الحلقة الثانية
دلفت الأم وبناتها لداخل بيتهما الشبيه بفيلا من طابقين عنوانها الفخامة والرقي الذي يتناسب بعلاقة طردية مع مستوي ثرائهم الفاحش ، ذلك الثراء الذي لم يؤثر علي معتقداتهم وعاداتهم الأصيلة ولا علي قوة الأيمان بقلوبهم ..
متطلعين بنظراتهن المترقبة لوالدتهن بمعالم وجهها المتأثر والحزين .. لتسرع كلاً منهما بإضافة روح مرحه وكلمات مشتتة لذهنها وعما يشغله حتي لا يزيد ألمها ، الذي قد يقتلهم داخلياً ويسبب لهم المعاناة ..
خرجت ضحكة مقهقه مباغتة من رضوي وهي تجلس بأريحية بجوارها مردده من بينها بصعوبة بالغة :
- شفتوا ندا كانت ضربه 66 مدفع من وشها أزاي دا أنا حبه وكنت هقعد في الأرض من كتر الضحك ..
أسرعت أميرة بمشاركتها الحديث أثناء جلوسها علي الأريكة المقابلة لجلستهم بصحبة أبنتها هاجر قائلة بنبرة مرحة مماثلة :
- 66 أيه قولي 200 مدفع برشاشتهم الحية !
لا وكمان حساهم متوجهين كلهم للشيخة " هنا " إللي خلت حسين جوز ندا يأيد فكرتها ويعمل فرح اسلامي لما كانت هتخلي ندا تمشي تنور من فولت الغيظ يا عيني …
حينها رفعت هنا كفي يداها بطريقة طفولية في الهواء أثناء جلوسها بجوار شقيقتها أميرة .. بعد أزاحتها غطاء وجهها للخلف ليكشف عن وجه هادئ الملامح ببشره قمحيه اللون .. قائلة بتذمر مصاحب لنبرة صوتها العذبة :
- أه .. أنا كدا بقا هبقي ضيفة الشرف إللي هتحتفلوا عليها النهاردة ..
لتسترسل حديثها هاتفه بحنق جدي :
- وبعدين ماله الفرح الأسلامي مش احتشام واحترام ده غير الأناشيد الدينية اللي سمعتوها ومتقدروش تنكروا أنها عجبتكم ..
حينها تطلعوا بنظرات مندهشة علي صوت انفلات ضحكة لتتبعها أخري من والدتهما .. والتي أسعدتهما كثيراً خاصةً وهي تردد من بينها هاتفه :
- مش هتقدروا تغلبوها .. وهتقنعكم هتقنعكم ..
لترمق بنظرات هادئة راضية لأبنتها هنا مسترسله حديثها :
- وصدقيني يا هنايا عجبني أنا كمان جداً خصوصاً في وجود حاجات الأيام دي أقل ما يقال عنها تلوس سمعي وبصري من أغاني هابطة ، للبس البنات إللي مش عرفه هما لبسين ولا مش لبسين .. لا وكمان وصلة رقصهم المتواصلة مع العروسة قدام الشباب إللي مش يحللهم نهائياً…
- أحببتشي ياممتشي يلي دايماً نصفاني وبتعرفيني أن أحنا وخدين جيناتنا من مين…
نطقت بها هنا وهي تقفز محتضنه والدتها الضاحكة لفعلها الطفولي المحبب لها دائمًا…
لتسرع رضوي تردد بتذمرx :
- أنتِ يا بنتي بتحسسينا أننا مشين بشعرنا .. ما أحنا أهو لبسين الحمد لله حجاب شرعي وملابس محتشمة بس أنتِ إللي مذمتاها حبتين ..
حينها أتاها الإجابة من والدتها مرددة بنفي لحديثها :
- لا والله يا رضوي دي فريش خالص ورحها مرحه ومشعوذنا معها ومع جدها أكتر .. ويمكن هي الوحيدة إللي بتهون عليه هنا ..
حينها قفزت هنا بطفولية مرة أخري في أحضان والدتها مرددة بدلال الأبنة الصغير :
- ست الكل يا حبيبة أنتِ والله ..
لتسترسل حديثها لشقيقتها هاتفه باستضاح :
- وبعدين يا روضي أنا لازم أبقي متزمتة برة بيتي عشان أضع حدود للتعامل معايا وخاصة أن في شباب اليومين دول أقل ما يقال عنهم ذئاب بيفضلوا يحاوطوا البنت بكلام ساحر ومخادع وخصوصاً إللي في سن المرهقة زينا لما تقع علي وشها في ألاعيبهم الشيطانية ..
أومأت أميرة علي صحة حديثها قائلة بنبرة مؤكدة هادئة :
- والله عندك حق يا هنون في البلد العربية إللي أن فيها بدعم القضية دي لدرجة أن البنات تتفرق عن الولاد من سن الحضانة ، وفرضت الحجاب للبنت من ست سنين ، وكمان رفض قاطع أن أي ست تمشي كدة في الشارع لوحدها مش عشان هما بيقيدوا حريتها لا .. ولكن خوفاً عليها من الأذية والاختطاف والتحرش المقرف اللي مالي موصلتنا العامة ..
حينها هزت رضوي رأسها مقتنعة بإيجابية ليخرج صوتها بهدوء شارد :
- تصدقوا عندكم حق .. أنا افتكرت دلوقتي البنت الصغيرة اللي كانت في الحضانة وزميلها باسها ونزلت متصورة في السوشل ميديا والموضوع أتعمل ليه ضجه جامدة .. وطبعاً غير أن فعلاً موصلاتنا العامة إللي فيها بدع لدرجة أن الست مبقتش عرفه تاخد حريتها لما تنزل تقضي مصلحه ضرورية لنفسها أو لبيتها ..
هزات رافضة هادئة من رأس " هنا " صدرت تنفي وتنفر الواقع المؤلم ومعاناة أكثر النساء التي أن لم تكن وقعت بالاحتكاك والتحرش وقعت بالألفاظ التي تخدش الحياء .. لتردد بنبرة متألمة خرجت من داخلها :
- صدقتوني دلوقتي .. الله المستعان في صلاح الحال والأحوال ..
علا صوت أنذار تنبيه الباب الرئيسي للفيلا منبهاً علي قدوم أحدهما عليه لتنهض باتجاهه مردده سريعاً بامتنان وهي تسقط غطاء الوجه :
- أنا هفتح دا أكيد جدو جه مع أبيه حسن وأبيه أحمد .. كويس أني مقلعتش النقاب ..
ليأتيها صوت شقيقتها رضوي سريعاً :
- لا أطمني هما مش هيدخلوا أحمد جوزي هيأخد حسن جوز أميرة مع الاولاد ويروحوا يقضوا الليلة دي في شقتنا وأحنا ناخد راحتنا هنا…
هُنا رددت والدتها بعتاب شديد :
- ليه كده يا رضوي ! يعني أحنا منعرفش نضايفهم ولا البيت لسمح الله ضيق ..
- والله يا ماما ما تخديها بالمفهوم ده كل الحكاية هما عوزين يتلموا علي بعض وهاتك يا كلام وشطرنج وا…
قطعت حديثها علي تطلعات والدتها المترقبة بذعر باتجاه الباب من خلفها لتلتفت بدورها سريعاً لتشاهد الجد بوجهه الحزين المريب الصامت يمر من أمامهم باتجاه غرفة نومه في الطابق الأرضي دون تحية أو حتي ألقاء نظرة علي وجوههم ..
التفتت أميرة لوالدتها مردد بخفوت مؤلم:
- هو لسه يا ماما جدو عادته زي ما هي ؟!
تطلعت والدتها لها بنظرات شاردة علي جملتها مردده بعد أن تنهدت بيأس :
- لسه يا أميرة ! وبينها مش هتبعد عنه إلا لما تقهرنا كلنا !
أتاهم صوت رضوي باستياء :
- كل ما يودع حد بيدخل في الحالة دي ، دا لولا أنه بحبنا ومش عاوز يحسسنا أكتر يمكن مكنش يخرج منها خالص !
أتاهم صوت والدتهما معاتباً لجملتها رأفاً به وبحالته :
- أعذروه يا بنات إللي شايلة لو جبل كان أشتكي ..
لتسترسل حديثها بعد تنهيدة عميقة لمجرد الذكري بغصتها المؤلمة :
- واحد ابنه البكري اللي كان شايل عنه كل شغله وشركاته فجأة يتعب ويتوفى ويسبله أربع بنات ولاية في رقبته .. لا واللي كسر وسطه أكتر بعدها بسنه واحده بس ابنه التاني عالم الفيزيا المشهور واللي عايش طول عمره في أمريكا يتوفى كمان فجأة .. ولما يسمع الخبر ميستحملش ويقع من طوله ويدخل في جلطة من زعلة علي أولاده يطلع منها بشلل نصفي !
سحبت شهيقاً عميق لتزفره دفعة واحدة مضافه بألم شديد :
- وياريت علي قد كده مرات ابنه إللي في أمريكا تمنع حفيده عنه واللي عمره ماشافه وتنفي صلته بيه وميعرفش عنه حاجة لمدة 17 سنه ويوم ما يعرف طريقه من أربع سنين يعامله زي الغريب واكتر ..
رددت سريعاً أميرة هاتفة بحنق :
- وهو يعني عمي الله يرحمه ملقاش إلا أمريكية ويتجوزها مالهم بنات بلده في وقت الشدة بيبانوا وبتفضل طول عمرها أصيلة ، وشايله الهم ، وبتستحمل وياريت كمان بتلاقي كلمة شكر في النهاية ، وبعدين حفيده ده حتي لو مامته منعته وهو صغير دلوقتي كبر وبقا عنده 27 سنه يعني لو عاوز يرجع فعلاً كان زماته مقطع الطريق رايح جاي بس هو للأسف مستمتع بعذاب راجل مسن ومريض ..
انتهت من كلامها الذي دفعته جملة واحده ولا تعلم كيف أخرجته .. ولكن تعلم جيداً أنه كان يضيق صدرها وصدورهن جميعاً منذ زمن ، بل كبروا عليه وعلي معاناة الجد وحزنه وألمه علي غائب لا يشعر به .. الغائب الذي ينفي ويرفض بكافة السبل الرجوع إلي بلد أبيه الأم ...
نطقت بما يضيق صدرها لتنحني رؤوس الجميع بألم وخذلان فما رددته يعلمونه جيداً ولكن ليس لديهم الشجاعة الكافية للفظ به أمام الجد الجريح والمتلهف والمتعطش للحمه وخاصة لحم ابنه المتوفاة !
حينها رفعوا رؤوسهم علي جملة "هنا " المقتضبة بغصة حزن مريرة :
- هروح أتطمن عليه...
راقبت والدتها مغادرتها بنظرات مشفقة مردده بخفوت ذاتي :
- روحي يا بنتي ! .. روحي أنتِ الوحيدة إللي بتقدري تخرجيه من حالته دي ..
أرجع رأسه للخلف ، مغمض العينين ، يستكين في جلسته بوجع وحزن يغرسه متألماً في بحور الوداع المصاحبة لذكريات حياتهُ والتي لم يسعد بها قط ..
ذكرياته التي بدأ فيها بتوديع زوجته ورفيقة دربه وأنيسة حياته .. لتمُت تاركه برفقته صبيان في بداية مرحلة المرهقة أقل ما يقال عنهم زينة الشباب ذو الأصل الحسن والهيئة الجذابة .. لتبدأ معاناتهُ معهما في أعمارهم الحرجة خاصة في ظل رفضه التام لجلب زوجة أب لهم ..
بعد سنوات عدة من جهده وكفاحه في نشأتهما وفي سوق العمل .. تخرج عاصم الابن الأكبر أخيراً من أدارة أعمال ليبدأ في تولي أدارة " إمبراطورية الثعلب " كما يطلق عليه حين ذاك في سوق التجارة المصرية من قبل رجال الأعمال لبعده التام عن عدسات الأعلام والمؤتمرات وأماكن التجمع ، وظهوره فجأة بمكارة الثعلب في قلب المناقصات والفوز بها من أفواه الأسود ..
بدأ عاصم في سحب بساط العمل والجهد من تحت يداهُ أخيراً .. ليطرب ذاته ويرقص قلبه حامداً الله بأن أعطاه العمر حتي يشاهد ما يسر كل والد وفلذة أكباده يحملون فوق أكتافهما عاتق المسئولية عنه ..
إلا أنه لم يستمتع ولم يستريح قلبه من ابنه الثاني " جلال " الذي أبا أن يسلك مسلكهم ويخطوا في طريق رجال الأعمال...
بل أنهي الثانوية من هنا لتقام ولتشن الحروب من هنا ليزيد اصراره علي رغبته بإكمال تعليمه في الخارج ، وبعد معاناة نفسية خاضها مع ولده قد كان ما أرادهُ ..
وغادر بالفعل الي الأراضي الأمريكية ليبدأ دراسته في كلية العلوم والتخصص في علم الفيزياء من جامعة واشنطن ..
ربط علي قلبه وانتظر بفارغ صبره هؤلاء السنوات الأربع لكي تمر ويرجع ذلك الذي طالما كان قلبه وعقله به ، لأنه وصية زوجته حين توفت لصغر سنه حينها .. ولكنه تفاجئ في نهاية تلك السنوات برفض ابنه " جلال " مغادرة تلك الأراضي بل وأعلن له أنه سيستمر في دراسته هناك حتي ينال أيضا كافة الدراسات العليا علي هذه الأرض ..
استسلما فليس لديه ما يعيقه علي ما يرغب ولده .. فهو ليس أب متسلط يملي بأوامره لكي تنفذ في الحال .. ولا هو أب يرفض أن يري أولاد بكامل تعليمهم وشهادتهم العلمية .. ولكن هو أب يطمع في حقه الشرعي في أبنائه بأن يحيطوه بعبقهم وقوتهم في ضعفه المسن .. بل ينالوا ما يريدون وكافة ما يريدون من تعليم ولكن حوله وفي نفس مكانه وعلي الأرض التي عليها خطاه ..
فهو لم يضحي بسنوات عمره لكي يتفرق كلاً منهما في ناحية ..
ولكن يبدوا أنه كتب عليهم ذلك بالفعل ... مرت الأعوام ليتبعها أعواماً أخري في ظل استمرار زيادة ونبش " جلال " في سنوات التعليم والتعلم واكتساب الخبرة ليصبح بعد جهد واجتهاد مبذل من جانبه دكتور في إحدى الجامعات هناك ليبدأ حقل تجاربه ورحلته الشاقة لسنوات عميقه في معامل البحث العلمي ليكتشف أخيراً بعد طول صبر بصحبة صديق أمريكي له في نفس مجاله باكتشاف حديث يسمي " المجهر الإلكتروني " ليتفاجأ أفراد وهيئة البحث العلمي بما حققا معاً من اكتشاف مذهل ، ليتبعها المباركات من هنا وهناك ليتأهل بالفعل لنيل جائز نوبل في الفيزياء في ذلك العام ..
ليبدأ من في العالم بجلب اسمه في كافة البرامج والأخبار وخاصة العربية كفخر واعتزاز بنيل عربي جائزة نوبل ، لتنتشر شهرته ويرج اسمه " جلال البنا " كعلامة لرفع الرأس لأي مواطن عربي قبل المصري ..
في ذلك الوقت ارتبط عاصم ابنه البكري المطيع بابنة أخيه ، وقد كانت نعمة الزوجة رغم دلال كافة النساء في ذلك العالم الثري من حولهما ألا أنها لم تتخلي عن حجابها قط ولا علي أخلاقها الحميدة نهائيًا .. لتتهلل اسارير قلبه لرؤية عاصم ولده يتبع خطاها ولا يترك له فرضاً ولا سنه ليكثر عطائه في الله ولله ونمت لحيته قليلاً وكثرت الشركات ليتبعها الأراضي لتزداد الإمبراطورية تشعثٍ داخل الدولة ، وما أعظم من هذا وذاك هي وجود البركة بين يداه ، ليرزقه الله أيضاً بالخلف الصالح وها قد ولد له فتاتين رضوي وأميرة ..
في حين كان جلال يمن علي والده وأخيه بزيارة سنوية لم تتعدي الثلاث أيام ليغادر بعدها علي أمل أن يمتد بهم العمر ويتقابلا في العام القادم ..
ليصبح أبن البيت يأتيه كالضيف الغريب بل أصبح أشد غُربة !
تألما بشدة كأن خنجرٍ حاد يأخذ حريته في صدره ، لتأتيه الصدمة الكبرى التي قسمت ظهر البعير وما جعلت ألمه يزداد أكثر هو مفاجأة ابنه له في ذات اتصال بأنه ارتباطا بفتاة من غير ديانته من أبناء تلك الأرض !
توجع قلبه وزاد أنينه الصامت ونزعت روحه من جسده وأصبح شبيهاً بالأموات .. فها قد ابتعد ولده للأبد ومات الأمل بعودته مرة أخري الي أحضان بلده وأحضانه هو خاصة !!
-- |