت تعني رينولد , أنا لم أكن أعبث معه . كنا نتحدث
سكتت والتفتت إيه بعينين ملتهبتين . كان يركز اهتمامه على
الطريق , وعيناه مسمرتان أمامه وقد توتر فكه . قالت له برعونة :
ـ ربما لست قادراً على التحدث مع امرأة من دون أن تعبث
معها , يا غارد ! ولكن ليس كل الرجال مثلك , والحمد الله !
ـ هذا صحيح ! أشك في أن عزيزك الغالي رالف , مثلاً , أوه
(( رينولد بريسيه )) , مستعد للمجازفة بسمعته في زواج احتيالي , فقط
وعندما سكت ألحت عليه بالقول :
ـ فقط لأجل ماذا ؟ لأنني طلبت منك ذلك ؟ إنك غير منصف , يا
غارد . إننا , نحن الاثنين , نعلم بالضبط لماذا وافقت أنت على هذا
الزواج . إنك تزوجتني لأنك تريد المنزل .
شعرت روزي , وهي تقول هذه الكلمات , بغصة في حلقها حين
اكتسحتها موجة عنيفة من الشعور بالوحشة .
لم تكن تريد زواجاً زائفاً . . زوجاً لا يكن لها حتى نوعاً خاصاً
من المودة , وليس الحب . آخر شيء كانت تريده هو أن تعيش حياة
ملؤها الكذب والخداع . . أن تعيش مع رجل لا يشعر نحوها بسوى
الاحتقار ويسخر منها على الدوام .
كل ما تقوم به هو ضد مبادئها . لا عجب إذن من شعورها بعدم
الرضا عن نفسها , ومع كل هذا التوتر والتعاسة . كانت حمقاء إذ
أصغت إلى بيتر , وظنت أن . . .
ـ وطبعاً , فإن الرجال أمثال رالف ورينولد في هذا العالم هم غاية
في الكمال والتعقل ليفكروا بشيء كهذا . هل هذا ما تظنينه ؟ لا
تخدعي نفسك , يا روزي ! لو أنك ألقيت بأوراق ملكية (( مرج الملكة ))
طعماً أمام رالف , لما فكر مرتين بما يتضمنه مثل هذا الزواج أخلاقياً .
أما بالنسبة إلى رينولد , لا أدري إذا كان فكر في أن يخبرك , أثناء
مثابرته على مغازلتك , أن أسرته وأسرة (( هلواز )) متفقتان منذ سنوات
على أنهما , هو وهي , سيتزوجان في النهاية ؟ إنهما قريبان تربط
بينهما أمور معقدة متعلقة بالأملاك والعمل . . . والزواج بينهما سيحل
كل هذه الأمور بشكل حسن جداً بالنسبة إلى الأسرتين . وإن كان هذا
أخذت روزي تصيح به وهي ترتجف , رافعة يديها تغطي بها
ـ لماذا تنتقدني دوماً وتسخر مني ؟ لماذا تفسد كل شيء بالنسبة
إلي ؟ إنني لست حمقاء على الإطلاق يا غارد , مهما كان ظنك بي !
وإذا كنت أختار وأفضل أن أرى محاسن الناس , فهذا لا يعني أنني
وعندما أخذت تغالب دموع الغضب التي أوشكت على الانهيار ,
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بصوت منخفض متألم :
ـ لا بأس ! ربما كان رالف سيوافق على الزواج مني لو أنني
قدمت إليه (( مرج الملكة )) . لكنه , على الأقل , ما كان ليأخذ البيت
ـ لكان دمره تماماً مثل إدوارد ! إكبــري , يا روزي ! هـــــل تصدقين
حقـــــاً أن رالف كان سيهتم مثقال ذرة بالمنزل وتاريخه ؟ وأنه ما كان
ليسحب أخشاب الجدران , ببالغ الســــرور , ليغطي بها السلم إذا وجد
ذلك ضرورياً لمؤسسته الخيرية ؟ هل تعلمين ماذا كان سيحصل (( لمرج
الملكة )) في مثل تلك الظروف ؟ إذا كنت تظنين أن أي شيء . . أي
شيء , على الإطلاق , من المنزل الأساسي كان سيبقى مألوفاُ لأبيك
أو جدك في الوقت الذي ينتهي فيه رالف وجماعته منه , أنت إذن
ـ إنك لم تحب رالف قط , أليس كذلك ؟ كنت دائم السخرية
منه . حسناً , لا تظنني لا أعلم السبب , يا غارد . . .
سكتت روزي فجأة وهي تلتفت إليه لترى تأثير كلامها هذا عليه .
لم يبد عليه ما توقعت . لا الغضب البالغ ولا السخرية . . .
كان فكه متوتراً وكأنه يحاول السيطرة على نفسه. رأت النظرة
التي بدت في عينيه وهو يلتفت إليها . تملكتها رجفة لا إرادية وهي
آه , كم تمنت لو أنها لم تبدأ هذا الحديث قط ! لكن فات أوان
التراجع الآن ! . . قالت تتحداه بشجاعة :
ـ إنك تكره الحقيقة أنه ليس مثلك , إنه لا يهتم بالمال أو المادة ,
أجفلت حين أخذ غارد يضحك , وتملكها الاضطراب لردة فعله
غير المتوقعة هذه التي نبهتها وحذرتها أكثر مما لو كان ثار غاضباً
منها مستنكراً مزاعمها . قال معنفاً :
ـ رالف لا يهتم بالمال ؟ لماذا إذن يزعجني على الدوام بطلب
ـ هذا أمر مختلف . إنه لا يريد المال لنفسه . إنه . . .
ـ لا ؟ هل هذا ما تظنينه حقاً يا روزي ؟ لا بأس . أنا أوافقك على
أنه لا يطلب المال لينفقه على نفسه , وعلى شراء أملاك لنفسه , لكنه
حتماً يريد المجد الذي يعرف جيداً أنه سيحصل عليه بتحويله ذلك
المكان الحقير المثير للشفقة إلى مبنى أفخم وأكبر حجماً وأهمية .
عضت روزي شفتها وحولت نظراتها عنه . رغم ما في كلام
غارد من قسوة , إلا أنه كان يحتوي على بذرة من الحقيقة هي أكثر
نزاهة وصدقاً من أن تنكرها .
شعرت بالارتياح وهي تدرك أنهما وصلا إلى مدخل القصر .
ولعل المدام تنتظرهما في الردهة , أو بالأحرى تنتظر غارد .
ـ ماذا . . ؟ لا شيء تقولينه عن نفسك , أو تدافعين به عن عزيزك
قال غارد ذلك ساخراً وهو يوقف السيارة أمام القصر . لكنها لم
تهتم بأن تجيبه . وما الفائدة , على كل حال ؟
أخذت روزي تخلع ثوبها , متعبة . لم تكن المدام في انتظارهما ,
ولكن عندما وصلا إلى جناحهما , أعلن غارد أن لديه عملاً عليه
إنجازه . ثم جلس خلف المكتب متجاهلاً إياها كلياً وهذا بالضبط ما
تريده هي . أما لماذا جعلها هذا متضايقة سيئة المزاج , فلم يكن لديها
أي تفسير . لا يمكن أن يكون السبب هو خسارتها نقاشاً معه , حتى
ولا شعورها بالغم من عبء هذا الدور غير المألوف ولا المرغوب
قطبت جبينها عندما تعطل سحاب ثوبها . تملكها الضيق
بعد عشر دقائق , وبعد أن آلمتها ذراعاها فيما لا يزال السحاب
معطلاً , اعترفت بالهزيمة , مدركة أن ليس أمامها سوى خيارين . . إما
أن تنام بثوبها هذا , وإما أن تلتمس المساعدة من غارد .
سارعت على كره منها إلى باب غرفتها تفتحه ثم تقف في العتبة
تنظر إلى غارد مترددة , بينما هو منكب على عمله . كان ظهره
نحوها . بدا منكباً على عمله بحيث ترددت روزي في مقاطعته . . .
ربما إذا هي حاولت مع السحاب مرة أخرى . . .
ـ نعم , يا روزي ! ماذا تريدين ؟
قفزت نظرات روزي المجفلة لتقابل نظرات غارد الذي وضع
ـ إن السحاب في ثوبي معطل و . . .
ـ الأفضل أن تأتي إلى هنا وتقفي في الضوء لأتمكن من روية ما
قال ذلك مشيراً إلى وسط الغرفة .
ـ ربما أنت تكبرين رغم كل شيء .
قال ذلك بجفاء وهو يمسك بكتفيها ليتمكن من فحص ظهر
حاولت أن تستدير , شاعرة بأنه أخذ يسخر منها مجدداً , لكن
غارد كان يمسك كتفيها بشدة منعتها من الحركة .
تملكها شعور غريب لإحساسها بأنامله على بشرتها , ولرؤيتها
صورتهما معاً في المرآة التي تعلو المدفأة . صورتهما معاً في وضع
حميم كان يمكن أن يكون لعاشقين . .
أحست بقشعريرة خفيفة , وتنبهت إلى أنها ترى غارد , ليس كما
تراه دائماً , وإنما بصفته رجلاً ! . . ماذا لو كان غارد هو الذي تعرفت
إليه في الحفلة هذه الليلة , مثلاً , وهو الذي مدحها وغازلها ؟ . .
خفضت نظراتها إلى الأرض , شاعرة بشيء من الخجل لاتجاه
أفكارها على هذا النحو . سألها برقة :
ـ متى حدث هذا , يا روزي ؟ متى أصبح إصلاح ثوب أهم لديك
هل هو دليل نضج لديها أن تفضل طلب العون من غارد على
تمزيق ثوبها ؟ إذا كان الأمر كذلك , فقد بدأت تتمنى لو أن قرارها كان
إنها تشعر الآن بالتوتر يزحف على امتداد جسمها فيما غارد
يتفحص السحاب , مزيحاً شعرها من طريقه .
كانت قرأت في الروايات عن أنفاس الحبيب , لكنها كانت تسخر
من ذلك معتبرة إياه مبالغة كبرى . أما الآن . . . ابتلعت ريقها
بصعوبة , مكورة أصابعها بشكل قبضتين صغيرتين مرتجفتين بينما
تلفح حرارة أنفاس غارد ظهرها . قال بغيظ :
قوله هذا جعلها تدرك ما كانت تفعل . كانت لا إرادياً تميل
بظهرها إلى الخلف لتلتصق به وكأنها . . .
قالت محاولة الإبتعاد عنه :
تملكها الذعر إذ انتبهت إلى أن هناك شيئاً مريباً جعل المشاعر
ـ اهدأي ! يمكنني أن أرى المشكلة الآن . هناك قطعة صغيرة من
القطن مشتبكة بالسحاب . أظنني سأتمكن من نزعها .
ـ أين ؟ دعني أراها . . . ربما يمكنني نزعها بنفسي .
قالت روزي ذلك محاولة الابتعاد عن غارد والاستدارة , في
الوقت نفسه , لتنظر من فوق كتفها . ولكن عندما تقدمت إلى الأمام ,
كان غارد تمكن من إطلاق السحاب , تاركاً المخمل اللين الناعم
ينزلق عن كتفيها والقسم الأعلى من جسمها .
تمسكت روزي بذعر , بالمخمل , متسمرة مكانها من المفاجأة
وقد التهب وجهها بينما أخذ غارد يتفحصها بنظره .
ـ كفى , يا غارد , كفى ! لا تحق إلي بهذا الشكل !
انفجرت تقول بصوت يماثل جسدها ارتجافاً . أرادت أن تستدير
هاربة , لكنها , لسبب ما , لم تستطع أن تتحرك . بقيت جامدة في
مكانها بينما نظرات غارد تتجول فوقها . قال برقة :
ـ بأي شكل ؟ إنني , على كل حال , زوجك يا روزي . في
عندما تقدم خطوة نحوها , حملقت فيه بعينين واسعتين ذاهلتين
وهي ترتجف , غير قادرة على سلخ نظراتها عنه . تابع يقول برقة :
ـ وفي الحقيقة , هل لديك فكرة عما تفعلينه بي في هذه اللحظة ,
وأنا أراك بهذا الشكل ؟ لو أنك تعمدت هذا العمل , لما تمكنت من
اختيار وضع أكثر إثارة , هل تعلمين ذلك ؟ لو كنت حقاً زوجك , يا
روزي , ما وقفت هكذا أتحدث إليك !
عندما سمعها تصدر شهقات صغيرة متتابعة , قال معنفاً :
ـ ماذا حدث ؟ من المؤكد أنك لست بريئة ساذجة إلى هذا
صرخت روزي باحتجاج وهي تستدير هاربة إلى غرفتها ثم تصفق
الباب خلفها وتستند إليه , بينما جسدها يرتجف كمن به حمى ,
وقلبها يخفق بعنف أشعرها بالغثيان . دموع العذاب التي انهمرت على
وجنتيها من بين أجفانها المغمضة لم يكن لها علاقة بالحرج البالغ ,
أو الغضب من غارد لما فعل .
منذ لحظة واحدة فقط , كانت تستمع مسحورة إلى رقة صوته !
الصدمة , الشعور بالحرج , بالذنب , بالخوف . . . كل ذلك
شكل لها نوبة من الذعر والألم الغامض .
ابتعدت روزي عن الباب ببطء وهي ترتجف من رأسها إلى
أخمص قديمها , شاحبة الوجه من تأثير الصدمة .
ما الذي يحدث لها ؟ ما الذي حدث لها ؟
اغتسلت بسرعة ثم خرجت من الحمام واستعدت للنوم , رافضة
النظر إلى صورتها في المرآة .
توهج وجهها احمراراً , لا بد أن شيئاً غير عادي حدث لها إذ
تتصور غارد يغازلها برقة وهي تستجيب له ! .
إنه فقط خداع مخيلتها , كما أخذت تطمئن نفسها , وغداً ستتغير
مشاعرها وتعود إلى حالتها الطبيعية .
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :