عرض مشاركة واحدة
قديم 15-10-19, 05:51 PM   #9

Hend fayed

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية Hend fayed

? العضوٌ??? » 434417
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 215
?  نُقآطِيْ » Hend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond reputeHend fayed has a reputation beyond repute
افتراضي سُلاف الفُؤاد

ب
سم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الرابع ||

في المدينة الجبلية
منذ أيام وهي على نفس الحال تتخذ من الأرجوحة التي رافقتها أثناء مرحلة طفولتها أنيسا لها فما إن تشرق الشمس حتى تهجر غرفتها وتأتي إلى الحديقة متخذه من تلك الأرجوحة مجلسا لها حتى الغروب وحينها تعود إلى غرفتها مرة ثانية مغلقة بابها على نفسها رافضة الحديث أو الطعام أو حتى التفاعل في أي شيء أو أي شخص
الجميع في الدار بلا إستثناء لاحظ حالتها الغريبة تلك والكثير منهم حاولوا التدخل إلا أنها كانت تلتزم الصمت غارقة في حالتها الشاردة دون أن تمنح أحدهم ردا مرضيا يريحه
على أطراف الحديقة في إحدى الزوايا البعيدة نسبيا عنها وقفت حياة إلى جوار ياسين تكلمه بخصوص أختها والقلق ينهشها عليها
" لا أعرف ما أصابها منذ ليلة العرس.. لكنني أظن بأن حالتها تلك قد تكون متعلقة بمجيئ عمي مختار "
قطب ياسين مفكرا وهو يؤيد حديثها: " معكِ حق أنا الآخر لاحظت التغيير الذي بدى على محياها حينما كانت تودعه قبل رحيله "
قالت حياة بقلق: " أخشى أن تكون مريضة ولا تخبر أحد وهي كما ترى لا تسمح لأحد بالحديث معها حتى نطمئن عليها على الأقل "
نظر ياسين إلى حياة بكآبة وهو يقول: " ومن منا ليس بمريض يا حياة؟ المرض لا يكون في الجسد وحده فكما تعلمين نحن عائلة ضُرِبَ بها المثل في علة الروح وشقاء القلب "
أشاحت حياة بوجهها عنه جانبا وهي تقول بوجع مكبوت: " وكأن ما بي لا يكفيني فأتيت أنتَ لتصب المزيد من الزيت على النار يا ابن عمي "
تنهد ياسين قائلا: " ما بكِ أنتِ وحدك صانعتيه يا حياة.. أنتِ من تتشبثين بالماضي وترفضين الحياة "
ابتسمت بمرارة ترد ساخرة: " ومن منا لا يفعل؟ الماضي ملاحقك أينما كنت وأنتَ تدري أن جزء من الماضي يمثل هويتنا فإن كنتَ أنتَ لا تحاول درء الماضي فلا تطلب مني أن أفعل فما فقدته أنا ضعف ما فقدته أنتَ "
همت بالرحيل ثم توقفت تقول بشجن وهي ترمق جلسة أختها البائسة: " لا تغادر لعملك قبل أن تحاول معها فحدسي يخبرني أنها لن ترفض الحديث معك "
غادرت حياة وتركته وحده يتطلع لملك بقلب يئن ألما على محبوبته التي لا يدري ما يوجعها لتبدو بهذا الضعف الذي لم يعهده فيها
تحرك نحوها بخطى هادئة وحينما وصل إليها جلس ببساطة إلى جوارها، كان ملتصقا بها ولولا ذلك لما تنبهت له وهي تبدو شاردة بعيدا جدا
أجفلت فجأة حتى أنها انتفضت في مكانها بطريقة أجفلته هو الآخر وفي اللحظة التالية كانت تلصق نفسها بأبعد زاوية في الأرجوحة بعيدا عنه فقطب يقول ببرود مصطنع: " أتظنيني آكلك؟ "
رمقته بطرف عينها دون أن ترد فقال هو ليستفزها كي تتكلم: " ما بكِ؟ تبدين بائسة هل حاولتِ الإيقاع بآخر بين شباككِ ولم تفلحي؟ "
لم تغضب منه فهي أكيدة من أنه لا يعني ما يقول فالتزمت الصمت ولم ترد أيضا ليقول هو ساخرا: " لا تخشي شيء أخبريني وإن كنت أعرفه فسوف أبذل جهدي لأوفق بينكما "
تمتمت أخيرا بخفوت متحشرج: " لا أحتاج مساعدتك فإن كان هناك آخر أريده لما جلست هنا وهو هناك "
ابتسم ساخرا يرد: " حقا! وماذا كنتِ ستفعلين معه؟ تقيدينه إلى جواركِ وحيث تكونين "
نظرت له بقوة وعينيها تلمعان ببريق غريب وهي تؤكد ما يقول: " نعم.. كنت لأقيده إلى جواري "
ارتجفت عضلة في فكه ورغما عنه غضب لأنها قد تكون تفكر في آخر بالفعل فقال ببرود حاول أن يفلح في رسمه: " وماذا عني؟ هل أصبحت من ماضيكِ؟ "
أشاحت بوجهها عنه متوجعة ترد بإحباط: " أنتَ لا يفلح معك التقييد فرجال الجبالي من الصعب أن يمتلكهم أحد "
أعاد وجهها إليه بحنان يقول: " لكنكِ فعلتِ يا ملاك "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بصوت تخنقه غصة البكاء: " لا لم أفعل ولن أستطيع فأنت كالزئبق لم تفلح معك أي طريقة حاولت أن استخدمها معك "
ابتسم برقة يرد: " ربما لأنكِ لم تستخدمي الطريقة المُثلى أو الصحيحة بعد "
رمشت لوهلة فتحررت بضعة دمعات على وجنتيها مسحها هو بلطف وهي تقول بأمل: " أتظن ذلك؟ "
اومأ مبتسما، قائلا برفق: " لازلت أنتظر أن تدكي حصوني عما قريب يا ملاك وأعدكِ أن أدعها لأجلكِ مشرعة الأبواب "
شهقت فجأة باكية وهي تقول: " لكني أخشى عليك "
قطب متعجبا يسألها: " مما تخشين عليّ؟ "
أخفت وجهها بكفيها وهي تجهش في مزيد من البكاء قائلة: " أخشى عليكَ مني.. أنا فأل سيء.. كل من يقترب مني يتأذى وكل من أتعلق به يرحل ويتركني "
قطب بحيرة لا يعلم ما يقول ولا يفهم سر حالتها العجيبة تلك بينما أخذت هي تهذر بالمزيد من بين بكائها: " لو أنهم فقط لا يرحلون بدوني لما حزنت.. لو أنهم يأخذونني معهم حيثما يذهبون لما توجعت هكذا في غيابهم لما... لما شعرت بأنني جسد خاوي "
شحب وجه ياسين من الوصف الذي قالته وهي بدت في عالم آخر لا تشعر بوجوده إلى جوارها فقط تبكي بحرقة وتهذر بالكلام: " ماذا أفعل يا ربي حتى لا يفارقونني؟ ماذا بيدي لأستبقيهم معي؟ "
مسد على شعرها بحنان يناديها وهو يشعر بالخوف عليها: " ملاكي.. اهدئي حبيبتي لن أترككِ إن كان هذا ما يبكيكِ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بيأس: " ليتك تستطيع ياسين.. ليتك تستطيع لكنك... لكننا جميعا لا نملك من أمرنا شيء (ثم اجهشت في البكاء من جديد وهي تتمتم بحرقة) لكَ ربي الأمر من قبل ومن بعد "
قطب بألم وهو يشعر بنفسه على وشك البكاء هو الآخر ليفاجئ بطيف أخيه يقف على بعد قريب منهما يتابع ما يحدث مقطب الجبين دون أن يعقب بشيء
نظر له ياسين بضياع واستجداء يسأله الحل فتنهد قاسم وهو يشير له بطريقة ذات معنى حتى يتركها تبكي بقدر ما تشاء وبعد أن تنتهي أن يحاول سؤالها عن سبب حينها من جديد ثم استدار راحلا بقلب مكلوم ولسان حاله يردد: " يبدو أن الحزن قرر ملازمتنا فنزل زائرا عندنا لأجل غير مسمى "
***

في الداخل
كانت حفصة ترتب الفراش الذي سبق ورتبته قبل ساعات ثم تعود وتتحرك في الغرفة بتعثر تعدل هذا وتنقل هذا من مكان لآخر، بدت كئيبة كحال الجميع منذ سفر حمزة وزهراء
كان عاصم يجلس على كرسيه المريح إلى جوار النافذة يراجع عقد ما يخص العمل وبين الفينة والأخرى يرمقها بنظرة عابرة ليجدها على نفس حالتها
تنهد عاصم أخيرا وهو يقول: " اجلسي حبيبتي وارتاحي.. الغرفة نظيفة ومرتبة بل الجناح بأكمله مرتب "
توقفت مكانها إلى جوار الفراش وطالعته بنظرة شاردة دون أن ترد فقطب عاصم بقلق يسألها: " هل أنتِ بخير حفصة؟ "
اومأت برأسها وهي ترد: " نعم.. بخير "
وضع عاصم ما بيده من أوراق جانبا ونهض متوجها إليها وحين وصل أمسك وجهها بين كفيه برقة يقول: " إذن ما بكِ أميرتي؟ "
نظرت له ببؤس وهي ترد: " حال ملك لا يعجبني.. أشعر بالحزن لأجلها وزهراء اوحشتني جداً "
ابتسم بحنان يقول: " تعلمين حبيبتي أن ملك حالها يتقلب في اليوم الواحد ألف مرة.. قريبا إن شاء الله ستعود لحالتها الطبيعية فلا تحزني "
تنهدت بأسى تتمتم: " أتمنى هذا "
ضيق عينيه وهي يبتسم بشقاوة يناكفها قائلا: " أما عن زهراء فأظن بأنكِ تغارين منها لأنها ستقضي شهرين كاملين في فرنسا وأنتِ لم تحظي إلا بشهر واحد "
ابتسمت برقة وقد تبددت بعضا من كآبتها وهي تقول: " بالطبع لا.. أنا أتمنى لها كل السعادة "
رفع حاجبا بمكر وهو يسأل: " إذن أنتِ لا تريدين تذوق بعض العسل؟ "
كتمت ضحكتها الخجلة وهي تطرق ببصرها للأرض قائلة: " ألا يوجد عسل إلا في فرنسا؟ "
ضحك عاصم بمرح يرد: " اسألي أختكِ المجنونة التي كادت تصيب أخي المسكين بالجنون وهي تتشبث بالسفر إلى باريس على وجه الخصوص وكأنها مدينة العجائب وحياتها تتوقف على زيارتها "
ضحكت حفصة تقول: " تعلم أن زهراء مجنونة بالفطرة فلا يحق لكَ أن تلومها على خياراتها "
قهقه عاصم مستمتعا قبل أن يقول: " وما لي أنا وما لها من تزوجها هو المبتلى أما أنا.. (لمعت عينيه بحب وهو يكمل) حظيت بالعاقلة الرصينة.. بتوأم الروح والفؤاد "
ابتسمت حفصة بتورد وهي تتمتم بخفر: " ألن تتركني حتى أرى اشغالي فليس الجميع في إجازة اليوم مثلك سيد عاصم؟ "
تبسم عاصم بشقاوة وهو يرد: " ومن المستفيد من إجازة السيد عاصم؟ أ ليست حبيبته وأميرته؟ "
دفعته حفصة في صدره بلطف وقد زاد توردها مما فهمته من مغزى كلامه فقالت بإرتباك: " لا تمزح يا عاصم.. لست متفرغة.. اتركني بالله عليك قبل أن تقتحم حلا الغرفة في أي لحظة "
عبس عاصم ببؤس طفولي وهو يقول: " فلتفعل لأخبرها بتمنعكِ عليّ "
شهقت بخجل وهي تضربه في صدره بغيظ بينما تغمغم: " أ جُننت يا عاصم! والله إن فعلت هذا لتبيتن الليلة في غرفة ابنتك "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يتركها ليقف أمامها متخصرا قائلا: " أهذا تهديد حفصة هانم؟ "
أشاحت بوجهها عنه جانبا متصنعة الجدية وهي ترد: " نعم.. هو كذلك تماما "
ابتسم بمكر وهو يهمس: " إن كانت نيتكِ سيئة تجاهي هكذا فمن الأفضل أن أحصن نفسي واختزن بعض العسل للمساء حتى إن طردتني من جنتكِ يكون لدي ما أواسي قلبي المسكين به "
قطبت بحيرة تردد: " ماذا؟ كيف؟ "
لم يمهلها قول المزيد وهجم عليها يعتقل خصرها بذراعيه وهو يضحك قائلا: " سأخبركِ تفصيلا كيف فالكلام في هذه الحالة من الأسئلة الصعبة لا يفيد "
أخذت تضربه على كتفيه وهي تحاول التحرر منه دون جدوى صارخة بغيظ: " أفلتني يا عاصم وإلا والله س... "
ضاع قسمها أدراج الرياح وهو يتلقف بقية جملتها بين شفتيه مانحا اياها الشرح الذي أخبرها عنه جملة وتفصيلا فاستكانت مستسلمة بين أحضانه في انتظار التقييم
***

مساءً / في العاصمة
كانت تجلس إلى جوار خالتها بصمت تستمع إلى هذر من حولها دون تعقيب وكأن الأمر لا يعنيها رغم أن الحوار يدور من حولها ويخصها وحدها
عيناها كانتا مثبتتين على كفيها الممسكتين بهاتفها، لا تعرف ماذا تنتظر بالضبط؟ لكنها فقط تنتظر
تمر اللحظات والدقائق ولا تمل الإنتظار وكأن لا شاغل لها سوا ذلك، حتى افاقت من شرودها على صوت فاطمة وهي تقول: " ما رأيكِ بنيتي؟ هل ستسافرين مع خالتكِ منال؟ "
أجفلت من السؤال والتفتت تنظر إلى خالتها منال بدهشة وهي تردد: " أسافر معكِ خالتي! "
رفعت منال حاجبيها وهي تقول: " وهل لديكِ خيار آخر؟ "
شعرت نبض بالحيرة من نفسها، عقلها يخبرها أنه الإختيار الأمثل بعد وفاة والديها فالأقرب لها هي خالتها منال أما قلبها فيخبرها أنها بحاجة ماسة للبقاء مع فاطمة حيث تشعر بالسكينة والأمان
تنهدت بحيرة لا تعرف لها سببا فأجفلت من جديد وخالتها تهزها وتعيد عليها السؤال: " لم نسمع ردكِ بعد.. هل لديكِ إعتراض على السفر معي؟ "
كانت فاطمة هي من ردت بدلاً منها بعدما شعرت بحيرتها: " أظنها بحاجة لبعض الوقت للتفكير بصفاء في هذا الأمر فأنتِ تعلمين حالتها الآن والظروف الصعبة التي تمر بها وتشتت تركيزها "
برمت منال شفتيها ببرود وهي تغمغم: " لا أحد يفهم حالة ابنة أختي رحمها الله أكثر مني سيدة فاطمة "
شعرت فاطمة بالحرج فقالت: " آه بالطبع فأنتِ خالتها وبمثابة أمها "
ردت منال بنفس البرود: " أكيد "
عادت نبض تنظر إلى هاتفها من جديد في اللحظة التي تحدث فيها مروان يقول بلطف: " نحن نقدر خوفكِ على نبض واهتمامكِ بها يا خالة لكنني لا أريدكِ أن تخشي عليها بعد الآن فأنا أعدكِ بأنها ستكون في أمان وراحة معنا "
اومأت فاطمة بصمت دون أي تعقيب فأضاف مروان: " كما أن سفرها معنا للخارج فرصة جيدة لها حتى تستكمل دراستها الجامعية "
نظرت فاطمة بطرف عينها إلى نبض الواجمة قبل أن تقول: " معك حق بني.. فرصة التعليم في الخارج لا تسنح للجميع ونبض تستحق الأفضل بالطبع "
هنا تدخل إياد بابتسامته الماكرة وهو ينظر إلى نبض: " وقد تحب الاستقرار هناك بعد الانتهاء من الدراسة تماماً أو الأفضل.. أن تتزوج وتسعى لتأسيس أسرتها الخاصة "
رفعت نبض رأسها بحدة ونظرت إلى فاطمة بصدمة وهي تتمتم بصوت غير مسموع: " زواج، وأسرة.. يا إلهي! "
بينما قطبت فاطمة تحدث نفسها: " إن سمعه المجنون الآخر سيزهق روحه في الحال.. من أين تأتي هذه المصائب التي لا تنتهي يا الله؟ "
فجأة سمعوا الباب ينفتح فنهضت فاطمة على الفور وقبل أن تخرج كان يوسف وصخر يدخلان، وقف يوسف متوترا بينما صخر كانت ملامحه جامدة وكأنها نحتت من الجليد
هبت منال من مكانها وهي تشير ليوسف بسبابتها بينما تصيح بغضب: " ماذا تفعل هنا يا ولد؟ وكيف دخلت إلى البيت بهذه البساطة دون استئذان؟ "
رفع يوسف حاجباً بتهكم وهو يرد عليها: " لست في حاجة لأخذ الإذن من أحد قبل دخول بيتي "
صرخت منال بغيظ: " بيتك كيف؟ هل صدقت حقاً أنه بيتك؟ هذا بيت أختي وزوجها وأنت ليس لكَ فيه شيء هيا أخرج منه حالاً "
نهضت نبض من مكانها هي الأخرى وقالت: " خالتي أرجوكِ اهدئي.. لا داع لكل هذا "
قطبت منال بضيق وهي تقول: " ألم تسمعيه؟ "
ردت نبض بتنهيد: " بلى سمعته يا خالتي ولا أراه مخطئ فيما قال.. يوسف محق.. هذا بيته "
صرخت منال بحنق: " هل جننتِ يا نبض؟ هل شفقتكِ عليه وصلت بكِ لأن توهميه بما ليس من حقه؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة برجاء حتى تتدخل فقالت الأخيرة في محاولة لتهدئة الموقف: " ما تقصده نبض أن مختار ومريم رحمهما الله طالما اعتبراه بمثابة ابن لهما فبالتأكيد بيتهما هو بيته أيضاً "
تدخل مروان يقول: " اهدئي أمي فكما قالت نبض لا داع لكل هذا فعلى أي حال هي لم تعد بحاجة للبيت "
ران التوتر على نبض وفاطمة في حين سأل صخر بصوت غامض: " لم تعد بحاجة للبيت.. ماذا يفترض بي أن أفهم من هذا الكلام؟ "
رد مروان بهدوء: " لقد قررنا أن تسافر نبض معنا إلى أمريكا "
ضيق عينيه قليلاً وهو يسأل مروان بهدوء ما قبل العاصفة: " هلا أخبرتني رجاءً من صاحب هذا القرار بالضبط؟ "
ردت منال بعجرفة: " أنا "
رمقها ببرود وهو يسأل: " بأي صفة؟ "
قطبت بضيق وهي تغمغم: " ماذا؟ "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو ينظر لها بلامبالاة قائلاً: " قلت... بأي صفة تقررين أمر كهذا نيابة عنها؟ "
صاحت منال بإنفعال: " بصفتي خالتها وبمثابة أمها "
ابتسم بسخرية وهو يقول بهدوء مستفز: " للأسف فقدتِ هذا الحق بعدما انتقلت لي الأولوية "
نظرت له فاطمة بتحذير مبطن حتى لا يتمادى في الحديث وهي تقول: " الأمور لا يمكن مناقشتها بتلك الطريقة "
صاحت منال بضيق: " أي أمور تلك التي سأناقشها أنا مع هذا اللقيط؟ "
هتف مروان بحنق: " أمي ليس هكذا "
بينما نبض صرخت بصدمة: " صخر ليس لقيط خالتي.. صخر يمتلك عائلة راقية ذات نسب معروف "
أصدر إياد صوتاً ساخراً وهو يضع ساقا على الأخرى بينما يقول: " لا أصدق أنكِ لازلتِ كما أنتِ يا نبض.. الطفلة الساذجة بغباء التي تدافع عن الجميع دومًا "
أطرقت نبض وقد آلمها وصفه لها لكنها لم ترد عليه في حين زمجر صخر وكاد يذهب إليه ليحطم وجهه ويمحي عن شفتيه تلك الإبتسامة القميئة لولا يوسف دفعه بحزم وهو يهمس له: " أهدأ الوضع مضطرب بما فيه الكفاية "
ثبت مكانه بمعجزة وهو يقبض على كفيه بتشنج إلى جانبيه لكنه لم يستطع منع نفسه من الهمس بغل وحقد: " الحقير "
تنهد مروان يقول: " أرجوكم اجلسوا ودعونا نتفاهم بتحضر "
بعد لحظات كان الجميع يتصنع الهدوء على اختلاف مشاعرهم وأفكارهم الداخلية
بادر مروان بالكلام بأسلوبه الهادئ المعتاد: " هل لديك مانع يا يوسف في أن تسافر نبض معنا؟ "
غمغمت منال بغيظ: " وما دخله هو الآخر؟ لا حق له في الحكم عليها أو إبداء رأيه فيما يخصها حتى "
زفر مروان بنفاذ صبر يقول: " أرجوكِ أمي دعيه يتحدث ويخبرنا برأيه فهذا حقه "
زفرت منال وصمتت على مضض بينما رد يوسف بدبلوماسية: " قبل أن أخبركم أي شيء أريد أن أعرف رأي صاحبة هذا الشأن "
نظر الجميع إلى نبض بترقب بينما قالت منال وهي تربت على كتفها: " بالتأكيد هي موافقة إذ لا يصح أن تظل هنا وحدها بعد وفاة والديها.. بيت خالتها أولى بها من الوحدة "
صاح مروان بقلة حيلة: " يا أمي أرجوكِ (التفت بعدها إلى نبض يقول بلطف) ما رأيكِ نبض؟ هل أنتِ موافقة على السفر معنا إلى أمريكا؟ "
ردت منال بتعجب: " بالطبع موافقة وماذا تظن يا بني؟ هل سترفض وتبقى هنا وحدها لتنهشها الوحوش والبشر ممن لا ضمائر لهم.. لم يعد في هذا العالم أمان أبداً "
كاد صخر ينهض من مكانه لكن يوسف قبض على مرفقه يقول بخفوت: " أهدأ "
غمغم صخر بضجر: " اتركني يا يوسف بالله عليك.. سأقتلها فقط حتى نرتاح "
في حين هب مروان من جلسته يصيح بغيظ: " هذا ليس أسلوب للنقاش يا أمي.. أرجوكِ امنحيها فرصة فقط حتى تخبرنا عن رأيها "
تأففت منال بغيظ بينما قال إياد بسماجة: " أجلس أخي وأرح أعصابك فكما يبدو جليا أن القطة لم تأكل لسانها بعد "
زمجر صخر من جديد فتدخلت فاطمة بعجالة: " تكلمي بنيتي.. ما رأيكِ؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة بضياع وهي تتمتم: " أنا.. لا.. أعرف "
هنا صاحت منال بانتصار وهي ترمق كلا من يوسف وصخر بطرف عينها: " إذن ستسافرين معنا فهذا القرار الصائب والأفضل لأجلكِ "
على عكس ما ظنت منال بأن صخر قد يثور ويغضب بناءً على حديثها إلا أن الأخير استرخى أكثر في جلسته وهو يضع ساقاً على الأخرى بعنجهية بينما يعقد ساعديه أمام صدره قائلاً باستفزاز: " سبحان الله! ما أراه أنا أفضل لها عكس هذا تماماً "
نظرت له منال ببرود تتمتم على مضض: " وما هذا الذي تراه أفضل لها؟ "
ابتسم ببرود يجيبها: " الأفضل لها أن تبقى هنا في بيتها.. (ثم نظر بقوة إلى نبض التي لم ترفع عينيها عن الأرض وأكمل بصوت جامد) ومع زوجها "
تعالت شهقات الاستنكار والصدمة من الجميع، وهب إياد من مكانه وهتف بغضب منفلت: " ماذا تقول أيها الحقير؟ "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " الحقير هو من يتنازل ويرد على أمثالك "
اندفع إياد كالثور يريد أن يضربه لكن مروان وقف أمامه يمنعه عن الاقتراب من صخر وهو يقول: " أهدأ إياد.. علينا أن نفهم ما يقول أولاً "
صرخ إياد بغل: " ما هذا الذي تريد فهمه؟ هل تصدق ما يقوله هذا الحقير؟ إنه كاذب يريد الاستيلاء على الممتلكات التي تركها عمي مختار مستغلاً حماقة تلك الغبية الساذجة في المقابل "
هب صخر من جلسته هو الآخر وقبل أن ينطق سبقته نبض تصرخ بإنفعال: " كفى إياد.. إلى هنا وكفى.. لن أسمح لك بأن تضيف كلمة أخرى تسيء بها لصخر "
صرخ إياد بحقد: " هل تقفين في صف ذلك الحقير؟ هل تحالفينه ضدي أنا.. ابن خالتكِ؟ "
صرخت دون وعي منها: " وهو زوجي "
تعالت الشهقات المستنكرة من جديد حينها وعت نبض لما تفوهت به فلم تشعر بالندم بل بالقهر من الإهانات التي كان إياد يوجهها دون وجه حق إلى صخر فشمخت بذقنها وهي ترد باعتداد: " أجل زوجي.. صخر عقد عليّ قبل وفاة أبي بساعة تقريباً وكان هذا بناءً على رغبة أبي وليس وحده بل كانت هذه أمنية أمي أيضاً "
ران على الجميع الصمت وهم ينظرون لها بدون تصديق حتى قالت هي بصلابة تحسد عليها: " صخر معه حق.. أنا لا أستطيع أن أسافر معكم خالتي فالأولى بي بيت زوجي لذا فأنا... سأبقى هنا.. مع صخر... زوجي "
***

"نبض.. فيما شردتِ بنيتي أحدثكِ منذ وقت "
أجفلت نبض وهي تعود من ذكريات الساعات الماضية لتقول: " آسفة عمتي.. كنت أفكر فيما حدث "
سألتها فاطمة وهي تربت على رأسها: " هل أنتِ نادمة على قراركِ؟ "
ردت نبض بثقة: " بالطبع لا عمتي.. مكاني الصحيح هنا معكِ "
ابتسمت فاطمة تقول بمناكفة: " معي أم مع صخر... زوجكِ؟ "
توردت نبض بخجل وهي ترد: " قلت هذا حتى لا أسمح لهم بالإساءة إليه أكثر.. يكفي ما قالوه عنه "
تنهدت فاطمة تقول: " إياد ابن خالتكِ هذا ذو لسان سليط.. سامحه الله "
قطبت نبض بكآبة تتمتم: " والله أوجعتني اهانته لصخر وكأنه كان يعنيني أنا بكلامه هذا لا هو "
ضمتها فاطمة إلى صدرها وهي تقول بحنان: " نِعم الزوجة أنتِ حبيبتي "
هتفت نبض بتذمر طفولي: " يا عمتي لم أدافع عنه لأنني زوجته "
ضحكت فاطمة وهي تقول: " إذن لماذا؟ "
رمشت بخجل وهي تطرق برأسها هامسة: " لأنه... لأنه فعل لأجلي الكثير وأنا أعده في مكانة يوسف تماما "
طرق صخر الباب فاتجهت فاطمة لتفتح له وهي تكتم ضحكاتها على ما قالته نبض
سألها بعبوس: " هل نامت نبض؟ "
ردت عليه بإبتسامة حنونة: " لا.. لم تنم بعد "
تنحنح بحرج وهو يقول: " حسنا.. هلا تركتنا قليلاً وحدنا عمتي؟ هناك ما أريد مناقشتها به "
اومأت برأسها دون تعقيب وخرجت من الغرفة فدخل هو وأغلق الباب خلفه قبل أن يستند عليه بظهره وقبضتيه خلفه ممسكتان بمقبض الباب
نهضت نبض من جلستها على الفراش ونظرت له بذهول وهي تقول: " ماذا تفعل هنا.. في غرفتي؟ "
تنهد بعمق وهو يترك المقبض ويتقدم نحوها بخطى بطيئة شعرت معها وكأنه يخطو فوق بساط قلبها
توقف مباشرة على بعد خطوة واحدة وبسط كفه أمامها وهو يقول ببساطة: " هاتي يدكِ اليسرى "
نظرت لكفه بتوتر وهي تقول: " ل... لماذا؟ "
زفر بنفاذ صبر يأمرها: " يدكِ نبض "
مدت يدها له ببطء وتردد فسحب كفها بسرعة وخلال لحظة كان بنصرها الأيسر يزينه خاتم رقيق من الألماس، خطف بجمال بريقه أنفاسها فرفعت بصرها له تتمتم: " إنه رائع لكن... ما المناسبة؟ "
ببساطة رد وهو يوليها ظهره متجهاً إلى الباب: " لا تخلعيه أبداً.. إنه خاتم الزواج "
رددت بذهول وهي تنظر إلى الخاتم: " خاتم الزواج! (استوقفته قبل أن يفتح الباب وهي تقول بتعجب) أليس من المفترض أن يكون هناك محابس للزواج وليس خاتم؟ "
التفت برأسه ينظر لها بعينين لامعتين بنظرة غامضة لم تفهمها وهو يقول: " رأيت أنكِ مختلفة وتستحقين شيء مختلف والخاتم أنسب لكِ يا نبض "
اومأت دون فهم وهي تنظر للخاتم من جديد بينما تقول: " كما تشاء "
قطب بغموض يقول: " هل سلمتِ للأمر الواقع بهذه البساطة؟ "
قطبت بحيرة تسأله: " أي أمر؟ "
رد ببساطة: " زواجنا "
عبست وهي ترد بصلابة: " بالطبع لا.. لازلت عند قراري أنا وأنت لابد أن... "
قاطعها ببرود يقول: " تصبحين على خير يا... (وشدد على كلمته التالية ليخبرها أن ما سبق دخوله إليها من حديثها مع العمة فاطمة قد وصله) أخت نبض "
اتسعت عينيها بحرج وهي تشعر باشتعال وجنتيها وهو يفتح الباب لتسمعه قبل أن يخرج يتمتم: " رغم أن ما بدأت أشعر به ناحيتكِ لا يمس للأخوة بصلة "
وضعت كفها على فمها بسرعة تكتم شهقتها وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى بطريقة موجعة في حين خرج هو ببساطة وكأنه لم يقل شيء وفي قرارة نفسه لا يعلم السبب الذي دفعه لأن يقول ما قال
هوت على الفراش بحيرة وخجل تفكر، ترى ما الذي بدأ يشعر به ناحيتها؟
دخول فاطمة قطع شرودها وهي تقول: " هيا بنيتي اخلدي للنوم ففي الصباح أمامنا الكثير من الأمور "
اومأت بطاعة دون تعقيب وهي تشعر بالتيه من أفكارها الكثيرة المتداخلة
***

بمجرد أن وصل إلى الفيلا اتجه نحو الدرج ينوي الصعود لغرفته ولكن بعد تسلقه لبضعة درجات لمح ضوء مكتب والده مشعل فقطب بحيرة وهو يعود أدراجه نازلا ومتجها ناحية المكتب
طرق الباب بخفة ودخل بعد أن تلقى الإذن من والده ليرتفع حاجبيه بتعجب وهو يرى جلسة أمه بجوار النافذة المطلة على الحديقة والتي بمجرد أن رأته هبت من جلستها تصيح بتحفز: " ها قد حضر صخر بك أخيراً "
قطب قليلا وهو يغلق الباب خلفه قبل أن يخطو اتجاه أمه قائلا بهدوء: " لم أكن على علم بأنكِ تنتظرينني "
صاحت بإنفعال: " وكيف ستعلم يا بك؟ ها! أخبرني كيف ستعلم وأنت لا تكاد تبقى في بيتك دقيقتين كاملتين.. تمر أيام دون أن أراك حتى "
نظر إلى والده بتساؤل صامت وهو يحاول السيطرة على انفعال أمه الغريب: " اهدئي أمي لا أرى داع لكل هذا الانفعال والصراخ.. متى ما أردت رؤيتي ليس عليكِ سوا أن تطلبيني فآتيكِ في الحال "
رفعت حاجبيها بسخرية تقول: " بهذه البساطة.. أطلبك فتأتيني "
اومأ إيجابا وهو يرد بصبر: " نعم أمي.. بهذه البساطة "
عاد ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما يحدث لكن الأخير هز رأسه بيأس وأشاح ببصره إلى النافذة المفتوحة دون أن يمنحه إجابة واضحة
ومن بين أفكاره المتداخلة وحيرته أجفلته أمه وهي تصرخ بغضب: " قل لي صخر متى كنت ستخبرني عن تلك الزيجة التي أتممتها دون علمي؟ "
كز على أسنانه غيظا وهو يرمق والده بنظرة قاتمة لكن الأخير كان يوليه ظهره فلم يره
رد بعد لحظة بصوت حاول أن يكون هادئا: " في اللحظة المناسبة أمي "
اتسعت عينيها بذهول وهي تردد: " في اللحظة المناسبة! كيف في اللحظة المناسبة؟ لا أفهم "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد: " ما الذي لا تفهمينه أمي؟ قلت كنت سأخبركِ في اللحظة المناسبة وبما أن الخبر وصلكِ بالفعل إذن فالأمر أنتهى ولم يعد هناك ما يخفى عليكِ "
صرخت بهياج وهي تضربه في كتفه: " هل أنت مجنون؟ ها! كيف تتكلم عن أمر بهذه الأهمية بتلك البساطة المقيتة؟ بل كيف تخفي عني أمر كهذا؟ "
أحنى رأسه بخفة للأمام وهو ينظر إلى عينيها مباشرة بنظرة قاتمة مشتعلة عكست جنون مشاعره في تلك اللحظة: " ولماذا لا أفعل أمي؟ لماذا لا أخفي بعض الأمور وأحتفظ بها لنفسي؟ هل الأمر حكر عليكِ وحدكِ؟ أنتِ فحسب من يمكنها إخفاء أي شيء لأجل غير مسمى وإما أن تقررين كشفه بعد فترة أو... أو تحكمين عليه بالإعدام حتى ينتهي أجله نهائيا ويظل في محله.. في الظلام ولا أعلم عنه شيء؟ "
تراجعت خطوة للخلف شاحبة الوجه وكلماته تنزل عليها كالسهام لا تكاد تدفع عنها واحدا حتى يصيبها آخر
أقترب منها بشراسة وهو يضيف المزيد بنبرة تنبض بقسوة جارحة وهو يخفض صوته: " أ يجب عقابي لأني تزوجت دون أخذ الإذن من ال 'ماما' خاصتي؟ لأني أخفيت عنها أمرا كبيرا كهذا بينما أنتِ حينما تقررين بأن تخفي عني هويتي وأصلي الحقيقيين فأحيا لسنوات كمغفل لا يعلم عن نفسه أبسط الأمور يتوجب عليّ حينها أن أمنحكِ وسام شكر وتقدير؟ "
قبضت ليال على كفيها إلى جانبيها تدعي الصلابة والتماسك وهي تجابه ابنها: " لقد أتفقنا سابقا على ألا نعيد فتح سيرة الماضي أبدا بكل ما يحمله من خير.. وشر؟ "
قطب ببراءة زائفة يقول: " خير! أوَ هناك نفحة من الخير في ذاك الماضي من الأساس وأنا لا أعرفها؟ "
هزت رأسها بعصبية تقول: " لا.. ليس فيه سوا الألم والألم فقط.. الكثير من الألم "
عض على شفته السفلى بقهر قبل أن يقول: " نعم الكثير يا أمي.. الكثير الذي لا ينضب على ما أظن وكما يبدو أنه لا نهاية له "
رمشت قليلا وهي تختنق بالبكاء الذي تكتمه قائلة بجمود: " لماذا تتطرف لهذا الموضوع كلما حاولت تأنيبك على خطأ فعلته؟ هل تحاول اسكاتي؟ "
رفع حاجبا بإستهزاء وهو يرد: " حاشا لله ليال هانم وهل يستطيع أحد إسكاتكِ عن شيء أشهرتِ ضده سلاحكِ؟ "
إلتفت معتز أخيرا متخليا عن صمته وتباعده قائلا بحزم: " تكلم مع أمك بأسلوب أفضل وأرقى من هذا يا صخر "
كز على أسنانه للحظات قبل أن يقول بغضب مكبوت: " حاضر.. هل من أوامر أخرى.. أبي؟ "
قطب معتز غير راضيا عن طريقة حديثه دون تعقيب فأشاح صخر بوجهه جانبا يحاول تنظيم أفكاره وتهدئة أعصابه وفجأة صدمته أمه بالقول: " طلقها صخر "
صرخ دون شعور منه: " ماذا؟ "
فغر معتز فاها من الصدمة وعلى ما يبدو لم يكن يعرف هو الآخر بهذا القرار الذي اتخذته ليال
جمد صخر مكانه وأخذ يحدق فيها بصمت قطعه صوت معتز مقتربا من ليال وهو يقول: " ما هذا الذي تقولينه ليال؟ "
تكتفت ليال ببرود وهي ترد: " ما سمعته معتز.. يجب أن يطلقها "
وقف معتز مقابلا لها مقطب بضيق وهو يقول: " أقدر غضبكِ منه لإخفاء أمر زواجه عنكِ رغم أني حاولت مرارا أن أشرح لكِ الظروف التي أجبرته على إتمام الأمر سريعا دون الرجوع لأحد لكن ما لا أفهمه هو سبب هذا الطلب الغريب الذي تطلبينه؟ "
بصلف كانت ترفع ذقنها وهي ترد: " ومن قال بأنه طلب؟ إنه أمر "
هتف معتز حانقا: " ليال! هل تمزحين؟ أ تظنين الأمر بهذه البساطة؟ إنه زواج أي مصير فتاة أرتبط بإبنكِ.. هذا الأمر ليس لعبة للتسلية "
ردت ليال بنفس البرود والصلف: " لهذا قلت له أن يطلقها.. هكذا سنكون قطعنا كل الخيوط التي تجمعهما ولن يكن مصيرها مرتبطا به ولحسن الحظ لم تمض على تلك الزيجة سوا بضعة أيام قلائل ولا أظن حدث بينهما شيء "
صرخ معتز منفعلا من حديثها: " ليال هل جُننتِ؟ بما تهذين أنتِ؟ "
صاحت هي في المقابل: " أنا لا أهذي يا معتز.. أنا أعلم جيدا ما أقوله وأدرك توابعه وما لا أفهمه أنا هو السبب الذي يجعلك تناصر هذه الزيجة البائسة؟ "
هتف معتز بغضب وهو يضرب بقبضته على سطح المكتب إلى جواره: " وكيف لا أناصرها؟ من تزوجها ابنكِ تكون نبض.. هل تعلمين من هي نبض؟ (ضرب على المكتب من جديد وهو يصيح بصوت أعلى وأشد انفعالا) إبنة مختار صديق عمري وأخي الذي لم تنجبه أمي.. إبنة الرجل الذي لم يتركني لحظة وحيدًا دون أن يقدم لي دعمه الكامل.. إبنة الرجل الذي ساعدني لأكون ما أنا عليه الآن "
صمت لحظة يلتقط أنفاسه قبل أن يتابع بنفس الصوت: " لم تنفعني نفوذي وثروتي وسلطة عائلتي في شيء حينما كنت أستقبل الحالات الواحدة تلو الأخرى وأتلبك أمامهم وأتلعثم كطفل صغير لا يفقه لغة الكلام.. لم يفيدني تدليل الجميع في شيء حينما كنت أستحل الحرام وأرتكب الخطأ تلو الآخر دون أن أجد من يوقفني عند حدي، من يجبرني على التراجع وإعادة التفكير في كل ما كنت أقوم به في حياتي "
هز رأسه بعصبية وهو يكمل: " لكن مختار رحمه الله فعل.. له الفضل بعد الله ورحمته بي لأصبح معتز الجياد الذي يقف أمامكِ الآن.. له الفضل في كل الصلاح وتقوى النفس التي تجدينني عليها.. له الفضل في تلك الثقة التي باتت تخرج مع كلماتي دون إرادة مني.. كانت لكلماته مفعول السحر عليّ لأستقيم وأتحول من شخص فاقد الثقة بنفسه إلى شخص يمنح الجميع دروسا في أهمية الثقة.. أصبحت مثالا يحتذى به بسبب مختار رحمه الله.. (رفع سبابته في وجهها يقول بصرامة) لذا لا أريدكِ أن تتفوهي بحرف واحد... فقط حرف يا ليال في حق ابنته.. نبض غالية عليّ كنغم تمامًا ومن سيحاول أو يفكر في إزعاجها أنا من سيقف له "
رغم احتقان مقلتيها بدموع الإهانة والغضب إلا إنها هتفت ببرود: " كل ما قلته لا يغير من كلامي مثقال ذرة.. صخر سيطلقها يا معتز "
كاد معتز يرد فبادرت هي تكمل بشراسة: " هل تريدني أن أخسر إبني بعد كل هذه السنوات التي عانيت فيها لأجل إبنة صاحبك؟ هل سترتاح حينما يضيع مني وأفقده؟ "
قطب معتز صارخا: " بالطبع لا.. هل جُننتِ لتفكري بهذه الطريقة؟ صخر إبني أنا الآخر ومحال أن أتسبب في خسارتكِ له أو أفعل ما قد يضيعه منكِ "
تشبثت بمرفقيه برجاء باك وهي تقول: " إذن أجبره على أن يطلقها.. أجعله يقطع صلته بها "
أغمض معتز عينيه يأسا وحيرة بينما انهمرت عبراتها بحرقة وهي تقول بانهيار غير واعية لسيل الكلمات التي تهذي بها: " سأموت بالله إن تركني ورحل.. ليس هو أيضاً.. يكفيني واحد هجرني لن أتحمل خسارة أخرى.. لم أشفى بعد.. سأموت "
فتح معتز عينيه جاحظا وقد سحبت الدماء من وجهه فبات شاحبا كالموتى وهو يردد بقهر ذاهل: " أ لازلتِ تحبينه بعد كل هذه السنوات يا ليال؟ بعد كل ما جرى وكان.. بعد ما فعله بكِ؟ أ لازلتِ تبكينه وتتحسرين على فراقه وهجره لكِ؟ "
شهقت ليال مصعوقة مما تفوهت به فكممت فمها بكفيها وهي تهز رأسها بعنف بينما العبرات تنهمر بغزارة ومعتز يتابع حديثه بوجع: " لازالت ذكراه تحتل كيانكِ، تؤرق منامكِ حتى وأنتِ إلى جواري! لازال هو الحبيب أما أنا... أنا البديل أليس كذلك؟ "
شهقت من جديد وهي تهمهم بقهر: " يا إلهي ماذا فعلت أنا؟ ماذا فعلت؟ والله لم أقصد هذا أبداً "
إبتسم معتز بألم وهو ينظر لها بعشق لا يستطيع دحره: " أتركي ابنكِ يشق طريقه وحده دون تدخل منا يا ليال عساه يحظى بما تمنيته أنا لسنوات ولم يرزقني ربي به.. أتركيه عل جراحه تطيب "
في ظل جدال والديه المحتدم والذي انتهى بفتح بعض صفحات الماضي التي يحاول الجميع نسيانها أو تناسيها لكنها كالمارد تقتنص اللحظة المناسبة لتظهر وتحشر نفسها بين أدق التفاصيل فتعكر صفوها ..كان هو جالسا على أحد الكراسي المنفردة قبالة المكتب واضعا رأسه بين كفيه مغمضا العينين والصداع يضربه من كل جانب ويكاد يفتك برأسه دون رأفة
أما في الخارج؛ كانت نغم تقف مستندة بظهرها على الجدار المجاور لباب المكتب المغلق عينيها تسيل بعبرات حارة غزيرة مصاحبة للكحل الأسود الذي كان يحدد عينيها السوداوتين كعادة لا تنفك عنها
كان وجهها مريعا بعدما لوثه الكحل المختلط بالدموع لكنها لم تبالي به أو بخفض صوت نشيجها، لا تبالي إن رآها أحد وهي تتنصت من خلف الباب، لا تبالي إن رآها أحد بهذا المظهر البشع، لا تبالي بأي شيء وهي في هذه اللحظة لم تكن تشعر بأي شيء سوا بألم شديد يكاد يفتك بها
لا تدري علام تبكي بالضبط؟
تبكي حظها التعيس الذي أوقعها في عائلة فاحشة الثراء فاحشة الكآبة والبؤس على حد سواء؟
أم تبكي تلك المصائب التي تتوالى عليهم فجأة ومن كل جانب؟
أم تبكي قهر والدها على محبوبة لا تُكِن له ما يُكنه لها رغم مرور سنوات طويلة بينهما لم تنسيها محبوبها الأول؟
أم تبكي مرارة الغدر التي لا تزال تقبض على روح أمها فتبقيها أسيرة الماضي رغما عنها؟
أم ربما تبكي حظ ذاك المسكين المُفتت من الداخل كما الخارج وقد ظلمه من سماه صخر؟
كتمت شهقة أخرى كادت أن تفلت منها وهي تشعر بأحدهم يقترب من الباب دون أن تجد القدرة أو الطاقة على الحركة من مكانها أو الإبتعاد
لحظة وفتح صخر الباب، أجفله وجودها وهيئتها الباكية المريعة لوهلة لكنه سرعان ما أستعاد جموده وهو يبتسم لها بسخرية قاتمة متمتما: " حمداً لله أنه لم يفُتكِ أي مشهد من الحلقة اليوم فقد كانت مثيرة وشيقة للغاية.. كوني دومًا بالقرب وترقبي المزيد (ثم غمز لها بطرف عينه مناكفا بمزاج سوداوي وهو يكمل) تصبحين على خير يا بشعة "
***

اليوم التالي (قرابة الظهيرة(
في المدينة الجبلية
كانت تدور في أرجاء البيت وهي تتأمله بإبتسامة رقيقة فأتت فاطمة من خلفها تقول: " ها! ما رأيكِ؟ "
استدارت نبض وهي ترد برقة: " إنه جميل ودافئ.. أشعر به وكأنه بيتي تماماً "
ربتت فاطمة على وجنتها بحنان تقول: " إنه كذلك بالفعل حبيبتي "
اتسعت ابتسامة نبض بينما اردفت فاطمة بحزم أموي: " هيا اذهبي إلى غرفتكِ.. رتبي اغراضكِ وملابسكِ في خزانتكِ حتى أنتهي من إعداد الغداء "
كتمت نبض ضحكتها وهي ترفع يدها تؤدي التحية العسكرية بينما تقول: " أمركِ سيدتي.. علم وينفذ في الحال "
***

بعد ساعة
خرجت من الحمام بعدما رتبت بقية اغراضها وهي تحدث نفسها: " سأبدل ملابسي سريعا وألحق بعمتي حتى أساعدها في... في... "
تسمرت قدميها في مكانها ولم تجد القدرة حتى على التفوه بحرف وهي تفلت الطوق المطاط الذي كانت على وشك ربط شعرها به ليسقط من يدها على الأرض
اتسعت عينيها بصدمة من وجوده في غرفتها ومن حيث لا تدري كانت دموعها تنهمر كالشلالات على وجنتيها
وهو لم ينطق بحرف في المقابل، كان يفترض به أن يشيح بوجهه عنها لكنه لم يستطع فعلها فظلت عينيه مثبتتين على خاصتها بدون إرادة منه
بعد لحظة تمتمت بغضب مكبوت وصوتها يختنق بغصة البكاء: " من سمح لك بدخول غرفتي دون إذني؟ "
رد هو ببرود مصطنع: " لست في حاجة لأخذ الإذن أنا... "
لم تدعه يكمل جملته وصرخت بشراسة: " أخرج حالاً.. لا أريد رؤيتك "
أتت فاطمة على صوت صرختها فطرقت الباب مرة واحدة قبل أن تفتحه لتشهق بصدمة من وجود صخر مع نبض في غرفة الأخيرة فلم تجد ما تقوله
كانت نبض تشهق وهي تنظر له بقهر بينما عادت تصرخ من جديد: " ألم تسمعني؟ قلت أخرج من غرفتي "
افاقت فاطمة من تسمرها واقتربت من صخر تدفعه للخارج وهي تتمتم بضيق: " ماذا فعلت يا أحمق؟ اخفتها منك أيها الفظ.. أخرج سامحك الله "
هوت نبض على الفراش تبكي بقهر وغضب منه وهي تقول: " ماذا أفعل يا ربي؟ ماذا أفعل؟ "
نهضت بعد لحظات وهي تمسح دموعها بعنف بينما تتمتم بصلابة: " تحلي بالقوة يا نبض فأنتِ بحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.. لا شيء يستحق كل هذا البكاء فهو زوجكِ وعلى أي حال هو لم يرى سوا شعركِ فقط.. (عادت دموعها تنهمر من جديد فتابعت بصوت مختنق) رغم أنه ليس من حقه التهجم على خصوصياتكِ بهذه الطريقة إلا إنه يظل زوجكِ.. اهدئي "
***

خرجت من غرفتها بعد قليل وقد ارتدت حجابها متوجهة إلى المطبخ حيث سمعت صوت فاطمة يأتي من هناك
كان هو يقف على الباب بوضع مائل وإحدى قدميه مرفوعة ومستندة على الحائط من خلفه بينما ساعديه معقودين أمام صدره
ما إن وصلت إلى الباب الذي كان هو يسده بضخامة جسده حتى توقفت خطواتها دون أن تتكلم وظنته سيفسح لها مكانا لتمر دون أن تطلب منه لكنه لم يفعل بل رمقها بنظرة شملتها من رأسها حتى اخمص قدميها قبل أن يشيح بوجهه عنها ويعود للحديث مع فاطمة دون أن يبالي بها
ظلت هي على وقوفها الصامت أمامه تتململ لكن دون أن تتفوه بحرف في حين انهمك هو في الكلام بجدية ويبدو أنه نساها من الأساس في خضم حديثه وحينما فتحت فمها لتطلب منه أن يبتعد لتدخل سمعت فاطمة تقول: " لا أحبذ وجودك هنا وخاصة في هذه الساعة.. تعلم أنه في أي لحظة قد يأتيني أحد "
ابتسم بتهكم وهو يقول: " بالطبع أعرف أن بيتكِ يعد ملجأ ومزار عام للجميع "
تنهدت فاطمة تقول: " ورغم ذلك لازلت هنا وقد أتفقنا ألا تأتي أبدا حتى لا يعلم أحد بزواجك من نبض إلى أن تقرر هي ذلك "
رد ببساطة مغيظة: " أنا جائع.. هل تريدينني أن أرحل قبل أن أتناول غدائي؟ "
إلتفتت له فاطمة وسألته بجدية ودون مواراة: " ما الذي جاء بكَ إلى هنا يا صخر؟ لقد كنت واضحة من البداية حينما رفضت بشكل قاطع أن تصاحبني ونبض لأفاجئ بعد وصولنا أنكَ هنا.. جئت دون أن تعطي لكلامي أي أهمية "
قطب صخر وهو يرد بغموض: " جئت لأطمئن على أمانتي.. ما كنت لأدعها تبتعد عني قبل أن أؤمن مكانها أولاً "
زفرت فاطمة تقول: " كم مرة عليّ أن أخبرك أن تطمئن لأنها ستكون في أمان معي.. ولا تخف إن حدث أمر يستدعي التدخل من أحد فسوف أخبر زيد أو أياً من أبناء الجبالية ليساعدنا "
صرخ صخر بوحشية: " وما فائدة وجودي في الحياة حينها إن كنتِ ستطلبين من آخر حماية زوجتي؟ "
إلتفتت عنه وأولته ظهرها وهي تتشاغل بإعداد الطعام بينما تتمتم ببرود مصطنع: " أصبحت كثير التغني بتلك الكلمة ألا ترى ذلك؟ "
اجفلتها ضربته العنيفة بقبضته على الباب وهو يهدر بغضب: " ولما لا أتغنى بها أليست صدقاً؟ "
ردت ببرود مستفز: " الفتاة لا تريدك.. وكما تعرف هي طلبت منكَ الطلاق قبل رحيلها من العاصمة إن كنت نسيت هذا "
نسى حقاً وقوفها إلى جواره بفعل استفزاز فاطمة له فهتف بوحشية: " أنا لا أبالي بها أو بما تطلبه من الأساس.. إنها لي من قبل أن تولد حتى.. فلتضرب رأسها بأول حائط يقابلها إن لم تفهم ما قلته لأنني في كل الحالات لن أطلقها أو أحررها مني ما دام في صدري نفسا يتردد.. ستبقى لي شاءت أم أبت "
كانت نبض ترتعد خوفاً من نبرته القاسية وحينما قررت الابتعاد من أمامه فاجئها بأن التفت لها وقبض على مرفقها وهو يقربها منه قائلاً بنبرة قاتمة وصوت مخيف: " لا تعيديها ثانية يا نبض.. قد أسامح في أي شيء من أي شخص لكنني أبداً.. أبداً لن أسامحكِ إن كان الخطأ منكِ أنتِ.. احذريني فأنا لا أريد ايذائكِ.. أنتِ دون البشر كافة لا أريد ايذائكِ فلا تجبرينني على ذلك.. هل فهمتِ؟ "
اومأت بسرعة وطاعة حتى تفلت من مواجهته وجسدها يختض بخوف وهي ترى بريق غامض مخيف في عينيه ولم ينجدها منه سوا صوت فاطمة الهادئ وهي تقول: " الغداء جاهز "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " لقد شبعت (ثم خفض بصره إلى نبض وركز مقلتيه للحظات على خاصتيها التي تسبلهما بخجل ثم سحب كفها ورفعه إلى شفتيه مقبلاً باطنه برقة وهو يهمس بصوت أجش) اعتني بنفسكِ وكوني بخير.. لأجلي يا صغيرة "
ترك يدها بسرعة ودون إضافة المزيد كان يتحرك بخطى واسعة للخارج فاستدارت نبض تطالعه بذهول مما حدث لتفيق من صدمتها مع اختفائه من أمامها لتهتف بقلق: " يا مجنون انتظر "
ركضت خلفه حتى لحقت به فاستوقفته بسرعة تقول: " انتظر.. لا ترحل الآن "
توقف بالفعل واستدار لها يقول بحيرة: " هل تريدني أن أبقى معكِ؟ "
توردت نبض وشعرت بالحرج من سؤاله فردت بتلعثم: " لا.. أقصد نعم.. لا... لا أقصد ذلك "
تنهد صخر بعمق وهو يقول: " نعم أم لا؟ "
فركت نبض كفيها إليه بتوتر وهي ترد: " لا أريدك أن تذهب الآن ماذا إن رآك أحد؟ "
ابتسم صخر وهو يقول بمرارة تمكنت منه: " لا تخافي من تلك الناحية فعلى أي حال لا أحد يعرفني "
ردت بعبوس: " ورغم ذلك الحرص واجب.. لما لا تنتظر حتى المساء؟ "
تنهد صخر وهو يرد: " لأنني مشغول يا نبض.. هناك الكثير من الأعمال معطلة منذ بضعة أيام وعليّ انهائها اليوم "
عقدت ساعديها أمام صدرها لتقول بإقتضاب: " وهل هذه الأعمال متعلقة بعملك الأساسي دكتور صخر أم بعملك الغير أساسي والمتطرف؟ "
حاول صخر أن يتهرب من الإجابة بأن قال مناكفا إياها: " تبدين زوجة من الطراز التقليدي للأسف.. لم أظنكِ هكذا أبداً "
رفعت حاجباً ببرود تقول: " أنا لست زوجة أحد ولا انتمي لأي طراز.. أما عن سؤالي والذي تهربت من الرد عليه فلا داعي لأن تشغل عقلك به لأن الرد قد وصلني سيد صخر "
أولته ظهرها تهم بالعودة للبيت فأسرع خلفها حتى أمسك مرفقها يقول: " نبض أنا... "
قاطعته وهي تقول بضيق: " قلت لك سابقاً لا أحب أن يلمسني أحد.. أفلت يدي صخر "
لم يتمادى صخر في عنادها بل أفلت يدها بهدوء وهو يعود خطوة للخلف قائلاً بصوت بارد: " أدخلي نبض وكفي عن ملاحقتي "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي ترد بترفع وكبرياء: " ملاحقتك! يبدو أن هناك من الأمور ما اختلط عليك سيد صخر وليكن في علمك فقط أنا لا الأحق أحد "
أولته ظهرها تهم بالدخول فاستوقفها صوته وهو يسأل بإلحاح: " نبض.. لماذا تتهربين من النظر إلى عينيّ؟ "
تسمرت مكانها لوهلة وظنها لن تجيبه ليصله صوتها بعد لحظة أخرى مكتوما لا يعرف بغصة البكاء أم الغضب وهي تقول: " فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف "
ودون أن تمنحه فرصة ليستفسر منها عن قصدها كانت تهرول بعيداً عنه وبضعة دمعات تنفرط عقدتها كحبات اللآلئ على وجنتيها
أما هو فلم يكن في حاجة ليسألها عما تعنيه فقد وهبه الله عقل مهما مرت عليه من سنين وتعاقبت عليه الأحداث فإنه لا يفقد ولو لمحة بسيطة مما مر عليه يوماً وتذكر ما قصدته بجملتها الكئيبة وليته ما فعل
صباح العيد
كانت تدور حول نفسها كفراشة للتو اكتشفت أنها تملك أجمل جناحين يمكنانها من الطيران والتحليق بعيداً في الأفق الواسع الفسيح
كانت طيات فستانها المنفوش الذي حرصت أمها على اختياره كفساتين الأميرات تدور بتموج حول ساقيها فتتعالى على إثرها ضحكاتها السعيدة
شعرها الطويل الكث يتطاير معها ومن حولها فيشكل غمامة تحجب عنه ملامحها التي لم يعد يفعل شيء في الفترة الأخيرة سوا تأملها وتفحصها وكأنها أعظم إكتشاف على وجه الأرض
يحب رؤيتها سعيدة حتى يرى بريق عينيها الخاطف الذي يلمع كما النجوم في وسط السماء
كان شاردا في أفكاره وتأملاته التي تدور في فلكها حتى لاحظ فجأة أنها توقفت عن الدوران حول نفسها وباتت تقف أمامه وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تستطيل على أطراف قدميها وتنظر بطريقتها الخاصة التي لم يعتد عليها بعد
حينما تتحدث مع أحد فإنها تنظر إلى عمق عينيه وكأنها تريد اختراق دواخله لتتمكن من معرفة الصدق والكذب في حديثه
ولازال هو كلما نظرت له بتلك الطريقة يتلعثم في البداية ككل مرة حتى يتمكن في لحظة معينة من استجماع أعصابه والتحدث معها بطريقة سلسة هادئة
سألته بترقب: " ما رأيك في فستاني الجديد؟ "
اتسعت عينيه قليلاً وهو يرد بتوتر: " رأيي أنا؟ آه إنه جميل.. يبدو جميلا "
برمت شفتيها ببؤس وهي تقول: " يمكنك أن تخبرني أنه بشع لن أحزن لكن.. لا تكذب فهذا يحزنني أكثر "
فغر فاهه بذهول وهو يرى ترقرق العبرات في عينيها قبل أن توليه ظهرها وتخطو ناحية غرفتها دون إضافة المزيد وقد تهدل كتفيها ببؤس وكآبة
كاد يلحق بها حتى يراضيها ويخبرها أنها أجمل أميرة رآها في حياته لكن عمه مختار استوقفه يقول: " لقد ظهرت نتيجة الثانوية العامة "
بثقة بالغة رد: " ومتى ستذهب مع أبي لتسجلا أوراقي في كلية الطب عماه؟ "
قهقه مختار وهو يربت على كتفه قائلاً: " أحب ثقتك هذه يا ولد صدقا تمنحني الأمل "
ابتسم بصمت دون أن يعقب بشيء فقطب مختار يقول: " ولكني ظننت نبض أخبرتك "
سأل بدهشة: " نبض! هل تعلم نبض عن نتيجتي؟ "
اومأ مختار يقول ضاحكاً: " وماذا برأيك يكون سر سعادتها غير ذلك؟ "
فتح فمه ببلاهة وهو يقول: " ظننتها سعيدة بالفستان الجديد "
قطب مختار وهو يقول بصدق: " بل هي تكاد تطير من السعادة لأنك حققت حلمك حتى أنها أحضرت لكَ هدية وأخبرتني أنها ستعطيك إياها بعد قليل "
شعر بشعاع يضوي بداخله والحماسة تدب في اوصاله فجأة فاستأذن من مختار وهرول إلى غرفتها سعيداً
وجد الباب مفتوحا فدخل بهدوء وفي لحظة كانت سعادته تذهب أدراج الرياح حينما دخل ووجد وجهها المبلل بالدموع ولم يكن هذا سبب تبدل حاله بالكامل بل رؤيته ﻹياد.. ذلك السمج ابن خالتها كان يجلس إلى جوارها على الفراش ويحاول اضحاكها
تسمر في مكانه عند الباب دون أن يدخل أو يخرج ولم يلاحظه أياً منهما، وظل واقفاً ينظر إليها وهي تزم شفتيها ودموعها كشلالات تنهمر دون توقف وذلك ال 'إياد' يلقي عليها بنكاته وطرفه السمجة دون أن تلتفت له أو تضحك على ما يقول
بعد لحظات قليلة كان يصيح إياد بنزق: " أوف.. كفاكِ بكاءً نبض.. لا تكوني كئيبة هكذا.. كل هذا لأجل ذلك البغيض صخر لأن فستانكِ لم يعجبه؟ "
ردت عليه بصوت مختنق: " من قال هذا؟ لقد أعجبه فستاني وأخبرني أنه جميل "
ابتسم إياد بسخرية وهو يقول: " آه فعلاً.. لاحظت ذلك بنفسي "
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بنفس النبرة: " لا تتحدث هكذا عنه وإلا سأغضب منكَ إياد "
رد إياد بلامبالاة: " إنه لا يستحق أن تدافعين عنه "
نظرت له نبض بعبوس رغم براءة نبرتها: " بلى يستحق.. أنا أحبه "
ابتسم ببرود يقول: " لكنه لا يحبكِ يا مسكينة هو فقط يشفق عليكِ "
صرخت نبض بغيظ: " بالطبع لا يشفق عليّ! ولماذا سيفعل؟ إنه... "
لم تكمل حديثها حتى شهقت بتوجع حينما ضربها على جانب رأسها بخشونة وهو يصرخ في وجهها بحنق: " أيتها الغبية الحمقاء من أين لكِ بكل هذه البلاهة؟ ها! ألا ترين إهتمام الجميع به ومبالغتهم في رعايته حتى والديكِ يهملانكِ أنتِ وذلك اللقيط يوسف لأجله؟ لأنه مميز خبيث يعلم كيف يجمع الكل من حوله ويحركهم كالدمى كما يشاء "
كانت تنتفض وجسدها يختض في بكاء مكتوم وعينيها تلمعان بالخوف والرفض لما يقول وفي لحظة ما كانت تلتفت برأسها وتسلط أنظارها على الباب حيث يقف، نظرت له باستجداء وتوسل حتى يتكلم وينفي ما قاله إياد لكنه بدلاً من ذلك أشاح بوجهه عنها وخرج من الغرفة
خذلها ولم يدافع عن نفسه كما تمنت!
خذلها ولم يمنع عنها كلمات إياد الجارحة!
خذلها وما أبشع ألم الخذلان ممن تحب!..

***

صباح اليوم التالي
على مائدة الطعام المستطيلة التي تحمل مما لذ وطاب كانت العائلة تلتف حولها كل واحدا منهم متخذ مجلسه الذي لا يتغير
الجد على رأس المائدة ومن جواره على اليمين ابنه خالد يليه أولاده 'قاسم، ياسين، فرح' على الترتيب وإلى جوارها تجلس حياة تليها ملك
أما على الناحية الأخرى يساره يجلس سليم والى جواره ابنه زيد ثم يتبعه كرسي شاغر يحتله الفراغ ومن بعده يجلس عاصم ثم زوجته حفصة ويليها حمزة ثم زوجته زهراء
كان كل واحد منهم يتناول فطوره بصمت اعتاده الجميع أثناء تناول الطعام ليقطع عبد الرحمن ذلك الصمت على غير العادة ناظرا لحمزة وهو يقول بهدوء: " لازلت لا أفهم سبب عودتكما بتلك السرعة.. هل بينكما خلاف؟ "
نظر حمزة بطرف عينه إلى زوجته قبل أن يرد على جده بجمود: " لا تشغل بالك بنا يا جدي فخلافاتنا لا تنتهي "
قطب الجد يقول: " أفصح يا حمزة.. ماذا حدث؟ "
اشتدت قبضته تصلبا وهو يرد: " صدقني جدي الأمر تافه وسنحله سويا "
نظرت حياة لحفصة بتساؤل صامت ردت عليه الأخيرة بهزة بسيطة من رأسها علامة أنها لا تعرف
فجأة تكلمت ملك بكآبتها التي لم تزول منذ ما يقارب الأسبوع: " ومن منا خالي من الهموم والمشكلات؟ دعهما يا جدي يحلان مشاكلهما وحدهما فحينما نتدخل عادة نخرب الأمور ونزيدها سوءًا "
كاد عبد الرحمن أن يتكلم حينما سبقه دخول أحد حراس الدار يُهرول بتوتر ناحيته قبل أن يميل على أذنه يخبره بشيء تغيرت له ملامحه إلى الصدمة والحزن
بعدما خرج الحارس نهضت ملك من مكانها وهي تشعر بأن هناك أخبار سيئة في طريقها إليهم لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بسماع أي شيء
سأل خالد والده في نفس اللحظة: " ما بكَ يا أبي؟ ماذا حدث؟ "
رد عبد الرحمن بحزن شديد: " الدكتور مختار توفى وزوجته في حادث سيارة صباح اليوم التالي لعرس حمزة وزهراء "
تسمرت ملك مكانها على بعد خطوات منهم بينما تعالت شهقات وهمهمات من حولها بالحوقلة والاسترجاع
شحوب تام اعتلى ملامح الجميع وتركهم موتى على قيد الحياة
إلتفتت ببطء تنظر إلى جدها تحاول بصعوبة أن تتماسك حتى تخرج منها الكلمات بشكل واضح ومفهوم: " عمن تتحدث بالضبط يا جدي؟ "
رد الجد بتنهيد حزين: " عن الدكتور مختار زين الدين أخا الشيخ عبد الله رحمه الله "
قال سليم بألم: " إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحمة الله عليه "
بينما أطرق خالد برأسه يغمغم بوجوم: " انقطع آخر خيط يمده بالحياة والقوة.. من له الآن سواك يا الله؟ "
تعالت شهقات الفتيات بالبكاء وفجأة صرخت ملك بشراسة وهي تضرب بكفيها على المنضدة: " أسكتوا.. لا أحد يبكي فهذه كذبة.. عمي مختار لازال حي.. أخبرني أن أنتظره لأنه سيعود لأجلي "
نهضت حياة من مكانها تقترب منها قائلة من بين شهقاتها الحارقة: " لن يعود يا ملك.. لقد رحل "
رمشت ملك بذهول وتيه وهي تحدق في عيني أختها كمجنونة فقدت عقلها قبل أن تقول بحشرجة: " رحل.. تقصدين أنه تركني هو الآخر؟ "
اومأت حياة وهي تضمها بقوة مربتة على ظهرها تواسيها وتواسي نفسها: " لكل أجل كتاب يا ملك "
صرخت ملك بحرقة وهي تنهار باكية بين ذراعي أختها: " فقد آخر يا حياة.. شخص آخر خطفه الموت مني.. تيتمت ثانية يا حياة.. فقدت الأمل الأخير "
سقطت ملك على ركبتيها أرضا فنزلت معها حياة ولازالت تشدد على ضمها إليها بينما الأولى تهذى بمرارة: " كنت أشعر بأن تلك الغيوم التي تغطي السماء لن تنقشع إلا وإن أخذت معها عزيز لدي.. كنت أعلم أن وجع الفقد آتٍ لا محالة "
ضم قاسم زوجته يحاول أن يهدئها وفعل حمزة المثل مع زهراء بينما فرح ارتمت بين ذراعي أخوها ياسين الذي لم تفارق نظراته هيئة ملك المنهارة
هب قاسم من جلسته فجأة وتقدم من الأختين يجلس القرفصاء أمامهما وبهدوء مد يده يرفع وجه ملك إليه وهو يقول بحنان: " كيف تقولين أنكِ تيتمت يا ملاك؟ وما الفائدة من وجودنا حولك إذن؟ "
ردت ملك بلوعة: " لا أشعر بينكم بما أتمناه.. ومن وجدت ضالتي لديه رحل وتركني خلفه.. عدت فارغة اليدين.. عدت لنقطة الصفر من جديد يا قاسم "
قطب بألم نضحت به نظراته وهو ينظر إلى حياة التي تكتم شهقاتها ببسالة فهمس لها بوجع لحالها: " لا أراني الله فيكِ مكروه يا حياة الروح "
نهض زيد من مكانه بجمود وهو ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما سيفعلونه لاحقا بعدما رحل مختار وأصبحت الأمانة بلا حامي فأشاح سليم بوجهه عنه دون رد وهو يشعر بالضياع
***

في المساء
كانت شمس تجلس حزينة في حديقة الفيلا وقد أنهت للتو الحديث مع فرح والتي أخبرتها عن الأحداث المأساوية التي حدثت
في تلك اللحظة دخل أنس وهو يدندن بلحن ما بينما يتلاعب بمفاتيحه بين أصابعه وحينما رآها من بعيد تجلس وحدها تحرك ناحيتها بإبتسامة واسعة بدأت تتقلص وهو يرى بضعة دمعات تنهمر على وجنتها
" ما بك حبيبتي؟ هل ازعجتكِ أمي مرة أخرى؟ "
اومأت سلبا وهي ترد بحشرجة بكاء مكتوم: " ليست عمتي مروة السبب يا أنس "
قطب بقلق وهو يجلس إلى جوارها، يسألها: " هل حدث شيء عند عائلة أمكِ؟ "
اومأت سلبا من جديد وهي تقول: " لا.. كلهم بخير "
تنهد بحيرة وهو يقول: " إذن لما البكاء يا شمس؟ "
شهقت قبل أن ترد: " الدكتور مختار توفى قبل أيام "
قطب بذهول يتمتم: " قبل أيام! كيف؟ لقد عرفني عليه قاسم ابن خالكِ ليلة عرس حمزة والتي لم يمض عليها أسبوع "
بكت شمس وهي ترد بحزن: " فرح أخبرتني أنه مات في حادث سيارة هو وزوجته صباح اليوم التالي للعرس "
تأوه أنس بحزن وهو يغمغم: " يا الله! لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون "
ربت على شعرها بحنان وهو يقول: " رحمه الله.. حزنت جدا للخبر "
قالت من بين شهقات بكائها: " لديه ابنة تصغرني ببضعة سنوات.. المسكينة أصبحت وحيدة تماما يا أنس.. ليس لها بعد والديها أحد "
تنهد أنس بكآبة وهو يرد: " لها الله يا شمس "
رفعت رأسها تنظر له بكآبة مماثلة وهي تقول: " فرح أخبرتني أن ملك منهارة للغاية.. لقد كانت متعلقة به كثيرا وتعتبره بمثابة والدها "
رد أنس ببسمة صغيرة حزينة: " من حقها أن تتعلق به إذ كنتِ أنتِ تبكينه ولم ترينه من قبل سوا مرة وأنا أشعر بالحزن عليه وكأنني كنت أعرفه منذ زمن بعيد رغم أني لم أتكلم معه سوا لخمس دقائق فحسب "
نظرت له بأسى تقول: " ترى كيف حال نبض؟ "
قطب بعدم فهم يقول: " نبض! من نبض هذه؟ "
تنهدت شمس وهي تجيبه: " ابنته يا أنس "
هز رأسه بخفة وهو يرد: " لا أعلم ولكنني أتمنى أن تكون بخير.. فمصابها أليم "
***

وقفت نبض في شرفة الغرفة التي أصبحت ملكا لها منذ انتقلت مع العمة فاطمة إلى بيتها
كانت تمسك بحافة السور وهي ترفع رأسها تتطلع إلى قرص القمر المكتمل بانبهار
يتوسط السماء ببهاء فينير كل ظلام حوله ويبدد غيم كل ما يحيط به، يبعث السكينة والاطمئنان في كل نفس مكبلة بالمآسي والهموم
ابتسمت له برقة عذبة وهي تتحدث إليه: " لا تحزن لرحيل رفيقة دربك.. لن تكن وحيد من بعدها.. لن أدعك تضيع مثلما ضعت أنا وتيتمت من بعدها.. سأكون أنا لك منذ اليوم الرفيقة ما رأيك؟ "
مالت برأسها قليلا جانبا وهي تبتسم باتساع مستمرة في حديثها بحماس: " منذ اليوم سأشركك معي في كل لحظة أمر بها وكل فكرة تخطر لي.. سأحكي لك كل شيء كما كانت الملكة مريم تفعل.. سنفرح معا، ونضحك معا، ونتناقش سويا في كل شيء لكن اعذرني يا صديقي فهناك ما لن أستطيع أن أشاركك فيه معي "
انحسرت بسمتها قليلا وهي تقطب بكآبة وتطرق رأسها للأرض قائلة: " سأتحمل وحدي الألم وأحمله بداخلي في أبعد زاوية من زوايا روحي حتى أخفيه عن الجميع.. حتى لا يشاركني أحد فيه كما أعتدت أن أفعل "
رفعت رأسها بعد لحظات تطالعه ببسمة حزينة وهي تقول بشوق وقد فرت منها دمعة يتيمة كحالها: " إن قابلت طيفها أبلغها سلامي وأخبرها أنها رحلت عن أرضي لكنها ساطعة في سمائي، أخبرها أن تسلم لي على أبي وتقبله عني.. وأخبرها أني أنتظرها بشوق لتزور منامي "
***

غمرها عطره وهو يجلس إلى جوارها على تلك الأرجوحة التي ظلت محتفظة بمكانتها في الحديقة رغم اختلاف حال أشياء كثيرة بمرور الزمن تاركا مسافة بقدر بضعة سنتيمترات قليلة بينهما
كانت تحيط نفسها بذراعيها تستمد من ذاتها قوة تجعلها تبقى صامدة في وجه العواصف العاتية التي تضربها من كل صوب وناحية
أما هو فقد وضع كفيه في جيبي سترته رافعا رأسه يطالع القمر بصمت وصبر طويل
مرت قرابة النصف ساعة وهما على هذا الحال حتى إلتفتت برأسها إليه تنظر له بسكينة وهي تقول: " أنا أتألم "
تحركت عضلة في فكة بتصلب لوهلة قبل أن يرد بلامبالاة مقصودة: " الكل يملك نصيبه من الألم لستِ وحدكِ من تتألمين "
رمشت قليلا قبل أن ترد عليه بصوت متحشرج: " لكن الألم بداخلي كبير.. يحتلني حتى الصميم "
جمدت ملامحه وكأنه تحول لتمثال من الشمع بينما يرد ببرود قاس: " لا تبالغي حياة فتلك الصورة الضعيفة التي ترسمينها لنفسكِ لا تليق بكِ "
زمت شفتيها بقوة تمنع نفسها من الصراخ فيه حتى تكلمت بعد لحظات بحرقة: " وهل لو أخبرتك بأن قلبي يحترق ستصدقني حينها؟ "
قطب بشدة وهو يكز على أسنانه بصورة واضحة فتابعت حياة بغصة بكاء في صوتها: " نعم يحترق.. أشعر بالدم في عروقي يغلي حسرة ومرارة وليس غضبا هذه المرة.. أشعر بأن تلك الضربة التي تلقيتها صباحا حطمت ما تبقى لي من قوة وأهدرت كل تماسكي الذي ظللت لسنوات أبنيه "
نظر لعمق عينيها البندقيتين وهو يقول بحدة من بين أسنانه: " لأنكِ غبية.. ظللتِ لسنوات تحبسين نفسكِ في قمقم، تقيدين يديكِ إلى جانبيكِ وتغطين عينيكِ، تمنعين نفسكِ عن... عن... اللعنة يا حياة.. إن بقيت معكِ للحظة أخرى فإما سأقتلكِ أو سأقتل نفسي "
هب من جلسته بغضب فهرعت خلفه تتشبث بذراعه كطفلة صغيرة وهي تقول باكية: " نعم أعترف أنني غبية، حمقاء وأي شيء آخر تراه لكن... لكن يا قاسم والله لم أتعمد هذا وإنما فعلته مرغمة "
نظر لها بغضب دون تعقيب فتابعت وهي تهز رأسها بعصبية تشهق بالبكاء بينما تقول: " نعم مرغمة.. سجنت نفسي في قمقم حتى لا أصل إلى قلعتك وقيدت يدي إلى جانبي حتى لا أمسك يدك وغطيت عيني عن رؤيتك حتى لا أضعف.. أنت لا تفهم يا قاسم أنني لأجل أن أفعل هذا أخسر الكثير.. لأجل أن أظهر أمامك بهذا التماسك واللامبالاة أبذل جهد مضاعف يستنزف من طاقتي الكثير "
صرخ قاسم فيها بشراسة: " ومن طلب منكِ فعل كل هذا؟ من طلب منكِ الظهور بشخصية ليست لكِ؟ "
صرخت هي الأخرى بإنفعال والدموع تنهمر من عينيها كشلالات لا تنضب: " لا أستطيع أن أحيا سعيدة ونار قلبي لم تنطفئ بعد.. لا أستطيع أن أحيا بسلام وأنا أشعر بالخوف من نفسي ومن كل شيء يحيط بي.. لا أستطيع أن أحبك أكثر لأنني... لأنني جبانة تخاف على نفسها من حبك "
قطب بصدمة وهو يتمتم: " تخافين مني أنا يا حياة؟ من حبي لكِ؟ "
اومأت بعصبية وهي ترد: " نعم أخاف من حبك لأنه طوفان يا قاسم.. حبك طوفان.. إن فتحت له أبوابي سيطفئ ناري وأنا أريدها مشتعلة حتى آخذ بثأر أبي "
صرخ بغضب: " لقد جُننتِ يا حياة "
صرخت هي الأخرى: " نعم جُننت.. جُننت منذ زمن بعيد ولا أريد أن أتعافى من جنوني هذا حتى أحصل على ما أريد "
قال بعنف من بين أسنانه: " والثأر هو ما تريدينه؟ "
ردت بشراسة وهي تكتم شهقتها: " نعم هذا ما أريده وسأحصل عليه يا قاسم عاجلا أو آجلا "
أنهت جملتها وتركته خلفها يسب ويلعن ودخلت هي إلى الدار راكضة، تكتم بقية شهقاتها بكفها
وقف قاسم عاقد الجبين يصر على أسنانه من الغضب وقبضتيه متشنجتين إلى جانبيه وهو يقول بصوت متصلب: " تحتاجين لصعقة كهربائية عالية حتى تعودين إلى رشدكِ وتتراجعين عن تفكيركِ المسموم هذا يا حياة ورغم أنني سأتضرر قبلكِ إلا أنني سأفعلها لأجلكِ وليكن ما سيكون بعدها "
***

حينما عاد في ساعة متأخرة من المستشفى كان منهوك القوى بالكاد يستطيع تحريك أصابع يده وهو يفتح باب الشقة وحينما سمع صوت مفتاحه يعلن بترحيب فتح الباب ندت عنه تنهيدة راحة طويلة
لم يكد يخطو بقدميه إلى الداخل حتى كان يستدير شاهقا مجفلا من تلك الأصابع النحيلة التي ربتت بخفة على كتفه
لتجحظ عينيه بصدمة أكبر من أي شعور قد يخالطه في تلك اللحظة وهو يراها تقف أمامه بهيئتها المخيفة وهي تتشح بالسواد وتحدد عينيها بكحل أسود ثقيل
رمش عدة مرات ظانا أنه يتوهم وجودها لكن صورتها التي ظلت أمام عينيه دون أن تتحرك أو تتلاشى أكدت له حقيقة وجودها بالفعل
فتح فمه ببلاهة لتسبقه هي مبادرة بالكلام وهي تحييه ببساطة: " مرحبا "
قطب وشعور الصدمة والذهول لم يغادره بعد: " كم الساعة الآن؟ "
رآها ببساطة تخفض بصرها متطلعة في شاشة هاتفها الذي أضاءته للتو قبل أن ترفع رأسها تجيبه بنفس البساطة: " الثانية عشر "
قال بتقرير: " منتصف الليل "
اومأت برأسها وهي تبتسم قائلة بتهكم: " ألا تستضيف لديك أي زوار بعد التاسعة مثلا؟ "
تنحنح بحرج وهو يحاول أن يجلي عنه أي فكرة الآن حتى يفهم سبب وجودها هنا في هذه الساعة
سألها بهدوء وهو يتحاشى النظر لعينيها: " ليس هذا ما قصدته ولكن الوقت تأخر بالفعل "
حركت كتفيها بخفة وهي ترد: " ليس بعد.. لا تبالغ "
قطب بحيرة وهو ينظر إليها سائلا بتهذيب: " هلا أخبرتني إذا سمحتِ عن سر زيارتكِ لي في هذا الوقت؟ "
ردت بسؤال آخر: " هنا! على الباب؟ ألن تسمح لي حتى بالدخول وتقدم لي أي مشروب من باب الذوق واللباقة؟ "
هتف رغما عنه باستنكار: " ذوق! هل تتحدثين جديا عن اللباقة؟ "
قطبت قليلا دون أن ترد فتابع هو ببعض الضيق الذي ظهر في نبرته: " وأين هي اللباقة في زيارتكِ لشاب غريب عنكِ في شقته منتصف الليل؟ "
ضيقت عينيها وهو تكز على أسنانها بقوة متمتمة ببضعة كلمات باللغة التركية فنظر لها بغيظ وهو يقول: " ماذا تقولين؟ تعرفين أنني لا أجيد التركية "
ردت ببرود: " كنت أقول أنكَ فظ وغليظ "
صرخ بحنق يقول: " أنا؟ "
تلفتت حولها قليلا قبل أن تجيبه بنفس البرود الساخر: " لا أرى غيرك أمامي لذا وبعد التفكير واستفتاء عقلي فالإجابة هي... نعم... أنت "
أشاح بوجهه عنها زاما شفتيه بقوة كيلا يرد عليها بما يليق بها في تلك اللحظة وكم ود لو أخبرها القليل مما يلح لسانه على البوح به ليوقف تلك المتعجرفة المتبجحة عند حدها
أشفقت عليه وهي تلاحظ الهالات السوداء التي تحيط بعينيه فتجعلان بركتي العسل عميقتين جدا وجذابتين جدا
قالت بهدوء: " جئت لأقدم لك واجب التعزية "
نظر لها بعبوس يقول: " رغم أن الوقت ليس مناسبا لأن تقدمي لي أي شيء لكن حسنا... شكرا لكِ.. إلى اللقاء "
عبست في وجهه بالمثل وهي تقول: " هل تطردني؟ "
تمتم من بين أسنانه المطبقة وهو يخفض صوته خوف أن يشعر بهما أو يسمعهما أحد الجيران: " نعم أطردكِ وأحمدي ربكِ أنني أمنع نفسي عن صفعكِ "
شمخت بذقنها وهو تقول بجمود: " كنت لأكسر يدك قبل أن تمسني "
هز رأسه بعصبية وهو يخرج هاتفه من جيبه قائلا بضيق: " لن أطيل معكِ الحديث في أمر منتهي بالنسبة لي.. سأهاتف أخاك إن لم ترحلي حالا... "
قطع حديثه صوت قوي تعلوه نبرة الغضب وهو يقول: " ليس هناك داعٍ لتهاتفني.. ها أنا ذا "
إلتفتت خلفها بذهول وهي تحدق في عينيه متوحشتي النظرات بينما تقول: " ألم تخبرنا أنك خارج العاصمة وستعود في نهاية الأسبوع؟ "
رد بخفوت ينذر بعاصفة قادمة: " عدت فور أن شعرت بأن هناك ما يحدث من خلف ظهري.. تعرفيني لا أحب أن أكون مغفلا "
تنحنح يوسف بحرج وهو يقول: " لنتحدث في الداخل يا جماعة فوقوفنا بهذا الشكل على السلم غير لائق "
تكلم صخر من بين أسنانه بغضب مكتوم: " الشيء الوحيد الغير لائق هو وقوفها معك بهذا الشكل.. وفي هذه الساعة "
قطب يوسف يقول: " صخر يبدو أنك فهمت الموضوع بصورة خاطئة نحن كنا... "
هدر صخر بإنفعال: " لا أريد سماع صوت أحدكما.. (ثم نظر إلى أخته بجمود يقول) ألحقي بي "
نزل بسرعة وكأن الشياطين تلاحقه ودون لحظة تأخير واحدة كانت نغم تلحق به
بمجرد أن وصلت له فتح لها الباب المجاور لمقعد السائق دون أن يوجه لها كلمة واحدة وحينما استقلت السيارة صفع الباب بقوة قبل أن يدور حول السيارة متخذا مقعده بنفس الصمت وفي لحظة كانت السيارة تنهب الطريق بسرعة إلى الفيلا
حاولت أكثر من مرة أن توضح له أنها هي المخطئة وأن يوسف لا دخل له في الأمر فكان رده الوحيد أن صرخ فيها: " أخرسي نغم.. حسابنا في البيت "
وصلا بعد دقائق وجيزة فترجلت من السيارة بغيظ ليستوقفها آمراً: " أعطي مفاتيح السيارة لمصطفى حتى يحضرها لكِ غدا "
نظرت إلى مصطفى بضيق فوجدته يكتم ضحكة متشفية وهو يطرق برأسه للأرض فتقدمت نحوه تعطيه المفتاح وهي تتمتم بخفوت شرس لم يصل لصخر: " أعلم أنك تراقبني طوال الوقت وأنك من وشيت بي له "
فتنحنح مصطفى يقول ببلاهة متجاهلا حديثها: " حاضر يا هانم سأحافظ عليها ولن أصيبها ولو بخدش بسيط.. لا تقلقي على السيارة سأضعها في عيني حتى أسلمها لكِ بنفسي في الغد إن شاء الله "
غمغمت بحقد مكبوت وهي تبتعد عنه: " أيها الحقير "
سمعها فأبتسم بسماجة زادت غيظها منه أكثر
أنتظر صخر حتى ابتعدت قليلا عنهم قبل أن يلحق بها بعدما قال بنبرة آمرة حازمة: " أعدا الجلسة في الحديقة الخلفية وأشعلا النيران.. سأغتسل وأوافيكما بعد نصف ساعة بالضبط "
رد سيف على الفور بطاعة: " أوامرك صخر باشا "
***

بعد ربع ساعة
دون أخذ الإذن كانت نغم تقتحم غرفته والغيظ يتآكلها من صمته وهي لا تعرف ما ينوي فعله مع يوسف
في نفس اللحظة كان هو يخرج من الحمام الملحق بجناحه والمياه تتقاطر من خصلات شعره الحريرية الندية كما جذعه العضلي الذي يظهر بوضوح وهو لا يرتدي سوا بنطال أسود
اشتعلت عينيه بلهب حارق وهو يراها أمامه تتكتف بوقاحة وحدقتيها تمران سريعا على جذعه قبل أن تعودا وتستقرا في عمق عينيه
رمى تلك المنشفة الصغيرة التي كانت في يده بغل على الأرض وهو يتقدم ناحيتها بخطوات تعكس الغضب الذي يحمله صاحبها بداخله في هذه اللحظة
حتى قبض على مرفقها بقسوة وهو يهدر: " كم مرة نبهت عليكِ ألا تدخلي جناحي بدون إذن مني؟ "
ردت بوقاحة وعجرفة: " أنا لا آخذ إذن من أحد قبل أن أدخل لأي مكان في بيتي "
أفلت ذراعها بخشونة فتراجعت خطوة للخلف بينما هو يهدر بغضب: " ليس وقتكِ.. لدي اللحظة ما هو أهم منكِ ومن أفكاركِ الأنانية المغرورة "
أشار إلى باب الجناح وهو يتابع بشراسة: " أقسم بالله يا نغم إن وطأت قدميكِ جناحي ثانية دون أن أأذن لكِ لترين مني ما لم تريه يومًا ولا أنصحكِ بأن تتحامقي وتجبريني على فعله بكِ "
وما هي إلا لحظة وكان يصرخ بوحشية: " أخرجي "
شهقت نغم مفزوعة دون أن تستطع تمالك نفسها كعادتها أمامه، أسرعت بالخروج تحاشيا له ولما قد يفعله بها اللحظة وهو يبدو فاقدا لأعصابه وهدوئه الغامض الذي اعتادته منه دائمًا
بينما هو رفع كفيه يتخلل خصلات شعره بوحشية، يكاد يقتلعها من جذورها وصدى آخر جملة نطقت بها نبض لازال يأبى أن يفارق عقله وذاكرته
'فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر، وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف'
إلتفت حوله يبحث عن شيء لا يعرف ما هو بالضبط وصدى صوتها يعلو أكثر وأكثر فيشوش عليه تركيزه ويجعله يفقد المزيد من هدوء نفسه وحُلمه
بداخله وحوش استيقظت وأخذت تعوي وتزأر بوحشية تطالبه بما يشعر بأنه لا يستطيع المضي قدما نحوه
جلس على طرف الفراش وهو يلهث من شدة انفعاله والأفكار تموج بداخله بين مد وجزر فيشعر بالجمود فجأة وكأنه فقد الخيط الذي كان دومًا يمسكه بحزم وذكاء بين يديه محتفظا بكل الأطراف في قبضة قوية لا تقهر
ينوي النهوض ليلحق بسيف ومصطفى كما أخبرهما فيعود صوتها يتردد أعلى وأعلى وكأنه يخبره أنه لم يفارقه بعد ولم يتلاشى
فيعود التقهقر للخلف ويغلبه شعور موحش بغيض بالعجز
صغيرته لازالت تعاني من ألم ظنه غير موجود.. ألم لجرح قديم لم ينتبه له من قبل وقد أنشغل لسنوات مضت بأمور أخرى أكثر تعقيدا من الإلتفات لتلك الذكرى التي تركت أثرها جليا في روح صغيرته
غلبته غصة مؤلمة استحكمت حلقه وهو يفكر بما يخفيه عنها والكارثة أن ما خفى أعظم بكثير!..
إن كانت تدفعه بعيدا عنها لأجل أنه خذلها لشيء بسيط فيما مضى فماذا ستفعل حينما تعلم أنه ليس هو؟
أن صخر الذي عرفته لسنوات ليس نفسه الذي يعرفه هو؟
أن من يقف أمامها في كل مرة يحمل هوية غير التي تعرفها
أن أصله الحقيقي ليس الظاهر أمامها وإنما أصله يعود لجذور لم يكن يعرف عنها شيء حتى...
تكلم بمرارة ساخرا وهو يحدث نفسه: " حتى ماذا يا صخر؟ حتى وصلت لسن السابعة عشر وأنت تنتمي لكيان ليس لك وهوية ليست من حقك! "
اه من تلك الدوامة التي تحيط به وتجيد لف حبائلها من حوله في أكثر لحظات ضعفه.. تتمكن منه فتزيده عجزا وضياعا
أطرق رأسه يمسكها بين كفيه مغمض العينين بقوة وهو يفكر في خاطره بأن أقل ما سيحدث حينما تعرف كل شيء ويتضح لها ما يخفيه عنها أنه.. سيخسرها
ضربته الكلمة في مقتل وهي مجرد فكرة في سماء الخيال فماذا سيحل به حينما تنزل لأرض الواقع؟
هب من جلسته المتخاذلة فجأة وهو يقرر تأجيل التفكير في هذا الموضوع حتى ينتهي من الأفعى السامة المتمثلة في شخص فؤاد الناصر أولاً
***

جلس على البساط المفروش أرضا أمامهما.. هو على مقربة من النيران المشتعلة المتوهجة بينما هما بعيدين قليلا عنها تجنبا للهبها الحار
سأل بجمود وعينيه محدقتين في لهب النيران المرتفعة: " ما الجديد؟ "
نظر سيف إلى مصطفى لوهلة حتى عبس الأخير فتكلم سيف بهدوء يقول: " حدث الكثير يا باشا في الفترة الماضية التي انشغلت فيها عن المتابعة بعض الأخبار سارة والبعض الآخر سيء... جدا على ما أظن "
رد صخر بنفس الجمود: " الكل سواء "
قطب مصطفى وهو يقول: " ما بكَ يا باشا؟ تبدو منزعجا من شيء ما "
رد صخر بصوت غريب: " لست منزعجا فقط يا مصطفى بل غاضبا.. غاضبا جدا من نفسي .. أهم جولة سباق في حياتي تم إعلان نتيجتها قبل أوانها بالكثير ولقد... خسرتها "
سأل مصطفى بعفوية: " ماذا خسرت؟ "
قطب صخر بألم يقول: " بل قل من يا مصطفى؟ سأخسر أو لأكن أكثر صراحة فقد خسرت شخص غالي جدا عليّ وليس مجرد شيء "
كاد مصطفى يسأل المزيد لكن صخر قاطعه وهو يعود لحالة الجمود ثانية قائلا: " لقد قُتِلَ ماهر قبل ثلاثة أيام.. أعلم أن الحقير فؤاد من فعلها بعدما اختلفا على تقسيم مكسب آخر صفقة بيع آثار لهما وقد هدده ماهر بفضحه فلجأ لقتله حتى يضمن إسكاته للأبد "
نظر سيف له بدهشة يقول: " نعم هذا بالضبط ما علمناه لاحقا "
قطب صخر وهو يتابع: " هكذا تكون الصفقة أُلغيت فلا قيمة لها بعد موت ماهر "
رد مصطفى بتمهل: " هل سنبحث عن آخر نصل من خلاله إلى الإيقاع بفؤاد يا باشا؟ "
هز صخر رأسه سلبا وهو يرد: " لا.. لا مزيد من التورط مع أي نوع دنئ من البشر.. تكفي تجربة واحدة "
قال سيف بترقب: " إذن ما التالي صخر باشا؟ "
قبل أن يرد صخر على سؤال سيف تذكر شيء ما فقال: " آدم عاد ومن الجيد انشغاله مع عائلته لفترة حتى أقرر ما سأفعله مع ذاك الآخر "
عبس مصطفى بحنق يقول: " لازلت لا أجد سببا يجعلك تساعد ذاك المدعو سعد في كشف حقيقة فؤاد يا باشا فهو لا يقل حقارة عن عمه؟ "
قطب صخر بجدية مجيبا: " لربما كان مغفلا أعمى البصيرة لكنه ليس حقيرا يا مصطفى.. لقد عاهدت نفسي أن أنير بصيرته تلك للحق وأجعله يصل بنفسه لحقيقة هوية قاتل والده "
تدخل سيف يقول بحيرة: " لكنه كاد يقتل زيد لولا تدخلك في اللحظة المناسبة يا باشا.. أرى أنه يخطو متعجلا في طريق النهاية "
تنهد صخر وصمت للحظات مفكرا قبل أن يرد: " معك حق يا سيف وهذا هو عيبه الوحيد أنه ضخم الجسد صغير العقل.. سريعا ما يقتنع بهزر عمه وينفذه "
ران عليهم صمت طويل لدقائق قطعه مصطفى وهو يقول بتعجب: " ألا تريد أن تعرف بقية الأخبار صخر باشا؟ "
تكلم صخر بصوت متعب يقول: " ماذا هناك أيضا غير موضوع تلك الصفقة ومحاولة قتل زيد؟ "
رد مصطفى: " هذا ما كان لدي أنا أما سيف فأظن لديه خبر سار لأجلك يا باشا "
نظر صخر إلى سيف بإهتمام يقول: " تكلم سيف بما لديك جملة دون تفصيل "
كتم سيف بسمته وهو يرد: " لقد سرق مصطفى جواز سفر الآنسة نبض "
حدجه صخر بغيظ وهو يقول: " آنسة! أتراني ظلا أمامك أم ماذا؟ "
تنحنح سيف بحرج من السهو الذي وقع فيه فقال بتوتر: " أعتذر صخر باشا لكن... أنا لم أعتد اللقب بعد "
أشاح صخر بوجهه إلى النيران مرة أخرى وهو يتمتم بمرارة: " لا ترهق نفسك باعتياده فعلى أي حال صاحبة اللقب لن تبقى بالقرب طويلا "
قطب سيف والتزم الصمت بينما غمغم مصطفى متصنعا اللامبالاة: " لا أصدق أن فتاة صغيرة كتلك تعصى عليك يا باشا وقد روضت قبلها العشرات من الرجال فماذا عن فتاة صغيرة؟ "
رمش صخر بذهول لوهلة قبل أن يصرخ بغيظ وغيرة حارقة وهو يقذفه بثمرة تفاح لا يعرف كيف جاءت إلى هنا: " هل تتحدث عن زوجتي أمامي بتلك الوقاحة يا مصطفى؟ ما دخلك أنت إن عصت عليّ أم سلمتني زمام أمرها؟ هل طلبت منكَ النصيحة؟ "
تلقف مصطفى التفاحة بإبتسامة واسعة مغيظة وهو يرد ببراءة مصطنعة: " العيب عليّ أني أريد مصلحتك يا باشا "
هدر صخر بضيق: " مصطفى "
رفع مصطفى يديه باستسلام وهو يقول: " حسناً يا باشا أنا أعتذر.. لكن لو تسمع مني ستجد عندي حلا لمعضلتك بإذن الله "
هَمّ صخر بأن ينهض من مكانه مزمجرا لكن مصطفى هب من جلسته مبتعدا بسرعة وهو يتمتم: " أنت الخاسر يا باشا "
كتم سيف ضحكته وهو ينظر إلى طيف مصطفى الذي يبتعد بينما هدر صخر بحنق: " ذاك المستفز لا أطيقه لخمس دقائق حتى فكيف تتحمله أنت طوال الوقت؟ "
ابتسم سيف بحنان وهو يرد: " إنه أخي ومن الطبيعي أن أحتمله أكثر من الآخرين "
قطب صخر يقول: " لستما من نفس الأب ورغم ذلك تبدوان شقيقين تمامًا.. لم أراكما يوما متشاحنين "
رد سيف بنفس الإبتسامة: " لن أخفي عليك يا باشا فأنت تعلم أن مصطفى شخص لا يطاق أبداً لكنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى يتكلم كثيرا لكنه يخفي الكثير أيضا.. لا يغرنك مزاجه الساخر الذي يتمسك في الظهور به فهو أعتاد التعبير عما يحمله في داخله بهذه الطريقة وعليّ أنا حل ألغازه تلك حتى أصل لسبب ما يزعجه في كل مرة "
زفر صخر بغيظ تبدد وتلاشى وهو يحدق في ألسنة النيران المرتفعة من جديد
دومًا يجلس أمامها حتى يستمد منها التركيز كلما تكالبت عليه الأفكار والأمور وتشتت عقله
دومًا شعر أمامها بأنها انعكاس له، ترسم هيئته من الداخل.. توضح صورة مختصرة لما يطمره بداخله من جحيم ووحوش
كانت صورة النيران تنعكس في عينيه وتتراقص على صفحة حدقتيه فتزيدها قتامة ووحشية وغموضا
يعلم علم اليقين أنه سيحترق يوماً في تلك النيران التي يشعلها كل مرة بيديه
يعلم أنه وحده المتضرر والمتأذي لكنه بحمق وغباء منقطع النظير يستمر في طريقه الشائك غير مباليا بقدميه اللتين تخطوان فوق الأشواك فتُجرح ولا بقلبه الذي بدأت قواه تستنزف وروحه التي باتت صرخات استنجادها تعوي كذئاب جائعة لا تجد فريسة تسد حاجتها وتشبعها
ومن خلف ألسنة النيران التي تزأر كوحش مقيد ظهرت عينين زرقاوين تتراقص فيهما رقة تذيب أعتى الجبال
ارتسم فوق العينين حاجبين أنيقين بلون بني يعكس لون خصلات شعر صاحبته تلاه أنف صغير لا ينحني أبداً بل يقف بشموخ ثم أخيرا وبدقة تامة رُسم فم صغير ككل شيء آخر في صاحبته.. فم شهي بشفتين حمراوين بالفطرة دون أن يعكرهما أي لون دخيل عليهما
كانت تلكما الشفتين كحبتي كرز ناضجتين تترقبان بصبر لحظة قطافهما!
وحول ذاك الوجه لُفَ حجاب أبيض ملائكي ناعم يعكس لون بشرتها البيضاء والتي نافست الحجاب في ملمسه الناعم
تبسمت له بخجل رقيق وهي ترمش بأهدابها الكثيفة كما يحب فتلمع زرقاوتيها وكأنها نجوم براقة تتوسط كبد السماء في ليلة معتمة كحيلة تتناثر على صفحة الليل كحبات لؤلؤ لامع
رآها تسبل عينيها فكاد يطلب منها ألا تكف عن النظر إليه لكنه سكت مذهولا وهو يرى كيف بدأت عيناها تمطران بحبات ندى غزيرة أخذت تطفئ النيران.. وكلما ارتفع وهج النيران بغضب وهي تأبى أن تتلاشى زادت غزارة حبات الندى بإصرار وهي تحاربها وبين مد وجزر وصولات وجولات ربحت أخيرا قطرات الندى وخسرت ألسنة النيران الرهان
تلاشى من أمامه كل شيء ولم يتبقى سوا الوجه الحبيب الملائكي وابتسامة صغيرة حانية كانت آخر ما رآه صخر قبل أن يتلاشى ذاك الوجه إلى العدم من حيث أتى لينتبه فجأة مجفلا من شروده الطويل وخيالاته العميقة على صوت سيف وهو يقول: " ماذا سنفعل الآن صخر باشا؟ "
رد صخر بصوت عميق غامض بدى آتيا من زاوية بعيدة جدا: " سنفعل ما كان يجب أن نفعله منذ وقت طويل يا سيف.. سنعيد الأمور لنصابها الصحيح لينال كل ذي حق حقه فما عاد الصبر يفيد "
***

في الصباح
كان الجد يتباحث ويتناقش في عدة أمور تخص شئون العائلة مع ولديه واحفاده في وجود صديقه صالح
بعد قليل انتهى حديثه ليصمت الكل مفكرين في ما قيل وفجأة قطع الجد هذا الصمت وهو يقول: " كيف حال حفيدتي ابنة البواسل؟ "
بدى عبد الرحمن وكأنه غير راضيا عن اللقب الذي يرافق إسم شمس وهو ينطقه على مضض فأبتسم صالح دون تعقيب بينما رد سليم: " إنها بخير يا أبي كنت قد كلمتها قبل يومين وكانت في أحسن حال "
اومأ الجد بإبهام وهو يفكر في شيء ما قبل أن يقول: " متى ستأتي لزيارتنا؟ "
رد سليم بهدوء ناظرا لأبيه ببعض الحيرة: " أظن بأنها ستأتي خلال أيام حتى تبارك عودة العروسين من شهر العسل "
ابتسم حمزة بسخرية وهو يفكر في شهر عسله، أقصر شهر عسل حصل عليه عروسين في الوجود
ثلاثة أيام لا أكثر وفي الرابع كان ينشب بينهما شجار حاد انتهى بعودتهما في اليوم التالي متخاصمين وكل منهما يبيت في غرفة منفصلة حتى اليوم
سأل الجد فجأة بغموض مخرجا الجميع من شروده الخاص: " ومتى ستكون فردا مقيما في دار الجبالي وليست ضيفة؟ "
قطب سليم بعدم فهم بينما اتسعت إبتسامة صالح وهو ينظر إلى صديق عمره قائلا بتمهل: " فيما تفكر يا أبا خالد؟ "
نظر عبد الرحمن إلى صالح قائلا: " تعرف ما أفكر فيه يا أبا آدم فما حاجتك للسؤال؟ "
رد صالح بنفس إبتسامته: " لكن ولديك وأحفادك لا يعرفون "
قطب عبد الرحمن وهو ينظر إلى أحفاده قائلا بتقرير ما يفكر فيه: " لن يسعد قلبي ويرتاح قبل أن تكون أحفادي جميعهم أمام ناظري وفي داري "
لم يحاول خالد أو سليم حتى التدخل رغم أن خالد كان لديه علم مسبق بأن ولديه لن يعطيا للأمر بالاً فقلبيهما مشغولان منذ أمد بعيد
سأل زيد بحيرة وهو ينظر إلى جده: " هل تريدها أن تأتي لتقيم عندنا يا جدي.. لكن كيف؟ لا أظن عمي أكرم سيقبل بهذا "
رفع عبد الرحمن حاجبا بترفع وهو يرد: " وكيف سيرفض؟ أليس أبا ويوما ستأتي تلك اللحظة التي يسلم فيها ابنته بيديه إلى زوجها فتنتقل معه إلى داره بعيدا عن كنف أبيها؟ "
تناظر الأحفاد فيما بينهم بذهول من تفكير جدهم وقد اتضحت الصورة أخيرا أمامهم فقال حمزة: " وهل ستقبل هي؟ "
رد الجد بصلابة: " ستقبل برضاها وإلا فستفعل رغما عنها "
وجه قاسم بصره ناحية النافذة المفتوحة التي تطل على الحديقة الخلفية بلامبالاة وكأن الأمر لا يعنيه متأملا في الفراغ بصمت عميق
أما ياسين فقد أخرج هاتفه حينما أعلن عن وصول رسالة نصية له فقرأها وبدأ يرسل إلى محدثه هو الآخر بهدوء دون أن يبدي أي رد فعل أو سؤال في هذا الموضوع
بينما زيد أطرق برأسه للأرض يتأمل السجادة المفروشة بإهتمام وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه وربما يكون متخفيا بين هذه الازهار الصغيرة التي تغطي نسيج السجادة
في حين قطب حمزة بعبوس وهو يعود إلى أفكاره الخاصة التي تدور حول فلك مجنونته التي تكاد تصيبه بعدوى من جنونها قبل مرور أسبوعين على زواجهما بعد
كتف خالد ساعديه أمام صدره وأخذ ينظر إلى كلا ولديه بتفكير وهو يمنع بسمته من الظهور بشق الأنفس وكان سليم يفعل نفس الشيء مع ابنه قبل أن يولي ولديّ أخاه كل إهتمامه
قطب الجد بضيق يقول: " لم أسمع كلمتكم بعد "
فرد حمزة بإحباط: " أنا خارج هذا الموضوع فقد تزوجت وأنتهى أمري "
ناكفه صالح بالقول: " وما لكَ تقولها وكأنك تلفظها؟ إن لم تكن مرتاحا مع زهرة العائلة فلا ضير من مثنى وثلاث ورباع "
رد حمزة بدفاع: " وهل فقدت عقلي لأفكر بأخرى غير زهرتي عماه؟ إنها زوجتي في الدنيا والآخرة بإذن الله ولا أريد سواها "
ضحك صالح وهو يقول: " إذن لا تجلس عابسا هكذا فأنت تسيء إلى سمعة الزواج وتجعل الشباب يفضلون العزوف عنه "
إبتسم حمزة وهو يقول مازحا ليخفي إحباطه وبؤسه: " ما ذنبي أنا؟ هل سيتخذونني حجة كي يهربوا من تأدية الواجب العسكري؟ "
ضحك سليم معقبا: " لو ظنوا هذا حقا فهم حمقي إذن فكما ترى جدك يعد لهم العدة ولن يتركهم ينعمون بحياة العزوبية طويلًا "
قطب الأحفاد الثلاثة المعنيين بالأمر في عبوس!
التفت قاسم مصوبا نظراته الجامدة على جده بينما رفع ياسين عينيه عن شاشة هاتفه إلى وجه جده وزيد رفع بصره عن السجادة ونظر لوالده أولا ثم إلى جده
سأل ياسين بتعجب: " أنا لم أفهم شيء.. هلا وضحت لي أكثر يا جدي؟ "
رد الجد بجدية لا تقبل النقاش: " أحد ثلاثتكم عليه أن يتزوج بابنة عمتكم رقية "
فغر ياسين فاهه ببلاهة بينما عبس زيد دون تعقيب
أما قاسم فرد ببرود: " لا أجد فيها حاجة نفسي التي أبحث عنها "
قال عبد الرحمن مقطبا: " كنت ارشحك أنت لها فأنت الأكبر سنا ولابد أن تتزوج أولا "
رد قاسم بنفس البرود: " نحن لا نتزوج باعتبار السن يا جدي وإلا ما كان حمزة تزوج قبلي فأنا أكبره بسنة وبضعة أشهر "
على الفور قال ياسين وكأنه يدفع البلاء عنه قبل أن يصيبه: " وأنا الآخر لا أصلح لها فقد سبق واخترت من أريدها زوجة لي "
رد عبد الرحمن متهكما: " بدليل أنك لم تتخلى عن كرسي الوحدة وتودع عزوبيتك بعد "
كز ياسين على أسنانه وهو يرد مطرق الرأس: " لم يحن دوري بعد يا جدي هذا كل ما في الأمر "
غمغم زيد بحنق وغيظ يحدث نفسه: " لم يتبق سواك يا بائس "
في نفس اللحظة وجه الجد حديثه له يقول: " وأنت ما حُجتك؟ "
عبس زيد وهو يقول: " ليست لدي حُجة لكن.. كيف سأتزوج فتاة لا أعرفها؟ "
رد الجد ببساطة: " لم يمنعك أحد من التعرف عليها "
قطب زيد بحنق يقول: " هل تريدني أن اشاغل ابنة عمتي يا جدي؟ "
زفر الجد وهو يقول: " أفعل ما تريد يا ابن سليم لكن تزوجها في أسرع وقت فأنا أريدها قريبا في دارنا "
غمغم زيد بضيق: " لما لا نتفق على عدد الذكور والإناث الذين سأنجبهم ونحدد موعد العرس أيضا؟ "
سمعه حمزة وصالح فكتما ضحكاتهما بينما زفر ياسين براحة لم يكد يحصل عليها حتى تلاشت وجده يقول بحزم: " آخر هذا الشهر أريد طلب واضح وصريح منكما وموافقة عن رضى وقناعة منهما وإلا لن يمر أول أسبوع في الشهر المقبل إلا وهما في بيتي زوجيهما بعيدا عن دار الجبالية "
نزل الكلام كمطارق من حديد على رأس ياسين بينما هب قاسم من جلسته يهتف بتهديد شرس: " كنت قتلتها قبل أن يقرن إسمها بإسم رجل غيري وقتلت من يفكر مجرد التفكير في أن تكون حياة الجبالي من نصيبه "
هب عبد الرحمن من جلسته هو الآخر غاضبا وهو يهتف في حفيده: " كيف ترفع صوتك في مجلسي وأمامي بهذه الوقاحة يا ولد؟ "
لم يتراجع قاسم وهو يرد بغضب يوازي غضب جده: " أدافع عن حقي "
صاح الجد بقسوة: " لا حق لكَ فيها يا ولد.. حياة لن... "
قاطعه ياسين ولم يستطع إلتزام الصمت أكثر فنهض بلهفة يقف أمام أخيه وكأنه يحميه بينما يقول " لا.. بالله عليك لا تفعل يا جدي.. قاسم لم يقصد شيء "
تدخل صالح وهو يرى استنجاد صامت في نظرات ياسين التي يوجهها له فقال: " أهدأ يا أبا خالد.. حفيدك حار الدماء ثار لأجل ابنة عمه التي نعلم أنه يريدها زوجة ولم يقصد بالطبع أن يرفع صوته في مجلسك أو يتطاول عليك كما قال ياسين "
كانت نظرات الجد وحفيده صلبه قوية لا تلين وكأن كل واحد منهما يتحدى الآخر حتى استدار ياسين إلى أخيه يهمس له برجاء يصل إلى حد التوسل: " أطلبها من جدي اللحظة يا قاسم (نظر له قاسم برفض متعنت فتابع ياسين بتوسل يمس القلب) بالله عليك أفعلها.. لا تحرق قلبي عليك يا قاسم أطلبها يا أخي وأجمع زمام الأمور في يديك قبل أن تنفرط من بين أناملك وتفطر معها فؤادك "
ظل قاسم على رفضه وهو يتذكر وعده لنفسه ولحياة بأنه لن يكرر طلبه ولن يعيد عرضه عليها حتى تأتيه هي بنفسها تخبره بموافقتها
كان يشعر بأنه مشطور لنصفين
حائر بين حكمة العقل وهوى القلب
همس ياسين برجاء من جديد: " أرجوك يا أخي.. أفعلها.. إنها حقك "
لم يشعر بنفسه وهو يقول لجده بصلابة ودون تردد أو تفكير وكأن آخر كلمات نطقها ياسين استفزت روح العاشق بداخله: " أنا أطلب حياة منكَ يا جدي.. أريدها زوجة لي اليوم قبل الغد "
دخلت حياة فجأة مبتسمة وكأنها كانت تشعر بأن هناك من يناديها
وضعت الصينية التي كانت تحملها على الطاولة الصغيرة المستطيلة وهي تقول: " أعددت القهوة بنفسي لأجل خاطرك يا جدي "
إبتسم صالح بلطف وهو يربت على يدها وهي تناوله فنجانه: " سلمت يداكِ يا ابنتي "
اعتدلت حياة بعدما ناولت عميها فنجاني قهوتيهما لتلاحظ لأول مرة الحالة الغريبة التي يبدو عليها البقية
ياسين يقف أمام أخيه ويبدو جسده متشنجا بينما الأخير كان جسده متصلبا كقبضتيه المشدتين إلى جانبيه
أما جدها فكان يقف يناظر قاسم بنظرات غامضة من بينها يشع فتيل غضب
شعرت أن هناك أمر جلل يحدث ففضلت الإنسحاب حتى لا تشاهد لحظة إحراج أيا منهما للآخر وحينما همت بالانصراف استوقفها جدها يقول: " انتظري حياة "
نظرت له بهدوء تقول: " نعم جدي "
تكلم عبد الرحمن بجمود مباشرة في الأمر: " إبن عمك طلب يدكِ مني قبل دخولكِ.. ما قولكِ؟ "
لم تكن في حاجة للسؤال عن أي ابن عم تقصد فهي تعرف أن قاسم هو المعني بالقول
شعرت بغصة الحسرة تعاودها من جديد وهي تعرف أن ردها سيوجعه لكنها لم تشأ أن تطيل في الأمر فقالت بهدوء ظاهري: " أنا لا أفكر حاليا في موضوع الزواج "
قال صالح بمهادنة: " لا بأس بنيتي يمكننا عقد خطبة طويلة وتأجيل عقد القرآن والعرس حتى تؤهلي نفسكِ وتستعدي "
ازدردت ريقها بمرارة وهي تنكس رأسها بقهر قائلة: " لا جدي.. أنا... أنا لا أريد الزواج.. هذا هو قراري وردي الأخير "
قال ياسين فجأة ببرود قاس أراد فيه أن يوجعها متعمدا: " حسنا يا ابنة عمي لا بأس.. سأبحث عن أخرى فعلى أي حال أنا متعجل وبنات حواء لم تفنى كلها بعد.. على العموم كانت مجرد فكرة عابرة "
تعجب الجميع مما يقول بينما شهقت حياة بصدمة وهي ترفع رأسها تنظر إلى ياسين قائلة: " ماذا تقصد؟ هل... هل أنت من طلبتني للزواج؟ "
تبسم ياسين بسخرية جارحة وهو يرد: " وهل كنتِ تنتظرين شخص معين؟ "
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تهز رأسها سلبا ببطء بينما عينيها تحيدان بنظراتهما إلى عينيّ قاسم الجامدتين
قلبها يدوي بشدة وكأنه يلفظ آخر أنفاسه أما أنفاسها فكانت متسارعة بشكل مؤلم وهي ترى ألم يسكن نظرات قاسم رغم جموده الذي يبديه
لماذا يتألم هو إن كان ياسين من عرض عليها الزواج؟
لماذا تشعر أنه... أنه ينظر لها بخيبة وفقدان أمل؟
وهل منحته يومًا أي أمل في أن يكونا سويا؟
عادت تنظر إلى ياسين تسأله بصدمة لم تغادرها بعد: " وماذا عن ملك؟ "
رفع ياسين حاجبيه وهو يرد بلامبالاة: " ماذا عنها؟ هل يفترض بي أن أكرر طلبي على كل فتيات العائلة حتى ترضى عني إحداهن وتقبل الزواج بي؟ "
عبست حياة بشراسة وهي تقول بإنفعال: " إذن أنت لا تحبها؟ كنت تخدعها أليس كذلك؟ "
ود لو صفعها ليشفي غليله منها ومن عجرفتها التي كسرت بخاطر أخيه وود لو صرخ فيها بأنها أكبر حمقاء رآها في حياته
ود فعل الكثير لكنه تكلم بعكس ما أراد يقول: " لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ يا ابنة عمي.. انظري لحالكِ وأشغلي نفسك بشئونكِ أفضل لكِ "
كان الجميع منشغلين بالنقاش الحاد الذي يدور بين ياسين وحياة غافلين عن قاسم الذي كادت الدماء أن تتفجر من عروقه النافرة وهو يقبض على كفيه بشدة حد الألم
لم ينتبه أحد لغلالة الدموع التي انسدلت على صفحة حدقتيه المثبتتان على حياة أو هكذا ظن هو أن لا أحد يشعر به أو ينتبه له قبل أن يوليها ظهره
غافلا هو الآخر عن ملك التي كانت قد دخلت خلف أختها حياة ببضعة لحظات لتحيي صالح وتسلم عليه قبل مغادرته
كانت تقف أمام الباب المفتوح صدرها يعلو ويهبط وهي تكتم شهقاتها ببسالة بينما الدموع تنهمر مدرارا على وجنتيها
كم شعرت في تلك اللحظة أنها تريد أن تضم قاسم إلى صدرها وتطيب بخاطره الكسير!
تمنت لو لديها رخصة تسمح لها بأن تربت على كتفه وتواسيه!
تمنت لو بيدها أن تخفف عنه وتخبره أن أختها الغبية هي الخاسرة، هي من ستندم كما تفعل في كل لحظة
وودت لو صفعت حياة بقوة حتى تفيقها من غفلتها التي طالت وغبائها الذي تعدى كل الحدود
ودت لو تستطيع أن تهزها بعنف لتعيد إليها الشعور الذي فقدته وتجبرها على الموافقة قبل أن تضيع منها فرصة قد لا تحظى بها من جديد
بفطنة لا تملكها حياة أو قد تكون صدمة الموقف هي من جعلتها لا تفطن لما فعله ياسين على خلاف ملك التي أدركت ببساطة أن ياسين ما قال ذلك إلا ليحفظ كرامة أخاه التي أهدرتها أختها بغباء رفضها له
أدركت أن ياسين أختار أن يكون هو العريس المفروض في نظر حياة لا أن يكون قاسم
وكم أسعدها ذلك وجعلها أكثر فخرا بحبيبها!
مسحت عبراتها بسرعة وهي تشمخ بذقنها تخطو للداخل فينتبه الجميع لها أخيرا وهي تبتسم برقة تقول: " مرحبا جدي.. كيف حالك؟ "
ابتسم صالح بمودة وحنان وهو يفتح ذراعيه لها قائلا: " بخير يا حبيبة جدكِ "
شعرت ملك أنها كانت في حاجة ماسة لعناق أبوي كهذا، كانت تريد دعم من أي شخص في هذه اللحظة وكان الله رحيما بها فمنحها ما تمنت
ابتعدت عنه بعد لحظة تقول بهدوء: " ماذا يحدث؟ "
رد سليم: " لا شيء بنيتي "
إلتفتت تنظر لأبناء عمومتها فلاحظت الشفقة في عينيّ حمزة فأبتسمت له وهي تقول: " أشعر بأنكم تريدون الإيقاع بأحد في فخ ما "
تنهد حمزة يقول بإحباط شديد: " يبدو أننا فشلنا في ذلك "
اتسعت إبتسامتها بشقاوة محببة طفولية وهي ترد عليه: " كم تدفع لي وأساعدكم في تحقيق مطلبكم؟ "
ابتسم حمزة رغما عنه وهو ينظر لعينيها اللتين كما يبدو أنهما بكيتا طويلا في وقت قريب كعادة حالها في الفترة الماضية: " ما تأمرين به ملك هانم "
اومأت ضاحكة تقول: " حسنا اتفقنا.. أخبرني في أي فخ تريدون الإيقاع بهذا الشخص؟ "
رد ببساطة: " فخ الزواج "
صفقت بيديها في جذل كالأطفال وهي تقول: " لدي شخص مناسب لهذا الفخ "
تدخل صالح يقول بمزاح: " إذن دِلينا عليه بسرعة "
نظرت إلى قاسم وهي تتقدم منه وبجرأة أمسكت يده وهي تجثو على الأرض على ركبة واحدة رافعة رأسها للأعلى تطالع عينيه الذاهلتين وهي تقول: " هل تقبل الزواج بي قاسم؟ "
جحظت عينيّ قاسم في صدمة وكأن أحدهم سكب عليه دلو من الماء المثلج فلم يستطع النطق بحرف
ترجته بدلال: " ها.. ما رأيك؟ صدقني لن تجد عروس جميلة، لطيفة، عاقلة مثلي "
رمش لوهلة وهو يكرر كلمة قالتها في نفسه بتعجب
هل قالت عاقلة؟!
متى تعقلت ملك من الأساس؟ ألم تولد مجنونة متهورة بالفطرة؟
شعر في تلك اللحظة بأنه يريد أن يضحك من كل قلبه على جنونها
أما حياة فشعرت بالغيرة الحارقة على قاسم والغيظ من أختها حتى تمنت لو تجرها من شعرها بعيدا عنه
تنهد بعمق وهو يرفعها عن الأرض قائلا بهمس حاني: " هل جننتِ يا ملاك؟ لستِ لي ولا أنا لكِ "
ردت عليه بهمس مماثل: " الغبية التي تحبها تكاد تحترق من الغيرة الآن.. (ثم تابعت بسخرية طفيفة) والبطل الذي أحبه يكاد يصفعني اللحظة وكلاهما غبيان يستحقان ما يشعران به "
عبس قاسم في وجهها وهو يتهكم بالقول: " وأنتِ ما شاء الله عليكِ قنبلة ذكاء متحركة "
غمزت له بطرف عينها بشقاوة وهي تسر إليه بالقول: " بالطبع وسأثبت لك ذلك حالا حينما تجدني أحصل على ما أريد بأقل جهد.. راقبني "
إلتفتت ملك وقد تبدلت ملامحها فجأة إلى البؤس وهي تتمتم: " لم أتخيل للحظة أن أكون سيئة لهذه الدرجة التي تجعل ابن عمي يرفضني "
ناكفها صالح: " أوَ لم تجدي غير قاسم يا ملاك؟ "
تنهدت بحزن وهي تقول: " ظننته سيجبر بخاطري الذي كسره أخاه برفضه لي "
شهق ياسين بذهول وهو يرد مشيرا إلى نفسه: " أنا! متى فعلت هذا؟ "
نظرت له بأسى وهي تقول: " أوَ لم تفعل؟ "
رد على الفور ودون تفكير: " لا طبعا.. كيف أرفضكِ هل أنا مجنون؟ "
رمشت بعينيها قليلا وهي تناظره برقة قائلة: " وماذا تنتظر إذن؟ "
قطب بغباء يقول: " ها! ماذا يفترض بي أن أفعل؟ "
ابتسمت بخجل وهي تقول مشيحة بوجهها عنه في حياء: " أطلبني للزواج من جدي "
فغر فاهه بذهول قبل أن يقول بشك: " حقا يا ملاك! "
اومأت وهي على نفس حالتها: " نعم "
دون تردد كان يتقدم من جده قائلا بحماس: " زوجني ملاك يا جدي "
انفجر الجميع في الضحك عدا قاسم الذي ابتسم إبتسامة صغيرة وحياة التي أخذت تنظر إلى أختها في ذهول وهي لا تكاد تفهم شيء مما يحدث
رد عبد الرحمن متهكما: " كنت تلعب منذ قليل دور البطل "
رد ياسين ببساطة: " ومن قال أنني أحب الأبطال؟ أنا شاب عادي ولا أفقه شيئا في مثل هذه الأمور "
قطب عبد الرحمن يرد: " كم وددت لو حرمتك منها لكن... (نظر إلى ملك التي لازالت تتشح بالسواد منذ علمت بخبر موت الدكتور مختار ثم تابع) لكني موافق.. لأجلها هي "
كاد ياسين يقفز من الفرح وهو يقول: " كم أحبك يا جدي "
إلتفتت ملك برأسها إلى قاسم تبتسم له بانتصار فأومأ لها بهزة بسيطة من رأسه وأبتسم لها بحنان وهو يقول: " ولتكن أول مباركة لكما مني.. (ثم أقترب من ياسين وضمه بمحبة وهو يتابع حديثه) مبارك أخي "
طالعه ياسين بأسى فربت قاسم على كتفه قبل أن يهمس له: " ليسعد أحدنا في حياته على الأقل.. حافظ عليها.. ملاك أصبحت أمانة عندك منذ اللحظة يا أخي فكن على قدر المسؤولية "
اومأ ياسين برأسه دون تعقيب وهو يشعر بالقهر والحرقة على أخيه
التفت قاسم متقدما من ملك باسما وهو يقول: " مبارك عليكِ يا ملاك.. ربحتِ يا فتاة "
ابتسمت بشقاوة وهي ترد: " نعم ربحت.. كانت من حظي الجائزة الكبرى "
توالت عليهما المباركات من الجميع بينما قاسم لم ينس أن ينظر إلى عينيّ حياة مباشرة وهو يخبرها بوضوح عن طريق نظراته أنها هذه المرة لم تكتفي بجرح قلبه فقط بل غرست سِكينها الثلم في صميم روحه حتى تركته من خلفها يلفظ آخر أنفاسه دون أن ترحمه كعادتها
خرج قاسم من المجلس يشعر بأن كل ما فيه ينزف خاصة كبريائه الذي أراقته حياة برفضها المتعنت الغبي
أقسم بداخله ومن صميم قهره أن يرد لها تلك الضربة حتى وإن كان فيها موته نهائيا
نعم سيتألم لألمها ويتوجع حزنا عليها لكنه لن يتراجع، تحتاج لضربة قوية تخرجها من ظلام جُبها الذي تغرق فيه بدون مقاومة وهو يعلم جيدا كيف سيوجه ضربته لها
لقد خسر كل شيء وأنتهى الأمر لذا سيفعلها وليكن ما سيكون!..

انتهى الفصل، واتمنى أن أكون وفِقت فيه وحظى على إعجابكم…


Hend fayed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس