عرض مشاركة واحدة
قديم 13-09-19, 12:00 AM   #7

AyahAhmed

كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 451462
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,566
?  نُقآطِيْ » AyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الأول

الفصل الأول

تتهادى في تنورتها الواسعة بخُطى واثقة و عملية...تتحرك بين أروقة هذه المدرسة الثانوية لتصل في ميعادها المحدد للحصة... تحتضن الكتب الخاصة بالمعلمين بين يديها النحيلة...وجهها الخمري ينبض علمًا و خبرة...

طرقت باب الفصل كعادتها مع طلابها...لا تحب أن تتعامل معهم بطريقة قديمة الطراز...حيث المعلم هو مصدر الخوف و الترقب من الطلبة...دخلت الفصل لتجد الفتيات يجلسن في أدبٍ و هناك بسمة كبيرة تشق وجوههن المراهقة الحالمة بمستقبل مزدهر...تعشقهن و تعشق طموحهن اللانهائي...وضعت كتبها فوق الطاولة الخاصة بها ثم ألقت السلام لهن و بعدها بدأت في كتابة الدرس...

معادلة شهدت هي بنفسها أنها من أصعب ما قد يراه الطلبة يومًا...خصوصًا في بداية العام الدراسي...لكنها تعمل بكل تفاني لتصل لهم كل أنواع الأسئلة المتاحة كي يعتدن عليها منذ البداية...ضيقت عينيها ببسمة تنظر لهن و التعجب يسيطر على ملامحهن الرقيقة...تعرف جيدًا أن هناك ثلاثة فتيات فقط من يستطعن حلها و تعرف ترتيبهن في سرعة الحل...

صدح صوتها الرقيق تقول بلهجة تشجيع:
(هيا يا فتيات المعادلة الرياضية تحتاج بعض الوقت و لكنها سهلة و أنتن ممتازات...)

برمت شفتيها بشكل أقرب للطفولي و هي تقول بنبرة مقصود منها بث روح المنافسة بينهن:
(آه...أعتقد أن فصل البنين أقوى منكن...لقد وصلوا لحلها في عشر دقائق فقط!)

اعتزت بقوتها في السيطرة على الوضع...فها هن يسرعن بكل روحهن لحل هذه المعادلة...التمعت عيناها حينما صدر صوت طالبة منهن تقول بفرح:
(لقد حللتها آنسة "زينب"...)

ابتسمت لها "زينب" بسعادة لكن يبدو أن ترتيبها الخاص قد تغير...فقفزت الطالبة ذات الترتيب الثالث في بالها على الطالبة ذات الترتيب الأول...لا بأس فهي متأكدة من وصولها للحل في النهاية...بعد لحظات صدح صوت طالبة أخرى تقول بخفوت ناعم و رقيق كوجهها الأبيض الوردي:
(آنستي...لقد حللتها)

اومأت لها "زينب" ببسمة رائعة ثم نظرت حيث الفتاة المرجح أن تنطق بعدهما...لقد تخلت عن المركز الأول و الثاني و هذا من غير عادتها...تعرفها حق المعرفة طالبة مجتهدة و متميزة بكل ما في الكلمة من معانٍ...لكن يبدو أن المعادلة صعبة للغاية عليها...بعد لحظات اُخر صدح صوتها أخيرًا...صوت متعب من أثر التفكير لكنه واثق لأبعد حد...عيناها البنية اللامعة بذكاء محتمية خلف نظارة طبية تعطيها هالة من الطفولية رغم نضج ملامحها...
(أنهيتها أخيرًا...)

بسمتها المنتصرة و صوتها السعيد جعل المعلمة تبتسم ملئ فمها...تحبهن جميعًا لكن هذه الفتاة لها مكانة خاصة في قلبها...ليس تمامًا لكنها تُذكرها بنفسها في الماضي...

لتكن منصفة منحت باقي الطالبات دقائق إضافية...لكن كما ظنت ليس هناك سوى الثلاث فتيات من سيفعلها...قالت بصوت حاني و مشجع للغاية:
(حسنًا يا فتياتي لقد أزف الوقت...أتركن القلم)
بعدما علا صوت الهمهمة اليائسة من الفتيات...قالت لهن برقة و صدق:
(حبيباتي إنها مسألة تفاضل شديدة الصعوبة...أنا شخصيًا قطعت بها وقتًا طويلاً بالأمس لذا لا بأس...)

اتجه بصرها حيث الثلاث فتيات...قويات ، واثقات ، مبهجات و جميلات جدًا بالخصوص أقربهن لقلبها...قالت بصوتها الرقيق:
(هيا يا فتيات كل واحدة تعطي الرقم النهائي بالترتيب...)
خرجت الأولى من خلف مقعدها...ليظهر جسدها النحيل و شعرها القصير يتمرجح فوق وجهها الأبيض ذو حبات النمش...
(إجابتي هي ٣.٤٥)

أحتل الأسف معالم "زينب" ثم قالت بصوت حاني:
(شكرًا لمجهودكِ و سرعتكِ في الحل يا "ملك" لكن للأسف إجابتكِ خاطئة)
شعرت الفتاة بالحرج رغم ملاحظتها للأعين المشجعة لها من زميلتها...عادت فوق مقعدها تعيد حل المسألة مجددًا...

نظرت "زينب" إلى الثانية الرقيقة ذات الوجه الأبيض الوردي... خرجت الفتاة على استحياء من خلف مقعدها و وقفت بالقرب من المعلمة تقول:
(هل هي ٤.٢؟)
ضربت "زينب" فوق طاولتها بحماس ثم هتفت كالأطفال:
(قريبة جدًا يا "رحمة" جدًا يا فتاة لكنها للأسف خطأ!)

لم يبقَ سواها بنظرتها الثاقبة و عيناها اللامعة و ثقتها الكبيرة...خرجت بجسدها الممشوق الأقرب للنضج من خلف المقعد...شعرها شديد السواد ملتف كعكعة كبيرة في منتصف رأسها...رفعت رأسها بحماس و علا صوتها تقول:
(٤ و بعد أخذ الجذر التربيعي لها ستصبح الإجابة ٢ هذا لأن السؤال يطلب منا قيمة 'س' فقط بينما نحن وجدنا قيمة 'س' تربيع...)

نظرة الفخر و الاعتزاز التي خرجت من مقلتي "زينب" عبروا عن مدى ذكاء هذه الفتاة...لم تشعر بنفسها غير و هي تصفق بقوة و تشجيع لها...جميع الطالبات رمقنها بفرحة لقد نجحت كالعادة في كل ما تدخل به...قالت "زينب" بعد مدة بصراحة:
(توقعت أنكِ الأولى في حلها...مع احترامي لكل حبيباتي هنا لكن تعرفن مدى قوتها)

...............................

في فناء المدرسة...جلستا الفتاتان معًا يتناولان طعامهما...قالت "رحمة" بإعجاب كبير فصديقتها المقربة دومًا ذكية و ذات عقل منير:
(كيف لم يخطر ببالي الجذر التربيعي... أنتِ مبهرة كالعادة)
ابتلعت ما في جوفها بسرعة...بعدها نظرت لصديقتها بمحبة فقالت:
(كنت سأنسى الجذر التربيعي تمامًا لكنكِ تعرفين وسواسي يظل ينبش في عقلي مع كل مسألة و يجعلني أعيد حلها ألف مرة لأتأكد من صحتها...)

ضحكت "رحمة" بخفوت رقيق ثم حملت عبوة العصير ترتشف منها بنعومة...بعدما أزاحتها قالت لصديقتها برفق:
(أنتِ تضغطين على نفسكِ كثيرًا في الدراسة بينما أنتِ ذكية ولا تحتاجين كل هذا التوتر في بداية العام الدراسي)

أعادت نظارتها الطبية في مكانها بيدها كحركة معتادة منها...ثم ابتسمت بتهكم مرير تجيب بصوت ساخر:
(ألا تعرفين قواعد أبي المائة و خمسين بعد الألف؟!... من ضمنهم الحفاظ على المستوى الدراسي و مرتبة الشرف)

ضحكت "رحمة" بحياء ثم قالت بصوت خافت :
(قواعد والدكِ دومًا قاسية...)

حاولت "رحمة" تغيير الموضوع بعدما لمحت تبدل ملامح وجه صديقتها لامتعاض بسبب صرامة والدها...قالت ببهجة حقيقية:
(دعينا من كل هذا...بعد خمسة أيام سيحل عيد ميلادكِ الثامن عشر)

عقدت الأخرى حاجبيها بضجر قائلة بصوت غاضب قليلاً:
(هل تودين تقليب المواجع فوق رأسي اليوم؟!...)

كتمت "رحمة" ضحكتها بصعوبة و هي تراقب تذمر صديقتها من هذه السيرة تحديدًا...ناغشتها تقول بتعجب زائف:
(لا أعرف لماذا تكرهين كونكِ أكبر منا بأشهر قليلة!!!)

وضعت شطيرتها بحدة في العلبة المخصصة للطعام...ثم نظرت بغضب إلى "رحمة" تقول من تحت ضرسها:
(جربي أن تضعي نفسكِ مكاني... جميع الفتيات حولي لم يتممن عامهن السابع عشر بعد بينما أنا كعجوز شمطاء عبرت الثامنة عشر!!...)

علت ضحكة "رحمة" و قد نست الخجل المتميزة به دومًا...قالت بعد فترة بصوت متقطع من الضحك:
( أشعر أنني أتحدث مع جدة عبرت عامها الثامن عشر بعد المائة!!!... أنها ستة أشهر فرق بيني و بينكِ !... ثم لا تركني لحديث كل عام و تسخرين من شهر ميلادكِ و تتهمينه أنه السبب في تأجيل دخولكِ المدرسة عامًا كاملاً..)

مطت شفتيها الناعمة للأمام ...ثم نظرت لصديقتها تقول بسخرية:
(العيب كل العيب على والداي...هل قال لهم أحد أن يأتون بيّ إلى هذا العالم في الوقت الضائع؟)

تلون وجه "رحمة" بحمرة الخجل ثم ضربت صديقتها برفقٍ فوق كتفها تقول بمعاتبة:
(اصمتي أيتها المصيبة نحن في المدرسة!...)

انفجرتا الاثنتان معًا في نوبة ضحك عالية صاخبة و مرحة...تأملت "رحمة" صديقتها بحب ثم قالت بصوت متأثر:
(أتمنى أن تدوم صداقتنا للأبد...)

اعتدلت الاخرى تنظر لها ببسمة كبيرة...عدلت من وضع نظارتها ثم قالت بصدق:
(لن نفترق يا فتاة مهما حدث...)

بعدما سمعتا صوت الجرس جمعتا أغراضهما و اسرعتا إلى الفصول...تأخرت "رحمة" في الخلف بسبب القاء بعض القمامة المخلفة عنها...راقبت ظهر صديقتها المقربة ثم ابتسمت بحنان...نادت عليها بصوتها الناعم الرقيق فالتفتت لها الأخيرة لتجدها تهبها أروع بسمة في الكون ثم قالت بكل حب:
(عيد ميلاد سعيد..."رُبى")

رغم التعجب الذي لاح على وجه "رُبى" إلا إنها عدلت من وضع نظارتها ثم ابتسمت بسعادة تقول:
(بقى خمسة أيام يا "رحمة"...لا تعكري صفو مزاجي بتذكيري أنني عجوزة...)

تقدمت منها "رحمة" لتتعلق بيدها ثم تسحبها حيث الفصل... بينما تقول بسخرية مغيظة:
(هيا عجوزة البحيرة "رُبى الحسيني"!)

ضربتها "رُبى" فوق رأسها بيدها بكل قوتها...جعلت "رحمة" تأن بصوت خافت فضحكت "رُبى" تقول بتشفي:
(هكذا سيكون نصيبكِ كلما تحدثتِ عن سني...)

............................

(لا يجيب مجددًا...توتري بلغ أقصاه و خوفي عليه زاد)
تحركت بين أرائك الصالون الفخم بجسدها الرشيق...في ثيابها التابعة لصيحات الموضة لنساء الأعمال... رغم سنها الذي رحب بأواخر الاربعينات إلا أنها تشع حيوية و نضارة غير معهودة من مثيلاتها...شعرها البني المجموع في عملية فوق رأسها ...عيناها شديدة الذكاء باللون البني الفاتح كعيني ابنها الأصغر تمامًا...لكنهما الآن محاطتان بالخوف...منذ عرفت الخبر صباح اليوم و هي تخشى من موقفه...لقد دفع من روحه ليعلو بالشركة كما لم يفعل أحد من قبل...تتذكر جيدًا بعد فترة وفاة والده أنها استلمت رئاسة الشركة حتى ينهي تعليمه...لقد نهضت بها و لكن ليس كما فعل هو...عادت ترفع هاتفها النقال فوق أذنها من جديد ليصلها نفس الرنين الطويل دون إجابة...



صدح صوت امرأة مرتعش بفعل الزمن من جوارها...التفتت تتطلع إلى حماتها فوق الأريكة...تجلس بقلق واضح هي ايضًا على حفيدها الكبير...لكنها تحاول قدر الإمكان إظهار التماسك أمام الغير حتى زوجة ابنها...
(توقفي عن معاودة الاتصال يا "سوزان"... "أحمد" ليس صغيرًا لكل هذا القلق!)

جلست جوارها تنظر لها طويلاً...إنها ترتعش بفعل الخوف عليه لكنها تكابر كي تظهر صامدة...قالت بصوت متوتر لكنه ساخر:
(يدكِ ترتعش يا سيدة "دلال"... بالله عليكِ لا تخبريني أنني أزايد في خوفي)

لمعت عينا "دلال" بقوة ثم نظرت لزوجة ابنها الراحل بوجع فقالت بوهن:
(دعيني أصبر نفسي أنه بخير...كُفي عن الاتصال و اللف حولي كل دقيقة بينما يتساقط من جوانبكِ القلق الذي يتلف أعصابي خوفًا عليه)

هدأت ملامح وجه "سوزان" قليلاً...فربتت فوق كتف حماتها تواسيها بصمت...قالت بعد فترة بصوت خافت:
(أعرف أن ابني قوي لكن الصدمة كبيرة علينا ما بال هو؟!!!)

رفعت "دلال" كفها المجعد فوق كف زوجة ابنها تربت عليه بدورها لبث الأمن فيها... فقالت بصوتها الدافئ:
(حفيدي قوي دومًا... لقد مر بالكثير الذي جعل منه صلب يتحمل المصاعب)

تنهدت "سوزان" عاليًا فقالت بقلق:
(الصلابة تقتل الروح و هذا ما أخشاه...)


اغمضت "دلال" عينيها بجزع على حال حفيدها الأكبر...هذا الشاب الذي استلم خبر وفاة والده في عمر التاسعة عشر حينما كان في أولى سنوات الجامعة...طمر الحزن بعيدًا في وقت قياسي ليصبح والدًا لأخيه الصغير الذي بلغ حينها أربعة عشرة سنة...مع دراسته تابع العمل في شركة والده لمساندة والدته التي برزت بجهودها بشكل كبير...و بعد تخرجه استلم الشركة ليتربع عرش السوق لفترة طويلة جدًا...متناسيًا في كل هذا نفسه التي أنزوت في عمق روحه بهدوء غير عابئة بمتطلباتها...لقد وضعهم نصب عينيه قبل أي شيء...

فاقت من ذكرياتها على صوت حفيدها الأصغر حينما قال بلهفة خائفة:
(ألم يعد بعد؟!...)

وقفت "سوزان" بسرعة تتجه نحو ابنها الصغير تقول برجاء:
("مصطفى" أذهب للبحث عنه رجاءً...رأسي يكاد ينفجر من التوتر)

ربت "مصطفى" فوق كفها بحنان ثم قال بصوت ثابت كي لا يلمحا به الخوف هو ايضًا:
(أخي يحتاج البقاء بمفرده يا أمي... بالتأكيد هو بخير لكنه بحاجة للوقت )

ترك والدته التي لم تقتنع بحرف واحد منه وعادت تتصل بأخيه...جلس جوار جدته يناكف بها رغم رعبه الدفين:
(كيف حالكِ يا "دولي"؟!... لا تخبريني أنكِ مرتعدة على أخي كما تفعل أمي!!)

نظرت له جدته نظرات قلق التقطها هو فورًا لكنها قالت بثقة:
("أحمد" بخير هذا ما أشعر به...)

اومأ برأسه لها في محاولة لرسم بسمة صغيرة لكنه فشل...لن يكذب و يخبر نفسه أنه مطمئن...هو مثلهما أو أكثر لو حدث شيء لأخيه سيفقد الأب و الأخ و الصديق دفعة واحدة..."أحمد" بالنسبة له أكبر بكثير من كلمة أخي...دعا من قلبه أن يعود لهم سالمًا...ليس مهمًا خسارة الشركة أو فقدانهم لرئاسة سوق التعمير والاسكان...الأهم هو حال أخيه أن يعد إليه ليضمه و يشعر معه بالأمان!...

وسط كل القلق و الرعب المتدفق في عروقهم...دخلت المربية "حنان" عليهم تقول بلهجة مطمئنة و مرتاحة للغاية:
("أحمد" عاد الحمد لله)

التفتت "سوزان" إليها بسرعة البرق...بينما اسرعت "دلال" لتقف بمساعدة "مصطفى" الذي غزت الراحة وجهه و جعلته يستكين بحمد لله كبير...تقدمت منها "سوزان" تقول بلهفة:
(متى جاء؟... و كيف حاله؟)

اجابتها "حنان" بصوت سعيد لعودة "أحمد"... فهو بالنسبة لها ليس مجرد رب العمل...هو في مكانة ابنها الذي لم تتزوج بعد لتنجبه...لقد ربته بحب طيلة سنوات حتى ضاعت في زحمة عدهم ليصبح عمرها الآن أثنين و أربعين سنة...
(لقد جاء قبل دقائق من باب المطبخ الخلفي...يبدو عليه الإرهاق و التعب الشديد...قال سيصعد غرفته يرتاح و حينما يستيقظ سيتحدث معكم في أمر هام...)

امتزجت الراحة بخلاياهم لتجعلهم يستكينوا بعد عذاب نفسي مرير... لا بأس بكل ما مروا به ففي النهاية هو هنا بينهم...

..........................

وقفت أمام باب بيتها الكبير ذو البوابة الحديدية في الحي الراقي...تحمل حقيبتها المدرسية الثقيلة بتعب...بعد لحظات من طرقه فتحت لها الخادمة ببسمة كبيرة ثم أسرعت لتحمل حقيبتها منها...دخلت "رُبى" البيت و هي تهمس بوجل:
(هل أبي هنا؟!...)

هزت الخادمة رأسها نفيًا ثم همست مثلها تقول:
(حظكِ من السماء و الدكِ تأخر اليوم على غير العادة...)

تنفست الصعداء ثم نزعت حذائها و وضعته في مكانه المخصص بينما تربت فوق معدتها المسطحة و التي تكاد تختفي خلف ثياب مدرستها...قالت بصوتٍ مرهق:
(هذا جيد...لكن معدتي ستموت جوعًا ، ماذا يوجد على الغداء؟!)

ضحكت الخادمة ثم تقدمت منها تحمل سترة المدرسة بينما تقول:
(لا غداء دون والدكِ...هيا إلى الأعلى بدلي ملابسكِ و استحمي قبل أي شيء)

برمت "رُبى" شفتيها بحزن مصطنع قائلة:
(و لا حتى لقمة واحدة؟!... رائحة محشو ورق العنب يداعب أنفي الحساس)

عدلت الخادمة من وضع حقيبتها فوق يدها بسبب ثقلها ثم قالت بمزاح:
(أنفكِ الحساس!... و الله حاسة شم الطعام لديكِ توازي سرعة التقاط الرادار للسيارات)

بعدها رفعت الحقيبة فوق كتفها بنزق تقول:
(ما هذه الأثقال التي تحملينها كل يوم آنسة "رُبى"؟!.. كتفي سينخلع من خمس دقائق فقط!)

دخلت إلى الممر المؤدي للصالة تقول بسخرية:
(آه يا "كريمة" ففوق كتفكِ تحملين أطنان من المعلومات داخل كتب استاتيكا و ديناميكا و رياضة بحتة و رياضة تطبيقية و غيره الكثير...)


عقدت "كريمة" حاجبيها في غباء جاهل ثم قالت ببساطة دفعت "رُبى" للضحك:
(العلم لا يُقدر بالمال...)

قالت "رُبى" بعدما هدأت ضحكتها بصعوبة بينما تربت فوق كتف الخادمة:
(أين أمي؟...)

أشارت لها "كريمة" حيث طاولة السفرة التي تقف عندها والدتها تضع أطباق الطعام...تقدمت منها ابنتها ثم احتضنتها من الخلف و أراحت رأسها على ظهرها تقول بصوت هادئ:
(مساء الخير أمي...لماذا تعملين أنتِ؟ ، دعي "كريمة" تفعلها!)

التفتت لها والدتها ببسمة صغيرة...نفس لون العين البنية اللامعة...نفس لون البشرة البيضاء...نفس رسمة الأنف المنمق و الفم الناعم...كلها ظهرت كإصدار مستقبلي لأبنتها "رُبى"... ضمتها بحنان تربت فوق ظهرها قائلة بصوتها الهادئ:
(والدكِ يحب أن يأكل من يدي...حتى ترتيب السفرة يحبه بطريقة معينة أفهمها أنا..)

تحركت زاوية فم ابنتها للجانب كحركة ساخرة ممتعضة فقالت:
(لا أعرف كيف تتماشين مع قواعد أبي بهذه السهولة؟!... أقسم لو كنت مكانكِ ليومٍ واحدٍ كنت جننت بسببه)

صوت والدتها الحاد و الرافض خرج فجأة ليجعل جسدها يجفل لوهلة...
("رُبى" أنتبهِ إلى حديثكِ عن والدكِ...)

خرجت من بين أحضانها و لون خديها يميل لحمرة الغضب...تكره أن يعنفها أحد لأنها ببساطة ليست مخطئة...وضعت عينيها أرضًا ثم خرج صوتها الخافت تقول بسرعة:
(أسفة لن تتكرر...)

شعرت "رباب" أنها قست عليها قليلاً...تعرف صغيرتها جيدًا فتاة عنيدة ، جامحة ، طموحة و الأصعب أنها ترى والدها متحكم في حياتهم بطريقة مجحفة...تنهدت قبل أن تضمها مجددًا تقول بصوتها الحنون:
(حبيبتي والدكِ رجل طيب القلب لكنه يحب النظام في كل شيء...لقد بدأ حياته من الصفر و لذلك فهو يقدر قيمة الوقت و المال...يريد أن نحيا في رخاء و سعادة لكن بطريقته الخاصة...ربما يشعر بما يفعله أنه يحمينا و يحرسنا من بشاعة الحياة التي اتعبته من قبل... رجاءً ابنتي لا أريد أن اسمع هذا الحديث عن والدكِ مرة أخرى)

اومأت لها برأس منخفض من داخل أحضانها...مظهرها الحزين جعل والدتها تئن عليها... لذا أسرعت تقول بمرح:
(اتصلت "ريهام" اليوم...)

ما حسبته حدث لقد تحفزت ملامح "رُبى" كثيرًا و ملأها النشاط...فخرجت من أحضانها تقول ببسمة شقية و لهفة بدت في صوتها:
(حقًا!... كيف حالها هي و "معاذ"؟!... و ماذا عن عنزتها الصغيرة؟!)

قطبت "رباب" حاجبيها مستاءة من وصف ابنتها فقالت بلهجة دفاعية:
(لا تقولي على الرضيعة عنزة...لو سمعتكِ "ريهام" تنعتين الصغيرة بما لا تحب ستعلقكِ فوق الدولاب كما كانت تفعل من قبل...)

شمخت "رُبى" أمام والداتها تستعرض طولها الجديد...لقد نمت بمقدار سريع مقارنة بزميلاتها لتكن أولهن في طرق باب النضوج...هيئتها و ذكائها و قوة شخصيتها يعطيها هالة من النضوج المحبب لوالدتها...كم تصبح الأم سعيدة برؤية صغارها يكبرون تحت جناحيها ليواجهوا الحياة بحكمة و عقل...
(لا أيام التعليق فوق الدولاب ولّت و انتهت...لقد أصبحت أطول منها هي شخصيًا...ثم أني أقول الحق فابنتها حينما تبكي ترتعش شفتاها الوردية الرائعة و يصدر صوتها الرفيع المتقطع كعنزة ...)

ضحكت "رباب" بشدة و هي تركب صوت حفيدتها الأولى على وصف ابنتها الجديد...قالت بضحك:
(يكفي يا "رُبى" و الله لو عرفت أختكِ حقًا لأقامت قيامتنا...)

أمسكت كف ابنتها بين يدها تمسح عليه بحب...قالت بصوتها الهادئ المختلط بخنقة البكاء:
(لقد اتصلت اليوم تسألني ما ينقصكِ لتحضره لكِ كهدية عيد ميلادكِ الثامن عشر...)

لمحت البكاء في صوت والدتها رقيقة المشاعر...فسارعت لتخرجها من هذا الشعور بأن بناتها كبرن و أصبحن مستعدات لمواجهة الحياة...قالت بمرح:
(لماذا العجلة؟!... عيد ميلادي بعد خمسة أيام أم أنها تخشى أن تثير حنقي كما فعلت في السنة الماضية)

تبدلت ملامح وجه والدتها لتضحك مجددًا بينما تقول بعدم تصديق:
(حقًا لا أصدق ما فعلته معها لقد ألقيتي الهدية في دولاب التخزين أمام عينيها المذهولة....)

أشاحت بوجهها بعيدًا تقول بتشفي:
(تستحقها و الله... لا أعرف أين كان عقلها و هي تهدي شابة في عمر السابعة عشرة عروسة بلاستيكية تتحدث 'ماما ماما'؟!!!!)

قرصتها والدتها من خدها بلطفٍ تداعبها قائلة:
(لا بأس لقد تعلمت الدرس و اليوم اتصلت تخبرني أنها تود شراء سلسال ألماس لكِ حينما اخبرتها أنه لا ينقصكِ شيء...)

رفعت "رُبى" حاجبيها للأعلى كحال شفتيها بتقييم راضٍ عن هوية الهدية...فقالت بصوت مرتاح:
(هكذا هي الهدايا...فلنجعل زوجها العزيز يتكلف بعض المال)

صدر صوت "رباب" يقول بتوبيخ:
(لا تنسي أن زوجها العزيز هو ابن أخي العزيز لذا سأحامي له...)

برمت شفتيها بحزن طفولي ثم قالت مازحة:
(حسنًا يا أمي من سيشهد للعروسة...من يدري ربما لم أكن هنا في عيد ميلادي الحياة فانية... كلها أقدار...)

عقدت والدتها حاجبيها بعدم فهم ثم وجهتها ناحية السلم تدفعها برفقٍ قائلة:
(لا وقت لفلسفتكِ الغير مفهومة هذه...هيا للأعلى فوالدكِ على وصول....)

قبل أن تبتعد عن السفرة سحبت طبق محشو ورق العنب معها ثم هرولت بعيدًا عن والدتها بينما صوت "رباب" يعلو برفضٍ لتناول الطعام في غرفة النوم!....

..........................

يطالع صورته المنعكسة فوق مرآة حمامه...شعره المبلل تتساقط منه قطرات الماء لتشق طريقها عبر صدره الرياضي العضلي قمحي اللون كحال بشرة وجهه لتستقر فوقه...استند بكفيه فوق الحوض الرخامي زيتوني اللون...يتنفس ببطء و حذر و كأن أنفاسه محسوبة عليه!... عقله شريد في لقاء كان قبل ساعات...لقاء سينجده من كارثة السقوط و لكن ثمنه كبير جدًا...عاد ينظر في عمق عينيه البنية الغامقة من يراه يعتقد أنه يريد سبر أغوار نفسه من شدة التدقيق فيهما!... استقام بتعب مرسوم على ملامحه ليتنهد بثقل ويهمس بخفوت مسلوب الإرادة:
(هل ستضحي يا "أحمد"؟!...)

خرج من حمامه إلى غرفته ذات الطابع الذكوري...ينتشر اللون الزيتوني الغامق على جدرانها بكثرة ، مختلطًا بلون الحليب...ألقى على سريره العريض المنشفة التي كانت فوق عنقه...ثم اتجه ناحية الدولاب ليخرج قميصًا قطنيًا بيتيًا يرتديه فوق سرواله القطني الاسود...بعدما صفف شعره بلا اهتمام زفر بحدة و اتجه إلى باب الغرفة ليقابل عائلته...مواجهة محتومة و قرار مصيري كُتب عليه...

لا يزال يهمس لنفسه بخفوت و كأنه يريد أن يجد الإجابة التي فشل في ايجادها هو!:
(هل ستضحي يا "أحمد"؟!...)

هبط السلم المؤدي إلى غرفة الجلوس و رأسه تتهشم بين قرارات و صراعات لا مفر منها...وحوش ضارية باتت تستوطنها لا تدعها تهدأ ولو قليلاً!... حينما أوشك على الوصول لنهاية السلم رفع رأسه ليواجه صورة والده الراحل في منتصف الصالة الكبيرة...و كأنها وجدت هنا من أجل هذه اللحظة الحاسمة في حياته...و كأنه يلتقط منها إشارات غير مرئية و لا يفهمها سواه...

أغمض عينيه للحظة ثم سحب نفسًا عميقًا يملأ صدره الذي ضاق ذرعًا من تكاثر التفكير به...نزل للأسفل و قد شعر أن الشاطئ أقترب ليرسو بسفينته كقبطان لا يعرف الخسارة...لقد حُسم الأمر و لن يهتم بالعواقب...

مجتمعين جميعهم في انتظاره... ثلاثة أزواج من الأعين متعلقة بباب غرفة الجلوس...و ثلاثة قلوب تتمايل على لحن صخب بات يعلو داخل عقولهم..."سوزان" تفرك كفيها بتوتر كبير بينما "دلال" تسند ذقنها فوق عكازها الخشبي حتى "مصطفى" يزفر بقلق بين اللحظة و الأخرى...كانت أول من ألتقط دخوله فهبت واقفة تهتف بقلق من هيئته المزرية:
(بني هل أنت بخير؟!)

نظر لها طويلاً و قد فشل في استمرار التحديق بها فأنزل عينيه بخزي...أوجعها قلبها عليه أرادت أن تصرخ به لا تنحني فأنت جبل شامخ يا بني...لكن كلماتها كُتمت في وجع بداخلها...أي كلمات ستخفف عنه وطأة الضغوط التي يعيشها الآن... عاد ينظر إليهم مجددًا ليجيب بصوت واهٍ لأول مرة يسمعوه منه:
(أنا بخير أمي...من فضلكِ اجلسي أريد الحديث معكم في شأنٍ هام...)

تأهبت الأنفس و اتسعت العيون تحضيرًا لما هو قادم على قوله...عادت "سوزان" تجلس فوق كرسيها جوار ابنها الأصغر لتمنحه كل اهتمامها...جلس "أحمد" و الهم يتقطر من عينيه التي لم تتذوق سوى النصر دومًا...لكنه حال الدنيا بكل بساطة!... نظر لهم بالتساوي نظرات شيعت أسفه قبل أن ينطق لسانه...
(أعرف أنني أقحمتكم معي في مصيبة كبيرة...لكني أقسم الأمر كان خارج نطاق سيطرتي...الأزمة عالمية و قد طالت شركات كبيرة في مختلف المجالات...أعلم أنه عذر أقبح من ذنب لكن...لكن رجاءً سامحوني)

هتفت "دلال" بصوتها الذي حوى تجارب السنين تقول بثقة:
("أحمد" لم أعتدك ضعيفًا بني...الإنسان يظل يتعلم حتى أخر يوم في عمره و على الذكي أن يستفاد من دروس الآخرين...السقوط ليس النهاية لأنه يفتح لنا بابًا لم يكن في الحسبان...باب نظنه هلاكنا لكنه الملجأ الوحيد لنا من بشاعة الدنيا)

رفع رأسه إلى جدته بسرعة...كأنها تعرف ما به و تيسر له الأمر!!... كأن روحه و ما يخفيه بداخلها باتت شفافة أمامها تقرأ سطورها بحرية...حدق بها طويلاً و كأنه يشكو لها مُر العلقم في حلقه...كأنه يريد منها حنانًا خاصًا لطفل وضع أمامه امتحان شديد الصعوبة دون أن يستعد له...عقله أخذ يردد جملتها الأخيرة يوزنها بحكمة و ينظر لها بمنظور المستقبل... المستقبل الذي بات مجهول المصدر...
(باب نظنه هلاكنا لكنه الملجأ الوحيد لنا من بشاعة الدنيا...)

على إثر هذه الجملة التي سحبته من العالم لترميه في عقله الباطن تدور فيه أموره...فاق لينظر لهم نظرة اكتسبت بعض الثقة فقال بلا تردد:
(لقد وجدت هذا الباب...)

عقد "مصطفى" حاجبيه بجهلٍ فقال بينما يوزع نظراته بينه و بين جدته و والدته:
(عن أي باب تتحدث؟!...)

زفر ببطء ممتزج بالترقب فقال:
(اليوم عرض عليّ "هاشم الحسيني" الشراكة لينتشل شركتنا من الوضع الصعب...)

تهللت اساريرهم بشدة بعد خبر كهذا...و قد لاحظ هو هذا التغيير...شعورهم بالراحة دفعه لتنفيذ ما فكر فيه دون مزيد من القلق أو التروي...من وسط الراحة قذف قنبلته بينهم لينتشلهم بقسوة من حياة هادئة و يضعهم أسفل القصف الناري و كأنهم في حرب ضارية تتساقط من بينهم الجثث...
(لكن هناك شرط كي يساعدنا...)

بين لحظة وأخرى تتبدل الأحوال و تعتم الدنيا...عتمة باردة و كأنها ليلة شتاء ثلجية...ثلج يجمد خلايا الروح قبل الجسد و يتركه خاويًا دون حياة...هتفت "سوزان" و كانت أول من استعاد وعيه من صدمة الشرط...في قانون رجال الأعمال الشرط يعني تنازل ما!... تُرى ما هو التنازل؟!... تُرى ما هو الشرط؟!... لسانها ترجم افكارها المرتعدة فقالت بتوجس:
(ما هو الشرط "أحمد"؟!)

ابتسم بسمة جانبية صغيرة حملت مرارة ما يعانيه...قال بصوته البعيد بُعد يسلب راحة النفس:
(أن أتزوج ابنته....)

.........................

بعدما سحبها خلفه في غرفة نومهما فور وصوله للبيت...تجلس الآن تنظر له بريية من أمره...ما باله يبدو سعيدًا على غير العادة و ايضًا يبدو في جوفه حديث هام يود قوله... صدح صوتها الهادئ تقول بترقب بينما تراقبه يبدل ملابسه:
(خيرًا يا "هاشم"؟!... يبدو ليّ أنك تنوي قول شيئًا هام)

علق سترته فوق الحامل ثم دنا من زوجته ينظر لها بتدقيق...قال بينما يجلس جوارها فوق السرير:
(خصلة شعركِ خرجت من عقالها...أعيدها رجاءً)
بحركة روتينية دون المزيد من الكلام فعلت كما قال!... نظرت له بدهشة فقالت:
(هل أتينا هنا لتخبرني عن خصلة شعري؟!...)

نظر للفراغ أمامه ثم صدر صوته الرخيم يسألها:
(كيف حال "ريهام" و زوجها؟!...)

أجابته بعدم راحة :
(بخير و الصغيرة "روفان" بصحة جيدة الحمد لله)

همس بخفوت مرتاح:
(الحمد لله...)

رددت معه الحمد ثم ابتسمت بمرح محسوب في وجوده تقول:
(يبدو في جعبتك مفاجأة...تُرى أصبت أنا؟!)

وجه نظره لها ثم لامس شعرها الأسود الطويل الذي ورثته منها بناتها...قال بنبرة هادئة:
(نعم...لدي ما أنوي قوله)

تحفزت ملامحها و أدارت جسدها له تستمع بكل كينونتها...فهو لا يجتمع بها سوى ليخبرها كل ما هو مصيري...
(لقد تقدم "أحمد النجار" بطلب الزواج من ابنتنا "رُبى"...)

شهقتها المصدومة التي خرجت لتعبر عن ما تشعر به من غرابة صدمته هو ايضًا!... دومًا زوجته هادئة قال بترقب بعدما أعتدل في جلسته :
(ما بكِ ؟!!...)

تنفست بسرعة لتنظم تفكيرها المشوش فقالت:
(البنت صغيرة جدًا على الزواج يا "هاشم"... بالله عليك لا تخبرني أنك وافقت)

تجهمت ملامحه فقال بحدة:
("رُبى" ليست صغيرة ستتم عامها الثامن عشر بعد أيام...كما أني ارتضي لها هذا الشاب كزوج فهو من عائلة محترمة و قد طلبها و انتهى الأمر...)

كتمت شهقة اكبر مما مضت خوفًا من ازعاجه...عيناها التي جحظت بذهول لا تصدق أن تفرض على صغيرتها أمر هام كالزوج...يا إلهي زواج من شاب لا تعرفه و لم تره من قبل...شاب يبدو من حديث والدها كبير في السن...و هذا الفرق سيجعلها تجن...في الأساس ابنتها ستجن فور معرفتها بهذا الشأن...تعرفها جيدًا من غيرها يعرفها؟!!!.

قالت برجاء شديد:
(هل يعرف سنها الحقيقي؟... و كم هو عمره اصلا؟!... ابنتك سترفض يا "هاشم" الفتاة في أخر سنة ثانوية عامة و هي تعمل بجهد لتصل إلى كلية الهندسة كما تريد أنت...لو تزوجت ستفشل في تحقيق كل ما حلمت به من أجلها يومًا...)


وقف بحدة من فوق سريره ليقول بصوت لا رجعة فيه:
(لقد أعطيت كلمتي له...طلبها للزواج و وافقت و انتهى الأمر...الآن بلغيها بالخبر حتى ألقاها في الغد لنتحدث سويًا)

ابتلعت ريقها بصعوبة و هول ما تسمعه جعلها تفقد توازنها قليلاً....
(متى اتفقتما على الخِطبة؟!...)

صوتها المرتعش خرج بهذا السؤال الذي جعله يلتفت لها يقر أمرًا واقعيًا...
(لا يوجد خِطبة...العرس بعد أيام)

اتسعت عيناها بقوة و ضربات قلبها تعزف لحن الحرب...قالت برفض:
(ماذا تقول يا "هاشم"؟!... أنت تمزح بالتأكيد!!!... كيف سنزوج ابنتنا بعد أيام؟!... ماذا سنخبر الناس عندما نعلن عن عرس في غضون أيام لطفلة لم تصل لعامها العشرين بعد؟!... هل فكرت في الاقاويل التي ستطاردها؟!... سيعتقدون أننا نداري فضيحة ما...بالله عليك أين كان عقلك و أنت تتخذ قرار كهذا؟!!!...)

نظرته الحارقة التي رمقها بها جعلتها تبتلع حديثها...عيناها التي ترقرقت بالدمع على حال صغيرتها جعلتها تهمس بتوسل:
(أرجوك يا "هاشم" لا تفعل...أعرف أنك تحب بناتك جدًا فأنا أكثر شخص في هذا العالم يعرف خبايا روحك لكن لا تبالغ هكذا مع "رُبى" تحديدًا...)

تحركت عيناه لوهلة جعلتها تظن أنها استجدت الجزء الرقيق منه...لكنه تغير في لحظة ليقول بنبرة عملية تعرفها و تعرف كم جعلت ابنته الصغرى تعتقد أنه لا يحبهم بقدر حبه للعمل...
(لقد تحدد موعد العرس يا "رباب"...)

سقطت فوق سريرها بضعف بعدما خرج من الغرفة و صفق الباب بحدة...تحررت دمعاتها الساخنة فوق خديها بكثرة...همست بصوت مختنق:
("رُبى" سترفض...ستحدث كارثة في هذا البيت و سأفقد خلالها أحدهما!)

.............................

في غرفتها اللامعة كعينيها تجلس بين كومة من الكتب فوق سريرها... بينما الهاتف على أذنها تستمع إلى صوت "رحمة" الممتعض...
(أليس هذا وقت تناول الغداء عندكم أم ماذا؟!... عمو "هاشم" شخص نضبط عليه الوقت...لماذا تركتي الغداء و اتصلتِ بيّ توجعين رأسي؟!)

تأففت "رُبى" من شكوى صديقتها الدائمة عندما تتصل بها لتشاركها حل بعض مسائل الرياضيات...قالت بسخرية هامسة:
(عمكِ "هاشم" عاد من الشركة متلهفًا لعمتكِ "رباب" فأخذها دون الاهتمام بوقت الطعام المقدس إلى غرفتهما و....)

صرخة "رحمة" الخجلة جعلتها تتوقف عن الحديث وتبعد الهاتف من فوق اذنها بأعين شبة مغلقة...بعدما هدأت صديقتها عادت تضع الهاتف فقالت بغضب:
(يا أنثى القرد ما سبب هذه الصرخة التي خرقت طبلة أذني؟!!!...)

تلعثمت "رحمة" بقوة بينما صوتها يحارب ليخرج:
(أنتِ تتحدثين كل مرة بشكل جرئ رغم أنني أعرف انكِ تخجلين أكثر منيّ...)

حكت رأسها بغباء و قد ارتفعت شفتاها بصورة بلهاء فقالت:
(أنا تحدثت الآن بشكل جرئ؟!!!... متى فعلت؟!)

ابتلعت "رحمة" ريقها بصعوبة فقالت:
("رُبى" حبيبتي فلنغلق هذا الموضوع أتفقنا؟!)

قالت "رُبى" بعدم فهم و نبرة صادقة:
(أي موضوع يا زوجة السيد قشدة؟!)

ضحكت "رحمة" بخفوت قائلة:
(تعرفين أريد فقط أن أرى وجه من سيتزوج بكِ...سيبتليه الله بكائن وحيد الخلية يتكاثر بالانشطار)

علا صوت "رُبى" بغضب فصرخت بها:
(أنا كائن وحيد الخلية يا معادلة من الدرجة الثالثة لا تصلح للحل...أقسم أنني أرى وجهكِ كل صباح في المدرسة كوجه مستقيم ساقط عموديًا ليصنع زاوية قائمة على أنفكِ الرفيع... أيتها الغبية ذات الوجه الوردي)

سقطت "رحمة" من فوق سريرها من فرط الضحك...و بعد محاولات لأن تعتدل صدر صوتها المتقطع تقول:
(أدفع نصف عمري لأرى وجهكِ الآن...)

تحفزت "رُبى" لتسقط على رأسها وابل من الشتائم اللوغاريتمية لكن دقات والدتها على الباب أوقفها...همست بحنق في الهاتف:
(والدتي أنقذتكِ منيّ...غدًا سأعلمكِ درسًا قاسيًا...)

تمالكت "رحمة" نفسها بصعوبة لتقول:
(حسنًا يا سيدة أميبا غدًا نلتقي...)

اسرعت في غلق الهاتف قبل أن تتهور "رُبى" و تصل لها عبر الأسلاك...هتفت "رُبى" بغضب بينما تنظر بدهشة للهاتف:
(هل سخرت منيّ للتو مجددًا؟!... أقسم لن تفوت يا مثلث حاد الزوايا...)

وقفت بعدما ألقت الهاتف فوق السرير ...اتجهت إلى الباب لتفتح لوالدتها...رغم ما بذلته "رباب" لتبقى هادئة إلا أن ابنتها لمحت تغير ملامحها المفزع...اسرعت "رُبى" تسندها وهي تقول بجزع:
(أمي ما بكِ؟!...)

تماسكت "رباب" ثم اعتدلت تقول:
(لا شيء حبيبتي...أريد أن أتحدث معكِ في أمر هام)

فزع قلبها يخبرها أن والدتها على وشك قول شيء سيغير مجرى حياتها...ليست ممن يهولون الأمور لكن حقًا قلبها ينبض كأرنب مذعور على وشك الذبح...ابتلعت ريقها بتوتر يلازمها في فترة الامتحانات فقالت بترقب:
(ماذا هناك؟!...)

شحذت "رباب" قوتها المتبقية بينما تراقب عين صغيرتها بضعف و قلة حيلة...قالت بخفوت:
(تعرفين أن والدكِ يسعى دائمًا لمصلحتنا...يعني أن أي قرار يأخذه يضعنا قبل أي شيء أليس كذلك؟!)

عقدت حاجبيها بتوجس مريب بينما أطرافها بدأت تبرد...قالت بصوت أوشك على الاختفاء:
(ماذا حدث؟!)

زفرت والدتها نفسها و كأنها تزفر النيران... قالت بحذر بينما تراقب كل ما يصدر عن ابنتها:
("رُبى"... بعد خمسة أيام سوف نعقد...قرانكِ)


AyahAhmed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس