|| الفصل الأول ||
** كانت ترتب الفراش وهي تدندن بخفوت وعلى ثغرها ترتسم ابتسامة تعبر عن سعادتها الغامرة، أما روحها فكانت تتعانق مع السحاب من شدة فرحها وكيف لا تكن كذلك وهي تمتلك أكثر زوج محب عطوف في العالم وطفلين من أجمل الأطفال الذين قد رأتهم في حياتها
وفجأة انفتح الباب بقوة واندفع الصغير راكضاً إليها وهو يصرخ بخوف شديد " يا أمي انجديني "
فتحت حبيبة ذراعيها له وما إن وصل إليها حتى ضمته بحنان إلى صدرها وقالت " مِمَن حبيبي؟ "
رمش الصغير بتوتر وهو يفسر فعلته دون إنتظار سؤال أمه " لقد جرحت ريحانة وحينما رأى أخي الدماء التي تغطيها ب... بكى كثيرا "
قطبت حبيبة دون تعقيب بينما قال هو بعد أن لمح العتاب الصامت في عيني أمه " والله لم أتعمد ذلك يا أمي.. أنا طلبت منه أن أمتطيها لكنه رفض ف... "
سكت وهو يشعر بالخزي من فعلته فربتت حبيبة على كتفه وهي تقول " أكمل حديثك حبيبي أنا أسمعك "
ازدرد ريقه بإرتباك قبل أن يتكلم بخفوت: " فأنتظرت حتى خرج من الدار مع قاسم ثم... ثم امتطيتها ولأنني لا أعرف كيف أتعامل معها وهي لم تتقبل أن اقترب منها فقد غضبت وضربتها بالسوط فجُرِحَت "
فغرت حبيبة فاهها بذهول وهي تطالع ابنها متمتمة بدون شعور " ضربتها بالسوط؟ كيف استطعت فعلها يا زيد؟ "
أطرق الصغير رأسه وهو يزم شفتيه بقوة بينما تابعت هي بأسى: " ما فعلته بريحانة خطأ كبير سيجعله يخاصمك "
شهق زيد باكياً وهو يقول: " ألن... ألن يسامحني أبداً؟ "
ربتت حبيبة على كتفه بحنان وهي تقول " بلى سيفعل، لكنه الآن سيكون غاضبا منك "
أجهش زيد في البكاء بشدة وهو يقول " لكن... لكنه قال أنه لن يسامحني أبدًا.. والله يا ماما لم أقصد أن أؤذي ريحانة "
قبل أن تتكلم حبيبة رأت الآخر يندفع إلى الغرفة بملامح متصلبة والغضب يشع من نظراته التي يوجهها إلى زيد رغم أن عينيه تؤكدان صحة قول الأخير بأنه بكى كثيرًا، أما زيد أمام تلك النظرات الحادة من أخيه فلم يستطع إلا الاختباء خلف ظهر أمه وهو يتشبث بثوبها بشدة بينما يوجه النظرات الآسفة إلى أخيه.. يرجوه الصفح والعفو دون كلام لم يجد له سبيل بينهما في تلك اللحظة الحرجة
ابتسمت حبيبة بحنان وهي تفتح له ذراعيها في دعوة صامتة حتى يقترب منها لكنه بعناد أشاح بوجهه عنها وهو يقول بصوت متشنج " ابنك المدلل أذى فرسي في غيابي "
مالت نظرات حبيبة بأسى لحال الفرس المسكينة وهي ترد بمهادنة " أخوك لم يتعمد ايذائها يا حبيبي.. هو أراد امتطائها فحسب "
صرخ يوسف بقوة " لم يكن عليه الإقتراب منها.. هو يعلم كما الجميع أن ريحانة لا تتقبل غيري.. إنها ملكي وحدي فبأي حق اقترب منها من الأساس؟ "
حاولت حبيبة أن تقترب منه لكن زيد ظل متشبثا بثوبها يرفض أن تتركه فتنهدت تقول " أخبرني أولاً كيف حالها الآن؟ "
رفع يوسف رأسه باعتداد رغم نظرة اللوم التي وجهها إلى أخيه قبل أن يرد على أمه " ماذا تظنين أمي؟ بالتأكيد بخير رغم الجروح العديدة التي تسبب فيها السوط الغليظ بفضل ابنك لكنها بخير أو هكذا ستكون قريباً "
ابتسمت حبيبة بحنان عذب تقول " ألن تقترب من ماما وتمنحها قبلة الصباح أم ماذا؟ "
حينما ظل على جموده وتجاهله لها ناكفته هي بطفولية لذيذة يفقد أمامها كل غضبه وحنقه " هل ستعاقبني معه على ذنب ليس لي دخل فيه؟ ظننت أن والدك علمك سمات العدل "
رمش لبرهة قبل أن يتقدم منها مطرق الرأس بانكسار آلم قلبها على صغيرها فتراجع زيد للخلف خطوة وترك ثوبها بينما هي خفضت رأسها قليلاً فقبل يوسف جبينها وهو يقول " آسف أمي.. لم أقصد أن ازعجك مني "
ابتسمت حبيبة بمحبة خاصة وهي تقول " هل لو طلبت منك أن تسامح أخاك لأجل خاطري ستفعل؟ "
ران الرفض في نظراته وهو يقول بصوت حمل الغضب وغصة البكاء " لقد... لقد ضربها حتى جرحها وأدماها.. كيف اسامحه على هذا؟ "
انتفض بين ذراعيها وقد هزته موجة بكاء عنيفة كان يكبتها ببسالة بينما يضيف " هل لأنها مخلوق ضعيف لا تستطيع النطق والشكوى بما يؤلمها أو الدفاع عن نفسها مثلنا يعطيه هذا الحق حتى يتجبر عليها؟ هذا ظلم "
وفي لحظة التالية كان يبتعد عنها وهو يهتف بقهر من الغضب الذي يشعر به " لن أسامحك يا زيد على ما فعلته بفرسي.. ظننتك موضع ثقتي وسندا لي في غيابي.. ظننت أنك ستحمي ممتلكاتي من أي شخص يحاول أن يقترب منها لكنني لم أتخيل أن تكون أنت من عليّ حماية ممتلكاتي منه "
ران على حبيبة البؤس وهي ترى الصدع الذي حدث بين ولديها فقالت بعد لحظات بمهادنة في محاولة لحل الأمر " نعم هو أخطئ لكنه نادم على ما فعل ويريد أن يعتذر لك وأيضًا سيعدك بألا يكررها ثانية.. سامح أخاك تلك المرة فقط يا صغيري "
بعناد وغضب متفاقم كان يوسف يرد " لأنه أخي ما كان عليه أن يؤذي ريحانة.. أنا لن اسامحه أبداً ومهما فعل "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه بينما زيد عاد إلى البكاء وهو يقول بنبرة آسفة حزينة " يا إلهي! ماذا فعلت أنا بغبائي؟ والله لم أقصد أن يحدث كل هذا كنت غاضباً من رفضها لي فحسب.. أنا آسف والله آسف يا ماما "
ضمته حبيبة إلى صدرها وهي تقول بأسى " لا تبك يا حبيبي.. ما فعلته كان خطأ لكن أخاك سيغفره لك فقط ككل مرة.. يوسف قلبه حنون ويحبك كثيرا.. دعه حتى يهدأ الآن وبعدها سنحاول معاً أن نسترضيه من جديد.. اتفقنا "
هز زيد رأسه بأمل قبل أن تلتمع في ذهنه فكرة ما فأبتسم بحماس واستأذن أمه خارجا من جناح والديه وهو يهرول بسرعة تجاه البوابة الخارجية للدار
***
بعد عدة دقائق / في الأسفل
كانت الدار خالية من رجالها على نحو مفاجئ بعدما خرج الحاج عبد الرحمن كبير العائلة بصحبة ثلاثة من أبنائه _خالد، سليم، مختار_ منذ الصباح الباكر لحضور جلسة صلح ستعقد للفض بين نزاع كبير حدث بين عائلتين على قطعة أرض
أما الآخرين _محمد، محمود_ فقد خرجا منذ ساعة متوجهان إلى المزرعة الخاصة بالخيول والتي تنتمي ملكيتها للعائلة
كانت الحديقة الخلفية للدار مقتصرة على إسطبل صغير خاص _بريحانة_ بجانب أنها مهيئة لتكون مناسبة للهو ولعب أطفال العائلة لكنها خلت من الجميع خوفاً من إثارة غضب ابن عمهم خاصة بعد العراك الحاد الذي دار بينه وبين أخيه لأجل فرسه المجروحة
في تلك الأثناء كان يوسف يجلس على الأرض رافعا ركبتيه ضامهما إلى صدره ومستندا بظهره على الحاجز الخشبي من خلفه حيث تقبع ريحانة ومن جوارها جواد آخر بني اللون ملتصقا بها وكأنه يواسيها بطريقته
كان يشهق بين الفينة والأخرى في بكائه ونشيجه المكتوم يكاد يفتك بروحه المقهورة مما لحق بفرسه الأثيرة من أذى
كان يتحدث معهما وكأنهما من البشر ويفهمان ما يقول " إنه لم يتعمد ايذائك يا ريحانة.. زيد يغضب سريعاً ويتصرف بدون تفكير لكنه يحبك جداً وهو نادم على تصرفه الخاطئ معك.. سامحيه أرجوك لأنني لن أفعل ومن الظلم أن نعاقبه كلانا بالخصام... "
قطع استرساله في الكلام فجأة وهو يهب واقفا على قدميه بينما يقول بحماس " سوف أذهب الى عمي محمود في المزرعة وأطلب منه أن يأتي حالاً لرؤيتك حتى يداويك بنفسه "
نظر لها مبتسماً وهو يمسح دموعه بظهر كفه بينما يربت على رأسها بيده الأخرى وهو يقول " لن اتأخر عليكِ كثيراً يا ريحانتي (ثم التفت إلى الجواد الآخر وربت على رأسه أيضا وهو يحدثه) وأنت أهتم بها في غيابي حتى أعود إليكما بعد قليل "
انصرف بعدها متعجلا حتى يلحق بعمه في المزرعة التي لا تبعد كثيرا عن الدار، كان يركض بسرعة وحماس وفي داخله رغبة قوية بألا يتأخر على فرسه فيكفي ما نزفته من دماء وما تعانيه من جروح بسبب ما فعله أخاه المدلل بها
بعد مرور ما يقارب النصف ساعة كان قد وصل أخيراً إلى المزرعة، توقف للحظة أمام البوابة الضخمة يلتقط أنفاسه قبل أن يدلف للداخل، كان سعيداً بوصوله السريع وقبل أن يتحرك من مكانه وصله صوت طلق ناري جعل جسده يرتجف فزعاً ليدرك في لحظة أن الصوت قريب جداً
صرخ حينها بهلع " الصوت من الداخل.. من المزرعة.. يارب سلم "
راعه اختفاء الحارسين من أمام البوابة فتوجه إليها ودفعها بيديه فانزاحت أمامه مفتوحة على مصراعيها فدخل مهرولا تسبقه أنفاسه المضطربة كجسده وما هي إلا بضعة خطوات حتى شلت قدميه وتوقفت تماماً عن الحركة وهو يرى أمامه عدد كبير من الرجال الملثمين يحملون بين أيديهم أسلحة نارية ثقيلة
رفع قبضته سريعا يضعها على فمه ليكتم شهقته بينما عينيه تنتقلان من هؤلاء الرجال الى الناحية الأخرى حيث اثنين آخرين من هؤلاء الملثمين كل واحد منهما يمسك أحد عميه محمد، محمود بطريقه مهينة
فتح فمه ليتكلم لكنه لم يجد القدرة على إخراج حرف واحد وما جعل عينيه تتسعان ذعرا هو رؤية أخيه مقيد المعصمين واقفاً باستكانة أمام أحد الرجال الذي يوجه سلاحه إلى منتصف جبهته، حينها صرخ بذهول مضطرب من الوضع " لقد تركتك في الدار "
رفع زيد رأسه بلهفة حينما سمع صوت أخاه ونظر إليه دامع العينين وهو يرد بلهفة " جئت من أجل ريحانة.. أردت أن أحضر معي طبيب المزرعة ليعالجها حتى تشفى وتسامحني "
رفع يوسف سبابته يشير إلى الرجال الغرباء الملثمين وهو يحدث عميه " من هؤلاء؟ وكيف... كيف يتجرأن عليكم بهذه الطريقة؟ "
لم يرد أياً منهما في حين لوح أحد الملثمين بسلاحه في وجهه وهو يقول بغلظة " تعال هنا يا فتى "
رغم صعوبة الموقف وادراكه للخطر المحيط بهم إلا أن روحه الأبية التي تربى عليها رفضت ما يحدث فهتف بقوة " لن يرحمكم جدي أيها الأوغاد "
ضحك أحدهم بخشونة وهو يقول بتهكم " هذا إن استطاع جدك الوصول إلينا وأنتم لازلتم على قيد الحياة "
هزته الكلمة بشدة وتركته ورقة جافة في مهب الريح
قيد الحياة!..
هل هذه هي النهاية؟
هل حان الأجل وخط القدر كلمته؟
هل سيموت قبل أن يداوي فرسه الجريحة ويسامح أخاه؟
حاول التفكير في مخرج لتلك الورطة التي وقعوا فيها لكن عقله توقف فجأة عن العمل وتركه وحده في مواجهتهم، كان لا يزال في أفكاره وحيرته وفزعه مما يحدث حينما سمع عمه محمود يوجه حديثه إلى أحد الرجال والذي بدى أنه كبيرهم " أرجوك دعهما يرحلان فلا ذنب لهما فيما بيننا "
رد الرجل المعنيّ ببرود " لم نطلب منهما المجيء من البداية ولكن طالما حضرا فلا ضرر من ذلك فلن يختلف مصيرهما عنكما (ثم تابع متهكما) هذا عقابا لغبائهما "
صرخ محمد بقهر نضح به صوته رغماً عنه " هذا ظلم "
ضحك الرجل بخشونة ساخراً " وهل تريدنا أن نتعامل معكم بالعدل وأنتم لا تعرفون السبيل إليه؟ يؤسفني أن أخبرك أن ما تطلبه هو الظلم بعينه "
نكس محمد رأسه وسكت مجبراً بينما قال محمود بمهادنة " لكم عندنا ثار وجئتم لتأخذوه وهذا حقكم طبعاً لكن كما تعرف ثأركم لا يجوز من طفلين فهما لا دخل لهما فيما حدث بيننا ونحن جميعا رجال عقلاء بالطبع لن نضع الذنب على طفلين صغيرين.. ما لكم عندنا هو دم رجلين مقابل من قُتِلا من عندكم وها أنا وأخي أمامكم فأفعلوا بنا ما يحلوا لكم لكن أتركهما يرحلان "
سكت الرجل لحظات قليلة قبل أن يشيح بوجهه ويسلط نظراته على الصبيين وهو يقول " لكني أفكر في شيء آخر.. اممم مثلا لو أخذت بثأري منهما سيكون ذلك كافياً ليطفئ نيران غلي وحقدي عليكم "
صرخ محمد بإنفعال وهو يشعر بانفلات اعصابه بينما يحاول دفع الرجل الممسك به " أيها الحقير الجبان هل تريد التجبر على طفلين صغيرين؟ ألا يكفي أنك لم تستطع مواجهتنا كالرجال فأتيت تحتمي خلف أمثالك من أشباه الرجال؟ "
كان الرد الوحيد على كلامه هو لكمة عنيفة تلقاها من ذلك الرجل الذي وجه له كلامه لكنه رغم ذلك لم يتراجع بل تابع " ألا يكفي أنك اتجهت إلى الخديعة معنا بعدما يأست من الإيقاع بنا فأتيتنا متخفيا كاللصوص وقطاع الطرق.. ألا يدل ذلك على أنك كنت ولازلت مجرد جبان يا فؤاد؟ "
تزامنت قبضة فؤاد التي انفجرت من جديد في وجه محمد مع صوته وهو يصرخ بغضب " أخرس أيها الحقير "
صرخ محمد في المقابل بغل ودون تفكير وهو يبصق الدماء من فمه " الحقير هو أنت ولا سواك يا فؤاد.. الحقير هو من يظن نفسه صاحب حق وهو في الأصل مجرد جرذ اعتاد أن يحيا على ظلم الناس والتجبر عليهم.. الحقير هو من قتل أخويه طمعا فيهما وألصق التهمة والذنب فينا "
مع نهاية جملة محمد علت الهمهمات بين رجال فؤاد وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بحيرة جعلت الأخير يقطب بغضب دون أن يفطن أحد إلى أن مقلتيه غامتا بالخوف من انكشاف ما سعى لسنوات في اخفائه
كان يفكر في حل سريع في حين علا صوت أحد الرجال يقول " ما هذا الكلام الذي يقوله ذلك الرجل يا فؤاد؟ "
أخفى فؤاد توتره خلف قناع من الغضب الزائف وهو يصيح " هل يعقل أن تصدق ما يقوله ذلك الحقير يا عمران؟ إنه يحاول أن يجد لنفسه طريقة للخلاص من الموت "
لم يبد أن عمران أقتنع برد فؤاد فسأله بإقتضاب من جديد " لكنه يبدو واثقاً مما يقول وكأن لديه دليل "
ارتبك فؤاد ولم يسعفه عقله في إيجاد ما يرد به بينما اقتنص محمد الفرصة ليصيح بتشفي " بالطبع عندي وهل كنت لأتكلم في أمر خطير كهذا دون أن يكون لدي دليل قاطع "
قطب آخر باستنكار يسأله " ولكن إن كان ما تقوله صحيح فلماذا لم تظهر دليلك هذا عندما أعلن فؤاد أن قاتل أخويه من عائلة الجبالي وأراد الثأر منكم منذ سنوات؟ "
رد محمد بغل مكبوت " ماذا تظن أنت؟ بالطبع لو كان ذلك الدليل بحوزتي وقتها لكنت فضحته وأخبرت الجميع من يكون القاتل الحقيقي لكني لم اعثر على ذلك الدليل إلا منذ بضعة أشهر قليلة بمساعدة خاصة ولقد ذهبت إليه في داره بنفسي وأخبرته أنني سأكشفه أمام أهل المدينة كلها حتى نرفع عنا ذنب دم أخويه فكان رده هو تهديد دنئ مثله "
حينما أراد فؤاد الرد سبقه رجل آخر يقول " أنا رأيتك منذ أيام خارجاً من دار الناصر بالفعل "
عبس عمران وهو يقول " هل ما يقوله ذلك الرجل صحيح يا فؤاد؟ إذن ما الحاجة لوجودنا هنا؟ "
قبض فؤاد على كفيه إلى جانبيه يخفي رجفة الخوف والتوتر التي سرت في جسده بينما يهتف " هل ستُكذب ابن عمك وتصدق ذلك الحقير يا عمران؟ "
رد عمران بنفس العبوس " الحق أحق أن يتبع يا ابن عمي "
ظل فؤاد على توتره الخفي للحظات قبل أن تلتمع عينيه بالمكر وهو يقول " وإن كان ما يقوله صحيح فأين هو ذلك الدليل الذي يتحدث عنه؟ "
تمتم محمد بقهر وغل " أنت تعلم أين هو؟ فأنت من سرقت ذلك التسجيل من الأساس أم تراك ستنكر ذلك أيضاً؟ "
شعر فؤاد بالراحة حينما تأكد أن محمد لم يوصله عقله لأن يقوم بنسخ التسجيل للاحتياط مما جعله يتحدث بثقه عادت له وهو يقول " أرأيتم أنه يكذب؟ لم يكن لديه أي دليل منذ البداية وأراد أن يعبث بعقولكم ويصرفكم عن نيل حقكم وثأركم منهم لكنه بالطبع لا يعلم من هم رجال عائلة الناصر "
حينما رأى التحفز عاد إلى رجاله عدا عمران والذي لم يستطع منع نظرة الخيبة وقلة الحيلة التي رمق محمد بها زادت ثقته وهو يجذب محمد من مقدمة شعره بينما يغمغم بغل من بين أسنانه " أرأيت أنك خاسرا في كلا الحالتين وبإشارة صغيرة مني لهم سأجعلهم يفتكون بك دون رحمة؟ "
زمجر محمد بغضب وهو يحاول التحرر من ذلك الرجل الذي يمسك به بينما يقول " حييت عمرك كله وضيع يا فؤاد ولا عجب في ذلك فهذا طبعك وما تربيت عليه.. ما أتعجب منه حقاً هو حال هؤلاء الجراذ الذين سلموك عقولهم لتشكلها على هواك وكأنهم مسلوبي الإرادة "
ابتسم فؤاد بمكر وهو يغمغم بنفس الخفوت " لتحيا ملكاً عليك أن تجد لنفسك عبيداً يطيعونك دون نقاش وأنا اخترتهم حمقى حتى لا يعنيني كثرة سؤالهم "
بصق محمد في وجهه وهو يصرخ بسخط " أيها القذر المهووس بالطمع والسلطة أ نسيت أنك أيضاً عبدا وأن المَلك وحده هو الله كما المُلك له؟ "
رد فؤاد تجسد في لطمة قوية منه شجت شفتي محمد وصرخ على إثرها إبنيّ أخاه خوفاً وفزعا
أما محمود فكان يشعر بالضعف وخوار القوى بجانب أنه لم يستطع التفوه بكلمة واحدة وكأنه أخرس وبداخله يقين ترسخ من العدم بأن هذه هي النهاية لا محالة
صاح زيد فجأة بهلع " شفتيك تنزفان يا عمي "
طمأنه محمد بلطف قدر ما إستطاع " لا تخف يا بني إنه جرح بسيط "
هز زيد رأسه برعب واجهش فجأة في البكاء وهو يقول " الدم.. أنا أقصد الدم.. يوسف يخاف رؤية الدماء، لقد رأى منها الكثير اليوم "
لم تمض لحظة إلا وعلا نشيج يوسف وهو يضع كفيه على وجهه بينما يتمتم برعب " من ينزف يموت وأنا لا أريدك أن تموت يا عمي.. أرجوك لا تمُت "
رد محمود بحنان " لقد كبرت على هذا الخوف يا بني إنه مجرد جرح لا يميت لا تخف "
أزاح كفيه عن وجهه وقال بتقطع من بين شهقات بكائه " ح... حقاً عمي؟ "
اومأ له محمود دون أن يرد بينما قال زيد " هل سيقتلوننا يا عمي؟ "
قطب محمود بألم وهو يرد " إن شاء الله لن يمسكما أذى وهذا جلّ ما أتمناه اللحظة "
أشار زيد إلى أخيه أن يقترب وهو يبكي ففعل الآخر مهرولا إليه يحتضنه بقوة وهو يربت على رأسه قائلاً بحنان " لا تبكي.. سنكون بخير "
شهق زيد يقول " لكنني خائف "
ربت يوسف على رأسه من جديد وقال بصلابة " لا تخف يا أخي أنا معك.. لن أدع أذى يصيبك "
غمر زيد رأسه في صدر أخيه متنهدا براحة لأنه ليس وحيدا، لأن توأمه إلى جواره ومحيط به ولن يدع أحد يمسه بسوء
صاح أحد الرجال فجأة " بما تأمرنا يا كبير؟ "
تلاقت نظرات فؤاد ومحمد للحظات قصيرة قبل أن يقطعها الأول وهو يصيح بنبرة مشبعة بالغل " انتهوا منهم "
قطب عمران يقول بحذر " والصبيين؟ "
ارتجف زيد خوفاً فصرخ يوسف وهو يشدد عليه بين ذراعيه الفتيتين " إياك أن تفكر بالاقتراب من أخي.. أقسم بالله سأقتلك "
رد فؤاد بسخرية " حقاً وكيف ستقتلني؟ أريد أن أعرف فقط فقد أثرت اهتمامي "
قطب يوسف بغضب يفوق سنوات عمره الخمسة عشر وهو يرد " بيدي المجردتين أيها الحقير الجبان أم تظنني مثلك اتخفى خلف اللثام واحتمي وراء ظهور الرجال؟ أنا لست خائفا منك "
رغم الغضب الذي دب في داخله من تلك الإهانة التي تلقاها من صبي صغير إلا إنه لم يستطع أن يخفي إعجابه بشجاعته الفتية ولكن كان لزاما أن يقتص حقه منه فهو فؤاد الناصر كيف يهينه طفل صغير أمام رجاله وينتقص من قدره؟
كانوا جميعا غافلين عن تلك العينين المتسعتين بصدمة وهما تطالعان ما يحدث بدون تصديق وكأنه فجأة انفصل عن الواقع، عقله تجمد فجأة فلم يستطع فعل شيء وظل في مكانه متخفيا يلاحق ما يدور بينهم ويسجله في ذاكرته
بعد لحظات أخرى قال فؤاد ببرود قاس " العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.. اثنان مقابل اثنان "
أشار بعدها إلى رجاله وما هي إلا لحظة وكان جسد محمد ومحمود يهويان على الأرض مدرجان في دمائهما بدون أن يملكا حتى الحق في المقاومة أو الدفاع عن نفسيهما
صرخ زيد وهو يهوي على ركبتيه أرضاً أمام جسدي عميه يناظرهما بهلع " لاااا.. لا تموتا "
في تلك اللحظة أشار فؤاد خفيه إلى أحد رجاله بطريقة ذات معنى وهو يقول " هيا نحن.. وأنت تأكد من أنهما فارقا الحياة ولا تنس أن تتأكد من أن الصبيين لن يفتحا فاهيهما بكلمة "
اومأ الرجل مبتسما بمكر وقد وصله أمر سيده وحينما سمع هدير انطلاق السيارات إلتفت إلى زيد فوجده على حالته يبكي ويصرخ بينما يوسف كان جامداً في مكانه لا يحرك ساكناً وقبل أن يعي أن أجله قد حان ويطلب أمنيته الأخيرة كان ذلك الملثم يرفع سلاحه مصوبا إياه تجاهه لكن في لحظة خاطفة كان آخر يندفع أمام يوسف خارجا من مخبأه ليحميه من مصير لم يخطه القدر له فتكون تلك الطلقة الغادرة من نصيبه هو
وخلال لحظات معدودة سقط يوسف على الأرض مغشيا عليه بعدما فقد كل ذرات طاقته وقدرته على تحمل رؤية المزيد من الدماء وقد كان سبقه إلى الأرض جسد آخر لصبي غريب
حينها خرس زيد تماماً وهو يرى أمامه ثلاثة أجساد تغرق في بركة كبيرة من الدماء وإلى جانبهم أخاه
كان جاحظ العينين جامد العقل، لم يستطع لحظتها التمييز بين جسدي الصبيين وتحديد أيهما قد أصيب ودون وعي منه أخذ لسانه يردد " أنا السبب.. لو لم أؤذي ريحانة لما كان جاء إلى المزرعة.. أنا السبب.. أنا من قتله "
كان زيد يشعر بالضياع والتيه، لا يعرف ماذا حدث بالضبط فصرخ بعجر وهو يهز جسد أخاه: " لا.. لا تمُت يا أخي.. أرجوك أبقى معي أرجوك.. بالله عليك لا تتركني.. رد عليّ (وضع رأسه على صدر أخيه وهو يتمتم بنشيج حاد) رد عليّ يا توأمي.. رد عليّ "**
،،،
*كعادته كلما أعاد عقله الباطن سرد تفاصيل ذاك اليوم البائس عليه خلال كوابيسه التي لا تفارقه وبأبشع الصور كان يحاول فتح فمه كي يرد على زيد ويطمئنه على أن أخاه بخير وتلك الطلقة لم تصبه لأنه هو من تلقاها بدلا منه لكنه لم يستطع وهو يشعر بأن هناك ما يكبل لسانه ويخرسه
يظن في كل مرة يتذكر تلك التفاصيل بأن باستطاعته الرد على هذيان زيد كما يستطيع الأخير سماعه لكنه يكتشف في لحظة ما بأنه هو من يهذي داخل كابوسي طويل لا يكاد يفارق نومه في أي ليلة
كان كمن يصارع السقوط في لجة سوداء عميقة تجذبه للأسفل بقوة بينما هو يتشبث بما يملك من قوة لكي يظل على السطح
غزا العرق جسده بالكامل وهو يحرك ذراعيه بعنف دافعا عنه شيء يجثم بثقله على صدره ويمنع الهواء من الوصول إلى رئتيه بسلام
بدأت أنفاسه تتعالى وتتهدج بشكل مؤلم، كلما حاول فتح عينيه تعيد تلك الأيادي الخفية سحبه نحوها بقوة أكبر من قدرته فيسقط أسيرها من جديد
وكلما حاول مقاومتها والافلات من بين براثنها تعيد التشبث به فلا يجد منها مفر وهي تطبق عليه من كل إتجاه وتحكم من حوله الحصار
أخذ يركض هنا وهناك يبحث عن منفذ دون جدوى، يبحث عمن يساعده في الهروب من ذاك الجحيم فلا يجد والأشباح السوداء تحيط به من كل إتجاه
كلما اصطدم بواحد منها يدفعه بغلظة نحو البقية فيقل الهواء أكثر من حوله ويرتفع معدل البرودة فيرتجف جسده خوفاً وبردا وكأنه أصبح هيكل خاوي من الداخل كما الخارج
سكنه اليأس وهو يشعر بأنه سيظل محتجز في هذا المكان البارد الموحش بظلامه المخيف للأبد، لن يخرج منه ولن يرى النور من جديد
توقفت حياته عند هذا الحد وقد ظن بأنه أصبح أسيراً لتلك الأشباح القوية المخيفة فسكن جسده بتخاذل عن المقاومة
جلس بينهم أرضاً في جلسته الشهيرة والتي يلجأ إليها ليحتوي نفسه بنفسه كلما شعر بالخوف أو الضياع كمثل حالته الآن
جلس ضاما ركبتيه إلى صدره مطوقا إياهما بذراعيه المرتجفتين وهو ينظر إلى الأشباح السوداء التي تقترب منه ببطء، سلم أمره واستسلم إلى أن تلك الرصاصة الغادرة إن لم تكن قتلته فعلاً كما يظن فهو على كل حال هالك على أيدي تلك الأشباح البشعة
رآها تقترب منه فلم يتحرك!
عددها يتضاعف فلم يتأثر!
كان حقاً يشعر بالسكون في كل خلية أو عضلة من جسده إلا ذاك المسكين الصغير المرتجف بهلع بين جنبيه
سالت من عينه دمعة حارة وهو ينتظر لحظة أن يمتصوا منه روحه ويجردوا جسده من كل شعور كل يمتلكه يوماً
وحينما فعلوا وظن أن ذلك سيتبعه سكون في كل أوصاله ومفاصله كان مخطئ فها هو صغيره المسكين لازال يأنّ متألما متوجعا دون حول منه ولا قوة
سالت دموعه بغزارة تلك المرة وهو يشعر بالعجز والحسرة على ذاك الصغير المسكين
يريد الموت والخلاص عله يرتاح ويريحه من ظلم وشقاء ظل يتحمله لسنوات وسنوات، وكاد يصرخ من قهره وصميم وجعه ' أما آن لي أن أحظى بالقليل من السلام والراحة.. أما آن لقلبي العليل أن يشفى وتطيب أوجاعه؟ '
ومن صميم وجوف كآبة اليأس زارته طمأنينة الفرج
فجأة ومن بين الظلام المحيط رآها هناك تشق بنورها الوهاج صفوف تلك الأشباح وكأنها عين ماء وانفجرت من الأرض لتروي ظمأ عطشان في وسط صحراء جرداء
وقفت على مسافة منه تفتح له ذراعيها بترحيب جلي وابتسامتها الجميلة تنير له كل ظلام حوله
كانت سلطانة بهية بثوبها الأبيض الزاهي الملائكي الطلة الذي كانت ترفل فيه، كانت خيالية بالنسبة له فأخذ يحدق فيها ملء عينيه يتأكد من حقيقة وجودها بنقائها ونورها بين تلك الوحوش المخيفة دون أن تهابها
اتسعت ابتسامتها وكأنها تناديه فلم يجد السبيل لصدها أو تجاهلها وهب من جلسته على الأرض يحث الخطى تجاهها وهو ينظر تارة للأشباح المحيطة به خائف من أن تمنعه من الوصول إلي ذات النور البهي وتارة أخرى ينظر إليها ليتأكد من أنها لازالت هنا موجودة.. وتنتظره
حينما أيقن أن نورها جعل تلك الأشباح تتراجع عنه خوفاً منها هرع إليها مهرولا وهو لا يطيق صبرا ليلقي بنفسه بين ذراعيها
سبقه لسانه يناديها بلهفة تنبض بالأمل قبل أن يصل هو إليها ' أمي.. كنت أعلم أنكِ لن تتركيني وحدي ولن تسمحي لتلك الأشباح المخيفة بأذيتي '
وصل إليها أخيراً وألقى بنفسه بين ذراعيها الحنونتين وحضنها الدافئ فأكتنفه أخيراً السكون
سكون الطمأنينة والراحة والسلام لا سكون الوحشة والاستسلام الذي كان يعتريه من قبل
وهدأ الصغير المسكين فجأة
لم يعد يتألم أو يشكو من أوجاعه وعلة لازمته لسنوات ، لم يعد خائف أو يخشى الموت ولا الأشباح
زينت ثغره ابتسامة صغيرة وشفتيه تفرجان عن تنهيدة راحة طويلة وعميقة أخرجت معها كل شعور سيء كان يشعر به قبل وصول أمه
أمه؟!..
قطب بحيرة وهو يحرك رأسه يدفنها أكثر بين احضانها بينما عقله يومض بالتفكير فجأة بعد خمول طال
لماذا أمه قصيرة لهذا الحد وكأنها صبية صغيرة في طور مراهقتها؟
شهق بإدراك متأخر وهو يشعر بالغرابة لقد كان منحنيا لكي يتمكن من معانقتها كما يجب ولكي يتمكن من غمر نفسه بين ذراعيها
لقد كان هو من يغمرها بين أحضانه وليس العكس!
أبعد نفسه عنها ببطء تدريجيا حتى يتمكن من تأمل وجهها فلم تمانع هي
وقف على مسافة خطوة منها ينظر إلى ابتسامتها الجميلة التي لم تخبت وإلى ملامحها العذبة التي تفيض بالحنان دون أن تتبدل فيزهو قلبه الصغير المسكين بالخضرة بعد أن كان قد أصابه التيبس والذبول
كاد يبتسم فرحا بنجاته لكنه عاد يقطب من جديد بإرتباك وهو يدقق النظر في صاحبة الضياء الدافئ الآمن فهذه ليست أمه
في لحظة كان عقله يعقد مقارنة سريعة بين أمه وتلك التي تقف أمامه
أمه أطول وهذه قصيرة
أمه امرأة ناضجة أما هذه صبية
عينيّ أمه صافيتين كصفحة السماء أما هذه فعينيها محيطين لا قرار لهما
تراجع عنها بيأس وإحباط وهو يسألها ' من أنتِ؟ أنتِ لستِ أمي '
لم تخبت ابتسامتها رغم حديثه لكنها لم تعقب فسأل هو بأمل أن تكذبه ' أنتِ لستِ هي أليس كذلك؟ '
كان يعلم إجابة سؤاله منذ البداية لكنه تشبث بأمل كاذب في أن تكون هي، أن تخبره أنها أمه
لكنها لم تفعل
لم تمنحه الطمأنينة الواهية التي كان يرجوها بل ردت بصدق تفصح له عن هويتها ' نعم لست أمك.. أنا لست هي '
سألها بقنوط وعدائية نضحت بها نبرته رغما عنه وهو يشعر بنفسه يكاد يسقط في لُجة الضياع من جديد ' إذن من أنتِ؟ '
ردت عليه ببساطة وكأن اجابتها بديهية لا تحتاج لسؤال ' أنا سُلاف الفؤاد.. سُلاف فؤادك أنت.. إذا ما نظرت فيه وجدتني وإذا ما احتجت إليّ يوماً لا تكلف نفسك سوا النداء عليّ وحينها ستجدني '
أولته ظهرها وهمت بالرحيل فاستوقفها بلهفة ' بماذا أناديكِ إذا احتجتكِ؟ '
ضحكت برقة وهي تلتفت له برأسها تقول بصوت منغم حلو النبرة ' بما تريد وتحب يا غريب فأنا منك.. نبض يسكنك ويخفق به فؤادك '
اختفت فجأة كما ظهرت له فجأة، أخذ يصرخ ويصيح مناديا عليها ولكن.. دون جدوى*
وعلى أرض الواقع كان تخبطه فيما ومن حوله بلا فائدة وبينما تعاود الأشباح زحفها نحوه من جديد إذ بأذان الفجر يصدح فجأة من العدم فينتشله من الضياع المحيط به
صاحب ذلك طرقات خفيفة بعيدة على باب جناحه تلاها وقع أقدام كانت تقترب من غرفة نومه ثم من فراشه بهدوء حذر
كان يسمع كل هذا لكنه لا يستطيع التجاوب معه حتى شعر بعد لحظات بيد تهزه وصوت حنون يناديه بخفوت " صخر.. بني أستيقظ لقد أذَّن الفجر "
فتح عينيه بغتة وهو ينتفض جالساً شاهقا بقوة وكأن أحدهم كاد يسحب روحه منه
طالعه معتز بصمت وهو يتفحص هيئته التي اعتادها بعدما يوقظه من كل كابوس مُخيف يحلم به
شعره الناعم كان مشعث وغرته ساقطة على جبينه المكلل بالعرق الغزير كسائر جسده المرتجف بوضوح
ربت معتز على كتفه بلطف وهو يقول " أسرع صخر حتى نلحق وقتنا قبل أن تفوتنا صلاة الجماعة في المسجد "
وخرج بعدها دون أن يشير أو يعقب على حالة صخر فتنهد الأخير بكآبة وهو يتحرك بتثاقل وهمّ من الفراش متجها إلى الحمام لكي يتوضأ عله يجد في الصلاة ملاذاً ومخرجا كما أعتاد
،،،
بعد قليل / في المسجد
سجد وأطال السجود كعادته كلما أحتاج للشكوى أو الإفضاء بمكنونات فؤاده لبارئه لكن هذه المرة شعر بأنه مثقل بالهموم فلم يمكنه لسانه من الإفصاح عن شيء لذا نطق بتنهيدة حارة عميقة " رُحماك ربي.. وحدك أعلم بحالي وبما يسكن فؤادي "
***
صباحًا / في شقة مختار زين الدين
كانت تشعر بنظراته المسلطة عليها رغم أنها لم تنظر إليه لمرة واحدة مذ جلسوا على مائدة الإفطار
مرة تغص في الطعام فتسارع أمها بإعطائها كوب الماء دون تعقيب، ومرة ترتطم يدها بالطاولة دون وعي منها لشدة اضطرابها فتكتم آه الألم حتى لا تسترعي انتباه والديها لها، لتفاجئ في النهاية بكلامه العجيب الذي أشعرها بالريبة منه لأول مرة " ارفعي وجهكِ إليّ نبض.. أريد رؤية لون عينيكِ "
نظرت باستنكار إلى أمها التي رانت الحيرة عليها بينما قال مختار متدخلا " أنت تعرف أن عينيها زرقاوتين "
عبس وهو يرد " أعرف ورغم ذلك أريد رؤيتهما بوضوح (ثم وجه حديثه لنبض) نظرة واحدة إذا سمحتي يا نبض "
عادت تنظر إلى أمها بحيرة فأبتسمت الأخيرة تطمئنها لتفعل، فرمشت لوهلة بتوتر قبل أن ترفع وجهها دون أن تنظر إليه مباشرة وقالت بإرتباك " هكذا "
شدد على كلماته " لا.. قلت انظري إليّ "
رمشت من جديد وهي تشيح بوجهها عنه بإرتباك وهي تتورد بشدة لخجلها من غرابة طلبه فزفر هو بحنق قائلا " لن آكلكِ "
نهضت فجأة من مقعدها متمتمة بإرتباك وهي تغادر المائدة متجه إلى غرفتها " لا أدري ما بك اليوم؟ أنت تبدو غريبا وتخيفني "
بعدما اختفت نبض في غرفتها سأل مختار بحيرة حقيقية " ما بكَ يوسف؟ نبض محقة.. أنتَ تبدو غريبًا اليوم "
قطب يوسف مجيبا " لا أعرف عماه.. أنا أيضاً أشعر بأني غريب عن نفسي.. نمت واستيقظت على هذا الحال (زفر بعمق وهو يكمل) يبدو أن حالتي تلك تتعلق بكوابيسي المعتادة "
ربتت مريم على كتفه بحنان وهي تسأله بأسى " ألم تتخلص منها بعد؟ "
هز رأسه سلبا وهو يرد بتنهيد " لا يبدو لي منها خلاص "
ابتسمت بمرح وهي تقول مناكفة إياه " وما دخل لون عينيّ نبض بكوابيسك المعتادة؟ "
لم يجيبها وهو يفكر بأن ما يحدث معه أمر غريب فعلاً وخاصة في تلك المرات التي تترابط وتتشابه كوابيسه مع كوابيس صخر
شتم نفسه في سره بسبب الطلب المتهور الذي تفوه به قبل لحظات
ليته ما ألح على صخر حتى يخبره بالكابوس الذي رآه فجر اليوم، لكن لسوء حظه فقد استجاب له صخر للمرة الأولى وقص عليه ما رآه من مقتطفات الماضي والكابوس الذي لحق بكل هذا
لو لم يعرف بالطبع لما أثاره الأمر وجعله يطلب من نبض أن تنظر له ليتأكد من لون حدقتيها هل هما ذاتا زرقة قاتمة أم صافية؟
تنبه من أفكاره على صوت مريم تناكفه من جديد باسمة " يبدو أن كوابيسك أصبحت تأخذ منحدر آخر لا أظنه مخيف أو غير مرغوب فيه كما كانت في البداية أليس كذلك؟ "
رفع حاجبا بمكر يجاريها قائلا: " معك حق.. أظنها باتت مرغوبة بعدما احتلتها زرقاء العينين وسكنتها تماما "
ضحكت مريم وهي تغمز له بطرف عينها قائلة: " أظن الكوابيس ستتحول إلى أحلام وردية عما قريب "
رد لها غمزتها بمناكفة يقول " بالطبع.. كوني أكيدة من ذلك طالما سكنتها الأميرة ابنتكِ "
قطب مختار يقول بجدية مصطنعة " يبدو أنه عليّ الحذر على ابنتي منك منذ اليوم خاصة بعدما تحالفت معك الملكة بجلالة قدرها "
أمال رأسه متصنعا الأسى وهو يقول " ظننتك أنت من سيحرضني على اختراق كل الخطوط الحمراء لكي أحظى بقلب الأميرة "
رفع مختار حاجبيه ببرود مصطنع يقول " لا أسمح بهذا الانحلال في بيتي "
نهض من مقعده بهدوء وهو يتابع بمرح " لكن خارجه ربما.. تروقني الفكرة "
رفع يوسف حاجباً باستفزاز يقول " ألا ترى عماه أنك سرعان ما تغير مبدأك؟ "
ابتسم مختار بمكر يقول " أنا على أتم الاستعداد لتغييره طالما ستساعدني في التخلص من نبض "
نظر يوسف بطرف عينه لمريم قبل أن يعود ببصره إلى مختار قائلًا بمناكفة " قلبي يخبرني أن نواياك ليست بريئة تماما عماه "
ابتسم مختار يرد بمكر " بالطبع.. طالما تخص ملكتي ومالكة فؤادي فهي أبداً لا ولن تكون بريئة "
هتفت مريم بحرج " مختار! لا مزاح في هذا "
اتسعت ابتسامته بشقاوة وهو يقول " وأنا لا أمزح حبيبتي "
زفرت بغيظ وهي تتصنع الضيق لتخفي توردها من الخجل " بِتَ لا تطاق يا مختار.. أذهب إلى عملك أفضل "
حرك كتفيه بلامبالاة يقول " حسناً سأذهب حبيبتي لكنني سأعود فكوني في انتظاري "
قطبت بعبوس طفولي وهي ترد " لن انتظر أحد.. أنا أشعر بالإرهاق اليوم وسأنام باكراً "
ضحك مختار وهو يرفع حاجبا بمكر قائلا " اممم هكذا إذن (التفت إلى يوسف يكمل بمرح) هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل حتى أعود لملكتي المرهقة باكراً "
سحب يوسف كف مريم وقبلها سريعاً وهو يهمهم بالوداع ليترك الساحة خالية لمختار الذي مال يقبل وجنتها وهو يبتسم بمناكفة هامسا " حاولي ألا ترهقي نفسك حبيبتي حتى أعود ونتباحث سويا في سبب هذا الإرهاق "
أشاحت بوجهها عنه دون رد وهي تتصنع التأفف والضيق فكتم مختار ضحكته وهو يتخطاها حتى وصل إلى الباب حينها التفت لها من جديد يقول بخبث " هل تظنين أن سبب الإرهاق هذا ليلة أمس؟ "
صرخت بغيظ وهي تقذفه بتفاحة التقطتها من طبق الفاكهة على المائدة فتلقفها هو ببساطة دون أن تصيبه ثم قال بعدها باستفزاز " وأنا أيضا سأشتاق إليكِ.. انتظريني حبيبتي لن اتأخر عليكِ.. سلام "
خرج مختار وهو يأكل من التفاحة باستمتاع وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه بينما عقله يخبره بقناعة راسخة أن سعادته دائما وأبدًا تتعلق بوجود ملكته الحبيبة في عالمه وحياته
***
في مؤسسة الجبالي بالعاصمة
بعد إنتهاء اجتماع طويل دام لساعتين كاملتين كان كل واحد منهم يخرج بمشاعر مختلفة عن الآخر وإن كان يجمع بينهما شعور واحد وهو الإرهاق
خرجوا من غرفة الإجتماعات ويفترض بكل منهم التوجه إلى مكتبه إلا أنهم لم يفعلوا بل دلفوا جميعاً إلى مكتب زيد الذي ما إن وصل إلى كرسيه المريح حتى ارتمى عليه ملقيا ما بيده من أوراق على سطح مكتبه وهو يقول " لقد تعبت اليوم كثيراً "
زفر ياسين وهو يجلس على الأريكة الجلدية هاتفاً بنزق " العمل والعمل والمزيد من العمل.. ما هذه الحياة البائسة التي نحياها؟ "
ابتسم عاصم وهو يقول بمناكفة " أرى أن الحل الوحيد لتغيير مزاجك النزق هذا هو الزواج "
ابتسم ياسين ساخراً وهو يشير إلى حمزة بينما يقول " يبدو أن حلك مفعوله سلبي يا ابن عمي فنظرة واحدة لوجه أخيك العابس الذي تحدد عرسه بعد شهر تجعلني أجزم بأن الزواج ليس الحل المناسب للهروب من ضغط العمل "
كتم عاصم ضحكته وهو يرى كيف زم حمزة شفتيه بطريقة طفولية بينما يقول ببرود " وهل عليّ حمل لافتة بوجه ضاحك حتى أعبر عن سعادتي كوني مقدم على الزواج؟ "
زفر قاسم يقاطع حديثهم وهو يصيح بضيق " هلا توقفتم عن ثرثرة النساء تلك؟ صدعتم رأسي "
عقد ياسين ساعديه أمام صدره وهو يغمغم بصوت حانق " لما لا تنهض وتصفعنا أيضاً؟ "
في حين قطب حمزة وهو يقول " ثرثرة نساء! سامحك الله يا ابن عمي "
عبس قاسم وهو يرد " أصبحت تتحدث كثيراً يا حمزة يبدو أن زهراء أثرت عليك سلبا "
هتف حمزة بغيظ " وما بها زهراء يا أستاذ قاسم؟ "
أشاح قاسم بوجهه عنه وهو يتأفف دون تعقيب فأومأ زيد إلى عاصم خفية حتى يتدخل فقال الأخير مغيراً الموضوع " لم تخبرني عن رأيك في الصفقة الجديدة يا قاسم "
كاد زيد يصرخ غيظا لإتجاه حديثهم نحو هذا الموضوع الذي ود لو تناساه الجميع لبعض الوقت حتى يرتب احجياته ويفهم على أي بر سيرسو في النهاية بدلاً من تلك الحيرة والتخبط الذي يشعر بهما لكنه ورغم ذلك لم يعقب بشيء والتزم الصمت مترقبا سماع آراء أبناء عمومته وخاصة رأي قاسم
قطب قاسم بجدية وهو يرد " الصفقة تبدو جيدة لكن كما تعلم يا عاصم أنا لدي تحفظ تجاه العمل مع هذا الرجل "
اومأ عاصم بتفهم وقال " أنا افهم اسبابك جيداً لكن تلك الصفقة تستحق أن نغامر قليلاً للفوز بها "
كان حمزة هو من تدخل ورد بدلاً من قاسم " أسمح لي أخي أنا الآخر اعترض وأرى أن رأي قاسم في محله تماماً.. نحن أمامنا الكثير من الصفقات ولن يضيرنا التخلي عن تلك الصفقة فهذا الرجل يثير حفيظتي ناحيته "
زم ياسين شفتيه وهو يضيف " الحمد لله لست وحدي من شعر ناحيته بالانقباض ظننت أن بي خلل ما.. أنا الآخر لست مستبشرا خيرا بالعمل معه "
تنهد عاصم وهو يقول مؤكدا " بصراحة أنا أيضاً لا أشعر بالراحة في فكرة العمل معه لكن زيد متمسك بتلك الصفقة "
توجهت الأنظار إلى زيد في تساؤل ترجمه قاسم بصوت غامض " أليس من الغريب أن تقبل العمل مع رجل كهذا يا زيد سبق وكان مسجونا في قضية تهريب أثار إلى جانب تعاطيه للممنوعات وربما يكون يتاجر فيها أيضاً؟ "
قطب زيد بضيق مكبوت وود لو يصرخ فيهم أنه ليس المتمسك بتلك الصفقة وإنما ذلك المجنون المتهور الآخر لأسباب لا يعلمها إلا الله لكنه على خلاف ذلك رد بإقتضاب " هذه الصفقة مهمة بالنسبة لي بشكل خاص.. سوف تتم حتى لو اضطررت لأن اعقدها معه بعيداً عن أعمال العائلة "
بدى على الجميع الذهول التام بينما رفع قاسم حاجباً بسخرية يقول " تبدو عاقداً العزم والنية دون أن تهتم حتى لرأينا يا ابن عمي "
تنهد زيد وهو يشعر بالحنق من ذاك المتهور الذي وضعه في ذلك الموقف المحرج أمام أبناء عمومته وقال بهدوء " بالطبع رأيكم جميعاً يهمني وكالعادة لا يتم شيء دون أن نتشاور فيه ونتفق عليه لكن كما أخبرتك يا قاسم تلك الصفقة مهمة بالنسبة لي "
تدخل عاصم بمهادنة يقول " لما لا تخبرنا عن وجهة نظرك يا زيد؟ لربما كنت أنت على صواب واقنعتنا بحجتك "
والله كاد ينفجر ضاحكاً على حديث ابن عمه، أي وجهة نظر يطلبها منه؟ وأي حجة؟
هو شخصياً لا يريد إتمام تلك الصفقة بل إنه يوافقهم في رأيهم بأن العمل مع ذلك الرجل من الممكن أن يسبب لهم مشاكل هم في غنى عنها.. لكن كيف يخبرهم أنها ليست رغبته وليست حجته وأنه لا يملك أي مبرر واضح أو حجة مقنعة بل لا يعرف حتى ما هو الأمر المهم أو المغزى من تلك الصفقة حتى اللحظة؟
أطرق برأسه للحظات في صمت حتى قال حمزة فجأة بغموض " يبدو أنك لا تملك إجابة على سؤال عاصم من الأساس "
رفع عينيه إلى حمزة ينظر له بهدوء تام بينما الأخير يضيف بصوت قاتم " تبدو كمن ينتظر أن تأتيه الإجابة من مكان ما أو ربما من... شخص بعينه "
قطب زيد وقبض على أصابعه بتوتر يخشى أن يتمادى حمزة في تحليله للأمر فيفسد ما عمل لسنوات على اخفائه
حمزة أكثرهم قرباً من زيد، أكثرهم فهماً لأفكاره وشروده الحائر، لطالما كانا رفيقين منذ الصغر ورغم الانقلاب الذي حدث منذ بضعة سنوات في العائلة وجعل زيد يتباعد قليلاً عن الجميع إلا أن حمزة ظل على عهده يسعى خلفه ويحلل كل صغيرة وكبيرة تصدر منه مما جعل زيد أحيانا يغضب منه
تصنع زيد الانشغال بالأوراق التي سبق وألقاها بإهمال على مكتبه وهو يقول " لا فائدة من إطالة الحديث في هذا الأمر فهو بالنسبة لي منتهي "
نهض قاسم بهدوء وهو يرد بصوت بارد حاسم " إذن يجدر بك العلم بأنك مضطر لعقد تلك الصفقة بعيدا عن أعمال العائلة بالفعل لأنني لن أسمح لك بأن تورط إسم الجبالي مع أي مجرم من أي نوع كان "
بعد تلك الكلمات القاطعة انصرف كل إلى مكتبه لكن حمزة قبل أن يخرج قال بصوت يحمل الشجن " لازلت انتظر اللحظة التي ستفصح لي فيها عما يشغل تفكيرك كما كنت تفعل دومًا.. سأظل في إنتظار تلك اللحظة للأبد ولن أيأس يا ابن عمي "
استند زيد برأسه للخلف على ظهر مقعده وقال يحدث نفسه ببؤس " ليتني أملك الحق في الإفصاح يا حمزة.. ليتني أحمل المزيد من القوة للمواجهة لكنت أخبرتك بكل شيء علك تجد لي الحل كما كنت تفعل دوماً لكن للأسف الأمر أصبح خارج مقدرتي.. لم يعد يخصني وحدي بل لم يعد يخصني من الأساس "
***
قرابة الغروب / المدينة الجبلية
في دار الجبالي
كانت ملك تجلس شاردة على الأرجوحة في الحديقة حتى سمعت فجأة الصوت المألوف لوصول سيارات شباب العائلة
ابتسمت بسعادة طفولية وهي تفكر في أبناء عمومتها وكم أنها تحب لحظة وصولهم وتترقبها كل يوم بصبر ودون ملل
تشعر بالراحة حينما تراهم يدخلون إلى الدار معاً سالمين، لا تتخيل أن يصيب أحدهم مكروه وكلما فكرت أن الثأر القديم وإن هدأت نيرانه لكنها لم تنتهي تماماً ينقبض قلبها بخوف وهلع ولسان حالها يهتف بجزع ترى من القادم؟
دخل عاصم أولاً والذي سارعت حلا في استقباله ليتلقفها بين ذراعيه ضاحكاً وهو يقول " حلاي الشقية كم اشتقت إليكِ! "
ترد الصغيرة ضاحكة بدلال " وحلا أبيها أيضاً اشتاقت إليه كثيراً "
مد حمزة يده يعبث في شعرها بينما يقول بكآبة مصطنعة " وأنا يا حلا.. ألا تحملين بعض الشوق ولو قليلاً لعمو حمزة المسكين؟ "
ترد حلا عليه وهي تبتسم بمكر يفوق سنوات عمرها التي تعد على أصابع اليد " أنت لا تحضر لي حلوى "
عبس حمزة وهو يقول " وما ذنبي إن كانت هذه أوامر والدك؟ "
حركت كتفيها بدلال وهي ترد " إذن أبحث عن أخرى تقول لك اشتقت إليك لأنني لن أفعل "
ضحك عاصم وهو يضمها إلى صدره قائلاً " مصيبة أنتِ يا حلا.. ليرحم الله من يقع تحت قبضتيكِ "
قطب حمزة بغيظ طفولي يقول " تحكماتك تأتي بنتائجها السلبية عليّ وحدي يا عاصم.. يبدو أنني سأحضر لابنتك الحلوى حتى أسمع منها كلمة طيبة قبل أن أموت غيظاً بسببها "
ضحك عاصم بصخب شاركه فيه ياسين الذي هتف باستفزاز " الحمد لله لم يتزوج قاسم بعد ليبتليني الله بابنة أخ تثير غيظي أنا الآخر "
رد حمزة بحنق " أتمنى أن يرزقك الله بذرية كلها بنات يصيبنك بالجنون لا بالغيظ "
ضحك ياسين يغيظه وهو يقول " إن شاء الله تكن بناتي ملائكة هادئة كأمهن تماماً "
تدخل زيد يقول بحاجب مرفوع بتعجب ساخر " حقاً أمهن ستكون ملاك هادئ؟ سبحان الله! وأنا الذي ظننتك لا تميل لتلك النوعية من الفتيات "
قطب ياسين وهو يقول من بين أسنانه " لا بأس إن لم تكن هادئة تماماً "
رد زيد بنفس التعبير " لا أظنها ستكون هادئة من الأساس.. أعترف يا ياسين أنك لا تريدها أن تكون كالحمل الوديع "
زفر ياسين بغيظ وهو يقول " أنا جائع.. سأذهب لأرى هل يوجد طعام في هذه الدار أم سأبيت ليلتي جائعا؟ "
هتف زيد ساخراً في اعقابه " لا تخش من تلك الناحية أظن أن هناك الكثير من الطعام.. كُل حتى تشبع لكي تتمكن من إيجاد إجابة على سؤالي "
انزل عاصم ابنته أرضا وهو يقول بهدوء " لماذا تناكفه بغلاظة هكذا يا زيد؟"
حرك زيد كتفيه بلامبالاة وهو يرد " لا لسبب محدد "
تنهد عاصم وهو يربت على كتفه قائلاً " أما آن لك أن تبحث عن نصفك الآخر يا زيد؟ شباب العائلة بأكملها وإن لم يتم ارتباطهم رسمياً لكن كل واحد منهم يعلم من يريدها "
أطرق زيد رأسه بحسرة وهو يفكر بأن نصفه الآخر موجود ورغم أنه ليس فتاة لكنه لا يشعر بأن من يكمله سواه
لكن أين هو نصفه الآن؟
تنهد بعد لحظة يرد " لا أعلم يا عاصم لكن لا أجد في نفسي رغبة للارتباط بأي فتاة.. لا أشعر بأنني قادر على مبادلة أي فتاة مشاعر الحب.. أشعر أنني لا امتلك مثل تلك المشاعر من الأساس "
قطب عاصم وهو يرد بكآبة تمكنت منه بسبب حديث زيد " لا أصدق بأن من يصف نفسه بأنه يفتقر لمشاعر الحب هو أنت يا زيد؟ لطالما كنت محباً عطوفاً كعمي سليم "
ابتسم زيد بفخر وهو يرد " وهل هناك من يشبه سليم الجبالي! "
رد عاصم بجدية " لما لا تدع لنفسك فرصة فكل ما تحتاجه هو المحاولة يا زيد وإن فشلت لن تخسر شيء؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بصوت متباعد شارد " لا أستطيع حتى المحاولة يا عاصم.. ليس من حقي فقد أنجح في ارتباطي بفتاة ما أحبها وتحبني ثم... (صمت لحظة وهو يقبض على كفيه بشدة قبل أن يتابع بصوت غامض) ثم يأتي القدر ويصدر حكمه بإعدام هذا الحب حينها لن أكون الخاسر الوحيد يا ابن عمي "
كاد عاصم يعقب بشيء لكن زيد قاطعه وهو يحرك رأسه سلباً " لن اظلمها يا عاصم لا يمكنني فعلها بأي فتاة.. كسر الخاطر والفؤاد ليس بالهين وأنا لا أضمن عمري قد... (قطب بحيرة من أفكاره الكئيبة لكنه تابع بغصة خانقة) قد أموت واتركها خلفي كسيرة محطمة.. هذا الموقف صعب جداً جربته مرة حين فقدت أمي و... "
صمت زيد وسالت من عينه دمعه فربت عاصم على كتفه بمؤازرة وهو يقول " لازلت غير متقبل فكرة موته أليس كذلك؟ لازلت لا تستطيع نطق اسمه حتى "
ازدرد زيد ريقه وهو يقول بصوت متحشرج " كيف أفعل وأنا... أنا من حكمت عليه بما حدث له؟ أنا السبب فيما هو فيه؟ "
قطب عاصم بحيرة وهو يقول " فيما هو فيه؟ "
جحظت عيني زيد من الذلة التي نطقها دون شعور فقال بتوتر " أقصد ما حدث له "
ربت عاصم على كتفه من جديد وهو يقول " لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا زيد.. ما حدث كان ليحدث على أي حال إنها إرادة الله وقضائه "
اخفى تأثره وهو يقول بشجن " ونعم بالله لذلك أنا لا أتمنى أن أرى أحد في هذا الوضع أبداً "
***
بعد بضعة ساعات قليلة
حينما وصل إلى باب المجلس الذي يتصدره جده كالعادة وصلته أصوات الاعتراض فتيقن أن خبر موافقته على تلك الصفقة البائسة قد وصل لهم مما جعل شعوره بالبؤس والتعب يتضاعف
ألا يكفيه ما ناله من توبيخ منذ قليل وكأنه صبي صغير؟ لقد سمع الكثير ولم يستطع النطق بكلمة اعتراض واحدة وهو يشعر بالغباء من نفسه لأنه لم يتدارك الأمر منذ البداية ويحسن التفكير والتصرف كما كان يجدر به أن يفعل
تنهد وهو يسند رأسه على الحائط المجاور للباب بينما يتذكر محتوى الرسالة التي وصلته منذ قليل والتي كانت بدايتها صاخبة بالتوبيخ
**هل أنت ولد صغير تحتاج إلى التوجيه لكي تقع في خطأ كهذا؟ كيف تخبرهم عن تلك الصفقة اللعينة؟ ألم أخبرك أن الأمر سيظل بيننا يا أحمق؟ أين كان عقلك وأنت تخبرهم وتطلب منهم المشورة وأنت تثق بأنهم سيرفضون خاصة وأنك شخصياً كنت معارضا؟**
حينها شعر بكم هائل من الغباء فكان رده الوحيد
*على ما يبدو أنني نسيت أنك نبهتني أن تلك الصفقة لا يجب أن يعلم أحد عنها لهذا أخبرتهم*
كان رده دون أن يشعر أكثر غباءا مما فعل مما جعل الآخر غضبه يشتد
**نسيت! كيف تنسى أمر مهم كهذا؟ لقد نبهت عليك أكثر من مرة.. هل تريد أن تصيبني بالجنون؟ ستدمر كل ما أفعله.. منك لله يا زيد**
اغتاظ زيد من كثرة التوبيخ فأرسل له ببرود
*هل تدعو عليّ؟ عامة شكراً.. مقبولة منك*
انتظر لحظات طوال ولم يصله أي رد حتى شعر باليأس وكاد يغلق الهاتف لتأتيه رسالة طويلة بعد لحظة أخرى، كانت زاخرة بالتوبيخ والتأنيب والصراخ على ما يبدو
**لو كنت أمامي في هذه اللحظة ما كنت ترددت لحظة في قتلك.. منك لله بسببك أشعر بدنو إحدى النوبات القلبية.. اسمعني جيداً وأقسم لك إن فعلت أي خطأ جديد فلن أخبرك عن شيء آخر ولتضرب رأسك الغبي اليابس هذا في أضخم حائط أمامك ولن يهمني.. أسمع زيد وافهم كلامي ونفذه بالحرف دون أن تضع عليه إحدى لمساتك الفنية فلست في وضع يسمح لي بتحمل المزيد منك.. أظن أن الخبر ما إن يصل إلى الجميع حتى سيواجهونك بموجة عاتية من الغضب ولا استبعد أن يضربك جدك وصراحة لن ألومه بل سيكون سدد لي معروف كبير.. كل ما أريدك أن تفعله هو...*
قطع سيل أفكاره صوت والده الذي وصله بوضوح وهو يحاول تهدئة غضب جده يقول " أهدأ يا أبي حينما يأتي سنفهم منه كل شيء وكما قال عاصم إنه لم يوقع العقد بعد فلا مشكلة حتى اللحظة "
سحب نفس عميق وزفره على مهل وهو يغمغم بحنق " يبدو أن جدي سينفذ أمنيتك ويضربني بعصاه فعلاً.. ليتك هنا أيها المتعجرف لترى قدر المصائب التي تلحق بي بسبب تهورك وينعتني بالأحمق عجباً والله! (سحب نفس عميق وهو يتمتم) توكلت عليك يا ربي "
بعد لحظة كان يدلف للداخل بهدوء وهو يحيي الجميع " السلام عليكم "
ردوا التحية بإقتضاب بينما والده يوجه له نظراته المعاتبة فقابلها بأخرى تشي بقلة حيلته وأن لا يد له فيما يحدث
ما إن استوى في جلسته حتى بادره جده بالسؤال بلهجة حادة " أين كان عقلك وأنت تفكر ولو مجرد التفكير في التعامل مع ذاك الرجل سيء السمعة؟ "
تنحنح زيد وهو يستدعي شجاعته لكي ينهي تلك المعركة قبل أن تبدأ فقال " أنا أعتذر يا جدي.. أعلم أنها كانت فكرة متهورة... "
قاطعه جده بغضب " غبية "
عبس زيد وهو يقول " حسناً فكرة غبية لكنها كما قلت مجرد فكرة وذهبت إلى حال سبيلها "
كان الذهول بادياً على أولاد عمومته من تراجعه السريع حتى هتف ياسين بدهشة " لقد كنت مصراً منذ بضعة ساعات فقط فماذا حدث الآن لتغير رأيك بهذه السرعة؟ "
رد زيد بهدوء " يمكنك أن تقول أنني من ضغط العمل لم أكن في قمة تركيزي وأنا أوافق على تلك الصفقة لكن الآن وبعد أن فكرت مليا فيها وجدتها فعلا غير مناسبة "
عقد حمزة ساعديه أمام صدره وهو يقول ببرود مقصود " لكن الصفقة تبدو مناسبة جداً بل ومربحة للغاية وإنما العيب الوحيد فيمن سنشاركه "
عبس زيد بحنق وهو يرد " لهذا رفضت "
عاد حمزة يقول بنفس النبرة " اعتراضك كان على الصفقة وليس صاحبها "
كان واضحا أن زيد يتحكم في أعصابه بصعوبة حتى لا يصرخ أمام الجميع وظل على صمته لحظات طوال وبعدها قال بإقتضاب " إنتهينا حمزة.. لا الصفقة ولا حتى صاحبها شخصا مناسبا لكي نتعامل معه هل هذا جيد؟ "
ابتسم حمزة بسخرية دون أن يرد بينما قطب خالد بتفكير وهو يميل على أخيه سليم قائلاً بصوت خفيض " يبدو مضغوطا ولا أظن قرار الموافقة كان قراره من الأساس "
تنهد سليم عميقا وهو ينظر إلى ابنه بينما يرد على أخيه " هذا هو ما هداني إليه عقلي أنا أيضاً يا أخي.. أنا خائف عليه "
سأل خالد بكآبة غريبة على طبعه الصارم الشديد المعتاد " على أيهما بالضبط؟ "
أجفل سليم وهو ينظر إلى عينيّ أخيه التي غامتا في بحر من الحزن فرد بصدق " على كليهما "
أشاح خالد بوجهه وهو يقول بنفس الصوت الخفيض وإن تحشرج قليلاً بغصة خانقة " زيد معنا وبيننا لا خوف عليه أما هو... وحيد تماماً بلا أهل أو عائلة تحتويه وتدعمه في حياته "
أطرق سليم رأسه بانكسار بينما خالد يتابع " نحن هنا وهو هناك لا نعلم عنه شيء ولا نستطيع حتى رؤيته.. وكأنه آفة ضارة اقتلعناها من بيننا حتى لا تلوثنا ونبذناها بعيداً "
طرفت عينيّ سليم بالدموع بينما خالد يكمل " أمَّا آن له أن يعود؟ "
تسارعت أنفاس سليم ورد بجزع " ليقتلوه! "
واجهه خالد بنظرات قاسية وهو يرد من بين أسنانه المطبقة " أوَ ليس ميتاً من الأساس؟ "
كان وقع الكلمات على سليم كالخناجر التي تمزق جسده دون رحمة فازدرد ريقه وهو يقول بصوت اختنق بالبكاء " بالله عليك لا تزد يا أخي.. يكفيني ما أعانيه "
لكن خالد لم يصمت بل تابع بنفس القسوة " إن بقيت على خوفك هذا طويلاً ستكون سلبته آخر أنفاس يحيا عليها، ستكون انتزعت بيديك روحه.. لا يعقل بأن يظل في الغربة للأبد.. ألم تشتاق إليه؟ "
قبض سليم على كفيه بشدة وهو يقول بصوت عميق بالشجن " بلى إشتقت.. يكاد يقتلني حنيني وشوقي إليه لكن... "
قاطعه خالد بصلابة يقول " ليس هناك لكن.. دعه يعود "
انتفض سليم في جلسته وهو يهتف بصوت مرتفع دون شعور منه لتلك الأنظار التي إلتفتت له في إهتمام " لا.. لم يحن الوقت بعد يا أخي "
كان الجميع يتبادل نظرات الحيرة فيما بينهما عدا الجد عبد الرحمن الذي فهم حديث ولديه وزيد الذي شحب تماماً كالموتى
كاد عاصم أن يسأل مستفهماً عما يحدث لولا أن هب سليم من جلسته وخرج مطرقاً الرأس وتبعه خالد بعد لحظات بوجوم
***
منتصف الليل / في العاصمة
كانت تقف أمام الباب المغلق بملامح بائسة محبطة وقلب منقبض حزين
يصلها صوتيهما بوضوح وهما يتجادلان في نفس الموضوع الذي باتت تحفظ تفاصيله تماماً
كان الجدال بينهما بين مد وجزر ولم يصلا إلى شاطئ الأمان ليرسوا بسفينتيهما بعد ومع كل هتاف حاد من والدها وصرخت اعتراض من ابنة عمه وزوجته الأولى كانت تغلق عينيها بقوة وكأنها تحاول الإفلات دون جدوى من بين قبضة كابوس مُخيف لا ينتهي
أخيراً تنهدت براحة طفيفة حينما سكتت الأصوات وساد الصمت
ورغم أن ذلك لا يبشر بالخير بل دليل على أن كلاً منهما صمت ليشحن طاقته قبل أن يعاود الهجوم من جديد إلا أنها كانت ممتنة للحظة الصمت التي سادت واختارت تلك اللحظة لتطرق الباب بهدوء ثلاث دقات متتالية خفيفة كما اعتادت قبل أن تمسك بالمقبض وتديره بخفة مندفعة بخفة للداخل
رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تحييهما ببساطة كما لو أنها لم تسمع شيء من شجارهما منذ لحظة مضت " مساء الخير "
رمقتها مروة بحقد قبل أن تشيح بوجهها عنها في تجاهل تام بينما تنهد أكرم بعمق وهو يشير لها بيده حتى تقترب منه دون أن يتفوه بحرف
اقتربت منه بخفة وهي تشعر بانقباض قلبها يزداد وبتلك القبضة التي تقبض على روحها تشتد أكثر وتعتصرها دون رحمة وما إن وصلت إليه حتى جذبها إليه محيطاً إياها بذراعيه وهو يضمها إلى صدره بقوة
كانت تشعر بأنفاسه الحادة التي تضرب بشرة عنقها وهو يغمر وجهه بين طيات شعرها متمتماً بهمس شديد الخفوت " يا الله كم أحب راحتك! وكم أحبك يا شمسي! "
رفعت ذراعيها تحيط عنقه وهي تبتسم برقة متذكرة أنه أخبرها مراراً أنها ورثت من أمها ملامحها الناعمة وروحها المفعمة بالحياة كما ورثت منها رائحتها العطرة التي كان مدمناً عليها
أخبرها أنها الأحب إليه ورغم أنها ليست ابنته الوحيدة إلا إنها دوماً كانت المفضلة لديه
أجفلت فجأة حينما هتفت مروة من خلفها بصوت ممتعض " لم ننهي حديثنا بعد يا أكرم "
شعرت بتشنجه وزفرته الحارة قبل أن يخفف من قيد ذراعيه من حولها وللحظات ظل أكرم ينظر إليها دون أن يرد على مروة حتى ظنت أنه سيتجاهلها لكنه بعد لحظة أخرى رد بصوت جامد دون أن يحيد ببصره عن ابنته " لكنه بالنسبة لي انتهى "
هتفت مروة بضيق " لا لم ينتهي.. لم تسمعني بعد "
رفع حاجباً ببرود وهو يرد " أظن أنني سمعت ما يكفي يا مروة لذا أقول لكِ بأن الموضوع أغلق تماماً ولا مجال للنقاش فيه مرة أخرى "
صرخت باعتراض " لكن أنا... "
لكنها لم تتم جملتها حينما صرخ أكرم بصوت عالٍ صارم يقاطعها " قلت إنتهى "
قطبت مروة بغضب مكبوت وهي تتمتم من بين أسنانها " حسناً يا أكرم.. كما تريد "
بعد خروج مروة رفعت شمس رأسها تنظر إلى والدها بتوتر وقالت بخفوت " عمتي مروة ليست راضية يا بابا "
ابتسم أكرم ساخراً وهو يرد " ومتى كانت عمتك مروة راضية عن شيء؟ "
قطبت شمس بحيرة وهي تسأله " لا يبدو أنك تنوي ارضائها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو يرد بلامبالاة " لم أخطئ في حقها لكي أراضيها "
زادت تقطيبتها وهي تقول " لكنها غاضبة "
حرك أكرم كتفيه وهو يرد بنفس ببساطة " وما الجديد؟ "
خفت صوتها فجأة وهي تقول " بسببي "
حينها قطب بشدة وهو ينظر إليها قائلاً بحذر" سؤال هذا أم تقرير؟ "
رمشت شمس لوهلة ثم قالت بصوت أشد خفوتاً وكآبة " إنه إقرار بالأمر الواقع يا بابا.. عمتي مروة لا تحبني لذا هي تتشاجر معك كل يوم بسببي "
أخرج أكرم يديه من جيبيه ممسكا كتفيها وهو يقول بصوت شديد البأس " أحبتك أم لم تفعل هذا لن يغير من كونك ابنتي، مدللتي ومن يفكر في مسك بسوء فلا يلومن إلا نفسه لأنني لن أرحمه "
تهدل كتفيها بإحباط وهي تقول " أنا لا أريدك أن تتشاجر معها يا بابا.. لا أحب أن أراها حزينة بسببي.. أرجوك لا تفعل "
تنهد أكرم وهو يرد " وأنا لا أريد أن اتشاجر معها يا حبيبتي لكن... حسناً.. لا تشغلي نفسك بنا "
صمت لحظة ثم ابتسم بمكر يقول: " هناك موضوع مهم أريد مباحثته معكِ "
رفعت وجهها إليه بحماس وهي تقول " ماذا؟ "
سحبها أكرم من يدها حتى وصلا إلى الأريكة الوثيرة فجلس وأجلسها إلى جواره وهو يقول بصراحة ودون مواراة " ألم تشتاقي إلى عائلة أمكِ رحمها الله؟ "
رمشت شمس بقوة وهي تقول بحيرة: " وكيف سأشتاق لهم وأنا لا أعرف أي فرد منهم؟ "
قطب أكرم وشرد ببصره وهو يقول " لقد حافظت على قسم رقية لسنوات طويلة لكن لا استطيع الاستمرار أكثر.. أشعر بالذنب لمنعكِ عنهم "
مالت شمس برأسها جانباً وهي تقول بخفوت " وما دخل ماما رحمها الله في هذا الأمر؟ "
زفر أكرم وهو يقول بإقتضاب " سأخبركِ "
اومأت شمس برأسها بخفة وانتظرته أن يتحدث وبعد لحظات صمت طويلة قال " عندما تزوجت من ابنة عمي مروة لم تكن تلك رغبة مني بل إرضاءا لأبي بعدما انتكست حالته الصحية جداً وكانت أمنيته الأخيرة أن يراني مستقراً في حياتي.. (سكت لحظة ثم تابع بصوت متباعد) كانت حياتي تسير بنمط روتيني إلى أبعد حد.. نمط ممل لم يرضيني لأن شخصيتي غير نمطية أبداً ولكنني كنت اتعايش مع الأمر وكأنني أقضي فترة عقوبة على ذنب لا أعرف كنهه "
وضعت كفها على كتفه فعاد بوجهه إليها وهو يبتسم بحنان قائلاً " لكن هذا الروتين لم يدم طويلاً بعدما دخلت أمكِ إلى حياتي واقتحمت كل حصوني "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول " وكيف تعرفت على ماما رحمها الله فهي ليست من العاصمة؟ "
حرك كتفيه بخفة يقول " أحد اخوتها كان شريكاً لي في مشروع ما.. كان مشروع كبير وبعد أن تم بنجاح دعاني ذات يوم إلى بلدتهم لحضور حفل زفاف أحد أبناء عائلته وهناك رأيت أمكِ "
تنهد بعمق ثم ضحك فجأة بصوت عالٍ تعجبت له شمس فقالت " علام تضحك بابا؟ ما الأمر؟ "
تعالت ضحكاته أكثر حتى دمعت عينيه ليجيب بعد وقت طويل " المجنونة صفعتني.. أنا أكرم الباسل صفعتني فتاة قزمة لم يصل طولها إلى مستوى كتفي حتى "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تقول " هل تقصد ماما؟ "
اومأ إيجاباً من بين ضحكاته فقالت بحيرة " لا تبدو غاضباً من تلك الذكرى "
تنهد بقوة وهو يحاول كبت ضحكاته ثم قال " بالطبع لست غاضباً.. إنها الذكرى الأحب إلي قلبي.. يكفيني أنها كانت أولى الخيوط التي جمعتني بها "
عبست شمس وهي تقول " أنا لا أفهم شيء.. ألم ينتفض كبرياء السيد العظيم أكرم الباسل مطالباً بأخذ ثأره من تلك القزمة التي تجرأت وصفعته؟ "
حرك رأسه سلباً وهو يرد " لا.. للأسف لم يحدث.. حتى أنا شعرت بالحيرة من نفسي.. حينها كان جلّ همي أن أعرف من تكون تلك الفتاة لأنها أعجبتني وليس لآخذ ثأري منها كما تقولين وكان يفترض بي وقتها أن أفعل "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تنظر له بغموض قائلة " أعجبت بفتاة وأنت متزوج من أخرى.. لا تبدو لي من هذا النوع العابث يا سيد أكرم "
ابتسم أكرم بمكر وهو يقول " وما ذنبي أنا هي المخطئة؟ لم أستطع مقاومتها كانت... "
صرخت شمس بخجل تقاطعه " أبي "
ضحك أكرم وهو يميل عليها مقبلاً وجنتها وهو يقول " هي الأخرى كانت تذوب خجلاً وتتورد من اللاشيء حتى كلمتي صباح الخير مني كانت توترها "
ضحكت شمس وهي تقول " يبدو أن نيتك لم تكن بريئة تماماً وأنت تقولها يا بابا "
غمز أكرم بطرف عينه وهو يرد ضاحكاً " أكيد "
ابتسمت شمس وصمتت بينما شرد أكرم من جديد وهو يقول " عائلة أمكِ في الجنوب كانت تسير على قوانين ثابتة لا يستطيع أحد مخالفتها مهما بلغت مكانته ومن ضمن هذه القوانين ألا تتزوج أي فتاة من خارج العائلة "
ردت شمس ببساطة " لكن ماما فعلتها "
اومأ برأسه بشرود وهو يقول " الأمر لم يتم بتلك البساطة يا شمس لقد طلبتها رسمياً وكنت أعلم بقرار الرفض مسبقاً لسببين.. الأول أنني كنت متزوج ولم أظن أن تقبل عائلتها بي وهي لم يسبق لها الزواج والثاني هو أنها لا يمكن أن تتزوج بي كوني من عائلة أخرى لا تمس لعائلتها بأي صلة ورغم ذلك لم أخفِ رغبتي في الزواج منها لكن... "
صمت أكرم فجأة فحثته شمس على المتابعة بخفوت مترقب " لكن ماذا يا بابا؟ أنا أسمعك "
نظر لها طويلاً قبل أن يتابع حديثه " لكني فوجئت بل صدمت بموافقتهم أو لأكن أكثر وضوحاً بموافقة أخيها خالد والذي كان شريكي "
صمت مجدداً فقالت شمس بصبر " وماذا بعد؟ "
تنهد بإحباط يقول: " لم تهمني موافقته ولم أشعر بالسعادة أبداً حينها لأنها كانت رافضة لقد قالتها صراحة في وجهي *أنا لا أريدك وإن كنت رجلا على حق فغادر حالاً ولا تريني وجهك ثانية* "
قطبت شمس تقول " لكنك لم تغادر أليس كذلك؟ "
عبس وهو يقول " كنت على وشك أن أغادر فعلاً لكني علمت بأن أخاها هددها إن لم تتزوجني فسوف يزوجها من آخر ويبدو أن هذا الآخر كانت ترفضه أكثر مني وبعد ساعة من رفضها لي وجدتها تقف أمامي تتوسلني أن اتزوجها "
قطبت شمس بعدم وهي تقول " وأين والدها من كل هذا يا بابا؟ "
عبس أكرم بضيق وهو يرد " رغم هيبة جدك وسطوته إلا أنه كان يأخذ كثيراً برأي ابنه خالد كونه بكريه خاصة وأنه الوحيد الذي كان يرافقه في كل مكان ويهتم بأمور البلدة أما بقية إخوته فكان جلّ همهم هو دراستهم غير مبالين بما يدور من حولهم "
رمش أكرم بعينيه لبرهة قصيرة قبل أن يتنهد طويلاً وهو يقول بصوت حزين " أتعلمين أنني شعرت حينها بضربة قوية شطرت قلبي نصفين.. شعرت بإهانة شديدة أراقت كبريائي وأنا اسمعها تخبرني بصراحة... *يبدو أن نصيبي العاثر لن يحالفني أبداً وتبدو لي أخف البلايا لذا أنا أقبل الزواج منك ولا أريد أي شيء سوا أن تخرجني من هذه البلدة.. لقد سئمت قوانينهم ولم أعد أطيق أن أظل لحظة أخرى تحت ظلال هذه الدار.. خذني بعيداً أرجوك* "
حملقت شمس في عيني والدها وهي تتمتم بذهول بالغ " قالت أنك أخف البلايا! ماما قالت ذلك وأمامك بهذه البساطة "
زفر أكرم وهو يشيح بوجهه عنها قائلاً " هذا ما حدث بالفعل وكدت... أقسم بالله كنت على وشك صفعها حينها من شدة وقاحتها لكن... (تنهد بعمق وهو يتابع بصوت يحمل الكثير من الشجن) نظرة الرجاء في عينيها غلبت غضبي منها ووجدت نفسي طوع بنانها تطلب فأجيب وتأمرني فأطيع "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول بمشاكسة " أنت عاشق من الدرجة الأولى سيد أكرم "
ابتسم وهو يكمل حديثه بهدوء " لم يعارض أبي على فكرة زواجي من أخرى فهو كان يعلم بتلك الخلافات التي لا تنتهي بيني وبين مروة فلم يشأ أن يثقل عليّ أكثر لذا ترك حرية القرار لي "
استرخى أكرم في جلسته واستند برأسه على ظهر الأريكة مغمضا عينيه وهو يتابع بصوت شارد " لم نقيم عرس بناءًا على رغبة أمكِ وبعدما عقد قرآننا مباشرة أتينا إلى العاصمة.. كان أبي أكثر من مرحب بها وقد ألتمس فيها السكن الذي كنت أبحث عنه لكن مروة كانت لا تترك فرصة حتى تهينها وأمكِ كانت صامدة في مواجهتها لا يهزها شيء دوماً كانت رقية ثابتة في تلك المواقف مما زاد فخري وحبي لها "
سألته شمس بحيرة " لم تخبرني بابا على أي شيء أقسمت ماما؟ "
قطب أكرم دون أن يفتح عينيه وهو يرد " رقية حينها كانت غاضبة لكنها كبتت لجام غضبها بصلابة حتى تم عقد القران ثم فاجأت الجميع بقرارها (صمت طويلاً وزادت تقطيبته ليقول بعد ذلك بصوت جامد) وقفت أمام الجميع بتحدي وهي تقول *ها قد تمت الصفقة وربح من دفع أكثر.. هذه أرضكم التي خرجت منها مجرد لاجئة تهرب إلى يد من تشعر أنه سيقدرها أكثر وهذه داركم التي هددتموني فيها حتى أقبل الزواج بغريب متخليين فجأة عن قوانينكم التي ظللتم تتغنون بها منذ قديم العهد والدهر* "
صمت أكرم قابضاً على أصابعه في قبضتين متصلبتين إلى جانبيه قبل أن يتابع ما قالته رقية بغضب مكبوت " *لم أعد أريد منكم لا الأرض ولا الدار ولا حتى صلة الوصل بيننا فقد قطعتموها بسكين ثلم بهذا العقد وأقسم ألا تطأ قدماي أرضكم هذه حتى النفس الأخير في صدري وإن شاء الله وكانت لي ذرية فقسمي جارٍ عليهم أيضاً* "
تشنجت ملامحه بشدة فأشفقت شمس عليه كثيراً من تلك الذكريات السيئة فمالت برأسها تستند برأسها على كتفه وهي تربت على صدره برقة دون كلام
تنهد براحة حينما بدأت شمس في التربيت على صدره وكأنه طفل صغير يبكي فتهدهده أمه ليهدأ
شعر بالسكينة في صمتها ومواساتها له دون كلام، دوماً كانت أقرب إليه من نفسه، تشعر بألمه دون أن يفصح وتهب لنصرته دون طلب
رفع ذراعيه يحيطها بخفة ويضمها إليه أكثر وهو يقول بخفوت وكأنه يخشى أن يبدد لحظات السكون تلك " حينها كان جدك على وشك صفعها أمامي فلم أطيق ذلك ووقفت في وجهه اتحداه أن يفعلها وأنا أصرخ دون خوف أو مهابة له بأن لا حق له في ذلك وأنها أصبحت زوجتي ولن أسمح لمخلوق بمسها بسوء أياً كان ورغم أنها نظرت لي حينها بامتنان إلا أنني كنت أتمنى لو كان حباً "
استمرت شمس في تربيتها الحاني واستمر هو في كلامه " منذ تزوجتها ولم أرفع صوتي عليها قط وهي لم تغضبني أبداً.. دوماً كانت تخفي عني خلافاتها مع مروة ولم أرها يوماً إلا مبتسمة في وجهي.. مهما تأخرت في عملي تنتظرني وإن سافرت لعمل ضروري في الخارج كانت تنهال عليّ باتصالات لا حصر لها حتى تطمئن على أكلي وشربي ونومي وعملي.. لم تكن تفوتها أي صغيرة أو كبيرة تخصني إلا وسألتني بشأنها "
تنهد بشجن وهو يقول " كنت أشعر أني ابنها أكثر مني زوجها وحينما كنت أحب مشاكستها اناديها 'أمي' كنت أظن أن الكلمة ستزعجها كونها فتاة صغيرة لازالت في ريان شبابها فأنتظر أن تهب روح الأنثى بداخلها لتهاجمني لكنها كانت تفاجئني في كل مرة بأن تتقبلها مني برحابة صدر وابتسامة.. يا الله لم أر أجمل منها يوماً إلا حينما أراكِ تبتسمين.. كانت أمكِ تبتسم لي فتشرق شمس صباحي ويتلون نهاري بأزهى الألوان "
ابتسمت شمس وهي تقول بمناكفة " ألم أقل أنك عاشق من الدرجة الأولى؟ ها قد صدق حدسي "
ابتسم أكرم وظل على حالته مغمض العينين وهو يرد " معكِ حق.. أنا كنت ولازلت عاشقاً لأمكِ حتى بعد رحيلها لا أظن ذلك شكل فارقاً أو انتقص من عشقي لها ولو مقدار ذرة "
صمت بعدها وصمتت هي تتأمل ملامح وجه والدها الحبيب وهي تخبر نفسها أنها لو وجدت يوماً عاشقاً مخلصاً مثل أبيها ستخطبه لنفسها بل ستطلب منه الزواج وتحبسه في قفصها وتقصقص أجنحته قبل أن يحلق بعيداً باحثاً عن أخرى
كتمت ضحكتها وهي تصل بتفكيرها إلى تلك النقطة في حين تابع أكرم غافلاً عنها " منذ تزوجنا ولم تذهب لزيارة عائلتها أبداً حتى أنها رفضت رفضاً قاطعاً أن يزورها أياً منهم هنا (تنهد وهو يقول) أخبرتني ذات يوم أنها رغم أنها أحبتني ورغم أنها لا تشعر بنفسها كانت ستكون كاملة وسعيدة مع رجل غيري إلا إنها لا تستطيع أن تغفر لهم ما فعلوا معها.. كنت أمني نفسي بأن هذا رد فعل أو قرار لن يدوم وسيتبدل مع مرور الأيام وأنه مهما بلغ غضبها منهم إلا أن قلبها الحنون المتسامح بطبعه سيلين لهم ذات يوم لكن... "
اختنق صوته وارتعشت أصابعه المحيطة بها وهو يكمل بصوت متحشرج " لكنني لم أتخيل أن تنتهي رحلتنا سوياً بهذه السرعة.. لم أتخيل أن ترحل وتتركني قبل مضي عام على زواجنا.. قبل أن أشبع جوعي إلى حنانها ورأفتها التي تذيب الجليد.. قبل أن انهل المزيد من بحر عشقها الذي لا ينضب ومن أمومتها التي كانت تغدقني بها بدون شروط "
رمشت شمس فانهمرت عبراتها على وجنتيها حينما فلتت شهقة صغيرة مكتومة من بين شفتي والدها قبل أن يتابع بألم " بكيت ليلتها كما لم أبكي من قبل.. كنت ممسكا بكفها اتوسلها أن تجيبني أن... أن تطمئنني ولو بكلمة لكنها لم تفعل.. كنت أتألم بشدة ولم أصدق أنها ظلت صامدة أمام آلام الولادة الصعبة كما اخبرتنا الطبيبة.. أنها ظلت تحارب وتقاوم حتى أتمت مهمتها بنجاح وعلى أكمل وجه فخرجتِ أنتِ إلى النور بينما هي... فاضت روحها إلى بارئها "
فرت دمعة يتيمة من عين أكرم وهو يقول بهمس مختنق " عندما خرجت الطبيبة تخبرني بأن... بأن النبض توقف وحاولوا انعاشها دون فائدة كانت تلك هي نفس اللحظة التي سمعت أحدهم من خلفي يسألني ماذا سأسمي الوليدة فلم أشعر بنفسي سوا ولساني يردد 'رحلت شمسي' كنت مصدوما وبعدها علمت بأن ابن عمي من كان يسألني وحينما سمعني أكرر الكلمة ظنني كنت أخبره بالاسم الذي أخترته لكِ فسماكِ شمس "
شهقت شمس مع انتهاء جملته وانخرطت في بكاء حاد فضمها أكرم إلى صدره أكثر ممسداً على شعرها وهو يقول " لا تبكِ يا شمسي.. لم أخبركِ لأبكيك.. أردت فقط أخباركِ بالماضي لتكوني على علم بكل شيء فأنتِ لم تعودي صغيرة "
تعالت شهقاتها أكثر فتمتم أكرم بخفوت " أنا واثق من أن رقية لو... لو طال بها العمر لكانت عادت إلى أهلها وعائلتها وغفرت لهم وأعادت بينهم الود من جديد لكن... القدر لم يحالفها لذا... "
خفت صوت بكائها قليلاً ورفعت وجهها المغرق بالدموع إلى والدها فقال بحزن وهو يتأمل ملامحها الحزينة " لذا أريد إعادة الود عن طريقك أنتِ يا شمس.. أشعر أن هذا سيريح رقية أكثر بعد مرور كل هذه السنوات فقد أوصتني بأهلها خيراً ولا أظن بأن هناك ما قد أفعله خيراً بهم أكثر من ذهابك إليهم.. يجب أن تزوريهم وتوديهم لأن هذه هي صلة الرحم وأنا لا أقبل بأن أعصي أمر الله ولا أرضى لكِ ذلك "
قالت بصوت متقطع من بين شهقات بكائها " لكن... لكن والد ماما أقصد... جدي أظنه سيكون... أظنه غاضباً من ماما لأنها أقسمت بأن... بأن تقاطعه "
اومأ أكرم وهو ينظر إليها بحنان قائلاً " بالطبع هو غاضبا فجدكِ صعب المراس كأمك رحمها الله تماماً لكن من يمكنه تجاهل قطعة الحلوى المسماة شمس.. ليس هناك شخص عاقل واحد يستطيع أن يظل غاضباً وأنتِ أمامه "
ابتسمت شمس رغم عدم توقف دموعها تقول " أنت تبالغ يا بابا لأنني ابنتك "
حرك أكرم رأسه سلباً وهو يقول " لا والله أقول الحق.. وسترين بنفسكِ أن الجميع سيحبك وأولهم خالكِ خالد "
ارتمت شمس على صدره وهي تحيط عنقه بذراعيها وعادت تبكي من جديد وتشهق وهي تتمتم " أنا أحبك كثيراً يا بابا "
تنهد أكرم وهو يربت على ظهرها بحنو " وبابا يحب شمسه كثيراً "
لحظات وانتفض أكرم غاضباً على صوت ابنه المرتفع في الخارج بينما شمس قطبت ببؤس لنهاية كارثية تعلم مجراها جيداً ككل ليلة يأتي فيها أخاها في ساعة متأخرة من الليل
استقام أكرم بهدوء ما يسبق العاصفة متوجهًا للخارج فهبت شمس من مكانها وهرولت خلفه تتبعه وهي تدعو الله أن تمر تلك الليلة على خير
وقف أكرم واضعاً كفيه في جيبي بنطاله في مواجهة ابنه الذي بالكاد يحاول الوقوف باتزان دون أن يترنح
سأله أكرم بهدوء ظاهري " أين كنت؟ "
قطب أنس وهو يرد ببرود " هل سيبدأ التحقيق اليومي الآن ونحن نقف على الباب؟ ألن تسمح لي بالدخول أولاً على الأقل؟ "
تصلب فك أكرم بشدة وهو يحاول كبت غضبه لأقصى حد وهو يقول من بين أسنانه " تكلم باحترام يا أنس ولا تجبرني على استخدام القوة معك "
زفر أنس بغيظ وهو يرد " حسناً.. ماذا تريد يا أبي لننتهي؟ "
تحرك أكرم مندفعاً بغضب ناحيته لكن شمس أدركته سريعاً وتشبثت بذراعه بقوة وهي تنظر إلى أنس بتهديد صامت حتى لا يتمادى في استفزاز والدهما بينما وجهت حديثها لأبيها " أرجوك يا بابا أهدأ.. أنس لا يقصد "
وقف أكرم مكانه صامتاً للحظة واحدة ثم سأله بإقتضاب " أين كنت حتى الساعة؟ "
عبس أنس وهو يرد ببرود " كنت مع رفاقي "
سأله أكرم بإيجاز " أين؟ "
سكت أنس متوترا ليس من سؤال والده وإنما من نظرة شمس الخائبة وهي تشيح بوجهها عنه
شعر وكأن أحدهم لكمه بعنف حينما رأى تلك النظرة في عينيّ شمس فهي دون الجميع لا يحب أن يرى خيبة الأمل في نظراتها له
أجفل أنس على صرخة والده الحادة " سألتك أين؟ "
ازدرد أنس ريقه قبل أن يجيب بإرتباك " في مقهى لن تعرفه "
رفع أكرم حاجبيه وابتسم ساخراً وهو يقول مشدداً على كلماته " حدد إذا سمحت 'مقهى' لا أعرفه أم 'ملهى' لا أعرفه؟ "
أشاح أنس بوجهه عن والده وهو يرد " قلت مقهى "
تصلب صوت أكرم وهو يقول " هل أنت واثق مما تقول؟ كنت في مقهى يا أنس؟ "
الآن توالت اللكمات عليه تباعاً دون رحمة وهو يسمع اسمه منطوقاً بنبرة عتاب ولوم من أبيه
لا يحب أن يعاتبه والده بهذه الطريقة يتمنى لو يضربه لا أن يعاتبه وأن تصرخ شمس في وجهه أو حتى تشتمه لا أن تخاصمه كما ستفعل الآن في نهاية المطاف
أطرق برأسه للحظات ثم قال كاذباً " أجل كنت في مقهى "
ما إن أنهى جملته حتى استدارت شمس وخطت بعيداً في طريقها إلى صعود الدرج وصولاً إلى غرفتها حيث ستختبئ وتخبأ معها خيبتها ويأسها منه
أراد أن ينادي عليها، يعتذر لها ويطلب منها السماح لكنها كانت قد ابتعدت واختفت وهو لم ينطق بحرف حتى اجفله صوت والده وهو يقول بتهكم " عليك إذن بتغيير ذلك المقهى لأنه مدعاة للشبهة خاصة مع رائحة الخمر التي تنبعث من بين أنفاسك مع كل كلمة تنطقها "
انتهى أكرم من حديثه وشيعه بنظرة لائمة محبطة ثم استدار عنه وابتعد هو الآخر
رفع أنس كفه يتخلل شعره بأصابعه بخشونة وهو يتأفف غاضباً من نفسه لأنه دوماً سبب في اغضاب والده وإيلام شمس
***
بعد ساعة كاملة كان أنس يقف أمام باب غرفتها المغلق يطرقه بهدوء ويناديها ولا تجيبه " أعلم أنكِ لازلتِ مستيقظة يا شمس "
صاحت شمس بغضب وهي تقف متكتفة خلف الباب من الناحية الأخرى " لا أنا نائمة.. هيا أذهب إلى غرفتك "
ابتسم أنس وهو يقول بمشاكسة " إن كنتِ نائمة فكيف أجبتني؟ "
ردت شمس بنفس الغضب " لا شأن لك بي يا أنس.. أنا... أخاصمك "
تحشرج صوتها مع نطقها لآخر كلمة فمال أنس يستند بجبهته على الباب وهو يقول بصوت حزين " وأنا جئت لكي اراضيكي.. هيا افتحي لي الباب "
شهقت باكية وهي تقول " لا أريدك أن تراضيني "
قطب بألم وهو يقول " لكنني أريد.. افتحي الباب يا شمس أنا آسف "
ضربت الباب بقبضتها وهي تهتف بغضب " كل مرة تقول آسف ثم تفعل نفس الخطأ يا أنس.. كل مرة... كل مرة... آه "
هتف أنس بضيق " توقفي شمس.. ستؤذين يديكِ "
ظلت شمس تبكي وتشهق بينما أنس يطرق الباب بحدة وهو يناديها " افتحي يا شمس.. أنا آسف.. أرجوكِ افتحي الباب "
خرج والديه فجأة من جناحهما وقد بدى والده غاضباً بينما أمه كان الحقد يسكن نظراتها وهي تقول " هل ستستمر طويلاً في توسل شمس هانم لتفتح لك باب رحمتها أم ماذا؟ "
نظر لها بجمود وهو يرد ببرود مغيظ " أجل سأظل مستمراً حتى تفتح لي باب رحمتها وإن لم تفعل فلن أرحل ولن أكف عن توسلها "
شعر أكرم بانقباض مفاجئ وهو ينظر إلى أنس، لا ينكر بأنه شاب مجتهد كفء في عمله ، ولا ينكر بأن أنس يكن لشمس مكانة خاصة ومحبة لا يمكن لأخر أن ينافسها عليها رغم أنها ليست شقيقته تماماً
تلك المكانة والمحبة هي ما تجعله مطمئناً على شمس إن تركها يوماً فهو يثق بأن أنس سيحميها ويفديها بروحه لو تطلب الأمر
لكنه غاضب منه ومن أفعاله المتهورة التي لا يكف عنها ولا يتركها إلا إرضاءا لشمس وما هي إلا فترة ويعود لها من جديد
تنهد أكرم قائلاً بإقتضاب لا يعكس دواخله " اذهب إلى غرفتك يا أنس طالما لا تريد شمس أن تفتح لك "
عقد أنس ساعديه أمام صدره وقال بإصرار وهو ينظر إلى أمه بإستفزاز " قلت لن أرحل إلا بعدما تفتح لي الباب واضمها إلى صدري واقبلها وربما رغبت أيضاً في النوم إلى جوارها الليلة "
كتم أكرم ضحكة كادت تفلت منه وهو يرى الشرر الذي بدأ يتطاير من نظرات مروة وهي تهتف بحقد ودون وعي " وهل الهانم ستظل في عملية إذلالك بهذا الشكل طويلاً؟ لا أفهم ما سر تعلقك بها لهذا الحد إنها مجرد فتاة مدللة سخيفة... "
أجفلت مروة وانخرست تماماً على صرخة أنس الحادة وهو يقول " كفى "
نظرت له بذهول وهي تقول " هل تصرخ في وجه أمك لأجل تلك ال... "
صرخ من جديد بصلابة أكبر " قلت كفى.. لا أقبل ولا أسمح لكائن من كان بأن يهينها.. لست متهاونا مع من يمس ما يخصني بسوء ولو بكلمة عرضياً فأرجوكِ لا تكوني أنتِ الأولى يا أمي "
شحبت مروة وهي تقول بصدمة " هل تهددني يا أنس؟ تهدد أمك ولأجل من؟ "
رد أنس ببرود " لأجل أختي "
صرخت مروة بغل " ليست أختك.. لا تقل أختك.. هي ليست ابنتي "
حرك أنس كتفيه بلامبالاة وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله بينما يرد بهدوء مغيظ " معكِ حق هي ليست ابنتك لكنها اختي رغماً عني وعن الجميع يا أمي وليس معنى أنني وشمس لسنا من نفس الأم أننا لسنا أخوة فعلى ما يبدو أنه قد فاتك أن كوننا من نفس الأب سبب ودافع ورابط أقوى يجعل منا أخوين "
دون أن ينتظر منها رد كان يستدير ويطرق الباب وهو يقول بغيظ طفولي " افتحي الباب حالاً يا شمس وإلا أقسم س... "
قطع حديثه فهتفت شمس من الداخل بغيظ " س... ماذا؟ تابع سيد أنس أنت تثير اهتمامي جداً "
ضرب الباب بعنف وهو يصرخ " سأكسر الباب يا شمس.. إن لم تفتحي سأكسر الباب وسيقع فوقكِ وأنتِ تقفين خلفه فيتحطم رأسكِ ويتشوه وجهكِ وتصبحين بشعة "
صرخت شمس في المقابل وهي تضرب الباب بقبضتها " لن تفعل... آه "
صرخ أنس بغضب " توقفي عن ضرب الباب بقبضتك.. يا غبية الباب صلب وقبضتك رقيقة ستتأذى ولعلمك يا شمس.. سأفعل "
فتحت الباب بقوة وهي تهتف بشراسة " هيا أرني كيف ستحطمه "
لمعت عيني أنس ببريق النصر وهو يمسك معصميها هاتفاً بحماس " وما حاجتي لكسر الباب طالما فتحتي الباب بوداعة وأدب يا حمقاء؟ "
حاولت الإفلات منه دون جدوى فصرخت بغيظ " أنت مخادع.. اتركني أنس أنا اخاصمك "
نظر إلى وجهها العابس ببراءة وهو يقول " ألا يمكنكِ أن تمنحيني قبلة المساء وتخاصميني بدءاً من الغد؟ "
زفرت بغيظ منه قبل أن تميل على وجنته تقبله بسرعة وهي تقول " هل إنتهينا الآن؟ "
برم شفتيه بغير رضا وهو يقول " لا بأس بها (ثم أفلت يدها وهو يبتسم بحنان قائلاً) تصبحين على خير يا شمسي "
تنهدت مبتسمة وهي تقول " وأنت بخير يا أخي "
***
في ذات التوقيت / بالمدينة الجبلية في الجنوب
في عتمة الليل ووحشته الكئيبة كان يقف كالطود على جواده ، منتصب الظهر بثبات دون أن يرف له جفن، حدقتيه تدوران في المكان الفسيح الذي يقف فيه وهو يحاول ترصد أي حركة أو صوت دون جدوى
كان كل شيء ساكن من حوله ولا هدير عالٍ سوا أنفاسه المتسارعة
وفجأة ومض ضوء خافت على بُعد منه فضيق عينيه قليلاً وهو ينظر إلى ذاك الضوء محاولاً إكتشاف مصدره لكن طول المسافة نسبياً بينهما لم يساعده في ذلك مما جعله يعيد اللثام على وجهه من جديد قبل أن يشد اللجام الذي يمسك به بقبضة قوية فيصهل الجواد في استجابة له قبل أن يعدو به منطلقاً نحو مصدر الضوء
بعد دقائق معدودة كان قد وصل إلى وجهته فرفع وجهه إلى السماء يزفر بغضب مكبوت وهو يدعو الله في نفسه " يارب خيب ظني فلا أعلم إن صدق حدسي ماذا سيكون رد فعلي؟ يارب لا تجعل جحيم الماضي يؤثر عليّ.. يارب "
بضع خطوات أخر وتوقف تماماً عن الحركة وهو ينظر إلى الرجل العجوز الذي يفترش الأرض ودموعه تغرق وجهه
بصبر سحب نفس عميق ثم زفره على مهل قبل أن يقفز من فوق ظهر الجواد برشاقة ويتقدم بخطى هادئة قائلاً بخفوت حتى لا يجفل العجوز " السلام عليك عماه "
رغم خفوت نبرة صوته وهدوئها إلا أن الرجل أجفل بشدة وهو ينتفض في جلسته هاتفاً بصوت أقرب إلى الصراخ " ماذا تريد؟ أنا لم أؤذي أحد.. ابتعد "
أغمض عينيه للحظة قصيرة ثم فتحهما ببطء وهو يحدق في الرجل العجوز مطيلاً النظر إليه مما جعل الأخير ينكمش على نفسه قائلاً بصوت مرعوب " من أنت؟ أنا لم أؤذي أحد.. أقسم لم أفعل "
أخيراً وبعد صمت طويل تكلم الشاب الملثم قائلا بهدوء تام " وهل اتهمتك بشيء يا عماه؟ "
حرك العجوز رأسه سلباً وملامحه متشنجة خوفاً وهو يتمتم " من... من أنت؟ "
التفت الشاب بخفة حول نفسه وهو يتجاهل سؤال العجوز قائلاً بنفس نبرته الهادئة حد الغيظ " ماذا تفعل وحدك هنا في هذا المكان المقفر والجو البارد؟ "
سكت العجوز للحظات ثم رد بإرتباك حينما عاد الشاب الملثم ينظر له بنظرته الثاقبة من جديد " ليس... ليس لي مكان آخر أذهب إليه.. أنا هنا منذ بضعة أيام فقط ولم... ولم ازعج أو أؤذي أحد "
اومأ الشاب برأسه وهو يؤكد كلام العجوز بثقة تامة محدقا في عينيه بجمود " بالطبع لم تفعل وإلا لكنت عرفت بذلك ثم من ستؤذي في مكان خالي كهذا لا تطأه أقدام بشر؟ "
عادت حدقتي الشاب تدوران متأملة في المكان الخالي شبه المعتم الذي يقف فيه وكأنه يبحث عن شيء ما حتى تنبه على صوت العجوز يكرر سؤاله " لم تخبرني من أنت؟ "
زفر بحدة لسبب مجهول قبل أن يعيد بصره للعجوز قائلاً " هويتي لن تفيدك في شيء.. أخبرني ما إسمك يا عماه؟ "
قطب العجوز وهو يرد " عمران "
سأل الشاب بإهتمام " لا أظنك غريب عن البلدة.. من أي عائلة أنت يا عماه؟ "
زادت تقطيبة عمران دون أن يرد عليه فقال الشاب بصبر " انتظر ردك يا عماه.. من أي عائلة تكون؟ "
رد عمران بعد لحظة " هويتي لن تفيدك في شيء "
ارتفع حاجبي الشاب قليلاً ثم قال بشيء من اللامبالاة " لعلمك فقط أنا أعرفك "
نهض عمران من مكانه واقترب من الشاب بحذر وهو يقول " إن كنت تعرفني فما الداعي لسؤالك؟ "
رد الشاب ببساطة يخفي لهيب مشاعره في تلك اللحظة وهجوم ذكريات جاهد لكبتها " مجرد تأكيد ليس إلا "
صهل الجواد فجأة بقوة فاستدار الشاب على عقبيه ينظر حيث يصهل جواده ثم قال بعجلة وهو يعتلي جواده الأدهم " سأرسل لك أحد بعد قليل فأذهب معه حيث سيأخذك ولا تخف.. لك الأمان.. أراك على خير يوماً ما عماه "
ركض الشاب منطلقاً بجواده بعيداً والعجوز يشيعه بنظرات حائرة قبل أن يتمتم بشجن " سبحانك ربي لا تضيع عبادك أبداً ومن بعد وحشة اليأس تمنحنا سكينة الفرج "
***
أخيرا وفي نفس اللحظة وصل زيد إلى وجهته التي كان يقصدها ووقف على فرسه ينظر أمامه حيث ابن عمه بغضب مكبوت
بصوت قوي وقد زال به كل لمحة هدوء كان يهتف بضيق " دوماً حظك لا يحالفك يا ابن عمي "
قطب ياسين بضيق وهو يواجهه قائلاً " ماذا تفعل هنا في تلك الساعة؟ "
هتف زيد بصوت جاد " هذا السؤال من المفترض بي أنا أن أوجهه لك.. ماذا تفعل هنا يا ابن عمي؟ أو لأكون أكثر تحديداً من تنتظر هنا في تلك الساعة؟ "
ارتبك ياسين للحظة ثم أشاح بوجهه عنه وهو يحاول أن يخفي عنه توتره بينما يقول " لا أنتظر أحد.. أنا شعرت بالضيق فخرجت من الدار لكي... لكي أسير قليلاً وحدي "
رفع زيد حاجبيه بسخرية وهو يقول " سبحان من خلق الملكوت وأبدعه وخلق الصدف وجمعها! عجيبة تلك الصدفة فعلا وخاصة أن ملك شعرت بنفس الضيق فخرجت من الدار هي الأخرى لكي تستنشق الهواء الطلق في الخارج بل لأكون أكثر دقة في نفس المكان الذي قصدته أنت "
زاد توتر ياسين فهتف بحنق " بماذا تهذي أنت؟ انتبه لكلامك زيد فهو ليس بهين "
كانت نبرة زيد القوية أكثر سطوة من كافة الصراخ والهتاف وهو يقول " أنت من عليه الانتباه لكلامه ليس أنا... (رفع رأسه بشموخ وهو يتابع باعتداد) لست أنا من يهذي وأنت تعرف ذلك جيداً "
زفر ياسين واصابعه تتقبض بتشنج وهو يقول " ماذا تريد؟ "
رد زيد بصوت بارد " وجه سؤالك لنفسك أولاً يا ابن عمي وأعرف إجابته.. ماذا تريد من ملك؟ "
انتفض ياسين بغضب وهو يهتف " لقد تخطيت حدودك كثيراً يا زيد وأنا لا... "
قاطعه زيد بسخرية " وهل أكذب؟ "
زفر ياسين بضيق وهو يرد " أنا لم أطلب منها أن تلحق بي إلى هنا ولا لأي مكان آخر "
زفرة حادة خرجت من بين شفتي زيد قبل أن يقول من بين أسنانه " هذه هي المصيبة.. أنت لم تطلب منها لكنها تلاحقك وأنت لم تمنعها أبداً مما يجعلها تتمادى أكثر "
هتف ياسين بيأس شديد " ماذا تريدني أن أفعل؟ أنا أحبها "
أجفله صوت زيد وهو يقول بحدة " إن كنت تحبها حقاً فأذهب إلى جدها واخطبها منه.. أما غير هذا فيعد خطئا محسوبا عليك قبلها حتى وإن لم تفعل أو تشجعها على شيء "
زفر ياسين دون رد وقد غمره شعور بالحرج والخزي من تصرفاته الصبيانية الغير محسوبة لكنه كان تائه ولا يعرف أي السبيل يسلك.. حائر ولا يعرف الطريقة الصحيحة التي يجب أن يتصرف بها مع ملك حتى يصل معها إلى بر الأمان
بعد لحظات صمت في سكون الليل قال ياسين بصوت متعب " سأعود للدار.. أحتاج إلى النوم بشدة "
رد زيد بإيجاز " حسناً "
لم يكد ياسين أن يسير خطوتين حتى توقف فجأة وهتف بقلق " قلت أن ملك خرجت من الدار فأين هي إذن؟ ماذا حدث معها؟ "
قطب زيد وهو يرد ببرود " ملك في مكانها الصحيح حيث يجب أن تكون.. إنها في الدار.. لقد أعدتها بنفسي دون أن يشعر أحد بخروجها وحدها في تلك الساعة المتأخرة "
تنهد ياسين براحة وهو يقول " الحمد لله.. تلك الغبية تحتاج لصفعة تفيقها من طيشها "
رد زيد متمتماً بنفس البرود وهو يستدير بفرسه بخفة " ليست وحدها من تحتاج لصفعة حتى تفيق وإن كانت تحتاج إلى كسر عنقها على وقاحتها "
تذكر فجأة تلك الرسالة التي وصلته قبل وصوله إلى ياسين والتي كانت كلماتها تصرخ غضباً جعله يعرف في أي حال صاحبها الآن
**لقد سئمت التغطية على أفعالكم جميعاً بمن فيهم أنت وكأنني شبح يطارد الكون بمن فيه حتى يزيل آثار خباياكم واخطائكم**
ودون كلمة أخرى كان ينطلق بفرسه سالكاً طريق العودة إلى الدار
***
بعد ساعة دخل بملامح هادئة لا تعبر عن شيء ولا تفصح عن مكنون خلده وأفكاره
كان الصمت والسكون يعم الدار فعلم أن الجميع بالتأكيد قد خلدوا للنوم فتنهد شاعراً بالراحة
لكن خطوة.. اثنتين.. ثلاث ثم توقف في مكانه للحظة وهو يسحب عدة أنفاس يملئ بها رئتيه، أنفاس كانت محملة برائحة الطيب الذي يبث في روحه السكينة
شبح ابتسامة ظهر على شفتيه وهو يتمتم بهمس به لمحة من الشجن " ومن سواك يا أبي ينتظرني مهما تأخرت؟ "
أكمل خطاه بهوادة وكأنه يعد خطواته حتى وصل إلى الدرج فتسلقه بهدوء كذلك حتى وصل إلى تلك الغرفة الجانبية التي يتخذها والده مصلى وعزلة له عن الجميع
كان الباب مغلق لكن صوت والده العذب وهو يتلو آيات القرآن الكريم تشعرك وكأن كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها، تناديك بأن تقتحمها دون مقاومة منها، تطلب منك سلكها ببساطة دون تعقيد
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما متنهداً بقوة قبل أن يطرق الباب ثلاثاً ويمسك بمقبض الباب يديره بخفة قبل أن يدلف للداخل مغلقاً الباب خلفه
كان والده يجلس في ركن قصي من الغرفة وفي يده مسبحته البيضاء يحركها بين أنامله بخفة مع صوت تمتماته الخافتة
ما إن دخل حتى رفع والده رأسه إليه ونظر له مبتسماً وهو يشير له بكفه ليقترب منه دون كلام
دون تردد اقترب منه وجثى على ركبتيه أمامه وهو يميل ليلثم كتفه قائلاً " السلام عليك يا أبي "
قبل سليم جبينه وهو يرد بحنان " وعليك سلام الله ورحمته وبركاته يا ولدي.. تأخرت الليلة "
تنهد بإرهاق وهو يعتدل في جلسته أمام والده مجيبا بهدوء " لقد طرأت لي بعض الأمور وكان عليّ حسم الأمر فيها دون تأخير "
ابتسم سليم وهو يسأله " وهل وفقك الله فيها؟ "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد " أظن ذلك فدعواتك تلاحقني أينما أكون يا أبي "
اتسعت ابتسامة سليم وهو يقول " بالطبع ستلاحقك فقد وكلتها بحراسة ولدي الغالي وأتمنى أن تكون على قدر ثقتي بها فتحميك "
أطرق برأسه دون رد فقال سليم بقلق " ما بك يا زيد تبدو مهموما؟ "
رفع زيد رأسه ونظر إلى والده بإقتضاب قائلاً " لقد وجدنا العم عمران الناصر يا أبي "
قطب سليم بحيرة يقول " الحمد لله.. هذا خبر جيد لكنك تبدو منزعجاً "
قبض زيد على كفيه في قبضتين قويتين وهو يرد بضيق " حينما مررت عليه قبل قليل وجدته يبكي فلم أستطع أن أكلمه حتى "
زفر بحدة وهو يضيف " لا أصدق أن هناك ابن قد يفعل ما فعله ذاك الحقير بوالده.. لقد تطاول عليه وضربه يا أبي.. أي نوع من الأبناء هو ذاك ال... ال... استغفر الله العظيم.. أشعر بأنني سأموت كمدا وقهرا إن لم أقتله... "
قطع حديثه مجفلاً وذاهلا حينما انفجر والده في الضحك بصخب على غير عادته الرزينة
رمش مراراً وهو ينظر إلى والده حتى وجد نفسه يبتسم تلقائياً وهو يضيق عينيه قليلاً بينما يقول مناكفاً " ما الذي يضحكك هكذا يا سليم؟ اضحكني معك أم أنني لا حظ لي سوا في البؤس والحزن من هذه العائلة؟ "
دمعت عيني سليم من شدة الضحك فكانت يد زيد الأسرع وصولاً إلى وجهه وهو يمسح دمعاته بلطف شديد وحينما هدأت ضحكات سليم قال بابتسامة حنونه " حفظك الله للضعفاء يا ولدي "
غمغم زيد لنفسه بخفوت " بل حفظه هو للضعفاء يا أبي فلست أنا من وجد العم عمران من الأساس "
تنهد سليم قبل أن يضيف دون أن يلاحظ تمتمة زيد الخافتة " لكن تمهل قليلاً وأحذر من اندفاعك في ردود أفعالك.. يكفي واحد يا زيد "
قطب زيد وهو يقول بامتعاض " بالمناسبة هذا ال 'واحد' منزعج وبشدة "
ابتسم سليم بشجن وهو يرد " ومتى لم يكن هكذا؟ لقد أتى إلى الدنيا على هذا الحال "
صمت زيد دون تعقيب بينما تنهد سليم وهو يقول مغيراً الموضوع " ملك كانت في الخارج.. لقد رأيتها وهي تدخل الدار لكني لم أكلمها "
قطب زيد وهو يتذكر الرسالة الثانية التي وصلته في طريق عودته للدار
**إن أكتشف أحد ما فعلته تلك الحمقاء وسألك عن الأمر فتصرف بحكمة ورد بإيجاز دون أن تفصح عن الكثير حتى نجد لرعونتها حل ونضع لها حدا**
تنحنح بتوتر وهو يرد " لم تكن وحدها يا أبي ولم تبتعد كثيراً وقد أعدتها بنفسي إلى الدار لكنني لم أتمكن من الدخول معها بسبب أمر طرأ لي فجأة كما قلت لك "
أطرق سليم برأسه وهو يتلاعب بحبات مسبحته بين أنامله بينما يقول " هناك ما لا تريد الإفصاح عنه أليس كذلك يا ابن سليم؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بإيجاز " أجل "
ابتسم سليم وهو يربت على كتفه قائلاً " لا بأس بني يمكنك إخفاء ما شئت.. أنا أثق بك "
تنهد زيد وهو يطرق رأسه ناظراً لحظات المسبحة التي تتحرك بخفة بين أنامل والده وهو يحدث نفسه بشجن " ليتني إحدى حبات مسبحتك يا أبي.. تتنعم بدفئك ولا تغادر يدك أبداً "
عاد سليم إلى ملكوته الخاص وتمتماته بالذكر تسكب السكينة والراحة في نفس زيد المهمومة وظلا هكذا لقرابة الساعة
بعد مضي وقت طويل التفت سليم إلى ابنه فوجده يقف أمام النافذة ينظر للأفق البعيد بنظرة شاردة فناداه بلطف حتى لا يجفله " زيد! "
رمش زيد لبرهة ثم التفت برأسه إلى والده يرد بهدوء " نعم أبي "
ابتسم سليم وهو يقول " هل انتهيتم من ترتيبات العرس؟ "
عبس زيد بينما يرد " أظن ذلك رغم أن الفنانة لا تكف عن التذمر كل لحظة مطالبة بتعديلات لا أعرف من أين تأتي بها "
ضحك سليم بخفوت فتابع زيد بغيظ " لو كانت عروسي كنت طلقتها ثلاثاً وهربت منها أقسم بالله "
انفجر سليم ضاحكاً بينما زيد زم شفتيه عابساً وهو يعود ببصره إلى النافذة من جديد
بعد لحظات قال سليم " من حقها يا ولدي فهي العروس ويجب أن تنال كل الترتيبات رضاها.. إنها ليلة العمر ولا تتكرر "
بنفس العبوس رد زيد " هذا لا يعطيها الحق حتى تتذمر على كل شيء ولا شيء.... أكاد أجن بسببها "
ابتسم سليم وهو يقول " وماذا عن حمزة؟ "
رد زيد ساخراً " لا ينطق بكلمة وكأنه أصيب بالخرس كل ما يفعله أن يتأفف ويعبس في وجوهنا "
تنهد سليم وهو يقول " إنه يحب زهراء كثيراً ولا يريد أن يفسد عليها فرحتها كأي عروس لذلك يحتملها دون شكوى "
عقد زيد ساعديه أمام صدره وهو يرد متذمراً كطفل صغير " وما ذنبي أنا لأتحمل عبوسه وجنون عروسه؟ هل أخبرك سراً أبي؟ أنا لا أحبهما هل هذا مبررا كافيا لكي أتهرب منهما ومن عرسهما؟ "
ضحك سليم وهو يهز رأسه سلباً فزفر زيد حانقا وهو يقول " أنت تتخذ صف أبناء اخوتك يا سليم.. تقف معهم ضدي وهذا خطر عليك ففي لحظة لن أتوانى عن أخبار الحارس الحامي خاصتي ليرى العقاب المناسب لك (رفع سبابته وهو يشير الى والده بعبوس زائف) ها أنا احذرك "
أوشك سليم على الرد لكن صوت طرقات أحدهم على الباب قاطعه ليقول بهدوء " أدخل "
دخل حمزة ومن خلفه زهراء وكلاهما عابسين فنظر زيد إلى والده بطرف عينه وكأنه يقول
' ألم أخبرك أنَّ عليّ الهرب منهما؟ '
ابتسم سليم وهو يشير إلى زهراء لتدنو منه بينما قال حمزة " السلام عليكم "
رد زيد بخفوت دون أن ينظر إليه بينما ابتسم سليم بهدوء قائلاً " وعليك السلام يا ولدي.. لماذا لازلت مستيقظا؟ "
رمق حمزة زهراء بطرف عينه قبل أن يرد " كنت اتناقش مع زهراء في عدة أمور "
هز سليم رأسه بهدوء وهو يقول " وهل أثمر النقاش بينكما على خير؟ "
أراد حمزة أن يصرخ ب ' لا ' لكنه بدلاً من ذلك تمتم من بين أسنانه " تقريباً "
حينها رمقه زيد بنظرة ساخرة وهو يقول موجهاً الحديث لوالده " ألا ترى يا أبي بشارة الخير تكسو وجهه البشوش ما شاء الله؟ "
عبس حمزة بغيظ دون أن يرد بينما كتم سليم ضحكته في حين قالت زهراء بحزن " تصور يا عمي لا يريد أن نسافر إلى فرنسا في شهر العسل؟ "
رد سليم بمهادنة " ربما كان يريد اختيار مكان آخر ليس شرطاً أن تقضي شعر العسل في فرنسا "
ابتسم حمزة ساخراً وهو يقول " أخبرها يا عمي فقد مللت من محاولة اقناعها دون جدوى.. ألن يكون شهر عسل إن لم نذهب إلى فرنسا؟ "
هتفت زهراء بذهول وكأنها تخاطب مجنون " بالطبع لن يكون.. ألا تفهم؟ أنا أريد زيارة باريس مدينة العشاق ولن أقضي شهر عسلي في مكان أخر "
قطب حمزة وهو يقول باستنكار " مدينة العشاق؟ حقاً! لكن عمي سليم كان عاشقاً ولم يذهب إلى باريس في شهر عسله حتى حفصة وعاصم لم يذهبا إلى باريس هل هذا يعني أنهم ليسوا عاشقين أم أنهم لم يستمتعوا بشهر عسلهم الموعود؟ "
زمت زهراء شفتيها وهي ترد بعناد " لن أقضي شهر العسل سوا في فرنسا "
تمتم حمزة بتهكم " عسل! وأين هو العسل يا حسرة؟ لا أرى أياً من بوادره "
جحظت عيني زهراء وهي تقول " ماذا تقول يا حمزة؟ أنت... أنت لا تحبني "
أنهت كلماتها وانخرطت في البكاء فزفر حمزة بيأس وهو يقترب من زيد يقف إلى جواره أمام النافذة واضعا كفيه في جيبي بنطاله وكلاهما ينظران للخارج
كان سليم يهدئها ويحاول مناقشتها بلطف في حين تمتم حمزة بخفوت " هذا ما نأخذه من الحب "
رمقه زيد بطرف عينه وهو يقول متنهداً بنفس الخفوت " لازلت في بداية الطريق.. عليك بالصبر أكثر فقد فات الأوان.. لا يمكنك الندم الآن ولا حتى التراجع "
تنهد حمزة وهو يلتفت ناظراً إلى زهراء بهيام رغم كآبته وهو يقول " أنا لا أنوي التراجع في أي لحظة ولا أشعر بالندم أبداً لكن المشكلة أنني تعبت يا زيد.. كل ما أريده أن تكون زهراء أكثر تفهما "
ربت زيد على كتفه قائلاً " زهراء طفولية جداً لذلك يصعب ارضائها بسهولة لكنها هي الأخرى تحبك جداً وهذا وحده كافياً ليطمئن قلبك.. صدقني مهما عاندت في البداية سترضخ لك ولما تقرره في نهاية الأمر "
لم تمر لحظة حتى هتفت زهراء بنبرتها الطفولية بحماس " لِمَا لا؟ فكرة رائعة وأنا موافقة "
نظر حمزة إلى عمه بترقب وهو يقول " علام اتفقتما عماه؟ "
ابتسم سليم وهو يقول " زهراء وافقت على قضاء شهر العسل في أي بلد ستختارها أنت على أن... "
قطع سليم كلامه فجأة فحدق فيه حمزة بحذر وهو يقول " ماذا بعد؟ "
أكملت زهراء بسعادة " حينما يقرر زيد الزواج ويقيم العرس فسوف نذهب معه أثناء رحلة شهر عسله "
هتف حمزة بذهول " نذهب معه! "
في نفس اللحظة هتف زيد مستنكرا " شهر العسل خاصتي؟ من سيذهب معي؟ "
ابتسمت زهراء بسعادة وهي تقول " أنا وحمزة سنذهب معك وهكذا سأحظى برحلتين شهر عسل بدلاً من واحدة وسأسافر مرتين بدلاً من مرة واحدة "
قال زيد من بين أسنانه " فكرة من هذه؟ "
أشارت زهراء على عمها وهي تقول " فكرة عمي سليم.. أليست رائعة؟ "
رفع زيد حاجباً بغيظ ولسان حاله يقول
' تماديت يا سليم وقد أخبرتك أن انحيازك إلى صف أبناء اخوتك خطر عليك '
كتم سليم ضحكته وقد فهم ما يفكر فيه ابنه بينما قال حمزة بعبوس " لا يصح أن نشاركهما.. كل عروسين يحتاجان إلى بعض الخصوصية في تلك الرحلة "
ابتسمت زهراء وهي تقول ببساطة " سنسافر معهما ونقيم في أي فندق آخر غير ما سيقيمان فيه وهكذا لن نزعجهما إطلاقاً وسيحظيان بكل الخصوصية "
رفع زيد حاجبيه بذهول وهو يقول " هل تتحدثان جدياً في رحلة شهر العسل خاصتي بل وخصوصيتي أنا وعروسي التي هي وللعلم مجهولة حتى اللحظة وقد لا تكون هناك عروس من الأساس في حين أن الزفاف الذي سيقام قريباً يخصكما أنتما؟ "
ردت زهراء ببساطة " لا تقل هذا.. ستتزوج إن شاء الله قريباً جداً ومن عروس غاية في الجمال "
فتح فمه ينوي الحديث ثم اغلقه ثانية وهو يشعر بالذهول حتى تمتم بعد لحظات " سأذهب لغرفتي قبل أن أفقد الجزء الصغير المتبقي من عقلي الذي قضيت عليه تلك العائلة المجنونة.. تصبح على خير يا أبي وانتما... لا "
ضحك سليم وهو يرد " وأنت بخير يا بني "
فتح زيد الباب ليغادر لكنه التفت لهم مرة أخرى وهتف بحنق " هل يمكنني أن أطلب منكما طلب صغير؟ "
عبس حمزة بينما قالت زهراء مبتسمة " بالطبع.. أي شيء "
هز زيد رأسه بيأس قبل أن يهتف بغيظ " هلا تبرأتما مني؟ ستكون هدية تاريخ مولدي لهذه السنة وسأتقبلها منكما شاكراً أقسم بالله "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه وضحكات سليم تتبعه في حين قطبت زهراء بحيرة تقول " هل جن تماماً؟ خسارة والله كان من زينة شباب العائلة "
***
وصل إلى غرفته يشتم في سره حمزة وزهراء وذلك الزفاف وبقية أفراد العائلة
مزاجه مكدر لا لسبب سوا أنه للمرة التي نسى عددها قد فشل في لقائه ، ها هو يأتي إلى البلدة ويرحل دون أن يراه وجهاً لوجه
يحمل بداخله الكثير من التساؤلات التي يريد إيجاد حلول وتفسير لها ومع تهرب ذاك المستفز من لقياه لا يجد سبيلا لحل شفرة تلك التساؤلات
جلس على طرف الفراش مطرق الرأس وبضعة دمعات تفر من عقال محبسها منهمرة على وجنتيه بحرقة وهو يتمتم " ألن تسامحني؟ ألن تغفر لي؟ أخبرني ماذا أفعل لترفع حاجز الماضي الذي يفرق بيننا ويحول بيني وبين رؤياك؟ لكم أشتاق إليك كثيرًا.. أخي "
فجأة أضاءت شاشة هاتفه الملقى إلى جواره برسالة نصية فسارع بالتقاط الهاتف وفتحه يقرأ الرسالة بلهفة
**أتمنى أن تكون أنجزت ما طلبته منكَ دون أخطاء**
كاد يسب ويلعن وهو يشعر بأحشائه تتفتت من الحرقة والألم، ها هو يرسل له بضعة كلمات مقتضبة موجزة للإطمئنان على سير الأمور التي سبق واطمئن أنها تسير كما خطط لها
سحب نفس عميق وزفره على مهل في محاولة منه لتهدئة أعصابه المحترقة بعدها كتب
*لا تقلق.. كل شيء يسير حسب اوامرك هل هناك شيء آخر؟*
أتاه الرد دون تأخير
**لا.. ليس بعد**
زم زيد شفتيه يمنع نفسه بصعوبة من التلفظ بسباب تليق بذلك المتعجرف البارد وهو يكتب بغيظ
*حسناً.. أين أنتَ الآن؟*
انتظر الرد طويلاً حتى أتاه بعد دقائق متمثلا في كلمتين موجزتين لا تعبران عن شيء
**في الطريق**
جحظت عينيه بغضب مكبوت وهو يتمتم " هل يريد اصابتي بالجنون أم ماذا؟ "
دون أن يتحكم في نفسه كتب ما يعبر عن غيظه وضيقه
*تباً لكَ*
أتاه الرد باردا كمحتواه
**أخلاقك أصبحت متدنية جداً**
***
على الجانب الآخر
كان يحدق في الطريق أمامه بعينين صقريتين غائمتين في بئر سحيق لا قرار له من الغموض
كانت نظراته القاتمة تنهبان الطريق كعجلات سيارته في تلك اللحظة
عقله لا يتوقف عن التفكير ورغم أن أفكاره متفرعة لعدة موضوعات وتشمل أكثر من جانب وجهة إلا إنه بحكمة ومهارة يمسك لجامها جميعا في قبضة يده
أجفل من أفكاره على صوت هاتف يوسف وقد علا رنينه فجأة فألتقطه الأخير من جيبه مجيبا " السلام عليكم "
ردت مريم بهتاف حانق " وعليكم السلام.. كم الساعة الآن يا بك؟ "
قطب قليلاً وهو ينظر إلى ساعة معصمه قبل أن يرد ببساطة " الواحدة صباحاً "
عادت تصيح من جديد " نعم الواحدة صباحاً ولازلت في الخارج "
زفر بإرهاق يقول " اهدئي أرجوك لا داع لكل هذا.. أنا لست ولدا صغيرا "
صمتت للحظة وقالت بعدها بحزم أمومي " حينما تصل أصعد مباشرة لشقتنا أريد رؤيتك قبل أن تنام.. مفهوم؟ "
تنهد بإحباط يقول " حاضر "
قالت هي بإقتضاب " في أمان الله "
أغلق الخط وهو يتمتم بيأس " حتى متى ستظلين تعاملينني كطفل صغير؟ اقسم بالله أنا كبرت "
بعد لحظات إلتفت يوسف إلى صديقه قائلًا " لماذا لم تخبره أنني كنت معك في المدينة؟ "
رد الآخر بلامبالاة " لا أريد لأحد أن يراك.. هذا أفضل لأجل سلامتك وأمانك ولا تنس أنه يظن بأنك أنت من وجدت العم عمران وأنك من تراسله "
ابتسم يوسف بمحبة يقول " بطلي المغوار يخشى عليّ إذن "
عبس الآخر يرد " لستُ بطلا "
ضحك يوسف وهو يسلط نظراته على الطريق من أمامه قائلا " ماذا عن فارسي المغوار؟ "
زفر الآخر بملل يقول " ركز في القيادة وأكرمني بصمتك يا يوسف "
كتم يوسف ضحكته يقول " تحت أمرك يا باشا "
***
بعد ساعة
تفاجئ بها تقف على الباب مكتفة الساعدين أمام صدرها ووجهها عابسا على غير عادتها
تنحنح قليلا بخفوت فأفسحت له ليدخل وهي تقول بغيظ " حمداً لله على سلامتك يا بك "
دلف بهدوء وهو يرد بعفوية " سلمكِ الله عمتي "
صفقت مريم الباب خلفها وهي تقول " الساعة أصبحت الثانية.. أين كنت كل هذا الوقت؟ "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يرمق جلسة مختار على الأريكة، مكتف الساعدين واضعا ساق على الأخرى ويطالعه بهدوء تام لا يعبر عن شيء بينما كانت نبض إلى جواره، ضامة ركبتيها إلى صدرها وتطوقهما بذراعيها مستندة بجبهتها على ركبتيها ويبدو أنها سابحة بعيدا على بساط النوم السحري
تساءل يوسف بدهشة " هل هناك حالة استنفار أم ماذا؟ "
برم مختار شفتيه دون رد بينما صاحت مريم من خلفه " حدثني أنا.. سألتك سؤال ولازلت انتظر إجابة واضحة وصريحة عليه.. أين كنت؟ "
نظر لمختار باستجداء ليساعده لكن الأخير حرك كتفيه وهو ينظر له ببراءة مغيظة فلم يجد بُدا من الرد
التفت إليها بهدوء يقول " كان لدي عمل طارئ "
سألته وهي تكتف ساعديها أمام صدرها " أين؟ "
رد بإيجاز " خارج العاصمة "
سألته وهي ترفع حاجبا ببرود " أي عمل هذا الذي يستدعيك للخروج من العاصمة يا دكتور؟ "
رد مقطبا " ليس له علاقة بعملي كطبيب "
نظرت له بغيظ تقول " بالطبع ليس له علاقة.. أخبرني يوسف أين كنت بالضبط؟ "
زادت تقطيبته وهو يرد " هل لي بأن أحتفظ بالإجابة لنفسي؟ "
صرخت مريم بانفعال " لا.. ليس من حقك.. تكلم يا ولد حالا "
أجفلت نبض من خلفه وصدرت عنها صرخة قصيرة كتمتها بسرعة وهي تقول بإرتباك بينما تجاهد لتبقي عينيها مفتوحتين " ها! ماذا يحدث.. لماذا تصرخين ماما؟ "
التفت ينظر إليها بحنان وهو يقول " اذهبي إلى غرفتكِ يا صغيرة لقد تأخر الوقت ولديكِ مدرسة في الصباح "
أجفلته صرخة مريم وهي تقول بانفعال " لقد أتى الصباح بالفعل يا بك إن لم تكن لاحظت ذلك "
تنهد بعمق وهو ينظر إلى مختار الذي تطوع أخيرا بالتدخل " اهدئي مريم الأمور لا تؤخذ على هذا النحو من العصبية "
هتفت مريم بغيظ " من فضلك مختار لا تتدخل أنت.. هذا ابني وأنا أدري بالطريقة التي أتعامل بها معه "
نهض مختار من جلسته يغمغم بغيظ " حسناً مريم سأدعه لكِ عسى أن نستريح فقط من صراخكِ فلدينا عمل ونحتاج للراحة بضعة ساعات "
دلف لغرفته ببساطة بينما خطى يوسف نحو نبض وجلس القرفصاء أمام الأريكة حيث تجلس وهو يقول " وأنتِ صغيرتي ألا تحتاجين للراحة؟ "
تثاءبت نبض رغما عنها وهي ترد عليه دون أن ترفع رأسها المطرقة باسترخاء " نعم احتاج لكن... ماذا ستفعل ماما معك؟ "
تنهد بعمق يرد " لا أظنها ستضربني مثلا.. هيا انهضي إلى فراشكِ ولا تقلقي بشأني "
اومأت برأسها وهي تنزل ساقيها عن الأريكة الواحدة تلو الأخرى ببطء فانحسر ثوبها قليلا دون شعور منها مظهرا بشرة ساقيها البيضاء
أشاح يوسف بوجهه عنها سريعا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متصنعا الانشغال بالنظر للساعة المعلقة على الحائط المقابل له في حين كانت نبض ترمش بقوة لكي تستفيق قليلاً دون جدوي
قالت مريم بحنان " تعالي حبيبتي سأذهب معكِ إلى غرفتكِ (ثم إلتفتت برأسها ليوسف وأكملت من بين أسنانها) وأنتَ أبق هنا حتى أعود "
تنهد بإحباط وهو يسحب كرسي منفرد ويجلس عليه باستسلام بينما اختفت مريم مع نبض خلف باب غرفة الأخيرة
زفر بحنق من نفسه وهو يتذكر الصغيرة نبض وما حدث منذ لحظات ليغمغم بخفوت " عليّ بالحذر أكثر في التعامل معها بل وتقليل ساعات تواجدي معها هنا (قطب بضيق يقول) بل المفروض ألا اتواجد معها في الشقة حتى تكون على راحتها دون أن يشعرها وجودي بالحذر أو الارتباك كما يحدث معها "
أتت مريم بملامح عابسة تقول " فيما تفكر؟ "
رفع وجهه لها يرد بصدق وصراحة " أظن بأن وجودي هنا أصبح غير مرغوبا فيه "
قطبت مريم بتعجب تقول " كيف؟ من أخبرك بهذه الترهات؟ "
رد بهدوء " لم يخبرني أحد بشيء هذه أفكاري أنا "
رمقه مريم شذرا وهي تقول ببرود " أفكار حمقاء "
تنهد يقول " اصبحت شاباً يا عمتي لم أعد ذاك المراهق الذي سمحتِ له بدخول بيتكِ لأول مرة "
نظرت له بترقب في حين تابع هو " ونبض لم تعد تلك الطفلة التي رأيتها من قبل هي الآن مراهقة "
قطبت بعدم فهم تقول " ماذا تقصد؟ "
نظر لها يرد ببساطة " نبض دائما حذرة متخوفة من وجودي (حاولت مقاطعته لكنه تابع بتصميم) أعلم أنكِ وعمي مختار تثقان بي وأنا الآخر أعلم قدري وأثق في نفسي كثيراً لكن هذا لن يساعد نبض في شيء "
سحبت كرسي وجلست عليه بينما تقول " لم أفهم "
تنهد عميقا قبل أن يقول بجدية " نبض تحتاج لأن تشعر بأنها حرة في بيتها وغير محاصرة أو ملزمة بفعل شيء محدد بسبب وجود أي شخص "
قطبت بترقب تقول " هل تنوي هجرنا وتتخذ من نبض حجة لكي تفعل ذلك بضمير مرتاح؟ "
اومأ سلبا وهو يقول " بل أريد أخباركِ بأن أيا مما سأفعله لاحقا لن يمس مكانتكم لدي أبدا ولن يبعدني عنكم مهما حدث "
لم تعقب على كلامه فتابع هو بلطف " نبض يحق لها مساحة من الحرية يا عمتي وكلانا نعلم أنها لطبيعتها الخجولة لن تشعر بها في وجودي "
قالت مريم بحنان " نبض لم تشكو من وجودك بل إنها تكون سعيدة جداً كلما رأتك بخير "
ربت على يدها بلطف وهو يقول " وأنا أثق في ذلك لكن هذا لا ينفي أنها دائما ما تكون حذرة أمامي "
عبست مريم تقول " هي لا تكن كذلك.. أنتَ تضخم الأمر وتعطيه أكثر مما يستحق "
لمعت عينيه ببريق السعادة وهو يرى تشبث مريم القوي به وبوجوده معهم، شعر بانتعاش روحه المرهقة وهو يلمح حنانها العذب الغير مشروط التي تغدقه عليه دوما وأبدا دون انتظار مقابل أو السعي لتحقيق هدف خاص
لكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يكون انانيا فيتجاهل حقوق نبض والتي تعد لها الأولية على كل شيء آخر حتى على نفسه هو
رد بهدوء " إنها تجلس بكامل حجابها طيلة النهار ولا استبعد أن تكون تنام به أيضا.. أعلم أن ذلك ضروري وطبيعي أثناء وجودي في محيطها لكنه من غير العادل في حقها يا عمتي.. ألا ترين بأنني وبدون قصد مني أضيق من حولها الحصار بوجودي معكم؟ "
أشاحت بوجهها عنه فقال يتابع " أقسم لكِ أنني لا أنوي هجركم أو الرحيل بعيدا عنكم ليس بعد أن وهبني الله أم غاية في الحنان واللطف مثلكِ أو أب مراع لي ومهتما بي لأبعد الحدود كعمي مختار لكنني لست انانيا ولا استطيع أن أكون كذلك "
نظرت له بشجن فأكمل " لا يمكنني أن احرمها مما أحله لنفسي.. حريتها مهمة لها وإن لم تطلبها لكنها بحاجتها يا عمتي "
قالت بأمل " إذن أنتَ لن تتركنا "
رد بصدق " بالطبع لا.. (ثم أكمل يناكفها) وحتى إن أردت ذلك لا أظنك ستسمحين لي "
ردت بكبرياء وهي ترمقه بطرف عينها " طبعا.. أنتَ ابني ولن أسمح لكَ بهجري أبداً "
قطب يتصنع الحنق " تبدين أم متعنتة بشدة "
تكتفت تنظر له شذرا وهي ترد " هل لديك مانع؟ "
تأفف بتصنع دون تعقيب فقالت بترقب وهي تعود لجدية الموضوع " إذن ماذا تنوي بهذا الشأن؟ "
نظر لها بهدوء يجيبها " سآتي إلى البيت في وقت غيابها "
عبست مريم تقول " قرار غير صحيح "
تنهد يرد " ليس أمامي حل آخر وأرى أنه مريح "
قطبت تسأله " وماذا سأخبرها إن لاحظت غيابك عن البيت وسألتني عنكَ؟ "
رد ببساطة يقول " اخبريها أنني مشغول في عملي "
أشاحت بوجهها عنه تتمتم " لا أحب الكذب "
رفع حاجباً باستفزاز يقول " إذاً اخبريها الحقيقة بأنها باتت تشكل خطراً كبيراً على ثباتي واتزاني "
صاحت مريم بضيق " هذه ليست الحقيقة أنتَ تبالغ "
رمش ببراءة مصطنعة يقول " كيف أبالغ؟ ألا ترين ابنتك كيف هي زهرة جميلة تتفتح أمام ناظري وأنا شاب ككل الشباب لي مشاعري الخاصة و... "
قاطعته صارخة بحرج وهي تهب من جلستها قائلة بانفعال " أخرس يا ولد وكف عن وقاحتك تلك "
اومأ بأدب بأنه لن يتكلم فلكزته في كتفه بغيظ تقول من بين أسنانها " هل تعني أنكَ بت تنظر إليها نظرة غير أخوية؟ "
كتم ضحكته المتسلية وهو يرد ببراءة زائفة " نعم.. إنها جميلة و... "
قاطعته من جديد تصرخ " قلت أخرس "
اومأ من جديد وصمت فزفرت هي لاهية عن تسليه وكتمه لضحكته وهي تسأله " منذ متى؟ "
رد يوسف متصنعا التفكير " اممم... منذ متى؟ آه أظن منذ... "
قاطعته وهي تتحرك في مكانها بحرج " لا تقل.. أخرس تماما "
اومأ بطاعة وقد احمر وجهه قليلا من كتمه لضحكاته حتى لا يثير غضبها
قطبت مريم فجأة وهي تدقق النظر لوجهه قائلة من بين أسنانها " هل تتسلى على حسابي يا يوسف؟ "
اومأ إيجابا دون أن يرد فقالت بعينين لامعتين " إذن نبض لازالت تحتل مكانة الأخت الصغيرة لديك؟ "
اومأ برأسه إيجابا مرة أخرى فصاحت بغيظ وهي تضربه في كتفيه " كنت تتلاعب بأعصابي يا وقح يا قليل الحياء يا... يا... "
قاطعها وهو ينهض من كرسيه ممسكا بيديها بلطف بينما يقول ببسمة رقيقة " اهدئي عمتي.. كنت أمزح معكِ.. نبض أختي الصغيرة ولا اجرؤ على رفع عيني في وجهها بنظرة أخرى سوا هذه.. إنها صغيرتي كما هي صغيرتك في أمان معي كما هي معكِ "
ردت بإقتضاب بعدما هدأت قليلا " أعرف ذلك ولست في حاجة لتخبرني بما لدي يقين تام به "
رفع كفها إلى شفتيه يقبله برقة وهو يقول " الساعة باتت الثالثة يا مريمي.. أحتاج للنوم بشدة وحينما استيقظ إن شاء الله سآتي إليكِ بنفسي لتكملي توبيخكِ لي كما تريدين.. تصبحين على خير "
ابتسمت بحنان فياض وهي تشيعه بنظراتها وهو يبتعد عنها خارجا من الشقة بينما لسانها يتمتم " تصبح على جنة آمنة طيبة من الرحمن يا حبيبي "
***
في نفس التوقيت
كان يمني نفسه بحمام منعش وفراش وثير يريح فيه جسده المنهك من العمل الذي استهلك منه الكثير من الجهد اليوم لكن أمانيه ذهبت كلها أدراج الرياح وهو يرى أمامه آخر شخص كان ليتمنى رؤيته في تلك اللحظة
خطى ناحية الدرج بتجاهل تام لها وهو يدعو في داخله أن تتجاهله هي الأخرى فلا مزاج أو طاقة لديه لتحمل كلامها المغيظ لكنها أجفلته حينما شعر بها تتتبع خطواته بصمت فقطب وهو يكمل صعوده الدرج دون تعقيب
وصل إلى غرفته ففتحها ببساطة وقبل أن يغلقها بعدما دخل وجدها تقف أمامه بإبتسامة واسعة لا يعلم لما تشعره بالانقباض فتراجع للخلف خطوة تاركا الباب مفتوح قبل أن يوليها ظهره متجها نحو خزانة الملابس
دخلت هي مغلقة الباب خلفها واستندت عليه بظهرها مكتفة الساعدين أمام صدرها وحدقتيها متسعتان ومثبتتان على كل شاردة وواردة تصدر منه
كتم أنفاسه الغاضبة وهو يفتح أزرار قميصه بتأني وبرود عساها تمل وتشعر بالحرج منه فتخرج حينما ترى أنه لا أمل في أن يعطيها أي لمحة من الاهتمام
رمى القميص على الأرض بغيظ قبل أن يجلس على طرف الفراش مائلا بجذعه للإمام وهو يخلع حذائه وحينما انتهى وأستقام واقفا رمقها بطرف عينه فأشتعل الغضب بداخله أكثر وهو يراها لا تحرك ساكنا ولا تكف عن ملاحقته بنظراتها وابتسامتها
تحرك ناحية الحمام بضيق وقد قرر بأن يطيل المكوث فيه حتى ينفذ صبرها وتغادر الغرفة
وبالفعل أطال البقاء في الحمام لما يزيد عن الساعة حتى نفذ صبره هو وصبرها هي على ما يبدو طويل جدا ولازال في بدايته
حينما خرج كان القميص الذي بدله موضوع في سلة الملابس التي تحتاج للغسيل وحذائه موضوع بنظام إلى جوار البقية والأهم من كل هذا أنها هي كانت تجلس على الفراش متربعة وهي تحتضن دب أسود كبير يبدو أنها جلبته من غرفتها
رمى المنشفة التي كان يجفف شعره بها بغيظ على كرسي منفرد قابع في إحدى الزوايا ثم اتجه ناحية الفراش وأستلقى عليه موليا إياها ظهره والغضب يتآكله من الداخل
" أخشى أن تصاب بنزلة برد فمكيف الغرفة على أقصى درجة ومن الخطأ أن تنام عاريا هكذا وللتو أنهيت استحمامك "
جز على أسنانه وهو يسحب إحدى الوسائد ويضعها بعنف على رأسه ليشعر بها بعد لحظة تميل عليه قائلة " ألا تشعر بالبرد؟ "
أيضا لم يرد فتابعت هي " تمتلك جسد رياضي مثير لماذا لا تحاول استعراضه كما يفعل الشباب للإيقاع بالفتيات؟ "
حدث نفسه بكبت وسخط " يارب أصرفها عني قبل أن أقتلها تلك الوقحة "
أغمض عينيه بقوة حينما بدأت تحرك أناملها بخفة على ظهره وجذعه العاريين بينما تقول ببؤس طفولي " لماذا لا ترد عليّ؟ أعلم أنك تتجاهلني لكني أجهل السبب "
لم يتحمل المزيد منها فهب من استلقائه بحدة اجفلتها وجعلتها تتراجع بجذعها للخلف حينما صرخ في وجهها " السبب سهل وبسيط وهو أنني لا أريد محادثتك أو سماع صوتك .. هل وصلك الرد على سؤالك الآن؟ "
رفعت حاجبيها ببرود وهي تقول " لكن لماذا؟ "
زفر بعنف وهو يقول " لأنني أريد هذا بدون سبب أو تفسير "
ابتسمت بإتساع وهي تميل عليه من جديد فتجبره على التراجع للخلف حتى أستلقى على ظهره وهو يحدق فيها بغضب يكبته بقوة حتى لا يؤذيها
همست بفحيح أمام وجهه القريب الغاضب " أنت تخافني.. تدري أنني أعلم الكثير مما تود اخفائه لهذا تتجاهلني "
قطب بعبوس دون تعقيب فتابعت هي بإبتسامة أكبر وحماس " لكنني لستُ غاضبة أو منزعجة منك أتعلم لماذا؟ "
زاد تقطيبه فهتفت هي بنفس الحماس " لأنني أحبك جداً "
في تلك اللحظة شعر وكأن أحدهم قبض على قلبه فاعتصره بقسوة في قبضته دون رحمة
قبل أن يتدارك ما يحدث وجدها تميل إلى جواره مستلقية على صدره وهي تحتضن جذعه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها
سكن جسده دون حركة وهو يشعر بها بعد لحظات من الصمت بدأت في الارتجاف ظن السبب برودة الغرفة لكن ما صدمة هو انفجارها فجأة ودون سابق إنذار في البكاء شاهقة بقوة
رمش ذاهلا مما يحدث ودون إرادة منه أشفق عليها فرفع يده ووضعها على رأسها يمسد على شعرها ليسمعها تقول من بين شهقات بكائها " أنتَ لست راضياً عما أفعله أليس كذلك؟ أنا أيضا لستُ راضية عن نفسي لكنى لا أعرف ماذا أفعل؟ "
ظل يمسد على شعرها دون رد فقالت هي بحرقة " أنا لا أكرهك كما أحاول أن أبدي لكَ وللجميع.. أنا أحبك جداً صدقاً أحبك.. لكنني لا أريدك أن تشعر بحبي لكَ "
أغمض عينيه بيأس ليسمعها تقول بعد لحظة " هل أنا مجنونة؟ "
أجبر نفسه على الصمت حتى لا يصرخ فيها بأنها أكبر مجنونة في العالم بل إن الجنون لم يُخلق لسواها لكنه شفقة عليها سكت وأكتفى بأن ضمها إلى صدره رداً على سؤالها فشهقت باكية من جديد وهي تتمتم بمرارة " لماذا أنا سيئة هكذا؟ لماذا أنا... "
قاطعها وقد بلغ منه الجهد والتعب مبلغه " اهدئي نغم.. أنتِ بين أحضاني الآن فاسترخي حبيبتي "
شهقت بحماس وفرح وهي ترفع رأسها عن صدره تطالعه والنجوم تتلألئ في مقلتيها " حبيبتك؟.. أنت قلت حبيبتي "
تنهد بعمق وهو يقول بخفوت وكأنه يهدهد طفلة صغيرة " نعم قلت حبيبتي وأعنيها تماما يا نغم.. أنتِ حبيبتي "
ارتمت عليه تعانقه بقوة صارخة بفرح " وأنا أحبك بجنون صخر.. يا الله كم أحبك! "
تنهد براحة أخيرا حينما سكنت بعد وقت طويل وغاصت في نوم عميق ليهمهم " رُحماك يارب "
♢*♢