عرض مشاركة واحدة
قديم 01-10-19, 06:00 PM   #4

Hend fayed

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية Hend fayed

? العضوٌ??? » 434417
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 215
?  نُقآطِيْ » Hend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond repute
افتراضي سُلاف الفُؤاد

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثاني ||

صباح اليوم التالي / بيت مختار زين الدين
كان يجلس على مائدة الإفطار بعينين حمراوتين وكأنه لم يذق للنوم طعم طوال الساعات الماضية وهذا بالفعل ما حدث ..فمنذ رأى ذلك الكابوس الذي يؤرق نومه ويرهق روحه واستيقظ منه مع صوت أذان الفجر وقد أبى أن يستسلم لسلطان النوم من جديد خاصة بعدما حاول مرارا مهاتفة صخر لكن الأخير كان هاتفه مغلقا على غير العادة مما زاد قلقه وكآبته
لم يشعر بمذاق الطعام في فمه، بل لم تكن لديه شهية من الأساس وهو ينظر إلى الأطباق الموضوعة أمامه بنظرة فارغة خاوية وكأنه لا يرى شيء من الأساس
كانت مريم ومختار لاهين عنه منشغلين بالحديث عن موضوع ما فلم يلاحظ حالته الغريبة سوا نبض التي وكالعادة تلتزم الصمت في وجوده وتكتفي بالمراقبة دون تدخل أو تعقيب
تنهد يوسف فجأة تنهيدة عميقة ود لو تخرج معها كل الشحنات السلبية التي تسيطر عليه وتجسم على روحه لكن ذلك لم يحدث فكما تقول المقولة الشهيرة 'ليس كل ما يتمناه المرء يدركه'
تنبهت له مريم بعد لحظات فسألته بقلق " ما بكَ بني؟ تبدو مرهقا "
رد دون أن يرفع نظراته عن طبقه " لم أستطع النوم هذا كل ما في الأمر "
عقب مختار بهدوء "على ما أظن أن اليوم جدولك ممتلئ.. من المفترض أن تكون استغليت الساعات الماضية لترتاح حتى تكون في كامل طاقتك وتركيزك "
غمغم بمزاج مكدر " لا تقلق عماه سأقوم بعملي على أكمل وجه بإذن الله "
رد مختار بإيجاز وهو يكمل تناول طعامه " جيد "
لكن مريم قطبت بقلق وهي تتفحص ملامحه المرهقة لتقول بعد قليل " هل عاودتك الكوابيس من جديد؟ "
أراد أن يخبرها بأنها لا تتركه من الأساس لكنه لم يرد أن يثير قلقها عليه فرد كاذبا " لا "
قالت مريم بخفوت وهي تربت على يده الموضوعة على سطح المائدة " تستطيع اخباري بني "
لم يستطع رفع عينيه إليها فأطرق برأسه وهو يجيبها بإقتضاب " لا تشغلي نفسك بي عمتي.. أنا بخير "
تنهدت مريم وهي تقول " وهذا ما أتمناه.. أن تكون بخير دائما بني "
بعد بضعة دقائق نهض من مقعده يقول " يجب أن أذهب الآن.. هل انتظرك عماه؟ "
رد مختار وهو يترك مقعده هو الآخر " نعم.. سأحضر هاتفي واوافيك حالا "
دلف مختار لغرفته بينما مال يوسف يقبل يد مريم وهو يقول " السلام عليكم مريمي "
ردت مريم بابتسامة حنونة " وعليكَ السلام والرحمة حبيبي "
نظر يوسف إلى نبض يقول " هل أحضر لكِ شيء معي يا نبض؟ "
هزت رأسها سلبا فسألها من جديد " هل أحضر لكِ عمي مختار الكتب التي طلبتها منه؟ "
هزت رأسها سلبا مرة أخرى دون رد فعقبت مريم بدلا منها " لقد نسى أن يحضرها معه بالأمس "
قال يوسف بلطف " لما لا تعطيني أسمائها فأشتريها لكِ أنا؟ "
هزت رأسها برفض قاطع وهي تنهض من مقعدها تجيبه بخفوت مقتضب " أبي سيحضرها لي "
قال يوسف ببرود مقصود " وماذا إن نسى أن يحضرها اليوم أيضًا؟ "
عبست وهي تخطو تجاه غرفتها مغمغمة " لا مشكلة.. لم أعد أريدها "
بعدما اختفت نبض ابتسمت مريم تقول " لا تشغل نفسك بها بني.. سأؤكد على مختار أن يحضرها معه اليوم "
اومأ بصمت وهو يتحرك ناحية باب الشقة لكنه قبل أن يخرج التفت إلى مريم يقول بعبوس طفولي " بل سأحضرها أنا وستقبلها مني رغما عنها شاكرة "
كتمت مريم ضحكتها وهي تلمح اقتراب نبض منهما والتي على ما يبدو سمعت ما قاله يوسف.. وضعت حقيبتها المدرسية على الكرسي بعنف وهي تتمتم بغيظ " لن أعطيك أسماء الكتب "
رد يوسف بلامبالاة " ليست مشكلة كبيرة.. سآخذها من عمي مختار "
عبست نبض وهي تقول " أبي لن يمنحك إياها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله يرد بتحدي " سنرى "
التفتت له تصيح بغيظ متفاقم دون أن تنظر له " أنا لا أريد منك أي شيء.. ما الذي لا تفهمه في كلامي بالضبط؟ "
تبدلت ملامحه من التسلية إلى الشحوب وهو يرد بصوت بارد فقد كل تحديه " ورغم ذلك سأحضرها "
أشاحت بوجهها جانبا وهي تقول بكبرياء " لن أقبلها منكَ وستكون حينها أهدرت مالك دون فائدة "
رد بهدوء ظاهري " تستحقين أن أهدر مالي عليكِ "
لم يضف بعدها كلمة وخرج من الشقة فنظرت مريم إلى ابنتها بعتاب تلقته الأخيرة بعبوس شديد قبل أن تغمغم بالوداع وهي تخرج من الشقة هي الأخرى
***

في الشارع
كان هو يقف أمام السيارة كفيه في جيبي بنطاله ونظراته شاردة في الفراغ
رمقت نبض وقفته بعبوس وهي تتخطاه بتجاهل حاولت تصنعه لكنها فشلت وهي ترمش بعينيها حتى لا تطرفان بالعبرات التي تتراقص فيهما، ولم تبتعد عنه سوا خطوتين أو ثلاث حتى عادت له ووقفت أمامه مطرقة الرأس وأصابع كفيها متشابكة خلف ظهرها فقطب يوسف وهو ينظر لها قائلاً: " ماذا تريدين؟ "
ردت بصوت خافت رانت فيه نبرة الذنب " أنا آسفة.. سامحني .. لم أقصد أن أحتد عليكَ "
تنهد بعمق وهو يرد ببساطة " حسناً "
سألته بنفس النبرة " هل سامحتني؟ "
رد بنفس النبرة " نعم.. فعلت "
ابتسمت نبض برقة وهي على نفس وقفتها المطرقة تقول " إذن ً سأذهب أنا.. السلام عليكَ "
رد بحنان التمع بمقلتيه واصطبغت به نبرته " وعليكِ السلام صغيرتي "
ما إن همت بالتحرك حتى استوقفها يقول بجدية وحزم " نبض لا تكرري وقوفك معي في الشارع مرة ثانية لأي سبب.. مفهوم "
اومأت بطاعة وهي ترد دون جدال " حاضر "
خطت بعيدا وهو يتأمل طيفها الغارب عنه بنظرة شاردة قطعها مختار حينما وصل إليه يقول " هل نذهب؟ "
اومأ إيجابا وهو يتحرك ناحية مقعد السائق دون رد
***

في فيلا أكرم الباسل
كانت شمس تختلس النظرات إلى والدها تارة وإلى أخيها تارة أخرى ولم يعجبها الوضع بينهما خاصة وكل منهما يتجاهل الآخر ويتصنع اللامبالاة
تنحنحت قليلا وهي تقول " بابا هل يمكن أن تمنح أنس إجازة من العمل اليوم؟ "
نظر أكرم لها سائلاً ببعض التهكم " لماذا؟ هل أنس بك يشعر بالتعب من سهرة أمس في... المقهى؟ "
قطب أنس مغتاظا وهو يتشاغل بتناول طعامه بينما ردت شمس " ليس هذا هو السبب يا بابا "
وضع أكرم أدوات الطعام على المنضدة ثم شبك أصابع كفيه أمامه وهو يسألها بترقب " إذن؟ "
ردت شمس بهدوء " مر عليّ وقت طويل لم أخرج فيه من البيت وأريد التنزه اليوم بصحبة أنس "
أومأ أكرم برأسه موافقا لكنه قبل أن يتمكن من إضافة كلمة واحدة كانت مروة تهتف بحقد " وهل ابني الحارس الخاص بها أم السائق المسئول عن إيصال الهانم حيث تريد؟ "
زفر أنس بيأس لكنه لم يعقب في حين قال أكرم ببرود " الأمر في مجمله يعود إلى أنس فلو رفض الخروج معها ما كنت لأرغمه على فعل ما لا يريد (ثم شدد على كلماته الأخيرة) لكنني لا أظنه سيرفض "
وضعت مروة أدوات المنضدة بحدة وهي تصيح " أنا لن أقبل بهذا الوضع حتى لو وافق هو.. هذا كثير "
انكمشت شمس في مقعدها وشحب وجهها وهي تستمع إلى صياح مروة التي تابعت " عليها أن تعتمد على نفسها فابني ليس عاملاً لديها "
رد أكرم بهدوء مستفز " تلك الأمور عادية جداً بين الإخوة وذلك لا يقلل من شأن أنس أبداً "
ضربت مروة بقبضتها على سطح المنضدة وهي تقول " ليسا أخوين.. هذه ليست ابنتي و... "
قاطعها أكرم هادرا بغضب " كفى "
خرست مروة وقد انتابها الخوف عندما هب أكرم من مقعده وهو يقول " كنت أظن أن جزء من عقلك معطوب وبه خلل لكن ما لم اتخيله أنه بالكامل مختل "
كانت نظراته الغاضبة وكأنها حريق مستعر تكاد تحرقها وهو يتابع " والله لا أعلم هل جننت أم ماذا؟ هل تُحرمين ما شرعه الله؟ "
نظرت له بضيق لكنها لم تستطع الرد خوفاً منه فهو في لحظات غضبه غير مأمون العواقب
رفع أكرم سبابته ملوحاً بها في وجهها وهو يقول من بين أسنانه " ستكون هذه المرة هي آخر مرة تتفوهين بتلك الحماقات يا مروة.. أنس وشمس أخوين رغماً عنكِ وأقسم بالله... أقسم بالله إن سمعت منكِ كلمة أخرى في حق شمس لن تبيتي ليلة واحدة بعدها في هذا البيت "
قطبت وهي تقول بذهول " ماذا تقصد؟ "
أشاح أكرم بوجهه عنها وكأنه ما عاد بقادر على النظر إليها للحظة إضافية بينما رد بصوت جامد متصلب " لم أكن أتحمل حماقاتك لأجل أحد سوا أبي لكن... أبي رحل ورحلت معه آخر ذرات صبري عليكِ (التفت لها ناظراً لعينيها مباشرة وهو يقول بتهديد) خطأ واحد... فقط خطأ صغير ولو بدون قصد منكِ وأقسم بالله ستكونين طالق "
شهقت مروة بصدمة بينما شمس جحظت عينيها هلعا وهي تحاول رؤية أي لمحة من المزاح أو السخرية في عيني والدها لكنها لم تجد سوا الغضب مما أكد للجميع أنه لم يكن يمزح وأنه جاد في قسمه
كان أنس يستمع لما يحدث دون تدخل بل إنه شعر بشهية لتناول المزيد من الطعام على نحو مفاجئ، كان يبتسم بنصر وهو يرمق جلسة أمه المرتعبة وهي ترتعد خوفاً في مكانها رغم نظرات الحقد والغضب التي تكاد تردي والده قتيلاً
سعيد حد التخمة وهو يراها أمامه في موقف ضعف، وكم أشتاق لرؤيتها أمامه هكذا منذ سنوات طويلة!
بعد صمت طويل قال أكرم بهدوء بارد موجهاً كلامه لأنس " أنت اليوم إجازة من العمل.. كل ما عليك ومطلوب منك هو تدليل شمس كما يجب وإلا... (ونظر إلى مروة بشراسة مكملاً حديثه) اعتبر نفسك مطرود من العمل وأبحث لنفسك عن وظيفة أخرى خارج أسوار مؤسستي "
شهقت مروة للمرة الثانية بصدمة أكبر، كان أكرم يعلم جيداً أن ما يهمها هي الثروة والمال فأراد أن يوضح أنها لو كانت تظن نفسها أم ولي العهد ووريث أكرم الباسل مما يدعها تهين شمس فها هو سيجعل ولي العهد يجالسها في البيت لترى حينها كيف ستحصل على الثروة إن قرر هو حرمانهما من كل شيء؟
هبت مروة من مقعدها وهي تصرخ بانفعال " ما هذا الهراء؟ كل هذا لأجل هذه ال... "
قاطعها أكرم هادراً بغضب مكبوت " احترمي نفسك يا مروة وإياكِ والتطاول عليها.. لقد أقسمت ولن أتراجع فإن شئتِ أن تكوني الليلة في بيت أبيك انطقي حرف آخر وليس كلمة "
رفع أنس وجهه ينظر إلى والديه بشحوب وسكون تام أزال كل أثر سابق للتسلية بينما شمس كانت منزوية في مقعدها تبكي بصمت
في حين كانت مروة فاغرة الفاه، صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من غضبها المكبوت وصمتت مجبرة فإن كان هناك ما تعلمه جيداً عن أكرم فهو أنه رجل لا ينكث قسمه ولو كان الثمن في مقابل ذلك حياته
أما أكرم فكان ينظر لها بحاجب مرفوع وملامح باردة ساخرة وهو على تمام الثقة واليقين بأنها لن تنطق ليس خوفاً من حصولها على الطلاق وتدمير بيتها بقدر خوفها على تجريدها من صلاحياتها ومكانتها المرموقة في المجتمع كونها زوجة أكرم الباسل
***

بعد قليل
كانت شمس تسير إلى جوار أنس كل منهما يضع كفيه في جيبي بنطاله الجينز، مطرق الرأس يتلاعب بلامبالاة بحبات الحصى الصغيرة الملقاة على الأرض
كل منهما كان شارد العقل والروح، مثقل القلب بهموم لا طاقة لهما على تحملها ولا يد لهما فيها وفجأة هتف أنس بحنق " إنها لي "
توقفت شمس مقطبة بحيرة تنظر إلى حيث ينظر أنس فارتفع حاجبيها بدهشة وهي تفهم قصده حينما أدركت أنها ركلت الحصاة التي كانت أمامه فعبست بطفولية وهي تركلها في اتجاهه متمتمة " ها هي "
وهكذا استمر بهما الحال حتى وصلا إلى الشارع العام فقالت شمس بإحباط " لم تعد لي رغبة في التنزه.. دعنا نعود للبيت "
رمقها أنس بنفس الإحباط وهو يقول " ولا أنا "
تحرك عدة خطوات للخلف ثم استند بظهره على إحدى أعمدة الإنارة وأخذ يطالع مرور السيارات من أمامه بشرود.. في حين قطبت شمس ببؤس وهي تنظر إلى الناحية الأخرى من الطريق حيث توقفت للتو سيارة رمادية خرج منها رجل بسيط الهيئة وسيدة تعكس ملابسها عن ذوق رفيع ورغم تناقضهما في الظاهر إلا أنهما يبدوان على وفاق تام
تحرك الرجل ناحية المقعد الخلفي وفتح الباب لتترجل حينها طفلة صغيرة يبدو أنها في العاشرة.. كانت باسمة الثغر، جميلة بثوبها الأحمر القصير حتى ركبتيها وشعرها الأسود القصير الذي بالكاد يلامس كتفيها، أكثر ما كان يميزها هو عينيها السوداوتين الواسعتين الضاحكتين
تقدمت الفتاة والديها وهي تركض ضاحكة نحو مدخل العمارة الكبيرة التي على ما يبدو هم ساكني إحدى الشقق فيها.. أما الزوجين المتوافقين فقد أمسكا بأيدي بعضهما وهما يدلفان لداخل العمارة لاحقين بابنتهما
كم تمنت شمس في تلك اللحظة أن تكون هي بطلة هذا الموقف الذي رأته للتو، تمنت أن تكون بدلاً من الفتاة الصغيرة سوداء العينين
أغمضت عينيها وهي تشعر بغصة حارقة تستحكم حلقها، تشعر وكأن هناك أصابع خفية تقبض على قلبها بقبضة من حديد وتكاد تسحقه دون رحمة
روحها تأن بين جنبيها تطالبها بلحظة سعادة.. بلمحة من الحياة.. بإشراقة أمل تحيي فيها ما قد خبت
أجفلت فجأة عندما سمعت أنس من خلفها يقول بسخرية " لا تفكري مجرد التفكير حتى في إمكانية حصولكِ على عائلة سوية كتلك التي دلفت لعشها الصغير لأنكِ ستكونين واهمة "
إلتفتت برأسها تنظر إلى أخيها فوجدته يبتسم لها بمرارة وهو يتابع حديثه " لا تحزني هكذا فأنتِ في حال أفضل من غيركِ.. انظري لحالي وتأملي وضعي جيداً بين أبوين لا يطيق أحدهما الآخر وستعرفين حينها في أي نعمة تعيشين أنتِ؟ "
كان محق فعلى الأقل هي أمها ماتت دون أن تعرفها، دون أن تمتلك لها أي ذكرى بينما هو... هو ولسوء حظه أمه لازالت على قيد الحياة لكنها لا تعتبر نفسها أمه بل هي مروة الباسل زوجة أكرم الباسل رجل الأعمال المشهور فحسب
أنس لا يختلف عنها كثيراً يعتبر مثلها تماماً يتيم الأم، لذلك لا يمكنها أن تحزن فهي ليست وحدها المبتلاة في هذا الأمر بل أنس المسكين يفوقها ألماً وهو يجد المال والثروة لدى أمه أهم منه بل لا مجال للمنافسة حتى فهو بالتأكيد سيكون الخاسر كالعادة
تنهدت بحرقة لحالهما في نفس اللحظة التي اعتدل أنس في وقفته يقول بمرح مصطنع " هناك فكرة لاحت لي في الأفق للتو هل ستشاركينني فيها أم... "
قاطعته بمرح مصطنع مشابه له وهي تقول " لن اتركك تحظى بالمتعة وحدك بالطبع سأشاركك فيها .. هيا أخبرني "
إبتسم أنس وهو يقول مازحا " سنسرق مصرف "
حركت كتفيها بلامبالاة وهي ترد ببرود " أفكارك دوماً من الزمن الغابر "
رفع حاجبيه وهو يبتسم بمناكفة قائلاً " حسناً الساحة أمامك ابهريني بأفكارك الفذة "
طالعته بشقاوة وهي تقول " لما لا نجرب التسول؟ "
رمش أنس لبرهة ثم ما لبث أن ضحك بمرح حقيقي وهو يقول " معكِ حق.. الفكرة جديدة ولم نجربها من قبل "
ابتسمت بحماس وهي تقول " أتمنى أن يتم القبض علينا.. أريد دخول السجن لكي أعرف حال المساجين كيف يكون؟ "
كتم أنس ضحكته وهو يقول بغيظ مصطنع " نواياك بريئة جداً يا شمس على ما يبدو لكن.. هلا تمنيتِ ذلك بعيداً عني؟ أنا لدي فوبيا من الأماكن المغلقة وبالتأكيد لن أحتمل البقاء في السجن دقيقتين متتاليتين "
ثم أولاها ظهره وهو يخطو عائداً إلى الفيلا فنادته شمس بحنق طفولي " أين تذهب وتتركني؟ "
رد دون أن يلتفت لها " آسف شمس أنا أعلن انسحابي.. لم أعقد العزم على قضاء السنوات الباقية من عمري في السجن بعد "
ضربت شمس بقدمها الأرض بغضب طفولي وهي تصيح من خلفه " أنتَ جبان "
ضحك أنس وهو يرد " وأنتِ مجنونة "
عقدت ساعديها أمام صدرها ونظرت له وهو يبتعد عنها بغيظ حتى توقف أنس فجأة واستدار لها يقول بابتسامة حانية " يوماً ما ستحظين بسجن انفرادي وحينها ستتحقق أمنيتكِ بدخول السجن لكن رغم ذلك لن تتمكني من رؤية حال المساجين فأنتِ لن يشارككِ أحد في سجنكِ.. (ثم عبس بمناكفة وهو يقول) فتاة شريرة "
أخرجت له لسانها بطفولية ثم ركضت تسبقه عائدة إلى البيت فصرخ أنس من خلفها ضاحكاً " مجنونة "
***

في المدينة الجبلية
كانت الفتيات ملتفات في حلقة حول العمة فاطمة التي أخذت تحكي لهن عن آبائهن في طفولتهم وجميعهن تستمعن إليها بإنصات واهتمام شديد
كانت العمة فاطمة تمتلك حس فكاهي بجانب الكثير من الحنان الذي لم تضن به يومًا على أحد صغير كان أم كبير
امرأة من أصل طيب، تزوجت في سن صغير كما عادة أهل الريف وخاصة البلدات الجنوبية التي ترى في زواج الفتيات ستر وحفظ لهن
كانت تتحدث معهن عن تقاليد الزواج التي لم تتغير منذ الأزل حتى هتفت فرح فجأة بحماس " وأنتِ عمتي كيف تعرفتِ على الشيخ عبد الله رحمة الله عليه؟ "
رفعت فاطمة طرف حجابها تغطي به وجهها في خجل وهي ترد " والله لم أره سوا ليلة العرس وأبي يخبرني أنه بات زوجي "
ضحكت الفتيات بينما فرح تسأل من جديد " ألم يأخذوا رأيكِ أولاً؟ "
ابتسمت فاطمة بحنان وهي تجيبها " هكذا كانت تجري العادة يا ابنتي.. طالما أتى الزوج المناسب فلا تتردد الأهل في الموافقة وأنا حتى لو خيرني أبي ما كنت لأرفض الشيخ عبد الله أبداً "
تدخلت حفصة تقول بلطف " رحمه الله عمتي.. الجميع كان يحبه وكم أتمنى لو رأيته أنا الأخرى وتعرفت عليه "
ردت فاطمة بشجن ومودة خالصة " كان رفيق رحيم في معاملة الصغير والكبير فأحبوه.. ما كان يرى أحد مهموم إلا وبذل ما يستطيع لكي يذيل همه ويضحكه "
تنهدت بحزن وهي تشرد في ذكريات الماضي الجميل التي جمعتها بزوجها لتفيق بعد لحظات من شرودها على صوت حياة تقول " هل حقاً أنه ليس من أهل مدينتنا؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد " أجل بنيتي.. الشيخ عبد الله كان من العاصمة وأتى إلى هنا للعمل فقد كان إمام المسجد الكبير في المدينة "
نظرت لهن فوجدتهن يبتسمن في انتظار أن تكمل حديثها عنه فتنهدت بعمق يحمل الحنين وهي تشرد بنظراتها بعيداً بينما تكمل " حينما جاء إلى هنا كان في أواخر الثلاثينات كان وقورا، سمح المحيا.. لم أره يوماً حزيناً حتى في مرضه كان يبتسم برضا وقناعة تامة غير قانط أو متبرم من قضاء الله وابتلائه... "
قاطعتها فرح لتسألها " الجميع يقول بأن عمي سليم تأثر كثيراً منذ صغره بالشيخ عبد الله.. أخبريني عمتي كيف حدث ذلك ومن البداية؟ "
ضحكت فاطمة وهي تقول " عمك سليم فرض نفسه على الشيخ عبد الله وتعرف عليه بالإجبار "
بدى الذهول على الجميع فتابعت فاطمة حديثها بإسهاب " ذات يوم كنا نجلس نتناول الغداء وفجأة سمعت طرق على الباب فبادرت بفتحه لكن الشيخ عبد الله استوقفني مازحا يقول *انتظري فاطمة.. طالما أنا هنا في البيت فاتركي لي هذه المهمة الصعبة وارتاحي أنتِ* فتنحيت جانباً وتركته يفتح هو وعلمت أنه لا يريدني أن أفتح الباب فقد يكون رجل غريب... "
قاطعتها فرح بمكر تقول " يبدو أن الشيخ كان يغار على فاطمته جداً "
ضحكت فاطمة بخجل حاولت أن تداريه وهي تضرب فرح على كتفها بخفة تقول " اصمتي يا ثرثارة وإلا لن أكمل كلامي "
ضحكت حياة وهي تعقب " يبدو أنها أتت لتقاطع الناس في حديثهم "
عادت فاطمة تكمل حديثها من حيث توقفت " بعدما فتح الشيخ الباب وجد أمامه خمس أولاد صغار وطفلتين لا تكادان تظهران من خلف الأولاد ذوي القامة الطويلة رغم صغر سنهم "
ابتسمت للحظات بصمت ثم تابعت " ادخلهم الشيخ ورحب بهم بشدة فهو كان يحب الأطفال كثيراً ( ثم أطرقت بحزن وهي تقول) كنت أتمنى أن أمنحه طفلاً يقر عينه به لكن... (تنهدت تكمل) الحمد لله طالما هي إرادة الله فقد رضيت بها "
ربتت حفصة على كتفها وهي تقول بلطف " لكنكِ كنتِ نِعمَ الأم ربيتِ الكثير من أطفال المدينة وأحبوكِ أكثر من أمهاتهم حتى "
ابتسمت فاطمة برضا تقول " يعلم الله كم أحببتهم أنا الأخرى وخاصة آبائكن.. كانوا في طفولتهم بهجة ومتعة للنفس والروح، تعلقت بهم وكأنهم خرجوا من رحمي أنا... (ثم أضافت بمكر) حتى أن جدتكن كانت كثيراً ما تغار مني لتعلقهم الشديد بي "
ضحكت الفتيات بينما هتفت فرح بنزق " أكملي عمتي حديثكِ الأول.. أريد أن أعرف ماذا حدث حينما ذهب عمي سليم لدار الشيخ عبد الله "
ابتسمت فاطمة وهي تقول " لقد ورثتِ من والدك الكثير من النزق يا فتاة.. ابنة أبيها على حق "
ضحكت الفتيات من جديد بينما هي شردت تتابع حديثها الأول " حسنا إسمعي...
^قبل سنوات عديدة^
*** أشار لهم الشيخ بالجلوس ففعلوا جميعا إلا طفل واحد ظل واقفاً عابساً فتقدم منه الشيخ يقول " ما بك يا بني؟ لماذا لم تجلس؟ "
رد الصبي بنفس عبوس ملامحه " أريد الجلوس إلى جوارك "
ابتسم حينها الشيخ بسرور وهو يسحبه من يده برفق بينما يقول " اوامرك مجابة "
ما إن جلس الشيخ وإلى جواره الصبي كما أراد حتى أشار إلى فاطمة التي كانت تقف في زاوية بعيدة وقال " تعالي يا فاطمتي.. لدينا الكثير من الضيوف.. أظنكِ ستحبين مجالستهم "
تقدمت فاطمة وجلست على الناحية الأخرى بجوار الشيخ فعاد يولي الصغار اهتمامه وهو يقول " أبناء من أنتم؟ "
رد أكبر الأولاد " أبناء عبد الرحمن الجبالي "
ابتسم الشيخ بود وهو يقول " ما شاء الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. بارك الله لكم في والدكم وبارك له فيكم "
ما هي إلا لحظة صمت وصدح صوت إحدى الفتاتين تقول بصوت خافت خجول " أنا ابنة طه الجبالي "
كان صوتها منغم جميل وكأنه صوت بلبل يشجو بعذوبة فأبتسم الشيخ وهو يرد " أعرف الشيخ طه رحمه الله "
نظروا له بحيرة فقال بلطف " كان صديقاً لأبي رحمهما الله.. أحياناً كان يأتي لزيارتنا في العاصمة.. لقد تعلمت منهما الكثير أنا وأخي الأصغر "
سأله أحد الأولاد بحماس " وأين هو أخوك؟ "
ابتسم الشيخ وهو يجيب " إنه في العاصمة مقيم عند عمتنا "
سأله طفل آخر بحيرة " لماذا لم تحضره معك إلى مدينتنا؟ "
تنهد الشيخ وهو يرد بحنان " لأنه لازال صبي في الخامسة عشر لم يكمل دراسته بعد.. أنا ازوره كل فترة لكنه سيأتي إليّ ويقيم معي هنا بعدما ينهي دراسته بإذن الله "
ابتسم أحد الأولاد يقول بحماس " وهل تعرفان أبي أيضاً مثلما تعرفان عمي طه؟ "
ربت الشيخ على كتفه وهو يرد " بالطبع أعرفه.. الحاج عبد الرحمن غني عن التعريف طبعاً "
ثم التفت إلى الصبي العابس إلى جواره وقال " ما إسمك؟ "
رد الصبي " سليم وهذه.. (وأشار على الفتاة صاحبة الصوت الجميل) حبيبة "
ابتسم الشيخ وهو ينظر إلى حبيبة التي كانت تتلاعب بطرف جديلتها لاهية عنهم بينما سليم ينظر لها باهتمام ليضيف بعد لحظة " إنها ابنة عمي... أنا وحدي "
نظر الشيخ إلى فاطمة بذهول بينما الأخيرة كتمت ضحكتها وهي تحدث أحد الاولاد " وأنت يا صغير ما إسمك؟ "
رد الصبي مبتسماً " اسمي مختار "
إبتسم الشيخ بحنان وهو يقول " أخي أيضا إسمه مختار "
صاح مختار بحماس " حقا! "
اومأ الشيخ قائلا " نعم لكنه على ما يبدو يكبرك ببضعة سنوات "
سألت فاطمة بلطف " من الأكبر سناً بينكم؟ "
رد الصبي الذي يجلس على كرسي منفرد " أنا يا عمتي.. إسمي خالد ولدي ثلاثة عشر سنة وهذان (أشار على صبيين يجلسان متجاورين وممسكين بأيدي بعضهما) محمد ومحمود إنهما توأمين ولديهما أحد عشر سنة أما هذا... (أشار على مختار المتبسم) مختار ولديه تسع سنوات "
ثم التفت خالد ينظر إلى الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل وقال بابتسامة صغيرة: " هذه رقية أختنا لديها ثمان سنوات وهذا... (رمق الصبي العابس بطرف عينه وهو يعرف الشيخ عليه) إنه سليم اصغرنا سناً لديه سبع سنوات "
لم يهتم سليم ببرود خالد معه وإنما هتف يقول بضيق: " نسيت حبيبة "
ضحكت فاطمة وهي تنظر إلى حبيبة تسألها: " كم عمركِ يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة عينيها الواسعتين كبركتين من العسل الصافي وهي تقول بصوتها الجميل " لدي القليل... (ارفقت قولها بأن رفعت كفها وبسطته أمام فاطمة تقول) هذا فقط "
ربتت فاطمة على شعرها بحنان وهي توضح لها باسمة " لديكِ خمس سنوات.. لكن هذا كثير "
حركت حبيبة رأسها سلباً ترد " لا.. أخبرني أن هذا قليل "
قطبت فاطمة بحيرة وهي تسألها " من أخبركِ بهذا الكلام يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة سبابتها تشير إلى سليم وهي تقول ببراءة " سليم "
ابتسم الشيخ وهو يناكفها بينما عينيه مثبتتان على سليم " ليس شرطاً أن يكون كل ما يقوله سليم صواباً؟ "
مالت برأسها قليلاً بحيرة وهي تقول: " كيف؟ سليم لا يكذب "
دوت ضحكات الشيخ وهو يعبث في شعر سليم الحريري قائلاً " يبدو أنك ذو سلطان وسحر خاص على الصغيرة يا سليم "
ابتسم سليم فرحاً باهتمام الشيخ به وهو يرد " أنا أحب حبيبة "
كانت فاطمة هي من ردت وهي تنظر إلى حبيبة بمحبة خاصة " ومن يرى أمامه ملاك كتلك الصغيرة ولا يحبها.. يا الله ما أحلاها! "
مالت ابتسامة الشيخ بشجن وهو ينظر إلى زوجته قبل أن يقول " تشبهك كثيرًا يا فاطمة (نظرت له بخجل فتابع بحب) حبيبة تملك إسم جميل لكنك أنتِ تملكين المعنى "
اخفت وجهها بطرف حجابها وهي تبتسم بخجل شديد فتنهد الشيخ يقول " سعدت كثيراً بتلك الزيارة الجميلة يا أولاد "
هتف مختار بابتسامته المعتادة " جميعنا سعداء أيضاً عماه "
بينما قال خالد " أعتذر إن كنا جئنا بدون موعد مسبق لكننا كنا متحمسين جدا لرؤيتك والحديث معك عماه "
ارتفع حاجبي الشيخ قليلاً وهو ينظر إلى خالد بإعجاب فهو يتحدث بطريقة ناضجة تفوق سنوات عمره وبعد لحظة قال بود " لا بأس بني.. بيتي مفتوح للجميع وأنا أكثر من مرحب بكم في أي وقت (ثم نظر إلى فاطمة ليتابع بعدها بمحبة) ويبدو أن العمة فاطمة أيضاً سعيدة جداً بزيارتكم وستطالبكم بتكرارها ثانية أليس كذلك يا فاطمتي؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد بحنان " بالطبع يا شيخ.. البيت مفتوح للصغار في كل وقت "
سألت رقية بحماس " أين اولادك عمي أريد أن ألعب معهم؟ هل لديك بنات؟ "
أطرقت فاطمة بحزن وكآبة بينما رد الشيخ بابتسامة راضية وهو يشير إلى زوجته " لا أملك من البنات سوا تلك الأميرة التي تنير بيتي بوجودها فيه "
حاولت فاطمة أن تبتسم له لكنها لم تستطع وأطرقت برأسها من جديد وهي تتنهد ببؤس فأجفلت بعد لحظة على لمسة خفيفة من حبيبة وهي تقول " ليس لديكِ أبناء؟ "
نظرت لها فاطمة بحزن وأومأت لها إيجاباً دون أن ترد فأبتسمت حبيبة تقول برقة تذيب الجبال " لا بأس.. لا تحزني.. أنا معكِ "
تجمعت الدموع في عيني فاطمة بتأثر فقالت حبيبة بنفس رقتها " أنا ليس لدي ماما.. هل أستطيع أن أدعوكِ ماما؟ "
لم تشعر فاطمة سوا وهي تضمها إلى صدرها وتجهش في البكاء بشدة بينما تقول بسعادة " قولي ما شئت يا حبيبتي.. أي شيء تحبين أنا راضية " ***


لم تستطع فاطمة أن تكمل لهم سرد تلك الذكرى واجهشت في بكاء مرير ولم تستطع إحداهن التخفيف عنها أو تهدئتها وهي تقول " رحلت الحبيبة دون أن تودعني.. لم تسمعني صوتها لمرة أخيرة حتى.. حرموني من صغيرتي فلينتقم ربي منهم.. فلينتقم ربي منهم.. قتلوها حسرة وقهرا على صغيرها.. ما ذنبها حبيبتي؟ لم تفعل لهم شيء "
صاحت ملك فجأة بصوت يرتجف قهرا وملامحها ملبدة بكره أعمى " ليست وحدها الضحية يا عمتي ولا أظنها الأخيرة.. انظري لما فعلوه مع أبي وعمي بل ما فعلوه مع يو... "
لم تستطع أن تكمل وهي ترتجف حرفياً وقد أغرقت العبرات وجنتيها فهبت من جلستها تقول بغضب عنيف " كان صبي صغير مجرد صبي ولم... لم يرأفوا به.. ما كان ذنبه هو الآخر؟ كيف يأخذون بثأرهم من صبي صغير؟ إنهم أوغاد "
نظروا لها بشفقة بينما تابعت حديثها بكره أكبر وهي تصرخ بقسوة " أتمنى أن أرى ذلك الحقير ذليل مهان حتى آخر لحظة في حياته ثم... ثم يموت موته بشعة تليق به وبنفسه الحقودة المريضة.. أتمنى لو اقتله بيدي هاتين وازهق روحه ببطء ليتعذب حتى اللحظة الأخيرة له على قيد الحياة "
نهضت حياة من مكانها واقتربت منها تربت على كتفها بحنان لكي تهدأ لكن ملك دفعت يدها بعيداً بجفاء وهي تقول " لا أحتاج شفقة من أحد (رفعت سبابتها وهي تكمل بحقد) يوماً ما سأثبت لكم أنكم جميعًا كنتم مخطئين وأن ذلك الحقير لن يحيا بسلام طويلاً لأنه لا يستحق.. أبداً لا يستحق "
اندفعت بعدها للخارج وتركتهم من خلفها تخيم عليهم الكآبة والحزن فقالت حفصة بصوت مختنق بغصة البكاء " أنا خائفة عليها جداً.. تلك الطاقة بداخلها من الكره والحقد كافية لتدمير الكثير "
صمتت فأضافت حياة بصوت جامد " لا خوف عليها يا حفصة فملك تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد "
تنهدت فاطمة وهي تقول بصوت مكتوم " كل ما يزيد عن الحد ينقلب إلى الضد.. وملك بكل ما تحمله بداخلها من طاقة سلبية أكثر عرضة لتدمير نفسها دون أن تشعر.. تظن نفسها تعرف ما تريد لكنها في الحقيقة لا تعرف ولا تفهم شيء (تنهدت بعمق قبل أن تكمل بشرود) إنها تائهة، مشتتة وليست هي وحدها فهذا حال الجميع.. الجميع لا يعرف الطريق الصحيح "
***

في مجلس الرجال
أتخذ الحاج عبد الرحمن صدر المجلس موقعا له بين ولديه وبعض المقربين للعائلة
كانوا يتحدثون في أمور تخص العائلة حتى سأل أحدهم عن موعد عرس حمزة وزهراء فرد الحاج يقول بهدوئه المعتاد " حددناه آخر الشهر بإذن الله "
دخل حمزة في تلك اللحظة بصحبة قاسم وياسين فأتخذ كل منهم مجلسه بهدوء بعد أن ألقوا السلام
ابتسم صالح بسرور مربتا على كتف حمزة وهو يهنئه " مبارك لكَ وعليكَ يا ولدي "
رد حمزة بأدب " بارك الله فيكَ عماه "
التفت صالح حينها موجها حديثه لقاسم " العقبة لديك بني "
هَمّ اعتمل بصدره فجأة وهو يرد " حينما يشاء الله عماه "
ابتسم صالح بمودة قائلا " العروس موجودة ولا ينقص سوا إشارة منكَ ليتحدد العرس "
غامت نظرات قاسم بحسرة وأفكاره تصرخ بأن تلك الإشارة ليس هو من سيمنحها للعروس بل العروس هي صاحبة الرأي والقرار ويا ليتها فقط ترأف بحاله
وجد أن الصمت هو الرد المناسب فلاحظ صالح شروده ولم يرد أن يثقل عليه فألتفت إلى حمزة معاتبا " آدم أخبرني أنكَ طلبت منه بعض الحاجيات من أمريكا لكنك مُصر على دفع ثمنها وهو يريد أن يهاديك إياها "
عبس حمزة وهو يقول بغيظ طفولي " كنت واثقا بأنه سيخبرك عماه رغم أني أقسمت عليه ألا يفعل "
إبتسم صالح بلوم وهو يقول " ورغم ذلك لازلت على اصرارك "
رد حمزة بهدوء " لا أريد أن أكلفه يا عمي.. كما أن تلك الأشياء أنا من طلبتها منه لذا فمن الطبيعي أن أدفع ثمنها "
قطب صالح وهو يقول بجدية " ليس هناك فرق بينكما إن دفع هو أو فعلت أنتَ لذا فهي هدية منه وانتهى الأمر "
عبس حمزة متمتما " ابنك لا يراع أنني أكبره ببضعة سنوات عماه، دومًا يستغل مكانتك لدي لينفذ ما يراه صوابا من وجهة نظره هو "
ضحك صالح بمودة وهو يقول " إن ذلك فقط من محبته لك ولكل ما يمس لعائلة الجبالي بصلة "
غمغم حمزة بنزق دون أن يسمعه أحد " وهذا ما يجبرني على تحمله "
ابتسم عبد الرحمن بمودة خاصة وهو يوجه حديثه لصالح صديق عمره " ووجودك في عائلة الجبالي فخرا لها لآخر العمر يا أبا آدم "
رد صالح الإبتسامة لصديقه وهو يرد عليه " بارك الله لنا فيكَ يا أبا خالد بل أنت الفخر لي.. أطال الله في عمرك "
تناظر خالد وسليم فيما بينهما بصمت بينما ابتسم حمزة وهو يشعر بالسعادة لتلك العلاقة الفريدة والتي تعدت الصداقة بين جده وصديق عمره العم صالح
في ذلك حين كان قاسم لازال على شروده الكئيب أما ياسين فقد أطرق برأسه للأرض ليفاجئ الجميع بقوله الحزين: " هل تذكر عماه ذاك الصبي الذي كان يتسابق وأخاه في أيهما يصل إليك ليحظى بالجلوس إلى جوارك؟ "
رد صالح بشجن " بالطبع أذكر.. وهل يمكنني نسيان الغالي الذي نال الحظوة لدي؟ "
تنبه قاسم من أفكاره على سحابة الكآبة التي لاحت على الجميع وكأنها عدوى وأصابت الكل فغمغم بمرارة " لست وحدك من منحته الحظوة لديك عماه.. لست وحدكَ "
تنهد حمزة معقبا " رحمه الله "
لم يلاحظ أحد تلك الرجفة التي سرت في جسد سليم على وقع كلمتي حمزة سوا صالح الذي عقب بغموض " جازت الرحمة على الميت والحي رغم أن بعض الأحياء يستحقونها أكثر من الموتى.. عل الله يرحمنا جميعا برحمته الواسعة "
أطرق سليم بحسرة صرخت بها نظراته التي سارع في اخفائها عن الجميع وهو يدعي الهدوء على عكس ما يشعر
بعد لحظة سأل عبد الرحمن مغيرا الموضوع " أين عاصم وزيد؟ "
رد حمزة بهدوء " عاصم سافر إلى العاصمة باكرا ليباشر سير العمل هناك أما زيد فلا أعرف أين اختفى من بعد صلاة الفجر "
ظل سليم على اطراقه ووحده يعلم أن زيد بعدما صلى الفجر ذهب إلى عمران الناصر للإطمئنان على حاله لكنه لا يعلم إن كان لازال عنده أم ذهب لمكان آخر
وفي نفس اللحظة إلتفت عبد الرحمن يسأل ابنه " أين ابنك يا سليم؟ "
أغمض سليم عينيه بيأس فهو لا يريد أن يكذب ولن يستطيع اخبار والده بالحقيقة الآن لكن القدر كان رحيما به حينما دخل زيد فجأة ملقيا السلام تتبعه حلا متذمرة وهو تصيح " أريد الحلوى خاصتي وإلا سأشكوك لجدي "
رفع زيد حاجبيه بتعجب وهو يرد " لقد أكلتها فكيف سأعطيكِ إياها؟ "
ضربت الأرض بقدمها وهي تصرخ بشراسة بينما تتخصر أمامه " ليس ذنبي.. تصرف واحضرها لي حالا "
عبس في وجهها بإغاظة وهو يقول " لن أحضر شيء، هذا ما عندي وإن لم يعجبكِ اضربي رأسكِ في الحائط "
توسعت عينيها بغيظ شديد ثم لم تلبث أن استدارت مهرولة للخارج وهي تصيح ببكاء حار " مامااا "
ضحك زيد بتسلية وهو يجلس بجوار أبناء عمومته قبل أن يسأله جده " أين كنت يا زيد؟ "
رد زيد بهدوء " كنت في الحديقة الخلفية أطعم الجرو الذي احضره ياسين بالأمس "
سعل ياسين بحرج حينما قال الجد بعبوس " جرو! مجددا ياسين؟ ألم احذرك من جلب المزيد؟ "
لكز ياسين ابن عمه في خاصرته بغيظ قبل أن يرد على جده بإرتباك وكأنه طفل صغير " آخر مرة جدي.. لن أحضر المزيد.. أعدك "
ضحك زيد بتسلية وهو يقول " آه لو تعرف يا جدي من أين يحضرها؟ اممم ستسعد كثيراً "
كشر ياسين عن أنيابه في وجه ابن عمه بتهديد ليتدخل حمزة قائلًا ببساطة " من الشارع بالطبع "
رفع زيد كفيه إلى مستوى كتفيه يقول ببراءة مصطنعة " أترى؟ هو من عرف بنفسه ولم أخبره بشيء "
تأفف ياسين وهو يشيح بوجهه عنه فعقب حمزة بمزاح " كم وصل عددهم؟ "
كتم زيد ضحكته بصعوبة بينما رد ياسين بخفوت نزق " ثمانية "
توسعت عيني حمزة بذهول وهو يقول مناكفا " الله أكبر.. هل سنسمع أخبار سعيدة قريبا؟ "
قطب ياسين بعدم فهم متمتما " أخبار سعيدة! "
تصنع حمزة الجدية وهو يسأله " ألا تنوي أن تزوجها؟ "
فغر ياسين فاهه ببلادة وهو يقول " أزوج من؟ الكلاب! "
اومأ حمزة كاتما ضحكاته ليتدخل قاسم بسخرية قائلا " فليزوج نفسه أكرم له وأولى "
انفجر حمزة وزيد ضاحكين بينما ياسين غمغم بحرقة بكلمات خرجت منه بدون تفكير أو سبب يستدعي ذلك حقا " الآن أصبحت مادة للتهكم والسخرية رحم الله يوما كنتم فيه تخشون التندر عليّ كيلا يغضب منكم ويخاصمكم.. ليته كان هنا اليوم كان ليلقنكم درسا من أجلي "
بعدها انسحب من الغرفة بخطوات هادرة تتسابق مع أنفاسه المشحونة وترك خلفه الجميع يتطلعون لطيفه الغارب بتعجب وحيرة وبعد لحظات من الصمت المطبق سأل صالح بقلق " ما به ياسين؟ لا يبدو اليوم على ما يرام "
لم ينتظر قاسم سماع رد أحد وخرج من فوره لاحقا بأخيه حتى يعلن منه ماذا يجري معه بالضبط؟
***

لم تتمكن ملك من اللحاق به وهو يمشي بسرعة وكأن الشياطين تحاصره وهو يحاول جاهدا الهروب منها وحينما وصلت إلى الطابق الذي تقبع فيه غرفته وقبل أن تصل إليها وجدت قاسم يطرق الباب فتخفت بسرعة حتى لا يراها وما إن دخل الأخير حتى تقدمت بحذر من الباب
فتح قاسم الباب ووقف متسمرا مكانه ينظر تجاه أخيه الذي كان يجلس على الأرض في إحدى زوايا غرفته يبكي بحرقة كما لم يبك من قبل إلا يوم موت ابن عمهم والذي كان يعتبره صديقه المقرب من بين جميع أبناء عمومتهم
دخل قاسم بهدوء مغلقا الباب من خلفه وتقدم نحوه بخطوات متمهلة وعينيه مثبتتان على ملامحه المنقبضة بألم شديد.. جلس أمامه ببساطة والتزم الصمت لوقت طويل في حين ظل ياسين يبكي دون حرج من وجود أخيه
أما في الخارج…؛
ظلت ملك على وقفتها أمام الباب المغلق تستمع إلى صوت بكاء ياسين الواضح فتحترق مقلتيها بدموع تهدد بالهطول
أجفلت فجأة حينما ربت أحدهم على كتفها فألتفتت بحدة لتجد أختها وابنة عمها زهراء وقبل أن تتفوه أيا منهن بحرف صدح فجأة صوت ياسين ليخرسهن
في الداخل...
شهق ياسين بقوة وهو يقول " لقد رأيته في منامي كان... كان يطعم ريحانة كما أعتاد أن يفعل واخبرني بأن... بأن عمي سليم سيحضر له فرس جديدة في يوم مولده بعد أيام لكن... "
اجهش في البكاء ثانية قبل أن يكمل حديثه " لكن ذاك اليوم أتى وهو غائب وحتى عمي سليم لم... لم يحضر الفرس... "
أغمض قاسم عينيه بألم وهو يقاطعه بمرارة " لا تكمل ياسين.. لا تزد يا أخي "
لكن ياسين لم يتوقف بل تابع بحرقة " بعدما صليت الفجر ذهبت إلى المزرعة بلهفة عسى أن أجده هناك.. ذهبت ونسيت أن المزرعة احترقت بالكامل ذاك اليوم وأن... وأنه رحل يا قاسم.. رحل ولم يعد له وجود "
سأله قاسم بصوت متحشرج " لماذا تذكرت كل هذا اليوم بالذات؟ "
رد ياسين بحسرة " اليوم هو يوم مولده "
فتح قاسم عينيه يطالع أخاه بنفس الحسرة التي نضحت بها نظرات الأخير
بعد لحظات قال ياسين " زيد لم يكن يطعم الجرو كما أخبرنا.. لقد كان يبكي في الحديقة الخلفية وحينما رأته حلا أخذ منها الحلوى التي كانت معها ليشتت انتباهها عن الحالة التي وجدته عليها "
نظر له قاسم بتساؤل صامت رد عليه بتنهيد " هي أخبرتني بعدما خرجت من المجلس "
تنهد قاسم بعمق وهو يقول " لازلت أرفض فكرة موته ليس اعتراضا مني على قضاء الله وقدره بل... بل... لا أستطيع وصف ما أشعر به لكنني أشعر بأن احشائي تحترق كلما ذهب تفكيري إلى تلك الزاوية التي اخصص لها الحيز البعيد في روحي حتى لا يقتلني الاشتياق إليه.. أجد نفسي أتقلب على جمر لاهب يكاد يحرق الأخضر واليابس دون رادع "
في الخارج...
ابتسمت ملك بمرارة تتمتم بخفوت وهي تقصد أختها بكلامها " هل سمعتِ حياة؟ لست وحدي من ترفض الفكرة حتى حبيب قلبكِ يرفضها.. هيا جادليه هو الآخر كما تفعلين معي "
قطبت حياة بجمود اخفت تحته ألم يكاد يفتك بها وهي ترد على أختها بنفس نبرتها الخافتة " كل شخص حر في وجهة نظره.. أنا لا اجادل أحد "
استدارت توليها ظهرها تخطو بعيدا في حين رفعت يدها تمسح عبرة سالت من عينها وهو تغمغم بحرقة " وكأن ما تحمله لا يكفيك يا حبيب الفؤاد "
أما زهراء فقد مسحت دموعها التي أغرقت وجهها وهي تتمتم بكآبة " كلنا نشتاق إليه يا ملك.. ليته كان معنا "
***

بعد بضعة أسابيع / مساءً
كان يسير بخطى ثابتة هادئة في الممر المؤدي إلى غرفته الخاصة، كفيه في جيبي بنطاله ونظراته مثبتة على اللاشيء
لقد أجرى عملية هامة وخطيرة لطفلة صغيرة في التاسعة رفض الكثير من زملائه مباشرة حالتها منذ البداية نظرا لسوء حالة قلبها لكنه بتحدي لنفسه وافق على أن يكون هو المسئول عنها
يفترض به أن يشعر بالزهو والفخر بنفسه لهذا المجهود الذي بذله لكنه ورغم ذلك لا يشعر سوا بالخواء
ترددت على مسامعه كلمات وجمل التهنئة والتشجيع من الكثير من زملائه لكنه لم يجد لها صدى في نفسه
" صخر "
قطب بضيق وهو يجبر نفسه على الإلتفات لكتلة السماجة في نظرة والأغراء في نظر غيره وبملامح لا تحمل أي تعبير كان يرد " نعم "
ابتسمت ريم وهي تقترب منه بلهفة معاتبة " لم أراك اليوم أبدا.. الجميع يأخذك مني والمرضى تحتل أغلب وقتك "
ببرود مقصود كان يردد بعض كلماتها " الجميع يأخذني منكِ "
تنحنحت بحرج طفيف تشرح مقصدها " أقصد أنكَ مشغول طوال الوقت بالمرضى و... "
قاطعها بملل " أليس هذا هو واجبنا تجاه عملنا دكتورة أم ترانا نأتي إلى المستشفى كل يوم لمجالسة الأصدقاء والتسامر؟ "
عبست بغيظ تقول " بالطبع لكن ليس الكل منشغل مثلك طوال الوقت أم أنكَ تتعمد ذلك حتى لا تفسح لي المجال للحديث معك؟ "
رفع حاجبا بترفع وهو يرد " أولاً دكتورة أنا لست مثل أحد ولا أقبل بأن تضعيني مع أحد في خانة واحدة، ثانيا وهذا المهم هو أنني لا أتعمد فعل شيء ولست في حاجة للتهرب منكِ لأنني وببساطة إن أردت ألا أسمح لكِ بذلك فلن اتجه للتهرب منكِ واختلاق الفرص حتى لا أتيح لكِ مجالا للحديث معي بل سأخبركِ بكل صراحة وجها لوجه بأنني... (شدد على نطقه لبقية جملته التي حملت تحذير مبطن) لا أريدكِ أن تقتربي من محيط تواجدي أبداً "
شحبت ريم وكأنها تلقت منه صفعة على وجهها وقبل أن تبرر أي شيء كان هو يوليها ظهره مكملا سيره دون أن يمنحها ولو نظرة شفقة منه أما هي فقد قطبت بغضب تتمتم لنفسها " حسنا صخر اليوم لكَ والغد لي أنا وحينها... (لمعت عينيها ببريق خبيث وهي تكمل) سأجعلك تعلم قدرك جيدا ومع من تتعامل وكيف تتعامل مع ريم الناصر بالطريقة التي تليق بي؟ "
***

كان يبدل ملابسه على عجلة من أمره حتى يتمكن من اللحاق بموعده الهام في حين يفكر في مكالمة عمته مريم والتي هاتفته منذ بضعة دقائق تذكره بأن اليوم هو الموعد الذي حدده لنبض حتى يشرح لها بعض دروس مادة البيولوجية
وبعد لحظات قطب بعبوس حينما ومضت شاشة هاتفة برسالة نصية تجاهلها ليكمل ارتداء ملابسه ليعلو بعد لحظة رنين الهاتف فالتفت لصخر الذي يرتدي حذائه قائلا " هلا أجبته رجاءً يا صخر؟ "
اومأ الأخير دون تعقيب وهو يتجه ناحية المكتب حيث الهاتف موضوع على سطحه وتناول الهاتف بعبوس ازداد حينما رأى هوية المتصل ليجيب بحنق " ماذا تريد؟ "
رد الآخر ببرود زائف بعد أن تأكد من الرقم الذي طلبه " لما لا ترسل لي صفعتين أيضا؟ "
زفر صخر بضيق يقول " أنجز يا أحمق ماذا تريد؟ "
رد الآخر بفكاهة " قُبلة "
غمغم صخر بغيظ من بين أسنانه " اعترف آدم من حرضك عليّ لتصيبني بالجنون؟ "
صدحت ضحكات آدم وهو يرد بتسلية " لا أحد.. أنتَ حبيبي "
عبس صخر بملل وهو يقول " وأنتَ لست كذلك بالنسبة لي.. هلا أخبرتني الآن ماذا تريد لأنني مشغول ولست متفرغا لهذرك السمج؟ "
كتم آدم ضحكته وهو يسأله بمكر " بمناسبة السماجة.. كيف حالة كتلة السماجة المسماة ريم؟ "
زفر صخر وهو يرد باستياء " رأيتها قبل قليل وليتني لم أفعل.. أشعر بأن أعصابي على وشك الانفلات مني وقريبا جدا سأكون قاتلها "
ضحك آدم بصخب قبل أن يقول " كم أشفق عليكَ يا صاحبي "
تنهد صخر متمتما " هيا أخبرني ماذا تريد؟ "
عبس آدم يرد بمسكنة " ألا ترى أنكَ كررت ذلك السؤال أكثر من مرة؟ ألهذه الدرجة تريد التخلص مني؟ "
رفع صخر يده يتخلل شعره بإرهاق مجيبا" آدم بالله عليكَ إن كان لديك كلمة مفيدة قلها وإن لم يكن فاتركني لحالي الآن فأقسم لكَ أكاد أنهار من شدة حاجتي للنوم ولازال أمامي عمل آخر قبل أن أحظى بخلوة أحلم بها وأنا يقظ "
قطب آدم بقلق يسأله " عمل آخر! ماذا تقصد؟ "
أغمض صخر عينيه بتعب يرد " عليّ شرح بعض دروس مادة البيولوجيا لنبض "
وصله صوت آدم مناكفا: " اممم قلت لي نبض.. كيف حالها صحيح؟ "
لم يفطن لنبرة التسلية والمزاح في صوت آدم من شدة ارهاقه فصمت وأعطى الهاتف ليوسف بعد أن نفذ صبره أما يوسف فرد بإقتضاب " ما لكَ أنتَ وما لها؟ لا تسأل عنها "
كتم آدم ضحكته يقول بمناكفة " وما لكَ أنتَ الآخر كشرت عن انيابك فجأة وكأنني سآكلها؟ "
صرخ يوسف بغيظ " آدم لا تستفزني.. نبض خط أحمر وأنتَ تعلم ذلك "
رد آدم بدهشة مصطنعة " وماذا فعلت أنا لخطك الأحمر؟ كنت أسأل فقط عن حالها من باب اللباقة "
رد يوسف من بين أسنانه " لا تسأل عنها من أي باب كان "
قال آدم ببساطة " حسنا ولكن أخبرني لماذا لن تشرح أنت لنبض؟ "
تنهد يوسف مجيبا " الليلة هو الموعد الأسبوعي الخاص بي كما تعرف وأخشى أن أؤجله فينشغل دكتور معتز ولا أستطيع رؤيته حتى وقت طويل لأنه سيسافر قريبا "
قطب آدم وهو يقول " لو قبلت عرضه وذهبت إلى بيته سيكون أفضل لك "
عبس يوسف هاتفا " أذهب إلى بيته حتى يعالجني هل أنت أحمق آدم؟ "
زفر آدم وهو يرد " وما المانع؟ "
زفر يوسف هو الآخر قائلا " سلام آدم فلست في حالة جيدة للنقاش "
رد آدم بهدوء " حسنا يوسف، كما تحب.. سلام "
كان صخر قد أنهى إرتداء ملابسه بالكامل وقبل أن يخرج من الغرفة نظر ليوسف بغموض قائلا " نغم ستسافر إلى إسطنبول ولن تعد إلا بعد ثلاثة أشهر على أقل تقدير "
بعدما خرج جلس يوسف متمتما بإحباط " ألا يمكن إخفاء أي شيء عنك؟ كيف علمت أنها سبب امتناعي عن الذهاب إلى بيتكم؟ "
***

بعد ساعة / في شقة مختار زين الدين
كان يقف أمامها متخصرا يزم شفتيه بقوة كيلا يتلفظ بما يليق بها في هذه اللحظة
تدخلت مريم بمهادنة تقول " لا خيار آخر أمامكِ حبيبتي طالما ترفضين الذهاب مع زميلاتك لأخذ درس خاص في المادة إذن دعي صخر يشرح لكِ "
غمغمت نبض بإرتباك وهي تكاد تغطي وجهها بحجابها من الحرج " هذا ليس تخصصه.. سأنتظر أبي "
رد صخر بغيظ من بين أسنانه " والدكِ لديه عملية بعد ساعتين وإشراف على بعض الحالات ولن يأتي الليلة على أي حال "
ردت نبض بنفس الخفوت " لا بأس سأنتظره "
شعر صخر بالضيق من عنادها الشديد فهتف بإنفعال بالغ " ولما الإنتظار يا ذات الرأس الصلب؟ أنا هنا وأستطيع القيام بتلك المهمة بدلا من والدكِ "
غمغمت بتذمر " ليس تخصصك "
صرخ هو بغيظ " وليس تخصص والدكِ أيضا (قطب فجأة وهو يسأل مريم بدهشة) لحظة عمتي.. عن أي تخصص تتكلم نبض أنا حتى اللحظة لم أفهم سبب رفضها؟ "
تنهدت مريم بقلة حيلة وهي ترد " هناك باب كامل في المادة يتحدث عن التكاثر والهرمونات التي يفرزها الجسم في الذكر والأنثى وهي... (رمقت نبض بطرف عينها وهي تتابع بشفقة على حرجها) تشعر بالحرج في أن تشرح لها هذا بنفسك حتى أنها رفضت أن يشرح لها يوسف أيضا "
قطب وهو يغمغم بغيظ " إذن يوسف كان يعرف أبعاد تلك الورطة منذ البداية ولم يخبرني.. النذل "
ثم تنهد بإرتباك طفيف وهو يقول بتمتمة " معها حق إذ كنت أنا شخصيا شعرت بالحرج لها "
قطبت مريم تقول " نعم! هل هذا يعني أنك لن تشرح لها؟ "
تنحنح يقول " لما لا ننتظر عمي مختار؟ "
هتفت نبض برضا " هذا ما كنت أقوله والله.. نعم لما لا ننتظر... "
قاطعتها مريم بعبوس " ششش.. أسكتي أنتِ (والتفتت إلى صخر تقول) وأنتَ يا بك هل تتهرب من واجبك نحو أختك؟ "
أشاح بوجهه جانبا وهو يقول بتهرب " ليست أختي لذا فلست مجبرا على الشرح لها "
رفعت مريم حاجبا ببرود تشير على كرسي منفرد مقابل لكرسي نبض حيث تجلس أمام الطاولة المستديرة وقالت " أجلس "
عبس بطفولية وظل متمسكا بوقفته البعيدة عنهما نسبيا حتى رضخ في النهاية لأمر مريم مع تشبث الأخيرة برأيها
سحب الكرسي بفظاظة وجلس عليه وهو يغمغم في سره شاتما المادة وما تحتويه.. هو بالفعل محرجا لكن شعوره ذلك ليس مرتبطا به هو فهو معرض لشرح تلك الأمور بطريقة أو بأخرى في موقف ما رغم أنها لا تمس لمجال تخصصه بصلة ولكن شعوره ذلك بسبب نبض
لا يتخيل أنه سيقوم بتلك المهمة الصعبة ملقيا تلك الكلمات العلمية ظاهرا والمحرجة لنبض باطنا.. إنها خجولة لأبعد حد وهو يتفهم ذلك و.... أجفلته مريم من زحام أفكاره قائلة بسخرية " لولا معرفتي الوثيقة بك وبجمودك المعتاد كمكعب مصقول من الجليد لظننتك لا قدر الله متحرجا من شرح تلك الأمور "
رمقها شذرا بغيظ دون أن يرد فأبتسمت بنصر وهي تقول " هيا ابدأ "
سحب الكتاب من أمام نبض ونظر إلى الصفحة المفتوحة ببرود ليتمتم بعد لحظة " طرق التكاثر في النبات "
أتاه صوت نبض خافتا يكاد لا يكون مسموعا وهي تقول " أنظر الصفحة التالية "
قلب الصفحة بنفس البرود لتتسع عينيه قليلا وهو يقرأ العنوان مغمغما بخفوت " التكاثر في الإنسان (رفع وجهه عن الكتاب ينظر لمريم ببرود مصطنع قائلًا) نبض محقة هذا ليس تخصصي "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى ردت مريم بلامبالاة تقول " لم يطلب منكَ أحد إعطاء شرح مفصل ودقيق لكل نقطة في الدرس فقط شرح مبسط وسطحي.. إنها هوامش "
نظر للصفحة المفتوحة أمامه للحظة ثم رفع وجها محتقنا بالحرج وهو يقول " هوامش! إن كانت هذه الهوامش فكيف هي بواطن الأمور؟ "
ردت مريم كاتمة ضحكاتها متصنعة اللامبالاة وهي تقول " أنتَ تعلم كيف يا دكتور "
زفر صخر بقوة وهو يسحب ورقة بيضاء وبدأ في الرسم بينما مريم تمتمت بخفوت بجواره " لا أصدق أنكَ تشعر بكل هذا الحرج بالفعل.. ألست طبيبا؟ "
غمغم بنزق " ليس مجال تخصصي "
تنهدت وهي تقول " لكنك تظل طبيبا وقد تتعرض لأسئلة مشابهة من أحد معارفك مثلاً "
عبس ببرود وهو يرد " قطعت صلتي منذ اللحظة بكل المعارف والأقارب كي أتجنب الوقوع في تلك المأساة مجددًا "
ناكفته مريم بفكاهة " أصدقني القول صخر.. أنتَ لست طبيبا من الأساس وتخشى أن تخفق في شرح تلك الأمور البسيطة حتى لا تنكشف حقيقتك أليس كذلك؟ "
عبس في وجهها وهو يقول " أنا على وشك قتل أحدهم فأرجوك لا تكوني أنتِ "
كانت نبض تخفي وجهها بكتاب آخر تتصنع الإنشغال بالدراسة فيه لتنتبه فجأة على صوت صخر المتهكم وهو يقول " هل تجيدين القراءة والكتاب مقلوب؟ ما شاء الله طالبة متعددة المواهب "
احتقن وجهها حرجا وهي تضبط الكتاب مغمغمة بتوتر " لم أكن أقرأ كنت... (هبت من جلستها فجأة تقول) غيرت رأيي سأذهب غدا مع زميلاتي إلى الدرس الخاص "
قبل أن تنطق مريم كان صخر يهب بحماس هو الآخر صارخا بطفولية " الحمد لله.. كم أنتَ رحيم يا ربي "
كانت نبض تنظر إلى أمها بذهول من حماسته الزائدة ليفاجئها بأن مال عليها من فوق الطاولة يقبل وجنتها بقوة هاتفا " منقذتي الحلوة "
شهقت نبض بصدمة ورفعت كفها تضعه على وجنتها موضع قبلته وكأنه صفعها قبل أن تهرول إلى غرفتها صارخة بخجل " قليل الحياء "
كانت مريم هي الأخرى ذاهلة مما حدث في حين تسمر هو مكانه بوضعه المائل وهو يتمتم بصدمة من نفسه ومما فعل " تباً.. كيف فعلتها؟ "
نهضت مريم من كرسيها بهدوء وحاولت أن تتكلم متخطية ذهولها ليبادر صخر بإرتباك وإحساس بالذنب " أنا آسف.. أقسم بالله لم أقصد أن... أن... سأغادر "
وقبل أن تنطق بحرف كان هو يغادر الشقة بخطى واسعة وكأن الشياطين تلاحقه
***

في المستشفى
تفاجئ يوسف وهو يستعد للمغادرة بعد أن تأخر لساعة كاملة بسبب حالة طارئة بدخول صخر وملامحه متجهمة فاقترب منه بقلق يسأله " ما بكَ صخر؟ ما الذي أعادك إلى المشفى؟ "
صرخ صخر غاضبا " ابتعد عن وجهي اللحظة يا يوسف يكفي ما تسببت لي فيه "
قطب يوسف بحيرة يقول " وماذا فعلت أنا؟ "
قبض صخر على مقدمة قميصه يهزه بعنف وهو يصرخ " أخبرني أنك لم تكن على علم بما يحتويه ذاك الدرس اللعين الذي طلبت منك العمة مريم شرحه لنبض؟ "
تنحنح يوسف بحرج يقول " بلى كنت أعرف "
لكمه صخر في وجه صائحا " تباً لك "
تأوه يوسف وهو يتحسس موضع الضربة ثم سأله بحنق " لازلت لا أفهم ماذا حدث لكل هذا؟ "
استدار صخر مغادرا الغرفة وهو يهتف بغيظ " اسأل عمتك أيها البغيض "
قطب يوسف بتعجب وهو يقول مفكرا " أ يعقل أن تكون نبض طردته من البيت؟ "
تنهد بقوة وهو يغادر هو الآخر على عجالة حتى يلحق بموعده مع دكتور معتز مؤجلا التحقيق في الأمر لوقت لاحق
***

بعد نصف ساعة / في عيادة معتز
^قبل عشر سنوات^
*** كان يشعر بالضياع والخمول في عقله كما بقية حواسه.. يحاول أن يتذكر ما حدث وما الذي أتى به إلى هنا؟ لكنه فجأة ينشغل بشيء ما يشتت انتباهه وتركيزه عن التفكير فيما يريد الوصول إليه
وفجأة طرق أحدهم الباب قبل أن يدخل أحد الأطباء باسما بلطف وهو يقول " حمداً لله على سلامتك يا بطل.. بماذا تشعر الآن؟ "
قطب قليلاً وهو يرمش بحيرة فهو ليس مصابا ولو بخدش صغير من الأساس ثم رد بعد لحظات قليلة بخفوت وهو يشعر بجفاف حلقه " الحمد لله "
ابتسم الطبيب بلطف وهو يعاينه بإهتمام قبل أن يقول " رائع "
ازدرد ريقه ببعض الصعوبة وهو يسأل الطبيب بحذر " كيف وصلت إلى هنا؟ "
رفع الطبيب رأسه وناظره بحيرة فعدل سؤاله " أقصد مَن معي مِن عائلتي هنا؟ "
اومأ الطبيب بفهم وهو يرد " والديك "
قطب الصبي وهو يقول " وأخي؟ "
مال الطبيب برأسه قليلاً سائلا ببعض الحيرة " تقصد أختك؟ "
هز الصبي رأسه سلباً وهو يقول مؤكدا " بل أخي "
قطب الطبيب بحيرة للحظات ثم ربت على رأسه بلطف وهو يقول " أرتاح الآن ولاحقا سنناقش موضوع أخوك هذا "
زمجر بغيظ وهو يحرك رأسه بعيداً عن مرمى يد الطبيب قائلاً " أنا لست مجنوناً.. أريد أبي "
اومأ الطبيب بسرعة خوفاً من أن يؤذي نفسه وهو يقول " حسناً.. حسناً أهدأ وسأدخل لك والدك حالاً "
سكن في موضعه وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من انفعاله.. لحظات مضت وهو ينتظر دخول والده بعدما خرج الطبيب من عنده، كانت لحظات قاتلة لأعصابه والأفكار السوداء تعصف بعقله دون هوادة
وأخيراً أتى الفرج من عند الله
دخل الغرفة رجل باسم المحيا وسيم في بداية العقد الرابع، اقترب الرجل من فراشه بهدوء وهو يحييه بلطف " السلام عليكم.. كيف حالك الآن بني؟ "
قطب بحيرة وهو ينظر إلى ذلك الرجل الغريب، لا يعرف ما علاقة وجود هذا الرجل الذي أمامه الآن بما طلبه هو من الطبيب؟
لقد طلب رؤية والده ليجد ذلك الرجل يدخل بدلاً منه!
اكتنفه شعور بالضياع فجأة وهو ينظر إلى ملامح ذلك الرجل التي لم تتغير وهو يراقبه بصمت وفتح فمه ببطء بعد لحظات يرد بأدب " وعليك السلام عماه.. أنا بخير والحمد لله "
اومأ الرجل مبتسماً وهو يقول " الحمد لله سعدت كثيرا لأنك بخير فأنت ذا مكانة عزيزة لدي "
سأله الصبي بنفس التهذيب وإن تخلله بعد التعجب الحائر " لا أفهم عماه ما تقصد.. أنا حتى لا أعرفك ولا أظنني رأيتك من قبل "
اتسعت ابتسامة الرجل وهو يرد " أنا أيضاً لم تسبق لي رؤيتك من قبل لكنني أعرفك.. سبحان الله لقد رأيت كل أفراد عائلتك إلا أنت.. دومًا كنت منشغلا مع فرسك ريحانة حينما آتي لزيارتكم... "
انتظر هو بصبر أن يتابع الرجل حديثه الذي قطعه لكنه لم يفعل فخرج سؤاله بحنق رغماً عنه " هلا أخبرتني عماه من تكون؟ "
لم تتبدل ابتسامة الرجل وهو يجيبه " أنا الأخ الأصغر للشيخ عبد الله زين الدين رحمه الله.. هل تعرفه؟ "
أجاب الصبي ببعض الراحة " بالطبع أعرفه أبي حدثني عنه كثيراً لكن... لكن... "
أكمل الرجل جملته " لكن ما سبب هذا بوجودي هنا بدلاً من والدك أليس هذا ما تريد السؤال عنه؟ "
اومأ إيجاباً فتنهد الرجل وهو يسحب الكرسي الموضوع أمام الفراش ثم جلس عليه بهدوء وهو يقول " سأخبرك "
توترت أنفاسه وهو يشعر بالخوف مما سيخبره به هذا الرجل لكنه فجأة وجد نفسه يقول " أخي.. هل أخي بخير؟ أين هو؟ "
ربت الرجل على يده ورد " إنه بخير حال لا تقلق "
ازدرد ريقه بصعوبة بالغة وهو يقول " أخبرني عماه بالله عليك بما يحدث فأنا... أنا أشعر أني ضائع "
بعد لحظة من الصمت قال الرجل " اسمعني بني وزن كلامي جيداً فما سأخبرك به ليس هين ويحتاج منك أن تكن صلبا قويا.. يحتاج منك أن تفكر في الأمر بتروي وحكمة وألا تسرع في إطلاق الأحكام ففي كل الحالات لن يكن المتضرر سواك "
لم يستطيع النطق بكلمة فأومأ برأسه إيجاباً ليتابع الرجل " أولاً يجب أن تعرف أنه ومن اليوم ستكون تحت رعايتي ومسؤوليتي أنا "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول " كيف؟ "
ابتسم الرجل يناكفه قائلا " هكذا.. أحببت أن يكون لدي ولد فرزقني ربي الكريم بكَ "
أسرع لقول شيء حينما قاطعه الرجل يقول " هل تعلم أنك هنا في المشفى منذ ما يقارب الشهر ونصف؟ وأنك لست مريضا بل فقط يمكننا القول بأن أعصابك مرهقة مما حدث ولم تتحمل الصمود أكثر فانهارت تماما "
سأله بحيرة " وكيف علمت هذا؟ "
اعتدل الرجل في جلسته وهو يميل بجذعه إلى الأمام مجيبا " لأن الطبيب المسؤول عن معاينة حالتك اممم ماذا أقول؟ زميل عمل مثلا.. كما أنني لم افارقك لحظة منذ دخلت المشفى "
رمش الصبي لوهلة وهو يتفحص الرجل الوسيم من جديد قبل أن يقطب بحيرة متمتما " أنت لا ترتدي زي الأطباء "
ابتسم الرجل وهو يجيب ببساطة " لقد أخذت إجازة طويلة حتى أتمكن من مرافقتك كما يجب "
توتر الصبي وهو يرد بحرج " آسف لأنني اعطلك عن عملك عماه "
تنهد الرجل وهو يقول بحنان " لا داعي لاعتذارك بني فأنا سعيد بالتعرف عليك ومرافقتك رغم أني وددت لو حدث ذلك في ظروف أفضل من تلك "
ران عليهما الصمت طويلاً حتى قطعه الرجل يقول بهدوء " ما تريد أن تعرفه ستجده هنا (وضع شريحة صغيرة بجانبه على الفراش قبل أن يكمل) مسجلاً بصوت والدك.. لكن نصيحة مني لا تسمعه قبل أن تقف على قدميك وتسترد هدوء أعصابك لأنك ستكون بحاجة لكل ذرة قوة فيك حتى تتمكن من التفكير السليم وتقدير الموقف كما يجب "
نهض بعد ذلك من مكانه واتجه ناحيه الباب وفتحه ثم وقبل أن يخرج إلتفت له قائلاً بلطف ودود " مرحباً بكَ بني في عائلتي الصغيرة "
تذكر الصبي شيء فجأة فصاح بجذع " ماذا حدث لذلك الصبي الآخر الذي أصيب بدلا مني؟ أنا لا أعرفه حتى لكنني... "
قاطعه الرجل يرد بتنهيد حزين " يحتاج إلى دعائك بني.. اخلص لله الدعاء حتى ينجيه فحالته صعبة وحياته بين يدي الرحمن الرحيم " ***

^في اللحظة الحالية^
أجهش يوسف في بكاء حار، يخفي وجهه بين كفيه بينما كتفيه يهتزان في بكائه كالأطفال بعدما صمت فجأة ولم يقو على إضافة كلمة أخرى من سجل ذكرياته المرير
ظل معتز ثابتا، ساكنا في جلسته على الكرسي المقابل للسرير المنفرد الذي يجلس عليه يوسف دون أن يبدي أي رد فعل وقد أكتفي بالمراقبة ككل مرة
تكلم يوسف بعد لحظات بحرقة وهو يقول " شعرت حينها بأن روحي تُنتزع مني.. كانت تلك الكلمات الأخيرة التي قالها عمي مختار من أصعب الكلمات التي سمعتها في حياتي "
شهق بعنف وهو يكمل " لم أتخيل للحظة أن يضحي أحد بحياته لأجل أن يحميني.. لم أتخيل للحظة أن... أن أتسبب في موت أحد لكنني فعلت "
سأله معتز بهدوء " من تسببت في موته؟ "
رد يوسف بحسرة وشعوره بالذنب يطغى على كل حواسه وكأنه مُخدَر " قتلت أعز الناس على قلبي.. قتلت حبيبتي ومصدر كل شيء جميل في حياتي "
ردد معتز سؤاله بنفس الهدوء " من تقصد؟ "
نطقها يوسف وكأنه يلفظ معها آخر أنفاسه " أمي "
جادله معتز بأسلوب مستفز متعمد " كيف قتلتها وقد سبق وأخبرتني أنك لم تشهد لحظة وفاتها حتى؟ "
رد يوسف بغضب من نفسه " نعم لم أكن حاضرا لكنها ماتت بسببي.. حينما أخبروها أنني قُتلت لم تستطع تحمل الصدمة وماتت "
قطب معتز بهدوء مستفز وهو يقول " ولما لا تُحمل من أخبرها الذنب فعلى أي حال الخطأ خطؤه هو لأنه لم ينتظر حتى يتأكد من الخبر قبل نشره؟ "
أطرق يوسف رأسه بقهر وهو يقول " أخي من أخبرها فكيف سأحمل توأمي الذنب؟ "
رد معتز باستفزاز " أوَ لم يكن هو السبب في كل ما حدث حينها؟ إذن الذنب ذنبه وحده ونتائج كل ما جرى تقع على عاتقه هو "
عبس يوسف وهو يدافع عن أخيه " إنه لم يرتب لأي شيء مما حصل حينها.. كل ما حدث كان خارجا عن علمه وقدرته إذاً لا ذنب له "
عقد معتز ساعديه أمام صدره وهو يقول باستفزاز بارد " إذن أنت الآخر لا ذنب لك في موت أمك لأنك أولاً وأخيراً لم ترتب لهذا وما حدث كان خارجا عن علمك وقدرتك وبالتالي لا فائدة من بكائك على طلل لم يكن خرابه على يديك "
طالعه يوسف بتشتت فأردف معتز بهدوء " لا فائدة من تحميل نفسك ذنب لم تكن فاعله لأنك تؤمن أن ما حدث كان مخططا له الحدوث فهو قدرها أن تموت بتلك الطريقة دون أن يكون لك دخل في هذا "
أجهش في البكاء ثانية وهو يرد " لكنني لا أستطيع رفع ذلك الذنب عن عاتقي.. كلما نظرت إلى صورتي في المرآة أراها تطالعني باكية وفي حلمي تعاتبني بنظراتها دون كلام.. صعب أن أنسى أن... "
نظر له معتز بإهتمام شديد وهو يحثه على المتابعة قائلا " أكمل حديثك يوسف.. أن... ماذا؟ "
رد يوسف بمرارة " كلما جلست وحدي أفكر أن... لو لم تتأذى فرسي ذاك اليوم لما ذهبت إلى المزرعة وحينها لم يكن ليحدث كل ما حدث.. لم أكن لأرى عمايّ وهما يخران صريعان أمامي دون حول منهما ولا قوة، ولم يكن صخر ليتعرض للموت حينها ولما... لما ماتت أمي "
سكت لحظات حتى يتمالك نفسه رغم عدم توقف دموعه عن الهطول كزخات المطر وهو يضيف بصوت موجوع " أحيانا أتخيل أنني أجلس إلى جوارها كما كنت أحب رأسي بين أحضانها وهي تقص عليّ إحدى حكايتها السرية مع أبي.. أتخيل أن أول شيء سأفعله كالعادة بعدما أعود من عملي أن أذهب إليها وأخبرها كم أحبها وكم افتقدتها في الساعات التي قضيتها منشغلا عنها لكنني أصحوا فجأة على الحقيقة المُرة بأنني ما رأيتها أبدا بعد عودتي من العمل، ما أخبرتها عن مقدار حبي وافتقادي لها لأنها ببساطة رحلت قبل أن أبلغ تلك المرحلة من حياتي، فارقتني وأنا ابن خمسة عشر.. أتعلم؛ أحيانا أخرى أفتح عينيّ صباحا فأجدني أنتظر أن تأتي إليّ وتوقظني من نومي كما كانت تفعل كل يوم أجد نفسي يطول بي الإنتظار ويطول غيابها أكثر "
بعد وقت طويل كان معتز يتنهد بتعب وحسرة وهو يراقب يوسف في غفوته التي تلي كل جلسة مصارحة بينهما
غفوة جبرية لا يشعر بها يوسف ولا يستطيع حتى مقاومتها، بمجرد أن ينتهي من قص بعض ذكرياته وجداله مع معتز الذي يستنفذ آخر ما يملك من قوة وطاقة على التحمل يجد نفسه يقع في بئر عميق يسحبه إليه بإصرار فيستسلم له في نهاية المطاف وكأنه بالحديث مع معتز يشعر ببعض الراحة
يوسف ليس مجنونا ولا حتى مريضا وإنما مكبلا بشبح الذنب الذي يطارده في خياله ويرسمه له عقله الباطن لذا أختار معتز بحكم تخصصه حتى يتحدث معه بهذا الشأن وهو يثق بأنه سيتفهمه أكثر من أي شخص آخر
من خلف الباب المغلق كان يقف صخر مستندا بظهره على الحائط المجاور للباب وقد وصلت إلى مسامعه كل كلمة نطقا بها وانسكبت من عينيه كل دمعة زرفتها عينيّ يوسف وخط الألم والقهر علاماته على روحه قبل أن يضع بصمته على روح يوسف
وبنفس الصمت والسكون الذي أستمع به إلى حديثهما انسحب دون أن يشعرا به أو يعلما بوجوده من الأساس كحال كل جلسة ليوسف
***

في الصباح / بيت مختار زين الدين
كانت مريم تقف في المطبخ تعد الإفطار في حين رن جرس الباب فصاحت تقول " افتحي الباب يا نبض.. هذا يوسف "
توجهت نبض مطرقة لتفتح الباب وبالفعل كان هو ورغم حرجها منه لأن صخر بالتأكيد أخبره بما حدث ليلة أمس إلا إنها بتلقائية سألته السؤال المعتاد ككل مرة " لماذا لم تستخدم مفتاحك الخاص؟ "
رد وهو يدلف للداخل " هذا أفضل حتى تكوني وأمي على راحتكما "
حركت كتفيها بخفة وهي تتجه إلى غرفتها بينما تتمتم " كما تشاء "
قبل أن تبتعد عن مرمى بصره استوقفها يقول " هل تعرفين رجل يدعى تامر عبد الحميد؟ "
عبست قليلاً قبل أن ترد عليه بمراوغة دون أن تستدير إليه " لي زميلة في الصف إسمها علا عبد الحميد "
هتف يوسف بغيظ " سألتك عن تامر وليس علا "
زفرت بصوت مكتوم وهي ترد بنفس النبرة " لا أعرف تامر أو غيره فمن أين لي بمعرفته من الأساس؟ "
همت بالتحرك فقاطعها يقول بحنق مكتوم " حقاً! لكنني رأيتك تقفين معه بالأمس "
اتسعت عينيها بذهول وهي تغمغم " كيف رآني وهو حضر بالأمس من المشفى في وقت متأخر؟ "
خرجت مريم من المطبخ في تلك اللحظة ولاحظت الوضع المتوتر بينهما فسألت بلطف " ماذا هناك يا أولاد؟ "
قطب مجيبا " كنت أسأل نبض عن شخص ما "
ابتسمت مريم وهي ترد بالنيابة عن ابنتها " وبالطبع أنتَ منزعج لأنها لم تعرفه.. لكنك تعرف جيدا أن عدد من تعرفهم نبض قليل جداً "
رد بإقتضاب وهو ينظر لنبض " رأيتها تقف معه "
نظرت مريم بحيرة بينهما قبل أن تسأل ابنتها " من هذا الذي كنتِ تقفين معه يا نبض؟ "
غمغمت نبض بغيظ " حتى أنتِ يا أمي.. حتى أنتِ "
أعادت مريم سؤالها ثانية بحزم " انظري إليّ يا نبض واجيبيني.. مع من كنتِ تقفين؟ "
استدارت نبض تنظر إلى أمها وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تقول بخفوت مرتبك " مع الأستاذ تامر "
قطبت مريم تسألها باستفسار " تقصدين أستاذ تامر عبد الحميد مدرس اللغة الإنجليزية؟ هل عاد من أمريكا؟ "
اومأت برأسها وهي ترد " نعم منذ أسبوع تقريباً وقد تعين في المدرسة التي أدرس فيها "
ابتسمت مريم بلطف وهي تقول " كان صديقا لمروان ابن خالتك.. منذ صغرهما وهما معاً.. إذن هو أصبح جارنا أيضاً "
اومأت نبض من جديد وهي ترد " نعم ماما.. شقته في الدور الثالث "
صرخ هو فجأة مجفلا مريم ونبض " وكيف عرفتِ ونحن لا نسكن في نفس الطابق؟ "
ردت نبض بتلقائية " لأن الطابق الثالث حيث يسكن في الأسفل والطابق الخامس حيث نسكن نحن في الأعلى كما أنه أخبرني بالأمس "
جز على أسنانه بغيظ سائلا " وما سبب اخباره لكِ بكل هذه التفاصيل آنسة نبض؟ هل ظنك تعملين في السجل المدني؟ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد ببراءة " لا.. هو يعلم أنني لازلت طالبة ولم أعمل بعد "
كتمت مريم ضحكتها وهي ترى بوادر انفجار وشيك في المكان بسبب براءة نبض المستفزة
تخصر يوسف وهو يقف أمامها بينما يسألها من جديد " ولماذا كنت تقفين معه في الشارع بالأمس؟ "
برمت شفتيها وهي تبرر موقفها " هو من ناداني ليخبرني أنني مرحب بي في أي وقت إذا ما احتجت لأي سؤال أو إستفسار في المادة "
ضيق عينيه وهو يميل بجذعه للأمام ناحيتها بينما يقول " مرحب بكِ! مرحب بكِ أين بالضبط؟ "
ردت بعفوية " أظنه يقصد في شقته بالطبع إذ أنه يعطي دروس خصوصية لبعض زميلاتي في الصف في شقته "
قطب يوسف بضيق وهو يقول " مرحب بكِ في شقته.. ويعطي الدروس لزميلاتك في شقته (ثم صرخ بإنفعال شديد وهو يتابع) ذلك الحقير لن يبقى في تلك البناية دقيقة واحدة إضافية "
ثم بخطى واسعة كان يتجه إلى الباب وبعد أن فتحه وقبل أن يخرج نظر لها ورفع سبابته في وجهها يقول " إن رأيتي وجهه اليوم في المدرسة أخبريه أن اليوم هو الأخير له في تلك المدرسة.. أخبريه أيضًا أن مستقبله المهني إنتهى للأبد "
خرج بعدها وصفق الباب خلفه بعنف وهو يهدر بغضب " الحقير، النذل.. يريدها في شقته أقسم بالله لأجعلنه يندم على طلبه الوقح هذا وأعلم من سيؤدي تلك المهمة على أكمل وجه "
***

وصل إلى المستشفى وهو يشعر بداخله كله يحترق ورغم كل ما فعله إلا إنه لازال يشعر بالضيق، توجه على فوره إلى غرفته الخاصة ليبدل ملابسه بينما عقله يعمل ويخطط لأكثر من شيء في ذات الوقت
خرج بعد بضعة دقائق وهو يتفحص هاتفه في انتظار مكالمة هامة من شخص ما ليأتيه الصوت الضاحك من خلفه يقول: " أحببت اللوحة الجديدة لك يا فنان "
أخفى شبح الابتسامة الذي كاد يظهر على شفتيه وهو يستدير بتمهل مجيبا " كنت أعلم أنها ستحظى على اعجابك ورضاك "
عقد مختار ساعديه أمام صدره وهو يقول " إعجابي نعم.. أما رضاي فلا "
قطب صخر يقول بضيق " لا يهم.. فعلى أي حال ما كنت لأتركه يتجرأ على ما يخصني دون أن أوقفه عند حده كما يستحق "
رفع مختار حاجباً باستفزاز وهو يقول " حولت من وجه الرجل وجسده لوحة تجريدية مخيفة لا معالم لها لأجل بضعة كلمات قالها بدون تفكير "
جز صخر على أسنانه وهو يجيب " إنه حقير وقد كشفت بضعة الكلمات التي قالها نواياه القذرة "
ابتسم مختار بلامبالاة يقول " لا أجد للرجل قطع غيار بديلة لما افسدتها "
برم شفتيه ببرود وهو يتخطاه ببساطة قائلاً " اتركه يموت ببطء.. هذا ما يستحقه هو وأمثاله "
صاح مختار من خلفه " ألا تخاف أن يقدم شكوى ضدك؟ "
رد بتهكم دون أن يتوقف عن سيره " فليفعلها إن لم يكن يريد التنعم بما بقي له من عمره "
زفر مختار بغير رضا وهو يتمتم " لن ترتدع بسهولة يا صخر، تحتاج إلى صدمة قوية لتصحو من غفلتك قبل أن تضيع نفسك "
***

بعد قليل / في مكتب صخر
قطب بحيرة حينما وجد مختار يدخل مغلقاً الباب خلفه فقال " أليس لديك حالات لتعاينها دكتور مختار؟ "
تجاهل مختار الرد على سؤاله وتقدم يجلس على الكرسي المقابل لمكتبه وهو يقول " يبدو أن تلك الصفقة لم تسير كما خططت لها "
رد بلامبالاة " إنها مجرد غطاء لما أسعى له وأنت تعرف هذا "
قطب مختار بجدية وهو يقول " إذن سترفضها "
هز رأسه سلباً قائلًا " إن رفضتها بتلك السرعة سأثير شكه "
طالعه مختار وهو يسأله بترقب " إذن ما الحل البديل من وجهة نظرك؟ "
سلط صخر نظراته الغامضة على قلمه الذي يتلاعب به بين أصبعيه بينما يجيب " من المفترض أن موافقتي قد وصلته في تلك اللحظة وبعد ساعة على أكثر تقدير ستكون كافة العقود قد تم الاتفاق عليها "
عبس مختار بغير رضا وهو يقول " من الغباء أن تورط نفسك مع شخص ذو سمعة سيئة وخارج عن القانون كهذا؟ "
رد ببساطة " إنه الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامي للوصول إلى الحقير فؤاد "
زفر مختار بضيق يقول " أنت وحدك أمام التيار يا صخر.. ستخسر بني بل ستهزم شر هزيمة "
لمعت مقلتيه بقسوة مخيفة وهو يتمتم " لا تخف عماه هذا لن يحدث.. فأنا لم أعتد الهزيمة ولم أخط ذلك المصطلح في قاموسي يوماً ولن أفعل "
ضرب مختار بقبضته على سطح المكتب قائلا بضيق شديد " يا ولد أفهم أنت هكذا لا تعرض نفسك وحدك للخطر "
رد صخر بصلابة " وأنا لم أطلب من أحد المساعدة عماه استطيع فعلها وحدي وكما ترى أنا أجنب يوسف كل هذا حتى لا أورطه فيما أفعله حتى تلك الصفقة تخضع لإشراف كامل مني وبعيدا تماما عن مؤسسة الجبالي حتى لا أسبب لهم أي مشكلات "
خفتت نبرة مختار بأسى وشفقة وهو يقول " صخر يا ولدي.. لا تغامر أنت تتعامل مع وحوش بلا ضمائر كل منهم يسعى ليسلب الآخر ما يملك بحقارة وأنت... لست هكذا "
أشاح صخر بوجهه بجمود وهو يرد " إذاً عليّ أن أتعلم كيف أصبح مثلهم حتى أتمكن من التعامل معهم (ثم أكمل بلهجة ذات بأس وقوة) لن أتراجع عماه.. لي حق ولن أفرط فيه مهما بلغ الثمن الذي عليّ دفعه في المقابل "
زفر مختار بحنق قائلا " عن أي حق تتكلم أنت.. ها؟ الأمر منذ البداية لم يكن متعلق بك من الأساس.. وجودك هناك كان صدفة وما تلاه أنتَ وحدك من تسببت في حدوثه "
غمغم صخر بجمود " ما كنت لأترك شخص يُقتَل أمامي وأظل مكتوف اليدين دون أن أدافع عنه "
صاح مختار وهو يضرب على سطح المكتب بقبضته من جديد، غاضبا من صلابة رأس صخر التي لا تلين " أتمنى من كل قلبي أن تذهب مبادئك تلك إلى الجحيم أيها المغرور "
قطب صخر مشيحا ببصره بعيدا دون تعقيب فمرت بضعة دقائق بينهما على هذا الصمت الكئيب حتى سأل مختار مغيرا الموضوع " كيف حال آدم؟ "
رد صخر بعبوس طفولي " طالما يرفع لي ضغطي فهو بخير "
ضحك مختار قبل أن يقول بمحبة " أحب علاقتكما القوية ببعضكما البعض رغم طول المسافة بينكما "
تنهد صخر وهو يرد " طول المسافة ليس عائقا بين علاقتنا يا عمي طالما حبل الود موصول فقط ليته يظل موصول حتى الأبد ولا ينقطع عند لحظة تحت أي ضغط أو لأي سبب "
قطب مختار بعدم فهم يقول " ماذا تقصد يا صخر؟ هل هناك أي خلاف بينكما لا قدر الله؟ "
أطرق صخر بنظراته إلى سطح المكتب وهو يقول بغموض " حتى اللحظة لا.. لكن قريبا سيكون "
ثم تنهد فجأة وهو يردف " آدم عائد إلى البلاد عما قريب ولا يعرف بشأن تلك الصفقة التي أخطط لها "
سأل مختار بترقب " ولماذا لم تخبره عنها؟ "
قطب صخر بضيق يقول " لأنني لا أستطيع اخباره عن المغزى من وراء تلك الصفقة.. لا أريد أن أفصح له عما أخطط له "
سأل مختار بحيرة " ألا تثق به؟ "
رد صخر بإقتضاب " بالطبع أثق به كثيراً فآدم بمثابة أخ لي لكن... "
قطع حديثه فتابع مختار عنه " تخشى أن يرفض فكرة الإنتقام التي تسعى خلفها "
لم يرد صخر فأردف مختار بتساؤل حذر " ترى لأي سبب قد يرفض؟ خوفا عليكَ أم (نظر له صخر بإقتضاب شديد فأكمل مختار بهدوء) أم رفضا لإيذاء خاله؟ "
رد صخر ببرود مراوغا " في كلا الحالتين ما كنت لأتراجع عن قراري "
نهض مختار من مكانه قائلًا بهدوء " إن أردت رأيي فمن الأفضل أن تفصح له عما تخفيه عنه.. أشرح له قرارك ووجهة نظرك وأتركه يفكر ويتخذ قراره وحده وعن قناعة وبعدها فليكن ما يكون.. لكن ليس من العدل أن تخفي عنه أمر بهذه الأهمية "
رد صخر وهو يتخلل خصلات شعره بقلة حيلة " آدم يشعر تجاهي بحمائية شديدة أفشل في كثير من الأحيان في تفسيرها وأخشى أن يتخذ جانبي فيتورط معي في طريق لا رجوع منه ويتأذى "
قطب مختار يقول " هذه هي مشكلتك تتمسك برأيك لأبعد حد ظنا منكَ بأنكَ هكذا تحمي من حولك .. رهابك من أذية من حولك لا يأتي بنتائجه السلبية على أحد سواك .. وحدك المتضرر يا صخر "
رد صخر بخفوت كئيب " لطالما كنت كذلك دومًا فلا أرى ضير من أذى جديد يُضاف للائحة أوجاعي اللانهائية "
هز مختار رأسه بيأس وهو يخطو مغادرا الغرفة دون أن يعقب بشيء في حين رفع صخر هاتفه وطلب رقم ما أتاه الرد منه على الفور " نعم صخر بك "
رد صخر بجمود " سأبعث لكَ بصورة مرفقة بإسم أريد كافة المعلومات الخاصة بها في غضون أربعة وعشرين ساعة لا أكثر "
رد الطرف الآخر بطاعة " ليكون ما تريد يا باشا "
قال صخر بإيجاز قبل أن يغلق الخط " حسناً سأرسل لكَ الصورة الآن "
ضغط زر الإرسال قبل أن يلقي الهاتف على سطح المكتب بلامبالاة مغمغما بجمود " لنرى ما خلفكِ أنتِ الأخرى "
***

بعد مرور بضعة ساعات / في المدرسة الثانوية
كانت نبض تجلس في مقعدها إلى جوار نور زميلتها وجارتها في حرج شديد وهي تتحاشى النظر لوجه الأستاذ تامر الذي حضر إلى المدرسة في حالة مزرية كانت تعلم سببها بالطبع
كل فينة والأخرى ترمق ساعة معصمها بغيظ وهي تعد الثواني المتبقية على إنتهاء الحصة لكي تهرب سريعا من أمامه وتختبئ في أي مكان لا يمكن أن يجدها فيه لكن الدقائق كانت تمر بطيئة وكأنها لا تريد أن تنتهي
زفرت براحة حينما أعلن الجرس المدرسي عن إنتهاء حصة اللغة الإنجليزية وبدء فترة الراحة قبل إستكمال بقية الحصص
كانت تضع كتبها في حقيبتها على عجلة لتخرج من الصف حتى فوجئت بالأستاذ تامر يقف أمامها محدثا زميلتها " إن كنتِ انتهيت من لملمة أدواتك يمكنك الخروج من الصف نور "
تنحنحت نور بحرج وهي ترمق نبض بطرف عينيها في حين ردت " لقد انتهيت بالفعل.. بعد إذنك أستاذ "
اومأ لها بلا معنى فخرجت مهرولة وحينما همت نبض باللحاق بها استوقفها تامر قائلًا بجمود " انتظري نبض.. أريد الحديث معكِ "
تسمرت مكانها ورأسها مطرق للأرض وهي تكاد تبكي من الحرج في تلك اللحظة
همهمت بخفوت " نعم أستاذ "
رد تامر بإقتضاب " طبعاً أنتِ لستِ في حاجة للسؤال عما حدث وتسبب لي في هذا (وأرفق قوله بأن رفع يده مشيرا لوجهه المكدوم بحركة دائرية وهو يكمل) لأنك تعلمين أليس كذلك؟ "
رمشت بقوة وهي تتوسل للأرض بصمت أن تنشق وتبتلعها لتنقذها من ذلك الموقف المخزي
استجمعت شجاعتها وهي ترد بمراوغة " وكيف سأعرف أستاذ؟ "
هتف تامر بغيظ لم يتمالك كتمه " لا تستفزيني نبض .. تعرفين أن ذاك الهمجي قريبك هو من فعل ذلك "
فغرت فاهها بصدمة وحيرة للحظات وهي لا تفهم عن أي قريب يتحدث؟ لكنها سرعان ما تذكرت أن والدها أخبر الجميع من قبل بكون صخر قريبهم وأن يوسف محال أن تنتج عنه أي ردة فعل عنيفة إذن الفاعل هو صخر ولا غيره، قطبت بتعجب تفكر كيف وصل الخبر لصخر بهذه السرعة وهي أخبرت يوسف وحده؟ والأهم هو متى وأين رسم صخر تلك اللوحة التجريدية على وجه الأستاذ تامر؟
خرجت من أفكارها على إهانات تامر المستمرة التي يخص صخر بها فرفعت رأسها بحدة مقطبة بغضب صرخت به مقلتيها وهي ترد " صخر ليس همجي أستاذ تامر.. إنه طبيب محترم وأيا كان سبب شجاركما فليس من حقك أن تنعته بالهمجي.. (رفعت سبابتها في وجهه تقول بشراسة من بين أسنانها) لن أسمح لكَ بذلك "
طالعها بذهول وهو يقول " هل تدافعين عنه بعد ما فعله بي؟ "
التقطت حقيبتها وهي ترد ببرود مقصود " بالطبع فهو قريبي مهما فعل يفترض بي أن أدافع عنه في غيابه.. بعد إذنك أستاذ "
خطت خطوتين وتوقفت تقول بترفع وهي توليه ظهرها " بالمناسبة أستاذ تامر نسيت أن أشكرك على عرضك الذي أخبرتني به بالأمس لكني لست في حاجته فصخر.. (وشددت على بقية جملتها) يشرح لي كافة المواد "
خرجت بعدها من الفصل دون أن تعيره إهتمام مغمغمة بتذمر طفولي " منكَ لله يا صخر بسببك اضطررت للكذب "
***

ما إن وصلت إلى فناء المدرسة حتى تفاجأت بعدد لا بأس به من زميلاتها في الصف تقتربن منها بحماسة عالية بادية على وجوههن الباسمة بهيام سخيف مبالغ فيه من وجهة نظرها
صاحت إحداهن بفرح غير مبرر " قريبك هنا "
قطبت بحيرة تشير لنفسها قائلة " قريبي أنا "
قطبت الفتاة تقول " نور اخبرتنا أنه قريبك "
نظرت نبض بعدم فهم إلى نور تسألها " فسري نور ماذا تقصد هبه؟ "
ابتسمت نور بحماس كباقي الفتيات تقول " هبه تقصد صخر "
رمشت نبض بذهول وهي تتمتم " صخر هنا.. يا للمصيبة "
تنهدت أخرى بهيام وهي تتلاعب بخصلة من شعرها قائلة " معكِ حق هو مصيبة بالفعل.. لكنه مصيبة وسيمة للغاية .. ماذا ينقصه يا ترى؟ "
ردت أخرى بنفس الهيام " لا شيء بالطبع.. طبيب، وسيم، ذو عينين كحيلتين، طويل القامة، عريض المنكبين.. إنه كأبطال الروايات وأيضًا ذو شخصية جبارة "
فغرت نبض فاهها ببلاهة بينما ضحكت نور بتهكم تقول " نعم جبارة وليتها تنفجر في وجهك "
عبست الفتاة من سخرية نور بينما قطبت نبض تسأل " أين هو يا نور؟ "
ردت نور " في مكتب المديرة "
اتسعت عينيّ نبض بقلة حيلة وهي تغمغم " لا حول ولا قوة إلا بالله.. ضاع الأستاذ تامر المسكين في شربة ماء "
همت بالتحرك فسألتها نور " إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
ردت بعبوس وهي تسرع الخطى ناحية مكتب المديرة " يجب أن أنقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن نجد المسكين معلق من قدميه كالذبيحة على بوابة المدرسة "
قطبت هبه بحيرة تسأل نور " مسكين! وذبيحة! ما الذي تقصده نبض؟ "
كتمت نور ضحكتها وهي ترد بمراوغة " لا أعلم.. دعينا نراقب في صمت "
***

وصلت إلى مكتب المديرة لكن قبل أن تطرق الباب كان صخر يفتحه فكادت تصطدم به من شدة اندفاعها لولا أنه تراجع للخلف في نفس اللحظة ليقف كليهما أمام بعضهما بملامح عابسة
أتى صوت المديرة من خلفه حينما لاحظت وجود نبض تطمئنها بالقول " لا تقلقي نبض.. ستحاول إدارة المدرسة اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن الأستاذ تامر في أسرع وقت "
ضيقت نبض عينيها بعدم فهم ليهمهم صخر بخفوت وهو يميل ناحيتها قليلًا " إياكِ وفتح فمك بكلمة أمام المديرة "
كادت تجادله لكن المديرة سبقتها تقول بلوم " في المرة القادمة حينما تكون لديكِ أي مشكلة أو شكوى تعالِ لمكتبي واخبريني مباشرة فليس هناك داعٍ لتعطيل دكتور صخر عن عمله بسبب تلك الأمور "
رمشت بضيق وهي تستشعر تغير في نبرة صوت المديرة، عبست وهي تفكر ترى هل تتخيل نبرة الدلال في صوتها؟
ماذا يحدث مع الجميع اليوم بسببه؟
غمغمت بخفوت " حاضر.. في المرة القادمة بإذن الله سأخبرك فورا أستاذة جهاد "
إلتفت صخر إلى المديرة قائلًا بلباقة " شكرا مرة ثانية أستاذة جهاد وسعدت بلقائك "
ابتسمت جهاد بإتساع وهي ترد " أنتَ على الرحب دكتور صخر.. لا تحرمنا من رؤيتك مجددًا حتى وإن لم تكن لدى نبض أي مشكلة "
مالت نبض من خلف كتفه تطالع المديرة بذهول جاحظة العينين وهي لا تصدق أن الأستاذة جهاد التي يضرب بها المثل الأعلى في العبوس تبتسم بل ويبدو أنها تغازل صخر
رد صخر متنحنحا بحرج " آه بالطبع قريباً إن شاء الله.. بعد إذنك أستاذة جهاد "
ردت جهاد بإبتسامة هائمة " مع السلامة دكتور صخر.. شرفت المدرسة وأنرتها والله "
تمتمت نبض بدهشة " والله! وأنار المدرسة! هل ظنته يعمل في مجال الكهرباء؟ مصباح هو ربما؟ "
إلتفت صخر إلى نبض قائلًا " هيا نبض "
اومأت برأسها وهي تتحرك معه بينما ترمش بذهول متمتمة بتفكير جاد " هناك لغز في شخصية صخر عليّ اكتشافه حتى أفهم ماذا يحدث مع كل الفتيات اللاتي تراه؟ "
حينما وصلوا إلى الفناء كانت هي لازالت على سيرها الشارد عنه تفكر فاستوقفها بتعجب يقول " توقفي نبض.. إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
توقفت بالفعل والتفتت حولها بحيرة للحظات ثم ثبتت في وقفتها أمامه مطرقة الرأس وهي تقول بهدوء ظاهري " هلا أخبرتني بما قلته للأستاذة جهاد عن الأستاذ تامر؟ "
رد ببرود " وما دخلك أنتِ؟ "
قالت من بين أسنانها بغضب مكبوت " لي دخل بالطبع.. أنتَ هنا لأجلي والأمر الذي جئت تتحدث عنه يخصني.. لذا فمن حقي أن أسأل ومن واجبك أن ترد "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله قائلًا " لا أظن بأنني في حاجة لأن تخبرني طفلة قزمة مثلك عن واجباتي "
رددت ببهوت " قزمة! من القزمة؟ أنا! "
مال برأسه قليلا وهو يرد باستفزاز " ألم تطالعي صورتك في المرآة من قبل؟ "
فتحت فمها لترد حينما لفت انتباهها وقوف زميلاتها على بُعد قليل منهما تتهامسن وهن يُشرن على صخر فعبست بغيظ تقول " قف بانضباط وأخرج يديك من جيبيك.. لست هنا لتقدم عرض يا سيد "
رفع حاجبيه بذهول يقول " ماذا؟ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تتمتم بصوت حانق " نفذ ما قلته حالا يا صخر "
تلقائيا وجد نفسه يخرج يديه من جيبي بنطاله منفذا أمرها وهو ينظر لها بحيرة قائلا بتلقائية " هكذا؟ "
اومأت له دون أن تنظر له وهي تسلط أنظارها على الفتيات من خلفه واللاتي كن من صفوف أخرى غير صفها لتهمهم حينها بغيظ " ما هذا؟ أليس لديهن حصص أم ماذا؟ "
قطب صخر متحيرا في أمرها قبل أن يقول " هل ستعودين معي الآن لأقلك إلى البيت في طريقي أم ستكملين دوامك المدرسي؟ "
ردت بغمغمة نزقة " لن تسمح لي المديرة بالذهاب للبيت قبل إنتهاء الدوام طالما ليس لدي سبب يستدعي ذلك "
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرد بعجرفة لكي يغيظها " يمكنني أن اتوسط لكِ عندها إن رغبت في العودة معي الآن "
تأففت غيظا من الفتيات اللاتي عاودن التهامس من جديد ونظراتهن تبدي إعجابهن الواضح به كان ذلك قبل أن تلاحظ وقفة صخر فتصرخ بإنفعال وهي ترفع سبابتها في وجهه " قف منضبطا قلت.. لماذا لا تنفذ ما أقول؟ "
نظر لها ملئ عينيه وهو لا يصدق بأنها أخيرا تنظر له مباشرة دون أن تشيح بوجهها عنه بعيدا كما تفعل في كل مرة تحدثه فيها وحين لاحظت هي صمته الطويل الشارد رمشت بتوتر وهي تخفض بصرها عنه متسائلة بإرتباك " ما بكَ؟ هل أكل القط لسانك؟ "
نسى كل شيء وهو يسألها بخفوت " نبض ما لون عينيّ؟ "
ردت نبض بتلقائية، مسهبة دون وعي منها " بنيتين كلون القهوة لكنهما تزدادان قتامة كلما غضبت أو انفعلت وكأنهما مرجلين يغليان حتى إن اشتعال أفكارك دوماً ينعكس في لون عينيك فيجعلهما أثيرتين ببريق خاطف "
كان يطالعها ببلاهة متسع العينين وظل صامتا للحظات طويلة قبل أن يتمتم بخفوت " كيف عرفتِ كل هذا وأنتِ لا تنتظرين إليّ مباشرة؟ "
أولته ظهرها بخجل دون أن ترد فاقترب منها خطوة يهمس جوار أذنها بنبرة رقيقة حنونة " وأنتِ عينيكِ تبارك الخلاق.. جوهرتين نفيستين كحجرين كريمين يلمعان كلما تحمستِ أو غضبتِ، تغيمان في قتامة مثيرة تنعش القلب العليل حينما تخجلين فلا حرمني الله من رؤية خجلكِ في كل لحظة "
كتمت شهقتها بسرعة وهي تخطو بعيدا عنه مغمغمة بتلعثم من الخجل " أظن بأن... بأنني سأكمل دوامي .. السلام عليكم "
استوقفها قائلاً بندم حقيقي " نبض أنا أعتذر.. لم أقصد ما حدث بالأمس "
ازدردت ريقها وهي تقف مكانها قائلة بحرج " لا بأس لكن... أتمنى ألا يتكرر ثانية.. أرجوك إنتبه "
تنهد بقوة وهو يرد " كانت ذلة أقسم لكِ ألا تتكرر مجددًا لا تقلقي "
ردت ببسمة رقيقة دون أن تستدير له " حسنًا الآن اعتذارك مقبول دكتور "
خطت عدة خطوات ثم توقفت من جديد واستدارت له بحدة تستوقفه وقد همَّ بالرحيل " صخر انتظر "
نظر لها بتساؤل فرفعت حاجبا بتهديد وهي تشير له بسبابتها قائلة " أخرج حالا من المدرسة وأستقل سيارتك مباشرة وعد لبيتك وإياك... إياك أن تقف مع أي فتاة لأي سبب "
قطب بعبوس يقول " لستُ ولدا صغيرا لتكلميني بهذه الطريقة.. ثم إنني لا أفهم سبب ما تقولين "
ردت ببرود مصطنع " هذا ما عندي وبدون سبب "
استدارت بخفة وخطى ثابتة ناحية مبنى الصفوف دون أن تضيف المزيد
رفع صخر حاجبيه يكلم نفسه " لقد ورثت تعنت أمها وتسلطها بجدارة لكَ الله عماه "
تنهد بعمق وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متوجها ناحية البوابة وقبل أن يصل إليها رأى الأستاذ تامر يقف في إحدى الزوايا يتحدث في هاتفه بعصبية فرمقه بترفع وبريق النصر يلتمع في مقلتيه مما جعل تامر يقطب بغضب مكبوت وهو يعجل في إنهاء المكالمة متوجها لصخر الذي تمهل عن قصد في الخروج من المدرسة
وصل إليه تامر قائلا بإندفاع " لا تظن نفسك حققت أي نصر عليّ.. أنتَ لا تعرف من هو تامر عبد الحميد وما بمقدوري فعله بكَ؟ "
نظر له صخر باستهانة وهو يقول " هل يفترض بي إعتبار هذا تهديد أستاذ تامر عبد الحميد؟ "
جز تامر على أسنانه وهو يرد بغل " يفترض بكَ أن تحذرني دكتور صخر فأنا لا أترك حقي "
رفع صخر حاجبا بترفع وهو يرد باستفزاز " وأنا لا أحب أن أبخس الناس حقوقها فإن كان لكَ عندي حق تعالَ وخذه "
قطب تامر يقول بغيظ مكبوت " ستندم عما قريب وستدفع الثمن غاليا.. هذا وعد مني "
رمقه صخر بنظرة مستخفة شملته باستهانة وهو يقول بلامبالاة " سأكون في الجوار أترقب.. فقط لا تتأخر فأنا لا أحب الإنتظار طويلًا "
ثم رفع اصبعيه السبابة والابهام إلى جانب رأسه بينما قبض على البقية وهو يشير له بتحية تشبه تحية الكشافة قائلا باستفزاز " سلام "
***

بعد بضعة أيام / صباحًا
كان أنس مستمتعا كالعادة بمناكفة شمس التي تتذمر عليه في البداية لكنها لا تلبث أن تطلق العنان لضحكاتها الراضية المرحة
كان أكرم يراقبهما بعين الأب الحنون السعيد من تلك العلاقة الوثيقة والفريدة التي تربط بين أنس وشمس رغم اختلاف أميهما
بينما مروة كانت تميد غيظاً من ابنها وحقداً على شمس، صحيح أن الفتاة لم تفعل يوماً ما يزعجها منها أو ما يغضبها لكنها لا تشعر ناحيتها بأي عاطفة إلا الحقد والقهر
لا يمكنها تناسي أن أكرم تزوج عليها ذات يوم وأحب زوجته الأخرى أكثر منها بل للحق إنه لم يحبها يوماً بتلك العاطفة التي تتولد بين الرجل وزوجته وإنما كان يبذل قصارى جهده ليعاملها بود ورحمة ليس أكثر
وهي مع انشغالها بالاجتماعات السخيفة التي تقيمها مع صاحباتها في النادي لم تجد الوقت لتحاول رأب الصدع في علاقتها بزوجها أو التفكير في حل لتلك الخلافات التي لا تنتهي بينهما
كان جلّ همها أن تظل بصورتها المنمقة كسيدة مجتمع مخملي راقي، تبذل الكثير للحفاظ على تلك الصورة أمام الجميع ولو كلفها هذا إهمال أسرتها لبعض الوقت بل لكثير من الوقت لكنها لا تبالي سوا بمظهرها
وفي سبيل الحفاظ على هذا المظهر المنمق هدمت الكثير من الروابط كان أولها علاقة الود بينها وبين زوجها فلم يعد أكرم يهتم بغضبها منه ولا يسعى لمراضاتها ولو لأجل صلة الدم والرحم التي تربط بينهما كما كان يفعل في السابق
كما هدمت العلاقة بينها وبين ابنها الوحيد، تلك العلاقة التي لم تكن يوماً من الأساس فهي وإن كانت تهتم به أحياناً فهذا لأنه يعد ولي العهد والوريث الوحيد لأكرم الباسل رجل الأعمال الثري ذا النسب والجاه أما دون ذلك فهي لا تهتم أبداً بل إنها كانت منزعجة منه منذ ولادته كونه سلبها الكثير من الوقت أثناء الحمل كان من الممكن استغلاله في عمل أكثر نفعاً من وجهة نظرها
ولم تفلت تلك المسكينة شمس منها بل كان لها الحظ الوافر من نقمتها وصب جام غضبها عليها كلما ازعجها أكرم أو أنس فلم تكن تجد لها منفذا لتفرغ فيه غضبها سوا شمس
وكم تحملت شمس منذ وعت على الحياة من تلك المرأة البغيضة دون شكوى أو تذمر، كان يكفيها حضن أبيها لتنسى يوماً كاملاً استغرقته في البكاء نتيجة لضرب مروة لها، أو ابتسامة صادقة وتربيته حانية من أنس لينجلي همها وحزنها وتشع روحها بالسعادة
تنحنح أكرم قليلاً مخرجاً نفسه من أفكاره وهو يقول بابتسامة هادئة " أتتك دعوة لحضور حفل زفاف يا شمس "
نظرت شمس إلى والدها مقطبة بحيرة تقول " دعوة، لي أنا!.. مِمَنَ؟ "
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرد بمكر " إنها مفاجأة "
ضيقت شمس عينيها وهي تقول " أشعر أنك تخفي عني أمر خطير بابا .. مفاجآتك دوماً تصدمني "
ضحك أكرم متسلياً وهو يرد " الأمر مختلف هذه المرة لكن بصراحة معكِ حق سوف أصدمك "
زمت شمس شفتيها وهي تتمتم بعبوس " رائع "
سأل أنس بجدية " ممن تلك الدعوة يا أبي؟ أنا لم اسمع عن حفل زفاف أياً من اقاربنا أو معارفنا حتى "
كانت مروة هي الأخرى تتابع الحديث بترقب واهتمام حتى أجاب أكرم ببساطة " هذا لأن الدعوة ليست من أياً من اقاربنا أو معارفنا "
عقد أنس حاجبيه بانزعاج من مماطلة والده بينما هتفت مروة بنفاذ صبر " ما هذا يا أكرم؟ لغز! لما لا تقل من قدم تلك الدعوة حتى ننتهي؟ "
رفع أكرم حاجبيه ببرود وهو يرد " الدعوة مقدمة لشمس لذا فهي وحدها من لها الحق بالسؤال عن هوية المرسل ولا أحد... آخر "
تشديده على الكلمة الأخيرة اشعرها بالحرج والإهانة مما جعلها تنهض مغادرة الغرفة وهي تتمتم بغضب وتسب شمس في نفسها
نظرت شمس إلى والدها بلوم وهي تقول " ألم نتفق يا بابا؟ "
نظر لها أكرم ببراءة مصطنعة وهو يسألها " نتفق! على أي شيء اتفقنا؟ "
قطبت شمس وهي تشيح بوجهها عنه في يأس متمتمة " لا أمل أبداً في تغيير شخصية السيد العظيم أكرم الباسل "
تجاهل أكرم ردها وابتسم يقول " حفل الزفاف سيقام غداً بإذن الله لكنك ستذهبين اليوم "
عادت شمس تنظر إلى والدها بحيرة بالغة وهي تقول " أذهب إلى أين بالضبط؟ "
رد أكرم بهدوء " إلى حيث سيقام حفل الزفاف "
قطبت شمس بغيظ وهي تسأله " وأين سيقام هذا الحفل الغريب؟ "
ابتسم أكرم باستفزاز وهو يجيبها " إنه جزء من المفاجئة لذا لن استطيع الإفصاح لكِ عن المكان "
عبست شمس وهي تعقد ساعديها أمام صدرها بينما تقول " لن أذهب فلست في مزاج لحضور أي حفل "
غمز أكرم بطرف عينه بمرح وهو يقول " ألم أخبركِ الأمر مختلف هذه المرة .. أنا على تمام الثقة بأنكِ ستستمتعين كثيراً وبالمناسبة... (قطع حديثه وهو ينظر إلى أنس بهدوء ثم تابع موجهاً حديثه لشمس) لن يرافقك سوا أنس وحده "
رمشت شمس بذهول وهي تقول " لماذا؟ ألست مدعواً أنت وعمتي مروة أيضاً؟ "
رد أكرم بهدوء " بلى أتتنا دعوة أيضاً لكن أنتِ وأنس فقط من ستذهبان فأنا مشغول وعمتك مروة... (ابتسم ساخراً ثم تابع) لا أظن أجواء ذاك الحفل ستنال إعجابها ولا أريد إفساد الأمر عليكِ بكثرة تذمرها لذا لن نذهب معكما "
نهض أكرم من كرسيه واقترب منها مقبلا وجنتها برقة وهو يقول بحنان " سأغادر الآن لعملي حتى لا اتأخر.. استمتعي حبيبتي قدر ما تستطيعين.. سأشتاق إليكِ "
بعدها التفت أكرم إلى أنس واقترب منه بهدوء وعلى نحو مفاجئ انحنى أكرم قليلاً وقبل جبين أنس الذي تجمد في مكانه من وقع المفاجئة وهو يسمع والده يقول " انتبه لأختك ولا تغفل عنها لحظة يا أنس وحاول أن تستمتع بالأمر فهو جديد عليك.. سأشتاق إليك... كثيراً يا أنس "
والده نطق إسمه ' أنس ' مرتين، مرة بتحذير وحزم أبوي تام ومرة بحنان معهود منه لكنه شعر به بفيض عليه بحنانه تلك المرة أكثر وهذا أثر فيه بشكل خاص
قبل أن يرد أنس بكلمة كان والده قد ابتعد بعدما ربت على كتفه قائلاً " هاتفني بعد ساعة هناك ما أريد اخبارك به "
اومأ بالموافقة لكن والده كان قد غادر فلم يره فتنهد بعمق وهو يتمتم بشجن " رُحماك يا رب "
نظرت له شمس بقلب مكلوم حزين عليه، أنس ذلك الشخص الفريد من نوعه رغم كل عيوبه ومساوئه لا ينسى لسانه ذكر الله في كل وقت
لم يتخلف مرة عن أداء صلاة في وقتها ولم يتكاسل يوماً عن القيام بأي فريضة لكنه ورغم ذلك متمسك بطريق الضياع الذي يسلكه راضياً به ليس راضياً عن نفسه
ابتسمت بمرح زائف حاولت به إجلاء القليل من الهم المسيطر عليهما وهي تقول " إذاً سنذهب أنا وأنت وحدنا.. أظنها ستكون مغامرتنا السرية الصغيرة "
ابتسم أنس بحنان وهو ينظر إليها قائلاً " هذا ما أظنه أنا الآخر يا شمسي "
هبت شمس من مكانها تقول بحماس " إذاً سأذهب لأرى ما سأحتاجه فعلى ما يبدو أننا سنبيت هناك الليلة نظراً لأن الحفل لازال في الغد "
اومأ أنس وهو يقول " حسناً اذهبي "
***

في المدينة الجبلية
كانت ترتيبات العرس تقام على قدم وساق الكل منشغل وملتفت إلى عمله بجد واهتمام كبير
ليس مسموح لأحد بالراحة خاصة وأن العروس المزعجة الطفولية إلى حد مغيظ تشرف على الترتيبات بنفسها والعمال أنفسهم يشعرون بالغيظ والحنق عليها
منذ ساعة باكرة من الصباح وهي تحوم من حولهم تهتف كل لحظة بتعديل على كل شيء يفعلونه
" لا أريد الزينة بهذا اللون بل أريدها وردية "
" بدلوا تلك المصابيح بأخرى فهذه لا تعجبني "
" لماذا لم تبدؤا حتى اللحظة؟ أسرعوا.. أنا أريد كل شيء جاهز قبل حلول المساء "
وحينما حاول أحدهم الاعتراض قائلاً " يا سيدتي لازالت الليلة الحناء والعرس سيقام في الغد فلما تلك العجلة التي لا أرى سبب لها؟ "
كان ردها الوحيد أن صرخت مستنكرة مما قال وهي تهتف بغيظ " لا دخل لك.. العرس اليوم أم في الغد أفعل ما اطلبه أنا دون نقاش .. هل أنت العروس أم أنا؟ "
عبس الرجل بحنق وهو يغمغم بما لم تسمعه زهراء فصرخت فيه بضيق " أجبني... هل أنتَ العروس أم أنا؟ "
زاد عبوس الرجل وهو يرد " أنتِ هي العروس سيدتي "
شمخت حينها زهراء بذقنها وهي تقول " إذاً أفعل ما تأمرك به العروس بصمت ودون نقاش وإلا... (نظر لها الرجل بترقب بينما هي برقت عينيها بمكر وهي تكمل جملتها) سأشكوك لعمي خالد "
انتفض الرجل بفزع وهو يقول بنبرة أقرب إلى التوسل " لا داعي لذلك سيدتي كل ما تأمرين به سيتم في الحال لا تشغلي نفسك بالأمر "
اومأت زهراء برأسها وهي تبتسم بنصر قائلة بخفوت قبل أن تخطو للداخل " جيد "
***

كان زيد يقبض على أصابعه بشدة ويكاد ينفجر غيظاً وهو يستمع إلى ابنة عمه الطفولية السخيفة بينما أبناء عمومته من حوله يكتمون ضحكاتهم بشق الأنفس حتى لا يثيرون غيظه أكثر
قال ياسين بتسلية " لقد اشفقت على الرجل المسكين حينما ذكرت اسم أبي .. كاد يموت من الفزع لولا لطف الله به "
انفجر الجميع في الضحك الشديد بينما صرخ زيد غاضباً " لولا خوفي من الله لكنت ذهبت إليها اللحظة وقطعت لسانها الطويل الذي تستخدمه في بث الخوف في نفوس الناس لكي تحقق رغباتها السخيفة "
صمتوا جميعاً في لحظة وكأن على رؤوسهم الطير بينما هو تابع كلامه " هل ترى عمي خالد وحش مخيف لهذه الدرجة؟ "
رد حمزة بهدوء " بل الرجل من يراه هكذا يا زيد .. هو من فزع وارتعب لمجرد ذكر اسمه أمامه "
ضيق زيد عينيه وهو يقول من بين أسنانه " هو ليس ظالماً سيد حمزة "
ارتفع حاجبي حمزة بتعجب وهو يرد " وهل قلت ذلك؟ كل ما قصدته أن زهراء استغلت اسمه لتضغط على الرجل لينفذ لها ما تريد "
اومأ عاصم برأسه وهو يؤكد كلام أخوه " حمزة معه حق .. الجميع يعلم من هو خالد الجبالي لذا يحسبون له ألف حساب وهذا ما دفع زهراء لذكر اسمه هو على وجه الخصوص دون آخر "
عبس زيد دون أن يعقب على كلامهم فتابع عاصم مناكفاً " لقد أصبحت تشبه عمي خالد في الصرامة وحدة الطباع .. أتعلم؟ يليق بك أن تكون ابنا له أكثر من عمي سليم "
التفت زيد جانباً ينظر إلى قاسم الذي يجلس متجهماً كالعادة ثم قال " أرى أن عمي خالد يكفيه ابن واحد حاد الطباع "
قال ياسين مازحا: " إذن واحد من نصيب أبي وآخر لعمي سليم فعلاً يا شباب القدر عادل إلى أبعد الحدود "
تأوه ياسين عندما ضربه قاسم على مؤخرة عنقه وهو يقول بخشونة " حسناً هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل ونعرف من هو عادل هذا يا ذا الظل الخفيف؟ "
دلك ياسين موضع الضربة وهو يلحق به متمتماً بغيظ " ادعوا لي يا شباب فقد تصيبني يد ذلك الجلف بعاهة فلا أتمكن من حضور العرس "
تبعته ضحكات حمزة الساخرة وهو يقول " بل قد يصيبك بعاهة مستديمة تجعل الفتيات تنفر منك فلا نجد عروس تقبل بك يا مسكين "
توقف ياسين عن سيره والتفت إلى أبناء عمومته ينظر لهم بهلع زائف وهو يقول " حقاً!.. "
لم يكد أحدهم يرد حتى أتاه صوت قاسم صارخاً من خلفه " ياسين "
استدار ياسين بسرعة يلحق بأخيه وهو يتمتم بغيظ وحنق " أراهن على أنهم استبدلوا أخي في المشفى بهذا الجلف .. ما كل هذا الحظ التعيس يا ربي أخ جلف وحبيبة حمقاء؟ هذا كثير جداً عليّ "
***

بعد بضعة ساعات
توقفت السيارة الفاخرة السوداء أمام دار الجبالي بتلك المدينة الجنوبية التي يغطي معظمها المساحات الخضراء التي تجعل منها روضة مبهجة للعين على خلاف أجواء العاصمة الصاخبة
ترجلت شمس من السيارة بهدوء وثقة لتقف بجوار أخيها أنس الذي أمسك بكفها مبتسماً بحماس وهو يقول " سعيد بأني سأشاركك في مغامرتك مع عائلتك الغامضة "
ابتسمت شمس برقة وهي ترد " ما كنت لأخوضها بدونك يا أنيس الروح "
لحظة صمت مرت بينهما وكل منهما يحاول استمداد قوته وطاقته من الاخر حتى قاطعهما صوت رجل ضخم ذو شارب كث، يرتدي جلباب قاتم اللون وعمامة بيضاء قائلا بنبرة ثقيلة تخص أهل الجنوب " كيف استطيع خدمتكم؟ "
رغماً عنها أجفلت من نبرته القوية، كل ما استطاعت فعله حينها أن تكتم تلك الشهقة التي كادت أن تفلت من بين شفتيها لكنها كرد فعل عفوي اختبأت خلف أنس فقط رأسها ما كان ظاهراً وهي تميله جانباً لتتمكن من رؤية الرجل غريب الهيئة بالنسبة لها
ضحك أنس من فعلتها الطفولية وهي تشدد على كفه الممسكة بها بينما يرد على الرجل بتهذيب " أهلاً يا عم .. هل هذه دار الحاج عبد الرحمن الجبالي؟ "
رمق الرجل شمس بنظرة جامدة غير راضية قبل أن يرد على أنس بنبرته الثقيلة " نعم هي .. من أنتم؟ "
ابتسم أنس بلطف وهو يرد " معنا دعوة خاصة من الحاج عبد الرحمن لحضور الحفل "
ردد الرجل ببطء ممتعض " الحفل! "
رفع أنس حاجبيه قليلاً وهو يعدل كلامه بنبرة تحمل الكثير من التسلية " أقصد لحضور عرس حفيديه "
ظل الرجل على امتعاضه منهما وهو يعيد سؤاله من جديد " لم تخبرني بعد... من أنتما؟ "
اتسعت ابتسامة أنس وهو يمد يده ليصافح الرجل وهو يقول بنفس نبرة التسلية " أنا أنس "
رمق الرجل كف أنس ببرود ثم عاد ورفع بصره إليه وهو يقول " من أنس؟ .. لم أفهم "
اغتاظت شمس من نبرة الرجل المستخفة بأخيها فهبت من خلف أنس تصيح " حقاً لا تعرف من هو أنس الباسل؟ "
نظر لها الرجل ببرود وهو يرد " لا.. لا أعرف من هو (وشدد على اسم أنس باستخفاف) أنس الباسل؟ "
رفعت شمس حاجباً بترفع وهي تتخصر أمام الرجل بثقة بينما تقول " إذن يشرفني أن أخبرك من هو أنس الباسل؟.. (ثم نظرت إلى أخيها بفخر وهي تقول) أنس أكرم الباسل أصغر واوسم رجل أعمال قد تقابله في حياتك هذا خلاف أنه... (قطعت كلامها وهي تنظر إلى الرجل بغيظ بينما تتابع) يكون أخي وأنا أكون... شمس أكرم الباسل ابنة السيدة رقية عبد الرحمن الجبالي "
فغر الرجل فاهه بصدمة وتبلدت ملامحه بغباء للحظات ثم هتف بصياح مرحب اجفلها " كنا ننتظرك منذ وقت طويل .. شرفت البلدة بأكملها وأنرتِ داركِ ودار أمك .. أهلاً وسهلاً بالغالية ابنة الغالية ابنة الغاليين "
رمشت شمس بذهول وهي تنظر له وكأنه مجنون من سرعة تبدل حاله ثم نظرت إلى أخيها بطرف عينها لتجده يكتم ضحكته بتسلية فعادة ببصرها إلى الرجل الذي تابع صياحه المرحب " تعالِ يا ابنتي لما تقفين عندك؟ .. أدخلي داركِ فالجميع في إنتظارك بالداخل "
ظلت شمس تطالعه بذهول وهي تقول بتمتمة خافتة متذمرة " الآن ابنتك وماذا عن العرض المسرحي والعبوس الذي لاقيتنا به منذ لحظات؟ "
سمعها الرجل فتبسم بحرج يقول " لا تؤاخذيني يا ابنتي .. من لا يعرفك طبيعي أن يجهلك وأنتِ لم تزوري عائلة أمك من قبل حتى نراك ونتعرف عليكِ "
شعرت شمس في تلك اللحظة بالحنين والشجن لتلك العائلة التي ظهرت لها فجأة من العدم
ابتسمت برقتها المعهودة وهي تقول " حسناً يا عم... (نظرت له بأدب وهي تسأله) ما إسمك عماه؟ "
ابتسم الرجل وهو يرد بلطف " إسمي ابراهيم "
اومأت برأسها بخفة وهي تقول برقة وأدب " حسناً يا عم إبراهيم لا بأس .. يمكننا أن نتجاهل ما حدث في بداية لقائنا وكأنه لم يكن والآن هل تسمح لنا بالدخول حتى ألتقي بعائلة ماما؟ "
اومأ الرجل برأسه بقوة وهو يرد عليها ماداً ذراعه أمامها وهو يقول " بالطبع تفضلا بالدخول .. من أنا لتأخذي الأذن مني يا ابنتي؟ .. تفضلي إلى داركِ أنرتِ وشرفت .. والله سعادتي لا تسعها الدنيا .. يا أهلاً وسهلاً وألف مرحباً بكِ "
كاد أنس ينفجر ضاحكاً من ترحيب الرجل المبالغ فيه لكن شمس حدجته بنظرة مهددة صارمة ألا يفعل حتى لا يحرج الرجل بينما هما يسيران خلفه ممسكين بأيدي بعضهما كطفلين صغيرين يخشيان الضياع من بعضهما
كانت شمس تتأمل ما حولها بابتسامة رقيقة وهي تطالع الزينة التي يعلقها العمال بنظام دقيق وحرص
اعجبتها الحديقة الواسعة الملحقة بالدار والتي ملأتها المصابيح الملونة والزينة هكذا لكنها لم تستطع تأمل ورؤية كل شيء حينما سمعت صوت العم إبراهيم من أمامها يقول " يا أهلاً وسهلاً .. سيسعد الحاج عبد الرحمن كثيراً حينما يراك "
ابتسمت شمس بصمت دون تعقيب وهي تصعد درجات السلم القليلة خلفه لكنه توقف فجأة فاجبرها هي الأخرى على التوقف وهكذا أنس
نظر إبراهيم إلى أنس وقال ببرود " عرفت من النظرة الأولى أنكَ لا تنتمي لعائلة الجبالي "
رفع أنس حاجباً بمناكفة وهو يقول " نبرتك معي عدائية دون سبب يا عم .. لعلمك وللمرة الثانية أنا اخوها .. ألا نصيب لي في الترحيب أنا الآخر؟ "
تمتم إبراهيم وهو يستدير مكملاً طريقه " استغفر الله العظيم "
كاد أنس أن ينفجر غيظاً منه لكنه صمت متنازلا لأجل شمس حتى لا يفسد عليها بهجتها الظاهرة على وجهها
***

حينما دخلت شمس بصحبة أنس إلى ذلك المجلس الفسيح كان كما قال لها العم إبراهيم تماما، الجميع في انتظارها أو بدقة أكثر كانت الأغلبية في انتظارها
الكل يطالعها بترقب وصمت، يتأملونها بتركيز من رأسها حتى أخمص قدميها
حتى أنس لم يستثنوه من نظراتهم المتفحصة مما أشعره بتوتر لا يستسيغه وكاد يتكلم منهياً لحظات الصمت المربك له لكن شمس سبقته وقد شعرت بتوتره من خلال تشنج يده التي لازالت مبقية على كفها بقبضة من حديد وكأنه يخشى أن يسرقها أحد منه
ابتسمت شمس وهي تقول مناكفة الجميع " كل هذا الجمع في انتظاري .. لا أصدق .. هكذا سأغتر كثيراً "
ابتسموا جميعاً في صمت عدا صوت عبد الرحمن الذي صدح بنبرته الثقيلة القوية والتي لم تخفضها أو تهزها مرور السنوات وتقدم العمر " تعالِ يا ابنة رقية .. اقتربي "
بدى واضحًا في أول الأمر أن لا نية لأنس بترك يدها لكن حينما رمقته بابتسامة مطمئنة تنهد باستسلام وافلت كفها على مضض
اقتربت شمس من الكرسي الوثير في صدر المجلس حيث جلس جدها للتو
بدت مرتبكة لا تعرف ما يتوجب عليها فعله حتى اهتدت بنفسها إلى أن أول ما قد تفعله هو أن تقبله وتسلم عليه
دنت شمس من جدها ومالت عليه تقبل وجنته برقة فأجفلتها الشهقات المكتومة التي انبعثت من خلفها فاعتدلت بسرعة وهي تتلفت حولها تحاول أن تعرف هل ما فعلته خطأ أم ماذا؟
وجدت النساء والفتيات ينظرن إليها بصدمة واستنكار عدا امرأة شابة ذات عينين واسعتين بلون العسل كانت تبتسم لها بلطف لكنها لم تطمئن فنظرت إلى أنس لكي تفهم منه ما يحدث فأومأ لها أنه مثلها بالضبط لا يفهم شيء
سألت شمس بتوتر " هل... هل فعلت شيء خاطئ؟ "
حينها اقترب منها رجل وسيم يبدو أنه أصغر من والدها ببضعة سنوات ، كان بشوش المحيا سمح الوجه ذو لحية خفيفة ، ما إن تنظر إليه حتى تشعر بالسلام النفسي والسكينة
بادرها الرجل الوقور بالقول المرحب الودود " لا أظن فتاة حلوة مثلك قد تفعل خطأ أبداً رغم أنكِ غير معصومة .. مرحباً بالغالية من تحمل رائحة أمها الطيبة "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تنظر له وقبل أن تتدارك ذهولها كان يغمرها بعناق طويل حاني وهو يربت على ظهرها قائلاً " وكأنني أرى رقية أمامي رغم اختلاف الملامح .. أنرتِ داركِ يا ابنة الباسل "
ابعدها عنه بلطف وهو يشير إلى جدها قائلاً بمزاح لطيف " أنتِ الفتاة الوحيدة بعد أمك التي تقبل عبد الرحمن الجبالي بهذه الطريقة .. حظيت بشرف كبير "
ابتسمت شمس بخجل وهي تقول " وكيف تسلم باقي الفتيات على جدي؟ "
رد سليم ببساطة " تقبلن يده "
لمحة استنكار ومضت في عينيها لم تخطئها عيني سليم الذي تبسم بإتساع مكملاً كلامه " أو تلثمن على كتفه "
اعتلى ملامحها عبوس طفيف فضحك سليم قائلاً بمناكفة " هذه عادة لا تسير عليكِ يا ابنة رقية فافعلي ما يرضيك "
ابتسمت شمس ابتسامة واسعة وهي تستدير إلى جدها وتميل عليه فتقبله على وجنته الأخرى وهي تقول برقة " أنا سعيدة جداً برؤيتك أخيراً يا جدي "
رد عبد الرحمن بصوت متباعد " وأين كنتِ منذ سنوات مضت يا ابنة رقية؟ هل منعك أحد عنا؟ "
رمشت شمس لوهلة وهي تطرق برأسها بينما تقول بحزن " بالطبع لا .. أنا آسفة يا جدي الذنب ذنبي وحدي "
قال عبد الرحمن بصوت هادئ " لكنك هنا "
رفعت رأسها بحماس وهي تنظر إليه قائلة " أجل يا جدي... أنا هنا .. أردت أن أتعرف على عائلة ماما واعرفهم بنفسي "
قال عبد الرحمن مقطبا " إنها عائلتك "
فطنت شمس إلى مقصده فردت بهدوء " بالطبع يا جدي كوني باسلة لا يمنع أن عائلة ماما هي عائلتي... (وشددت على كلمتها الأخيرة) الثانية "
ابتسم سليم بإعجاب وهو يقول برضا في نفسه " لم تمنحك ما أردت يا أبي .. الفتاة ذكية .. نسخة مطابقة لأكرم الباسل .. صدق من قال أن من أنجب لم يمت "
تقدمت شمس بعفوية من رجل آخر كان يقف إلى جوار كرسي جدها ، رجل في منتصف العقد الخامس ذو ملامح صلبة وعينين تفيضان بالحنان ، كان متناقض في ذاته لكن هذا هو خالد الجبالي ، الشيء وضده معاً
نظر لها بهدوء تام وانتظر بترقب أن تكون هي المبادرة بالسلام
شعرت شمس بشعور خاص اتجاهه ودون وعي منها ارتمت بين ذراعيه تعانقه بقوة وهي تقول " شكراً خالي "
كان دور خالد ليشعر بالذهول والتعجب منها فقال بحيرة ، متسائلاً بنبرته القوية الشبيهة بنبرة جدها رغم خفوت صوته " على أي شيء تشكرينني؟ "
شددت شمس من طوق ذراعيها حول عنقه وهي تقول بهمس " لأنك السبب في زواج بابا وماما .. شكراً خالي "
لم يستطع منع نفسه من الرد بصوت يحمل الشجن والوجع رغم قوته " لم يكلفني اصراري على إتمام هذا الزواج سوا قطيعة دائمة بيني وبين أختي حتى... حتى رحلت قبل أن نتصافى ونعود كما سابق عهدنا فعلى أي شيء تشكرينني؟ "
أبعدت شمس نفسها عنه قليلاً فهالها رؤية بريق الدموع في عينيه فقالت بهمس متحشرج وهي على وشك البكاء تأثرا " إنها إرادة القدر يا خالي.. مشيئة الله.. ولعلمك ماما رحمها الله ظلت تذكركم جميعاً حتى آخر لحظة في حياتها.. هي لم تنساكم أبداً.. كانت فقط غاضبة مما حدث لكنها لم تنساكم فلا يمكن أن تنسى الابنة عائلتها وأهلها مهما حدثت بينهم من مشاحنات.. أليس كذلك؟ "
ربت سليم على رأسها وهو يقول بشجن " نعم الابنة لا تنسى عائلتها وأهلها مهما حدث بدليل أنكِ هنا "
رفعت شمس رأسها حتى تتمكن من النظر إليه وهي تقول برقة " نعم أنا هنا يا خالي "
أتاها صوت جدها من الخلف بنبرة غريبة لم تستطع تفسيرها هل هو غاضب أم حزين " لكنك سترحلين .. في الغد أو بعد غد سترحلين ولن تبقي هنا "
نهضت شمس من مكانها والتفتت إلى جدها مقتربة منه وهي ترد ببساطة " مكان الفتاة بيت أبيها حتى يحين موعدها فترحل إلى بيت زوجها أو إلى قبرها "
أجفلتها شهقات الفزع والاستنكار التي انبعثت من خلفها لكنها لم تستسلم وتابعت " هنا عائلة ماما .. أهلها وأصلها وعائلتها وبالتالي هنا جزء منها وما كنت لأترك جزء من ماما يظل غريباً عني (ابتسمت بلطف وهي تكمل) حتى لو رحلت في الغد أو بعد الغد سأعود من جديد "
أشاح جدها بوجهه عنها وكأنه يأبى أن ترى التأثر في عينيه فجثت على ركبتيها أمامه وامسكت بكفه وهي تقول بصوت رقيق " أجل سأعود يا جدي .. سأعود لأجلك ولأجل خالي خالد وخالي سليم ولأجل أبناء أخوالي الذين لم ألتقيهم بعد (ابتسمت بمرح وهي تتابع) وسأعود لأجل العم إبراهيم رغم أن بروده مع أخي أنس يزعجني "
تنهدت بعمق حينما رمقها جدها بنظرة صلبة وكأنه يجبر نفسه على تكذيبها حتى لا يؤلمه رحيلها هي الأخرى كما آلمه رحيل أمها من قبل وللأبد
لكن شمس وقد فهمت نظرته تلك ما كانت لتتركه دون أن تعيد له الأمل من جديد وإلا فما الفائدة من مجيئها إلى هنا ، لابد أن تحقق الغاية التي أرسلها والدها إليها ، لن تقبل بالهزيمة أبداً بل ستخرج من معركتها منتصرة كما تحب
نظرت إلى جدها وهي تبتسم بينما تقول " سيعيدني الحنين إليكم حينما أرحل عنكم .. ما كنت لأترك شرف القرب من عائلة الجبالي فأنا لست حمقاء لأفعل هذا وقد أحببت وجودي هنا منذ اللحظة الأولى .. صدقني يا جدي أشعر وكأني كنت في رحلة طويلة وأخيراً عدت إلى بيتي ومأواي ولا ينقصني سوا ماما فحسب ليصبح كل شيء بالنسبة لي مكتملاً... "
قاطعها صوت أنس وهو يصيح " كفى يا شمس اقسم بالله كلمة أخرى وسوف يغرق المكان في بحر من الدموع "
إلتفتت مبتسمة إلى أخيها تظنه يمزح لكن صدمها رؤية الجميع يبكون حتى هو كانت الدموع تلتمع في عينيه بشدة
صمتت لحظة ثم اثنتين وبعدها انفجرت في الضحك الذي شاركها فيه أنس تحت نظرات الذهول من الجميع
***

بعد ساعتين
كان الليل قد حل وأوشكت ترتيبات حفل الحناء أن تكتمل وكانت شمس تجلس في غرفة واسعة جداً في الطابق الأول من الدار الضخمة
غرفة اتخذتها النساء والفتيات كمجلس خاص بهن دون الرجال
كانت شمس تراقب بحماس انشغال بعض النسوة في تجهيز الأدوات التي سيستخدمونها في رسم الحناء للعروس وللمقربات منها إن أردن
بينما بعض الفتيات كن منشغلات بتحضير الأغاني التي سيشغلونها بعد قليل وهن يهمسن ببعض الكلمات للعروس بصوت خافت على سبيل المزاح لكن يبدو أنها لم تكن بريئة تماماً خاصة مع تورد وجه العروس الشديد
كانت تحاول أن تشغل نفسها عن التفكير في تلك الأخبار الأليمة التي علمتها من خالها خالد منذ قليل
تشعر بالحزن والشفقة على جدها منذ علمت بأنه فقدَ أربعة من أبنائه في حياته خلال وقت قصير ، بدأ الأمر بأمها وتلاه موت خاليها التوأمين 'محمد ، محمود' منذ عشر سنوات خلال نشوب نيران الثأر القديم بين عائلة الجبالي وعائلة الناصر ثم وفاة خالها 'مختار' لاحقاً بهما بعد عام واحد
تنهدت شمس بشجن وهي تتأمل العروس... 'زهراء' الابنة الثانية لخالها محمود
شابة في منتصف العشرينات ، طفولية جداً ، تهيم عشقا بالرسم والألوان ويعد ذلك بمثابة معشوقها الأول
ذات جمال هادئ ببشرتها البيضاء، وعينيها البنتين كفنجاني قهوة عميقين، وشعرها الناعم ذو اللون البني الذي يوازي عينيها قتامة ، حالمة وتمثل الفتاة الوردية عن جدارة وهذا أكثر ما يغيظ الجميع منها
ابتسمت شمس لها بلطف حينما تلاقت نظراتهما للحظة قبل أن تعود زهراء وتنشغل بالتهامس مع الفتيات من حولها
تلفتت شمس تتأمل ما حولها بحماس في تجربة جديدة عليها حتى وجدت في ركن قصي من الغرفة امرأة تجلس هناك تضاحك ابنتها الصغيرة
تلك المرأة كانت... 'حفصة' الابنة الكبرى لخالها محمود
شابة جميلة محجبة في أواخر العشرينيات ذات بشرة بيضاء وعينين واسعتين كبركتي من العسل الصافي وشعرها بني كما يبدو بتلك الخصلة التي فلتت من الحجاب دون أن تشعر
طيبة للغاية وحلوة المعشر ما إن تبتسم لك حتى تشعر وكأن الشمس قد سطعت بعد ظلام ليل موحش طويل
أما طفلتها الصغيرة... 'حلا' فيبدو أنها مصيبة صغيرة من مصائب الزمن
طفلة شقية للغاية بضحكتها الماكرة التي تفوق سنوات عمرها الخمس ، جميلة ببشرتها الخمرية وعينيها الخضراواتين وشعرها الأشقر مما يجعلها بعيدة الشبه تماما عن والدتها
انطلقت ضحكات حلا بشقاوة أكبر وهي تهرب من أمها راكضة نحو شابة أخرى رفعتها عالياً على طول ذراعها وهي تعبس في وجهها وعلى ما يبدو أنها تعنفها على شيء ما فتسبل حلا جفنيها ببراءة زائفة لم تصدقها تلك الشابة أبداً وقد ابتسمت لها ساخرة وهي مستمرة في الكلام معها
تلك الشابة هي... 'حياة' الابنة الكبرى لخالها محمد
تماثل حفصة في العمر وتختلف عنها قليلاً في الطباع، الاثنتين مقربتين جداً من بعضهما وكأنهما أختين
شابة مليحة الملامح ذات عينين بندقيتين مميزتين وبشرة خمرية أما أكثر ما يميزها هو شعرها ذو المزيج المختلف من اللونين البني القاتم والعسلي
رغم عبوسها الطفيف أحياناً وصرامتها حيناً آخر إلا إنها تملك نظرة حانية تدخرها لتطمئنك بها بدنو الفرج في أكثر اللحظات العسيرة التي قد تمر بها
كادت شمس أن تنهض من مكانها وتذهب إليهما لتشاكس الصغيرة حلا حينما وقعت عينيها على فتاة تتمايل راقصة على لحن ما ، كانت تسمعه بواسطة تلك السماعات الصغيرة المثبتة في اذنيها
ولم تكن تلك الفتاة المدللة سوا... 'ملك' الابنة الثانية خالها محمد
فتاة في الرابعة والعشرين تماثلها في العمر، جميلة ، بريئة الملامح ذات عينين بنيتين فاتحين وتمتلك نفس لون شعر أختها حياة لكنها ذات بشرة بيضاء
لا تعلم شمس لماذا لم تشعر بالراحة نحوها كما شعرت اتجاه الشابات الثلاث الأخريات؟..
شيء في نظرة ملك الناعسة وبراءة ملامحها تشعر شمس أنه زائف أو ربما هي باختصار كما وصفتها أختها حياة 'ملك فتاة مخادعة تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد'
تلفتت شمس حولها فجأة تبحث عن آخر الفتيات في العائلة لكنها لم تجدها
فقطبت تفكر أين يمكن أن تكون تلك المشاكسة؟
ابتسمت وهي تتذكر العفوية والبساطة التي تعاملت بها ابنة خالها خالد معها وكأنها تعرفها منذ سنوات طوال
'فرح'... إسم يليق بصاحبته كثيراً بل لا يليق بها سواه
أتمت اليوم الثانية والعشرين من عمرها وتصر على الاحتفال بعيد مولدها إلى جانب حفل الحناء الخاص بزهراء
تحب العفوية والبساطة جداً ولا تميل لأي تعقيد ، مرحة الروح وخفيفة الظل
جميلة ذات بشرة خمرية وعينين بنيتين وشعر ذو لفائف بنية ناعمة
اتسعت ابتسامة شمس حينما دخلت فرح تصيح بمرحها الحلو " لقد أتيت يا أهل الدار هل شعرت إحداكن بالوحشة في غيابي خلال تلك الدقائق التي مضت؟ "
وجدت شمس نفسها تصيح بمرح مشابه " أنا كدت أبكي وأنا أبحث عنكِ دون أن أجدك ماما "
ضحكت النسوة عليهما بينما قالت حياة بمرح ساخر " لا مزيد من البكاء اليوم وإلا ستطردنا زهراء جميعاً فهي لا تحب الكآبة لذا فلتدخر كل واحدة منكما دموعها الغزيرة لوقت لاحق (ثم رفعت كفيها وهي تضيف) اللهم قد بلغت "
ضحكت شمس بعفوية وهي تشعر بينهن بالسكينة والسعادة وكأنها تعرفهن منذ زمن بعيد ليس منذ سويعات قليلة
أشارت لها فرح وهي تقول " هناك شاب يبحث عنكِ في الخارج .. اشفقت عليه وهو يتلفت حوله كالمجاذيب فقررت مساعدته في ايجادك وها أنا وجدتك الحمد لله فاذهبي إليه قبل أن تأكله رجال عائلتنا "
عبست شمس وهي ترد وقد عرفت أن فرح تقصد أنس فهي لا تعرف شاب سواه هنا قد يبحث عنها " لعلمك آنسة فرح أخي ليس مجذوب ولن يستطيع أحد أكله فهو ليس فتى صغير إنه شاب قوي "
ضحكت فرح وهي تقول مناكفة " حقاً! عجيبة والله .. حينما رأيته من بعيد وللوهلة الأولى ظننتني أنا الشاب ليس هو .. صدقيني سيأكلونه... ومعهم حق "
كتمت شمس ضحكتها بقوة وهي ترمق فرح ببرود زائف بينما تمر من جانبها قائلة " معهم حق أم إنهم متوحشون؟ "
كانت قد وصلت إلى الباب وفتحته كي تخرج في اللحظة التي قالت فرح بمناكفة " ومن يرى الحلو ولا يأكله؟ "
خرجت شمس بسرعة صافقة الباب خلفها قبل أن تنفجر ضاحكة وهي تقول " والله مجنونة ويبدو أن جزءًا من عقلها مفقود... (تلفتت حولها قليلاً وهي تتابع حديثها) وأين ذاك الحلو الآخر؟ .. أين ذهبت أنس؟ "
***

بعد قليل من البحث استطاعت شمس أن تجده في الحديقة الخلفية ، كان يقف شارداً بعدما يأس من ايجادها على ما يبدو على ملامحه الكئيبة
اقتربت منه وهي تناديه بابتسامتها الهادئة " ها قد وجدت حبيبي أخيراً "
انتشله صوتها من غياهب جب كاد يقع فيه في صحوه كما الحال معه في منامه
التفت لها بسرعة لم تتداركها ليضمها إلى صدره ويغمرها في عناق طويل بينما أخذ يتمتم " فيما انشغلت ونسيتني يا شمس؟ كدت أموت اختناقا وأنا لا أجدك من حولي "
شددت من طوق ذراعيها من حوله وهي تربت على ظهره بحنان بينما تتمتم برقة " أبعد الله عنك كل شر قد يصيبك يا حبيبي .. آسفة لأنني انشغلت عنك "
سكت أنس للحظات ثم حررها قليلاً وهو يقول بصوت هادئ " لم يتبقى على الحفل سوا ساعة على أقصى حد كما قال خالك "
اومأت برأسها دون رد فتابع هو ببعض التعجب والحيرة " الدار ممتلئة عن آخرها وكأن المدينة بأكملها هنا .. أكاد لا أجد مكان أقف فيه باتزان حتى "
ضحكت شمس من طرفته دون أن تعقب بينما تنهد أنس مضيفاً " خالك سليم أقترح عليّ أن أشارك أحد الشباب في المبيت بغرفته لأن غرف الضيوف مكتظة بأناس لا عدد لهم ما شاء الله "
استمرت شمس في الضحك وهي تقول " لم أتصور أنا الأخرى أن تكون عائلة ماما كثيرة العدد هكذا .. لكن لا بأس نحن مضطران لتقبل الوضع كما هو حالياً حتى ينقضي العرس على خير "
اومأ أنس برأسه مفكراً للحظات ثم سألها " وأنتِ أين ستبيتين؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد " أنا لم يقترح أحد عليّ مشاركته غرفته لكنني سأشارك تلك المزعجة فرح رغماً عنها "
قطب أنس سائلاً " من فرح؟ "
ردت شمس بمكر " تلك الفتاة التي وجدتك وأنت تبحث عني كالمجاذيب فأشفقت عليك وقررت أن تساعدك "
رفع أنس حاجبيه بتعجب وهو يقول " كالمجاذيب! أنا؟ وهي أشفقت عليّ.. (ابتسم بإمتنان زائف وهو يقول) يا الله ما ألطفها .. كم أنا ممتن لها "
ضحكت شمس وهي تقول " وأخبرتني أن عليّ اللحاق بك قبل أن تأكلك رجال العائلة "
رفع حاجباً بذهول للحظة ثم عبس وهو يرد من بين أسنانه " معها حق فأنا أبدو كبسكوتة أليس كذلك؟ "
قهقهت شمس عالياً وهي ترد " لا تقل عن نفسك هذا أنت أحلى من البسكويت "
زمجر أنس غاضباً فكتمت ضحكتها وهي تقف أمامه بملامح بريئة تتمتم بخفوت " آسفة "
رد عابساً " حسناً تعالِ معي لنبحث عن تلك الغرفة التي سأبيت فيها فأنا بحاجة لحمام بارد ينعشني "
اومأت شمس برأسها وهي تؤيده " وأنا الأخرى .. سأحضر ملابسي وألحق بك .. انتظرني عند الدرج الداخلي "
ثم أنهت جملتها وتركته مهرولة للداخل
***

بعد بضعة دقائق
كانت شمس تجلس على طرف فراش ضخم في غرفة أحد أبناء أخوالها بينما أنس في الحمام وصوته يصلها من الداخل " لا تعبثي بالأغراض الموجودة في الغرفة يا شمس "
صاحت بأدب " حاضر "
بعد لحظات قليلة أتاها صوته من جديد يقول بمرح ساخر " ما رأيك في الغرفة؟ أليست خيالية؟ "
دارت حدقتيها في الغرفة وفهمت قصده حيث أن الغرفة بأثاثها وكل ما فيها عبارة عن قطعة من الفحم الأسود
صاحت بصوت عالٍ ليصل إليه بنفس مرحة الساخر " بلى إنها جميلة .. أشعر فيها بالدفء وكأنها غرفتي تماماً "
ضحك أنس متهكما وهو يقول " هنيئاً لكِ بها إذاً فقد قررت ألا أبقى فيها لدقيقة إضافية "
صاحت شمس ساخرة " والله وماذا تفعل إذاً حتى اللحظة؟ "
صاح أنس " استحم .. ألا ترين؟ "
هتفت شمس برجاء رقيق " ألم تنتهي بعد؟ أرجوك أنس أسرع قليلاً هكذا سنتأخر عليهم وأنا لا أريد تفويت أي لحظة من الحفل "
هتف أنس ضاحكاً " حسناً ابدئي العد حتى عشرة وستجديني أمامك ما إن تنتهين "
صاحت شمس عالياً " حسناً لقد بدأت .. واحد .. اثنان .. ثلاثة... "
بعد بضعة دقائق خرج أنس من الحمام وهو يدندن بلحن ما لكنه توقف حينما وقعت عينيه على شمس
كانت مختلفة قليلاً عما كانت، أقل ما قد يقال عنها أنها جميلة
كانت ترتدي عباءة من اللون الزهري ذات خيوط فضية تزين حواف الأكمام الواسعة وحافة العباءة من الأسفل مع حزام فضي على شكل ضفيرة مثبت على الخصر ومعقود بطريقة رائعة
ولأول مرة كانت شمس ترتدي حجاباً ، كان رائعاً عليها بلونه الزهري المتداخل مع الفضي والذي انعكس على بشرتها الخمرية فأضفى عليها سحر خاص
وقفت أمام أخيها كطالبة مذنبة تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها وهي زامة شفتيها في إنتظار نطقه بالحكم عليها
أجفلها أنس وهو يصيح بإعجاب " تبدين رائعة يا شمسي "
وقبل أن ترد هي كان هو يغمز لها بطرف عينه مازحا " يبدو أن ابنة الباسل شبت عن الطوق وتريد الحصول على فارس الأحلام في أسرع وقت "
ضحكت شمس دون تعقيب على كلامه فتنهد أنس بطريقة مسرحية قائلاً " جئت بكِ ويبدو أنني سأرحل بدونك بعدما ازفك إلى عريس الهناء "
ابتسمت شمس وهي تدفعه ناحية الباب ليخرجا بينما تقول " لا تشغل بالك من تلك الناحية حينما يأتي الفارس فسأحرص على أن يكون من العاصمة حتى أظل إلى جوارك وبابا "
***

في مكان آخر / في نفس المدينة
أجفل كل من حوله من صرخته الغاضبة وهو يلقي بالكوب الزجاجي من يده ليصطدم بالحائط المقابل محدثاً دوي صاخب قبل أن يسقط على الأرض قطعاً متناثرة جارحة " إذن فعلها ابن الجبالي .. يظن نفسه نداً لي ويتحداني "
كان الصمت هو سيد الموقف، الجميع ينظر له في ترقب حذر بينما هو يكاد يصرخ من شدة القهر الذي يشعر به
وبعد لحظات هتف بكره " إنه لا يهاب أحد .. شوكته قوية لا تنكسر "
رمق كل واحد منهم الآخر بإرتباك بينما هو يتابع بغضب " أنا أعرفه جيداً .. لن يرتدع بسهولة إنه بحاجة لتأديب من نوع خاص حتى يحسب لي ألف حساب قبل أن يفكر... فقط مجرد التفكير بأن يعبث معي من جديد "
حاول أحدهم تهدئته بالقول " هو ليس أكثر من مجرد فتى محب للتظاهر بقوة وسلطة عائلته لكنه لا يستطيع الوصول إلى مكانتك ليتحداك "
كان الشر والكره يكمنان في نظرات فؤاد وهو يقول بغضب " ليست المرة الأولى التي يقف فيها ابن الجبالي في طريقي .. لقد مررت له الكثير من قبل "
قال آخر بتوتر " إن أمرت لنا احضرناه لك لتفعل به ما تشاء وتعاقبه كما تريد "
عبس بحدة وهو يرد " الكلام سهل لكن الفعل... صعب فابن الجبالي ليس فريسة سهلة المنال "
قال الأول بحماس محاولاً نيل رضى سيده " ونحن لسنا بأقل منه ولسنا ضعاف أأمرنا فقط وسنأتيك به "
رفع حاجباً وأخذ دقائق في التفكير مليًا ثم لمعت عينيه بمكر وهو يقول " حسناً .. لنرى حينها أي الخيارين سيضعه عبد الرحمن الجبالي في المقدمة (ابتسم بشر وهو يكمل) إقامة العرس أم... إقامة العزاء؟ "
أشار لهم بكفه حتى ينصرفوا وهو يقول بنبرته الآمرة " أخبروا سعد بأن يأتيني حالاً "
خرجوا مهرولين وهم يومؤون له بطاعة تامة وبعد لحظات قليلة دخل المدعو سعد
شاب في منتصف العقد الثالث من العمر ، متجهم الوجه ، ضخم الجثة وكأنه أحد المصارعين
" أمرك عماه "
ابتسم مراد بمكر وهو يقول " ألم تكن تنتظر اللحظة المناسبة لتأخذ بثأر أبيك؟ "
دون تردد أو تفكير صاح سعد بقوة " ولم يمنعني عنه سواك عماه وإلا لكنت نلت ثأري منهم منذ سنوات طويلة "
نهض فؤاد من مكانه قائلاً " وها قد حانت اللحظة المناسبة وأنا عند كلمتي لك (رفع حاجباً وقد التمعت عينيه بغل شديد وهو يتابع) لن يقطع رأسه ويلحقه بأخيه سواك "
قطب سعد وهو يقول " يبدو أن هناك ما فعله واغضبك منه حتى قررت بأن الوقت قد حان "
قطب فؤاد بغضب وهو يضرب بعصاه الأرض قائلاً بكره " لقد تمادى وتطاول على اسياده هذه المرة كثيراً .. ظننت موت أخيه وعميه أمام أنظاره سيخيفه لكن على ما يبدو أن ذلك زاده رعونة "
أصدر سعد صوتاً متهكماً لم يستطع كتمه وهو يقول " أخبرتك منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها صبياً بالكاد بلغ الخامسة عشر من عمره أنه ليس من يرتدع بسهولة يا عماه .. كان يجب قتله هو بدلاً من أخيه أو... (قبض على كفيه بشدة وهو يتابع بكره أعمى) أو قتلهما معاً كما فعلتم مع عميه "
هتف فؤاد بضيق " حينها كان الحق سيكون علينا وليس معنا .. قتلوا اثنين من عندنا ففعلنا المثل وكان يفترض بالأمر أن ينتهي عند ذلك الحد لكن... "
قاطعه سعد غاضباً " وماذا عن دم أبي؟ "
زفر فؤاد وهو يقول " أنت تعرف أننا لم نتأكد بعد أن القاتل من عندهم "
صرخ سعد بحدة " لا تقل لي أنك تفكر في التخاذل عن أخذ ثأر أبي فلو فعلت أقسم بالله أنني لن أفعل وإن كنت تخشى غضب ابن الجبالي فأنا لا أخشاه "
ضرب فؤاد بعصاه الأرض بغضب وهو يقول " هل جننت يا سعد؟ كيف تخاطبني بهذه الطريقة وترفع صوتك في وجهي؟ "
كظم سعد غضبه على مضض وهو يطرق برأسه قائلاً " العفو منك عماه لم أقصد ذلك لكن... "
قاطعه فؤاد وهو يقول بصوت جامد: " أنا لا أخشى غضب ابن الجبالي كما تظن وإلا ما كنت استدعيتك لأبلغك أن الوقت قد حان لتنال ثأرك رغم أنني وللمرة الثانية أخبرك أننا لسنا متأكدين أن القاتل من عندهم "
عبس سعد وهو يقول:" ومن غيرهم له فائدة من قتل أبي "
زفر فؤاد وهو يرد " أعدائنا كثيرين وإن كانت عائلة الجبالي واحدة منهم والأكثر خلافاً معنا فهذا لا يعني أنها وحدها من لها فائدة من قتل حسين رحمه الله "
قطب سعد بتفكير وهو يقول " إن لم تكن متأكد بعد من هوية القاتل يا عماه فكيف تريدني أن آخذ بثأري من عائلة الجبالي أو... (ضيق عينيه وهو ينظر إلى عيني فؤاد مباشرة بقوة بينما يتابع) من ابن الجبالي هذا تحديداً؟ "
ارتبك فؤاد للحظة فالتفت إلى كرسيه يجلس عليه وهو يرد بهدوء ولامبالاة زائفة " لم احدد هوية من ستأخذ بثأرك منه لكن... كنت أفكر أنه وبما أن ابن الجبالي يسبب لنا الكثير من المشاكل وفي نفس الوقت لدينا حق عندهم فلما لا نقتنص الفرصة ونضرب عصفورين بحجر واحد "
رفع سعد حاجباً مشدداً على كلامه " كيف يكون لنا حق عندهم ولم نتأكد أنهم هم القتلة بعد كما تقول يا عماه؟ "
قطب فؤاد بضيق وهو يقول " أصبحت تعلق على كل كلمة انطقها وتراجعني كثيراً يا سعد "
رد سعد بهدوء " أنا فقط افكر بصوت عالٍ يا عماه .. لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد بين الجميع "
صمتا كليهما للحظات ثم ابتسم سعد ساخراً وهو يقول " أنا أعرف تمام المعرفة أن ابن الجبالي يشكل لك خطر كبير ويضر بمصالحك في العاصمة "
ارتبك فؤاد بشدة وهو يقول " أي... أي مصالح تقصد؟ "
اتسعت ابتسامة سعد وهو يرد بنفس النبرة " ألم أقل لك أنني لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد يا عماه .. أنا أعرف كل الطرق التي تسلكها في تجارتك ال... مشبوهة أو لأكن أكثر تحضراً يمكنني تسميتها ب... الغير قانونية "
ضيق فؤاد عينيه قائلاً من بين أسنانه " يبدو أنك تبحث خلف الجميع يا سعد وليس خلف ثأرك فقط كما كنت أحسب "
رفع سعد حاجبيه وهو يدعي البراءة بينما يرد " أنا فقط أحاول معرفة من معي ومن ضدي يا عماه أليس هذا ما تعلمته على يديك؟ .. لا يجب أن أترك ثغرة للحظ "
حاول فؤاد فهم ما يفكر فيه ابن أخيه عبثاً حيث بدى سعد كاللوح الصلب لا يمكنك أن تستشف منه أي رد فعل أو خاطرة حتى
ابتسم فؤاد بمكر بعد لحظات وهو يقول " وأنا فخور بك فيبدو أن ما علمته لك يثمر نفعاً "
اومأ سعد وهو يقول ببرود " يبدو هذا يا عماه "
عاد الاثنين وصمتا من جديد فكان سعد اول من يقطع ذلك الصمت كعادته قليل الصبر " ألن تخبرني لماذا ابن الجبالي تحديداً؟ "
رد فؤاد ببساطة " ربما لأنه الأكثر خطراً على مصالحي كما تقول "
صمت لحظة ثم تابع بحيرة " رغم أني لا أصدق أن فتى مثله على هيئته الضعيفة تلك يكون هو سبب الخطر والضرر عليّ "
عبس سعد وهو يقول " وماذا سأستفيد أنا؟ على أي حال ليس هو القاتل "
قطب فؤاد وهو يرد بكره " أنت لا تفهم .. إنه أكثر أحفاد عبد الرحمن قرباً منه وبموته ستكون وجهت له ضربة قوية يمكنها أن تقضي عليه هو الآخر وهكذا اتخلص أنا من ابن الجبالي وأنت تكون نلت ثأرك "
قطب سعد مفكراً للحظات قليلة ثم زفر قائلاً " حسناً.. سأفعلها "
ابتسم فؤاد بنصر وهو يقول " جيد .. اجلس إذاً لأخبرك بطريقة التنفيذ... (ثم أكمل في نفسه) فأنا أريد الخلاص منه نهائياً وفي أسرع وقت "

إنتهى الفصل...
[/center][/left][/center][/center]


Hend fayed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس