عرض مشاركة واحدة
قديم 03-09-19, 09:14 PM   #2

امل القادري

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 403898
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 455
?  نُقآطِيْ » امل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الأوّل

المطر غزير، تتراشق قطراته الغليظة فوق زجاج السيّارة بعنف، كأنّها حصى صغيرة تصدر صوتاً راعداً إثر إرتطامه به، والأرض تغمرها السيولٌ المتدفّقة تتراكض نحو مجاري المياه كي تتوارى فيها.
السماء سوداءٌ مظلمة، مكفهرة بالغيوم الرمادية المتلبّدة.

من بعيد بدأ الفجر يلوح بالأفق معلناً عن إنجلاء الليل وقدوم نهار جديد، نهاراً محمّلاً بأثقالٍ وحقائقٍ وصدماتٍ سيعجز العقل عن تقبّلها والقلب عن تحمّلها.

وداخل السيّارة الصمت سيّد الموقف، كلٌّ مشغولٌ بأفكاره يدعو بسرّه الرحمة واللطف من هول القادم، الأنفاس حامية متحشرجة تشكّل طبقةً ضبابيّة رقيقة فوق الزجاج، والدعوات كثيفة تملأ القلب وتفيض من اللسان.

« يا رب الطف بنا» همس عماد يمسح صفحة وجهه بكفّه المرتعش الذي تكسوه التجاعيد التي أكسبته إيّاها السنين « ما زلت لا أستوعب الحاصل» علّق وصمت فرمقه ثائر بطرف عينه عائداً بإنتباهه الى الطريق أمامه.
« ما الذي أتى بها الى العاصمة؟ كيف تأتي دون أن تخبر أحد؟ ومن، ومن ذلك الشاب الذي كان برفقتها في السيّارة.....، هل أنت متأكد بأنه ليس عدن؟»
سأله للمرّة العشرون، يصمت لفترة ومن ثمّ يعود ويسأل ذات الأسئلة، أسئلة بكل أسف هو حتّى يجهل أجوبتها.
الخبر كان صادم للجميع، إذ جنّة ليست من تلك الفتيات اللواتي يتصرفن بتهوّر، لطالما كانت مثال الفتاة المطيعة، التي لا تحتاج للوعيض والتحذير والتنبيه، خلافاً لأختيها الصغيرتين، اللتين تعشن مراهقتهن على أتم وجه، وهي كانت دائماً مثال الأم لهن بالرغم من صغر سنّها الذي لم يتجاوز التاسعة عشر.
لطالما كان من أشد المعجبين بذكائها وهدوئها وفطنتها،
ولكن يبقى السؤال،
ما الذي قادك لإقتراف هكذا زلّة يا جنّة؟
ما الذي جعلك تتسرقين خارج المنزل والقدوم الى العاصمة سرّاً وحدك دون إعلام أحد؟
وكيف إنتهى بك المطاف في سيّارة أمان خلال منتصف الليل؟
أسئلة كثيرة ومحيّرة خائف من أجوبتها وعواقبها.

وبمجرّد أن وصلت السيّارة الى الطريق المؤدي الى المستشفى المقصود حتّى إستقبلتهما الجموع المتجمهرة أمام بابها الرئيسي، شاحنات الصحافة والكاميرات المنتشرة في كل مكان، منظرٌ زاد من إنقباض قلبه جزعاً وقلقاً على سلامة جنّة وأمان.
وبعد معاناة إستطاع أن يجد مكاناً بعيداً بعض الشيئ، ركن السيارة فيه ونزل يساعد عمّه على النزول وسار بجواره يخترقان الجموع يسمعان تراشق كلمات هنا وهناك.
- الأخبار الأولية تقول بأنّ عازف الجيتار بفرقة (جيڤارا) قد توفي قبل أن يصلوا به الى المستشفى.
وقع هذا الخبر كالصاعقة على ثائر يحث عمّه على متابعة سيره، لا يريده أن يسمع ما يقولونه، ها هم، وصلوا الى المستشفى وبإمكانهم معرفة الأخبار الموثوقة من المصدر مباشرة.
وقف عند الإستعلامات يسأل الموظفة« نحن عائلة جنّة عقيل، لقد تلقينا مكالمة هاتفية تقول بأنّه تمّ نقلها الى هنا بسيّارة إسعاف.»
تفقدت الموظفة حاسوبها لبرهة تقول« نعم، هذا صحيح، الطبيب الذي كان مسؤولاً عن حالتها ينتظر قدومكم، الطابق الثالث، إسألوا هناك عن الدكتور حدّاد»
ومأ لها يلقي نظرة تفقدية إتجاه عمّه المرهق، يبدو عليه أنّه على وشك فقدان وعيه، الهمّ والقلق هدّا حيله، لكم أراد أن يسألها ما إذ كانت ما تزال على قيد الحياة، ولكنّه خاف، نعم خاف، يريد منح نفسه وعمّه بعض الوقت قبل تلقي الأخبار الصادمة.

فتح باب المصعد وخرجا منه الى الطابق الثالث يسأل أوّل ممرضة صادفت دربه« الدكتور حدّاد لو سمحتي»
« الغرفة رقم ثلاثون، آخر الرواق على اليمين»
وإنطلق برحلته يشعر بعمّه تتباطئ خطواته مع إقترابهما من وجهتهما.
« ستكون بخير، أنا متأكد بأنّها ستكون بخير» لم يعرف ما الذي دفعه لقول ذلك، ولكنّه شعر بالحاجة للتخفيف عن عمّه.
طرق الباب وفتحه يفسح المجال لعمّه بالدخول أمامه، يستقبلهما طبيباً في حوالي الخمسين من عمره.
عرّف عن نفسه« ثائر عقيل، وهذا عمّي عماد عقيل والد جنّة عقيل، مريضة أحضروها منذ ساعات الى هنا، بحادث سيّارة أمان»
ومأ الطبيب بإدراك يشير لهما أن يجلسان ففعلا وهو جلس قبالتهما يسألهما عن حالهما.
« كيف كانت رحلتكما من البقاع بهذا الطقس الماطر؟»
تململ عماد بجلسته لا يرغب بالتحدّث عن أمور الطقس، يريد من الطبيب أن يدخل بلب الموضوع ويريح قلبه.
« طمئنّا يا دكتور، كيف حال جنّة؟»
لانت ملامح الطبيب بتعاطف يقول« لا تقلق يا حاج عماد، إن شاء الله ستكون بخير، إبنتك كانت محظوظة، لقد منحها الله فرصة ثانية بالحياة بخلاف زوجها المسكين، الذي بكل أسف وصل الينا فاقداً للحياة»
« زوجها!» سأل عماد
« الشاب الذي كان معها» شرح الطبيب
« أمان يا عمّي، إنّه صاحب عدن وعضو بالفرقة الموسيقية التي يغني فيها»
تغضّنت ملامح عماد مستنكراً الموضوع برمّته ولكنه تغاضى عنه يسأل الطبيب بلهفة « أين هي الآن، أريد أن أراها وأطمئن عليها»
« بكل أسف، حالياً لا تستطيع، إبنتك بالعناية المركّزة، ووضعها دقيق جدّاً، لقد أصيبت إصابة خطيرة برأسها مما أحدث تورّماً داخل جمجمتها» صمت لبرهة يفسح لهما المجال بتقبّل هذا الخبر مردفاً بنبرة متعاطفة «وبكل أسف لقد حصلت مضاعفات أخرى بسبب حملها، لقد أصيبت بنزيف مهبلي حاد مما تسبّب بخساراتها للجنين وأُجبرنا على إثره لنزع رحمها» قال الطبيب ميقناً قسوة الخبر الذي القاه عليهما، ولكنّه مجبر على نقل حالتها بالتفصيل اليهم، لقد حاول ما بوسعه لإيقاف النزيف، ولكنّه في نهاية الأمر أُجبر على الإختيار، إمّا حياتها وإمّا رحمها، وهو إختار حياة مريضته التي بكل أسف خسرت فرصة أن تصبح والدة من هذا السن المبكر، ولكنّ بالمقابل عليهم أن ينظروا الى النصف الملآن من الكوب، الآ وهو وجودها بينهم على قيد الحياة، غافلاً عن أن هذا الخبر مصيبة مروّعة بحد ذاته.
عمّ الصمت أرجاء الغرفة الصغيرة، عماد قبض على صدره يشعر بضيق أنفاسه وخفقات قلبه المتسارعة، تؤلمه.
إبنته كانت حامل!
يا للمصيبة!
كيف حامل ومن من؟
« عمّي هل أنت بخير؟» هتف ثائر يرى ذرّات العرق تتجمع فوق جبهته وأنفاسه تتحشرج .
وقف عماد من مكانه يرى محيطه يدور كحلقات، عقله لا يستوعب ما سمعه من الطبيب، لا بدّ أنّ هناك خطأ ما، جنّته، جنّته التي كان يرى النور يشع من مقلتيها،
تنغمس بالخطيئة!
طفلته التي كان يتبجّح بها أمام أهل قريته، يتبجح بتربيته وسمعة بناته التي تلمع كالذهب.
_ ماذا فعلتي يا جنّة؟
_لقد لوِثتي إسمك وإسمي وإسم أخواتك، يا للعار.
« عمّي» نادى ثائر من جديد يتبعه، يراه يتّجه نحو الباب بخطوات ثقيلة.
« هيّا بنا يا بني، إبنتي ماتت، هذا ما سنخبر به أهل القرية والعائلة، علينا أن نسارع بالعودة للقرية للبدئ بالتجهيز للجنازة»
« ماذا تقول يا حاج عمّاد، وحّد الله، إبنتك ما تزال حيّة ترزق، وهذه نعمة بحد ذاتها»
« إبنتي ماتت يا دكتور، وتلك التي عندك لا تخصّني بشيئ»
وخرج من الغرفة منحني الظهر منكسر الروح، رأسه غارق بين كتفيه، الهمُّ أثقل روحه وعنفوانه

زفر ثائر أنفاسه يمسح على صفحة وجهه بضيق، ما العمل الآن؟
كيف يتصرّف؟
كيف يقنع عمّه بالتروّي وإنتظار فقط لريثما يطمئنوا على حال جنّة؟
« بالحقيقة، أنا لا أملك أدنى فكرة عن ظروفكم، ولكن مهما كانت أنصحكم بعدم التخلي عن تلك المسكينة القابعة بالعناية المركزة بين الحياة والموت»
قال الطبيب يقترب من ثائر الذي ومأ يهرب من نظراته، لا يعرف بماذا يجيبه.
« أشكرك كثيراً دكتور حدّاد على إهتمامك بها، بكل تأكيد لن نتخلّى عنها» صمت لبرهة مردفاً« سأعيد عمّي الى القرية ومن ثمّ أعود كي أدفع تكاليف المستشفى ومن ثمّ نتحدّث مطوّلاً بخصوص حالتها ووضعها»
« لا تقلق، إنّها هنا تحت رعايتي لريثما تعود سيّد ثائر»
ومأ هامّاً بالمغادرة للحاق بعمه ولكنّه وقف عند الباب يواجهه من جديد« أتمنى، أتمنى أن تبقي هويتها سرّية» صمت يشذّب ذقنه هارباً من نظرات الدكتور المتفحّصة مردفاً« كما حضرتك تعلم، هوية الذي كان برفقتها، إنّه، إنّه»
« لا داعي للشرح، أصلاً من قوانين المشفى هنا هو السريّة التامة، والموظّفين جميعهم يعلمون بذلك، فمن ضمن شروط بنود عقد العمل هنا، هو التوقيع على وثيقة تمنعهم من نقل أخبار المرضى أو التحدّث بخصوصها لأي جهة من الجهات، وإذ تم خرق ذلك البند سيواجهون عقوبات مشددة ومن ضمنها دفع غرامة مالية طائلة والطرد وإنتزاع الشهادة منهم.»
ومأ ثائر يطلق نفساً كان محقوناً بصدره وقال« شكرا لك مرّة أخرى، وكما إتفقنا، إذ حصل وسأل أحدهم عن هويتها فالنخبرهم بأنّها توفيت هي الأخرى في مكان الحادث وإستلمها أهلها رافضين الإفصاح عن هويتها.»
« لك هذا إذ كان ما ترغب به»
« نعم، نعم»
أخبره وخرج مسرعاً خلف عمّه يراه قد أصبح على مقربة من المصعد.
تبعه قلقاً عليه، لا يريد مناقشته فيتسبب بسوء حاله الصحي.
إنتشل هاتفه من جعبته يتفقد المتصل، إنّها هديل إبنة عمه، تغضّنت ملامحه حائراً بأمره، ماذا سيقول لها؟
ماذا سيخبرهم؟
ما هذه الكارثة التي وقعت فوق رؤوسهم، بكل تأكيد إنّها من فعل عدن، عدن الحقير، سيقتله، هذه المرّة سيقتله ويريح العائلة بأكملها من مجونه وشرّه وجبروته.
الآ يكفيه ما تسبب فيه لوالده من عار، مرغ إسمه بالتراب، حتّى وصل به المطاف بمدّ أذرعة دناسته الى بيت عمّه المسكين، ويطعن بشرف إبنته ويمرغه بالطين.
أخيه الأصغر الذي كان حتّى السنة الماضية صديقه ورفيق دربه، ربيب يديه الإثنتين، وإذ به يتحوّل بين ليلة وضحاها، من حافظ ومجوّد للقرآن الكريم، الى مغنّي لا يغادر الملاهي الليلية والسهرات الماجنة،
من كان أمل والده، أضحى عاره.
وها هو حوّل زهرة والدها الملوّنة واليانعة الى شوكة دميمة يرغب فقط بالدوس عليها تحت أقدامه وطحنها الى ذرّات لا تُرى بالعين المجرّدة.

دخل المصعد خلفه يراقبه عن كثب، قلقاً من ملامحه الشاحبة وصمته الكئيب.
«دعني أحجز لنا غرفة بفندق مجاور، ترتاح فيه لبضعة ساعات قبل أن نعود» أخبره علّه يعيد التفكير بما ينوي فعله، ولا يتسرّع به.
« أعدني الى القرية، وإيّاك ثم إيّاك أن تخبر أحد بما أخبرك به الطبيب» قال عماد بنبرة هادئة هذه المرّة، يعيد فرك صدره براحة كفّه.
« وماذا سنفعل بجنّة؟»
هرب عماد من نظراته، يشعر بالإختناق، بالدمع يهدد بالفرار من مقلتيه، بالخيبة تعتمل بروحه، والحزن يسكن جنباته والقهر يستوطن وجدانه، ولكنّه دفع كل تلك المشاعر المتخبّطة وقرر معالجتها بالتمرّد والإرتداد، جنّته ماتت يوم قررت أن تعصيه وتخطئ، يوم قررت أن تخسر شرفها ضاربة شرف عائلتها وأخواتها عرض الحائط، اليوم هو حزين على موت جنّته، سيدفنها ويرثي فقدها ومن ثمّ يمضي بحياته حاملاً سرّها وعارها فوق أكتافه الى حين مماته
« إيّاك وأن تجلب سيرتها على لسانك أمامي، جنّة ماتت ،سأدفنها اليوم على مرئ من أهل القرية، سنخبرهم بأنّنا كنّا على علم بسفرها الى العاصمة بداعي التجهيز لأوراق إنتقالها الى الجامعة، وما حصل كان حادثاً مروّعاً أودى بحياتها الطاهرة والشريفة»
« وإذ طابت، ماذا سنفعل حينها» قال علّه يحثّه على إعادة التفكير بما ينوي فعله.
فُتح باب المصعد فهمّ بمغادرته يتحاشى الإجابة على سؤال إبن أخيه، لا يريد أن يفكّر بإحتمال أن تطيب، لربما لا تستيقظ من غيبوبتها، لربما يتوقف قلبها وتموت، لربما يأخذ الله أمانته ويعفيه من مواجهة تلك الفاجعة، إذ ما يزال عنده أمانتان عليه أن يفكّر بمستقبلهن وسمعتهن...
جنّة إختارت مصيرها يوم خالفت أوامره وعصت دينها ولحقت بعدن، وهو الآن دوره بإختيار مصير أمانتيه اللتين تبقيّتا له من هذه الدنيا.
هديل وهدير....

******************************

ركن عدن سيّارته، أطفأ المحرّك وسكن داخلها يتنفّس برتابة، يحاول أن يحتوي مشاعره المتزاحمة بداخله، إنّه آخر الواصلين الى المستشفى، آخر المعزيين بموت صديقه أمان الذي خبر وفاته نزلت عليهم جميعاً كالصاعقة.
على ما يبدو أن الخبر أتاهم عند الثانية صباحاً، أمان توفي بحادث سيّارة مروّع إثر إصطدامه بشاحنة نقل محمّلة بالباطون.
حينها كان ثملاً وعاجزاً ومغيّباً عن الواقع، فلم يستوعب وقتها عقله الخبر، حتّى أنّه لا يتذكر بأنّهم أخبروه به، ولكن جهان عمد على العودة اليه صباحاً، أيقظه يخبره من جديد بأنّهم خسروا أمان بحادث سيّارة وعليه أن يصحى من سكرته ويأتي لتعزية رفاقه وعائلته.
تنهّد بعمق يفرك وجهه بعنف، فتح الصندوق الصغير بين المقعديين ينتشل بعض أقراص ( أدڤل ) مخفف للألم قذفهم بفمه يرتشف خلفهم بعض قطرات الماء، أخذ نفساً عميقاً يتفقد نفسه عبر المرآة.
عينيه حمراوتين كالدماء من أثر المشروب، وشعره أشعث من أثر النوم، وشكله مزري من أثر البكاء.
نعم لقد بكى على موت صديقه، أمان كان أوّل من آمن به وعرض عليه أن يكون المغني الرئيسي بفرقتهم، هو من فتح له باب الشهرة والنجاح، وها هو خسره دون سابق إنذار، خسره وهو بأوج نجاحه، وما يزال يخطو خطواته الأولى بسلّم الحياة.
تنشّق دموعه يخفي رأسه وبعض ملامح وجهه بقبّعة سترته ونزل من السيّارة مسرعاً نحو الداخل، غمس كفّيه بجعبتيه، وضع الأرض نصب عينيه وسار نحو المدخل يرجو أن لا يتعرّف عليه أحد، حسناً، هذا ثمن الشهرة التي يجدها في بعض الأحيان خانقة تحشر أنفها في كل مجريات حياته العامّة والشخصية.
تعدّى كاميرات الصحافى يتنفّس الصعداء عندما لم يتعرّفوا عليه ساهين بالأحاديث الجانبية، لربما لم يتوقعوا قدومه بهذه الهيئة المزرية، إذ يبدو كالمتشردين.
أسرع بخطاه نحو المصعد ممتناً لجهان الذي لقّنه كل المعلومات التي يحتاجها للوصول الى المكان الذي تجتمع فيه عائلة وأصدقاء أمان.

رفع رأسه لحظة فُتح الباب مصدوماً برؤية عمّه وأخيه، تراجع بضع خطوات يناظرهما بعينين متوسّعتين، لا يستوعب عقله سبب وجودهما، هل وصلهما خبر وفاة أمان فقلقا على سلامته؟
هل وأخيراً لانت قلوبهم وقرروا أن يصالحوه، يتقبلوا حياته الجديدة، يعاودون إحتضانه للعائلة بعد أن نبذوه وأنكروه.
ومن دون سابق إنذار، وقبل أن يستوعب الحاصل كان تحت قبضة ثائر الثائر، قبض على تلابيب قميصه يلكمه على وجنته بعنف يستطعم بالدماء داخل فمه، ضربه وضربه ومن ثم دفعه عرض الجدار خلفه هادراً به« أيّها الملعون، العديم النخوة والضمير، أيّها الديّوث، كيف سوّلت لك نفسك بإرسالها مع غريب بالسيّارة، كيف تسمح لها بالصعود بسيّارة رجل غريب وحدها في منتصف الليل» لكمه ودفعه عرض الجدار من جديد متابعاً« كيف تسمح لنفسك بلمسها، كيف تسمح لنفسك بتنديس برائتها، كيف تسمح لنفسك بتدميرها وتلويثها بعد كل ما فعلته بها، أيّها الملعون»
تجمّع الناس حولهما يحاولون إبعاد ثائر عن عدن، مستغربين المشاحنة الحادثة.
أبعدوا ثائر بالقوّة، وهو راح يقاومهم يحاول التحرر منهم ولكنّه عاد وسكن يتلفّت حوله بذعر يتفقد الحاضرين شاكراً الله على عدم وجود الصحافة الممنوعة من دخول المستشفى، والاّ كانت هذه المواجهة ستصبح فضيحة الموسم.
« ممنوع التصوير» صاح بأحدهم ينتزع الهاتف من يده هادراً به« أإلى هذه الدرجة أصبحت خصوصيات الناس مباحة لديكم، إنّنا في مشفى يا هذا، تحلّى ببعض الإنسانية» قلّب بالهاتف الى أن وجد الفيديو، حذفه وأعاده اليه يخاطب الجميع« إنّها مسألة عائلية، لو سمحتم تفرقوا» ومن ثمّ جذب عدن من ذراعه يدفعه نحو المصعد وعمّه خرج يخبره بنبرة مهتزة« أنت سافل ومنحط الأخلاق، وأقسم لك بأنّي لو كنت أحمل سلاحي معي لكنت أرديتك قتيلاً الآن وفي هذه اللحظة، من هذه اللحظة أنت بالنسبة لي ميّت تماماً كجنّة»
هربت الدماء من وجنتي عدن لا يتسوعب كلام عمّه، ماذا حصل لجنّة؟
ولماذا يقول ثائر بأنّها كانت بسيّارة أمان؟ ما الذي كانت تفعله بسيارة أمان؟
إهتزت مقلتيه يشعر بجسده ينتفض بعنف، هل كانت جنّة بالسيّارة وقت الحادث؟
ماذا حدث لها، هل هي بخير؟
أنت بالنسبة لي ميّت كجنّة.
جنّة ماتت!
لا، لا أرجوك يا الله لا، الاّ جنّة، سيموت من بعدها، أي شيئ، أي شيئ الاّ جنّة، الاّ جنّته.
إهتزت ساقيه عاجزتين عن حمله فإستسلم لوهنهما يجثو أرضاً على ركبتيه ويديه، شهق شهقة شعر بها تمزّق رئتيه وشرايينه، عاجز عن إحتمال كميّة الألم التي إغتالته فجأة، المٌ يفوق أي الم شعر به من قبل.
الصق جبهته بالأرض ينوح ويبكي كالأطفال، غير عابئٍ لمن يسمعه ويراه، جنّة هي الفتاة التي كانت برفقة أمان بالسيّارة عندما حصل الحادث المروّع، إنّها الفتاة المجهولة الهوية التي الجميع يتحدّث عنها ولم يكلّف أحد خاطره بالسؤال عن حالها، بحيث كان قلقهم جميعاً موجهاً إتجاه أمان، مفجوعون بموته، أمان عازف جيتار الفرقة المشهورة، معبودة الجماهير.
مرغ رأسه بالأرض ينوح فقده، يتردد صدى نواحه في الأرجاء، وثائر التزم الصمت يشاهد إنهيار أخيه الأصغر بحسرة، حزيناً على حاله ووضعه، إذ عمّه محق، هم خسروا عدن يوم طرده والده من المنزل ووقع طريح الفراش بسبب أزمة قلبية أصابته بسببه، دمّر عنفوانه وتجرأ على عصيانه، وأحرق وجدان والدته ووالده الذي كان يعمل ليلاً نهاراً كي يؤمّن له أقساط جامعته فخوراً بإبنه المهندس، مهندس لم يتخرّج، داس على شهادته تحت قدميه وركض خلف الشهرة والعربدة.
جثى قبالته يشعر بقلبه ينخلع من مضجعه، عاجز عن تحمّل إنهياره هذا، وعاجز عن مواساته، رفع بصره يشاهد عمّه يغادر المستشفى كأنّه لا يطيق أن يبقى للحظة إضافية بحضرته.
وبعد تردد لم يدم طويلاً، بسط كفّه على كتف أخيه يهمس له« لقد كنت الى آخر لحظة أؤمن بأنّك ستعود الى صراطك المستقيم، ستفيق من سكرتك وتفرّق بين الحق والباطل، ولكن بكل أسف، لقد خيّبت أملي بك، تماماً كما إستمريت بتخييبه مرّة تلو الأخرى لطوال الشهور الماضية، بحيث أتقنت فنّ الكذب والخداع، ومن ثمّ إمتدّت جذور جبروتك لتطال إبنة عمّك المسكينة، التي ما كانت تستحق أبداً ما أقدمت على فعله بها» صمت لبرهة يمسح دمعة غادرة من مقلته مردفاً بصوت مخنوق« يا خيبتي بك ويا حزني عليك، فأنت الآن حقّاً أضحيت إيدن، بحيث عدن مات اليوم بحق بالنسبة لي، وسأدفنه كما سيدفن عمّي جنّة»

تركه بأرضه وغادر المستشفى لاحقاً بعمّه، على أمل أن يوصله الى القرية ويعود الى جنّة، جنّة التي ما يزال لا يعلم كيف سيحل عقدتها ويقنع عمّه بعدم نشر خبر وفاتها.
******************************

وبقي عماد على عناده، وصل الى القرية وأخبر عائلته بأنّ جنّتهم ماتت، قتلت بحادث السيّارة ولأنّ الحادث تسبّب بتشوّهات عقيمة بوجهها وجسدها، سيتم غسلها بالمستشفى ودفنها مباشرة بمدفن العائلة بالقرية دون أن يسمح لأحد برؤيتها.
وبالرغم من معارضة ثائر للحاصل الاّ أنّه لم يتمكن من فتح فمه والتعليق، بل وجد نفسه مضطّراً للصمت مؤكّداً كلام عمّه الذي نزل على الجميع دون إستثناء كالصاعقة، جنّة كانت محبوبة الجميع، زهرتها اللطيفة التي كانت تغمر العائلة بعبيرها الفوّاح، رقيقة ذكية وحنونة دون إستثناء.
وبعد ذلك حصل كل شيئ سريعاً، بعد صلاة الظهر إجتمع الناس في حديقة المنزل وقادوا التابوت الذي يحوي جثّة جنّة الوهمية وقاموا بدفنها وأقاموا العزاء والجميع بحالة صدمة، لا يفهمون ولا يستوعبون كيف أن زهرة بأوّل عمرها تموت هكذا في ريعان شبابها، كيف أن حوادث السيّارات إزدادت حصيلتها مؤخراً، وكيف أنّهم دائماً يخسرون خيرة شباب القرية والقرى المجاورة بحوادث مماثلة دون أن يتّعض أحد من القيادة بسرعة ورعونة.

وعند المساء بعد صلاة العشاء غادر آخر نفر معزّي تاركين العائلة المحزونة تنعم ببعض الخلوة، شقيقتيها هديل وهدير لم تتوقفن عن البكاء للحظة، تجلسن بجوار والدهن الذي إحتضن كل واحد تحت إبط يبكي فقده، نعم، لم يحاول كبت دموعه، بل أطلق لها العناء يبكي فقيدته وبكره، جنّته التي كانت دائماً تذكره بوالدتها المرحومة التي فقدها منذ سنتين بمرض عضال فتك جسدها وسرقها منهم على غفلة.
حنانها الجارف إتجاه الجميع، إهتمامها بخدمته وتلبية طلباته دون تأفف أو تذمر، بل كانت تنتظر عودته من محل الكهربائيات المتواضع الذي ورثاه هو وأخيه كامل عن والدهما الشيخ عبد الكريم عقيل، فكانت تنتظر عودته مساءً كي تحضّر له عشائه وتجهّز له المياه الساخنة للإغتسال ولا تنام الاّ بعد أن تطمئن عليه كليّاً.
جنّته غدرت به، صفعته بعنف، ركلته بخاصرته ركلة قاضية، مزّقت تربية تسعة عشرة عاماً وبعثرت شرفه، جنّته عصت وكذبت وخانت وتخلّت، جنّة ماتت، نعم جنّته ماتت وله الحق برثائها وبكائها والنواح عليها.
إحتضن إبنتيه يلثم رأسيهن بحنان وهنّ إحتضنّه بتملك تبكين فقدهن على صدره، أختهن العزيزة وأمّهن التي إتخذت على عاتقها ذلك الدور بجدارة بعد وفاة والدتهن.
« أريد فقط أن أعلم ما الذي ذهب بها الى العاصمة دون أن تخبر أحد منّا؟» سألت هديل للمرّة المئة وهدير تململت هاربة من نظرة أختها الهائمة والحزينة، هل تخبرها بأنّها كانت تعلم بذهابها، بأنّها ساعدتها على إخفاء الأمر.
هي من ساعدتها على الذهاب، أعطتها مصروفها كي تدفع أجرة السيّارة التي ستأخذها، ولم تحاول أن تمنعها أو تنصحها بعدم الذهاب، جنّة كانت حزينة جداً ومنهارة تماماً، وكل ما كان يدور ببالها هو الذهاب الى العاصمة ومقابلة عدن، علّها تتمكن من إقناعه بالعودة لنيل رضى عائلته من جديد، لربما حينها ستعود حقبة الإستقرار التي كانت تنعم بها العائلتين.
ولكنّها إذ فتحت فمها وتكلّمت لن تتوقف الأسئلة، ولربما والدها يثور عليها ويعاقبها، ليس مهم السبب الذي دفعها للذهاب، المهم أنّ جنّة ذهبت ولم تعد، ذهبت الى المدينة وماتت، لقد فقدوها، ومهما حصل ومهما قالوا لن يتمكن أي شيئ من إعادتها.
« لن نتحدّث بهذا الموضوع أبداً يا بنات» تمتم عماد يمسح دموعه السخية«لقد أخبرت عمّكم وبقية العائلة بأنّنا كنّا نعلم بأمر ذهابها، بأنّها ذهبت بظرف طارئ كي تقدم بعض الأوراق الضرورية التي طلب منها للإنتقال الى جامعة العاصمة» صمت لبرهة يرتشف بعضاً من أنفاسه المتحشرجة مردفاً وهو يمسح على صفحة وجهه« لكل من يسأل، أختكم ماتت في طريق عودتها الى القرية ولكنهم تأخروا بإخبارنا بالموضوع لأنهم لم يتوصّلوا لهويتها الاّ متأخر»

*********************************

إنتظر حتّى أظلمت السماء من حوله ونزل من السيّارة الى السكون الكئيب الذي يحيط بالمنطقة، صمتٌ يعكّره صرير الزيز ونقيق البومة وحفيف أشجار السرو والشربين المحيطة بالجبّانة.
قشعريرة سميكة إنتشرت تحت جلده تنتفض على إثره شعيراته الدقيقة، أغمض عينيه المرهقتين يتنشّق بعمق وشق دربه وسط القبور ناشداً مقبرة العائلة.

لقد فقدها، فقد حبّ طفولته وعشق مراهقته وهوس أشهره الأخيرة، فقد جنّته بعد أن طردته منها منذ ثلاثة شهور، ثلاثة شهور شعر خلالهم بالحياة خالية خاوية، باردة وقاسية، كجحيم ينهش بروحه وكيانه، لقد كان غاضباً جدّاً منها، غاضب لدرجة أنّه ما كان يطيق سماع إسمها، ولكنّ غضبه الآن يفوق غضبه حينها، الآن يشعر بالعجز يكبّله، بالحزن يغمره، بالقهر ينتشر بصدره، لقد غادرت وتركته، تركته غاضباً، غاضباً ولكن ليس كارهاً، إذ بالرغم من كل شيئ، لا ينكر بأنّه حاول كرهها، حاول نسيانها والمضي قدماً بحياته، حاول وبكل أسف عجز.

جثى أرضاً بقرب قبرها الحديث العهد قابضاً على حفنة من التراب الرطب بين أنامله يبكي وينوح، يشهق كطفل صغير فقد عائلته بأكملها.
إستلقى بجوار قبرها يخاطبها بين شهقاته« سامحيني، أرجوك سامحيني، أعلم بأنّي أذيتك، ولكن صدّيقيني بأنّي فعلت ذلك عن غير قصد، عشقك دفعني للهوس والجنون، وأنت أكملت علي بشكِّكِ بي وعدم ثقتك، بغيرتك العمياء وتقلّبات مزاجك المجنون، وتهديداتك الدائمة بالتخلي عنّي، حتّى أضحت علاقتنا أشبه بالمنطقة الوسطى ما بين الجحيم والجنّة، يوماً تذهبين بي الى هنا ويوماً الى هناك»
دموعه غزيرة وشهقاته مريرة وأنامله تنبش تراب قبرها دون وعي منه، إندس بالتلّة الصغيرة يحتضنها يدفن رأسه بالتراب الرطب تزكّم رائحته أنفه، مرغ رأسه فيه يتمنى أن لا يصحى، أن يموت قبل طلوع الشمس فيدفنونه هنا معها، بذات القبر، لربما يُعفى من هذا الألم الذي إحتّل كيانه، ومن هذا الضجيج الذي يأبى مغادرة عقله، وصوت صراخها وغضبها خلال آخر لقاء حصل بينهما.
« أكرهك عدن، أكرهك لدرجة أنّي قادرة على قتلك بيدي هاتين» تمسّكت بتلابيب قميصه تهزه بعنف، شعرها يتطاير من حولها، مقلتيها مشتعلتين غضباً وأسنانها تصك ببعضها تحاول كبح جماح لسانها السليط.
« أتمنى لو أن عمّتي لم تنجبك لهذه الحياة، لو أنّك لم تكن إبن عمّي، لو أنّي لم أقع بعشقك منذ طفولتي، لأنّك لا تستحق، لا تستحق » صرخت بهيستيرية تطلق سراحه يترنّح جسده فإستند الى حاجب الباب يحاول فهم سبب غضبها هذا، لماذا هذا الغضب وهذه القسوة بالكلام، فهو لم يقترف أي خطأ يستحق عليه ثورتها هذه.
« ماذا حصل لك جنّة، ما هذا الجنون بحق السماء؟»
نعم، يومها إعتبر ثورتها جنون، غافلاً عن أنّها كانت آخر ثوراتها وآخر جنونها، تركته ليلتها، تخلّت عنه، قطعت آخر حبال الوصال بينهما دون أن تفسح له المجال بتبرير نفسه لها، بتبريئ ساحته من إتهامها، كأنّها كانت تفتّش عن مخرج من تلك العلاقة وعندما وجدته إنزلقت منه هاربة دون عودة، وهذا أكثر من أثار غضبه منها، كيف تتخلّى عنه بتلك البساطة، بذلك الإتهام الباطل، رافضة سماعه، كأنّها كانت خائفة من أن تجد تبريره مقنعاً فتضطر للعودة.
نعم، هذا ما فعلته جنّة به، تخلّت عنه وهو في أحلك فتراته ظلمة، وهو في أكثر أوقاته حاجة لها، تخلّت عنه دون أن تنظر خلفها أو تمنح ماضيهما وعشقهما فرصة.

موعدنا القادم إن شاء الله الثلاثاء القادم
بإنتظار أرائكم


امل القادري غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس