عرض مشاركة واحدة
قديم 26-09-19, 06:49 AM   #30

امل القادري

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 403898
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 455
?  نُقآطِيْ » امل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond reputeامل القادري has a reputation beyond repute
افتراضي

صباح الخير
ناطرة أرئكم ومشاركاتكم
ناطرة دفعة إيجابية
جنّة عدن
الفصل السادس

ضمّت ركبتيها الى صدرها جالسة بأرض الحمّام، دفنت وجهها بذراعها تحاول كتم شهقاتها المريرة.

تشعر بأنّها تقف على سفح جرف، وبزلّة قدم ستهوي نحو الأسفل،
ستتهاوى مطوّلاً قبل أن يرتطم جسدها بقعره
ستتألم كثيراً
ستتعذّب كثيراً
ستموت في الثانية الف مرّة
ولكم من الثواني سيمر عليها قبل أن تتلفظ أنفاسها الأخيرة

ما أصعب أن يأتيك الغدر من مصدر أمانك
أن يتحوّل حبيبك بلحظة الى عدوّك
أن يصبح جبلك الصامد، رفاتا
أن تتحوّل جنّتك الغنّاء لجحيم تتلوّى بنيرانه

لقد غدر بها عدن
إغتال براءتها بخبث
نال منها هادماً درب الاّ عودة
ولكنّه بالمقابل خسر الكثير
خسر روحها وقلبها
خسر الهدف الأساسي الذي من أجله دمّرها
وخلف باب الحمّام كان يقف هو
مدركاً فذاحة ما أقدم على فعله
مدركاً أنّ ذلك العالم الملوّث الذي إنغمس فيه، طاله منه الدنس

كيف سوّلت له نفسه أن يقدم على أذية أعز ما يملك بهذا الوجود
كيف سوّلت له نفسه على تدمير روحه
تمزيق كيانه
إحراق وجدان رفيقة دربه وعمره

زفر زفرة طويلة يطرق على الباب بخفّة، يناديها بنبرة مهتزة، ضعيفة، نادمة، معتذرة.
وما نفع كل هؤلاء بعد وقوع الواقعة
« جنّة، أرجوك، كفّي عن تعذيب نفسك، إفتحي الباب ودعيني أطمئن عليك »
أجابته بشهقاتها المريرة، شهقات تخترق صدره كسهام نارية تشعل كل ما تطأه.

كوّر قبضته يلكم الباب بعنف يهتف « جنّة لقد شارفت هدير على العودة، وهاتفك يرن منذ أكثر من عشرة دقائق، إنّه عمّي، أخرجي قبل أن يفتضح أمرنا وعندها لن يفيدنا الندم، أخرجي الآن، أخرجي وأصرخي بوجهي، إضربيني، أنّبيني، إفعلي بي كل ما ترغبين به، ولكن لا تهربي منّي، أخرجي وواجهيني»

ولم يلبث أن قال ما قاله حتّى فُتح الباب وخرجت منه بإندفاع، قفزت عليه مسببة فقدانه توازنه، فحضن جسدها بعفوية يتراجع بإندفاع، يحاول التوازن كي لا يقع، ولكنّ محاولته باءت بالفشل، إذ وقع على ظهره وهي فوقه، شبكت أناملها بشعره تجذبه بعنف

« أكرهك، أكرهك» صرخت بقهر
لكمت صدره بقبضتيها بقوّة لم تكن تعلم بأنّها تملكها« أيّها الحقير، أيّها النذل، أيّها الخبيث» وإستمرت بتعنيفه، وهو بالرغم من الألم الذي تسبّبه له، الاّ أنّه لم يحاول صدّها أو منعها

« أيّها الغدّار»
وأنهت عبارتها بِعَضِّ كتفه، عضّته غارزة اسنانها بعضله، تشعر به يقاوم ضدّ أسنانها، وعندما شعرت بألم بفكّها، حررته عائدة لصفعه، صفعته صفعات متتالية وهي تتمتم « لن أسامحك أبداً، أبداً، على سرقة ليلة زفافنا منّي، لن أسامحك أبداً على أخذها منّي بهذه الطريقة، لن أسامحك»
وهمدت فوقه، دفنت وجهها بصدره تبكي وتنوح، بكت وبكت، وهو إكتفى بضمّها، لا يجد كلمة أو عبارة تعبّر عن مدى أسفه وندمه على ما أقدم على فعله بلحظة ضعف،
بلحظة غباء،
بلحظة خوف من أن يفقدها.
يتمنّى لو أن قدميه قد شُلّتا قبل أن أوصلتاه الى غرفتها وفعل ما فعله

جسدها ينتفض مقابل جسده
يرتعش
ينوح

« لقد، لقد سرقت حلمي منّي عدن، سرقت حلم فتاة بريئة، تقف ليلياً أمام المرآة ترتدي قطعاً من جهازها، تخجل من نظراتها لنفسها، تتخيلك أمامها، تتخيّل غزلك لها، إعجابك بها، إندفاعك نحوها، تتخيّل رومانسية تلك الليلة وما ستحمله من أثر طيّب، وذكريات لطيفة نعود اليها عند كل منعطف، نعود اليها عند كل مشاحنة.»

شهقت من جديد، تحاول تحرير نفسها من بين ذراعيه، ففعل يفسح لها المجال بالإبتعاد، إبتعدت تستند الى الجدار خلفها، تعيد ضمّ ركبتيها الى صدرها، رمقت الأرض قبالتها تمسح أنفها من أثر الدموع الغزيرة التي ما تزال تنهمر.

« غادر، غادر» قالت بنبرة تابثة بالرغم من ذلك الصدع الحديث العهد بقلبها.
زحف عدن اليها، جلس قبالتها يتأمّلها بعينين دامعتين، يتمنى لو أنّه قادر على إعادة الزمن، قادر على تغيير ما حدث.
شبك أنامله بخصال شعره المبعثرة يزفر نفساً مشتعلاً، عصر قبضته يقاوم عدم الوصول بها اليها« أنا، أنا أعلم بأنّي أخطأت، أخطأت بما فعلته، وأعلم بأنّ كلمة أسف أو أعتذر لن تصلح ما حصل، ولكن صدّقيني، صدّقيني عندما أقول بأنّي فعلت ما فعلته خوفاً من أن أفقدك، لأنّي أعشقك، لأنّي سأموت من دونك، بأنّ حياتي لن يكون لها هدف أو معنى إذ لم تكون لك ومن أجلك، جنّة، أنا أحبّك، وأنت في نهاية المطاف زوجتي، نحن لم نقترف خطأً بما حصل، أنت زوجتي أمام الله.»

رفعت بصرها المشتعل اليه تجلده بسياط الغضب الذي يتجمّع بمقلتيها كعاصفة هادرة،
رفعت سبّابتها بوجهه هادرة به من بين أسنانها« أنا خطيبتك، خطيبتك أمام عائلتي وعائلتك وأهل قريتنا، أمام زملائي بالجامعة وزملائك، أنا خطيبتك ولست زوجتك، وإيّاك، إيّاك وأن تظن بأنّ ما حصل اليوم سيمنعني عن تركك في حال لعبت بذيلك معي، أو وجدتك غير أهلٍ لإتمام هذه الخطبة، هل فهمت؟»

وقفت من مكانها تشير له نحو السلالم تخبره« إرحل، غادر، وإيّاك أن تحاول لمسي بعد الآن، أنت ممنوع من لمسي أو إمساك كفّي حتّى الى أجل غير مسمّى»

أخبرته ودخلت غرفتها صافقة الباب خلفها، أسرعت نحو السرير، تجرّده من الملاءة والأغطية والوسائد وكل ما يحمل أثره، حملتهم وخرجت بهم نحو غرفة الغسيل، شذرته بدربها هاتفة به« لا أريد رؤيتك هنا عندما أعود»

مسح على صفحة وجهه يراقب قفاها يبتعد، تنهّد بعمق قلقاً من فكرة تركها وحدها، خاصّة وهي بتلك الحالة، حالة هو وضعها فيها، ويستحق الجلد من أجلها.

ولكنّه في نهاية المطاف قرر أن يغادر من الباب الخلفي عندما سمع جرس الباب الأمامي يُقرع، لا بدّ أنّها والدته، أتت كي تطمئن عليها، بناءً على طلب والدها، الذي غادر الى العمل وهو قلقاً عليها.

*************************************

صادف أن اليوم التالي كان يوم عطلة نهاية الأسبوع، تركت سريرها عند الفجر، بعد أن حاولت أن تحث عينيها المنهكتين على النوم طوال الليل دون جدوى، دخلت الحمّام، توضّأت وصلّت ورفعت كفّيها تتضرّع الى الله، تطلب منه أن يستر عليها، أن يغفر لها ولعدن، أن يعيد عدن الى الصراط المستقيم، أن تكون حادثة البارحة هي خاتمة أحزانهما، تضرّعت وبكت وإستغفرت ومن ثمّ غفت فوق سجادة الصلاة، ينال منها التعب والإرهاق قبل أن تعي.

وفي الحديقة كان عدن يقف تحت نافذتها، يراقب كل حركة بداخل غرفتها، يجلد نفسه وروحه على ما أقدم على فعله بها، نادماً حزيناً، تغمره الكآبة، كلماتها المحطّمة ما تزال تتردد بأذنيه،

-لقد سرقت حلمي البريئ، سرقت فرحتي بليلة زفافنا.

زفر بلوعة يمسح على صفحة وجهه عازماً على قطع كل صلاته بأمان وفرقته، بأسرع وقت.
« صباح الخير يا بني» أتى صوت والده من خلفه
« صباح النور أبي» ترك مقعده يشاهد والده يلف عبائته فوق ثيابه « أذاهب لصلاة الفجر؟» سأله
« نعم، هل أنت أتي؟» سأله والده وهو لم يتردد للحظة باللّحاق به.
نعم فاليبدأ نهاره بصلاة الفجر جماعة بمسجد القرية، ومن بعدها يذهب الى أمان.

***********************************

أتى المساء وعدن ما يزال لم يعد للمنزل، وهي بالرغم من غضبها الاّ أن غيابه بدأ يلعب على وترها الحسّاس، خائفة من يكون قد عاد الى أمان،
من أن يكون قد خدعها وكذب عليها بمسألة تركهم، خاصّة بعد أن ضمن لنفسه أنّها من المستحيل أن تتركه.

قبضت على صدرها تشعر بألم عظيم يغتالها، تنبؤها روحها بقدوم مصيبة،
أمّ أنّها فقدت ثقتها كليّاً بعدن؟
فقدت تفاؤلها، فأصبحت تتوقّع الأسوأ،
تتوقّع الأسوأ وتنتظر قدومه.
وهذا بالتحديد ما إستغلّه المُرسل، عندما قرر لعب ورقته الأخيرة معهما......

طنّ هاتفها قبل غياب الشمس بدقائق معدودة، يحمل معه فاجعة
فاجعة ستغيّر خارطة تاريخهما
ستمزّق كيان العائلتين
ستحرق طفولتهما
وصباهما
وذكرياتهما
وتحوّلها الى هشيم

فتحت هاتفها تحدّق بالشاشة بصدمة إعتلت ملامحها
بقلب يتقافز بين جنباتها
بروح تتملّع وتتمزق
بأعصاب تهتز منهارة

وفي ذات تلك اللحظة رأته يركن سيّارته أمام المنزل، فأسرعت اليه،
تفور غضباً وحقداً وكرهاً أعمى بصيرتها
حافية القدمين قطعت الحديقة تلاقيه دخل البواّبة الحديدية

وهو بكل شوق لاقاها
غافلاً عن كل ما يعتمل بجوفها

وصلت اليه صارخة به ملئ حنجرتها
غير عابئة لمن يصل اليه صوتها
صرخت بكل قهر الدنيا
تموج بطيّات الغدر والخيبة

وصلت اليه تدفعه بقبضتيها، فإرتدّ جسده على إثر ضرباتها الواهنة تصيح به بنبرة ممزقة عاجزة، فقدت كل مقوّمات القتال والمقاومة
« أكرهك عدن، أكرهك لدرجة أنّي قادرة على قتلك بيدي هاتين» تمسّكت بتلابيب قميصه تهزه بعنف، شعرها يتحرّر من تحت حجابها، مقلتيها مشتعلتين غضباً وأسنانها تصك ببعضها تحاول كبح جماح لسانها السليط.

« أتمنى لو أن زوجة عمّي لم تنجبك لهذه الحياة، لو أنّك لم تكن إبن عمّي، لو أنّي لم أقع بعشقك منذ طفولتي، لأنّك لا تستحق، لا تستحق »
صرخت بهيستيرية تطلق سراحه يترنّح جسده فإستند الى حاجب البوّابة الحديدية، يحاول فهم سبب غضبها هذا، لماذا هذا الغضب وهذه القسوة بالكلام، فهو لم يقترف أي خطأ يستحق عليه ثورتها هذه.

« ماذا حصل لك جنّة، ما هذا الجنون بحق السماء؟»
« أيّها النذل، الفاسق، أنت تستحق أن تتلوّى بنيران جهّنم على أفعالك المشينة، يا عار العائلة بأكملها»
قبض على ساعديها يهتف بها بنبرة محذّرة« ما بك، ما أصابك، إهدئي قبل أن تفضحينا»

طلب منها قلقاً من يصل صراخها الى والده وعمّه الّلذان يتبعانه.
« أفضحك» بصقت العبارة بسخرية مردفة« ومن أخبرك بأنّي لن أفضحك، سأفضحك، سأفضح خداعك ومكرك، وسفورك، سأفضحك أيّها السكير، الزنديق، الزاني، سأخبر عمّي بكل فضائحك، سأخبره عن كل أفعالك القبيحة وكذبك وخداعك له، عن سهراتك الماجنة، بين كؤوس الخمر والنساء العارية والموسيقى الصاخبة التي تعج بشياطين الأرض، سأخبره» صرخت تنتفض بين ذراعيه وهو يحاول إسكاتها، يحاول مداراة الأمر قبل أن يصل لمسامع والده وعمّه.

وهي إستمرت بالصراخ عالياً.
فضحته
فضحت سرّه
لقد سترته وهو يخطئ
وفضحته بعد أن تاب وعاد الى ربّه
فضحت سرّه بأقبح الطرق
فضحته ودمّرته وسلخت جلده عن لحمه
جنّة جنت عليه بأقسى طريقة ممكنة.

وعندما قدم والدها وعمّها لم تسكت
لم ترصخ لتوسلات عدن الصامتة أن تستر عليه
أن تعفيه من غضب فات أوانه
من عقاب على خطئ تاب عنه

وقفت بين عمّها الملكوم ووالدها المذهول منها
إذ بحياته لم يرى إبنته على هذه الحالة
بحياته لم يتوقّع أن يسمع منها ما سمعه
إتهاماتها
حرقتها
إنكسارها
ثورتها

أخبرتهم عن كل شيئ
غناء عدن
سهراته الماجنة
النساء العاريات
المشروبات الروحية

ووثّقت كلامها بالصور
فتحت هاتفها ووضعته بوجه عمّها المصدوم والملكوم
الذي يشاهد إبنه البار
ربيب يديه
حافظ القرآن
وقد هوى بهوّة مظلمة تحت قبضت الشيطان

وعدن الصدمة ربطت لسانه
لا يستوعب عقله وقلبه
لقد وشت به
فضحته
دمّرت صورته المثالية
لقد رمته تحت إطارات شاحنة تسير بسرعة هائلة وتركته لمصيره

وبكل هدوء
أعاد كامل الهاتف الى إبنة أخيه، ووجّه إنتباهه كاملاً الى إبنه الصامت كليّاً
ملامحه شاحبة
وعقله يموج بأسئلة لا يجد لها أجوبة
أين أخطأ معه ؟
أين قصّر بحقه؟
ما الذي أخطأ فيه كي يقوده لفعل ما فعله؟
وهو من قضى عمره يعمل بكد كي لا يحرمه من شيئ وهو وإخوته، حرم نفسه من الكثير كي يجمع الأموال التي يحتاجها لجامعته، جامعة لم يرضى الاّ أن تكون الأفضل على الإطلاق، وبالرغم من أن أقساطها تفوق قدراته الماديّة، الاّ أنّه لم يبخل عليه بها، بإعتبار أنّه يصنع له مستقبلاً أفضل
يستثمر به

وبنهاية المطاف هكذا يكافئه!
بمرغ سمعته بالوحل!
يدوس بكعب حذائه على كل ما أنشأه عليه !
يقع أسيراً لمغريات الشيطان!

وبكل هدوء، وبخطوات بطيئة متهالكة، إقترب منه
وصل اليه رافضاً فك لِحام نظراتهما
يرمقه بخيبة تفيض حزنا وقهراً، على إبن وضع فيه كل أماله وفخره،
فظلّ الطريق أشد ظلالة.

وبكفٍّ تهتز صفعه صفعة دوت أرجاء المكان
صفعة خطفت شهقة من بين شفاه جنّة التي أدركت للتو فذاحة ما أقدمت على فعله
بَرَدَ غضبها وعاد اليها عقلها
وأدركت فضاعة ما أقدمت على البوح به

« يا خيبتي بك، يا إبني وفخري، يا خيبتي على ما أنشأتك عليك طفلاً ومراهقاً، على وعد نفسي بالجنّة مكافأة عليك، على كل قرشٍ حرّمته على أهلك من أجل تأمين أقساط جامعتك، جامعتك التي إمتصّت دمّي حتى الرمق الأخير، وأنا لا أجرؤ على التذمر كي لا أكسر بخاطرك وأجعلك تشعر بالدونية»
« أبي أنا..» حاول التبرير
وأسكته بصفعة ثانية هادراً به« أغرب عن وجهي، لا أريد رؤيتك، لا أتحمّل رؤيتك، أو سماع صوتك، إرحل، أنت من اليوم ليس لك مكاناً هنا، هذا منزل طاهر، طاهر وشريف، ولا مكان فيه لعبدة الشياطين، إرحل»
« وحّد الله يا كامل» هتف عماد يحاول تهدئة النفوس، بالرغم من أنّه يستنكر كل ما سمعه ورأته عينيه، لا يصدّق أن إبن أخيه البار الذي إختاره زوجاً لإبنته، يتحوّل بين ليلة وضحاها الى زاني وفاسق بوثائق منتشرة عبر الوسائل الإجتماعية.

« وقبل أن تغادر، إرمي يمين الطلاق على إبنة عمّك، أنا من المستحيل أن أرغب لها بزوج مثلك، أيّها الفاسق الزاني»
« لا» شهقت جنّة
وهو التفت اليها يرمقها بعينين غائمتين،
يشعر بالأرض تنهار من تحته،
بلهب نيران جهّنم تتطاول بأذرعتها اليه،
تحاول جذبه الى قعرها وإحراق روحه قبل جسده.
لقد دمّرته جنّة
دمّره شكّها وضنّها
دمّرته وهو في أكثر أوقاته ضعفاً وبحاجة لدعمها

هزّ رأسه رافضاً أمر والده« لا، جنّة زوجتي، وأنا أرفض تطليقها»
« أنا من المستحيل أن أقبل بإتمام زواجك بإبنتي بعد الذي علمناه عنك، ورأينا دليله بأعيننا» علّق عماد، إذ نعم، إنّه يؤيد أخيه بهذه المسألة، فهو من المستحيل أن يقبل بإتمام هذا الزواج بعد الآن « أنا زوّجت إبني لإبن أخي البار بأهله، حافظ القرآن الكريم، المرتّل والمجوّد، الذي لا يقطع أو يؤخر أوقات صلاته لأي سبب، مصدر فخر العائلة، الرجل الذي سيحمي إبنتي ويصون شرفها، وليس المغنّي والزنديق، الزاني وزائر الملاهي الليلية»
« طلّقها» هدر به والده يهجم عليه، يشعر بالرغبة الجامحة بتطويق كفّيه حول عنقه وسحب أنفاسه منه، فسارع عماد اليه يمنعه عنه، يحاول تهدئته.

تراجع عدن بضع خطوات متعثّرة، يحاول تفادي قبضة والده هاتفاً بنبرة متحشرجة« لا، لن أفعل، أرجوكما، لا تجبراني على تطليقها، لقد تبت، تبت وأعدكما بأنّي سأعود لسابق عهدي، لقد تركت الغناء أقسم لكم»

لقد كان عند أمان صباحاً، ذهب اليه يخبره بأنّه ينسحب من الفرقة،
والأخير فقد رشده عندما أخبره يصرخ ويصيح ويهدد، ومن ثمّ غيّر إستراتجيته، يحاول إغرائه بالمال، بأنّ يضاعف حصّته مقابل كل أغنية وحفلة يقيمونها، ولكن عدن بقي مصرّاً على رأيه،
قطع علاقته به كليّاً، يسأله أن لا يحاول الإتصال به لأي سبب من الأسباب.
ومن ثمّ عرج على محل والده وعمّه وبقي هناك معهم يساعدهم في نقل البضائع وتوزيعها، كما كان يفعل سابقاً، ولكم شعر بالراحة النفسية حينها.
كأنّ الجبل الذي كان جاثماً فوق ظهره يتصدّع ويتفتت مع كل ذرّة عرق يذرفها بعمله تحت إمرة والده، وبكل ركعة خشوع صلاّها خلف عمّه
شعورٌ إشتاق اليه، وأدرك قيمته الفعلية بعد أن فقده ومن ثمّ عاد اليه،
الشعور برضى الله وأمانه.

« ستطلّقها» صاح به والده« هذا سيكون عقابك على خداعك لنا لكل هذا الوقت، ظنّاً منك أنّني غبي، غافل، وأنّك ستتمكن من المضي بالإنغماس بوحولك وتنديس شرف العائلة دون أن يصل لنا الخبر، لقد سوّدت وجوهنا، ومرغت سمعتنا بالطين أيّها العاق، لقد كسرت خاطري وظهري وبصري أمام الناس، كيف سأبرر لأهل القرية صورك وفيديوهاتك السافرة والماجنة المنتشرة على وسائل التواصل، السهلة الوصول اليها؟ ماذا سأخبرهم، عندما يسألوني عن ولدي المهندس الذي كان يؤمُّ بهم أيّام الجمعة؟ هل أخبرهم بأنّه تحوّل الى مغنّي تحوم حوله الراقصات العاريات؟»

بصق بوجهه يقاوم قبضة أخيه، يحاول الوصول اليه هادراً به «ستطلق جنّة وتغادر هذا المنزل، لأنّه لا مكان لك بيننا بعد الآن، هل فهمت؟»

«لن أفعل، لن أفعل الاّ إذ هي طلبت ذلك» قال يتوسّلها بنظراته أن لا تتخلى عنه، إنّها ورقته الأخيرة، جنّة هي الخيط الغليظ الذي ما يزال يربطه بدينه وعقيدته ومنشأه، إذ تخلّت عنه سيهوي دون رادع،
سيهوي بجحر الشيطان دون أن يجد من ينقذه منه.

إنكمشت جنّة على نفسها، تجول بنظرها المضطرب بين الجميع، والدها الذي عقد حاجبيه هاتفاً بها بإستنكار« أنت عقابك سيأتي لاحقاً، لا تظنّي بأنّي سأسكت على صمتك عن قبائحه لكل هذا الوقت، والله وحده العالم، لو أنّك لم تكتشفي خيانته لربما كنت ستستمرين بالتستر عليه الى أحل غير مسمّى» هتف بها عماد، لا يصدّق تأثير عدن عليها، لا يصدّق بأنّها قبلت على التستر عليه لكل هذا الوقت، قبض على أخيه يمنعه عن مهاجمة إبنه هادراً بها بنبرة أجفلتها« أسأليه أن يطلّقك، وإذ قررت الصمت، سأغضب عليك الى يوم الدين»

هزّت برأسها يغمرها العجز.
وماذا كانت تتوقّع أنّه سيحصل بعد أن تفضحه أمام أهلها؟
يا لك من غبية!
يا لك من بلهاء!
والآن ماذا ستفعلين؟
عادت بنظرها الى عدن.
تشاهد إنكساره بكل معالم جسده
ماذا فعلت به؟
« جنّة» صاح بها والدها، أجفلها
شهقت تكتم شهقتها بكفّها المرتعش هاتفة بنبرة متهدّجة « ط، طلّقني»

**************************************

الى نفسي العزيزة

أغمضِ عيناي روحك وتنفسي الحياة
تنشّقي الطاقة والقوّة والصلابة
تنشّقي الشجاعة التي تحتاجين كي تتخلي عن الماضي والمضي قدماً
والآن إزفري الآمك وخيباتك،
بأسك وأحزانك التي تثقل صدرك بالهمِّ والشجن
فقط تنفّسي.

شهقت بعمق تنتفض من غيبوبتها، تتلفّت حولها بضياع، تشعر بالإختناق، فأتت ردّة فعلها العفوية بجذب أنبوب الغذاء من فمها تسعل بشدّة.
دارت بنظرها المشوّش تسمع طنيناً قوياً تعلو وتيرته تدريجياً.
حاولت الإعتدال بجلستها تشاهد عدداً من الممرضات يدخلن عليها الغرفة، فعاد جسدها يتهاوى فوق السرير مستسلمة لوهنها.

«إهدئي، إهدئي، الحمدلله على سلامتك» قال الطبيب يتفقد مؤشّراتها الحيوية تلين ملامحه بعطف.
« هل بإمكانك إطلاعي على إسمك؟» سألها يراها تهيم وسط ذكرياتها
إنفرجت شفتيها هامّة بالرد على سؤاله فخرج صوتها على هيئة بحّة خافتة، تنحنحت تجرّب من جديد فخرج جافّاً متحشرجاً« جنّة، أدعى جنّة عقيل»
إبتسم برفق « كم عمرك؟»
« تسعة عشر» تنحنحت من جديد
« في أي عام نحن»

عقدت حاجبيها مستغربة سؤاله تحاول الإعتدال من جديد لتعود وتهمد بسبب الألم الذي ضربها دفعة واحدة، تأوّهت تحاول إفلات يدها من يده، فقبض على كفّها يمنعها، يعيد سؤاله« في أي عام نحن جنّة»
« عام 2019، ولكن ماذا يحصل لي، لماذا أنا هنا؟»

« لقد تعرضتي لحادث سيّارة وأصبت خلاله إصابة بليغة» أجابها الطبيب مردفاً« ما هو آخر شيئ تذكرينه جنّة؟»
« آه، أذكر...» وصمتت ضائعة وسط ذكرياتها،
ما هي آخر ذكرى لها؟

لاحظ الطبيب إضطراب ملامحها« لا تقلقي، من الطبيعي أن تشعري بالتشوّش، ستعود لك كل ذكرياتك تدريجياً، المهم أنّك عدتي لوعيك أخيراً، كنّا قد بدأنا نقلق عليك مؤخراً»
أخبرها يربّت على ذراعها، نزع الكمّامة عن فمه كاشفاً عن إبتسامته الوديعة، لقّن الممرضات واجباتهن وما عليهن القيام به ومن ثمّ عاد اليها قائلاً.
« سننقلك الى غرفة عادية الآن، وإذ كنت فتاة مطيعة لربما تغادرين بغضون أيّام»

أخبرها يراها تصارع جاهدة، علّها تتذكر شيئاً من أحداث الحادث المزعوم الذي أوصلها الى هنا، ولكنّها عادت بذكريات مبعثرة مشوّشة لم تفهم منها شيئ.

« إرتاحي الآن، ولا تفكّري بذلك الأمر، أعدك بأنّ كل شيئ سيكون على ما يرام»
حادثها بنبرة هادئة يشير للمرضة أن تحقنها بمهدئ للأعصاب يشاهدها تحاول مقاومة نعاسها دون جدوى.

بقي فوق رأسها يراقبها لبرهة عاجز عن نزع نظره عنها، رقيقة ولطيفة وكنزٌ من كنوز الدنيا.
خسارة ما حصل لها.
وخسارة ما فعلوه بها.
وليلطف بها الله من هول القادم.

غادر الغرفة ينتشل هاتفه من جعبته وإتصل مباشرة بثائر.

لقد مرّ على غيبوبتها 40 يوماً، وها هي عادت اليهم من جديد بعد أن كانوا قد بدؤوا بفقدان الأمل بها.
ولكن يبدو أن مريضته مناضلة تأبى الإستسلام بسهولة.

« الو، نعم، سيّد ثائر، لقد إستيقظت أخيراً، من الأفضل أن تأتي حالاً، نعم، ستحتاج لوجودك عندما تستيقظ من أثر حقنة المهدئ التي أعطيتها إيّاه، إنّها خائفة، وبكل تأكيد ستحتاج لوجود أحد من أفراد عائلتها عندما تستعيد وعدها»

أقفل ثائر الهاتف قابضاً عليه بعنف، شرد يفكّر بخطوته القادمة.
لقد عادت جنّة من غيبوبتها، والآن حان وقت الجد، عليه أن يخبر عمّه بالمستجدات.

عليه أن يعلم بأنّ إبنته التي قام بدفنها منذ أربعين يوماً قد عادت للحياة.
إنّه يعلم بأنّ عمّه بالرغم من كل ما فعله، وبالرغم من كل ما حصل، ما يزال هناك جزءٌ منه يحنّ لصغيرته، يشتاقها، يحبّها وعاجز عن التوقف عن التفكير بها.

إنّه يلاحظ ذلك من نظراته المتساءلة في كل مرّة يلتقي به، يعمد على فتح أحاديث جانبية ينتظر منه أن يخبره عن أحوال جنّة .
ولكن ثائر يؤثر الصمت، يدّعي الغباء، يريده أن يسأله عنها دون مراوغة، يسأل عن إبنته التي ظلمها دون أن يعطيها فرصة الدفاع عن نفسها، حكم عليها بالإعدام قبل إستجوابها.

حتّى المجرم يحق له بالدفاع عن نفسه قبل إصدار الحكم عليها، ولكنّ عمه حكم عليها بالإعدام غيابياً، وهذا كان بحد ذاته من أقصى درجات الظلم بحق الأنثى في المجتمعات العربية التي ما تزال في أغلب الأحيان ترضخ لقانون العادات والتقاليد وتُبَدَّيهِ عن قانون الحرام والحلال.

زفر بحرارة يمسح على صفحة وجهه بضيق، التفت عندما شعر بحركة قادمة من خلفه يشاهد زوجته سحر تفتح باب الشرفة الزجاجي وتخرج اليه.
إقتربت منه تسند ذراعيها الى السياج المنخفض تتأمّل الأراضي الزراعية الممتدة خلف منزلهما.

تنشّقت بعمق هامسة« سأشتاق للطبيعة هنا عندما نغادر الى أمريكا»
التفت اليها يرمقها بحاجبين معقودين« ومن أخبرك بأنّي سأغادر الى أمريكا، سحر»

التفتت اليه هي الآخرى تشعر بأنفاسه الدافئة تلفح بشرتها بلطف، إبتسمت إبتسامتها الفاتنة التي تجيد التلاعب بها وكسب ما تريد، تقول « لا تقول بأنّك بدّلت رأيك حبيبي، لقد وعدتني بأنّك ستسمح لي بالعودة لإكمال دراساتي العليا، أنا كسبت منحة ثائر، ولا أريد خسارتها»
ضيّق بها حدقتيه لا يصدّق بأنّها ما تزال تصرّ على قرار السفر ذاك، نعم لقد وعدها، ويذكر وعده ذاك جيّداً، ولكنّ يبدو أنّه بالرغم من ذكائها المفرط إستملكها الغباء أثناء تلك المحادثة، هل فقدت عقلها زوجته« هل أنت جادّة سحر، ما زلت تفكرين بمسألة الذهاب الى أمريكا بوضعنا هذا»
« أي وضع، أنت أخبر....»

« أخبرتك بأنّك إذ كنت تصرين على الذهاب فالتفعلي سحر، ولكن وحدك، هل فهمتي وحدك، أنا لن أترك عملي هنا كي أرافقك وأعمل جليسة أطفال للتوأم هناك»

« ولكن، ولكن» تمتمت تشعر بأنّ الأرض تنهار من تحتها، لقد ظنّت بأنّها تمكّنت من حلّ تلك المسألة معه، بأنّه إقتنع بأن يأتي معها.

« أنا لا يمكنني أن أذهب وحدي ثائر، لن أتمكن من أن أكافئ بين جامعتي والإهتمام بالتوأم»
رفع حاجبه يرمقها لبرهة بإستهجان، نخر ضاحكاً بسخرية« أظن بأنّنا سبق وناقشنا هذه المسألة بالتحديد سحر»
« نعم» أجابته تزدرد بلعابها، تدرك بأنّها أخطأت بفهم كلامه أثناء مناقشتهم للموضوع المرّة السابقة.

« نعم سحر» أجابها « عندما أخبرتك بأنّك عندما تقررين السفر أتركي أمر التوأم لي، لم يكن قصدي بأنّي سأسافر معك، بل قصدت بأنّي لن أمنعك من السفر لإكمال حلمك لنيل شهادة الدكتوراه، وأنا سأهتم بأمر التوأم هنا»

تغضّنت ملامحها، تشعر بأنفاسها تنسحب منها عنوة، هل هو جاد؟
سيتركها تذهب وحدها؟
إنّهما سنتين، سنتين ستعيش خلالهما بعيداً عن التوأم وعنه؟

وهل يظنّها غبيه؟
بأنّها لن تفهم مغزى تصرفاته تلك، يجعلها تعتقد بأنّه يضع القرار بيدها، ولكنّه بذات الوقت يضع أمامها عقبات بحجم الجبال، لا يريدها أن تتهمه بيوم من الأيام بأنّه وقف عقبة أمام حلمها، وبذات الوقت يكبّل ساقيها وذراعيها بسلاسل حديدية ذات أقفال صعبة الحل.

ولكنّها لن ترضخ له بسهولة، إذ كان هذا حلّه الوحيد ستقبل به، ستسافر من دونه ومن دون التوأم، سنتين وتعود، أو بإمكانها أن تستغل العطلة الصيفية بزيارتهم ومن ثم تعود لتكمل سنتها الثانية، لربما حينها يشفق على حالها ويرافقها، هذا إذ لم يشتاق اليها قبل ذلك ويقرر اللّحاق بها، إنّها تعلم ثائر جيّداً، لن يطيق فراقها.

هزّ برأسه تغمره الخيبة، إذ لآخر لحظة ظنّ بأنّها ستفضّل البقاء بقربه وقرب التوأم على تركهم لسنتين كاملتين لاهثة خلف حلمها، نعم، إنّه لا ينكر بأنّه حاول تصعيب الأمور عليها كيلا لا تفعل، ولكن يبدو أنها ستتبع حلمها مهما كان الثمن.

أولاها ظهره هارباً من نظراتها المتوسّلة بأنّ يتفهّم دوافعها، إذ بنهاية المطاف هو حقاً وعدها بأنّ لا يقف عقبة أمام إكمالها دراستها، ولكنّه أبداً لم يتخيّل بأن تنال منحة دراسية الى أمريكا.
أمريكا تلك لم تكن من ظمن معادلته أبداً.
لقد تزوجها وهي ما تزال سنة ثانية طب أسنان مقررين بأن لا ينجبا أطفالاً الاّ بعد تخرجها، ولكن شاء القدر أن تحمل بالتوأم، فوعدها بدعمها ومساعدتها عليهم، فكان بالرغم من عمله كصيدلي ينظّم أوقات عمله كي يكون حاضراً للإهتمام بالتوأم كأنّه هو الأم والأب خلال فترات إمتحاناتها وإنشغالها بالجامعة ينتظر تخرجها بفارغ الصبر.
وإذ بها تفاجئه بعد تخرجها بإكتسابها لمنحة دراسية في أمريكا مصرّة على إستغلالها.

تصلّب جسده عندما شعر بكفّها على كتفه تندس بظهره، القت برأسها الى كتفه هامسة بنبرة فاتنة« وهل يهون عليك فراقي لسنتين كاملتين، هل نسيت كيف كنت ستفقد صوابك عندما أخبرك والدي بأن لا نتزوج الاّ بعد أن أتخرج» طبعت قبلة دافئة على عنقه هامسة بأذنه« كنت ستفقد صوابك الى درجة وعدته بأنك ستدعمني وتقف جنبي الى أن أتخرج»
إستدار يواجهها مسبّباً تراجعها عنه بضع خطوات صغيرة، وقف بوجهها هاتفاً بها بضيق« ولقد وفيت بعهدي ووعدي سحر، دعمتك الى أن تخرجتي، وأخبرتك بأنّي لن أمنعك عن العمل »
« ولكنّك تعلم بأنّ فرصة ذهابي الى أمريكا لا تعوّض، وهناك الملايين يتمنونها» حاولت تبرير نفسها
« وأنا لا أمنعك من الذهاب، ولكني لن أرافقك، والتوأم سيبقى هنا معي، بإمكان والدتي أن تساعدني بالإهتمام بهم الى أن تعودي»

حدّقت به بمقلتين تهتزان يراودهما الدمع« هل هذا هو قرارك الأخير» سألته بصوت مخنوق
« نعم، قراري الأخير» أخبرها هارباً من نظرتها الكسيرة تلك، يشعر بها تحاول إختراق جدار عناده « وأتمنى لا تناقشيني فيه ثانية.»

« ولكنّي، لا، لا أريد الذهاب وأتركك غاضباً منّي» هتفت بإنفعال تحاول منع نفسها عن البكاء
رمقها مطوّلاً، حائراً بأمرها، وماذا تريد منه أن يفعل، يقبّل يديها ويخبرها بأنّها تفعل الصواب بخصوص عائلتها، بأنّه لن يغضب لأنّها فضّلت دراستها على عائلتها.

هزّ برأسه مستنكراً حالها، تجاوزها عائداً نحو الداخل، يضع حدّاً لهذا النقاش العقيم، إنتشل حقيبة سفر صغيرة يجهز فيها بعض الثياب إستعداداً للذهاب الى العاصمة ينوي أن يبقى هناك لفترة، بكل تأكيد لن يتمكن من ترك جنّة قبل أن يطمئن على حالها ووضعها، وعندما يعود حينها يخبر عمّه عن المستجدات التي يعلم بأنّه ينتظرها بفارغ الصبر،
بالرغم من مكابرته على السؤال عنها.

«ماذا تفعل؟ الى أين؟» سألته بقلب مقبوض
« أحتاج لأن أذهب الى العاصمة بداعي عمل مهم بخصوص شحنة أدوية للصيدلية» كذب عليها، إذ مؤخراً بدأت أسئلتها تتزايد بسبب نزوله الغير مبرر، إذ كان في بعض الأحيان لا يخبرها بذهابه، فيعمد على النزول والعودة في مواعيد العمل كي لا تنتبه لغيابه.

« ولكنّك، ولكنك لم تخبرني »
« لقد تلقيت الإتصال للتو، وكنت سأخبرك لولا فتحك لموضوع سفرك» أخبرها هارباً من مواجهتها، يشغل نفسه بتوضيب ثيابه.
« ولكن ما حاجتك للنوم هناك؟» سألته بنبرة قلقة، خائفة من أن يكون يسعى للإبتعاد.

« لا أعلم لكم من الوقت سأحتاج للإنتهاء من مهمتي، لذا أفضّل أن أكون مستعداً لأي شيئ»
« ثائر، لا أريدك أن تذهب وأنت غاضب منّي، أرجوك»

توقّف عن ما يفعله يلتفت اليها، فإستغلّت ذلك تتخذ بضع خطوات ناحيته، وقفت قبالته هامسة بنبرة مرتعشة تستجدي عطفه« أرجوك، لا أريدك أن تضعني أمام خيارين، إمّا أنت والتوأم وإمّا دراستي، أنا أحبّك وأحتاجك، وبذات الوقت بحاجة لتلك المنحة، إمنحني رضاك، أرجوك »

هرب من نظراتها المستجدية، عاجزاً عن منحها ما تريد، إستدار يوليها ظهره، يشغل نفسه بإغلاق الحقيبة، «سنتحدّث بالموضوع عندما أعود، إتفقنا»

ومأت له بالرغم من علمها بأنّه لا يراها وفسحت له المجال بتجاوزها لمغادرة الغرفة، وضع الحقيبة أرضاً ودخل الى غرفة التوأم.
إنّهما يلعبان، التفتا كلاهما عندما دخل عليهما يركضان نحوه، جثى أرضاً يحتضنهما، لثم رأسيهما يضمّهما الى صدره بحنان، هاذين الولدين هما كنزه وثروته وكل ما يملك، وإذ كان يتعب ويشقى فلأجلهما فقط، ولأجلهما فقط مستعد لفعل المستحيل.

يوسف وياسين، هدية السماء له.
« كيف حال بطلي» سألهما يحررهما من بين ذراعيه.
« العب معنا بابا» سأله ياسين
جلس شابكاً ساقيه يراهما يدفعان العابهما ناحيته لمشاركته إيّاهم، فتناول شاحنة يصدر صوتاً من بين شفتيه يقلّد صوت محرّكها والتوأم قلّداه ينغمسان بلعبته فرحين به.

وهي إتّكأت الى حاجب الباب تراقب توأمها الذي أكمل العامين منذ شهر مضى ووالدهما الذي لا تظن بأنّ هناك من هو أحن أو أطيب منه قلباً وروحاً.
إبتسمت بعفوية غارقة بمشاعرها الجيّاشة نحوه، تعشقه، تعشق تفهمه وطيبته وحنانه، تعشق مميزاته، وتجد نفسها تفيض حبّاً وعشقاً له، بحيث لا تزيدهما الأيّام سوى متانةً وعمقاً.


امل القادري غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس