الفصل الحادي والثلاثون
تختبئ هناك في صدره ولا تدرك اين يمضي بها .. تسمع أصوات المارة تختلط بأصوات سُوّاق الحافلات الصغيرة التي تصطف قرب بوابة الجامعة وهم ينادون للاعلان عن وجهاتهم مع ضجيج السيارات وابواقهم في الشارع تجعل لجوئها لصدر رعد اللحظة غاية منتهاها ...
ثم اخيرا صوت رعد وهو يكلم سائق سيارة اجرة لتجد نفسها خلال اقل من دقيقة داخل احدى السيارات ورعد ما زال يخفيها ودموعها تتدفق فوق صدره دون توقف وهي تشهق بالبكاء كشهقات الاطفال..
سائق الاجرة ظنها رسبت بالامتحان النهائي فأخذ يواسيها ويواسي رعد معها وهو ينصحه بتعجيل الزواج لانه أنفع للفتاة من اي شهادة !
كان رجلا فضوليا ويفترض الامور من نفسه ويرد على تساؤلاته بافتراضاته تلك .. ورعد تركه يهذر ويثرثر وكل ما يفكر فيه ان يصل الى اي مكان يختلي فيه مع رقية ...
طلب مناديل ورقية فاعطاه السائق علبة مناديل صغيرة يضعها في المقدمة ثم يحاول مسح وجهها المختبئ في صدره وهو يفكر انه كان يعلم بأن امراً كهذا سيحصل ..
ربما شعور الغيرة لعب دوراً كبيراً ليأتي ويقف بانتظارها عند بوابة الجامعة ..
غيرة جعلته يقترض سيجارة من احد حراس الحرم الجامعي عند البوابة ليدخن اول سيجارة له منذ ست سنوات انقطاع..
ورغم الغيرة لكن قلبه أعلمه انها ستحتاجه .. وقد صدق قلبه .. شدد من ذراعه حولها وهو يلثم اعلى رأسها بصمت.. عابس الوجه محتار لا يعلم اين سيأخذها ليتكلما معاً بحرية دون ان يشهد احد آخر انهيارها بالبكاء .. لا يريد لاي انسان ان يراها هكذا ..
ظل سائق الاجرة يلف بالسيارة في الطرقات وقد بدأ يتذمر ورعد يحثه على بعض الصبر .. ثم فجأة تذكر مكاناً محدداً فعقد العزم واعطى عنوان وجهته للسائق..
بعد نصف ساعة تنظر رقية حولها بوجهها الغارق بالدموع ثم تحدق في (قبر الكلب) للحظات طوال قبل ان تنفجر ضاحكة ..
يتخصر رعد وهو يقف عابسا امامها ويقول
" ليس لدي مكان اخر فلا تشتكي ... "
ثم اخذ يشتم بالانجليزية قبل ان يمسكها من كتفيها ويميل بوجهه الى وجهها عابسا بحاجبيه الحادين وهو ينظر لعينيها الباكيتين وخديها الغارقين بالدموع فيسأل
" اخبريني بما حصل اليوم .. فوالله دموعك هذه لن تذهب دون ثمن .."
عندها تجمعت الشهقات من جديد ..
شهقات صغيرة تخرج على دفعات قصيرة متتالية وهي تنظر لميلان وجهه القريب فيهدر بالانجليزية وهو يهزها
" talk to me Roqayyah (تكلمي معي رقية) "
عاود الشتم ثم يضيف بصوت مبحوح أجش
" آسف .. احيانا اتكلم الانجليزية دون وعي مني .. "
يقبل شفتيها وخديها وعينيها وهو لا يطيق بلل الدموع الذي تلمسه شفتاه ... لم يرها ابدا تبكي .. ويكاد يجزم ان لا احد رآها قبله .. اخذت شهقاتها تعلو وتتعمق فتمزق فؤاده والكلمات تتساقط من فمها
" لقد .. ضاع .. حلمي .. بابا .. بابا لن .. يكون فخورا كما وعدته .. قلبي يوجعني .. يوجعني جدا... يا رعد .. "
ينظر في عينيها ويقرأ وجعا نابضا يعلو فوق وجعها اليوم .. بدت وكأنها تائهة بين ماض وحاضر .. بدت .. بدت طفلة !
يقسم بالله في هذه اللحظة لم تكن اكثر من طفلة تبرطم شفتها السفلى الحلوة وهي تصر بوجيعتها وعيناها تسكبان الدمع الغزير " يجب ان اصبح .. معيدة .. يجب ان يعلم بابا اني حققت اول درجة في سلم الحلم الذي اتفقنا عليه .. يجب ان .. ان ..."
ثم تقطع كلامها فيحتار لتبدأ في كلام اخر
" كان سرنا .. دوماً كان لدينا اسرار كثيرة نتشاركها.. لكنه خدعني .. لم يخبرني سره.. لم يخبرني انه.. انه ..."
كانت مشوشة جدا وكأن الامور اختلطت عليها ! وربما هو من اختلطت عليه ولا يفهمها جيداً .. يقبل شفتها السفلى الحزينة ثم يهمس لها " اهدئي رقية .. اهدئي انت تؤلمينني بحالتك هذه .."
تشهق بالبكاء وهي ترد عليه ونظرات عينيها تضيع في الماضي تماما " انا اتألم .. انا اموت بالألم كلما عشت تلك اللحظة وصوت رباب الباكي وهي تصرخ ذاك الصباح (بابا مات .. بابا مات ) وعويل امي لفقد حبيبها ووليفها ونزيف قلبها المكلوم عليه .."
كان وصفها رهيباً ونظرات عينيها لا توصف .. كانت مفجوعة .. وغاضبة !
يتذكر الآن كل ما قاله عبد الرحمن عن قصة القوارير .. يتذكر ما قاله حول رقية وعمرها الذي لم يكن يتجاوز الثانية عشرة عندما حصل ما حصل .. كانت مجرد طفلة .. وما زالت داخلها تلك الطفلة الغاضبة التي اختزنت الفجيعة لسنوات... وكأن رقية تسمع افكاره حولها فتهدر بذاك الغضب الذي انفجر " لكنه مات قبلها.. مات عندما تركنا وحدنا وذهب لينجب الولد الذي اراده .. كيف.. اخبرني كيف يبيع قواريره لاجل الولد ؟! فقط ... ولد ذكر..! لماذا ؟! لماذا لم نكن كافيات .. له ؟! "
يعقد حاجبيه وهو يحاوط وجهها الصغير بين كفيه قائلا " انت اقوى من هذا الغضب ... أقوى من الألم يا رقية .. لقد تعلمت منك هذا أتذكرين ؟! اتذكرين ما قلتِه لي ؟ قوليها لنفسك ايضا .."
وكأنه يعيدها الى حقيقتها .. يعيدها الى قوتها .. الى كل ما بنته في شخصيتها عبر السنوات .. فتطرق بنظراتها وهي تقول معترفة " لسنوات وانا لا اقولها .. لانها مؤلمة .. اتجاهلها لانها مؤلمة .. امحوها لانها مؤلمة .. لكنها دوما قيلت وتُقال .. رغما عني.. فتسخر من تجاهلي وتضحك من ممحاتي .."
يطالبها بإصرار " انظري في عيني وقوليها انت رقية .."
ترفع عينيها اليه وترتعش شفتاها لكنها لا تخذله ولاول مرة تقولها بشجاعة " بابا ... بابا تزوج .. بأخرى .. خان قارورته الاجمل .. خان حب عمره... ابتهال .. خاننا ...كلنا .. نحن قواريره.."
أجهشت بالبكاء لتفرغه دفعة واحدة وهي تشعر بقبلات رعد تشاركها دموعها لتضيف المزيد بتدفق الذكريات المؤلمة وهي ترفع عينيها اليه من جديد
" امي انكسرقلبها وتحطم فؤادها ولعام كامل ظلت تتجنب الناس وهي تدعي فترة حداد على زوجها .. لكنها كانت .. مكسورة الخاطر .. حبيبة اشتعلت تمردا على كل شيء .. على ابي .. على المجتمع .. علينا .. حتى على امي تتهمها بالضعف ! ولولا ظهور يحيى في حياتها لا اعرف ماذا كان سيحدث معها .. ورباب .. رباب منذ سن السادسة عشرة قررت انها لن تتزوج ! حتى مشاعرها ناحية عبد الرحمن حاربتها بضراوة .. عذبته وتعذبت معه لانها لا تريد ان تتزوج خوفاً من ان يخونها .. خوفاً من الألم"
هدأت ثم شعّت قوة مذهلة ورعد يمسح دموعها بكفيه بينما تكمل ما يخصها " اما انا..فمنذ تلك الليلة التي غاب فيها ابي عن فرشة امي وقررت ان لا احد .. لا احد على الاطلاق سأسمح له بخيانتي .. بأذيتي .. بطعني في قلبي .. بإحزاني .. بسرقة سعادتي مني .. ساقهر كل من يفكر بهذا.. مجرد تفكير .."
ارتاح رعد قليلا ودموعها توقفت فيبتسم وهو يسألها بهمس دافئ " لم تذكري شيئا عن اسيا.."
ردت باعجاب تلقائي وتعلق خفيّ باختها الكبرى " اسيا شيء اخر .. لم يكن لديها الوقت حتى لتغضب .. اسيا هي صخرتنا .. هي المقاتلة الصنديدة التي رفعت الراية لتحارب لاجل دعمنا جميعاً ورأب صدوعنا وتطبيب شروخنا وحمايتنا بعد رحيل العطار .."
مر في خاطر رعد صورة اسيا .. تلك المرأة الهادئة التي تكاد تكون غير مرئية تماماً .. لكنه دوماً شعر بوجودها في بيت العطار دون ان يفكر فيه .. انها حقاً موجودة من خلف كواليس حياتهن .. تراقب اخواتها وترعاهن...
نظر في عيني رقية الزرقاوين وقال لها بابتسامة اعجاب " الآن عرفت ممن اخذتِ روحك القتالية المتفردة.."
بدت متفاجئة وهي تسأل " هل تظن هذا ؟!"
تتسع ابتسامته وهو يرد عليها بالقول " يونس من كان يظن .. ألم تأخذي من كل قارورة.. نزر يسير ..؟"
تهز رأسها ايجاباً فيميل ليلثم جبينها ثم يضحك ويضم رأسها الصغير لصدره ببعض الخشونة المشاكسة ثم يقول بهمس " معيدة ام لا .. العطار فخور بك في كل احوالك يا كل الرقة .. فليكلمني انا لاخبره .. الا ترين كم انت محظوظة بشخصك المميز هذا .. "
يبعدها عنه ثم ينظر حوله فيتحرك وهو يجمع بضعة الواح من الطوب الملقى ليضعها فوق بعض ثم يجلس عليه ويشير اليها ضاحك الوجه " تعالي .. اجلسي على حجري قطتي .. تعبت من الوقوف "
تمسح عينيها وهي تتحرك نحوه وتبتسم ثم تخلع حذائها قبل ان تميل اليه لتجلس في حجره تضم ساقيها اليها ومتكومة بكليتها هناك كأنها طفلة ثم تلقي برأسها على صدره .. يقرص خدها ويسأل بصوت أجش " هل هدأتِ الآن ؟"
ترفع وجهها قليلا لتنظر للاعلى نحو وجهه وتقول بعبوس رقيق " اشعر اني كنت بمنتهى السخف !"
يشاكسها بالقول وهو يضحك " بل كنتِ لذيذة للغاية وانفك يسيل .. وما زال يسيل.."
تبحث عن المنديل لتمسح انفها ثم تضربه بقبضتها على صدره قائلة بهمس " انا لست ضعيفة .."
يؤيدها دون تردد " مؤكد .."
فتضيف " ولست بكّاءة، كم اكره البكاء!"
يضحك من جديد ويعاود مشاكستها قائلا
" بعد فاصل البكاء اليوم اشك في هذا .."
تهز كتفيها غير مبالية بضحكه وتعاود غمر نفسها في صدره وتسأل بتدلل " هل استطيع ان انام في حضنك لفترة اطول ..؟"
يتنهد وهو يرد عليها " شرط ان تخبرينني لاحقا بكل التفاصيل التي حصلت اليوم في الجامعة .." لا تعطه الوعد بتنفيذ شرطه بل تلف ذراعيها حول جذعه تتنعم باحساسها الغامر معه وهي تهمس له بأنوثة " حضنك حلو .. امممممم "
يميل بوجهه للاسفل حتى يصل فمها ويقول قربه بهمس مبحوح " لعن الله الشيطان.. نحن في خربة وجوارنا قبر كلب يجب احترامه ولولا هذا لكنت اريتك كم هو (حلو).."
ترفع اناملها لتمررها فوق حاجبيه الحادين هامسة " دوماً اردت فعل ..." فيميل لشفتها السفلى تحديدا فيذوبها بقبلته هامساً " وانا دوما اريد فعل هذا .."
يتبع..
التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 08-03-19 الساعة 06:50 PM |