عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-19, 05:43 PM   #7

Hend fayed

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية Hend fayed

? العضوٌ??? » 434417
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 215
?  نُقآطِيْ » Hend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond repute
افتراضي سُلاف الفُؤاد

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثالث ||

ليلة الحناء
في دار الجبالي
كانت شمس مستمتعة بتلك الأجواء الجديدة عليها إلى أبعد حد، جلست إلى جوار حفصة وحياة يصفقن مع النساء وهن يطالعن ملك التي كانت تتوسط الغرفة ومعها بضعة فتيات أخريات كن يرقصن بمهارة تامة جعلت شمس تنظر إليهن بانبهار طفولي فهي لا تجيد الرقص الشرقي
في حين كانت فرح تقف بجوار الفتاة التي تنسق الأغاني وهي تتمايل على الألحان بخفة دون أن يسمى هذا رقصاً مقارنة برقص ملك الاحترافي
كانت الغرفة عامرة بالنساء ورغم ذلك كانت فتيات آل الجبالي تشعرن بالأسى والحزن لغياب أهم شخص في حياة كل واحدة منهن
وكأنها لعنة وأصابت الجميع فلم تُبقي لأي واحدة منهن أمها على قيد الحياة لتشاركها لحظات سعادتها فتزيدها بهجة ولحظاتها الحزينة فتخفف عنها فيها
كانت كل واحدة منهن تغوص في بحر اشجانها متذكرة أمها..
شمس تذكرت أمها التي ماتت بعد ولادتها وكيف كانت لتكون سعيدة وهي تحضر زفاف ابنة أخاها وتشارك عائلتها في فرحتها
وزهراء تعلقت عينيها بأختها حفصة وكل منهما تعلم ما تفكر فيه الأخرى وما كانت تحتاجه في تلك اللحظة، تذكرتا أمهما التي توفيت منذ بضعة سنوات
أما حياة فقد نظرت إلى ملك التي تمرح غير واعية لمن حولها، تمنت لو كانت أمهما لازالت على قيد الحياة! لكان من الممكن حينها تقويم ملك واصلاحها ولكن الأوان على ما يبدو قد فات فلن يفلح معها تقويم ولن يفيد الإصلاح
في حين شردت فرح بحزن وهي تتذكر أمها التي توفيت منذ عامين فقط، أمها كانت كبرى نساء العائلة بعد جدتها التي توفيت قبل أن تولد فرح ببضعة أشهر
ابتسمت فرح بفخر مختلط بالشجن والحنين وهي تفكر بأن وجود أمها كان ليفرق الكثير ليس معها وحدها وإنما مع الجميع فهي كانت المسئولة عن كافة شئون العائلة وفي مناسبة كتلك بالطبع كانت ستتصدر الواجهة وتشرف على ترتيبات العرس بنفسها كما فعلت في عرس عاصم وحفصة من قبل
تنهدت شمس بأسى لحالها وحال بنات أخوالها وحمدت الله كثيرًا فهي تعد في نعمة فقدتها أخريات فعلى أي حال هي لازالت تمتلك أب حنون يرعاها ويحبها
دارت بعينيها بينهن فرأت نظرة الشرود الحزين في أعينهن، فهمت ما تفكرن فيه وللأسف لم يكن في يدها شيء لتخفف به عنهن فهي مثلهن تماماً، ورغم ذلك تمنت فقط مجرد أمنية لا محل لها من أن تصبح حقيقة أبداً.. تمنت لو أن أم إحداهن لازالت على قيد الحياة.. كانت حينها لتكون أم لهن جميعاً فتخفف عنهن وجع ومرارة اليتم
فقدان الأم فجيعة ومرارة لا تخفف منها مرور الأيام بل تزيدها وحشة في الروح وفجوة في القلب
قطبت شمس فجأة وقد خطر في بالها أن الوحيدة التي لا تعلم كيف توفيت هي زوجة خالها سليم، لم تذكر إحداهن عنها أي شيء ولو مجرد ذكرى عابرة عنها وكأنها لم يكن لها وجود من الأساس وكانت ليطول بها التفكير في ذلك الأمر لولا أن العمة فاطمة المسئولة عن رسم الحناء للعروس هتفت بابتسامة مشجعة: " من التالية؟ "
حينها نهضت حفصة واقتربت منها تقول بصوت خافت ونبرة خجولة: " أنا أريد رسم إسم زوجي فقط "
ابتسمت لها فاطمة بلطف وربتت بجوارها لكي تجلس حفصة وهي تقول: " نفس طلبك ليلة الحناء الخاصة بكِ.. لازلت اتذكر جيداً "
ابتسمت حفصة بخجل وهي ترد عليها بعدما جلست إلى جوارها: " أجل نفسه "
ابتسمت شمس برقة وهي تطالع المرأة الكبيرة سنا ومكانة على ما يبدو فقد أخبرتها فرح أن العمة فاطمة تمتلك مكانة خاصة في قلوب جميع أبناء مدينتهم وعلى رأسهم بالطبع عائلة الجبالي من صغيرها إلى كبيرها
هي ليست مجرد زوجة للشيخ الراحل عبد الله إمام وخطيب أكبر مسجد في المدينة الجبلية بل يضعها الجميع في منزلة الأم والأخت والصديقة وهي وللحق استحقت تلك المنزلة وبجدارة حين لم تبخل على أحد لا بالمشورة أو اغداق حنانها وعطفها عليهم بلا قيود
لطالما قصد بيتها الكثيرين حتى بعد وفاة زوجها رحمه الله وظل الجميع قائما على ودها وطلب مشورتها وخاصة أبناء عبد الرحمن الجبالي التي ساهمت في رعاية شؤونهم خلال مرحلة ما في حياتهم بعد أن توطدت علاقتهم بها وبزوجها قبل وفاته بسنوات قليلة
ظلت شمس تطالعها بينما بدأت فاطمة في رسم الحناء على باطن كف حفصة فاقتربت الفتيات لتشاهدن ومن ضمنهن فرح التي هتفت بحماس: " وأنا الأخرى أريد رسم الحناء على يدي مثل حفصة "
حينها قالت حياة بمكر: " وهل أخترتِ الإسم الذي سترسمه لكِ العمة فاطمة أم اساعدكِ في اختياره؟ "
عبست فرح بطفولية وهي تقول: " ليس شرطاً اختيار إسم "
قالت حياة ببراءة زائفة: " ظننتك تقصدين نفس طريقة رسم حفصة "
ردت فرح بنفس العبوس المضحك: " في الحقيقة أجل أريد مثل رسم حفصة.. حسناً أظنني سأختار إسم أبي (جلست إلى جوار حفصة وقالت بمرح تقصد العمة فاطمة) أريد رسم إسم خالد في كفيّ الإثنين يا عمتي "
ضحكت فاطمة وهي تناكفها: " أتركي واحد لإسم عريس المستقبل "
ضحكت فرح بابتهاج وهي ترد: " حينما يأتي سأرسم إسمه على ذراعي كله.. فقط يأتي وسأفعل حينها المعجزات باسمه "
ضحكت النساء على مشاكستها بينما صاحت ملك فجأة: " وأنا سأرسم إسم ياسين بنفس الطريقة التي رسمتِ بها لحفصة يا عمتي "
قطبت العمة فاطمة بغير رضا لكنها لم تعقب في حين شهقت الفتيات بصدمة من وقاحة ملك المستفزة
أما حياة فقد جحظت عينيها من شدة غضبها من أختها ومما تفوهت به ورغم ذلك لم تتراجع ملك عن حديثها بل زادته وقاحة وهي تقول مبتسمة بلامبالاة: " تماماً كما رسمتيه لي ليلة حناء حفصة "
لم تستطع حياة تمالك أعصابها أكثر فهبت من مكانها وهي تنوي صفعها على قلة حيائها لكن شمس منعتها وهي تمسك بمعصمها بينما تقول بخفوت: " اهدئي حياة.. لا داعي لذلك فقد سبق السيف العزل هي قالت والجميع سمع ولا تملكي إعادة الزمن للوراء لتسكتيها فمرري الأمر ولو مؤقتاً لأجل زهراء حتى لا تخرب ليلتها "
ظلت حياة متشنجة في وقفتها للحظات وهي تطالع أختها بغضب كاد أن يحرق ملك لولا أنها استدارت بلامبالاة تكمل رقصها دون أن تبدي ولو لمحة من الأسف أو الندم مما زاد غضب حياة لكنها في النهاية رضخت لنصيحة شمس وكبحت انفعالها لأجل زهراء
حاولت فاطمة تخفيف حدة التوتر الذي ساد على إثر حديث ملك فقالت مبتسمة تقصد حياة: " وأنتِ يا حياة ألن تجددي رسم حنائكِ؟ "
زفرت حياة بضيق ثم ما لبثت أن ابتسمت بشجن وهي تقول: " بلى سأفعل عمتي.. لقد إشتقت لرؤية اسم أبي مطبوعا على كفي "
ابتسمت فاطمة وهي تنظر إلى شمس وقالت: " وماذا عنكِ بنيتي؟ ألا تريدين رسم الحناء على يديكِ أنتِ الأخرى؟ "
رمشت شمس بدهشة وهي تقول: " أنا... اممم لا أعرف "
شاكستها فرح تقول: " لو رسمتي إسم أخاكِ الحلو أظنه سيسعد كثيراً "
عبست شمس في وجهها بطفولية وهي ترد: " بالطبع سأرسمه لم أكن بحاجة لرأيكِ من الأساس "
زمت فرح شفتيها وهي ترد: " طفلة "
ردت شمس ببرود: " موتي بغيظك "
ضحكت النساء على مناكفتهما الطفولية وخلال لحظات زال التوتر وعادت حماستهن وهن يتابعن فقرات الحفل النسائي بمرح بينما فاطمة انشغلت برسم الحناء للفتيات
***

في باحة الدار الأمامية
كان عبد الرحمن ومن جواره أبناءه يستقبلون التهاني والمباركات من الأهل والأقارب بعدما قاما بدمج ليلتي حناء العروسين في ليلة واحدة كعادة تخص عائلة الجبالي منذ الأزل خاصة وهم لا يتزوجون من خارج العائلة كقاعدة ثابتة غير قابلة للتغيير مما يجعل دمج الليلتين معا زيادة للفرحة أكبر، وعلى الناحية الأخرى وقف العريس ومن حوله أبناء عمومته
كان حمزة يرسم على وجهه ابتسامة بسيطة وهو يحيي المهنئين بإيماءة من رأسه بينما قاسم يغمغم بحنق: " متى ستنتهي مدة تلك العقوبة؟ لقد مللت "
ضحك ياسين وهو يقول: " أشكر ربك واحمده على أن جدك لم يجبرك على الجلوس بجانبه لكنت حينها علمت كيف يكون الملل على حق؟ "
رفع عاصم حاجبيه وهو يرد على ابن عمه: " أنتما تبالغان جداً.. الحفل ممتع "
قطب قاسم متمتما: " وأنا لا أحب الحفلات بنوعيها لا الممتعة ولا المملة "
بينما زفر حمزة وهو يقول: " أكرمنا بصمتك يا قاسم بالله عليك أنا لن أحتمل شحناتك السالبة أنت الآخر تكفيني ما أمتلكها "
تأفف قاسم وهو يرفع رأسه إلى السماء مغمغماً بحنق بكلمات غير مفهومة بينما عبس حمزة وهو يدور بحدقتيه في المكان: " أين زيد؟ "
أشار عاصم إلى ركن قصي على بعد قليل منهم وقال: " إنه هناك.. منذ بضعة دقائق وهو يراسل أحدهم "
،،،

كان زيد يقطب بشدة وهو يكتب على هاتفه بغيظ
*يا بني آدم أفهم.. ما تطلبه جنون*
وصله رد الطرف الآخر بإيجاز مغيظ
**أعلم**
عبس زيد وهو يغمغم في نفسه 'الصبر من عندك يارب' تزامنا مع حركة أصابعه على شاشة الهاتف وهو يكتب
*ومع ذلك تصر على طلبك*
وصله رد مُراسله بعجرفة
**هذا ليس طلبا وإنما هو أمر**
كاد زيد يصرخ عالياً وهو يضغط على الهاتف يكاد يحطمه في قبضته بينما يكتب بعصبية
*تباً لك*
كان يعلم أن تعابير وجه مُراسله تحولت إلى باردة لامبالية في تلك اللحظة التي وصله رده يقول
**احترم نفسك يا زيد فقلة أدبك تلك لن تمنعك من تنفيذ أمري**
تأفف زيد وهو ينظر إلى السماء للحظات ثم عاد ببصره إلى شاشة هاتفه التي ومضت برسالة جديدة
**هل الجميع سعداء؟**
اعتلت ملامحه الكآبة والحزن وهو يرد
*الأكثر سعادة هنا اظنهن الفتيات وبالطبع جدى وأبي وعمي خالد أما نحن فلا أظن أن مزاج قاسم العصبي يخفى عليك*
وصله الرد بعد لحظات طويلة
**أجل أعلم أنه يكره كل أنواع الحفلات.. ماذا عنك؟**
كتب زيد ساخراً
*حقاً تسأل؟*
لم يصله رد من الطرف الآخر فتنهد وهو يكتب من جديد
*هلا أخذت حذرك أكثر وقمعت بعضاً من تهورك الذي لا أعلم من أين أمتلكه من الأساس فأنت أبداً لم تكن بهذا الشكل من صغرك؟*
اجابه الطرف الآخر
**لا شيء يظل على حاله مهما طال الزمن.. كل شيء قابل للتغيير حتى طباع البشر وعامة لا تخف عليّ أنا لا أفعل شيء أو أقدم على خطوة قبل أن أحسب لها حسابها جيداً**
عبس زيد بضيق وهو يكتب
*هذا واضح فبخلاف صوتك الذي تغير كطباعك يبدو أنك مرتاح جداً حيث أنت والأمر راق لك*
وصله الرد في الحال بطريقة جعلته واثقاً أن الطرف الآخر يحطم كل ما حوله في تلك اللحظة بعد أن استفزه بهذا الغباء ككل مرة
**ليتك أمامي اللحظة لأريك حجم راحتي في ذلك المنفى.. أنسيت سيادتك أنك من عرضت تلك الفكرة الغبية وأنا مجبراً اضطررت إلى تنفيذها؟**
تنهد زيد دون أن يرسل شيء في حين أتته رسالة أخرى بلهجة صارمة
**موعدنا بعد عشرة دقائق من اللحظة**
وهكذا إنتهت المراسلة بينهما بأمر صارم من الطرف الآخر لابد أن ينفذه زيد صاغراً كالعادة
***

كان الجو مشحونا بالتوتر بعد الصرخة المكتومة التي أطلقتها العمة فاطمة منذ لحظات
الأغاني توقفت فجأة والكل شخصت أبصارهن ينظرن إليها في ترقب وحيرة بينما هي كانت تمسك بكف شمس التي انتهت للتو من رسم الحناء عليه، تنظر له جاحظة العينين والدموع متجمعة في مقلتيها بغزارة
قطبت شمس بتوتر وهي تنظر إلى فاطمة دون أن تجد كلمات مناسبة تقولها خاصة وهي لا تعرف ماذا حدث حين كانت منشغلة بالحديث مع فرح عن احتفالات الزفاف في العاصمة وكيف أنها مختلفة عن الاحتفالات هنا حتى أجفلت على صرخة العمة فاطمة المكتومة
اقتربت حفصة من العمة فاطمة وقالت بهدوء لا يخلو من القلق: " ما بكِ عمتي؟ ماذا حدث؟ "
نظرت لها فاطمة للحظة ثم عادت تحدق في كف شمس وقالت بصوت متحشرج: " اخبرتكن أنني لم أعد أريد رسم الحناء من بعدها لكنكن اصررتن عليّ "
قطبت حفصة بعدم فهم لكن حياة كان المعنى قد وصلها فقالت بتوتر حاولت أن تخفيه: " هل فعلتيها يا عمتي؟ ألم نتفق أن... "
قاطعتها فاطمة وهي تصرخ باكية: " لقد كان دورها.. كان من المفترض بها أن تكون... (واشارت على شمس وهي تكمل) بدلاً منها.. لقد شردت فيها ونسيت أنها ليست هي من تجلس أمامي لأرسم لها الحناء "
كانت شمس ترمش بحيرة وذهول وهي تنظر إلى فاطمة التي انهارت في البكاء والجميع يطالعها بشفقة
حاولت شمس سحب كفها من يد فاطمة لكن الأخيرة ظلت متشبثة به بشدة آلمتها وزادت من حيرتها عندما نظرت إلى فرح تريد منها فهم ما يحدث لكن كل ما فعلته فرح أن أشاحت بوجهها عنها ولم يخفى عن شمس أنها هي الأخرى كانت تبكي
رفعت يدها الحرة وربتت على كتف فاطمة تقول: " لا تبكي عمتي.. أنا لا أفهم ماذا حدث؟ لكنني لا أريدك أن تبكي (ثم ابتسمت بمناكفة تقول) انظري حولكِ لقد ابكيتِ الجميع حتى العروس "
نظرت فاطمة إلى زهراء بأسف قابلته الأخيرة بابتسامة حنونة متفهمة وهي تقول: " نحن نشتاق لهم جميعاً يا عمتي "
نكست فاطمة رأسها بصمت للحظات ثم تركت يد شمس ببطء بعدما نظرت لها طويلاً ونهضت وهي تقول: " أراكن في الغد على خير "
هتفت حفصة بحزن: " ابقي معنا قليلاً بعد يا عمتي لازلنا في بداية الليلة "
تنهدت فاطمة بشجن وهي ترد بينما تفقد السيطرة على دموعها فتسيل غزيرة كالمطر: " ليتها كانت هنا لكنت بقيت معكن حتى طلوع الشمس لكنها ليست هنا (شهقت قليلاً وهي تبكي ثم عادت تقول) الحبيبة ليست هنا يا حفصة "
وخرجت من المجلس باكية وهي تغمغم بأسى وحسرة: " أخذك الموت منا بغتة يا صغيرتي.. يا وجع قلبي عليكِ.. ليتكِ هنا يا حبيبة... ليتكِ هنا "
ظلت عيني شمس معلقتين بالباب الذي خرجت العمة فاطمة منه للتو حتى شعرت بالعبرات الساخنة تسيل على وجنتيها فرمشت وهي ترفع يدها بعفوية لتمسح تلك العبرات لكن يدها تسمرت في الهواء وهي تحدق في كفها بعينين متسعتين على أقصى مدى
لاحظ الجميع ذهولها فبادرت حياة وقد فهمت ما يحدث منذ البداية: " لا تقلقي سيزول الرسم بعد فترة وإن غسلتِ يدكِ الآن بالماء ستخف درجة الحناء كثيراً "
لم ترد شمس بل ظلت تحدق في كفها ثم رفعت كفها الآخر وأخذت تنظر في كل واحد منهما تارة حتى هتفت بحيرة دون أن تبعد عينيها عن كفيها المرسومين بالحناء: " هذا اسم أبي وأخي لكن (ونظرت إلى كفها الأيسر تقول) إسم من هذا؟ "
أقترب الجميع منها بفضول ليرون الرسم وحينها هتفت فرح بيأس: " الحمد لله أنها لم تشرد منذ البداية لكان الآن كفكِ الأيمن يزينه إسم عمي سليم وليس إسميّ والدكِ وأخاكِ "
قطبت شمس بعدم فهم بينما تناظرت حفصة وحياة فيما بينهما للحظات حتى قالت الاخيرة تقصد شمس: " تعالِ معي... سأغسل يدكِ "
عبست شمس بطفولية وهي تقول: " ليس قبل أن أعرف إسم من هذا؟ "
ردت ملك ببرود: " ألم تقابلي أبناء عمومتك بعد؟ "
نظرت لها شمس بهدوء ظاهري تقول: " لا.. منذ جئت وهم منشغلون فلم أستطع مقابلتهم بعد "
خطت ملك مبتعدة وهي ترد بنفس البرود: " إذن ستعرفين إجابة سؤالك ما إن تلتقين بهم "
***

بضعة دقائق قليلة وكانت شمس تخرج من الغرفة وهي تكاد تصرخ غيظاً من ملك، أخذت تتلفت حولها تبحث عن أنس دون جدوى
الدار مكتظا بالناس كما قال أنس لا يكاد المرء يستطيع الوقوف باتزان حتى من كثرتهم
عبست قليلاً وهي تفكر بالخروج إلى الحديقة لكنها خشيت أن يكون ذلك خطأ خاصة مع وجود الكثير من الرجال في الخارج فاتجهت إلى المطبخ
وقفت شمس بصمت تنظر حولها حتى وقعت عينيها على الصغيرة حلا وهي تسرق الحلوى وتضعها في طبق كبير بالكاد تستطيع حمله فأبتسمت بمرح وهي تتجه نحوها
تصنعت شمس الحزم وهي تقول: " ماذا تفعلين؟ "
أجفلت حلا قليلاً ثم عادت إلى هدوئها وهي ترد ببساطة: " أفعل ما ترينه.. أسرق الحلوى "
قطبت شمس وهي تقول: " ولماذا تسرقينها؟ تستطيعين أخذ ما تشائين منها "
زمت حلا شفتيها بغيظ وهي ترد: " بابا أخبرني أن تناول الكثير من الحلوى ضار بالصحة وبالأسنان "
ابتسمت شمس بحنان وهي تقول: " بابا معه حق "
عبست حلا وهي ترمق شمس بطرف عينها مردفة بترقب: " وتزيد الوزن كثيراً "
ضحكت شمس وهي تسألها بمرح: " وهل تخشين آنسة حلا أن يزداد وزنكِ؟ "
رفعت حلا عينيها تنظر بذهول إلى شمس وكان الأمر بديهي بينما تجيبها: " بالطبع.. فأنا أريد أن أكون رشيقة "
ضحكت شمس باستمتاع وهي ترد: " حقاً اممم... لكنكِ تبدين رشيقة بالفعل "
ضيقت حلا عينيها قليلاً وهي تسألها: " ألا تحبين الحلوى؟ "
ابتسمت شمس بسعادة طفولية وهي ترد: " أعشقها "
قطبت حلا وهي تقول: " لكنكِ رشيقة رغم ذلك "
ابتسمت شمس دون رد فقالت حلا بغيظ: " هذه المرة فقط ولن آكل حلوى بعد ذلك حتى لا أصبح بدينة "
كتمت شمس ضحكتها وتذكرت ما جاءت للسؤال عنه فقالت: " حلا ألا تعلمين أين يمكنني أن أجد أنس؟ "
استدارت حلا بكليتها تنظر إلى شمس بفرح طفولي وهي تقول: " هل تقصدين أخاكِ؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد: " أجل أقصد أخي "
وضعت حلا طبق الحلوى على الطاولة المجاورة وامسكت بمعصم شمس تسحبها خلفها للخارج وهي تصيح بفرح: " أخيراً سأكلمه.. إنه جميل جداً "
قطبت شمس وهي تجبرها على التمهل في سيرها قائلة: " انتظري حلا عليّ غسل يديّ أولاً ثم أن... (إلتفتت حلا تنظر لها حينما قطعت حديثها فتابعت شمس حينئذ بابتسامة مرحة) الشاب نقول عنه وسيم وليس جميل فهي كلمة تخص الإناث "
قطبت حلا قليلاً وهي تحاول استيعاب كلام شمس ثم ما لبثت أن ابتسمت بسعادة تقول: " حسناً هو وسيم جداً.. أنا أحببته "
ضحكت شمس وهي ترد بفخر: " ومن يراه ولا يحبه.. إنه محبوب الجماهير "
***

كان أنس يقف وحيداً في إحدى الزوايا المظلمة في الحديقة، يضع يديه في جيبي بنطاله ويرفع رأسه إلى السماء يتأمل ضوء قرص القمر المكتمل ببهاء
استدار أنس بحدة مجفلاً قليلاً حينما سمع صوت الخطوات المقتربة منه لكنه سرعان ما استكان في لحظة حينما رآها من أمامه وهي تطالعه بابتسامتها الحنونة التي تخصه بها وكأنه طفلها
عبست شمس وهي تقول بغيظ طفولي: " ألا يمكنك البقاء في مكان واحد؟ لقد بحثت عنك كثيراً حتى دلتني حلا على مكانك "
رمق أنس الصغيرة حلا بطرف عينه ثم تجاهلها عن قصد وهو يقول: " ربما كنت اختبئ من أحدهم "
رمشت شمس لوهلة وهي تردد كلمته: " تختبئ "
عاد أنس ينظر إلى حلا بلامبالاة وهو يقول: " صدقاً لا أعلم مشكلة الفتيات هنا معي.. جميعهن تحاولن الالتصاق بي طيلة الوقت وكأنهن هررة تتوددن بكل الطرق لصاحبها "
كتمت شمس ضحكتها وقد فهمت ما يرمي إليه فجارته في حديثه تقول: " لا ينبغي أن تنزعج من أمر كهذا يفترض به أن يغذي غرورك ويزيد من ثقتك بنفسك "
هتفت حلا فجأة بضيق: " من تلك التي تتردد إليه كالهرة؟ ألا تنظر لنفسك في المرآة؟ "
رفع أنس حاجبيه بتعجب بينما حلا تكمل: " ما الذي سيعجب الفتيات فيك؟ اعمامي كلهم أجمل منك... "
قاطعتها شمس وهي تقول: " ماذا قلنا بشأن هذا؟ "
قطبت حلا بجدية مجيبة: " لا أعلم كيف أقولها؟ "
ابتسمت شمس ترد عليها: " نقول أوسم أو أكثر وسامة "
اومأت حلا برأسها متفهمة وهي تكمل حديثها بجدية تفوق سنوات عمرها المعدودة على أصابع اليد الواحدة: " حسناً.. اعمامي كلهم أكثر منك وسامة حتى عمي قاسم رغم عبوسه فإنه وسيم جدا أما أنت (ورفعت سبابتها تشير إليه) مشعث الشعر.. بالله عليك ألا تمتلك فرشاة لتمشط شعرك؟ "
إلتفتت بعد ذلك تغادر وهي تغمغم: " عليّ اللحاق بطبق الحلوى قبل أن يراني أحد ويشي بي إلى أبي على الأقل لا يضيع مني هو الآخر "
رفع أنس حاجبيه ذاهلا وهو يقول: " ما هذه الوصلة الطويلة؟ هل شتمتني تلك ال... ال... "
قاطعته ضحكات شمس وهي ترد: " لقد مرغت غرورك في التراب "
عبس أنس قائلا: " أشعر بذلك لأنه يئنّ "
ضحكت شمس من جديد باستمتاع وهي تقول: " هل تصدق أن عمرها خمس سنوات؟ "
رد أنس بنفس العبوس: " يبدو أنها أكبر عمراً من ذلك لكن ربما حدثت فجوة زمنية جعلتها تبقى في حجمها الطفولي للأبد "
كتمت شمس ضحكتها وهي تقول بمناكفة: " إنها طفلة جميلة "
صرخ أنس بغيظ حقيقي: " بل هي عجوز شمطاء "
أطلقت شمس العنان لقهقهتها من جديد فأخذ أنس يتأملها باسما وهو يقول: " ما أجمل ضحكتك يا شمس! "
وضعت شمس كفها على فمها وهي تكتم ضحكاتها قائلة: " لماذا لا تشاركهم في الاحتفال؟ "
حرك أنس كتفيه وهو يرد: " لا أريد أن أفسد عليهم حفلهم تعرفين مزاجي العصبي ونزقي من كل شيء "
صمت لحظة ثم تابع بمرارة: " يبدو أنني ورثتهما من السيدة الفاضلة مروة الباسل "
قطبت شمس وهي تقول: " لا تقل عن نفسك ما ليس فيك يا أنس.. أنت لست نزق ولا ذو مزاج عصبي "
تنهد بصمت فأبتسمت فجأة تقول: " تعال لتساعدني في التعرف عليهم فأنا لم اقابلهم حتى اللحظة "
قطب أنس يسألها: " من تقصدين؟ "
ردت شمس ببساطة: " أبناء اخوالي "
اومأ أنس برأسه بينما يقول بتفهم: " لا أظن من المسموح لكِ بمقابلتهم الآن خاصة وهم يجلسون بين الرجال.. انتظري حتى ينتهي الحفل "
اومأت شمس بطاعة ولم تضيف عن كلمة: " حسناً "
***

بعد ربع ساعة
كان يقف عند أسطبل الخيول يديه في جيبي بنطاله، مولياً ظهره لمن يدخل بينما حدقتيه مثبتتان على جواد بني يخص زيد وفرس من نفس اللون، كان يطالع الفرس بإهتمام ممتزج بالحنان ويده تلقائيا ترتفع لتربت على رأسها وهو يبلغها عن طريق نظراته برسالة هامة من.. صاحبها وفارسها
بعد لحظات قليلة حضر زيد.. يحث الخطى بسبب الظلام الدامس المسيطر على المكان وفجأة توقف مكانه بثبات حينما وصله صوت قوي من أمامه مباشرة يقول: " توقف مكانك وإلا ستصطدم بي بعد خطوة خرقاء أخرى منك "
عبس زيد قائلاً: " تعرف أنني لا أحب الظلام "
رد عليه الصوت القوي ببساطة: " ومن يحبه؟ "
تنهد زيد يسأله: " ها أنا جئت كما أمرتني.. ماذا تريد؟ "
رد الآخر بهدوء: " العم عمران يحتاج إلى رعاية صحية "
هتف زيد بذهول غاضب: " لا تقل لي أنك زرته.. لقد اتفقنا ألا تتدخل أنت في هذا الأمر وتتركه لي أتصرف فيه بطريقتي "
رد الآخر بنفس الهدوء الظاهري: " لا لم أزره ليس بعد على الأقل... "
قاطعه زيد بحدة: " ولا لاحقاً حتى "
تابع الآخر كلامه كما لو أن زيد لم يقاطعه: " لكنني سأفعل في يوم قريب.. كل ما أنتظره هو الفرصة المناسبة "
زفر زيد وهو يقول من بين أسنانه: " هل جئت بي إلى هنا حتى ترفع ضغطي؟ "
أتاه رد الآخر ساخراً: " لم أكن أعرف أنك أصبحت نزقا لهذا الحد "
صاح زيد بغيظ: " ومن يسمع حديثك هذا ولا يكون نزقا؟ "
بعد صمت طويل بينهما قال زيد باستسلام: " تفضل أخبرني اوامرك "
رد الآخر بجدية: " أريدك أن تأتي له بطبيب حتى يعاينه لكن هناك مشكلة "
قطب زيد بجدية يقول: " وما هي؟ "
تنهد الآخر وهو يقول: " أنسيت أن لا أحد على علم بمكان العم عمران؟ وأن عائلة الناصر بالتأكيد تبحث عنه الآن "
قال زيد بترقب: " إذن؟ "
عاد الصمت بينهما من جديد حتى قال الشاب ذو الصوت القوي بنبرة آمرة: " أبحث عن طبيب يعاين حالته وفي نفس الوقت لابد أن تكون متأكدا من أنه لن يخبر أحد عن الأمر "
رد زيد بانزعاج: " ومن أين سآتي به؟ أنت تعلم أن ضمائر البشر أصبحت تشترى بالمال ولا أظن أن هناك طبيب واحد سيتكتم على الأمر مهما اعطيناه بل سيهرول إلى عائلة الناصر يشي بنا عندهم لأجل الحصول على المزيد منهم "
رد الآخر بنبرة قوية: " تصرف زيد.. تصرف فمهما بلغ الفساد مبلغه إلا أن الخير موجود وعائلة الجبالي ذات شأن كبير فلا تستهين بها.. كل ما عليك أن تبحث عن طبيب في أسرع وقت ثم أخبرني عن هويته وأترك مهمة ولائه عليّ "
عاد الصمت يكتنفهما من جديد حتى تحرك زيد بتوتر متململا في مكانه فقال الآخر وقد اتضح في صوته التهكم: " أ لازلت تخشى الظلام حتى وأنت تقف مع رفقة؟ "
تنحنح زيد بحرج وهو يرد: " أنت توليني ظهرك ولا تريد أن تنظر لي "
قال الآخر بتعجب: " وهل لو نظرت إليك سيشكل الأمر فارقاً عندك؟ "
هتف زيد بأمل: " بالطبع فأنت حينما تنظر إليّ أشعر بأنني في أمان من كل شيء.. أمان تسكنه عينيك وتشي به نظراتك إليّ فاطمئن "
أغمض عينيه بقوة يخشى الإستسلام إلى الرجاء الخالص في صوت زيد فيلتفت إليه حينها قد الكثير من الأمور التي لا يجب آت تتضح في الوقت الحالي
لا يريد أن يتهور بعد تلك السنوات التي قضاها أسير ماضيه.. سيتحرر يوماً ويحرر معه شخص آخر يعاني مثله لكن.. ليس اليوم
حينما طال صمته علم زيد أن لا فائدة من رجائه فاطرق برأسه يقول بأمل يأبى أن يغادر روحه: " ألن تمنحني طمأنينة نفسي؟ "
رد الآخر بصوت جامد: " ليس اليوم لأنني لا أملك ما تحتاجه "
هتف زيد بيأس: " إذن متى؟ "
ظل صامتا للحظات أعقبها بصوت جامد: " علىّ أن أعود "
تنهد زيد بقهر وهو يقول: " ابقى قليلاً بعد أنا... "
قاطعه الآخر بنفس الجمود: " لا.. يجب أن أعود وأنت عُد إلى حمزة أظنه بحاجتك الآن ليتخلص من قاسم "
تنهد زيد من جديد وهو يتراجع للخلف وفجأة تذكر شيء فقال: " لقد حضرت ابنة عمتنا رقية "
رد الآخر بدون مبالاة: " جيد "
ازدرد زيد ريقه وهو يتنحنح ليجلي صوته بينما يضيف: " هل أرسل لك صورتها حتى تراها؟ "
رد الآخر بتهكم: " حينما تراها أنت أولاً "
زفر زيد وهو يتصنع الضيق قائلاً: " بسبب اوامرك التي لا تنتهي وطلبات زهراء هانم الكثيرة وكأنني خادمها لم أتمكن من رؤيتها حتى الآن "
همهم الآخر بتململ فقال زيد: " أخاها غير الشقيق يبدو مسالما وهادئاً جداً "
رد الآخر ساخراً: " لا أظنها ستكون مسالمة هي الأخرى فدماء الجبالية حارة "
رفع زيد حاجبيه يقول: " تتحدث مثل جدي.. حتى هو يصر على أن عائلتها الأولى والأخيرة هي الجبالي لاغيا تماماً أن الفتاة من آل الباسل "
رد الآخر بهدوء جاد: " إنه يحاول التشبث بها لأنها ما تبقى له من ابنته.. لقد تحمل الكثير في السنوات القليلة الماضية فقدان ابن وراء الآخر ليس بالهين عليه لذا فهو معذور "
ابتسم زيد يقول: " أحب تحليلك للأمور "
رد الآخر بسخرية: " بدأت أشك فيك وفي نواياك تجاهي صراحة.. ما تحبه بي أصبح كثيراً "
ضحك زيد بمرح وهو يرد بمناكفة: " ومن يراك ولا يحب فيك كل شيء "
تنهد الآخر قائلاً: " إذن عليّ الرحيل قبل أن يتطور الأمر بيننا أكثر فأنا ميولي تختلف عنك "
وبالفعل ما إن أنهى حديثه حتى غادر من الباب الخلفي للحديقة كما دخل تاركاً زيد من خلفه مطرق الرأس بأسى وقلب مهموم
***

بعد بضعة دقائق
كان ياسين يقف في الحديقة الخلفية يتلفت حوله بتوتر وهو يغمغم بضيق: " تباً لكِ يا ملك.. ستوقعيننا في كارثة بسبب رعونتكِ "
أجفل على تربيته خفيفة على كتفه فاستدار بإرتباك ليجد شاغلة أفكاره تتمثل أمامه في أحلى طلاتها وأكثرها فتنة
ترتدي ثوب طويل لامع بلونها المفضل الأحمر الناري، كان الثوب يخفي جسدها كله لكنه لا يترك مجال للمخيلة لا بلونه الصارخ أو تفصيلته التي تحدد قوامها كما لو أن لا شيء يسترها، أما شعرها فكان مجدولاً ومستريحا على كتفها الأيمن
رفع حاجبيه بذهول وهو ينظر إلى وجهها ليس لأنها تضع مساحيق التجميل لأول مرة بهذه الطريقة المفرطة وإنما للون الذي صبغت به شفتيها
وجد لسانه بغير شعور منه يترجم افكاره: " من تريدين أن تشعلي بهذا اللون الصارخ يا مجنونة؟ "
تلون ثغرها بابتسامة مغوية وهي تقول: " هل أعجبك؟ "
فغر فاهه ببلاهة وهو يتمتم: " ها! "
اتسعت ابتسامتها برضا وهي تضع كفها على كتفه قائلة برقة: " ما رأيك؟ "
قطب بحيرة يقول: " رأيي في ماذا؟ "
تلونت ابتسامتها ببراءة زائفة وهي ترد: " في مظهري الليلة؟ "
ازدرد ريقه وهو يرمقها بنظراته من رأسها حتى اخمص قدميها ليعود وتتسمر نظراته على شفتيها بلونهما الصارخ كلون ثوبها فيجد نفسه يرد بصوت أجش وكأنه مسلوب الإرادة: " تبدين كشعلة من نار "
فلتت منها ضحكة صغيرة بعبث وهي تحرك أناملها بخفة على كتفه بينما تهمس له: " ألا تخشى على نفسك مني أن احرقك؟ "
رفع عينيه إلى عينيها بصمت فتابعت بنعومة: " أم إنك ترحب بي وتريد... "
قاطعها ببرود: " على رسلكِ يا ابنة عمي فلا أظنني طلبت منكِ أي شيء من قبل وحتى اللحظة "
قطبت بإحباط مصطنع وهي ترد: " ظننتك تحبني لكن يبدو أنني كنت اتوهم ذلك "
لم يكن خافيا عليه طريقتها المغوية في الحديث معه أو استعراض نفسها أمام عينيه دون حياء ورغم أنه يرى عيوبها جلية أمامه إلا إنه لا يملك سوا أن يغرق فيها أكثر لكن ذلك لم يجعله يوماً ذليلاً أمامها أو ضعيفاً
عليها أن تفهم وتعي أنه لن يسمح لها بالتهور وجلب المصائب لهما حتى ولو كان المقابل البعد عنها لكي يحميها ويحافظ عليها من نفسها
هو ينتظر اليوم الذي ستصبح فيه حلاله أمام الجميع لذا لا يريد أن يجتمعا على معصية وتلك الغبية لا تفهم ذلك، تخطو نحوه بسرعة كبيرة خطوات مجنونة دون حساب
زفر بملل يقول: " ملك لا داعٍ لنكرر نفس الحديث مجدداً حقاً سئمت "
رفعت له عينيها تطالعه بحنق فأردف: " تعلمين جيداً أنني أحبك وأريدك معي طوال الوقت لكن ذلك كما أخبرتكِ لن يتم بأي طريقة سوا الزواج.. إنه الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تجمعنا معاً حتى آخر العمر لكن... (تهربت من نظراته فتنهد يكمل) لا أعلم سبب رفضكِ.. في كل مرة أخبركِ أنني سأتحدث مع جدي واطلبكِ منه ترفضين "
ازدردت ريقها وهي تجيبه بكذب: " أخبرتك من قبل أنني لا أريد الزواج قبل إتمام دراستي "
رفع حاجباً وهو يقول بتهكم: " والآن ما الحجة الجديدة التي ستتحججين بها؟ لقد أنهيتِ دراستكِ منذ عامين كاملين ولازلتِ على نفس رفضكِ "
هتفت بحنق: " أنا لا اتحجج.. أنا فقط... "
صمتت فهتف هو في المقابل بنفس الحنق: " أنتِ ماذا يا ملك؟ ماذا؟ أخبريني سبب مقنع... سبب واحد وأقسم لن أتحدث معكِ في هذا الموضوع حتى تأتين إليّ وتخبرينني أنكِ راضية "
أشاحت بوجهها عنه ولم ترد فقطب بجمود وهو يقول: " حينما تملكين الرد أخبريني لننتهي من هذا الموضوع الذي طال وسخف وحتى ذلك الحين... "
رفعت عينيها إليه بترقب فتابع بنفس الجمود: " لا أريدكِ أن تهاتفيني يا ملك وأي مكان أتواجد فيه لا أريدكِ أن تشاركينني فيه وإياكِ أن تكرري حماقتكِ السابقة وتأتي إلى غرفتي "
قالت بإرتباك: " أنا... "
لم يسمح لها بالكلام فقاطعها بحزم يقول: " في المرة الماضية أكتفيت بتحذيركِ لكن إن فعلتِها مجدداً أقسم سأخبر جدي "
ما إن انتهى من حديثه حتى تركها ورحل فضربت الأرض بقدمها وهي تتمتم بضيق: " غبي "
اجفلها صوت خافت ساخر من خلف إحدى الأشجار الضخمة يقول: " لا يبدو لي غبياً بل شابا على خلق يريدكِ في الحلال لكن السؤال هنا هو.. ماذا تريدين أنتِ منه؟ "
تسمرت ملك في مكانها بخوف ولم تنطق بكلمة وهي تتلفت حولها تبحث عن مصدر الصوت الساخر الذي تابع: " الغريب أنكِ لا تريدين الزواج به حاليا على الأقل.. لكنه يبدو السبيل الوحيد أمامكِ لكي... "
سكت دون أن يكمل جملته فازدردت ملك ريقها لتسمعه يقول بعد لحظات: " لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين لتحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ "
شهقت بصدمة من قسوة كلماته وجحظت عينيها وهو يتابع: " هل تتخيلين أن تنزلق قدميه في علاقة محرمة معكِ؟ هل هكذا تخططين لأجل تحقيق حلمكِ؟ "
صرخت دون وعي منها، دون أن تفطن لأن من تحدثه شخص لا تعلم هويته حتى: " أنا لست رخيصة كما تصورني ولا تتحدث عن حلمي.. ماذا تعلم أنت عن حلمي.. ها؟ "
أتاها صوته بارداً مستخفا وهو يجيبها: " أ ليست الهجرة والسفر للخارج هي حلمكِ السخيف الذي تسعين لتحقيقه بأي وسيلة؟ "
تسارعت أنفاسها وهي تتراجع للخلف بخوف.. ما قاله صحيح هي لا تتمنى شيء أكثر من الرحيل والهجرة للخارج بعيداً عن العائلة والماضي
لا تتمنى سوا الفرار من ثأر يعكر صفو حياتها ويحتل منامها بضراوة مهددا سلامها ومغلقا في وجهها كل سبل الأمان
لا تتمنى إلا نيل فرصة واحدة في التحليق بعيدا وحينها ابدا لن تفكر في العودة ولو كلفها ذلك كل ما تملك ولو كان السبيل الوحيد للبعد هو خسارة من تحب.. خسارة ياسين
عاد صوته بعد لحظة بنفس النبرة ولكن غلفها بقسوة ارعبتها: " إن تجرأتِ وكررتِ ذهابكِ إلى غرفة ياسين أقسم بالله سأجعلكِ تبكين ندما يا ملك وإن ظننتِ أنه غر لدرجة أن تحاولي استغلاله لتحقيق أحلامكِ فأنتِ واهمة إذن.. إياكِ أن تنسِ كيف يكون غضب رجال آل الجبالي إن مس أحد بكرامتهم وكبريائهم.. هيا اذهبي ولا تنسِ أن تفكري جيدًا في كلامي "
وكأنها كانت في إنتظار الأمر منه لتتحرك ما إن سمح لها بعد أن كان هدير صوته يجمدها في مكانها، أطلقت لقدميها الريح دون أن تسأله حتى عن هويته وكيف توصل لتلك المعلومات التي لم تخبر عنها أحد من قبل إلا إحدى زميلاتها في الجامعة ذات يوم من باب الثرثرة لا أكثر
كانت تركض بسرعة وكأنه سيلاحقها وما إن وصلت إلى غرفتها واوصدت الباب بالمفتاح حتى تهاوت على الأرض وظلت جامدة لثواني معدودة ثم وفجأة اجهشت في البكاء
كانت تبكي بحرقة ومرارة وعاد صوته يصدح من حولها وكأنه تتبعها إلى غرفتها وأخذ يكرر كلامه من جديد
' لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ '
' لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين إلى تحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ '
' هل تتخيلين أن تنزلق قدميه معكِ في علاقة محرمة؟ هل هكذا تخطيط لأجل تحقيق حلمكِ؟ '

شهقت بصدمة وجزع من أفكارها وأفعالها، هل كانت تسعى حقاً لإيقاع ياسين في هذا الفخ الرخيص
هل فسر ياسين ما فعلته بهذه الطريقة؟ هل أصبح يراها بهذه الصورة الوقحة؟ هل سيكرهها؟
بالطبع سيفعل فما الذي سيجبره على البقاء على حب فتاة أهانت نفسها بتلك الطريقة المبتذلة
عاد عقلها يصرخ من جديد 'لا هذا ليس تفسير ياسين وليس كلامه وإنما كلام... كلام من؟؟؟؟'
الشبح!
سخرت من نفسها فالصوت الذي سمعته واهانها لم يكن صوت خاوي لشبح بل صوت... صوت انسان غاضب، أجل كان غاضباً نبرته القاسية لم يكن سببها سوا الغضب ولكن من هو ليغضب منها؟ وماذا فعلت له ليغضب؟ هي حتى لا تعرفه
هتفت بحرقة: " غبية يا ملك.. غبية كشفتِ نفسكِ أمامه وأنتِ حتى لا تعرفين من هو؟ "
صرخ عقلها من جديد أنها لم تكشف نفسها بل هو من فعل.. هو كان يعرف كل شيء وليس في حاجة لأن تخبره
شهقت وهي تفكر بخوف واضطراب: " ترى من يكون؟ وماذا إن أخبر ياسين عما يعرفه؟ "
***

أما هو وبعد أن تأكد من رحيلها تنهد بوجوم وهو يتمتم: " تماديتِ كثيراً يا ملك.. أكثر من اللازم وحان وقت ايقافكِ عند حدكِ"
قطب وهو يطالع الغصن الصغير بين أصابعه قبل أن ينهض من مكانه قائلاً: " لنرى من التالي؟ (وضع الغصن بيت أسنانه وهو يفتح هاتفه ويبحث عن شيء ما ثم أكمل حديثه) حياة! اممم يبدو أنها ليلة الأختان العنيدتان والأخان المعذبان "
***

خرجت حفصة وحياة من غرفة زهراء وهما تضحكان على شيء ما لتقول حياة: " لك الله يا حمزة.. من ابتلاك يرحمك يا ابن عمي "
ضحكت حفصة من جديد وهي ترد: " معكِ حق.. مسكين حمزة والله "
كادت حياة تتكلم لكن رؤيتها لقاسم وهو يصعد الدرج جعلتها تسكت فتنحنحت حفصة تقول: " سوف اذهب لأبحث عن حلا "
وانسحبت بعدها وهي تدعو الله أن يستغل قاسم الفرصة ويتحدث مع حياة
لم تعيره حياة أي إهتمام وخطت نحو غرفتها بهدوء فتبعها بصمت حتى فتحت الباب فاستوقفها وهو يقول: " حتى متي؟ "
استدارت له وردت ببرود ووضوح دون أن تتصنع عدم الفهم: " حتى أشعر بالسلام "
قطب وهو يقول: " مرت سنوات وطال الأمر وصبري يكاد ينفذ "
رفعت حاجباً باستخفاف وهي ترد: " هل تهددني يا ابن عمي؟ "
قبض قاسم على أصابعه وهو يقول بصوت خافت متصلب: " ما عاش ولا كان من يهددكِ يا ابنة عمي "
شعرت بالتوتر فجأة فتهربت من نظراته القوية وهي تقول: " ماذا تريد مني يا قاسم؟ "
تنهد بقوة وهو يشيح بوجهه عنها بينما يرد: " وماذا سيريد منكِ مسكين مثلي؟ "
نظرت له بذهول فهي لم تعتد منه هذا الرفق في الحديث ولا تلك الرقة والاستسلام في نبرته فقالت بخفوت: " لا أفهم ماذا تريد؟ "
تلاقت نظراتهما للحظة بسكون قبل أن يرد قاسم بصوت أجش قوي: " أريدكِ أنتِ يا حياة "
توترت حياة فقالت: " قاسم أنا... "
قاطعها بصلابة وهو يقول: " حياة أنا أجدد طلبي واكرره ثانية بل للمرة الألف وربما أكثر فقد توقفت عن العد منذ وقت طويل.. سأطلبكِ من جدي بعد إنتهاء عرس حمزة وزهراء "
" لا "
رفع حاجبيه وهو يكرر رفضها القاطع الذي نطقت به دون تفكير: " لا! "
قطبت حياة بصلابة توازي خاصته وهي تقول: " لا تفعل يا قاسم "
قطب يقول: " لماذا؟ "
ردت حياة بضيق: " لا أحب أن يضعني أحد أمام الأمر الواقع "
بدت عليه الحيرة وهو يقول: " أنا لا أجبركِ على الموافقة بل أخيركِ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تصيح: " لكنك لو فعلت وطلبتني من جدي لن استطيع الرفض.. مستحيل أن أرفض طلبك يا قاسم.. لن أستطيع أن أردك فارغ اليدين وأنت تعلم ذلك "
تنهد وهو يقول: " إذن لا ترفضي "
هزت رأسها سلبا وهي تقول ببؤس: " لا أستطيع.. أريد قول نعم لكنني لا أستطيع "
عبس دون أن يرد فتابعت برجاء: " لا تفعل يا قاسم.. أرجوك لا تفعل "
أشاح بوجهه عنها مجددا قبل أن يقول بصوت جامد: " لا تترجيني حياة.. أوامركِ مطاعة يا ابنة عمي.. لن أفعل وأيضاً لن... (نظر لها ببرود وهو يكمل) لن أعيد طلبي... أبداً.. تصبحين على خير "
اختفى من أمامها سريعاً وتركها خلفه متسمرة في مكانها وسالت من عينها دمعة وحيدة وكلمته تصدح مراراً وتكراراً
قاسم قال أنه لن يعيد طلبه.. أبداً
تعلم أنه يفعل ما ينطق به وإن قال أنه لن يكرر طلبه فقد عنى الكلمة وسينفذها
وبخت نفسها: " لماذا تبكين؟ لماذا تتحسرين الآن؟ أ لستِ من طلبتِ منه ألا يخبر جدكِ؟ "
دلفت لغرفتها وأغلقت الباب تستند عليه وهي تترك العنان للمزيد من العبرات تسيل بينما تقول: " كيف اتزوج وأسعد في حياتي وأبي دمه لازال مهدورا وحقه لازال ضائعا؟ "
شهقت باكية وهي تضيف: " لازال الطريق شائك يا قاسم.. بيني وبينك سور عالٍ لا أظنك بقادر على اختراقه ولا أظنني أملك الطاقة الكافية حتى أهدمه لأجلك "
تحركت اتجاه الفراش وهي تتمتم بقهر: " والله يوجعني قلبي في كل مرة أردك مخذولاً لكني لا أملك الحل.. سامحني يا قاسم "
كان هذا ما قالته قبل أن تهوى على الفراش وتجهش في البكاء حالها كحال أختها وليس بأفضل منها
***

كانت فرح تقف أمام النافذة وتنظر للأسفل بحيرة وهي تقول: " ماذا يفعل أخاكِ وحده حتى اللحظة؟ "
عبست شمس وهي تقول: " هل لازال في الحديقة الخلفية؟ "
اومأت فرح إيجاباً وهي تسألها: " هل يدخن؟ "
ردت شمس بنفس العبوس: " حينما يكون غاضباً من شيء "
استدارت فرح تنظر إلى شمس بإهتمام بالغ وهي تقول: " ومما هو غاضب؟ هل أساء أحد من عائلتنا إليه؟ "
عقدت شمس ساعديها أمام صدرها وهي ترد: " هو غاضب بسبب شخص آخر لا تعرفينه "
ابتسمت فرح وهي تناكفها: " كم هو شرير إذن هذا الشخص.. كيف استطاع ازعاج كائن بوسامته تلك؟ "
تنهدت شمس ببؤس ولم ترد فألتفتت فرح إلى النافذة من جديد وصرخت بذهول: " ماذا يفعل؟ "
هبت شمس من جلستها واقتربت من النافذة تنظر حيث أشارت فرح فقطبت بكآبة على خلاف فرح المصدومة والتي عادت تهتف بدهشة: " هل ستتركينه يفعل هذا الجنون؟ "
ردت شمس ببؤس: " لا سأشاركه جنونه "
خلال ثوان كانت شمس تغادر الغرفة بينما فرح ظلت على وقفتها تنظر إلى أنس الذي افترش الأرض ونام
***

وقفت شمس متخصرة تنظر إلى أنس الذي ينام على الأرض بسكون
كان ينام على ظهره، يرفع ساقاً فوق أخرى بعجرفة وكأنه ينام على بساط علاء الدين السحري لا على أرض ترابية بينما يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والأخرى يضعها على وجهه يخفي بها عينيه
ظلت على صمتها حتى سمعته يقول بصوت هادئ حنون: " الجو بارد هنا.. اصعدي للأعلى يا شمس "
برمت شفتيها بطفولية وهي تقول: " ليس لي مكان في الأعلى فرح طردتني "
ضحك أنس وهو يقول: " أخبرتكِ من قبل أنكِ فاشلة في الكذب "
تنهدت بإحباط ترد: " هل هذا يعني أنك لن تسمح لي بالنوم إلى جوارك؟ "
رد دون أن ينظر إليها: " أكيد "
شعرت شمس بالغيظ فهتفت: " لكنني دوماً أسمح لك بالنوم إلى جواري "
ابتسم أنس وهو يرد باستفزاز: " ومن قال أنني احتاج لأن تسمحي لي.. أنا أفعل ما يحلو لي وما أريد "
ابتسمت بسخرية وهي تقول: " رحم الله أياماً كنت تتوسلني فيها لكي أسمح لك بالنوم في غرفتي "
رفع ذراعه عن وجهه ونظر لها مناكفاً يقول: " هل غضبت شمسي مني؟ "
عقدت ساعديها أمام صدرها واشاحت بوجهها عنه وهي ترد: " جداً "
ضحك أنس وهو يشير لها أن تقترب قائلاً: " تعالِ إذن لأصالحكِ "
نظرت له بطرف عينها تتصنع التمنع فأردف بمكر وهو لازال يضحك: " سأخبرك سر يخص تلك المغرور ابنة عمك "
نظرت له باهتمام جلي وهي تقترب منه سائلة بحماس: " تقصد ملك؟ أي سر؟ "
جلست الى جواره فسحبها بخفة وضمها إلى صدره وهو يقول: " نعم ملك.. هل لازالت تبكي؟ "
قطبت بعدم فهم تقول: " ملك تبكي! لماذا؟ "
تنهد وهو يرد: " لقد آلمها بكلامه جداً.. كان قاسياً معها لكن صدقاً الرجل معه الحق فيما قال.. تلك الفتاة كانت بحاجة لمن يوقفها عند حدها قبل أن تتهور وتجلب لنفسها ولابن عمها مصيبة "
كانت شمس حائرة لا تفهم شيء مما يقول فصاحت بحنق: " هلا تحدثت بوضوح أكثر أنا لا أفهم شيء؟ "
قطب أنس فجأة وهو يفكر بشرود في شيء ما طرأ في عقله فرد بعد لحظات بتفكير: " أتعلمين من الجيد أنكِ لا تفهمين لأنني لا نية لي في أخباركِ صراحة "
عبست وهي تهتف بغيظ: " أنت لئيم جداً "
تنهد أنس وهو يقول بلامبالاة: " أعلم "
***

في الأعلى
أغلقت فرح النافذة وهي تحدث نفسها بدهشة: " لقد ظننتها تمزح لكنها نامت إلى جواره حقاً في الحديقة.. ماذا لو رآهما أحد؟ "
ردت حلا وهي منشغلة بأكل الحلوى التي سرقتها دون إذن والديها: " إنهما أخوان لا مشكلة أن يناما معاً في الحديقة "
اومأت فرح برأسها وهي تجلس إلى جوارها على الفراش بينما تقول: " أعلم أن لا مشكلة في ذلك سواء كانا في الحديقة أو في أي مكان آخر لكن... لا يصح أن تنام شمس في مكان مكشوف هكذا إنها فتاة وفي الدار رجال كثيرين "
قطبت حلا وهي تفكر في كلام فرح ثم هتفت بعد لحظات: " هل سيعاقبها جدي إن علم؟ "
حركت فرح كتفيها وهي ترد: " لا أظن ذلك لكنه سينزعج إن رآها أحد في هذا الوضع "
عادت حلا تنشغل بتناول الحلوى بينما فرح تفكر في تلك العلاقة القوية التي تربط بين شمس وأنس
وبعد صمت طويل قالت حلا بحيرة: " لماذا ترسم شمس الحناء على يديها؟ "
ابتسمت فرح وهي ترد: " جميعنا فعلنا حتى أنا انظري(صاحبت كلامها بأن بسطت كفها أمام حلا تريها الحناء بينما تردف) لقد رسمت لي العمة فاطمة اسم أبي "
وضعت حلا قطعة من الحلوى في فمها وهي تقول بدهاء: " لكن شمس ترسم إسم عمي زيد "
قطبت فرح بحيرة تقول: " كيف عرفتِ؟ أنتِ لازلتِ تتعلمين حروف الهجاء "
ردت حلا ببساطة: " سمعت الجدة فاطمة وهي تخبر جدي سليم "
قطبت فرح بقلق وقالت: " وماذا كان رد فعل عمي سليم؟ "
فعبست حلا وهي تقول: " لقد أخبرها أن لا بأس لكن بعد أن رحلت سمعته يقول 'أن وقت فتح ذكريات الماضي لم يحن بعد' فماذا كان يقصد يا فرح؟ "
شردت فرح في تحليل تلك الكلمات وفي نفس اللحظة طرقت حفصة الباب ودخلت تقول بابتسامتها الحنونة: " هيا يا حلاي لندع فرح حتى تنام "
نهضت حلا وهي تخفي طبق الحلوى خلف ظهرها وترد بوداعة: " حاضر ماما "
نهضت فرح هي الأخرى تقول: " اذهبي أنتِ يا حلا فهناك ما أريد الحديث فيه مع ماما "
اومأت حلا برأسها وركضت إلى الخارج وهي سعيدة لأن أمها لم تكتشف سرقتها للحلوى بينما انشغلت حفصة بتعابير القلق التي بدت على فرح
قطبت حفصة بقلق تقول: " ما بكِ يا فرح؟ هل أنتِ مريضة؟ "
هزت فرح رأسها سلباً وهي ترد: " أنا بخير يا حفصة لكن هناك أمرا مهما أريد أن أحدثكِ فيه "
جلست حفصة أمام فرح في حين قالت الأخيرة: " أريد سؤالكِ عن شيء "
اومأت حفصة دون رد فتابعت فرح: " هل تعرفين السبب الذي جعل جدي يأمرنا بعدم الحديث أمام شمس عن العمة حبيبة رحمها الله؟ "
تنهدت حفصة وهي ترد: " بالطبع لا ومن أين سأعرف أنا؟ تعلمين جيداً يا فرح أن جدي كثيراً ما يصدر قراراته دون مشورة أحد وفي الغالب لا يكون أحد على إطلاع بها سوا عمنا خالد "
قطبت فرح وهي تفكر بصوت عالٍ: " هل تظنين أن أمره كان عاماً أي أنه لم يقصد شمس بعينها؟ "
قطبت حفصة بالمثل وهي ترد: " اممم هذا محتمل فعلاً.. من الممكن أن يكون جدي لا يريد منا أن نعيد فتح سيرة الماضي لهذا أمرنا ألا نتحدث معها أو نحكي لها عن العمة حبيبة رحمها الله "
نهضت فرح من مكانها وأخذت تتحرك في الغرفة جيئة وذهابا وهي تقول بحيرة: " لكن هناك شيء غريب ألم تلاحظي ذلك؟ "
مالت حفصة برأسها قليلاً وهي تنظر لها بعدم فهم قائلة: " أي شيء تقصدين؟ "
توقفت فرح مكانها ونظرت إلى حفصة تقول: " لكننا اخبرناها عن عمي محمد وعن والدكِ.. اخبرناها بشأن هذا الثأر القديم الذي كانا ضحيته لكننا في المقابل لم نخبرها شيء عن العمة حبيبة رغم أن وفاتها أيضاً متعلقة بهذا الثأر ولم نخبرها عن ابن عمنا سليم "
جلب حديث فرح العفوي عن ذلك الحادث المرارة إلى حفصة وهي تتذكر والدها الذي حرمت منه فترقرق الدمع في عينيها وهي تطرق برأسها للأرض دون أن ترد
شعرت فرح بالحزن والشفقة عليها فاقتربت منها حتى جثت على ركبتيها أرضاً أمامها وامسكت كفيها بحنان وهي تقول: " أنا آسفة يا حفصة.. لم أقصد أن أذكركِ بكل هذا "
تنهدت حفصة بحسرة وهي ترد: " لا بأس يا فرح فأنا لم أنساه من الأساس "
ابتسمت فرح بكآبة وهي تقول: " معكِ حق وكيف ننسى من يسكنون قلوبنا وأرواحنا؟ "
ران بينهما الصمت لدقائق طويلة حتى قالت حفصة بهدوء: " قد يكون السبب وراء ذلك هو سبب وفاة العمة حبيبة رحمها الله "
نظرت لها فرح بتعجب تقول: " تقصدين أن جدي يريد إخفاء حقيقة موت ابن عمنا سليم لكن لماذا؟ من حقها أن تعرف فهي ليست غريبة عنا "
تنهدت حفصة وهي تقول: " والله لا أعرف يا فرح.. هذا ما أظنه أنا ومع صعوبة الوصول إلى تفكير جدكِ فلا أجد تفسير آخر لهذا الأمر "
لم تعقب فرح على كلامها فنهضت حفصة من مكانها وربتت بحنان على رأس فرح وهي تقول: " لا ترهقي نفسكِ بالتفكير يا فرح ودعي الأمور تسير كما يخطط لها القدر فلا نعلم ما يخبئه الغد لنا "
اومأت فرح برأسها بصمت فأبتسمت حفصة وهي تردف: " هيا اخلدي للنوم مباشرة فلم تتبقى سوا ساعات قليلة حتى تشرق الشمس ويأتي الصباح بصخبه المرتقب "
اومأت فرح بطاعة وهي تبتسم لحفصة بامتنان صامت لتلك المعاملة الفريدة التي تنالها منها وكأنها ابنتها فتجد في ذلك تعويضاً كبيراً عن فقدان أمها
***

صباحا / في المستشفى
دخل يوسف الغرفة متعجبا من وجود صخر في هذه الساعة المبكرة وقد أخبره بالأمس أنه لن يتمكن من الحضور خلال ساعات النهار الأولى
أغلق الباب واقترب بخطى هادئة منه حيث ينام على الأريكة الجلدية يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والآخر يغطي به عينيه
فتح يوسف فمه وقبل أن ينطق بحرف سبقه صخر بالقول: " لستُ نائما يا يوسف.. تعال أجلس "
تنهد يوسف وهو يسحب كرسي من أمام المكتب يقربه من الأريكة قبل أن يجلس قائلاً: " يبدو أنكَ هنا منذ زمن "
رد صخر دون أن يتحرك أو يغير من وضعيته: " لم أذهب للبيت بالأمس.. أنهيت بعض الأعمال ثم عُدت إلى المشفى مرة ثانية "
قطب يوسف بحيرة وهو يسأله بترقب: " عن أي أعمال تتحدث صخر؟ "
رد صخر بسؤال آخر: " أخبرني يوسف كيف يخطئ الأخ التعرف على أخاه؟ "
زادت تقطيبة يوسف بعدم فهم وهو يتمتم: " ماذا؟ "
تكلم صخر بعد لحظة وكأنه يحدث نفسه: " أنا شخصيا أتعرف بسهولة على أي شخص ألتقيته من قبل ولو لمرة ولو جمعتنا نظرة واحدة فقط.. مستحيل أن أخطئ التعرف عليه إن تقابلنا ثانية فكيف يخطئ الأخ التعرف على توأمه الذي هو من لحمه ودمه بل ما يربطهما أقوى من ذلك؟ "
عبس يوسف بغيظ من كلمات صخر التي تبدو له كأحجية لا يستطيع تفكيكها وهتف: " أنتَ يا دكتور أعتدل أولاً وأنتَ تكلمني وفسر كلامك فكما تعرف أنا جاهل في فك الشفرات وحل الألغاز والأحاجي المعقدة التي أنتَ بارع فيها "
تنهد صخر بعمق قبل أن يرد بمناكفة: " والله لا طاقة لي لأن أعتدل دكتور يوسف فأسمح لي بالهذر في وضعي هذا بدون أي تذمر منك رجاءً "
ابتسم يوسف وهو يلكزه في كتفه مازحا: " هل تحاول المراوغة حتى لا تخبرني مع أي فتاة قضيت ليلة أمس؟ "
رد صخر بنبرة تصنع فيها البراءة: " أوه يوسف.. دوماً هكذا تظن بي ظن السوء رغم أني شاب برئ النوايا ومستقيم الدرب "
رفع يوسف حاجبيه بذهول مصطنع وهو يقول: " معك حق دوماً أظلمك يا مسكين.. أستميحك عذرا أيها البرئ المستقيم "
تنهد صخر يرد بقلة حيلة: " لا أعرف والله كيف أتخلص من طيبة قلبي تلك التي تسبب لي المشاكل دائما لكن حسناً سأتنازل تلك المرة أيضًا وأسامحك "
ضحك يوسف بمرح قائلًا: " يبدو أن مزاجك ليس مكدرا كالعادة "
أزاح صخر ذراعه عن عينيه وهو يلتفت برأسه قليلا، ينظر إلى يوسف مجيبا بصوت كئيب: " بلى هو مكدر يا يوسف لكني أحاول تصفيته بقدر ما أستطيع "
قطب يوسف بقلق وهو يندر له بتدقيق سائلا: " صخر عينيك محتقنتين بشدة.. هل كنت تبكي؟ "
ازدرد صخر ريقه وهو يرد بإحباط: " كلا.. لكنني لم أنم لدقيقة حتى.. ليلة أمس استنفذت الكثير من طاقتي وجهدي "
سأل يوسف بإهتمام وهو ينظر لصخر بقوة: " أين كنت ليلة أمس يا صخر وأي عمل ذاك الذي انشغلت فيه دون أن تخبرني عنه؟ "
زفر صخر بقوة وهو يعتدل جالسا قبل أن يرد بصوت جامد ونبرة قاتمة: " كنت في مدينة الجبل "
هب يوسف من مكانه وهو يصرخ بإنفعال: " آخر مرة أتفقنا ألا تذهب إلى هناك وحدك.. لماذا خالفت الإتفاق الذي كان بيننا؟ "
قطب صخر وهو يرد ببرود: " أنا لم أتفق معك على شيء.. أنت من قررت وحدك وصمتي حينها لم يكن يعني موافقتي على ما تقول "
هتف يوسف بنفس الإنفعال: " كان يجدر بكَ أن تخبرني إذن طالما سيادتك لم توافق لا أن تدعني كالأحمق أثرثر بكلام ليس منه أي فائدة "
صاح صخر بحدة قائلا: " هل يمكنك أن تهدأ وتمنحني فرصة لكي أشرح لك سبب ذهابي إلى هناك دون إخبارك؟ "
تأفف يوسف بضجر فغمغم صخر بإقتضاب محاولا قدر الإمكان التحكم في أعصابه: " هلا جلست؟ "
رضخ يوسف لطلبه وجلس على كرسيه من جديد وهو يتمتم بغيظ: " ها قد جلست.. ما التالي؟ "
تنهد صخر بعمق وهو يحاول التماسك حتى لا يستسلم للصداع الشديد الذي يضرب جانبي رأسه بلا هوادة.. تكفيه أعصابه المتشنجة والمتوترة منذ ساعات لسبب يجهله شخصيا حتى اللحظة

بعد لحظات قال: " تعلم أن لي عيون في دار الناصر كما في دار الجبالي حتى أكون على إطلاع تام بكل ما يدور هناك "
نظر له يوسف بإهتمام فاستطرد صخر: " بعدما غادرت أنت بالأمس وصلتني رسالة من أحد الرجال التابعين لي يخبرني بأن فؤاد يخطط لقتل زيد "
هب يوسف من جلسته صارخا بصدمة: " ماذا؟ كيف؟ والله كنت قتلته إن حاول أن يمسه بمكروه "
صرخ صخر بنفاذ صبر: " أجلس يا بني آدم ودعني أنهي حديثي "
عاد يوسف إلى كرسيه والقلق قد عصف بكيانه بينما عبس صخر وهو يتابع حديثه: " لم أُرِد حينها أن أقلقك لخبر قد يكون مجرد كذبة ابتدعها فؤاد لسبب أو لآخر ففضلت أن اتأكد بنفسي من الأمر أولاً لذا ذهبت إلى هناك دون أن أخبرك "
سأل يوسف بخوف بدى جليا على ملامحه: " وماذا وجدت؟ كانت مجرد كذبة أليس كذلك؟ "
قطب صخر بجمود وهو يجيبه: " لا.. الخبر أكيد.. فؤاد يريد بالفعل التخلص من زيد "
شحب وجه يوسف وهو يطالع صخر بصدمة قائلا بخفوت وصوت متحشرج: " ما علاقته بزيد؟ ماذا فعل له زيد من الأساس حتى يخطط فؤاد لقتله؟ "
رد صخر بتهكم: " يظن أن زيد هو من يتسبب له في المشاكل التي تتوالى عليه تباعا من كل جانب "
عبس يوسف وهو يتمتم بعصبية: " ماذا؟ أحمق هو أم ماذا؟ كيف يظن هذا بزيد؟ "
حرك صخر كتفيه وهو يرد ساخرا: " وأنا والله كنت أتساءل أيضاً.. كيف ظن بزيد الفتى المدلل الذي بالكاد يمكنه الصراخ والسب أنه من يتسبب له في تلك الخسائر المتلاحقة؟ "
توسعت مقلتي يوسف فجأة وهو يهتف باستدراك متأخر: " من حقه أن يظن أن السبب في كل ما يحدث له هو زيد "
نظر له صخر بترقب وهو على يقين بما سيحدث في اللحظة التالية.. سينفعل يوسف ويفقد أعصابه مطلقا العنان للسانه متحدثا بدون تفكير وبالفعل هب الأخير من جلسته للمرة التي لا تعد وأخذ يلوح بيديه صارخا بإنفعال والكلمات تخرج من فمه متلاحقة: " تفعل أنتَ كل شيء.. تخطط، تقرر، تأمر، وتنفذ ومن ثم يقع هو ضحية لكل ما تقوم به "
ظل صخر على صمته يستمع إليه بهدوء ظاهري وملامح ساكنة لا تعبر عن شيء بينما يوسف تعلو نبرة صوته أكثر وأكثر وهو يضيف: " ألم تفكر للحظة بالعواقب التي قد تحدث بسبب ما تفعله؟ ألم يخطر بعقلك عدد الضحايا الذين قد يأخذهم الموت عقابا لهم على مساندتك ومشاركتك فيما تقوم به؟ "
حينما سكت يوسف بعد آخر كلمة قالها ولم يبدي أي رغبة في قول المزيد جاء دور صخر ليتكلم ببساطة مستفزة: " تابع يوسف.. كلامك أثار اهتمامي "
نظر له يوسف بغضب قبل أن يردف بتهور: " ألن تفكر للحظة فيمن حولك وما ينتابهم من قلق واضطراب بسببك؟ ألن تقدر خوفهم عليك وأنت تلقي بنفسك في الجحيم بكل غباء؟ ألن تتراجع عما تخطط له حتى ترى بعينيك صديق أو قريب لك يذهب ضحية لما تفعله؟ هل حينها ستتراجع صخر؟ "
جز صخر على أسنانه دون رد فتابع يوسف بصوت مخذول كئيب: " أخبرني صخر هل ستتراجع إن خسرتني أو خسرت أحد أفراد عائلتك؟ هل هذا ما سيجعلك تترك انتقامك وتحيا الحاضر والمستقبل دون شوائب الماضي التي تصر على أن تبقيها عالقة بك؟ "
هب صخر من مكانه بغضب تفجر في لحظة وهو يركل الكرسي الذي كان يجلس عليه يوسف بعنف قبل أن يصرخ بوحشية: " لا يوسف.. لن أتراجع ولن أستسلم ولن أترك انتقامي حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير وحتى آخر قطرة دم في عروقي.. لن أتراجع عن ثأري وإن كانت روحي المقابل لأن أحقق غايتي وهدفي.. لن أتراجع وإن كان آخر ما سأفعله في حياتي هو قتل فؤاد ولكن أولاً سأجعله يندم على كل لحظة شعر فيها بالفرح والسعادة وأنا هنا ضائع أشعر بنفسي بلا هوية.. بلا أصل "
قطب يوسف بحيرة شديدة من آخر جملة نطقها صخر.. يعلم أن صخر يخفي عنه الكثير من الأمور حتى يحميه ولا يثير قلقه لكنه لا يفهم سبب تشبثه بهذا الثأر الذي يدعيه وما زاد حياته بخصوص الأمر هو آخر كلمات نطقها صخر
الأصل.. الهوية كلاهما في قبضتين صخر.. هو يمتلك الأصل الرفيع والهوية المعروفة لكن... لماذا يتحدث وكأنه شخص مشرد بلا نسب أو أهل؟..
كان صخر يلهث من فرط انفعاله وصراخه لكنه لم يسكت بل تابع بعصبية وهو يرفع سبابته في وجه يوسف: " حتى اللحظة لم يُصب إنسان أي مكروه بسببي أنا.. حتى اللحظة لم يتأذى إنسان عقابا على ما أفعله أنا.. حتى اللحظة لم يُضر إنسان في شيء نتيجة لمخططاتي الشريرة كما تشير.. وحتى اللحظة لم أكف أنا عن حماية الجميع من يخصني من قريب أو بعيد.. لماذا يا ترى؟ (قطب بوحشية وعينيه تعصفان بالجنون قبل أن يصرخ وهو يضرب على صدره موضع القلب بعنف) لأن هنا شقي مغلوب على أمره لا يَكُف عن التفكير في الجميع.. لا يَكُف عن قطع العهود بحماية الجميع ورعايتهم "
ازدرد ريقه الذي جف من الصراخ قبل أن يقول بصوت بدى مشروخا متصدعا من شدة حدته: " لربما أكون شريرا، مغرورا، متعجرفا إلى أقصى حد لكنني ورغم كل هذا أملك بعض الرحمة يا يوسف ولولاها لا أعرف ما كنت سأفعل بقوى الحقد والغل الكامنة بداخلي وإلى أي شخص سأوجهها؟ "
حاول يوسف الكلام فقاطعه صخر بقوة يردف: " ما كنت لأدع مخلوق كان بأن يؤذي زيد ليس حبا فيه فأنت تعلم أنني لا أحبه أبدا لسبب لا يعلمه سوا الله لكنني قطعت وعدا على نفسي بحمايته لأجلك أنت "
تنهد يوسف بإحباط متمتما: " صخر أنا آسف.. صدقني لم أقصد أن أتهمك بشيء لكن... أنت تعلمني وقت عصبيتي لا أدرك ما أقوله حينها وتتداخل عليّ الأمور فتشتتني "
أشاح صخر بوجهه عنه وهو يقول بصوت بارد فاقد للحياة: " الموضوع أنتهى قبل أن يبدأ حتى وزيد في أمان "
اقترب يوسف يقول بحرج: " صخر أنا... "
قاطعه صخر بنفس النبرة: " إذا سمحت يوسف غادر الآن فلست في مزاج يسمح لي بسماع كلمة أخرى من أي مخلوق "
أطرق يوسف رأسه بندم لما تفوه به في حق صخر لكنه لم يرد أن يضغط عليه فأطاع أمره وخرج من الغرفة تاركا الأخير وحده وحديث سبق وقاله له مختار يتردد في عقله ومن حوله بصخب.
' أخلع عنكَ ثوب البطل المغوار والفارس الهمام الذي تُصر عليه.. لا أقول هذا لأنه ليس لكَ ولكن لتمهل نفسك حتى ترتاح قليلاً وتستنشق بعضا من نسمات الهواء الصافية تماما من صخب أفكارك وضغوطات عملك ومشاعرك المختلطة.. أمهل نفسك حتى تجدد موازينها التي اختلت في خضم صراعاتك التي لا تنتهي سواء مع نفسك أو مع غيرك.. أمهل نفسك حتى ترى الدنيا بألوانها الكثيرة التي خلقها الله بها ولا تجبرها على رؤية لون واحد.. حاول أن ترى نفوس البشر من كل الاتجاهات وبكل النظرات والمفاهيم ولا تقصرها على رؤيتك وحدك لأنك هكذا تكون قد ارتكبت خطأ كبيرا في حق نفسك.. النفس البشرية مهما بلغ ايثارها لشخص أو لشيء لكنها نفس بشر في النهاية عند لحظة تجدها تُسقط الجميع وترفع نفسها.. حاول أن تخزن القليل من شجاعتك لنفسك لتحميها ممن حولك صديق كان أو غريب فلا أحد مؤتمن يا بني.. لا تهمل في حق نفسك فتهملك ولا تُحملها ما لا طاقة لها على تحمله فترهقك وفي لحظة تخذلك.. امنح نفسك راحة تحتاجها وتضني بها عليها وأترك أمر الجميع لوقت لاحق فليس الكل سيقدر عظيم الجهد والتضحية التي تبذلها لأجل رضاهم وراحتهم وليس الكل سيرى ما تفعله لأجلهم فيقابلها بنفس راضية شاكرة.. عليكَ أن تفكر قليلا بنفسك فهي أيضًا تستحق '
***

مساءً / ليلة العرس
وسط أجواء الحفل النسائي الصاخب دخلت فرح مهرولة بحماس وهي تهتف: " عمي مختار هنا "
نهضت حفصة على الفور تقول بدهشة: " لا أصدق.. هل أنتِ واثقة أنه هو بالفعل يا فرح؟ "
اومأت فرح بقوة وهي تبتسم بسعادة قائلة: " طبعا واثقة.. لقد رأيته بعيني وهو يسلم على أبي وجدي "
قطبت حياة بحيرة وهي توجه حديثها لحفصة: " إنها زيارته الأولى لنا منذ رحل عن مدينتنا قبل عشر سنوات كاملة حتى زفافك وعاصم لم يحضره "
ردت حفصة بسعادة تقول: " المهم أنه هنا.. أتمنى أن أراه "
ابتسمت حياة بلطف ترد: " بالطبع سترينه طالما جاء بنفسه فلا أظنه سيغادر قبل أن يقابلنا جميعا "
لم تمض بضعة دقائق حتى دخلت إحدى الخادمات تخبر حفصة بأن الدكتور مختار ينتظرهن في إحدى غرف الضيوف
خرجت الفتيات على الفور وهن يشعرن بالحماس والسعادة للقاء الضيف العزيز عليهن والذي طال غيابه عنهن لعشر سنوات كاملة
***

كان يجلس على إحدى الكراسي المنفردة واضعا ساقا فوق أخرى بأناقة وحينما رآهن يدخلن نهض بهدوء ليستقبلهن بابتسامته الجميلة الحنونة التي تشبه ابتسامة أخاه الراحل الشيخ عبد الله
اقتربت منه حياة تصافحه بحرارة وهي تقول: " أنرت الدار دكتور مختار لازلت على نفس اناقتك "
ابتسم مختار يناكفها قائلا: " وأنتِ لازلتِ جميلة.. كبرتِ يا حياة "
ابتسمت حياة وهي تومئ برأسها قائلة: " جميعنا كبرنا عماه.. قطار العمر لا ينتظر أحد "
اقتربت حفصة مبتسمة وهي تصافحه بالمثل متمتمة برقة: " وماذا عني عماه؟ "
اتسعت ابتسامة مختار وهو يربت على كتفها بحنان خاص مجيبا: " وأنتِ لازلتِ سيدة قلبي يا حفصة.. الحجاب زادك بهاءً بنيتي "
أطرقت برأسها خجلا وهي ترد: " شكرا عماه.. لقد اشتقنا إليكَ كثيرًا "
رد بتنهيد: " وأنا أيضا اشتقت إليكم وللمدينة ورائحتها وأناسها الطيبين "
ابتسمت فرح وهي تتدخل في الحديث قائلة بمرحها المعتاد: " صلوا على الحبيب المصطفى.. ما بكم يا جماعة جعلتم من اللحظة السعيدة مثال للكآبة؟ إن استمريتم في الحديث على هذا المنوال فسوف تبكونني لا محالة "
رددوا جميعا الصلاة على النبي ليهتف بعدها مختار وهو يبتسم بمشاكسة حلوة تجعله أصغر سنا: " لا أصدق بأن فرح القزمة باتت شابة حلوة تملأ العين "
عبست فرح بطفولية وهي تتمتم: " الجميع ازداد طولا ولست وحدي القصيرة حتى ملك كانت قزمة في طفولتها "
ضحك مختار بمرح وعينيه عفويا تبحثين عن ملك التي كانت تقف خلف حفصة منكسة الرأس وكأنها لا تريد أن تلقاه
اقترب هو منها مربتا على شعرها بحنان قائلا: " ألا تريد ملاك العائلة أن تسلم عليّ؟ "
رفعت وجهها إليه وما هي إلا لحظة حتى كانت ترتمي بين أحضانه مجهشة في البكاء بشدة فأخذ هو يربت على كتفها بحنان هامسا: " لا تبكي بنيتي.. دموعكِ غالية عليّ "
همهمت من بين بكائها: " أنا لست غالية لدي أحد.. حتى أنتَ رحلت وتركتنا في نفس اليوم الذي رحل فيه أبي.. كلاكما تركتماني وحدي "
قطب مختار بحزن للذكرى وهو يرد: " والله ما فعلتها عن أمري ولا رغبة مني في الرحيل عنكم ولكنها إرادة القدر بنيتي "
هتفت بحرقة وهي تبتعد عن أحضانه: " ولم تأتِ لزيارتنا ولا لمرة واحدة.. لم تطلب رؤيتي أبداً وأنتَ تعلم أنني... أنني بِت وحدي بلا أب أو أم "
قبل أن يرد كانت هي تكمل: " دومًا اعتبرتك في منزلة أبي.. بل رأيت فيكَ أبي رحمه الله بالفعل لكنك... لكنك رحلت وخذلتني "
اوجعته الكلمة وكأنها لطمته على وجهه بقسوة فتنهد بكآبة وهو يتمتم: " قلت لكِ ما فعلتها عن أمري.. لم أتعمد أن أخذلك يا ملك ما كنت لأفعلها بكِ لو خيرت في هذا "
أشاحت ملك بوجهها جانبا مكتفة الساعدين وهو تكتم شهقاتها المريرة وشعورها باليتم يجسم على صدرها بوحشية لا طاقة لها على مواجهتها أو صدها وكان ذلك الشعور البغيض كان ينتظر قدوم مختار ليعود مظهرا نفسه من جديد
أشار مختار خفية لحفصة فخرجت هي وحياة وفرح وتركاه وحده مع ملك التي ظلت مشيحة بوجهها عنه
اقترب منها بهدوء يمسح عبراتها المنهمرة وهو يقول بلطف: " لو كان الأمر بيدي لأخذتكِ معي وما كنت تركتكِ لحظة هنا لكن تعلمين أن هذا مستحيل "
قطبت بحرقة ترد: " جدي ما كان ليقبل بهذا حتى إنه يسعى لإبقاء ابنة عمتي رقية هنا.. يريدها أن تنتقل للعيش معنا "
تنهد مختار بشجن وهو يقول: " هو يريد أن يعوض حرمانه من رقية رحمها الله بأن تحيا ابنتها تحت كنفه وأمام عينيه "
لم تعقب بشيء فتابع هو بابتسامة ماكرة: " لا أستبعد أن يزوجها لأحد أحفاده كي يجبرها على البقاء هنا "
رفعت ملك رأسها بحدة تنظر لمختار بشراسة وهي تتمتم: " ليفعل ذلك ولكن بعيداً عن ياسين وإلا والله كنت قتلتها "
قهقه مختار بانشراح وهو يضربها على جانب رأسها بمشاكسة قائلا: " هذه هي ملاك التي اعرفها "
زمت شفتيها تغمغم بتملك: " ما كنت لأسمح لأحد كائن من كان بأن يسلبني ما أملك "
رفع حاجبا بمكر وهو يسألها: " وهل ياسين ضمن ما تملكين؟ "
نظرت له مقطبة فتابع بتمهل: " ما أعرفه جيداً عن رجال الجبالية هو أنه من الصعب امتلاكهم.. لكن من السهل عليهم أن يمتلكوا وحين يفعلون إما تسعدين معهم ويرفعونك إلى أعالي الجنان أو تشقين معهم ويكون مكانك هو أسفل الأرض حيث لا حياة "
ران عليها الشرود والكآبة فسألها مختار: " أخبريني ملك.. أتظنين جبلكِ رافعكِ أم خاسف بكِ الأرض؟ "
نكست رأسها بقهر وهي تتذكر ما فعلته بالأمس وخلافها مع ياسين الذي انتهى بتهديد صريح منه بألا تقترب من محيط تواجده
رفع مختار رأسها بلطف وهو يقول: " لم يفت أوان العودة يا ملك.. جميعنا نخطئ والذكي وحده من يرجع عن الخطأ ولا يتمادى فيه فيخسر نفسه ويضيع من بين يديه كل ما يملك في لحظة غباء منه "
زفرت بإحباط تصارحه: " لست متأكدة من تمسك ياسين بي بعد شجارنا الأخير بالأمس.. لقد... لقد أخطأت واعترف بذلك لكن... لكني كنت يائسة عماه ولا أدري أي طريق يجب أن أسلكه؟ "
ابتسم مختار وهو يقول: " ياسين يحبك ملك ولو لم يكن صادقا في عاطفته اتجاهكِ لما تحمل منكِ رعونتكِ التي لا تطاق "
عبست بحذر تسأله: " وما أدراك أنتَ برعونتي عماه؟ هل هو من أخبرك؟ "
هز رأسه سلبا يقول بتنهيد: " لا.. هو لم يكلمني في أي شيء يخصكِ لكنني أعرف"
زاد عبوسها وهي تقول: " كيف؟ "
شردت نظراته للحظة وهو يفكر في شيء ما.. هو بالطبع لن يخبرها أنه يتقصى أخبارهم بصعوبة من صخر الذي يذرع في دارهم أعين له ينقلون له الاخبار أولا بأول لسبب يجهله هو ويرفض صخر أن يبوح به
تنحنح قليلا وهو يجيبها بمراوغة: " يوما ما ستعلمين؟ "
قطبت ملك بحيرة وهي تتمتم: " أنا لا أفهم "
فابتسم مختار وهو يربت على وجنتها قائلاً: " لا تشغلي عقلكِ الجميل بشيء وحينما تأتي اللحظة المناسبة ستدركين وقتها أنكِ ما كنتِ وحدكِ أبداً وأن هناك الكثيرين يعنيهم أمركِ ويهتمون بكِ دون أن تدري "
لم تكد تفتح فمها تستفسر منه عما قاله حتى تفاجأ كل منهما بدخول زهراء وهي ترفع فستانها وتخطو نحو مختار عابسة بطريقة طفولية مضحكة ومن خلفها حفصة وحياة وفرح يطالعونها بعبوس واضح وهي تصيح: " لن أسامحك أبداً دكتور مختار.. هل يصح أن تطلب رؤية الجميع إلا أنا؟ "
اتسعت عينيه ذهولا وهو يتطلع في العروس التي تركت عرسها لأجله وسرعان ما أنفجر ضاحكا وهو يقول: " لازلتِ مجنونة يا زهرة.. لكَ الله يا حمزة "
تركت الفستان بغيظ وهي تكتف ساعديها متصنعة خصامه بينما يقترب هو منها كاتما بقية ضحكاته وهو يقول بمودة: " لم أنهي حديثي بعد.. نعم مجنونة لكنكِ عروس جميلة تأسر القلب والروح (مال يقبل جبينها قبل أن يكمل) مبارك عليكِ بنيتي "
ابتسمت برضا أخيرا وهي ترد: " بارك الله فيكَ عماه.. سعيدة بعودتك إلى مدينتنا من جديد "
تنحنح قليلا قبل أن يتكلم بهدوء: " في الحقيقة لقد أتيت لحضور عرسكِ وحمزة وسأعود إلى العاصمة بعد قليل "
صاحت ملك بيأس: " الليلة "
اومأ متنهدا: " نعم الليلة.. لابد أن أجري عملية لمريض لدي بعد بضعة ساعات ولولا ذلك لكنت بقيت الليلة بطولها معكم "
قالت حياة بلطف: " لماذا تتمسك بالعيش بعيدا عماه وأنتَ وحيداً؟ "
ابتسم مختار بفرح غامر وهو يرد: " لم أعد كذلك يا حياة "
توسعت عيني حياة بدهشة وهي تقول: " هل عُدت لزوجتك؟ "
اومأ إيجابا وهو يقول: " نعم.. منذ تسع سنوات "
ابتسمت حفصة برقة وهي تقول: " أنا سعيدة لأجلك عماه "
بينما هتفت فرح بحماس: " كم طفل لديك؟ "
ابتسم برضا وهو يرد: " لدي نبض "
صاحت زهراء بإعجاب: " واو.. ما أحلاه! إسم جميل عماه "
ابتسم مختار دون تعقيب فقالت حياة بابتسامة سعيدة: " كم عمرها؟ "
رد مختار بفخر: " ثمانية عشر "
تعالت همهمات الاستنكار منهن بينما سمع السؤال بنبرة استهجان بصوت غريب لا يعرفه من خلف حياة: " كيف هذا وأنتَ متزوج منذ تسع سنوات فحسب؟ "
قطب مختار يسأل بعدما ترآءت له شمس بوقفتها المتحفزة: " من تكون؟ "
اجابته حياة: " إنها شمس ابنة عمتنا رقية "
ابتسم لها بلطف وهو يحييها: " مرحبا بكِ بنيتي.. سعيد بلقائكِ "
عبست شمس في وجهه وهي تقول: " أجبني لو سمحت.. هل كانت لديك علاقة خارج إطار الشرع بزوجتك تلك قبل أن تعلنا زواجكما؟ "
شهقت الفتيات بصدمة من جرأة شمس التي وصلت إلى الوقاحة في نظرهن بينما رمش مختار بذهول يقول: " علاقة خارج إطار الشرع! أ هذا السؤال موجها لي أنا؟ "
رفعت حاجبا ببرود تقول: " بالطبع.. ومن سواك؟ "
صرخت ملك بحمائية وهي تقف أمام مختار في مواجهة شمس: " ألزمي حدودكِ وأنتِ تتحدثين مع عمي ثم ما دخلكِ أنتِ؟ "
ربت مختار على كتف ملك بحنان وهو ينظر إلى شمس قائلا: " لم يزعجني سؤالها يا ملك.. اهدئي بنيتي "
رمقتها ملك بشراسة وهي ترد بعناد: " ورغم ذلك ليس عليها حشر أنفها فيما لا يعنيها "
أرادت حياة إنهاء الأمر حتى لا يتطور إلى شجار فسألت بترقب: " جميعنا حائرين بالفعل عماه فهلا شرحت لنا كيف يكون عمر ابنتك أكثر من عدد سنوات زواجك؟ "
تنحنح مختار بحرج وهو يقول: " تعلمن أنني تزوجت قبل تسعة عشر سنة لكنني وزوجتي انفصلنا بعد بضعة أشهر قليلة "
زفر بضيق للذكرى الأكثر كرها بالنسبة له فتابعت حياة عنه: " نعم الجميع يعلم بالمشاحنات التي كانت بينكما خلال أشهر الزواج الأولى والتي انتهت بينكما بالطلاق "
تساءلت شمس بتحفز: " أي مشاحنات؟ "
رد مختار بهدوء: " أردت أن ننتقل للعيش هنا حيث كان أخي الأكبر قبل أن يتوفاه الله نظراً لارتباطي الشديد به لكنها رفضت وكانت هي فتاة صغيرة السن لم تنهي دراستها الجامعية بعد فأرادت البقاء في العاصمة حيث عائلتها "
قالت شمس بامتعاض: " هي محقة فأبسط حقوقها أن تكمل تعليمها وهنا لا توجد جامعات "
رد مختار ببساطة: " وأنا لم امنعها من متابعة دراستها كل ما أردته أن أكون إلى جوار أخي وهذا ما رفضته هي أو لأكون أكثر صراحة ما رفضته أختها مدعية أن العاصمة أكثر رقيا وهي لن تقبل بأن تسكن أختها في بلدة جاهلة بل وأصرت عليها حتى تطلب الطلاق "
قطبت شمس تسأله: " وهل نفذت كلام أختها بدون تفكير؟ ألم تكن تحبك لتتنازل قليلاً لأجلك؟ "
أشاح مختار بوجهه شاردا وهو يرد: " نعم كانت تحبني لكن ذلك الحب لم يستطع الصمود أمام جبروت أختها وتسلطها فرضخت لها وطلبت الطلاق "
رفعت حاجبيها تسأله بتعجب: " وببساطة طلقتها؟ "
تنهد مختار قبل أن يجيب: " نعم فعلت.. فأنا رغم ما تجدينني عليه من البساطة لكنني لست من يتنازل عن كبريائه لأي سبب كان "
ران عليهم الصمت للحظات قطعته حفصة وهي تقول بحيرة: " إذن من أين جاءت نبض؟ "
ضحك مختار متحرجا وهو يقول: " مني بالطبع.. لقد كانت مريم حاملا حينما طلقتها لكنها كما اخبرتكن كانت صغيرة السن جاهلة بتلك الأمور فلم تكتشف أنها حاملا إلا بعد طلاقنا بفترة "
هتفت ملك بغيظ: " وبالطبع أختها الشمطاء منعتها من أخبارك بكونها حامل؟ يا لها من حقيرة حقودة "
كتم مختار ضحكته وهو يضمها إلى صدره بمحبة خاصة قائلا بمناكفة: " لقد قررت منذ اللحظة أن أعينكِ الحارس الخاص بي يا فتاة "
ابتسمت ملك برقة وهي ترد بوداعة: " وأنا قبلت العمل لديك سيدي "
سألته حفصة بإهتمام: " ولماذا انتظرت لعام كامل حتى تعيدها إليك عماه؟ "
تنهد مختار وهو يرد: " حينما انتقلت إلى العاصمة كانت هي في أمريكا مع أختها وبمجرد أن عادت استغليت الفرصة وأعدتها إليّ وها نحن الآن أسعد أسرة في الوجود "
رددت حياة بذهول: " انتقلت إلى العاصمة! كيف؟ لقد أخبرنا جدي بأنك سافرت إلى أمريكا "
تنحنح متوترا من سؤالها وهو يرد بمراوغة: " بل سافرت للعاصمة لكنني على ما يبدو لم أخبره إلى أين سأسافر فظن هو أنني ذهبت إلى أمريكا حتى أستعيد مريم "
زمت زهراء شفتيها بطفولية تسأله: " إذن لما لم تحضرهما معك؟ كنت أتمنى لو قابلتهما قبل سفري "
ابتسم مختار بلطف يجيبها: " حينما تعودين بالسلامة أعدك بأنهما ستكونان في استقبالكِ إن شاء الله يا عروس "
***

بعد قليل
حينما حان وقت مغادرته كانت ملك تمنع دموعها من الانهمار بصعوبة بالغة بينما كان هو منشغل في الحديث مع الشباب والتعرف على أنس
تفاجأت باقتراب ياسين منها يقول بإقتضاب: " لا تقفي هنا.. أما ترين نظرات الرجال المصوبة عليكِ؟ "
لم تكن في مزاج يسمح لها بمجادلته فهمهمت بطاعة: " حاضر سأدخل "
قطب هو بحيرة من سرعة تلبيتها لأمره فسألها بقلق: " ملك.. هل أنتِ بخير؟ "
أطرقت برأسها تشعر بالكآبة وهي ترد: " إن كنتَ أنتَ بخير فأنا كذلك "
ما إن خطت بضعة خطوات حتى سمعت صوت مختار يناديها بحنان: " ملاك "
إلتفتت له على الفور لتراه يتقدم نحوها بإبتسامة واسعة قائلًا: " لا أستطيع أن أغادر قبل أن يكون وجهكِ آخر ما أراه هنا "
انفجرت حينها باكية تغطي وجهها بكفيها فربت على كتفها بحنان وهو يقول: " لا تبكي ملك.. سأعود بنيتي.. لن أغيب عنكِ طويلًا مجدداً بإذن الله "
نظرت له برجاء قائلة: " عِدني عماه "
مسح عبراتها المنهمرة برقة، مبتسما بحنان وهو يقول: " أعدكِ بذلك ملاكي الجميل "
تنهدت ملك براحة وهي تقول بأمل: " إذن ستأتي لزيارتنا بعد عودة حمزة وزهراء من رحلتهما أليس كذلك؟ "
اومأ بخفة وهو يرد: " إن شاء الله "
طالعته بوداعة وهي تزدرد ريقها قبل أن تقول بابتسامة بالكاد تظهر على ثغرها وهي تكتم المزيد من الدموع التي لازالت تستعمر مقلتيها: " وستحضر معك نبض والعمة مريم لكي... لكي أتعرف عليهما؟ "
رد بإبتسامة واسعة: " بالطبع فسيكون من حسن حظهما أن تقابلان ملاكي الجميل "
كاد يتحرك فاستوقفته بلهفة تقول: " لا تنسني عماه.. سأنتظرك مهما غبت فعُد لأجلي أرجوك "
قطب بتوجع على حالها وهو يطالعها في هذه الحالة تبدو كطفلة صغيرة تهتف بجزع من تخشى فقد أباها
قبل جبينها وهو يقول بحنان عذب: " نعم هذا ما عليكِ فعله.. انتظريني بنيتي لأني سأعود إن شاء الله قريباً لأجلكِ "
اومأت بفرح وكأنها حصلت على جائزة ثمينة بينما تهتف: " سأفعل عماه.. سأنتظرك "
منحها ابتسامته الحنونة المطمئِنة وهو يقول قبل أن يخطو بعيدا: " استودعكِ عند من لا تضيع ودائعه بنيتي "
ظلت تقف مكانها تشيعه بنظراتها الحزينة من جديد والدموع تأبى أن تجف من مقلتيها ولسانها يتمتم بخفوت: " في أمان الله عماه.. في أمان الله "
***

اليوم التالي / الخامسة صباحاً
خرج من غرفة العمليات منهك الروح كما الجسد، لأول مرة يشعر بتلك المرارة والحرقة لأنه فشل في إنقاذ إحدى الحالات التي كان مسؤولا عنها
حاول البعض التخفيف عنه وتذكيره بأنها حينما وصلت إلى المشفى كانت حالة قلبها متدهورة للغاية ميؤوس منها وأن اللوم يقع على أهلها الذين تجاهلوا مرضها حتى وصل بها الحال لما آلت له لكن ذلك لم يخفف من شعوره المرير بالفشل
جلس على طرف الفراش في غرفة الاستراحة متهاويا بيأس احتل كيانه وهو يشرد متذكرا الحالة التي ترك ملك عليها في المدينة قبل بضعة ساعات
كلماتها أثرت فيه جلّ تأثير وتمسكها به كطفلة تتشبث بوجود أباها عن طريقه آلمه
ذكرته بحالته يوم أن تُوفِي أخاه الذي لم يره يوما أخا بل والده وراعيه ومثله الأعلى وقدوة له في كل شيء
ذكرته بنفسه وهو يتشبث في أخيه رافضا أن يغطوا وجهه ويخفونه عنه رافضا أن يسحبوه بعيدا عنه.. عن وجوده
فرت دمعة من عينه وهو يتذكر أيضا تلك الفتاة التي فشل في إنقاذها والذي استحال وجهها فجأة وهو في غرفة العمليات بعدما فارقت الحياة إلى وجه ابنته نبض
كانت الفتاة شاحبة الوجه ساكنة تماما لكن عينيها كانتا تطالعانه بكآبة تخبره دون مواراة أنه خذلها
وجد نفسه يلتقط هاتفه على عجلة يطلب رقم زوجته والتي ردت دون تأخير بصوتها الرقيق الحنون تقول: " السلام عليكم "
لم يستطع حينها سوا نطق اسمها ليأتيه صوتها قلق: " ما بكَ مختار؟ هل أنتَ بخير؟ "
حاول مرات أن يتكلم ويفشل حتى تمكن أخيرا من الحديث يقول بصوت متحشرج: " ماذا تفعلين؟ "
ردت بحنان: " لازلت على سجادة الصلاة منذ صليت الفجر وأنا أدعو لك.. ألم تخبرني أن لديك عملية ستجريها قبل بضعة ساعات؟ بالتأكيد أنهيتها و... "
قطع سيل كلماتها المتفائلة يقول بكآبة: " لقد فقدناها يا مريم.. لم أستطع إنقاذها وهي لم تساعد نفسها حتى تنجو كانت... أنا لا أحاول وضع اللوم والخطأ على كاهلها والله.. لكنها بالفعل كانت مستسلمة للموت وترفض الحياة.. ماذا كان بوسعي أن أفعل أخبريني؟ "
ردت مريم بحزن لحاله: " أهدأ حبيبي وأذكر الله إنها مشيئته وتدبيره.. أنت فعلت ما بوسعك لتنقذها لكنها لم تكن تملك المزيد من العمر لتقضيه "
نكس رأسه بقهر يتمتم: " إنها صغيرة.. في عمر نبض تقريباً "
ردت مريم بيقين راسخ: " وإن كانت أكبر أو أصغر وحان أجلها فما تملك أنت أن تمنحها من عمرك أو تستبقيها لتحيا هي المزيد من الوقت.. تعلم حبيبي أن لكل أجل موعد لا تستطيع أن تستقدمه ساعة أو تستأخره لحظة واحدة "
رد بإحباط تملك منه: " نعم.. لكل أجل موعد لا يُستقدم ولا يُستأخر.. لكل أجل كتاب "
شعرت مريم بالقلق من صوته الغريب فقالت: " أ أنتَ وحدك؟ ألم يكن صخر معك؟ "
رد بتنهيد: " نعم وحدي فصخر مشغول الآن بإجراء عملية أخرى لطفلة في العاشرة "
قطبت مريم وهي تتمتم بقلق: " يا رب سلم "
سألها بعد لحظة صمت: " أين نبض؟ "
فردت مريم بحنان تجيبه: " تستذكر بعض دروسها فاليوم آخر امتحان لها كما تعلم "
ران بينهما الصمت من جديد حتى قطعه مختار بصوت متخاذل خافت يقول: " أخبرتني الممرضة أن يوسف غادر منذ ساعتين تقريبا لذا سأنتظر صخر حتى ينتهي من عمله ليقلني معه فلا أشعر بأنني قادر على أن أقود السيارة بنفسي "
ردت هي بحنان تناكفه: " مضى وقت طويل لم نخرج لنزهة سويا دكتور فلما لا نستغل انشغال نبض اليوم ونقتنص بعض الوقت لنفسنا؟ "
تبسم بإرهاق يرد: " نزهة في تلك الساعة الباكرة! هل أنتِ مجنونة حبيبتي؟ "
ضحكت برقة تجيبه: " نعم مجنونة بكِ دكتور.. ولعلمك سنخرج فقد قررت وأنتهى الأمر "
تنهد بعمق قبل أن يجيبها باستسلام: " حسناً سأنتظركِ حبيبتي "
***

بعد مُضي بضعة ساعات وليتها ما مضت!
ليتنا نستطيع إيقاف عجلة الزمن لنستبقي ما نريد للوقت الذي نريد
ليتنا نملك التحكم في حركة xxxxب الساعة التي لا تتمهل أو تنتظر أحد
وليتنا نعلم أين يكمن الشر فنتجنبه؟ وأين يسكن الخير فنسعى إليه؟
وليتنا.. وليتنا، ويا ليت الليت يكن!
كانت دموعها تسيل مدراراً وهي ترى الجسدين المسجيين أمامها وكل واحد منهما مغطى بغطاء أبيض لا يظهر منه إنشا واحداً
كانت تقف أمام السريرين المتجاورين في حالة ذهول تامة تسيطر على كل خلاياها
سكن كل ما فيها وتمردت عيناها واقسمتا على أن تذرفان الدموع رثاء وحزنا على فراقهما
ساكنة هي في مكانها لا تشعر بشيء وكأن الكون توقف.. عند خبر موتيهما
توقف.. مع توقف انفاسهما ونبضيهما
توقف.. مع رحيليهما
توقف.. حينما أعلن قرار تيتمها جملة واحدة دون تفصيل
مرت لحظات حسبتها دهراً كاملاً وهي تنتظر.. تترقب فواقهما وكأنهما في غيبوبة مثلاً.. تنتظر بصبر أن يستيقظا حتى يعودا معها إلى البيت
مع تزاحم العبرات في عينيها كانت ترفرف بأهدابها الكثيفة بقوة فتنهمر شلالات الدموع على وجنتيها وهي تفكر؛ لطالما.. كانا هما نور حياتها الذي تهتدي به خطاها وتستقيم
لطالما.. كانا لها الحياة بكل ما فيها وما تحمله
تلفتت برأسها قليلاً تنظر لما حولها بضياع ورفعت كفيها تمسد على ذراعيها وقد بدأت البرودة الموحشة تستعمر خلاياها وتتمكن من جسدها
لازالت تتلفت حولها، ولازالت تنتظر والضياع يهاجمها بأبشع الصور
عادت تنظر إلى السريرين بأمل مستحيل..
ودموع غزيرة..
وقلب مفطور..
وروح هائمة منكسرة..
وبعد جهد ومحاولات اشفقت عليها أحبالها الصوتية وتعاطفت معها ووافقت أن تساعدها في إخراج القليل مما يعتمل بداخلها وحينها خرج صوتها مختنقا ضائعا مكسورا كصاحبته: " هل ستتركانني حقا أعود وحدي إلى البيت؟ "
دارت بعينيها حولها قليلاً وضياعها يزداد وألمها يتعمق إلى الصميم ثم عادت تتمتم: " هل أصبحت الآن وحدي؟ أصبحت ي... يتيمة! "
وكأن الكلمة غرست خنجرا مسموما في قلبها فجحظت عينيها بفزع تهتف: " أصبحت بلا أب.. بلا أم.. وحدي تمامًا "
شهقت بقوة وهي تتمتم بأنين يمزق القلب: " سأضيع هكذا ويتشتت نبضي س... (شهقت من جديد قبل أن تتابع بحرقة من بين شهقاتها العنيفة) سأفقد الطريق وحينما تتعثر خطاي لن... لن أجدكما من حولي تعدلان سيري "
رفعت قبضتها المضمومة ووضعتها على فمها تمنع شهقة أخرى من الخروج وهي تضيف: " لماذا عاهدتماني بما لا تملكان؟ ألم تعداني بالبقاء معي؟ اخبراني بالله عليكما لماذا؟ "
ومن خلفها في تلك اللحظة دخل هو إلى الغرفة مندفعاً بعد شجار حاد مع الطبيب والممرضات لسماحهم لها بالدخول إلى تلك الغرفة حيث يقبع والديها وقد أخرجها منها منذ دقائق وهي منهارة تماماً
تسمر مكانه فجأة وهو يسمعها تهمس بأنين أدمى قلبه: " وماذا عن المسكين يوسف؟ كيف تتركان الأمانة قبل أن تعيداها إلى أصحابها؟ وماذا عن صخر الذي كان يكف عن تهوره فقط لأجل رضاكما؟ "
تقدم منها بخطى بطيئة بينما قلبه وروحه ينزفان مع كل خطوة منه ناحيتها وهي تضيف: " سيضيع صخر هو الآخر ولن يجد من يصحح خطاه ويقوم نفسه الجامحة.. لازلنا بحاجتكما... لازلنا نريدكما.. مهمتكما لم تنتهِ بعد "
وقف خلفها تماماً لكنها لم تشعر به وهي تتابع بصوت محترق منكسر: " يا أبي! يا أمي أنا نبض.. صغيرتكما.. هل تسمعانني؟ لماذا لا تجيبانني؟ لماذا؟ "
همس بجوار أذنها بصوت تخنقه غصة البكاء: " لن تجدي إجابة لديهما فقد فقدا حق الكلام "
استدارت له ببطء شديد وهي على حالها تمسد ذراعيها ودموعها تنهمر بصمت ورفعت رأسها حتى تتمكن من النظر إليه بقامته المديدة
كانت العبرات تتراقص في عينيه لكنه يكبح لجامها بصلابة الجبال على عكسها وهي التي فقدت كل صلابتها وذهبت أدراج الرياح
دخل الطبيب في تلك اللحظة من خلفه متنحنحا يقول بصوت متأثر حزين: " خلال نصف ساعة ستكون كافة التصريحات قد انتهت وحينها سيكون بإمكانك تسلم الجثتين لدفنهما دكتور صخر "
اطبقت أجفانها بقوة وألم على صدى كلمة الطبيب 'الجثتين' وهي تشعر بنزيف داخلي شديد من وقع تلك الكلمة القاسية أما هو فرد بإيجاز على الطبيب دون أن يلتفت له أو يحيد بعينيه عن عينيها المغلقتين الدامعتين: " حسناً "
بعد لحظة كانت تفتح عينيها تنظر له من جديد فأشار لها بيده حتى تتقدمه للخارج دون كلمة فخطت خطوة ثم تسمرت مكانها ثانية وارادت أن تلتفت لكنه منعها حينما وقف خلفها وقال بحزم: " للخارج يا نبض "
رضخت قدميها لأمره دون روحها.. وخرجت
في الخارج أمام الغرفة كانت تقف على نفس حالتها من الضياع والتشتت، تنظر إلى الأرضية البيضاء بسكون أقرب إلى الجمود حتى سمعت صوته قريباً منها يقول: " ألم اترككِ هنا قبل ذهابي مع الطبيب واتفقنا ألا تدخلي للغرفة ثانية؟ "
رفعت رأسها تنظر إليه بعذاب وألم أدمياه وهي ترد بصوت خافت واهي: " أردت أن اودعهما للمرة الأخيرة.. اقتربت من فراشيهما وحاولت أن... أن أرفع الغطاء عن وجهيهما لكني جُبِنت ولم أستطع فعلها "
رمش لوهلة قبل أن يزدرد ريقه بصعوبة وهو يقول بصوت عميق يائس: " لستِ وحدكِ من جُبِن يا نبض.. أنا أيضاً لم أستطع فعلها "
سالت دمعة من عينه فرفعت نبض أناملها تمسحها فصدم صخر كونها المرة الأولى التي تلمسه فيها لكن صوتها الرقيق رغم ما يحمله من ألم وحرقة جعله ينتبه لها وهي تقول: " لا تبكي يا صخر.. احتاجك قوي كما أنت.. لم يعد لي أنا ويوسف سواك بعد ربي.. إن ضعفتَ فعلى من سأتكئ أنا وأرمي أحمالي وهمومي؟ وإلى من سيشكو يوسف أوجاعه؟ "
اشتد حزنه وشفقته عليها وهو يرى تلك الصبية التي دومًا كانا والديها يشبهانها بزهرة مُتفتحة قد ذبلت أوراقها وتساقطت قبل الأوان ورغم ذلك لم يرد أن يمنحها وعداً لا يملك تحقيقه والوفاء به، لا يريد أن يكذب عليها أو يجعلها تحيا في وهم تظنه منسوج من خيوط حريرية متينة لتفاجئ فيما بعد أنه كان هين وهن كخيوط العنكبوت لذا تلبس قناع الجمود الذي يجيده ورد: " لكما الله "
اومأت له بالإيجاب ودموعها تتقاطر بغزارة كزخات المطر وهي تقول: " نعم لنا الله فمن لنا سواه؟ لا أحد.. لا أحد غيره قادر على تهوين الألم القاتل الذي أشعر به "
تهاوت آخر قطرات كان يملكها من جموده وشجاعته أمام قوة كلماتها وكم الألم فيها، أراد أن يضمها إلى صدره ويحتويها لعله يخفف عنها ألمها أو ينتزعه ويحمله هو بداخله بدلاً منها
أراد أن يعطيها عهداً بالبقاء.. بالأمان لكنه تراجع فوراً وذكر نفسه بحقيقه أنه لا يملك من شعور الأمان ولو مقدار ذرة فكيف سيعدها بما لا يملك؟
تحرك بتخاذل ووقف مستندا بظهره على الحائط إلى جوارها وأطرق برأسه للأرض وشرد في تفكير عميق وألم الجرح والفقد بداخله يتعمق حتى الصميم وعلى الناحية الأخرى المقابلة له تماما كان يوسف يجلس على أحد المقاعد واضعا رأسه بين كفيه ولا يتبين من ينظر إليه أ يبكي أم فقط يخفي وجهه الناضحة ملامحه بالألم والحزن؟
***

بعد أيام / في شقة مختار
منذ حضرت وهي تشعر به يريد أن يحدثها في أمر ما لكن وجود نبض معهما يمنعه مما جعلها بعد قليل تقول: " اذهبي لتستريحي قليلاً فأنتِ لم تنامي منذ أيام حبيبتي "
تنهدت نبض بصمت ونهضت دون كلمة من مكانها واتجهت ناحية الباب وحينما وصلت إليه قالت بصوت خفيض متعب: " سأكون في غرفتي مستيقظة يا عمتي متى ما احتجتني ناديني "
ثم خرجت وحينها اعتدلت فاطمة في جلستها ونظرت إليه باهتمام جلل وهي تقول: " من الواضح أنها فهمت أن هناك ما تريد أن تخبرني به دون أن تسمعه هي.. خير يا بني... تكلم "
تنهد يوسف بعمق وهو يقول: " لا أريد أن أزيد همها لذلك لم أرد أن أتحدث أمامها فهي ليست في حالة تسمح لها بالنقاش الآن في أي أمر "
لم تشعر فاطمة بالراحة فقالت بحزم أمومي: " تكلم يا ولد.. ما الأمر؟ أي مصيبة جديدة حدثت؟ "
عبس بطفولية وهو يرد بترقب: " نبض تزوجت "
قطبت فاطمة بعدم فهم وهي تتمتم: " ماذا؟ من؟ "
رد بنفس العبوس وإن بدى في عينيه لمحة من الإرتباك: " صخر تزوج نبض "
شهقت فاطمة بجزع وهي تصيح: " يا مصيبتي.. كيف حدث هذا؟ والآن فقط بعد أن وقعت الكارثة تخبرني "
تزايد ارتباكه بشكل عجيب لم يسبق له أن مر به من قبل وهو يقول بتذمر: " اخفضي صوتكِ يا عمتي.. أي كارثة بالله عليكِ لقد تزوجها على سنة الله ورسوله فلما تصرخين كما لو أنني أخبرتكِ بأنه غرر بها؟ "
ضربته على كتفه بغيظ وهي تصرخ في وجهه بضيق: " أخرس يا ولد ولا تتواقح معي "
زفر بحنق والتزم الصمت لتبادر فاطمة بعد لحظات بصوت خافت مضطرب: " كيف تزوجها؟ ومتى؟ "
رمقها بنظرة مغتاظة دون أن يرد فلكزته في كتفه وهي تقول من بين أسنانها: " رد عليّ يا ولد ولا تمثل دور الفتى الكئيب المتذمر فليس هذا وقته "
رن جرس الباب فجأة مقاطعا حديثهما وبعد لحظة كان صخر يدخل بطوله الفارغ وملامحه الجامدة وبنظرة واحدة أدرك أن يوسف أخبر العمة فاطمة عن زواجه من نبض فقال هو دون مقدمات بصوت جاد: " تعلمين أنني من المستحيل أن أؤذيها أو أسمح لمخلوق بمسها بمكروه طالما في صدري نفس يتردد أليس كذلك عمتي؟ "
أشاحت بوجهها عنه وهي ترد بصوت ساخر رغم نبرة الحزن فيه: " طالما في صدرك نفس يتردد.. ما أكرمك والله وماذا ستفعل هي بعد أن... "
سكتت وقد اوجعتها الكلمة التي أرادت أن تنطق بها فلم يساعدها لسانها في التلفظ بها لكنه فهم مقصدها فأكمل جملتها ببساطة مقيتة: " بعد أن أموت "
نظرت له والعبرات تلتمع في مقلتيها بينما هو يتابع بنفس البساطة: " هذا ما لا أعلمه يا عمتي.. لكنني على يقين بأنها لن تضيع بعدي طالما أنتِ ويوسف بجانبها "
ردت فاطمة بكآبة: " وماذا إن مِتُ أنا قبلك أو حتى لحقت بكَ؟ ماذا ستفعل هي حينها؟ "
رفع حاجبيه يتصنع الذهول وهو يقول: " لا أصدق بأن هذا الكلام يصدر منكِ أنتِ يا عمتي.. لها الله من قبلي وقبلكِ ولا حاجة لها لمخلوق وهو معها "
صمتت فاطمة دون أن تعقب فتابع حديثه: " نبض فتاة ذكية وقوية تستطيع تدبير أمرها دون سؤال أحد ووجودنا معها ليس أصلاً في الصورة وإنما مجرد إضافة لها.. نحن كإطار لحياتها ليس أكثر وإن اختفى هذا الإطار يومًا لن يضيرها شيء ولن تتوقف الحياة عند ذلك الحد.. هكذا يحيا الجميع يا عمتي.. لا يموت إنسان لموت آخر ولا تتوقف دورة الحياة لأجل أحد "
هتفت فاطمة بإنفعال من بروده: " لا تتكلم هكذا عنها.. ليس الجميع مثلك متبلد المشاعر.. الفتاة ضعيفة هشة وأنت تعلم ذلك يقيناً فمن تريد أن تخدع بتلك الترهات التي تنطق بها؟ "
مرت سحابة ألم طفيفة في عينيه لكنها رحلت إلى حال سبيلها دون أن تقطر بزخة مطر واحدة وبدلاً من ذلك خلفت ورائها قسوة وجمود تجمع في مقلتيه ليحول لونهما البني إلى مرجلين قاتمين يغليان بعنف وهو يرد بابتسامة باردة تعلم فاطمة أن خلفها كم هائل من الألم والوجع: " لا تبالغي يا عمتي فهي مهما حدث لها لن تكون على ضعف وهشاشة حبيبتكِ "
شحب وجه يوسف وهو ينظر إلى صخر بينما ردت فاطمة بقوة: " بل هي نسخة منها "
أجفل يوسف بقوة وتشنجت أعصابه وهي تكمل موجهة حديثها إليه: " ألا تذكرك دموع نبض بلحظات حزن الحبيبة يا يوسف؟ ألا تراها فيها؟ "
أطرق يوسف برأسه للأرض بينما هي قالت بألم: " أنا لا أبالغ حينما أقول بأنها نسخة منها ولو... ولو كانت حبيبة حية الآن لكانت رأت في نبض نفسها.. نبض تحمل روح حبيبة هذا ما أؤمن أنا به حتى وإن رفض الجميع الاعتراف بذلك "
نهضت بعد أن أتمت جملتها وكادت تخرج لولا أن صخر استوقفها وهو يقول بصوت متصلب: " أنا لم اطلبها للزواج.. عمي مختار رحمه الله قبل وفاته هو من طلب مني أن اتزوجها وأنا إكراما للعشرة والصلة الطيبة بيننا وافقت "
ابتسمت بمرارة وهي تقول: " يبدو أنه ظن أنه بتزويجك من ابنته أنك ستهتدي وتترك الطريق الوعر الذي تخطو تجاهه بسرعة الصاروخ.. رحمك الله يا مختار لطالما كنت طيب القلب رحيماً لأقصى حد "
أولته ظهرها تهم بالخروج فاستوقفها ثانية وهو يقول: " كان ذلك بعد وصوله المشفى مباشرة.. كان... كانت حالته حرجة و.. "
قاطعته وهي تفكر بصوت عالٍ مهموم: " إذن كان يشعر بأنها النهاية.. ليته ما فعل... (التفتت تنظر له بحزن وهي تكمل) ظلمك مختار رحمه الله حين حملك تلك الأمانة وأنت... أنتَ لست أهلاً لها يا ولدي "
هب صخر من جلسته مجفلاً مجروحا من صراحة قولها وبدى الألم في عينيه قويا بينما هي أكملت ببؤس: " ستشقيها ولن تجد الأمان إلى جوارك ونبض لا تستطيع أن تحيا في ظل القلق والرعب الذي ترمي نفسك فيه "
حدجها يوسف بنظراته حتى تكف عن هذا الحديث لكن فاطمة لم توليه اهتماما وهي ترى صخر يقطب بقسوة فأطرقت برأسها تضيف: " لست لها يا صخر.. حررها يا ولدي قبل أن تمني نفسها بقربك فتصدمها بأنك سراب.. أطلق سراحها ودعها تبحث عمن يطيب جراحها في مكان آخر بعيدًا عنك فأنت وهي على النقيض.. طريقكما متوازيين لا يمكن أن يتقابلا في النهاية.. اتركها حتى تبحث عمن يعوضها ولو القليل مما فقدته "
لم يشعر بنفسه مع نهاية جملتها إلا وهو يصرخ بوحشية: " لا تقرني اسمها بأي رجل.. إنها زوجتي.. امرأتي أنا فكيف بالله عليكِ تطلبين مني إطلاق سراحها حتى تبحث عن رجل آخر؟ "
رفعت رأسها ببطء تنظر إليه و للحظات ظنت أنها توهمت سماع صوته وأنه لم يتحدث لكن لهاثه وتردد صدى أنفاسه والانفعال البادي على ملامحه اخبروها بأن ما سمعته صدر عنه بالفعل
كانت في حالة من الذهول بل الصدمة وهي تراه يظهر تمسكه بنبض بهذا الوضوح وهذه الصراحة فقالت بعد دقيقة كاملة من التفكير: " ماذا تعني؟ هل تقصد أنك لن تطلقها؟ بأنك ستكمل هذا الزواج؟ "
ضرب بقبضته على الطاولة أمامه وهو ينحني قليلاً بينما كان يصرخ بغضب: " لما كل هذا الذهول والصدمة يا عمتي؟ ألا أرقى لأن أكون زوجاً لها؟ "
قطبت بحيرة وهي تردد سؤالها: " هل تقصد أنك لن تطلقها؟ "
" نعم "
كان رده حاسماً قاطعاً، بنبرة واثقة انعكس صداها في عينيه ذات النظرة الوحشية وحاجبه المرفوع بتحدي وهو ينظر إلى فاطمة في انتظار كلمة اعتراض منها
وشعرت فاطمة في المقابل بأن قلبها ينبض بالسعادة لإصرار شاب بقوة وصلابة صخر على إبقاء نبض زوجة له لكنها خائفة، وتخشى أن يخفق في صون الأمانة فيضيعها ونبض ليست بالأمانة الهينة أبداً
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت بنبرة جادة: " ما فهمته أنا أن مختار رحمه الله من طلب منك أن تتزوجها "
اومأ دون رد فتابعت هي كلامها: " لم تطلبها أنت؟ "
اومأ من جديد فقالت بإقرار: " إذن ً الفكرة لم تكن في عقلك وضمن مخططاتك من الأساس فلما تظهر كل هذا التمسك بها؟ "
رمش بدهشة وهو يتمتم: " أي فكرة وأي مخطط يا عمتي؟ "
صمت بعدها وفغر فاهه للحظات بذهول ثم رفع يده يمرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يقول بحيرة عجيبة وكأنه يحدث نفسه حتى أنه استدار وأولاهما ظهره: " نبض! نبض المهرة الصغيرة! كيف أفكر في الزواج منها وهي... هي طفلة.. يا إلهي! (استدار بجزع وهو يصيح كالمجنون) يا إلهي! نبض لازالت طفلة كيف وافقت عمي مختار على طلبه "
قطبت فاطمة وهي ترد بهدوء: " نبض ليست طفلة.. إنها آنسة... (رمقها باستنكار فأكملت بمهادنة) صغيرة.. هي آنسة صغيرة "
ردد كلمتيها بعبوس: " آنسة صغيرة (ثم ضرب بقبضته على الطاولة من جديد وهو يطرق برأسه للأرض بينما يصرخ) نبض طفلة ما كان عليّ أن أتزوجها كان يفترض بي أن... أن... "
سكت بعجز وقد داهمته الكثير من الأفكار فحثته فاطمة على المتابعة تقول: " أن... ماذا؟ "
رفع رأسه متنهداً وهو ينظر إليها بعذاب بينما يقول بصوت خفيض: " بدون الزواج لم يكن سيحق لي البقاء معها لحظة واحدة "
سألته فاطمة رغم أنها تعلم الإجابة: " لماذا؟ "
رد هو بيأس: " ما كانت لتسمح لي "
قطبت فاطمة تدعي الغباء وهي تسأله: " من؟ "
رد بنفس النبرة: " نبض يا عمتي وهل هناك غيرها "
رفعت فاطمة حاجباً باستخفاف وهي تقول بتهكم مبطن: " الطفلة "
حينها صاح بقنوط وهو يضرب على الطاولة من جديد بعنف أكبر: " نعم الطفلة.. أنتِ لا تعرفين كيف كانت تعاملني عن بعد وكأنني عدوى حتى الكلام لم تكن تسهب فيه معي "
قطع حديثه يتنهد بقوة ثم عاد يصيح ثانية: " إنها متحفظة جداً في التعامل معي "
قاطعته فاطمة ببرود زائف: " وكيف تريدها أن تتعامل مع الغرباء؟ "
هتف هو مبرراً في المقابل: " لم أكن غريبا عنها لهذه الدرجة التي تجعلها تتحاشى حتى النظر لعيني "
رفعت حاجبيها بذهول مصطنع وهي تقول: " حقاً وماذا كنت لها إذن؟ أباها، أخاها، زوجها، أم خطيبها مثلاً؟ "
عبس صخر وهو يغمغم: " هلا توقفتِ عن السخرية رجاءً؟ "
ابتسمت فاطمة بسخرية تقول: " ها قد توقفت.. هل ارتحت الآن؟ "
تنهد بقوة بعد لحظات بإرهاق وهو يطرق برأسه قائلاً: " أشعر بالضياع.. لا أعرف صدقا ماذا أريد بالضبط "
ران عليهم الصمت وقد اشفقت فاطمة على حاله، لم يسبق لها أن رأته بتلك الحالة البائسة الضائعة كما وصف نفسه
دوماً كان واثقا متزنا يعرف ما يريد ويسعى إليه بإصرار حتى يناله، لكنه الآن يبدو وكأنه فقد كل هذا
تنهدت فاطمة بأسى وهي تقول: " ماذا تريد من نبض يا صخر؟ "
ازدرد ريقه دون أن يرفع رأسه ليواجهها وظل على صمته لحظات قبل أن يرد بصوت تصنع فيه اللامبالاة حتى لا يظهر المزيد من التشتت والضياع الذي يشعر به ويأبى أن يظهره لأحد: " لا شيء.. أنا أحاول أن أرد المعروف الذي فعله والدها معي.. عليّ دين له وأحاول أن أرده له في ابنته "
صدمته فاطمة بالقول: " لكنك هكذا تظلمها "
رفع رأسه يطالعها بعدم فهم وهو يردد: " أظلمها! "
نهض يوسف من مكانه وقد فاض به الكيل، أراد أن يوقف الصراع الدائر بينهما عند هذا الحد لتصدمه فاطمة بردها على صخر وهي تقول: " نعم تظلمها.. كونك ترفض أن تطلقها فهذا ظلم لها.. ألم تفكر لحظة أنها يوماً ما ستحب شاب وستتمنى أن تكمل معه حياتها وتبني معه مستقبلها لكن زواجك منها سيقف حاجزاً دون ذلك؟ ألم تفكر لحظة أن من أبسط حقوقها أن تختار شريكها في الحياة وأن... "
قاطعها منفعلا: " كفى عمتي.. إلى هنا وكفى "
رفعت حاجباً ببرود وهي تقول: " أ تريد أن تكون أنانياً معها هي الأخرى؟ ما تحدده أنت وتختاره لها هو ما تنفذه هي بطاعة "
قطب بغضب وهو يرد: " أنا لست أنانياً.. ذلك ليس من طبعي "
كان غضبها حقيقياً تلك المرة وهي تقول: " حقاً! وبما تسمي ما تفعله مع من حولك؟ هل تعرف مقدار الرعب الذي يعيش فيه كل من له علاقة بك؟ هل تشعر ولو بقدر قليل من القلق الذي تسببه للجميع؟ "
نظر صخر إلى يوسف بوحشية لأنه بالتأكيد من أخبرها عن كل ما يفعله سرا وإلا كيف علمت وهي لا تعرفه عن قرب ولا تسكن معهم في العاصمة؟
رفع صوته صارخاً بغضب أهوج: " أنا لا أفعل شيء مع أحد ولا أسبب لأحد أي شعور بأي معنى.. أنا وحدي وليس معي أحد.. لا أشعر بأحد يطوف من حولي كما تصورين.. بل لا أشعر بأي شيء "
كان صدره يعلو ويهبط من حدة تنفسه بينما ملامحه على وشك التفتت من شدة توحشها
صمت لحظة ثم عاد يصرخ بشراسة وهو يبسط كفيه أمامه: " انظري جيداً إلى كفيّ (نظرت له بشفقة فقال) إنهما فارغين.. دوماً كانا كذلك والآن لم يتغير شيء فلازالا على حالهما فارغين تماماً (ثم لوح بيده مشيراً لما حوله وهو يقول) وانظري حولي.. انظري لما حولي، لحياتي لن تجدي فيها أحد.. إنها فارغة "
ردت فاطمة بمهادنة: " لا.. هي ليست فارغة وحتى لو اعتقدنا ذلك فرضا فالآن هي لم تعد كذلك.. أصبحت نبض فيها "
ببرود قاسي رد: " لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك "
قطبت فاطمة بضيق وهي تقول: " معك حق.. لطالما كنت جاحدا وأنكرت وجود عائلتك التي تحبك وتخاف عليك فكيف ظننت أن نبض ستكون عندك ذات قيمة؟ "
أشاح بوجهه وهو يبتسم بمرارة رغم سخريته القاسية: " بالله عليكِ كفاكِ كلاما عما لا تعرفينه يا عمتي.. عن أي عائلة تتكلمين؟ أنا لا أشعر بنفسي ذا هوية من الأساس وكأني نبته سامة شقت طريقها في الأرض بنفسها دون أن تكون لها جذور تدعمها "
تجمد الموقف بينهما والكل منخرط في أفكاره الخاصة حتى تمتمت فاطمة بشجن بعد أن يأست من إيجاد طريقة لجعل صخر يلين: " لهف قلبي عليك يا ولدي.. وشم الألم روحك منذ زمان بعيد ورافق الوجع دربك وكأنهما لا يعرفان طريق إنسان غيرك "
***

كانت تقف أمام الباب المغلق منذ بضعة دقائق.. منذ وصلها صوت صخر الحاد وهو يصرخ عالياً
تقف ودموعها تنهمر كشلال غزير لا نهاية له وكلماته الباردة لازالت تتردد من حولها
' لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك '
ثارت روحها الأبية من لامبالاته وكادت أن تهم بالدخول لتطلب منه أن يطلقها وترفع عنه الواجب الذي يشعر به ناحيتها لكن كلماته فيما بعد سمرتها في مكانها ليزداد وجعها وهي تستشعر قدر الألم والمرارة في صوته
شهقت باكية وهي تستدير مسرعة لتعود إلى غرفتها حينما انفتح الباب فجأة وفي لحظة كانت تسمع همساً خافتا من صخر: " لم أكن أعلم أن المهرة الخجول لديها صفة الفضول والتنصت من خلف الأبواب المغلقة "
رفعت يدها ووضعتها على فمها بصدمة وهي لا تعلم كيف شعر بها من الأساس ليخرج في تلك اللحظة وبدل من أن تهرب إلى غرفتها شعرت بالبلادة وهي تقف مكانها دون أي حركة فتدخل يوسف بمناكفة قائلا بغية تلطيف الجو المشحون: " أتمنى أن تكون ضمن صفاتكِ أيضاً إجادة الطهي لأنني جائع "
اتسعت عينيها ذهولا مع استمرار انهمار عبراتها ولم ترد فأضاف يوسف بنفس النبرة ولكن بتسلط طفولي: " أريد الكثير من الطعام.. لم أتناول أي طعام حقيقي منذ... اممم منذ... "
أكملت جملته التي قطعها: " منذ ثلاثة أيام تقريباً "
تنهد وهو يقول: " نعم.. تقريباً "
إلتفتت له تقول بإرتباك وتلعثم: " لكنني... أنا... في الحقيقة أنا لا أعلم كيف أعد أي نوع من الأكلات عدا السلطة "
عبس وهو يقول باستنكار: " السلطة! "
بينما قالت فاطمة بمزاح من خلفه وهي تمسح أثار دموعها: " وهل ترين أن السلطة وحدها كافية لسد جوع ماردين بهذا الحجم؟ "
شملتهم نبض بنظرة سريعة متوترة خجولة وهي تقول: " لا لن تكفي هما... هما ضخمان فعلاً "
ضحكت فاطمة فقالت نبض ببراءة: " ماذا يمكن أن نطعمهما حتى يشبعا؟ "
انفجرت فاطمة في الضحك بشدة وهي تجيبها بمرح: " يحتاجان إلى وجبة دسمة حتى نستطيع سد جوعهما وإلا أكلانا "
رمشت نبض وهي ترد ببراءة تامة: " لكنهم لا يبدوان من آكلي لحوم البشر "
قالت فاطمة بمناكفة: " حقاً لا يبدوان كذلك؟ "
حركت نبض رأسها سلباً وهي تقول: " بلى "
فضحكت فاطمة من جديد وهي تخرج من الغرفة متجه نحو المطبخ بينما تقول: " حسناً تعالي لنرى ما لدينا حتى نطعمهما "
استوقفها صخر يقول: " لا داعي لترهقي نفسكِ في إعداد الطعام يا عمتي فعلى أي حال أنا جائع جداً أنا الآخر لذا لا حاجة للانتظار "
استدارت فاطمة تنظر له بحيرة وهي تقول: " إذن لديك اقتراح أفضل؟ "
اومأ برأسه وهو يقول: " نعم.. سوف أطلب لنا وجبة غداء من الخارج ما عليكما سوا الاختيار هل أطلب الطعام من مطعم أسماك أم... "
قاطعته فاطمة بضيق وهي تقول: " مطعم! ولما كل هذا؟ أنتظر حتى أعد الطعام في البيت لن يضيرك أن تنتظر قليلاً بعد "
قطب بحيرة وهو يقول: " لو لم أكن أعلم عن كرمك وجودك لكنت ظننت أنكِ بخيلة لذلك لا تريدين مني أن أطلب الطعام من الخارج "
ردت نبض بدلاً من فاطمة التي عبست: " عمتي فاطمة لا تحب أن تأكل من الطعام الخارجي فمهما بلغت جودة وشهرة المطعم الذي ستطلب منه الطعام هي لن تمسه "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول: " ولما كل هذا؟ "
أولته فاطمة ظهرها وهي تتجه نحو المطبخ بينما ردت بصوت مشمئز: " لا أضمن مدى نظافة أو مصدر المأكولات التي تصنع خارج البيت ولو كان طعاماً آتيا من مطعم عالمي خصيصاً لأجلي فمستحيل أن أقترب منه أو أتذوقه حتى.. أجلس في أي مكان وحاول أن تلهو بأي شيء حتى أجهز الغداء "
زفر بغيظ وهو يردد كلمتها ناظرا ليوسف الذي يكتم ضحكاته بصعوبة: " ألهو! "
أرادت نبض أن تتبع فاطمة حتى تساعدها لكن صخر استوقفها ممسكا معصمها بلطف ورغم ذلك أجفلت وانتفضت بخوف وهي تسحب يدها من قبضته بقوة، حينها أنسحب يوسف بهدوء لاحقا بفاطمة في المطبخ تاركا لهما الساحة فارغة
لاحظت نظراته المستنكرة لها فقالت بكبرياء وهي لم تنس كلماته الباردة التي قالها منذ قليل: " إذا سمحت لا تعيدها ثانية.. أنا لا أحب أن يلمسني الغرباء "
قطب بغضب مكبوت من كلمتها الأخيرة وقال: " لكنني لست غريباً عنكِ كما تلمحين يا نبض "
بإرادة رفضت أن تنظر له وهو ترد بهدوء: " بلى أنت كذلك وذلك العقد الذي بحوزتك لا يعطيك أي حق عليّ مما يجعلك غريباً "
زمجر بضيق وهو يقول: " ظننتكِ واعية أكثر من هذا لتدركي أنني أملك الكثير من الحقوق عليكِ.. (ثم تابع بتهكم يقول) بذلك العقد الذي بحوزتي "
ردت عليه بنفس هدوئها الظاهري وإن شابته لمحة من الاستهزاء: " ظننتني واعية! لا أنت مخطئ فلا يجب أن تطلب من طفلة بأن تكون على قدر الوعي بتلك الحقوق التي تتحدث عنها لأنها بالتأكيد مهما حاولت أن تشرح لها لن يستوعب عقلها الطفولي الصغير ما تقول "
قطب بحنق وهو يدرك أنها تبلغه برسالة واضحة عن سماعها لحديثه عنها وأنها إن كانت طفلة من وجهة نظره كما قال فلا يجب أن يتغنى أمامها بحقوق بالطبع لن يطالها من.. طفلة
بعد لحظة من الصمت وتقدير الموقف من كافة النواحي من ناحيته كان يزفر قائلاً بإقتضاب: " حسناً نبض هذه هي وجهة نظري تجاهكِ وبما أنكِ سمعتِ فقد وفرتِ عليّ أن... "
قاطعته بأدب مضحك وهي ترفع سبابتها تطلب بصمت أن يسمح لها بالكلام وما إن زادت تقطيبته حتى نطقت هي بنفس نبرتها الهادئة: " أعلم أنني وفرت عليك الكثير ولا حاجة لي بأن تخبرني بذلك لأنني أعلم.. كما أنني شاكرة لشهامتك ونبل أخلاقك معي خلال الأيام الماضية وحتى اللحظة ولكن يا صخر هناك أمر هام يجب أن تعرفه حتى تضعه نصب عينيك وضمن حساباتك "
ظهر الترقب والحذر في عينيه وهو ينتظر بقلق معرفة ماهية هذا الأمر الهام لتتكلم نبض بعد لحظة بصوت هادئ ذو نبرة قوية أبهرته بها ولم يكن يعرفها فيها من قبل: " كما قلت لك قبل قليل لا حقوق لك عندي بذلك العقد الذي تملكه لأنني وببساطة أريدك أن تحررني منه كما أحررك أنت منه هذا أولاً أما ثانياً فهو أنني سأسافر إلى مدينة عمتي فاطمة حيث سأقيم معها هناك فلم يعد من اللائق أن أبقى هنا وحدي "
للوهلة الأولى ظنته لم يفهم أياً مما قالته خاصة مع سكونه التام لكنها كانت لحظة واحدة فقط وبعدها تتابعت الانفعالات على ملامحه وفي عينيه وهي بصلابة كانت تنتظر أن يصرخ فيها لترد عليه وتوضح له وجهة نظرها هي الأخرى
تكلم من بين اسنانه: " أرى أنكِ حسمتِ الأمر كله وحدكِ يا نبض دون حتى الرجوع إليّ "
ظلت على توجيه نظراتها بعيداً عنه وهي ترد بهدوء مستفز: " أخبرتك منذ قليل أن لا سلطة لك عليّ حتى أشركك في أمر يخصني.. إنه شأني وحدي "
رفع حاجبيه بدهشة، لا يصدق أن نبض المهرة الخجول التي كانت تتلعثم وتتلون من الخجل مائة مرة في الثانية الواحدة ما إن يوجه لها كلمة عادية هي نفسها التي تقف أمامه بكل هذا الترفع والكبرياء تخبره عن قراراتها بصلابة تحسدها عليها أعتى الرجال
ظنها ستبقى على حالتها الانطوائية وسكونها الدائم كما كانت وخاصة بعد مصابها الأليم الذي حل بها منذ بضعة أيام قليلة
لا يصدق أنها هي نفسها من أخبرته في المشفى بحاجتها إليه وأنها لم يعد لها غيره بعد فقدانها لوالديها
قطب بحيرة وهو يفكر ' هل أصيبت بفقدان الذاكرة أم ماذا؟ '
أخرجه صوتها الشجي من أفكاره وهي تقول بهدوء وأدب: " عمتي فاطمة لن تمكث هنا طويلاً لذا رجاءً حاول أن تنهي... "
قاطعها بحدة يقول: " تريدين الطلاق نبض؟ "
اومأت بصمت دون أن تتفوه بحرف فصرخ هو بعنف: " هل جننتِ؟ بالتأكيد فقدتِ عقلكِ وأنتِ تتفوهين بما تقولين "
عبست نبض وردت: " لا أظن ذلك فأنا حتى اللحظة أشعر بنفسي في كامل قواي العقلية "
أمسكها من مرفقها بخشونة وهو يصيح بغضب: " بل فقدتِ عقلك وتحتاجين إلى التأديب على وقاحتكِ وأنتِ تقفين أمامي بتلك الصفاقة تطلبين الطلاق "
رفعت رأسها بحدة تناظره بكم من الغضب لم تشعر به يوماً في حياتها اتجاه شخص من قبل
مضت لحظة صمت موحش بينهما قبل أن تنفض نبض ذراعها من بين قبضته وهي ترفع سبابتها في وجهه بتحذير عنيف: " إياك.. إياك وأن تعيدها مرة أخرى يا صخر.. هذا عن لمسي أما... أما عن حديثك عني بتلك الطريقة فأنا لا أقبله نهائياً لا تنس ابنة من أنا وكيف هي أخلاقي وتربيتي "
كان صدرها يعلو ويهبط من شدة انفعالها وانفاسها الحادة بينما هو سكن في مكانه وكأنه تحول إلى تمثال من الشمع لا معالم له ولا حياة فيه
وهناك على باب المطبخ كانت تقف فاطمة، وصلها الحديث الدائر بينهما منذ البداية ورغم ذلك لم تشأ أن تتدخل حتى أنها لم تسمح ليوسف بالتدخل هو الآخر، أرادت أن يتناقشا فيما يخصهما وحدهما حتى يصلا إلى نتيجة مرضية لكليهما ولكم تتمنى الآن وفي تلك اللحظة لو تدخلت منذ البداية قبل أن يتطور الأمر إلى تطاول من صخر وانفعال غير محسوب العواقب من نبض
فتحت فمها لتتدخل وتهدئ من احتدام الموقف بينهما لكن نبض سبقتها وهي تقول بصوت متصلب: " بعد ما قلت عني فقدت كل حق لك عليّ.. لن أقبل منك كلمة أخرى في حقي يا صخر.. دورك الذي لم يبدأ يوماً في حياتي أنت بيديك انهيته للتو لذا وبكل هدوء أرجوك أن تخرج حالا من بيتي ولا تفكر أبداً في العودة إليه لأنه لم يعد لك مكاناً فيه وقبل ذلك عليك أن... أن... أنت تعلم "
أولته ظهرها وقد بدأ قناع صلابتها وشجاعتها أمامه يتهاوى حينما صرخ بحدة: " لا يا نبض لا أعلم.. أنطقي بما تريدين حتى انفذه لكِ "
رفعت رأسها تنظر إلى فاطمة برجاء صامت ظهر في عينيها حتى تتدخل لكن الأخيرة تنهدت بأسى قبل أن تدلف إلى داخل المطبخ فنكست نبض رأسها بقهر وقد علمت أن فاطمة لن تساندها لأنها كما ظهر عليها لم تقبل بقرارها
ران صمت مطبق على كليهما للحظات طويلة حتى قطعتها هي بشجاعة تقول: " حسناً يا صخر تريدني أن أنطقها لتنفذها وأنا لن أتراجع (سحبت نفس عميق قبل أن تكمل جملتها بصلابة واهية) إذا سمحت صخر طلقني وأنهي الأمر قبل أن أسافر مع عمتي فاطمة "
لم تنتظر سماع رأيه بل خطت على الفور إلى غرفتها حتى تتحصن بها من الألم الذي تشعر به والذي تصرخ به مقلتيها
لحظات مرت والبيت ساكن لا صوت فيه ولا حياة لمن به حتى خرجت فاطمة من المطبخ لتجده لازال على نفس وقفته الجامدة فقالت ببؤس: " أخطأت فيما قلت يا صخر وخطأك كان في حق مختار ومريم رحمهما الله قبل أن يكون في حقها "
لم يرد عليها بل ظل على حالته فأكملت هي بأسى وكآبة: " هذا أكبر دليل على أنك لا تعلم عنها شيء.. أنت لا تعرف متى تكون نبض المهرة الخجول ومتى تكون الفرس الجامحة؟ أخبرتك أنك لا تصلح لها.. نبض ليست لكَ يا صخر.. حررها وتحرر منها يا بني هذا أفضل لكَ أنتَ قبلها "
أيضا لم تتغير ملامحه لكن الرفض القاطع ظهر بوضوح في مقلتيه وهو يؤكد رفضه بكلمة واحدة حاسمة " لا "
قطبت فاطمة بتساؤل تقول: " لا؟ "
لمع في عينيه بريق مخيف وحشي وهو يقول بصوت خفيض يشع عنفا: " لا لن أحررها مني، لا لن أحرر نفسي منها، لا لن أدعها تحلق بعيداً عني حتى لو اضطررت إلى قص أجنحتها حتى تظل إلى جواري، ولا لن تكن لرجل غيري حتى لو اجبرتها على ذلك وكسرت جموحها بيدي لتكون طوع بناني "
عبست فاطمة برفض لما يقول لكن وقبل أن تتفوه بحرف كان هو يضيف بنفس النبرة: " أقسم بالله إن نطقتها ثانية ولو في أحلامها لأجعلنها تبكي ندما مراراً وتكراراً وسفر معكِ هي لن تسافر ولتريني كيف ستفعلها دون إرادتي "
فتحت الباب بعنف وخرجت صارخة بقوة: " بلى سأسافر مع عمتي ورغماً عنك لو تطلب الأمر "
هدر هو مندفعا بنفس الغضب: " أقسم بالله أنكِ لن تسافرين يا نبض "
تقدمت منه بخطى سريعة كان انفعالها المكبوت هو ما يدفعها لفعل ذلك دون تفكير، أخذت تدفعه في صدره بخشونة وهي تصرخ بشراسة: " أخرج من بيتي ولا تعد ثانية.. لا أريد رؤية وجهك من جديد ولو عن طريق المصادفة حتى.. هيا أخرج وابتعد عن حياتي.. لا شأن لك بي.. ابتعد عني... هيا "
كان هو يتحرك للوراء، يجاريها بصمت رغم أن دفعاتها لم تكن لتحرك ساكناً به لو لم يقبل هو على التفاعل معها والرضوخ للتأثر بشراستها الغريبة حتى لا يغضبها أكثر
خلال ذلك كان يتمعن في النظر إلى عينيها العاصفتين بأمواج هادرة لا تقبل السكون، شعر بأنها على وشك الإنهيار ولم يخيب ظنه حينما توقفت عن دفعه فجأة وهي تميل لتستند بجبهتها على صدره بتعب وإرهاق بينما قبضتيها تتشبثان بقميصه بقوة
كل ذلك حدث وفاطمة ساكنة، صامتة لا تتدخل ويوسف يطالعهما ببؤس وكآبة أما هو فكان يتخبط بين أفكاره بحيرة بعدما زال غضبه منها في لحظة وهو يراها تستكين أمامه بضعف مس قلبه وصميم روحه
همست هي بنشيج مكتوم: " أرجوك صخر طلقني.. أنا لا أريد الزواج لا منك ولا من غيرك أنا... لازلت طفلة كما قلت فأرجوك حررني "
تقبضت يديه إلى جانبيه ونظر إلى فاطمة بجمود فأومأت له برأسها بأسى وكأنها تقول ' قلت لك سابقاً أنكَ لم تعرفها يوماً ولا تصلح لها '
وهو بذكاء استقبل نظراتها وفهم المغزى منها وبقى على جموده للحظات أخر قبل أن يقول بصوت بارد كالجليد: " ارفعي رأسكِ نبض وانظري إلى عيني وأنتِ تطلبين الطلاق "
شهقت ببكاء أليم وهي ترد: " لماذا لا تنفذ طلبي دون أن تتمادى في تعذيبي؟ ارحمني أرجوك "
بنفس جموده وبرود نبرته كان يأمرها: " قلت انظري لي "
حركت رأسها يميناً ويسارا برفض دون أن ترفع وجهها إليه وهي تقول: " لا أستطيع "
رد بغضب مكبوت: " هل أفهم من ذلك أنكِ تراجعت عن طلبكِ و... "
قاطعته بحدة وهي ترفع رأسها دفعة واحدة تنظر إلى عينيه دون شعور منها لأنها أطاعته ونفذت أمره بينما تقول: " لا لم أتراجع لازلت على قراري "
كانت عينيه كمرجلين يغليان بوحشية بدائية مخيفة ولم تبالغ هي حينما شهقت فزعاً وخوفا منه لترتد للخلف خطوة متنازلة عن التمسك به
كانت ترتعد وهي تشعر بالضياع، تشعر بأن أعصابها باتت على المحك وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار
في تلك اللحظة تدخلت فاطمة بحزم أمومي ومؤازرة لنبض بعدما رق قلبها لحالها البائس وهي تواجه صخر بصلابة بينما تقول بنبرة حاسمة: " نبض ستسافر معي غداً في الصباح الباكر "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى أفزعها صراخ صخر العنيف وهو يقول: " لقد أقسمت عليها "
عبست فاطمة وهي ترد بنفس النبرة: " وهذا ما منعني من السفر اليوم وأخذها معي لذلك قررت أن أنتظر للغد "
رفع حاجباً بتهكم وهو يرد: " بهذه البساطة.. شكرا لكرمكِ عمتي.. يبدو أن قراركِ مُرضيا لقسمي فعلاً "
على غفلة منهما كانت نبض ترفع يدها تضعها على جبهتها بإعياء وهي تشعر بدوار يحطم ثباتها ويفتت توازنها بلا رحمة
ترنحت قليلاً وهي تشعر بنفسها على وشك السقوط بين أحضان تلك الهوة السوداء التي تجذبها نحوها بقوة في حين مدت يدها الأخرى ظنًا منها بأن هناك ما قد تتمسك به فيحول بينها وبين السقوط.. لكنها كانت مخطئة تماما فلم تمض لحظة أو اثنتين على أكثر تقدير حتى كانت الأرض الصلبة تستقبلها بين ذراعيها وترحب بجسدها الذي يئن ألماً في غياب وعي صاحبته
***

حينما استعادت وعيها واحساسها بنفسها وما يدور حولها بعد وقت لا تعلم قدره كان أول ما شعرت به هو تلك اليد الحنونة التي تمسك بكفها
أجفل جسدها للحظة قبل أن تستكين ثانية ما إن وصل إلى مسامعها تلك التمتمات العذبة بآيات القرآن الكريم التي أخذت العمة فاطمة في ترتيلها بخفوت ورغم راحتها من وجود فاطمة إلى جوارها إلى أن شعور بغيض بالثقل كان يجسم على صدرها
هناك ما يتسبب في منع وصول الهواء إلى رئتيها.. هناك ما يضيق من حولها الحصار لكنها لا تعلم كنهه
أرادت أن تفتح عينيها وتخبر فاطمة بأنها بخير حتى تطمئن لكن ذلك الصوت الذي سمعته فجأة اخرسها تماماً
" أظنني نسيت أن أخبركِ يا عمتي بأنه لو كان تمسكي بنبض ورفضي لتنفيذ طلبها وتحريرها مني يعد جحوداً فأنا جاحد بالفعل "
ظلت فاطمة ترتل القرآن للحظات طويلة دون أن تلتفت له أو ترد عليه حتى نهضت فجأة بهدوء بعدما قبلت جبين نبض بحنان
اقتربت منه وبحزم أمومي شديد كانت ترد: " بل ستنزل عن عرش غرورك وتنفذ لها طلبها شئت أم أبيت "
بصلف وغرور قال: " لا يستطيع أحد إجباري على فعل ما لا أريد "
ردت فاطمة بنفس النبرة: " وكما أنه لا يوجد من يستطيع اجبارك على شيء فأنت الآخر لا تستطيع اجبارها على شيء "
بحدة رد: " بلى أستطيع.. أنا زوجها ومن حقي عليها أن تطيعني فيما آمرها به "
لم تستطع فاطمة أن تتمالك أعصابها أمام نبرته المتعجرفة الفظة فضربته بقبضتها في كتفيه وهي تقول من بين أسنانها بصوت حاولت أن يكون خفيض حتى لا ييقظ نبض ظناً منها أنها لازالت نائمة: " أي نوع من الكائنات أنت؟ تريد أن تأمر فتُطاع.. لماذا؟ هل ظننت نفسك سيداً عليها وهي جاريتك؟ أم تراك نسيت من تكون هي؟ "
كبح عنفوانه ووحشيته بشدة وهو يشيح بوجهه عنها دون أن يرد بينما هي تابعت بغضب مع تتابع ضرباتها له: " أتظن نفسك امتلكتها بمجرد ورقة خُط عليها إسمك واسمها؟ "
رد من بين أنفاسه المتسارعة غضبا يحاول بشق الأنفس أن يكبته: " أنا لم اجبرها على الزواج مني هي من أعطت موافقتها لوالدها دون لحظة تردد واحدة فلا تضعي اللوم عليّ الآن "
ردت بغيظ متفاقم وهي تلكزه بسبابتها في صدره: " لا تتحاذق عليّ يا ولد.. أنت تعلم جيداً أنها فعلت ذلك لأجل إرضاء والدها وهو على فراش الموت ومختار رحمه الله نفسه ما كان ليزوجها لك إن منحه الله العمر والنجاة من ذلك الحادث البشع "
كانت تعلم أن ما تقوله يؤلمه ولكنها لأجل نبض لم تبالي فتابعت بقسوة: " تعلم علم اليقين أنه ما كان ليأتمنك على قرة عينه وابنته الوحيدة وأنت... وأنت أنتَ على ما أنتَ عليه من ظلام الروح وقساوة القلب.. ما كان ليقبل بكَ زوجا لها وإن كنت آخر رجال العالم ولا يوجد سواك على كوكب الأرض "
لم تخطئ فهم لمعة الألم التي ومضت في عينيه وهو يحيد بنظراته الجريحة بعيداً عنها دون أن يعقب على حديثها أو يدافع عن نفسه وفي المقابل كانت هي الأخرى تشعر بالألم عليه أضعاف ما يشعر لكنها تعلم أنها لو لم تقف في وجهه فلن تنجى المسكينة نبض من قبضته حتى يدمرها بظلامه ويزهق روحها الهشة بقسوته الوحشية التي لا طاقة لأحد على صدها وقد أخبرها يوسف الكثير عنها
تراجع خطوة للخلف وهم بأن يستدير ليرحل حينما استوقفه صوتها الحازم: " لديك من الوقت حتى الغد فقط وقبل أن أعود إلى المدينة أريد أن أعرف ردك إما بالموافقة على طلب نبض أو... (رفع عينيه بترقب حذر لها فصمتت برهة قبل أن تردف) ستعلم حينها الخيار الآخر والذي لا أظنه سيعجبك أبداً "

انتهى الفصل...


Hend fayed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس