الخاتمة بعد يوم واحد فقط ، كانا قد عقد قرانهما من جديد بشاهدين من الجيران بعد إعلام أهلهما من باب المجاملة .
قطع قبلته الأخيرة لها و هو يقول بدفء ساخر :
- أخبريني بصراحة ما الذي حصل في مكتب تلك الدكتورة في ذلك اليوم ؟
أشعر كأنها طلبت يدي لك .
- أحمد ، همست جيهان بلوم قبل أن تعود لحضنه .
- امرأة غريبة وضعت خطتها الماكرة و كادت أن توقع قلبي هي و شريكها ، واصل يقول بينما أصابعه تتخلل شعرها باستمتاع ، ثم رفضت تماما أخذ مقابل لذلك اللقاء الأخير .
- غريبة لكنها مفيدة ، تمتمت جيهان لتداعب أنفاسها عنقه فيرفع ملهوفا وجهها إليه مرة أخرى .
- أحمد ، همست و هي تبتعد .
- ماذا الآن ؟ غمغم متذمرا و هو يعيدها لتلتصق به فهذا هو مكانها .
- لدي فكرة ، شيء أريد فعله بالمهر الجديد الذي دفعته لي .
- أنت و أفكارك ، استر يا رب .
- أحمد ، عاتبته ليسكتها للمرة الألف .
.
..
...
بعد يومين ، أمام تلك العمارة اللامعة الفخمة ، توقف يوسف ببنيته الضخمة أمام ميساء الشاردة الخارجة مسرعة بعد أن أنهت دوام يومها العاشر في وظيفتها الأولى منذ تخرجها .
- ميساء ، قال بثبات كما تعودت منه ، كلمت عمك و سأعيدك إلى عصمتي .
نظرت إليه بجفاء ثم بدأت بالابتعاد عنه .
تأفف يوسف و هو يرفع نظره إلى السماء ، يتذكر في الأثناء كلمات أحمد له عن التعامل معها بحرص بسبب تلك الهرمونات .
- ميساء ، ناداها و هو يدرك خطواتها الصغيرة بخطوتين بسيطتين منه .
- سأوصلك معي ، أمسكها من ذراعها يجعل من كلماته أمرا واقعا و هو يجذبها إلى حيث سيارته .
بعد لحظات قضتها هي في التنفس باضطراب و قضاها هو في امتصاص تردده و غضبه قالت ببرود تقطع الصمت :
- أخبرني يوسف ، ما الذي ستفعله إذا رفضت العودة معك ؟ هل سترسل أحدهم مثلا ليقبض علي ؟
نظر إليها بتسلية قبل أن يمد يده بعفوية يداعب وجنتها الشاحبة :
- سأقبض عليك بنفسي ، غمزها بخفة قبل أن يضيف بنبرات أخفض ، لن يلمسك آخر و أنا موجود ، انسي .
مطت شفتيها بتذمر مفتعل ثم قالت و هي تشيح بوجهها :
- و تقبض علي بأي تهمة ؟ بأني امرأة ناشز مثلا ؟
- كلا حبيبتي سأقبض عليك بتهمة ممارسة السحر و الشعوذة .
برقت دمعة كثيفة في عينيها فسارع يقول و هو يحتضن ذقنها الرقيق بين أصابعه يدير وجهها و يقابل نظراتها :
- اتركني من فضلك ، تمتمت بضعف ، و لا داعي للإهانات ، في جميع الأحوال انتهى ما بيننا .
- من قال أنه انتهى ، همس و نظراته تنزل إلى شفتيها ، إذن أخبريني لماذا قلبي لم يعد ملكي ، لماذا أصبحت أراك في كل شيء حولي ؟ حتى في وجوه المجندين تصوري !!
بصعوبة ابتلعت ابتسامتها و هي تحاول دون جدوى تخليص ذقنها من بين أصابعه بينما هو لم يلحظ حتى محاولاتها و عقله منحصر في زاوية أخرى .
زوى ما بين حاجبيه قليلا ثم قال بحيرة :
- هل إذا قبلتك الآن يعتبر حلالا أو حراما ؟ بصراحة نسيت .
فغرت شفتيها بانذهال ليكمل و هو يضرب جبينه بقبضته :
- هل هذا سؤال يا ميساء ؟ أنا رددتك إلى عصمتي إذن حلال حلال حلال .
و قبل أن تفكر بأي شيء تنطق انحنى يسكت جميع اعتراضاتها .
رفع وجهه أخيرا يحدق في ملامحها الخجولة و هو يتساءل كيف سول له عقله يوما أن يقصيها من حياته .
غمزها مرة أخرى و هو يتمتم لنفسه بينما يفتح زجاج النافدة المدخن .
- اصبر يوسف ، ساعة أو أقل و تكونان في الشقة .
التفت إليها ليراها تقول بارتباك :
- يوسف أنا أحتاج إلى ...
قاطعها بحزم :
- لا تحتاجين إلى أي شيء ، أنا الذي أحتاج .
- حبيبتي ، أضاف بعد دقائق من الصمت الهادئ الحميم ، لا أريدك أن تفهميني خطأ ، سأقول ما سأقوله لأني أريد بحق لحياتنا معا أن تستمر .
هناك دكتورة جيدة عرفتها عن طريق صديقي و زوجته و أتمنى أن تزوريها .
لاحظ توتر ملامحها فأضاف بلطف أكبر :
- جربيها حبيبتي ، لن تخسري شيئا .
اعتبري نفسك تفضفضين لها .
.......................
داخل عيادتها ، بعد أن ألغت جميع مواعيدها ، جلست نور الهدى مستندة بمرفقيها على سطح مكتبها ، وجهها مستقر بين كفيها ، رموشها مسدلة في هدنة قصيرة تأخذها من الزمن .
ببطء فتحت عينيها أخيرا ، نزلت بنظراتها إلى الدرج الثالث و بدأت أصابعها المسترخية تخرج من جمودها حين أوقفها صوت طرقات خافتة على الباب .
- تفضل ، قالت بصوت عال و أصابعها تمتد لقلمها .
مدام جيهان ، رفعت حاجبيها باستغراب ، هل نسيت شيئا مثل المرة الماضية ؟
بابتسامة واسعة ردت جيهان بمرح :
- نسيت أن أشكرك دكتورة .
أنا ممتنة جدا لك .
- العفو ، هذا هو واجبي ، اهتزت لهجتها الرسمية بشيء من العاطفة لتضيف جيهان بصدق أكبر :
- و مع ذلك شكرا دكتورة ، شكرا من كل قلبي .
- مدام جيهان ، أتعرفين ما هي أفضل طريقة لشكري ؟
كوني سعيدة ، كوني راضية .
- أعدك أني سأحاول ، صمتت مترددة ثم أضافت ، و أنت أيضا دكتورة حاولي أن تكوني سعيدة .
رسمت نور الهدى ابتسامة خفيفة على شفتيها بنجاح ، انتظرت حتى أُغلِق الباب خلف ظهر المرأة الأخرى ثم تلاشت ابتسامتها ببطء بينما عادت أصابعها لتتحرك باتجاه الدرج السفلي .
أخرجت تلك الصورة التي تخفيها عن أعين الجميع و خاصة عن عيني قلبها .
بلطف مررت أطراف أناملها على الملامح الرجولية الهادئة ، تحدق في الوجه الذي يشغل صاحبه جميع مساحات ذاكرتها .
" أرانا في الكثيرين حبيبي، "
بدأت تهمس ببطء
تهمس لنفسها فأنى لمن غاب و لن يعود أن يسمع
" كنا صغيرين جدا و لم نجد من يشد على أيدينا ، من يوجهنا ، من يعلمنا أن الحياة هي تلك التي نصنعها بأنفسنا
كنا صغيرين و تهنا في بداية مشوارنا لكن في النهاية انتصرت طيبتك على كل شيء
و عرفت كيف تهزم كل عنجهيتي . "
من بين أصابع خيالها انسابت صور متتالية ، هربت فأسدلت جفينيها تركض وراءها لتمسك و لو نصف ذكرى منه و عنه حتى لا تعود خالية الوفاض .
ليتها فقط تقدر على الإمساك للأبد بتلك النظرة الحنونة التي تبيع من أجلها الدنيا و ما فيها دون لحظة ندم .
تمسكها فتحبسها داخل قلبها ليعود فيضيء كما كان في وجوده .
" يسألونني كيف صرت إلى ما صرت إليه
لأني كنت تلميذة في مدرسة رجولتك
لأني تعلمت على يدي إنسان تكسرت أمواج أنانيتي على صخور عطائه و كرمه
لذلك أريد أن أخبر الكل
أنك أنت كنت الأساس
و أنت كنت النبراس
كنت على حق حبيبي عندما قلتها لي لكني لم أفهمها سوى متأخرا جدا :
قلت لي : أنت ذكية جدا و ذكاؤك أكبر بكثير من سنوات عمرك لكن مشكلتك أنك تستعملين ذكاءك ضدك .
أتذكر جيدا ما قلته أنا لك وقتها ، قلت لك :
حتى و أنت تجاملني تُعيبني
و أتذكر ضحكتك حينها ، أكاد أسمعها ترن داخل أذني
و لأن ضحكتك معدية ضحكت أنا معك
والضحكة معك حبيبي لها طعم لم أجده في ضحكاتي مع أي من الآخرين . "
نظرت إلى الصورة للمرة الأخيرة ثم قالت و هي تمسح نصف دمعة :
" نسيت وقتها أن أخبرك أن تحليلك لشخصيتي أعجبني جدا . "
…………………………….
صباح أول يوم جمعة لهما كزوج و زوجة من جديد ، وقفت جيهان أمام أحمد تحضن وجهه بين كفيها ، تهمس له و نظراتها تغرق داخل عينيه :
- نسيت أن تقول لي " أحبك " .
قلها لي كثيرا أحمد ، قلها و لا تبخل بها علي
قلها فإنها تحل جميع المشاكل .
- أحبك ، همسها بصوت أجش
ضمها إليه بقوة ثم طبع قبلة عميقة على جبينها ، تجاوبت مع عاطفته الجياشة بقبلة على كتفه ثم رفعت وجهها ثانية لتقول بنبرات تتأجج تأثرا :
- أريد منك أن تنظر إلي الآن و تخزن صورتي داخل ذاكرتك .
لو تخاصمنا ، لو سمعت مني ما تكره ، لو ، لو ، لو حصل أي مكروه بيننا أريد منك حبيبي أن تخرج و تتركني لوحدي
ثم و أنت بعيد عني و عن غضبي و عن غضبك ، أغمض عينيك و تذكر أن هذه هي أنا
هذه التي تراها أمامك الآن
لا تلك الأخرى
تلك لن تكون أنا ، تلك ستخرجها مني ضغوط الحياة
اصبر علي حبيبي ، هذا كل ما أطلبه منك
- و أنت ستصبرين علي ؟
- سنصبر على بعضنا البعض ، وعدته من عمق قلبها الذي لن يحتمل جرح فراق آخر .
.
..
...
قبل بداية صلاة الجمعة بنصف ساعة ، كان أحمد يقف أمام ذلك الكشك القريب من المسجد يستلم تلك الرزمة الكبيرة من الرجل الكهل ، سلمه مبلغ المهر البسيط كما طلبت منه جيهان ثم وقف مع جماعة من أصدقائه و أبناء حيه من بينهم خالد و يوسف يوزع تلك الأوراق على المصلين و حتى على المارين .
قرأت عشرات الأعين الفضولية تلك الجملة الأولى
" رجاءًا ، لا تمزقا القصة "
البعض أكمل المقال و البعض لم يجد به ما قد يهمه . …………………………………..
تمت بحمد الله . 09/04/2019
التعديل الأخير تم بواسطة نغم ; 09-04-19 الساعة 06:08 AM |