الفصل الثاني وقف في القاعة الرحبة ذات الأرضية اللامعة ينتظر وصول حقائبه . لدقائق ظل ينظر متفحصا لحزام النقل ثم زفر بملل و هو يشيح بوجهه ، يحفظ حظه جيدا ، ستكون حقائبه طبعا آخر ما يصل ، هذا إن لم ينسوا أن يشحنوها كما فعلوها معه سابقا . تلفت حوله يشغل فكره بمراقبة الوجوه المختلفة الملامح لأناس مختلفي الاتجاهات يجمعهم مكان واحد و غاية واحدة ، كل سينتظر حقيبته ثم يأخذها و يغادر . و هكذا هي الحياة : كل ينتظر نصيبه ليأخذه معه ، يحمله ثقيلا كان أم خفيفا ثم يرحل . تنهد بشيء من الراحة و هو يرى حقيبته الضخمة تصل أخيرا ، قبل أن تصل يده إليها كانت يد أحد الحمالين تسبقه . - عنك يا باشا أعاد يده إلى جانبه مستسلما . - هل هناك واحدة أخرى يا أستاذ . - واحدة و أهلكتني فما بالك لو كانت هناك أخرى ؟ تمتم بمرارة اكتسحت صوته رغما عنه . نظر الرجل باتجاهه بعدم فهم فأشار بيده إلى الأمام ليسبقه الآخر و يلحقه هو بخطوات متمهلة . بعد لحظات كان يسلمه إكراميته و يستدير خارجا من المطار . تخطى البوابة الزجاجية الآلية و رفع كفه تلقائيا يحمي عينيه من أشعة شمسهم : حارقة ككل شيء آخر في بلاده ، حارقة كمزيج العوز و الغبن و القهر الذي التهب بهم كيانه حتى هاجر ما إن تجاوز العشرين بأشهر ، تاركا كل ما يبغضه و في ذات الوقت كل ما يعشقه . تنهد بعمق ينبئ عن قلب حافل زاخر ثم رفع يدا كسولة يشير إلى إحدى سيارات الأجرة . . .. … بعد يومين و المساء يأتي فاردا جناحيه يزيح عن كاهله حمل يوم آخر ، جلس في مقهى الحي ، منزويا في ركنه الهادئ يراقب من حوله بينما يجذب أنفاسا عميقة متتالية من الشيشة بجانبه . لمدة ربع ساعة ظل يحاول تكييف دماغه ، تطويع أفكاره و إرسالها في فضاء من الفراغ قبل أن يستسلم أخيرا و يبعد المبسم عن شفتيه و هو يشعر فجأة بملل شديد يخنق قلبه . مرة أخرى تأمل الوجوه الغريبة و كالعادة لم ير سوى نظرات خبت شعلة الحياة بداخلها و شفاه جامدة وأخرى منحنية في بؤس . هز رأسه يتساءل بخواء هل الحال أصبح بهذا السوء مع الجميع أم أن سواد نفسيته هو ما ينعكس على مرايا وجوه من حوله ؟ أغمض عينيه و جذب نفسا آخر أعمق من كل ما سبقه ليركز على قرقرة الشيشة يحاول أن يطرد بها أفكاره . صوت صاخب أيقظه من لحظة نشوته القصيرة ففتح عينيه بضيق ليرى رجلا يوليه ظهره ، يبدو من نوعية ثيابه و استواء كتفيه أنه في أوج سنوات رجولته . كان يتبادل مع أحد الشباب الجالسين بعض مزاح العصر الحالي ، ذلك الكلام الملتوي الذي يخفي في براءته تلميحات أكثر من وقحة . التصقت عيناه برقبة الرجل العضلية بشيء من الحسد و هو عاجز عن تذكر آخر مرة ضحك فيها بهذا الانطلاق . ظل يتابعه بنظراته حتى رآه يسكت عن الكلام و يبتعد قليلا ليستقبل مكالمة على ما يبدو مهمة ، استدار يواجهه أخيرا و هو يقفل الخط و يعود إلى مكانه . - يوسف ، تمتم بخفوت بينما يتفحص الملامح المألوفة جدا للشاب . - يوسف ، علا بها صوته و ليل عينيه يعانق الخضرة المميزة لحدقتي الأخير . - خالد ، سمع اسمه الذي اشتاقه كثيرا بالحروف العربية الأصيلة . كيف حالك يا رجل ؟ سأله و هو يقترب منه . وقف عند وصوله و مد يده يصافحه ليشد عليها الآخر بقبضته القوية قبل أن يمد ذراعه و يعانقه بأريحية لا يجيدها سوى أبناء البلد . - متى عدت ؟ - منذ يومين . - يومين و أتيت ركضا للمقهى ؟! - اشتقت لرائحة شبابي ، تمتم و هو يعود للجلوس مشيرا له باحتلال الكرسي المجاور . - على ما أذكر شبابك قضيته بين أحضان الإيطاليات . - ذلك كان شبابي الضائع . - اللهم ضياعا كضياعه ، انطلق بها صوته مع ضحكاته . - أعوذ بالله ، تمتم خالد بعبوس فوري ، استغفر ربك . - أستغفر الله ، سارع يوسف يقول بشيء من الحرج . حرج اختفى بعد ثوان قليلة و هو يسأله بلهفة متعمدة : - كيف هن بنات روما ؟ - بخير و يرسلن السلام لك . - حلوات كعادتهن أكيد ، جميلات ، لذيذات ، مريحات ، تنهد بحرقة و هو يغمض عينيه بينما يهز رأسه بحسرة على نفسه المحرومة . - من ناحية مريحات فصدقني سيرحنك راحة لن تفوقها غير راحة القبر . - قبر ؟ فتح يوسف عينه يناظره باستهجان ، لماذا هذه السيرة الآن ؟ - لكي تتذكر أن الله حق و تتذكر أيضا أن هناك زوجة غافلة تنتظرك في شقتك . - زوجة ؟ كرر اللفظ كأنه يكتشفه للتو . - سمعت أنك تزوجت ؟ - تقصد كنت ، تمتم بعدم اهتمام قبل أن يطلق صفيرا طويلا من شفتيه باتجاه باب المقهى . - أنا هنا ، قال بصوت عال يشير للواقف في المدخل يدير عينيه حوله ، انظر على من قبضت متلبسا بتهمة الحنين . تقدم منهما أحمد بابتسامة هادئة بعثت مفعولا ملطفا آنيا في قلبيهما فورا لتسترخي ملامحهما بابتسامة مماثلة . - الحمد لله على سلامتك ، قال بترحيب صادق ، كيف حال الأسرة الكريمة و العمل ؟ - ها هي الأسئلة الحقيقية ، علق خالد و هو يهز رأسه نحو يوسف ، ليس مثل البعض . - الحمد لله على كل حال ، و أنت ؟ أخبارك و الوالدة ؟ - الحمد لله ، و أنت ، حضرة النقيب يوسف ؟ سأل أحمد بتهكم غير خفي ، كيف حال العمل معك ؟ - كالعادة مثلي مثل كل من في الجيش ، نشقى و نتعب من أجل هذا الشعب ، تنهد بافتعال و هو يثبت عينيه داخل عينيه . و كما توقع تحفز الأخير في جلسته و هو يقول بضجر : - و أنا من موقعي هذا و بالنيابة عن الشعب الذي أتعبكم أقول لكم أرجوكم يكفي ، استريحوا و أريحوا و دعونا نخدم أنفسنا بأنفسنا . - و نجعل البلد بوفيه مفتوح ؟ تساءل يوسف باسترخاء مغيظ أرفقه بهزة حاجب مستفزة ، هل هذا كلام ؟ - الشيشة يا حضرات ، انفض النقاش الحاد الذي كان محتوما بهذه الكلمات القليلة من النادل المرح . التفت له خالد بابتسامة عرفان : - ابن حلال و جئت في وقتك تماما لو تأخرت دقيقتين لاضطررنا أنا و أنت أن نفك خناقهما من بعضهما البعض . رفع يوسف عينيه إلى النادل الفضولي يصرفه بنظرة صارمة ثم استند على الطاولة بذارعيه يقول مغيرا الموضوع : - إذن اليوم سهرة للصبح " شباب " مثل أيام زمان . - أنا و أنت أكيد ، لا أحد ينتظر عودتي أصلا لكن أحمد لن يستطيع التأخر على زوجته . أو ربما هي لا تمانع ، أضاف بتردد متأملا صمت صديقه الذي وجم و اختفت ابتسامته فجأة . - أؤكد لك أنها لا تمانع أبدا ، تمتم يوسف بهدوء ساخر . طلق منذ شهر ، أضاف يشرح أمام نظرات الآخر المتنقلة بحيرة بينهما . - سبحان الله ، هز خالد رأسه مرتين مستغربا ، جذب نفسا طويلا من الشيشة ثم غمغم بشرود : الثلاثي المرح . - لا تقل أنك أيضا نجوت ؟ تساءل يوسف و هو يسعل قليلا من المفاجأة قبل أن يصمت مقطبا جبينه ثم يضم شفتيه و يبدأ بنفث الدخان على شكل دوائر صغيرة انجذبت عينا خالد تتبعانها حتى لحظة اضمحلالها و عودتها عدما . لدقائق تاهت أفكار كل منهم تتلوى متمايلة بين سحب الدخان الخارج من شفاههم بينما همس القرقرة الرتيب يحدث أثره على جفونهم التي تثاقلت دون أن يشعروا . - المُطَلَّقون ، كسر صوت أحمد الخافت صمتهم المشحون . - المُطَلِّقون من فضلك ، صحح يوسف بفخر . - شباب ، أنا جعت ، وقف خالد يتمطى بكسل . سأدعوكم على بيتزا ما رأيكم ؟ - إيطالي الذوق و الأهواء و يقول أنه اشتاق للبلد ، سنقبل طبعا ، ماذا كنت تظن ؟ - هيا إذن . - أنا سأنتظركم هنا ، قال أحمد بهدوء . - قم و لا تفسدها علينا كعادتك ، برطم يوسف و هو يسحبه سحبا من ذراعه . سارا بخطواتهما المعتادة لتوقفهما عبارات خالد المتذمرة : - ألا تراعيان فرق الثمان سنوات التي بيننا ؟ وصل إلى مكانهما يسبقه صوت لهاثه ، ابتسم أحمد بتهكم خفيف بينما قال يوسف بصراحته الفجة : - تقصد نراعي الفرق في حجم البطن بيننا و بينك . - أتعرف ما الذي يقوله صديقي التركي دائما ؟ قال خالد بصوته المتراخي و هو يواصل سيره بجوارهما . يقول رجل بلا بطن هو منزل بلا شرفة . - اللهم اجعلنا بيوتا بلا شرفة ، رفع يوسف صوته فورا بالدعاء . أمّن أحمد في سره بينما اكتفى خالد بنظرة جانبية للشاب الآخر قبل أن يقول و ابتسامة واسعة ساخرة تلمع داخل عينيه و تلوح على شفتيه : - و نحن ننتظر البيتزا يا شباب سأحكي لكم قصة أغرب بيتزا قُدِّمَت لي في حياتي . ..........................
التعديل الأخير تم بواسطة um soso ; 28-02-19 الساعة 01:51 PM |