الفصل السابع و العشرون ( الجزء الأول ) - عاهرتي التي في الشركة ؟ شكر حباله الصوتية التي لم تخنه فخرج صوته باردا جليديا كما أراد له أن يكون . أية واحدة فيهن يا روحي ؟ تعرفين أني نحلة و زهوري كثيرة . - من رؤيتي لها و لشكلها واضح أنك لست أكثر من ذبابة تتنقل بين أكوام القمامة . سيضربها ، فكر و هو يحتفظ بصعوبة بأنفاسه المهتاجة داخل صدره ، كلا يخنقها أفضل بعد أن يرفسها بقدميه طبعا . وجه نداءًا عاجلا لقوى هدوئه الخارقة ثم سمع نفسه يقول بدون تعبير : - أكيد العصفورة أو فلنقل الغراب الذي نقل إليك أخباري هو ذلك المخنث . تعالي بقربي يا روحي ، واصل دون رفع عينيه إليها ، لو لديك فيديو لي معها لنشاهده معا بعد أن نشاهدك أولا طبعا . أنت الطبق الرئيسي و أنا التحلية . - هل تنكر أن تلك ال…. هي عاهرتك السابقة ؟ - من قال أني أنكر ؟ لكنك قلتها بنفسك السابقة ، كرر بجمود . و أنا ، حياتي ، على عكس البعض ، لست رخيصا أنا لا أعود أبدا لقديمي . حدسه الذي اكتسبه من سنوات مغامراته الماضية ساعده على التنحي جانبا في اللحظة المناسبة ليتفادى الساعة الرملية الثقيلة التي ألقتها باتجاهه . لثوان ظل ينظر نحوها بذهول نضج على نار كلماتها التالية ليتحول إلى غضب لم يغل به قلبه أبدا من قبل : - ماذا كنت تتوقع يا سافل ؟ أن تكون ابن ... مثل أبيك و أن أخرس أنا باستسلام و رخص مثل أمك . نهض ببطء و كل ذرة فيه ترتجف بعنف ، ما هذا التناقض ابن ال... الذي يحمله هذا الموقف ؟ امرأة مثلها هي تصف فتاة مثل فرح بالعاهرة و لا تكتفي بذلك بل تتجرأ أيضا على أمه !! أمه التي تعلمها هي و الكلبة التي أنجبتها و جميع سلالتها معنى الشرف . اقترب منها ببطء خطير قتل تماسكها الظاهر و بدأت ترتجف رغما عنها و هي تتطلع إلى الحمم الملتهبة داخل أدغال عينيه ، اتسعت عيناها و هي تشعر بيديه تحطان بغلظة على كتفيها بينما يخاطبها بصوت نبراته متوحشة : - اتصلي بأبيك حالا دوللي و أعدك أني سأحاول أن أنسى سماع اسم أمي من شفتيك ال... البريئتين . ................ بعدها بأيام كان يجلس أمام والد فرح في غرفة مكتبه البسيطة داخل مقر مخزنه يطلب يدها منه . تململ داخليا رغم احتفاظه بواجهته الهادئة ، يكره جلوسه في موضع تحقيق أمام هذا النوع من الرجال . طوال حياته كان يتجنب تلك اللقاءات العائلية مع خاله أو زوج خالته و يتجنب التواجد مع أي رجل يشاكلهما ، ليهرب من ذلك الإحساس العميق بالنقص الذي يغرسه فيه مقارنته بينهم و بين أبيه و خاصة مقارنته بين ما يحمله أبناؤهم لهم و بين ما يحمله هو لأبيه . يهرب حتى لا يفتقد ما فاته . ذلك الشعور الذي لم يجربه أبدا : أن يكون ابنا يحترم أباه . - حسنا بني ، نطق الرجل الأكبر سنا بتردد واضح ، مبدئيا لا أستطيع أن أوافق أو أرفض لكني سأسمح لك بالجلوس مع ابنتي قليلا في الإطار الشرعي طبعا ثم سأفكر و أرسل لك جوابي . - شكرا يا حاج ، تمتم شادي و هو يتنهد بارتياح يشوبه قلق من أن ترفض هي هذا اللقاء . لكنها لحَظِّهِ الذي يبدو أنه ما يزال في مرحلة ازدهاره لم ترفض . و هكذا في الغد ، كان يجلس بجانبها على أريكة غرفة الجلوس بينهما مسافة معقولة جدا ، معقولة أكثر من اللازم بينما يجلس شقيقها سامح مقابلا له في غرفة الاستقبال الصغيرة يراقبه من خلال الباب النصف مفتوح ، يلعب على حسابه دور ضابط مخابرات نشط بملامحه العابسة و جلسته المتحفزة . تنهد بعمق و هو يعيد عينيه إلى فرح . - آسف حبيبتي ، همسها صادقا كما لم يكن أبدا من قبل . تململ في جلسته ، عواطفه تسبح بين أمواج من توتر ، لهفة و شوق . تململت هي في جلستها يدفعها للمغادرة غضب ، خذلان و ألم و يلجمها ارتجاف قلب ضاع منها منذ تشابك قدره و قدرها . أخيرا فاز قلبها كالعادة و واصلت الجلوس تريح يديها فوق حجرها ، خافضة رأسها تراقب طرف حذائه اللامع بصمت خال من التوقعات . ها قد تحققت أمنياتها القديمة أخيرا و ها هو يفعل ما تخيلته مرارا يقوم به في أحلامها و يدخل بيتهم ليطلب يدها . لكن للأسف تاهت حالمية الحدث و شحب بريق علاقتهما الماضية بين زحام كل ما حصل خلال السنتين الأخيرتين . في ظل الإهانات ، الخيبات ، في ظل شعور الرخص و الخسارة الذين لونا معظم أيامها معه . و الآن تقف الحقيقة بدون ألوان المراهقة الوردية ، حقيقة بين رجل ناضج مجرب و بين أنثى استوعبت درسها جيدا . - لماذا عدت يا شادي ؟ قفز السؤال أخيرا مغادرا قلبها عن طريق شفتيها . - لأني أحبك ، لأني أحتاجك . - لكنك ابتعدت ، كأني لم أوجد أبدا بالنسبة إليك . - نعم ابتعدت يا فرح لا أنكر ، لكن ليس لعدم اهتمامي بك بل لاهتمامي بك أكثر من اللازم . تاه فكره لتشرد نظراته و هو يتذكر كل ما مر به مؤخرا ، أغمض عينيه قليلا ثم فتحهما يغزو عمق بحور العسل في عينيها و يقول بإخلاص : - ابتعدت عنك حتى لا ألوثك بحياتي يا فرح ، في البداية أردتك بشدة و لم أهتم لأية اعتبارات أخرى ، لا أنكر . لكن فيما بعد أردتك أن تبقي كما أنت . و حين حدث و ظهرت في حياتي من جديد عادت رغبتي فيك لتستيقظ بشكل أشد و أقوى و مرة أخرى جعلتني أكتشف أنك كنت و مازلت نظيفة جدا علي . فكرت كثيرا هذه الأيام يا فرح ، أضاف متنهدا ، فكرت في كل شيء تقريبا ، في الحياة في الموت ، في القدر و أكثر ما فكرت فيه هو الاختيارات التي تمنح لنا و تعرفين ما الذي اكتشفته ؟ رفعت إليه عينين حائرتين فواصل بهدوء : - اكتشفت أني لم أكن أنا من يختار ، أبدا . تركت ظروف حياتي ، نظرة الناس ، يختارون لي تركت كل شيء من حولي يختار من أجلي ، عشت كما يتوقع الناس لمن هو مثلي أن يعيش و لم أحاول يوما أن أخالف ما اعتقدوه في ، سبحت مع التيار . عشت الدنيا طولا و عرضا ، متعت نفسي ، جسدي كما أشاء و لم يمنعني أي شيء بالعكس كل ما حولي و من حولي كان يشجعني و كان يمكن أن أمضي في حياتي دون أن أفيق من غيبوبة نشوتي . - لماذا استيقظت إذن ؟ - لأني أصبحت أشعر بالخواء خواء كبير يا فرح و استيقظت لأن هناك من ساعدني لأستيقظ من أرادني أن أستيقظ - من يا شادي ؟ - أمي ، أنت و أختي ، أجاب ببطء و شرود . أمي رأيت و عشت الكثير من لحظات تعاستها و خذلانها ، محاولاتها لتعيش بوجهين لتحفظ كرامتها أمام الناس . و شاهيندا عندما لجأت للزواج من مؤيد ! شعرت أنها تريد أن تنتحر ، أختي كانت مسؤولة مني و رغم ذلك أبدا لم أقم بواجبي نحوها ، لا أذكر أني سألتها يوما من أين جاءت أو إلى أين ستذهب مع أني كنت أكثر من يعرف ما يمكن أن تتعرض له فتاة في مثل ظروفها في زمننا هذا و رغم ذلك … أطرق برأسه مطولا قبل أن يضيف بخواء : - لم أكن يوما رجلا بما يكفي لأحميها من الدنيا و من نفسها ، اخترت الابتعاد ، اخترت الأنانية و تركت لها حرية التصرف و الحمد لله أنها استطاعت أن تختار الأنسب و لكن تصوري لو حدث العكس . عندما رأيت حماية أخيك لك و خوفه عليك حينها فقط شعرت كم كنت مقصرا في حقها ، شعرت بصغر رجولتي أخوك كان يحميك ليس لأنه رجعي و متخلف كما حاولت أن أقنع نفسي بل لأنه كان يريد لك الأفضل ، كان يريدك أن لا تكوني لعبة في يد رجل لا يستحقك ، أن لا تكوني مرحلة عابرة ، أخوك يريد لك أن تكوني المحطة النهائية في حياة الرجل الذي سيختارك و ستختارينه . و حينها سألت نفسي ما الذي أردته أنا لأختي ؟ و هل فكرت فيها أصلا يوما ما ؟ و حينها لم أر الفرق بيني و بينه فقط بل رأيت كذلك الفرق بيني و بين شاهيندا و اكتشفت أن حتى أختي المدللة التي لا تصلح لشيء هي في واقع الأمر أقوى مني . و رأيت نفسي على حقيقتها . و علمت أني ربما لن أكون أبدا في سفالة مؤيد و لكن ابني الذي اخترت له حياته قبل أن يولد سيكون أكيد مثله أو أسوأ . أنا أعيش مثلما عاش والد مؤيد بالضبط ، أعيش بلا موقف ، مستسلما تماما للحياة . توقف عن الكلام ليطول الصمت بينهما و يتعملق بينما عقل كل منهما ينسج أفكاره على وقع دقات قلب يصر و باستماتة على التدخل و أن تكون له الكلمة العليا . أخيرا اعتدل في جلسته ، يميل بكل جسده نحوها و يقول بثبات : - أنا أريدك ، أريدك كما لم أرد امرأة من قبل ، أريدك و أحتاجك معي لكني سأقولها لك بصراحة : ستتعبين معي يا فرح . - سأتعب أيضا بدونك ، تكلمت بسرعة و بتصميم . و عموما الحياة كلها تعب ، الحياة لم تجعل لنستريح فيها . و مثلما صارحتني بكل ما في قلبك أريد أن أصارحك شادي . - تفضلي . - أنا لست كما تعتقدني تماما ، في الواقع أنا إنسانة ضعيفة شادي ، أحيانا أفكر أنه لو أتيحت لي الفرصة مثل غيري ربما كنت ل.... شبكت أصابعها ببعضها البعض بقوة و واصلت بخفوت : - لذلك أنا لا أحكم عليك يا شادي ، أنا أفهم ضعفك ، أفهم حيرتك و تخبطك ، أنا أفهمك يا شادي - و أنا أيضا أفهمك فرح . صحيح أنك ضعيفة و لكنك كنت قوية في مقاومتك لي و لمؤيد ، و من معرفتي بالبنات و خبايا البنات أقول لك بثقة تامة أن من تريد فعلا أن تخطئ ستخطئ حتما مهما كانت العقبات أمامها . و هذا هو الفرق بين المحترمة و غير المحترمة . المحترمة هي التي في أعماقها لا تريد أن تخطئ ، هي التي تظل تقاوم حتى آخر لحظة ، لذلك أنا أحترمك يا فرح . ابتسامة صغيرة غير واثقة ارتسمت للحظة على شفتيها قبل أن تنطفئ و هي تتذكر سابقاتها إليه . - لماذا أنا بالذات ؟ أنا أكيد لست أجمل من عرفت ، لست الأذكى ، ما الذي يميزني عن الأخريات ؟ - لأنك مختلفة أولا ثانيا و الأهم لأني أحبك فرح أنت دون سواك ، منذ وقت طويل حياتي . - لماذا تزوجتها إذن شادي ؟ سألته بعد صمت طويل آخر ، تخفض عينيها تخفي ألمها عنه . - أسباب كثيرة في الواقع ، تمتم و هو يمط شفتيه ، كان أكثر ما يهمني هو أن أبحث عن زواج يساعدني في بناء حياتي العملية و عندما وضعها القدر وقتها في طريقي اعتقدت أنها الأنسب لوضعي من كل النواحي . في أعماقي كنت دائما أبحث عن امرأة قوية تساعدني على التقاعد عن اللعب في سن مبكر قبل أن أصبح أضحوكة . و الحياة معها أوضحت لي أنها قوية بالفعل لكن قوة من نوع لم تخطر على بالي . و اكتشفت أنه حتى أبي الذي أخشى ما أخشاه هو أن أتحول إليه كان أفضل مني لأنه على الأقل عرف كيف يختار زوجته و انتهى به الأمر مع أمي . و أنا .... ضحكة خافتة انطلقت رغما عنه لتصدح في جو الغرفة الساكن و تحكي قصة غبائه . . .. … بعد دقائق كان ينزل السلم شفتاه تصفران أحد الألحان الشائعة ، ذهنه يفكر فيها و في مستقبله معها ، في الطريقة التي سيقنع بها ماهر بالتدخل لصالحه بما أن هذه هي أهم خطوة ينتظرها والدها قبل أن يوافق . خرج من العمارة بخطى سريعة ليتجهم وجهه تلقائيا و هو يشاهد عصام متكئا على سيارته ، في عينيه رسالة تهديد واضحة . - تحتاج إلى توصيلة ؟ سأله ببرود و هو يضغط زر مفتاح سيارته ليفتحها عن بعد . - اسمعني يا سافل هل تعتقد حقا أني سأوافق على ارتباطك بأختي ؟ هل أنت مختل إلى تلك الدرجة ؟ - لا أذكر أنك أخذت رأيي حين تقدمت إلى شاهيندا . - و هل هناك أي وجه للمقارنة بيني و بينك يا ... - اشش أعصابك . لا داعي إلى مزيد من الغلط . بالنسبة لأختك فلا أحد طلب رأيك ، أبوها موجود و هي موجودة و تقرير مستقبلها يعود لها هي و ليس لحضرتك . امتطى سيارته و فتح النافذة على آخرها ليسند ذراعه على حافتها و يواصل باسترخاء : - و أنصحك أن لا تتدخل بالحسنى بيني و بين والدك و تقول له أي شيء غير ظريف عني لأني وقتها سأضطر أن أرد لك الجميل و أخبر الحاج أنور بالسبب الحقيقي وراء انفصالك عن شاهيندا . تعرف كم أنا أصيل يا أبو نسب ، قالها بغمزة خفيفة و انطلق تاركا زمجرة محركه و دخان عادمه يلهبان غضب عصام أكثر فأكثر .
التعديل الأخير تم بواسطة um soso ; 10-01-19 الساعة 10:43 AM |