عرض مشاركة واحدة
قديم 26-10-18, 09:36 PM   #27

Eman Sakr

كاتبة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية Eman Sakr

? العضوٌ??? » 377138
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 85
?  نُقآطِيْ » Eman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond reputeEman Sakr has a reputation beyond repute
Rewitysmile9 الفصل الثاني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اليوم موعدنا مع الفصل الثاني من رواية إستثناء
شكرا لكل من تفاعل مع الفصل الأول و المقدمة اسعدني جدا رأيكم و أسفة اني ما قدرت ارد على تعليقاتكم النت عندي سيء
بتمنى يعجبكم فصل اليوم 😘😘😘


***************

كوني كما تبغينَ
لكن لن تكوني
فأنا صنعتك من هوايَ
ومن جنوني
ولقد برئتُ من الهوى
ومن الجنونِ

"كامل الشناوي"


الفصل الثاني :

**************

انتبه محمود من غفوته القصيرة مفزوعا فقد راوده كابوس مروع .

و لكن ذلك لم يثر تعجبه بعد أحداث الليلة الماضية.

و تلقائيا وجد نفسه يعود بأفكاره إلى ما قابله حينما خرج من المنزل ليقاطع الجدل الدائر بين شقيقته و زوجها ... متسائلا بهتاف أخرس كلاهما :

" ما الذي يحدث هنا ؟ "

و لم يقابله حينها سوى الصمت الثقيل كإجابة ... و قد وقف ثلاثتهم و كأن على رؤوسهم الطير.

فقط النظرات المتبادلة بين شهد و كرم و التي تحمل قدرا كبيرا من الإتهام من جانبها يقابلها هو بقدر أكبر من الغضب لموقفها المتخاذل منه و شكها به .

على النقيض وقف محمود بينهما بحيرة جمة لا يفهم طبيعة الموقف .

لم يرتح لهذا الصمت .. لذا دنا من مكان وقوفهما مستطلعا حقيقة ما يحدث فتوسعت عيناه دهشة حين رأى ملابس كرم الملطخة بالدماء.

تلك الدهشة ما لبثت أن تحولت إلى توجس و فضول قلق بسبب الجسد المستكين أرضا ... ليهتف بتساؤل :

" سحقاً ... ما هذا؟.. ماذا حدث هنا ؟ ... من هذه يا كرم؟!! "

حينما قابله الصمت كإجابة للمرة الثانية ... ترك شهد و كرم لمعركة النظرات الدائرة بينهما بصمت فقد بدا أن أحدهما لن يتنازل و يجيب عن الأسئلة التي تنخر رأسه .

و هذا جعل سيناريوهات عدة ترتسم في رأسه عما حدث و كان القاسم المشترك بينهم هو الأفكار السوداء .

الا أنه نفض عنه كل هذا و هو ينحنى سريعا ليفحص الفتاة تحركه شفقته تجاه من ظنها طفلة .

مد محمود أنامله بتوتر بالغ ملتمسا موضع النبض في عنقها ليستشعره ضعيفا ... يسرى برتابة انبأته أنها لازالت على قيد الحياة .

رفع رأسه لينظر لكلا من شهد و كرم شذرا بسبب ردة الفعل المتخاذلة الذي يتخذها كل منهما تجاه الأخر .. متجاهلين تلك الصغيرة التي من المحتمل أنها تصارع الموت في هذه اللحظة ! .

و بغضب مكبوت وجه حديثه إلى كرم أمراً إياه بلهجة سريعة :

" لا زالت على قيد الحياة ... اتصل بالطبيب سريعا "

أسرع كرم ليفعل كما قال و لكنه ناداه مرة أخرى قبل أن يبتعد هاتفا :

" استدعي الدكتور فؤاد ... و لا أحد غيره "

هز كرم رأسه موافقا و هو يتتبع معالم القلق التي انتشرت على صفحة وجه محمود ... و لكنه لم يعلق فهو على دراية بالسر خلف هذا القلق .

و في نفسه أثنى على تفكيره و قد أدرك أن إستدعاء طبيب غريب في مثل هذا الوقت و لمكان نائي كالذي تقع به المزرعة لابد و ان يكون أمرا صعبا و مثيرا للكثير من التساؤلات هم في غنى عنها ... أو ربما قد يورطهم ذلك في مزيد من المشاكل في حالة إصابة الفتاه بمكروه ما .

*************

أما عن محمود فقد تصلب في مكانه بعجز و حيرة لا يعرف ما الذي يجب عليه أن يفعله .

يريد أن يطمئن أولا و لكنه مع هذا يريد أن يفحص الفتاه شخص موثوق به .

و هذا الشخص الموثوق به لن يكون إلا فؤاد ... ذلك الطبيب الستيني الوقور الذي تجمعه به معرفة قديمة تصل إلى ما يشبه الصداقة .

علاقة بدأت مع معاناة زوجته المتزايدة مع المرض و لا سيما في أشهرها الأخيرة ... حيث كان فؤاد هو طبيبها الخاص طوال هذه الفتره .

يتذكر حينما انتقل فؤاد للإقامة بمزرعة مجاورة هو و ابنته بعدما توفت زوجته و تقاعد من عمله مكتفيا بالإشراف على بعض الحالات من حين لآخر ... هذا ما عرفه محمود و ان كان يشك أن للأمر أبعاد أخرى ... إلا أنه لم يبحث في الأسباب .

فقط كان ممتنا أن هذا الستيني لم يختر مكانا اخر ليقطن به .

أخيراً استطاع محمود أن يحسم أمره و ينفض عن رأسه كل أفكاره السوداء و هو يرفع الفتاه على ذراعيه متجها بها إلى الداخل .

بينما شهد التي وقفت تراقب ما يحدث بذهول لم تدري ما الذي يتوجب عليها فعله ... فهل تلحق بكرم الذي أرسل إليها نظراته اللائمة قبل أن ينصرف ؟ .. أم تذهب خلف محمود لمساعدته ؟ .

و لكنها لا تستطيع أن تفكر في الخيار الأول ... تدرك جيدا أنها لا يجب أن تتواجد مع كرم في مكان واحد حاليا .. فما قد يبدر من كلاهما لا يمكن أن يكون ذو عاقبة طيبة على الإطلاق .

لذا لم تجد بدا من اللحاق بشقيقها مبدية اعتراضا واهنا على ما يفعله :

" محمود ما الذي تنوي فعله ؟ .. هذه الفتاة من المحتمل أن يكون في أعقابها كارثة ما"

صمتت قليلا و هي تفرك راحتيها بتوتر قبل أن تضيف :

" ربما من الأفضل أن تتصل بالشرطة لتبرئ ساحتك في حالة لو أصابها مكروه "

تجاهل محمود كل ما تقوله مواصلا طريقه إلى الداخل و تحديدا بإتجاه الغرفة الوحيدة المستخدمة كغرفة نوم في الطابق الأول من منزله .

توقف حين وصلا إلى الباب الموصد و هي تراقب هدوئه المريب و كأن هذا الموقف الذي أثار رعبها هي و زوجها لا يؤثر فيه البته .

كان يحاول فتح الباب مرارا و لكن لم يحالفه سوى الفشل و حينها التفت إلى شقيقته ليجدها شاردة... فوبخها قائلا :

" شهد هل ستقفين هناك طويلا بلا فائدة ... الا ترين أن يداي مشغولتان؟ "

كانت حالة الرفض لا تزال تسيطر عليها فحاولت معارضته قائلة :

" و لكن لا يمكن ان تبقيها هنا و تحديدا في غرفـ .. "

ظهرت معالم الغضب على وجهه بسبب عنادها الذي لا تكف عنه ....فقاطعها بحزم جعلها تبتلع بقية جملتها :

" إنه ليس الوقت المناسب لمثل هذا الحديث ... فقط افتحي الباب اللعين ... "

كتم بقية زمجرته ... ثم زفر بعنف قبل أن يقول ببعض من الحدة حين رأى ترددها :

" أرجو أن تسرعي"

أسرعت بالفعل لتقوم بما أمرها به بارتباك سيطر على أطرافها و هي تعلم أنها بما قالته أوشكت أن تطأ أرضا محرمة بدون أن تقصد .

تبعته إلى الداخل بوجل حيث وضع جسد الفتاة على السرير الكبير الذي يتوسط الغرفة... ثم قال بنفس نبرته الحازمة و دون أن يلتفت إليها :

" احضري بعض الماء لتنظيف وجهها ريثما يأتي الطبيب و كذلك بعض الملابس النظيفة "

كان يلقي عليها الأوامر واحدا تلو الأخر في حين وقفت هي تهز رأسها بطاعة عمياء و بلا أدنى اعتراض هذه المرة .

فرغم ضيقها من الموقف برمته و جنون الأفكار التي تلبستها قبل قليل ... إلا أن نظرة واحدة لوجه الفتاه الشاحب نجح في تحريك شفقتها تجاهها ... بالتأكيد أي شخص في مكانها كان ليفعل ففي النهاية لم تكن امرأة مجردة من الإنسانية .

أما عن محمود فقد شرد فجأة مستغرقا في خيالاته ... و لا سيما ان مشهد ذلك الجسد الصغير المسجي أرضا جعل ذكرياته التي جاهد طويلا ليتناساها تطفو مرة أخرى ... مهددة إياه بسلبه راحته و هدوءه من جديد.

فما بين الألم الذي يرافق تذكره الأجفان المطبقة لزوجته و التي حرمته من رؤية عيناها المتوهجة بالحب نحوه و ما بين ذاك الفراغ الذي تحتم عليه أن يحيا خلاله كان يكمن الكثير .

و خاصة ذاك الألم الذي حاول جاهدا تلافيه ... و الذي عاوده حين رأى هذه الصغيرة الفاقدة للوعي أمامه .

التفت إلى جواره ليجد أن شهد لا تزال متصلبة في مكانها تراقب الفتاه بجزع و بأعين تحمل بعضا من الخوف إلى جانب الدموع التي تحجرت في مقلتيها تبحث عن مفر ... مظهرها جعله يشفق عليها .

كان يعلم أنه ربما يكون قاسيا معها لإجبارها على تقبل هذا الوضع الغريب و لكن لا خيار آخر .

لذلك دنا منها مربتا على كتفها بحنانه المعهود ... ثم قال برقة :

" لا تجزعي عزيزتي ... سيمر الأمر بسلام ... و الآن اسرعي لإحضار ما طلبته منك ... كذلك استدعي صفاء لتساعدك "

انتبهت لجملته الأخيرة لتهز رأسها باستنكار قائلة :

" هل أنت متأكد؟ "

علت شفتيه ابتسامة طفيفة و هو يومئ موافقا لتنصرف شهد متذمرة و هي تدمدم بحديث غير مفهوم ... و لكنه كان يدري تماما سبب تذمرها مما جعل ابتسامة شاحبة ترتسم على شفتيه .

*************

كان أول ما فعلته شهد بعدما تركت شقيقها هو ذهابها إلى حيث تمكث صفاء في غرفة منفصلة تقع خارج المنزل .

دقت الباب بحرص عدة مرات بلا أن تحصل على إجابة... ليصيبها اليأس من أن ترد عليها هذه المرأة العجوز .

لابد أنها مستغرقة في النوم ... هذا ما رجحته شهد و هي تنصرف عائدة للمنزل... متسائلة عن السبب خلف إصرار شقيقها لاستدعائها فهي بلا شك ستحدث له فضيحة تجلب القاصي و الداني إذا رأت المصيبة التي هبطت على رؤوسهم .

و بذكر المصائب توقفت شهد فجأة و هي تفكر في إحتمالية أخرى لعدم ردها عليها .

أيعقل أن شيئاً ما قد أصابها ؟ !! ... و لما لا و هي عجوز هرمة قد هدها المرض ؟... تتمنى فقط أن تكون بخيرx .. حتى لا يحزن شقيقها فهو يهتم لأمرها كثيرا .

بل يكاد يعتبرها فردا من العائلة ... حيث بدأت العمل لديهم منذ وقت طويل للغاية ... و حتى هذه اللحظة .

و رغم أنها لم تعد قادرة على العمل كالماضي نظرا لكبر سنها إضافة لمرضها ... إلا أن محمود لم يصرفها بل استبقاها لعلمه بأن مزرعته باتت المأوى الوحيد لها .

تمنت شهد في أعماقها الا يكون السبب وراء تخلفها عن فتح الباب أمرا سيئا ... لأن شقيقها في غنى عن المزيد من المتاعب ... و الحزن .

و لم تكد شهد تستأنف سيرها حتى توقفت مرة أخرى بهلع ... لتصدر عنها صرخة مكتومة نمت عن فزعها حيث رأت شخص ما جالسا على إحدى مقاعد الحديقة في الظلام و يصدر عنه همهمات غريبة .

في هذه الليلة الغريبة لا تستبعد أن تصيبها أزمة قلبية جراء ما تتلقاه من نوبات ذعر متتالية .

وضعت يدها أعلى صدرها و كأنها تمسك قلبها الذي تقافزت دقاته بجنون زاد مع اقترابها بخطوات حذرة من هذا الشخص ... و قد نجحت في استعادة بعض من رباطة جأشها .

ربما لن تتعجب إن وجدت مصيبة أخرى بانتظارها في هذه الليلة الغريبة !!

و لكن لحسن حظها لم يكن بإنتظارها أي شيء غريب ... عدا عن صفاء .. تلك المرأة التي كانت السبب وراء خروجها في هذا الليل!! .

كانت تجلس هناك بكل هدوء أعصاب و هي تهمس بشيء ما استثار ريبة شهد .

و لكنها لم تستطع أن تكبت حنقها منها لوقت طويل حيث صاحت بها بنزق :

" انتِ ؟!! ...رباه... لقد أثرتِ فزعي "

التفتت صفاء لتنظر إليها بصرامة و هي تضع اصبعها على شفتيها المزمومتين في إشارة لها لتصمت ... ثم قالت بخفوت مريب :

" الا تستطيعين الحديث دون صراخ؟!!! ... لربما أصبحت أقرب في الشبه بالبشر الطبيعيين "

كان حنقها للفزع الذي سببته لها العجوز لازال قائما فعاودت صياحها باستنكار :

" أنا التي لا تشبه البشر الطبيعيين ؟! .. ام أنتِ بجلوسك في هذا الظلام و حديثك الهامس و كأنك في جلسة لتحضير الأرواح "

تحرك الصغير الذي كان ينام بين ذراعي صفاء متذمرا بسبب الصوت المرتفع لشهد لتصدر عنه همهمة نبهتها لوجوده للمرة الأولى ... فهتفت باندهاش :

" ياسين؟... ما الذي... ؟ "

و لكنها قطعت حديثها تاركة لصفاء فرصة تهدئة الصغير الذي عاد للنوم بعمق و كأن شيئا لم يحدث .

هزت صفاء رأسها بيأس ... قبل أن تعاود حديثها بنبرة لا تخلو من التهكم :

" و أخيرا لاحظتِ وجوده؟! ... ربما لو توقفتِ قليلا خلال معركتك مع زوجك و أنت تتهمينه بالخيانة و القتل كنتِ لتلاحظِ الصغير الذي انفجر في البكاء فزعا ... أتمنى فقط ألا تراود المسكين الكوابيس بسبب صراخ أمه المجنونة "

تنفست شهد عدة مرات بعمق في محاولة منها للسيطرة على غضبها ... مجبرة نفسها على عدم التأثر بحديث صفاء المستفز .

فرغم كل شيء كانت محقة في كل ما تفوهت به ... و حينها فقط ادركت شهد حقيقة ما حدث .

بالتأكيد اجتذب صوتها المرتفع معظم العاملين بالمنزل و المزرعة لدرجة ان صفاء.. تلك المرأة العجوز تحاملت على نفسها و نهضت لترى ما يحدث .

تماما كما فزع الصغير لصوت شجارهما .

و كم كان من حسن الحظ أن تلاحظه صفاء لتأخذه بعيدا لتهدئته ريثما ينتهي شجارهما ... و ها هي قد نجحت في ذلك حتى اللحظة التي اطلت عليهم فيها شهد كعاصفة هوجاء.

"رباه ماذا فعلتِ أيتها الحمقاء ؟ "

صرخ صوت بداخلها يعاتبها بهذا السؤال ... فهي خير من يعرف كيف تكون حين الغضب ... تصبح تماما مثل ساحرة شريرة كما كان يمازحها زوجها .

حين تذكرت كرم زاد شعورها بفظاعة ما ارتكبته حتى شعرت أنها على وشك البكاء.

قاطع افكارها صوت صفاء التي سألتها بإهتمام صادق :

" رأيتك تذهبين إلى حجرتي ... هل كنتِ تحتاجين مساعدتي في شيء ما ؟ "

و كم كانت ممتنة لأنه صفاء أخرتها من دوامة لوم الذات.. حيث كانت تتحدثx إليها بعفوية و ابتسامة خفيفة ارتسمت فوق ملامحها المتغضنة و كأن هذا التصادم الذي حدث منذ قليل لم يكن ... مما دعى شهد للضحك بهدوء ... فتلك هي طبيعة العلاقة بينهما ... عبارة عن جولات متتالية من قصف الجبهة المتبادل لتعود الأمور بينهما فجأة إلى طبيعتها و قد تعودت كلا منهما على ذلك من الأخرى .

تنهدت شهد بتعب ... ثم قالت باقتضاب شديد :

" إنه محمود هو الذي يحتاج مساعدتك "

ثم اردفت بنبرة شابها عميق الامتنان :

" أشكرك كثيرا لاهتمامك بياسين "

اطرقت لبرهة و قد داخلها شعور بالخجل لما تفوهت به قبل قليل ... لذا انحنت لتأخذ الصغير من بين ذراعيها .. ثم قفلت عائدة للمنزل بلا مزيد من الأحاديث .

**************

كان محمود لا زال جالسا إلى جوار الفتاه بحيرة لا يعرف ما الذي دعاه لهذا التصرف ... كان يجدر به أن يترك شهد تبقى معها و يخرج هو ليدبر الأمر حتى يصل الطبيب.

و لكنه كان يقنع نفسه أن شهد غير قادرة على التصرف بدون أن تتسبب في المزيد من الكوارث ... فشقيقته أقرب ما يكون إلى فتاه مدللة في جسد امرأة ناضجة و غالبا ما انفجرت تحت وطأة أدنى ذرات من الضغط النفسي ... تماما كما حدث قبل قليل .

لفت نظره الدم الذي لطخ ذراعه حيثما استلقت رأس الفتاه حين حملها .

فرفعها بحذر ... ثم أزاح شعرها القصير الذي تلون بدمائها متفقدا مؤخرة رأسها فوجد أن مصدرها جرح غائر بعض الشيء لازالت الدماء تطفر منه بقلة .

أعاد إسناد رأسها إلى الوسادة برفق ثم بحث بعيناه في أرجاء الغرفة عن شيء يساعده على إيقاف ذاك النزيف الطفيف ريثما يصل الطبيب .

و بيأس جذب إحدى المناشف حين فشل في الحصول على شيء مناسب ... ثم ثبتها حول رأسها كيفما اتفق .

بعد قليل عادت شهد و كان بصحبتها صفاء التي كانت تجر قدميها بتعب واضح .

و التي شهقت بصدمة بمجرد أن تطلعت لصاحبة الجسد الضئيل أمامها ... متسائلة بلهفة أُم عما قد يكون أصابها و تسبب في تلك الحالة التي هي عليها .

ثم اقتربت منها لتنظف الدماء عن وجهها مستخدمة منشفة مبللة ... و هي تمتم بنبرة تحمل الكثير من الأسى فيما تجمعت الدموع في عيناها تنذر بهطول قريب :

" يا الله ؟.. ترى ما الذي أصابك أيتها الصغيرة؟!"

وازى ما تفعله الدخول المتعجل لكرم مصطحبا معه الطبيب داعيا إياه للدخول بخفوت .

دلف فؤاد مسرعا بينما محمود افسح له المجال لتفحصها ... فحياه فؤاد بتحية مقتطبة ردها هو بايماءة من رأسه متشاغلا عنه بإستراق النظرات القلقة إلى وجه الفتاه الشاحب.

لم يسأل فؤاد عن شيء .. لم يحاول استنباط أي مما حدث فقط اقترب من الجسد المسترخي أمامه ليفحصه بحرفية تامة .

كان هدفه الأول هو معرفة حقيقة هذه الدماء التي تلطخ ملابسها... لذا سارع بالكشف عن جسدها بصورة عملية اعتاد أن يمارسها مع مرضاه و الكثير من الحالات الحرجة المماثلة التي يقابلها .

و لكن هذا لم يرق لمحمود الذي أبعد نظراته عن مرمى ما يحدث بشيء من الحرج ... قبل أن يغمغم بشيء ما لينصرف تاركا الغرفة كلها و لكنه لم ينسى أن يسحب كرم معه في طريقه إلى الخارج.

استمر فؤاد في فحص الفتاه ... و لدهشته الشديدة كان جسدها خاليا من الجروح ... عدا عن ذاك الجرح في مؤخرة رأسها .

فلم تكن الدماء على ملابسها عائدة لها و رغم تعجبه من ذلك إلا أن هذا أعطاه بعض من الراحة ... فقد استبعد فرضية تعرضها لاعتداء جسدي أو ربما اغتصاب.

تالياx و بعد أن ضمد لها الجرح في رأسها... حاول أن ينتشلها من تلك الحالة من فقدان الوعي التي استسلمت لها بشتى الطرق ... و قد اصابته حالتها بالإرتباك حقا .

فكل شيء كان في حدوده الطبيعية ... باستثناء نبضها الضعيف الذي و لابد تأثر بالدماء التي فقدتها إضافة إلى ما مرت به .

و قد حالفه الفشل في هذا لوقت طويل قبل أن يشعر برفرفة أهدابها بضعف .

***********

جلس محمود خارج الغرفة و عيناه تعلقت ببابها بشرود انتظارا لخروج الطبيب ... و قد بدأ يساوره قلق حقيقي بعد الشرح السريع الذي قدمه له كرم حينما سأله عما حدث .

فكيف به ألا يتذكر مقابلته السريعة بهذه الفتاه؟ ... ألهذه الدرجة كان مستغرقا في أفكاره ؟ .

و لكن ما كان يحيره أكثر هو كيف وصلت لمنزله؟ ... و ما المصيبة التي قد تحملها في اعقابها.

رباه ... هو ليس بحاجة للمزيد من التعقيدات و المشاكل بعد الوضع المتأزم الذي هو على وشك أن يخوضه في حالة نفاذ المهلة المحددة له لتسديد ديونه دون أن يكون قادرا على ذلك .

نفض عن عقله كل هذه الأفكار حينما سمع الأصوات الصادرة عن الغرفة و التي ارتفعت تدريجيا حتى باتت تشكل كتلة متشابكة من المجهول يسودها صراخ هستيري جعله يتجمد في موضعه لبرهة مع مزيد من الأفكار السلبية.

تبادل النظرات المتوجسة مع كرم للحظة قبل أن ينتفض كلاهما بتحفز مندفعين إلى الداخل مرة أخرى .

***********

كانت تقاوم الثقل الجاثم فوق أجفانها بصعوبة ... و حين نجحت في فتح عيناها شعرت بألم حاد يضرب مؤخرة رأسها في صورة نبضات متتابعة تأوهت على إثرها بصوت مرتفع .

أجالت طرفها فيما حولها لتجد ثلاثة أزواج من الأعين تتطلع إليها بإهتمام .

تلك النظرات ما بين شفقة و قلق و اهتمام جعلت شعورا قابضا يصل حد الذعر يندفع لأوردتها مع صور متواترة عما حدث لها قبل أن تفقد الوعي .

مشهد الدماء.. بل الكثير من الدماء ... همس يشبه الفحيح و أعين تنظر لها بشر بيِّن انبأها عن النهاية التي تنتظرها لتتلقى بعدها ضربة قوية على مؤخرة رأسها .

ترى ما المصير الذي ينتظرها الآن بعد ما شهدته ؟ ... هل سيتخلصون منها مباشرة أم سيعذبونها أولاً؟!! .

و عند هذه النقطة وصل رعبها حد احتباس الأنفاس... لم تملك أي طريقة لتصد بها نظرات هؤلاء المتطلعين إليها سوى الصراخ المتواصل .

صورت لها أوهامها أنهم على وشك الانقضاض عليها و كتم أنفاسها إلى حد إزهاق روحها .

و لما لا و قد عدمت كل وسائل الدفاع خلا عن تلك الوسيلة التي بدت بلا جدوى و خاصة مع جسد منهك لا يقوى على النهوض من ذلك الفراش الذي يضمه .

وازى تلك اللحظات اندفاع كلا من كرم و محمود لداخل الغرفة بقلق بليغ بعدما سمعا صوت صراخها .

أما عن فؤاد فكأنما توقع هذه الثورة من جانبها فسارع بحقنها بإبرة المهدئ التي حضرها سابقا مستعينا بكرم و محمود لتقييد حركتها .

تدريجيا تلاشى صراخها الهستيري حتى خبا تماما لتعود بعدها للإستسلام لفقدان الوعي من جديد .

بدت كما لو كانت تحت تأثير صدمة من نوع ما ... أو ربما كانت تحارب أشباحها التي تجسدت في هؤلاء المحيطين بها... حيث بدا خوفها منهم واضحا .

و لكن كان انصراف الطبيب بعدما قام باللازم إعلاناً بانتهاء ليلة عصيبة لم تكن بحسبان أي منهم.

************

في الصباح التالي.....

" ألم تستيقظ بعد؟ "

قالت شهد بنبرة هامسة و هي تدلف بهدوء إلى الغرفة التي تمكث فيها الفتاه .

رفعت صفاء انظارها إلى شهد التي ظهرت على وجهها آثار إرهاق الليلة الماضية ما بين شحوب و هالات سوداء ... بالتأكيد لم تنم شأنها في هذا شأن الجميع .

زفرت بتعب ثم هزت رأسها نفيا قبل أن ترتد نظراتها إلى حيث ترقد الفتاه .. قائلة بنبرة تسودها الشفقة :

" لا زالت على نفس الحالة منذ أن تركها الطبيب بالأمس"

" لم تذق عيناي طعما للنوم "

أقرت شهد بتعبها و تلك الحقيقة كانت تدركها صفاء قبل أن تصرح بها لذلك لم تعلق .

بينما استرسلت شهد في شكواها :

" كدت أفقد عقلي و أنا أفكر في سبب لما يحدث .. دون نتيجة ... الأمل الوحيد لنا هو أن تستيقظ الفتاه و تخبرنا بما حل بها "

" نعم .. يبدو أنه الحل الوحيد المتاح "

ردت عليها مؤكدة ... ليسود صمت ثقيل بينهما قطعته المرأة الأكبر سنا بتساؤل حذر :

" هل تحدثتِ إلى كرم حول ما حدث البارحة؟ "

كانت تعلم أنها لا يجدر بها أن تتدخل في مثل هذه الأمور و لكنها تعتبر شهد و محمود بمثابة أبنائها و يؤلمها أن ترى حياة كلاهما تخرب بهذه الطريقة .. يكفيها محمود و ما حل به بعد موت زوجته .

أدركت شهد ما تفكر به صفاء لذا اكتفت بهز رأسها بلا معنى و قد علت ملامح البؤس وجهها .

و لكنها أبت ان تستسلم للشعور بالشفقة على الذات ...و حاولت التسلح بأكبر قدر من اللامبالاة و هي تقول :

" لم تتسنى لي الفرصة لذلك ... في الحقيقة لم أره منذ أن خرج برفقة الطبيب بالأمس "

قالت جملتها الأخيرة بصوت خفيض تخلله الضعف رغما عنهاx ... لذلك هزت صفاء رأسها بتفهم ... ثم بدا أن شهد تحاول الهروب كعادتها ... حيث قالت و هي في طريقها للخروج من الغرفة :

" سوف أذهب الآن لأتفقد التوأم ... لم أرى لأحدهما أثراً منذ قدومنا "

ثم أضافت و هي تضحك في محاولة منها لافتعال المرح :

" ترى ما الكوارث التي قاما بها أو يخططان لها ؟ "

صاحت صفاء بغيظ جعل شهد تضحك أكثر :

" يا الله ... لو كان الأمر بيدي لـ "

قاطعتها شهد لتكمل عنها من بين ضحكاتها :

" لو كان الأمر بيدك لاعدتِ تأهيلهم ... أعرف "

كانت هذه هي تتمة جملتها دائما ... لقد اعتادت أن ترددها على مسامع شهد و هي تتهمها بالتساهل و الاستهتار .

و لكن شهد لم تتوقف لتسمع المزيد حيث خرجت سريعا .

هي تماما مثل طفلة متذمرة .. هكذا عهدتها صفاء منذ وقت طويل ... و هكذا عرف عنها الجميع ... رغم ما تتحمله من مسؤولية وحدها إلا أنها تفسد كل شيء في أقل من لحظة كما فعلت بالأمس ... فهي تسمح لغضبها بالتحكم بها .

تعلم جيدا كم يحبها كرم .. كما هي على ثقة تامة بأنه لم يكن يوما ليخونها... و لكن حالة التوتر الدائمة التي تعيشها بسبب طبيعة عمله و ما يصلها عنه من أخبار غرامية تعلم جيدا مدى زيفهاx كل هذا يجعلها تعيش على صفيح ساخن .

تنهدت المرأة العجوز بيأس و هي تتمنى حقا أن تتحسن أوضاعها مع كرم .

بعد قليل ألقت صفاء نظرة خاطفة إلى وجه الفتاه الشبه خالي من أي معالم للحياة قبل أن تقرر الخروج لتتابع الإشراف على مهامها في المنزل كما اعتادت كل يوم .

على أن تعود لها في وقت لاحق مع أدويتها مع بعض من الطعام فالبقاء إلى جوار الفتاه لن ينفعها بشيء .

*********

لم يزحف النوم إلى أجفان محمود إلا مع أولى خيوط الفجر ... و مع هذا لم يحظى سوى بدقائق قصيرة انتبه على إثرها مفزوعا .

حاول أن يستقبل يومه الجديد بذهن صافي فهو في أشد الحاجة لكل ذرة من قوته و تركيزه ليتعامل مع ذاك الوضع المتأزم الذي لا يعرف أبعاده بعد .

و لكن هيهات أن يحظى بهذا الصفاء و خاصة مع الصداع القاتل الذي كان يطعن جانبي رأسه .

قلة النوم و كثرة التفكير و التوتر كانت هي مسببات هذا الصداع الذي يكاد يكون مزمن ...رغم أنه تعافى منه في الآونة الأخيرة إلا أن كل الأحداث التي جرت دفعة واحدة خلال اليوم السابق جعلته يعاني من جديد .

و لكنه لم يتوقف كثيرا عند هذا الأمر بل سحب رزمة الأوراق المتراكمة على مكتبه منذ أسبوع ليتفحصها واحدة بواحدة .

كان قد أهمل هذه الأوراق طويلا .. و لكنها الأن تمثل مهرب مثالي من أفكاره المزعجة .

معظمها أوراق تخص حسابات المزرعة و إشعارات أرسلها البنك بالاخلاء في حالة لم يسدد ديونه المتأخرة و غيرها من الأوراق المهمة.

حاله الأن مثل رجل في عرض البحر مع مركب يتسرب له الماء من كل إتجاه .

فإما أن يلقي بنفسه إلى البحر و اما ان يغرق مع مركبه ... و لكن في كلا الحالتين مصيره لن يختلف كثيرا .

*****************

تعبت حقا من كثرة اصطناعها للنوم ... تلك كانت حيلتها الوحيدة للهروب من حصار النظرات المسلطة عليها .
فبعدما استفاقت بالأمس و وجدت هؤلاء الأشخاص محدقين بها شعرت بذعر حقيقي لم تجد سلاحا حينها سوى الصراخ .. أما الآن فسوف تكون غبية لو اتبعت هذا الأسلوب .
يجب أن تتحلى بالهدوء لتهرب من هذا الموقف الدقيق .. فهي لا تعرف فيم ورطت نفسها تحديدا.
هذا الرجل من المصعد .... لقد تذكرته ...x و تذكرت نظراته المركزة عليها حينها .
اتراه له علاقة بما حدث لها؟ .
تلك الجريمة التي شهدتها و الرجل الملثم الذي كان يطاردها قبل أن تقع في قبضته كلها أمور غامضة لم تكن قادرة على استيعاب أي منها ...لتجد نفسها طرفا في هذا الوضع المريب .
ثمة ألم يلهب مؤخرة رأسها و لكن الأفكار التي تواردت إلى ذهنها عما سيفعله بها ذلك الرجل الملثم جعلت ذعرا حقيقيا يدب في أوصالها لتتغاضى عن أي ألم أخر .
كان الشيء الأغرب هو أن تستفيق لتجد جسدها ملفوفا بشيء ما يكبل حركتها حتى تقطعت أنفاسها و أوشكت على الاختناق ... ليس هذا و حسب بل شعرت بضيق المكان حولها لدرجة أنها كانت تسمع هدير أنفاسها و صوت دمدماتها المستغيثة ... حتى باتت لديها قناعة قوية أنها دُفنت حية ... لربما كان هذا الشيء الذي يضم جسدها هو صندوق و ذاك الذي يقيد حركتها هو كفن ؟
تلك الفكرة المريعة جعلتها تفقد عقلها حقا فزاد تخبطها عن ذي قبل ... كان عليها أن تقاوم ... ألا تستسلم بهذه الطريقة ... ان تقوم بمحاولة أخيرة تشبثا بالحياة .
و حينما أخرجها ذاك الرجل من المكان الضيق الذي كانت محتجزة به و الذي تبين لها أنه صندوق السيارة الخاصة به كان أول وجه يقابلهاهو وجهه .
و رغم ما تمر به تذكرته على الفور... لذا لا تستبعد أن يكون هو أحد مختطفيها .
رباه ... ان كان الأمر هكذا إذن يجب أن تستغل الفرصة و تهرب قبل أن يعود أحدهم للغرفة .
لقد انتظرت هذه الفرصة و لا يجب أن تفوتها ... لذلك ألقت الأغطية جانبا و نهضت مسرعة بإتجاه الباب الذي خرجت منه تلك المرأة قبل قليل.
ثمة شعور ثقيل يجثم على أنفاسها... و دوار قوي ينتابها إلا أنها نبذت كل ذلك متجاهلة أي ألم تشعر به ... و قد تركزت أفكارها حول نقطة واحدة ... الهروب .
وقفت بحذر تسترق السمع و حين لم تجد أي ضجة قادمة من الخارج استعادت بعضا من هدوئها المفقود .

تفحصت الغرفة بحثا عن مهرب آخر عدا ذلك الباب الذي يكمن خلفه المجهول فلن تلجأ له إلا في حالة نفاذ جميع حلولها .

و كم كانت سعيدة حين وجدت نافذة زجاجية واسعة تطل على الشرفة الخارجة المفتوحة على حديقة كبيرة مبهجةx ... حينها فقط تنفست براحة حين أيقنت أن طريق الحرية غير بعيد ... حيث تسللت من خلالها إلى الخارج بخفة قبل أن تولي الفرار نحو المجهول .

***********

أخيراً انتهت صفاء من رفع طعام الإفطار الذي لم يقترب منه أحدهم .

رب عملها مثل عادته اما غارقاً في عمله أو التفكير فيما مضى ... و لا فرق في كلا الحالتين فهو لا يتناول إفطاره مكتفيا بعدة أكواب من القهوة .

أما شهد فقد جلست هناك طويلا بلا أن تتناول شيء في انتظار ظهور كرم و حين لم يفعل غادرت متعللة بالإهتمام بالصغير و لكنها في الحقيقة كانت تفعل ذلك لتخفي البؤس الذي خط معالمه على وجهها عن أعين صفاء و تعليقاتها اللاذعة .

أما عن التؤام فهربا مبكراً قبل أن ينتبه أحد لهما ... و كان رأي صفاء أنهما يدبران لمصيبة كالعادة أو ربما إحدى مقالبهما السخيفة التي تكون هي ضحيتها .

على كلٍ لم تجد بدا من العودة للاهتمام بإدارة شئون المنزل و هي تتنهد بيأس من قاطني هذا المنزل و حالهم الذي لا يسر عدو أو حبيب كما تقول .

أوقفت صفاء تذمرها و صب غضبها على الفتاه التي تساعدها في المطبخ حين تذكرت الفتاه الأخرى التي تقبع في الغرفة المجاورة .

لذا هرعت بكل ما تحتمله قوتها إليها لتتفقدها ... و لكنها شهقت بتعجب حينما لم يقابلها سوى الغرفة الفارغة .

***************

بعد ما يقارب الأربعون دقيقة كانت فريدة تقف على قارعة طريق صحراوي مقفر و من الواضح أنه لم تمر به أي سيارة منذ وقت بعيد .

حين هربت من ذلك المنزل كان يبدو الطريق أمامها خالياً من أي عقبات ... يكفيها فقط أن تخرج من تلك الجدران لتشعر أنها بخير .

و لكنها سرعان ما اكتشفت مدى حماقتها ... فقد كان واضحا الآن أنها تائهة لا تعرف أهي تتقدم أم تتراجع .

نظراتها خاوية من كل شيء سوى خوفها من مجهول ينتظرها .

فبعد تلك المزرعة التي خلفتها لم تجد سوى الرمال و المزيد من الرمال ... لابد أن هذا هو السبب الذي جعل خاطفيها لا يضعون حولها الحراسة الكافية .

و الآن حتى لو وجدت مزرعة أخرى لتلجأ إليها عليها أن تقطع مسافة كبيرة جدا مع ذاك الدوار المتزايد الذي يلف رأسها ... ليس فقط بسبب الجرح في مؤخرة رأسها بل بسبب عدم تناولها لأي شيء منذ فترة طويلة .

بدأت الشمس تتوسط كبد السماء ليزيد سوء موقفها ...و الآن هي بين خيارين أولهما هو أن تغامر بالخوض في هذا الطريق و اما أن تمر بها سيارة أو لا و إماx أن تعود ادراجها من حيث أتت .

و كان الحل الثاني هو الأسهلx ...و لكن حتى يتسنى لها التسلح بوسيلة للهروب أو ربما استطاعت الحصول على قنينة من الماء أو بعض من الطعام .

هي متأكدة أنها رأت سيارة متوقفة بالقرب من ذاك المنزل .. و حتى لو فشلت في الهروب بها فقد تجد وسيلة أخرى.

*************************

ترجلت ابتهال عن صهوة جوادها صعب المراس لاهثة ... حيث قطعت مسافة لا بأس بها تحت قيظx شمس اغسطس و حرارتها اللافحة قبل أن تصل لهذه البقعة .

توقفت مليا في ظل أجمة الأشجار التي تظلل بئراً ارتوازياً مقام عليه مضخة تعمل بالكهرباء تسهل رفع المياه لري تلك الناحية من الأراضي.

أرادت ابتهال أن يحصل حصانها على بعض من الماء و كذلك لتغسل وجهها .. علها تستطيع أن تخفف من شعورها بالحرارة .

و كم كانت ممتنة لوجود الحوض المتسع الذي امتلأ بالماء عن آخره .. حيث اعتاد ان يستخدمه العاملين في المزرعة لأغراض متعددة ... و كان من حسن حظها أن المياه بداخله نظيفة شديدة الصفاء عدا عن بعض الوريقات الجافة الطافية على السطحx التي سقطت من الاشجار المحيطة .

لم تتردد ابتهال في التقاطx حفنة صغيرة من المياه الباردة لترشها على وجهها فشعرت على الفور بالانتعاش .. و كان حصانها قد سبقها ليشرب فتركته حتى ارتوى.

ترددت قليلا قبل أن تتابع رحلتها ... و قد أسرها منظر الحوض الممتلئ و الوريقات الطافية على سطحه .

ففكرة وجود الحوض في مثل هذا المكان المقفر كان دربا عظيما من الرفاهية تفتقر إليه مزرعتها التي تعاني شحا في المياه .

استراحت في الظل قليلا بعدما انتهى كلاهما ... ثم انتظرت حتى أصبح سطح الماء كمرآة مصقولة مرة أخرى... فدنتx أكثر و مالت على الحوض لتلقي نظرة لصورتها المنعكسة على صفحة الماء بشيء من الرضا .

حذا الحصان حذوها حيث تقدم للأمام و كأنه يشاركها في تأمل الصور المنعكسةxمما دعاها للضحك .. و التفتت إليه ابتهال قائلة بنبرة مرحة :

" انظر إلى صورتك تيمور ... تبدو جميلاً أليس كذلك؟ "

حمحم الحصان برقة و كأنه بفعلته هذه يشاركها الرأي .. فتابعت ضاحكة و هي تعبر عن أمنيتها :

" أرى أنك تستفيد من هذا جيدا ... ربما لو لم نكن متعجلين لخلعت حذائي و ادليت بقدمي إلى الماء... "

" لا أنصحك بذلك ... فهذا الحوض يبدو أعمق مما يبدو عليهx "

اجفل ابتهال ذلك الصوت الساخر الذي رد عليها فتراجعت خطوة للخلف و هي تتلفت حولها بحثا عن صاحبه و لكنها لم تجد سوى حصانها الجامح سريع التأثر ... و الذي وقف متحفزا و قد تصلبت اذناه و توترت حركة قوائمه .

و قبل أن تفطن لما يدور حولها قفزت إلى جوارها كتلة هائلة من اللحم البشري تفوقها حجما ... و كما بدا واضحا أن صاحبها كان قابعا أعلى واحدة من هذه الأشجار الضخمة التي تحيط بالحوض وx منذ وقت بعيدx ... لابد أنه كان يستمع لحديثهم قبل أن يقرر التطفل عليهما.

المفاجأة جعلت صرخة مكتومة تفلت من ابتهال ... حيث قفزت للخلف بخوف و انفاس متسارعة ... شاركها الجواد فزعها كذلك حين أصدر صهيل قوي و كاد أن يولي هاربا و لكن امتدت راحتان قويتان لتمسك بلجامه ... و لم يمنع هذا من هياجه لولا اليد التي راحت تربت على عنقه برفق و الصوت الذي اتخذ نبرة هامسة كمسلك لتهدئتهx :

" اهدأ... اهدأ يا فتى"

" لقد افزعته أيها الأحمق"

صاحت ابتهال بنبرة اتهام موجهة لذلكx الغريب .

كاد عمر أن يضحك لما قالته ... فلم تشر لخوفها هي بل كل ما يهمها هو حصانها العزيز .. فهل تعمدت ذلك أم أنها بالفعل تهتم بالحصان أكثر من نفسها ؟... في كلتا الحالتين هو لا يهتم ... تماماً مثل عدمx اهتمامه بالرد على اتهامهاx ... متجاهلا التوتر الذي حملته نبرتها و الذي كان دليلا قاطعا على خوفهاx .

بدأ الجواد يعود لحالته الطبيعية بالتدريج ... و كذلك ابتهال التي حاولت أن تنظم انفاسها التي سرقها الظهور المفاجئ لذلك الرجل الفظ .

و قد ازعجها أنه لم يحاول أن يعتذر على الفزع الذي سببه لها .. بل إنه لم يلتفت إليها من الأساس و كأنها غير موجودة .. مواصلا مداعبته للحصان حتى هدأ تماماً .

اخيرا التفت إليها قائلا بتذمر واضح مع ابتسامة لا تخلو من التنمر :

" و أنتما ايقظتماني من النوم "

و كأنه يخبرها بذلك أنهما اصبحا متعادلين ... هي و حصانها أيقظاه من نومه و هو أفزعهم كرد فعلx لذا لا داعي للاعتذار ... و لكن أين كان ينام هذا الغبي ؟ .
فوق شجرة !! .. و كيف بها أن تراه؟!! .
وقف عمر قبالتها بصمت تام كاد خلاله أن يقرأ الأفكار التي تدور في رأسها عنه.. جعله ذلك يرغب في الضحك فلابد انها تلعن ظهوره الذي افزعها .
تمالك رغبته في الضحك و عاد ليتفحصها بتقييم ... فتاه طويلة نحيلة .. ترتدي سروال فضفاض من الجينز و سترة طويلة تصل حد ركبتيها ... تغطي شعرها بقبعة رياضية ... أما عن وجهها الذي لوحته الشمس فقد حمل جاذبية خاصة .. و لا يجب أن يغفل عن العينان المتطاير منهما شررا ردعه عن المزيد من نظراته التقييمية .
أوقف عمر تفحصه لها عند هذا الحد .. فلم يكن خافيا عليه زفراتها الحانقة و احمرار وجهها غضبا .
أما عن ابتهال فقد زاد سلوكه الغير مهذب من حدة غضبها ... لذا اقتربت حانقة لتنتزع الرسن من يده و لكن قبضته كانت اقوى من أن تتغلب عليها .. لذا ارتد جسدها الغض حتى ارتطم بخفة بجسده القوي .

ابتعدت ابتهال عنه بسرعة فائقةx ... وx قطعت عدة خطوات للخلف و الخجل يلون ملامحهاx .. ثم حاولت تجميع شتاتها نفسها قبل أن تصيح به بتحذيرx بصوتها الذي لم تختف منه آثار الارتباك بعد :

" ما الذي تفعله يا هذا؟!! ... الأفضل لك أن.. "

و لكنها بترت جملتها المتوترة حين اقترب هو منها و هو يمد لها يده برسن جوادها ... قائلا بجفاء :
" لا داعي لتهديداتك الجوفاء ... يمكنك أن تستعيدي حصانك ... فلا أنوي الاحتفاظ به"

أخذته منه ابتهال بأنامل مرتجفة فقد كان خجلها و ارتباكها من ذلك الغريب يسيطر عليها... لذلك استدارت سريعا لتبتعد مع حصانها .
لم تمتطي صهوته مرة أخرى بل سحبته معها و سارت إلى جواره ... فهي في حالة لا تسمح لها بالسيطرة عليه .

ليس فقط لأنها ليست بارعة في الركوب بدرجة كبيرة و لكنها تعرف مدى جموحه و ما يمكن أن يفعله حينما يصبح عصبيا كما هو الآن... فأقل رد فعل منه هو إلقاء راكبه عن ظهره .. و آخر شيء تريده هي أن تدق عنقها .
و كأن تصرفها هذا كان دعوة منها لذاك الغريب ليرافقها في الطريق .
حيث لاحق خطواتها المتسارعة بسهولة حتى أصبح يسير إلى جوارها بصمت .
و ربما كان صمتهما بداية لحوار أكبر ... هكذا فكر ذاك الغريب الفظ الذي ابتسم بغموض وهو يراقب حنقها و خطواتها المتسارعة للابتعاد عنه.

**********************

بعد عدة ساعات من العمل المتواصل كان الصداع في رأسه قد بلغ منه مبلغه ... لذا لم يجد بدا من التوقف ليحظى بفنجان اخر من القهوة .
قبلا ابتلع قرصين من مسكنات الألم دفعة واحدة ثم جلس باسترخاء على كرسي مكتبه ملقيا برأسه للخلف و هو يحاول منع نفسه من التفكير في أي شيء .

كان المنظر الذي تطل عليه غرفة مكتبه كفيلة بتحسين الحالة المزاجية لأي كان ... كان هذا رأي جميلة دائما .

ففي الخارج كانت ثمة حديقة غناء تثير البهجة في النفس رغم الإهمال الذي طالها مؤخرا ... و لكن ما كان يعانيه محمود أعمق من أن يعالجه مشهد اعتاد عليه .

اغمض عيناه بتعب لوهلة و حين فتحهما طالعه خيال خاطف مر أمام الباب الزجاجي العريض بمواجهته .

************

كان الوقت الذي استغرقته فريدة في رحلة عودتها أطول بكثير من سابقه حين حاولت الهروب .. حينما كان يحدوها الأمل في الابتعاد ... كان من المقبول أن تتجاهل أي شعور بالإرهاق .

أما الآن و قد توسطت الشمس كبد السماءx بات من المستحيل تجاهل الإعياء الذي تنبض به كل خلية من خلاياها ...حيث ألهبت أشعة الشمس الحارقة جرحها و كانت النتيجة هي تشوش في الرؤية مع دوار متزايد .

قطعت خطواتها ببطء فهي بالكاد قادرة على الوقوف على قدميها ... و مع ذلك كان يقودها الحذر خشية من أن يباغتهاxأحدهم .
و أخيراً توقفت تحت شجرة ضخمة مثلت مصدرا جيدا للتخفي و كذلك موقعا ممتازا لمراقبة المنزل ... و كم كانت ممتنة للتنعم بظلها الوارف بعد كل هذا الجحيم الذي صبته الشمس على رأسها ... حينها فقط أقرت بأنها سوف تكون محظوظة إن لم تصب بضربة شمس .

جالت بنظراتها تبحث عن تلك السيارة و بالفعل وجدتها متوقفة في الباحة الخلفية للمنزل تماماً كما تتذكر .
لم تفكر في أي شيء عدا عن الخروج من هذا المكان حتى لو كانت الوسيلة هي سرقة تلك السيارة!!... حتى مع جهلها للوسيلة التي قد تمكنها من ذلك .

دارت حول السيارة تبحث عن نافذة مفتوحة أو أي منفذ للدخول ... و لكن لا شيء .

ربما لو كسرت إحدى النوافذ سوف يسمعها أحدهم و حينها ستفشل محاولة الهروب .

خيبة الأمل و اليأس المتسربين إلى نفسها جعلاها على حافة البكاء ... فها هي بارقة الأمل الوحيدة قد تبخرت .
" توقفي ... لا فائدة من البكاء الآن"
نهرت نفسها بحزم .. ثم عادت لتمتمتها الخافته :
" لا بأس ... سنبحث عن وسيلة أخرى .. فقط اهدئي"
و كانت هذه هي عادتها كلما أصابها التوتر ... فتلك الثرثرة الموجهة لذاتهاxدائما ما كان الهدف منها هو المواساة .

يجب أن تجمع شتاتها الذي بعثرته الخيبة و الإرهاقx بأسرع ما يمكنها ... لتستغل هذه الفرصة السانحة قبل أن يصبح الأمر مستحيلا .

و لذلك بدأت بحثها عن وسيلة أخرى جاهلة عن الأعين التي تراقب ما تفعله بدقة .

***************

قطب محمود حاجبيه بتوجس ثم غادر مجلسه سريعا ليتأكد من صحة ظنونه .

فتح باب مكتبه و بحث بعيناه عن أثر ذاك الطيف الذي يعود لشخص نحيل الجسد .. لربما يكون مراهق... أو فتاة شابة في جسد طفلة أو ربما...

تنامى إليه إدراك متأخر عن هوية ذاك المتسلل حينما ارتسمت في عقله صورة مشوشة عن فتاة تحمل نفس المواصفات .

و حينما تأكد أنها هي نفس الشخص الذي يتلفت حوله بريبة و كأنه مطارد من شيء ما ... هتف بعدم تصديق :

" فتاة المصعد! "

كان ذلك هو الإسم الوحيد الذي يعرفها به ... فلم تسنح له الفرصة بعد ليعرف عنها أي شيء ... و هذا ما كان ينوي أن يفعله .

كان ينتوي استجوابها حتى لو اضطر إلى إنتزاع الاعترافات منها عن سبب ظهورها الغريب في مزرعته ... و إن كان مع ذلك يجهل تلك الطريقة التي تخوله لإنتزاع مثل هذه الاعترافات .

للحظة سمح لغروره القديم أن يصور له أنها ربما تكون إحدى معجباته ... ربما تعرفت عليه بالأمس أثناء تواجدهم في المصعد سويا .

و ذلك ليس ببعيد فهو بعد غياب خمسة سنوات عن الساحة.. خمس سنوات طويلة لم يسمع فيها أحدهم عنه أي خبر حتى ظن البعض أنه فارق الحياة ... إلا أنه مع ظهوره بالأمس في المدينة لأول مرة خلال هذه السنوات وجد أن بعض الأشخاص لا زالوا يتذكرونه و يلقون إليه بتحية بشوشة مع رغبة في أخذ توقيعه أو بعض الصور التذكارية .
و لما لا و قد كان صحفياً و كاتباً متعدد المواهب ... و قد أصاب في الماضي قدرا كبيرا من الشهرة بعدما حققت أعماله مبيعات استثنائية و تحول بعضها إلى أفلام سينمائية ناجحة كتب بنفسه السيناريو الخاص بها ... إضافة إلى مقالاته و تحقيقاته الصحفية التي لاقت صدى كبير عند محبيه .

و لكن إن كانت حقا إحدى المعجبات فلما تصرفت بهذه الطريقة الغريبة و كأنه اختطفها أو ما شابه؟ .. و ما السبب خلف جرح رأسها .. و وافر الذعر الذي ظهر في نظراتها .

لا .. هذا شيء لا يعقل ... منظر الدماء وحده جعله يستبعد هذه الفرضية... فرغم أن بعض المعجبين كانت لهم أحيانا طرق متطرفة للتعبير عن إعجابهم ... و لكن لم يصل الأمر يوما إلى هذا الحد.

كانت هذه الأفكار تدور برأسه أثناء مراقبته لها و هي تتلفت حولها بحذر بحثا عن شيء ما .

اتخذ خطواته بروية ليقترب منها أكثر و حينها سمع غمغمتها الخافته التي لم تلتقط أذناه منها سوى :

" يا الله ... ما هذه الورطة التي أوقعت نفسي بها .. كان يجدر بكِ البقاء بعيدا أيتها الحمقاء "

و لكن هذه اللحظة ما لبثت أن انتهت حينما وطأ حذائه فرع شجرة جاف ليصدر تكسره صوتا جعل "فتاة المصعد" تلتفت متفاجئة من ظهوره.
و حينها قابله الذعر الكامن في نظراتها ... و لكنه هذه المرة لم يثر شفقته بل زاد من حنقه و غضبه.

****************

انتهى الفصل االثاني بتمنى يكون عجبكم في انتظار تعليقاتكم إلى أن يحين وقت الفصل الثالث ❤❤❤❤



التعديل الأخير تم بواسطة سمية سيمو ; 26-10-18 الساعة 09:58 PM
Eman Sakr غير متواجد حالياً