- ماما قد أتأخر عن موعد رجوعي المعتاد ، أنا في عيادة الدكتورة ، قالت جهان بصوت خافت و هي تقف في البهو خارج العيادة .
- حبيبتي كيف تشعرين ؟ غثيان يا ابنتي ؟ هل يمكن أن تكوني ...
بقسوة قطعت أوصال الأمل لدى أمها و هي تجيب بنبرات باردة خاوية :
- دكتورة نفسية يا ماما .
أقفلت المكالمة بعد تحية سريعة لم تنتظر ردها ، ظلت في مكانها لبضع دقائق تعتمل بداخلها مشاعر أكثر من مترددة ثم دخلت لتنتظر دورها .
.
..
...
بعد دقائق ، جلست الدكتورة نور الهدى مستمرة في تدوين ملاحظاتها عن الحالة السابقة في تمهل تام ، دائما تتعمد اتباع هذا الأسلوب مع أية حالة جديدة تتقدم إليها .
سلوك الشخص أثناء الانتظار يعطي لمحة لا بأس بها عن نوع شخصيته .
ابتسمت في سرها و هي تسمع صوت تململ المرأة الجالسة على الطرف الآخر من المكتب ، رفعت حاجبيها قليلا و هي تميز صوت تأففها الواضح .
بعناية وضعت الورقة النصف مليئة في ملف الحالة السابقة ثم تناولت أخرى نظيفة و بدأت في تلويثها بمزيد من متاعب البشر .
( ملولة ، غير صبورة ، مستفزة ) كتبت أولى ملاحظاتها قبل أن ترفع رأسها أخيرا ، ترسم ابتسامة عملية و تمدّ يدا مرحبة :
- أهلا بك .
بعد المصافحة عادت تدون بضع جمل مقتضبة :
( تصافح بكامل كفها لا بأطراف أصابعها : غير متكبرة )
( تنظر داخل عيني الشخص مباشرة : صريحة و ليس لديها ما تخفيه )
( ابتسامتها مرتجفة : غير واثقة من نفسها )
- إذن آنسة جهان ، بتعمد قالتها .
- سيدة .
- آسفة ، تبدين أصغر من أن تكوني متزوجة .
ابتسامة مرتجفة أخرى التوت بهما شفتا الأخرى قبل أن تعودا لوضعهما الجامد و هي تسمع الطبيبة تسألها :
- كيف تريدين بدأ جلسات العلاج ؟ مع زوجك ، بدونه أو كل منكما يأتيني منفردا ؟
ببساطة المحترفين ، حافظت الطبيبة على رسمية ملامحها و هي تراقب الدهشة الواضحة على وجه المرأة المقابلة ، طبعا هي تعرف أنها مطلقة لكن كل تفصيل إضافي مهما كان بسيطا يعطيها لمحة لا بأس بها عمن أمامها .
" دهشتها صادقة ، فكرت في سرها ، صدقت تماما أني لا أعرف ، لم تشك رغم أن السكرتيرة سألتها عن حالتها الاجتماعية قبل أن تدخلها علي "
( إنسانة غير خبيثة النية ) ، كتبت بسرعة.
- أنا مطلقة ، تمتمت جهان بعد صمت بسيط .
توقعت أن تسألها الطبيبة تاليا عن سبب قدومها إلى مكان لا يقصده سوى المتزوجون لذلك أخذت على حين غرة و هي تسمعها تقول :
- كيف تشعرين و أنت تنطقينها ؟
- بالفشل ، أجابت فورا و دون تفكير .
- بالندم أيضا ؟
- كلا طبعا لست نادمة .
( تراجع ) كتبت الطبيبة .
- كيف أندم و لست أنا التي ألقت يمين الطلاق ؟
( مزيد من التراجع )
- الندم يكون حين تتعمدين فعل خطأ لكن ما حصل في حالتي أني أحصد أخطاء غيري .
( المزيد و المزيد من التراجع )
- غيرك ؟ يعني من ؟
- هو ، الظروف ، المجتمع .
- هو ؟
- زوجي .
- طليقك ، صححت لها بحسم .
بنظرة غير متعاطفة راقبتها ترف بجفنيها أكثر من مرة ثم أكملت تسألها بنفس اللهجة التقريرية :
- إذن لا تشعرين بأي ندم ؟
- أبدا .
- لماذا كلمة فشل إذن ؟
- لأنها أكثر ما يصف الطلاق بالنسبة لي ، الزواج أراه نوعا من الشراكة بين طرفين ، مؤسسة حين تنهار يعتبر ذلك نوعا من أنواع الفشل .
- انهيار ، كلمة قوية جدا .
- مجرد وصف ، قالت جهان بضيق ، لم أتعمد اختيارها .
- أكيد لم تتعمدي ، أنت فقط قلت ما تشعرين به .
- كانت مجرد كلمة ، كررت و ضيقها يتزايد .
- هناك كلمات أقل وقعا بكثير و تعبر عن نفس المعنى ، إفلاس ، تفكك ، انتهاء .
- و أنت يا دكتورة كيف تصفين الطلاق ؟
( هجوم معاكس )
- الطلاق موضوع كبير و بالنسبة لي كلمة نهاية لا تصلح لوصفه ، لأنه لا شيء ينتهى بوقوعه .
صمتت تنقر بقلمها على سطح الورقة قبل أن تواصل بشيء من الشرود :
- برأيي الشخصي ، الطلاق هو مرحلة كما هو الزواج ، أحيانا قد يكون دمارا للمرأة و أحيانا أخرى يصبح انطلاقا .
- و في حالتي أنا ؟
- لم أكون رأيا بعد ، كذبت دون أن ترمش .
نظرت إلى ساعة معصمها ثم قالت بابتسامة هادئة :
- انتهت جلستنا مدام أم تفضلين أن أناديك آنسة ؟
- مدام ، تمتمت جهان بسرعة و عيناها على حقيبتها .
ملاحظة سريعة أخرى :
( الحالة تتحدث عن زواجها بصيغة الحاضر ، بعيدة جدا عن استيعاب واقعها )
- هل أستطيع قراءة ملاحظاتك عني ، سمعتها تسألها بتردد .
رفعت الدكتورة رأسها تتأملها دون كلام :
- أنا مجال دراستي علمي بحت لكني واسعة الاطلاع و قرأت كثيرا في الفلسفة و علم النفس ، و أكثر ما لفت انتباهي هو الباب الخاص بالوعي و الجسد .
- جيد ، تمتمت الدكتورة بجفاف لم تحاول إخفاءه بينما أصابعها تخط :
( تقييم مرتفع للذات ، فخر واضح بالنفس لا يصل إلى درجة التكبر لكن ... )
- كلا ، رفعت عينيها تواجه الأخرى بثبات ، لا أستطيع السماح لك بقراءة ملاحظاتي عنك .
مزيج من التسلية و الرضا خامر أفكارها و هي تراقب حرجها الواضح ، نقرت بضع نقرات بطيئة أخرى بقلمها ثم قالت بلطف :
- لكن حين تنتهي الجلسات أكيد سأناولك إياها .
- و متى تنتهي ؟
- متى شئت أنت .
- و متى موعد الجلسة التالية ؟
- حدديه مع السكرتيرة مدام .
راقبتها تقف ، تتردد قليلا قبل أن تسألها :
- بخصوص مبلغ الكشف دكتورة ، هل أدفع لك أم للسكرتيرة ؟ لأنها لم توضح ..
- ليس اليوم مدام جهان ، قاطعتها بهدوء ، هذه الحصة هي حصة تعارف بيننا ، أنا و أنت ، المرة القادمة إن شاء الله سنتفق .
- شكرا على وقتك دكتورة ، إلى اللقاء .
- إلى اللقاء ، تمتمت الدكتورة وهي تعود لشرودها بينما أصابعها تخط ملاحظاتها الأخيرة :
( إنسانة حريصة على الدفع ، عادلة على ما يبدو في تعاملاتها المالية ، نقطة في صالحها ، بالمقابل ، هو ؟؟؟؟ ) ……………………..
تمّ
التعديل الأخير تم بواسطة um soso ; 28-02-19 الساعة 01:50 PM |