عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 10:04 PM   #2281

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
افتراضي




السابع والعشروووووووووون ج1


كان يجلس على مقعد مكتبه، مريحاً ظهره للوراء بينما كل عضلة في جسده تتوتر بعنف, مغلق العينين وهو يضع كلا ذراعيه فوق رأسه متأرجح للوراء والأمام بنوع من الحدة طالباً استرخاء يعلم أنه لن ينوله حتى يعود لمنزله، ويحصل عليها بين ذراعيه ثم تخبره بكل ما جرى معها.

فتح باب مكتبه بهدوء بينما أطل عليه وجه مراد والذي قال "لماذا تبدو كالقط على صفيح ساخن، ترفق بعمرك الذي تخطى الاثنان والأربعين يا رجل؟!"

لم يفتح إيهاب عينيه وهو يقول باستنكار "ما كان ينقصني إلا أنت؟!"

تقدم مراد يجلس بأريحية على المقعد المقابل وهو يقول ببعض التردد "لقد أتيت بناءً على موعد متفق بيننا, هل نسيت؟!"

أنزل إيهاب يديه من على رأسه واعتدل في جلسته ثم غمغم "لا.. أنتظرك متخلياً عن صغيرتي، التي طالبت بإلحاح بتواجدي معها؟!"

امتعض مراد وهو يقول "إيهاب لقد تعدى عمرها الأربعة والعشرون وهي بالمناسبة زوجة وأم، وبصراحة مطلقة ما زال يخنقني تلقيبك إياها بالصغيرة كما دعوتها لي بعمي!"

افتر جانب فمه بابتسامة مهيبة وهو يقول بحنان "هي تتمسك بسماعه مني.. كما أن لها مطلق الحرية في قول وفعل ما تريده!"

لوح بيديه بسأم ثم قال "بالطبع، أنتَ لست الطرف المعني، بمنحها لك عمراً فوق عمرك؟!"

تنحنح إيهاب بخشونة ثم قال مباشرة "كفّ عن الالتفاف، لماذا طلبت لقاء مغلق، ومن الشاب الذي تريد مني مساعدته؟!"

توتر مراد بشكل ملحوظ وقال وهو يقبض ويبسط يديه باضطراب "أولاً أنا أعلم جيداً بأن صداقتنا لم تعد كسابق عهدها وبأن ما يربطنا هو علاقة عمل ونسب، ولكن أنا أعول على حمايتك الفطرية وتفهمك بأننا أحياناً نلعب أدوار مجبرين عليها و...؟!"

قاطعه إيهاب وهو يحدق فيه بتشكك "لماذا أشعر أن تلك المقدمة تخبئ خلفها أمراً لن يعجبني؟!"

"أو ربما يصنع منك قاتل أخيراً.. ولكن ثقتي بأنك ستفكر في أبنائك جعلني أمتلك الشجاعة لطلب مقابلتك؟!"

لا هو لم ينتبه للباب الذي فتح دون استئذان، ولم يركز مطلقاً مع السب البذيء الذي أطلقه مراد محتج على اقتحام الطارق..

بل ثبت مكانه كما علقت سبابته المشيرة نحو الشاب الأعرج ونحيل الجسد الذي اقتحم مكتبه.. لثوانٍ وربما دقائق أو حتى ساعات.. كان لا يستوعب الموقف يحدق في وجهه بصدمة, بذهول دون أن يربط الوجه الذي أمامه باسم معين، فقط كان يشعر بالهواء الذي احتجز حرفياً من محيطه؟!.. بتلك الظلال السوداء التي غيمت على الرؤية أمامه، وبذلك الخط الأحمر الذي رسم بوضوح أعلى جبهته ليهبط في خط متعرج قاطع النظرة الحادة المستعرة والمستعمرة بالغضب بين عينيه..

"ما الذي يفعله الداعر، الحقير هنا؟!" نطق بغلّ, بإعصار غاضب مهدد بحرق الأخضر واليابس أمامه رابطه بصفته في عقله أخيراً ؟!

"إيهاب هو..!" حاول مراد أن يتحدث..

قاطعه ممدوح وهو يمتلك بعض الشجاعة الواهية للتقدم نحوه "أعرف أن ما فعلته يستحيل فيه الغفران يوماً، ولكني أتيت متعشم في أن يسمعني ابن عمىي الكبير الذي كان يحاول حمايتي وأختي فىّ ونحن صغار !"

وقف إيهاب من مقعده ببطء في بادئ الأمر، وهو يقول بنبرة حملت كل ألوان التهديد "اخرج من هنا!"

التحدي كان ما يفوح من كل عضلة متحدية في جسده وهو يقترب خطوة أخرى وقال من بين أسنانه "لن أفعل.. ليس قبل أن أكفّر عن جرمي.. قبل أن أتحدث معك.. أخبرك عن أسبابي المخزية، بأني لم أقصد يوماً رغم كل الدناءة والقذارة التي فعلتها.. أن أنال من شرفك.. أنا كنت أعمى البصر والبصيرة, لم أفكر أبعد من أنفي والانتقام الذي يعميني؟!"

تحرك من خلف مكتبه بوجه يفوح منه الشر، بنية خالصة للقتل... مما دفع مراد أن يقف أمامه كجدار صلب يمنعه بيديه التي تزيح صدره بعنف "أخرج ممدوح كما طلب، لقد أبدى رفضه, كما اتفقنا؟!"

صرخ ممدوح كثور تغشى عينيه رؤية الموقف ولا يفكر إلا في هدفه الأسمى, التكفير لكل من آذاهم حتى وإن كان سيقدم روحه ثمناً "لن أفعل.. يجب أن يسمع بأنها كانت في عيني مجرد صورة باهتة حملتها جريمة الحقيرة فريال دون ذنب تفعله, حقيقة بأني كنت معمي بأحقأدي , متخبط في وحدتي وضائع داخل ظلمات نفسي... أنا لم انتبه مطلقاً لحقيقة أن مريم زوجتك!"

لم يحتج إيهاب أكثر من نطق اسمها من بين شفتيه، ليرفع يديه ويزيح مراد من أمامه مسبب له خلل في توازنه وكأنه أحد أبطال حلقة المصارعة، هؤلاء أعمياء البصر التواقين لسفك الدماء وتحطيم أعداءهم "أيها النذل الوغد, كيف امتلكت الجرأة لذكر اسمها؟!" نطقها بشر، وهو يقبض على مقدمة ملابسه أخيراً ثم دون تردد كان يكور قبضته ضاربه مرة واثنان بسرعة مجنونة وكأنه "كيس ملاكمة" يفرغ فيه جل إحباطه وغضبه!

لم يحاول ممدوح أن يبادله صراعه متفهم تماماً الحالة الجنونية التي تلبسته، متحمل الألم الذي شطر عظامه و حطم فكه ببأس يحسد عليه، أو ربما لشعور آخر بالحزن، بالرغبة في أن ينال على يد إيهاب ما عجز أن يفعله بنفسه لما كان في حق لورين.. إذ أنه بعدما فاق من غفلته تمنى إن كان يمتلك الجرأة لذبح نفسه من الوريد للوريد عقاب على اغتصابه إياها!

حاول مراد التدخل مرة أخرى، تخليص ممدوح الذي سالت الدماء من أنفه وفمه، واحتل وجهه علامات داكنة على الفور إثر ضربه.. بصعوبة كان يثبت إيهاب من تحت ذراعيه مبعده عنه وهو يقول "توقف يا أيهاب.. لقد أتى ليجد وسيلة يكفر بها عن الماضي!"

صرخ إيهاب فيه بفقدان سيطرة لم يرها ممدوح منه طوال عمره كله إلا منذ خمس سنوات عندما اكتشف فيها ما كان يفعل تحت سقف منزله وبزوجته.. "أتى ماذا.. هل تستمع للقذارة التي تقولها أنت الآخر.. ما بيني وبينه ليس ثأر دم قد أقبل بتقديم دية فيه فأغفر له.. بل شرف انتهك.. شرفي أنا يا مراد، شرف لن يمحوه إلا قتله بيدي الحرة كما كان يجب أن أفعل في آخر مرة رأيت هذا الحقير فيها"

نظر أليه مراد مرتبك ضائع في حقيقة المعرفة، شاعر هو الآخر بالدماء تفور في عروقه، لا الحقيقة التي أخبره بها ممدوح مغايرة تماماً، أو ربما هو الذي لم ينتبه للكلام المخفي بين حروفه النادمة بأن فعلته لا تحل إلا بالدم، لقد اعتقد أن حقد إيهاب ونبذه إياه لأنه فقط عنّف مريم وكاد يتسبب في إجهاضها، بل وهروبها منه لأشهر، وليس أنه... يا إلهي؟!"

أزاحه إيهاب مرة أخرى مبعده عنه ثم قال "أخرجا كلاكما من هنا.. لا اريد أي علاقة بأي طرف منكما بعد اليوم.. لقد اكتفيت.."

قال مراد بقلق وهو يلاحظ يده التي ارتفعت تمسد صدره مكان جرحه القديم بجوار قلبه مباشرة "اهدأ، وسوف أنفذ كل ما تطلبه؟!"

بينما هتف ممدوح بنبرة منهكة, متعبة، متوسلة حد الأعماق "لن أخرج قبل أن يسمعني.. ذلك المغتصب الحقير كان شاب أرعن آخر، طفل غاضب يتخبط مشوه الروح، عاجز الفعل، لقد قتلته بنفسي ثأراً لكل من آذاهم.. أنا لن أستطيع تغيير الماضي، ولكني نادم، ناااادم كحيوان الشوارع الضال، نادم وعاجز عن محو جرمي.. ولا أطلب منك العفو، ولكن الترفق في الذنب، في منحي فرصة واحدة لطلب المغفرة منك ومن صاحبة الشأن؟!"

توسعت عينا إيهاب بشكل أكبر مما سبق بينما ردّ دون تفكير وهو يلمس معنى مطلبه الأخير "إن فكرت حتى في لمح ظلها، أو الاقتراب من بيتي سأعلقك على بوابة منزلي وأقطع من جسدك وأنت حي، كل عضو على حدى، وهذا ليس تهديد بل وعد حر يا خسيس!"

ضحك ممدوح تلك الضحكة البائسة التي لا يجيد غيرها ثم قال وهو يوازن جسده المترنح بصعوبة إثر الضرب "إن أردت أن أفعل هذا وأتخطاك لكنت في حضرتها هي بدلاً عنك الآن، إيهاب أرجوك اسمعني بقلب أخ كان يهتم بي!"

كرر إيهاب بجمود "اخرج من هنا!"

"إن فعلت سأعود, سأظل أطاردك كاللعنة حتى تستمع لي"

قال إيهاب بعنف "وأنا سأظل اضرب فيك، حتى تفقد أنفاسك الملعونة أخيراً بين يدي؟!"

في محاولة أخيرة يائسة كان ممدوح يقول بمرارة بجرح دامي وبكسرة رجولية، عله يمنحه عبرها نوع من التكفير "أنا كان لي زوجة!"

صمت يحدق في وجه إيهاب الذي عبس بعدم فهم وكأنه أخذه على حين غرة، هو يعلم بالفعل أن هذا القذر منذ حادثه وذهابه لأمريكا اختفى لما يقارب العامين.. حتى وجدته أخته مدمر، منبوذ ومتسول، ملقي في إحدى النزل الرخيصة، فاحتضنته جالسة معه في منزلها هناك، لعامين متتاليين رأت فيها معه كل ألوان العذاب، رغم محاولاته المستمرة أن يقيم عمل خاص به, أن يعتمد على نفسه ولكنه واجه الكثير من الاخفاقات.. ربما هو لم يهتم على الإطلاق.. وربما الكره المتعاظم بداخله كاد أن يدفعه لأن يخبر إسراء أن ترميه كالكلب وتنتبه لحياتها.. بالنهاية هو مجرد بشر، لم يحمل يوماً بداخله صفة الملائكية... ولكن رغم كل معرفته هذه لم يتطرق أبداً أحدهم لذكر زوجة.

"أفهم ما تمر به، أتفهم رفضك لأني مررت بتجربة مشابهة، عاقبني الله فيها، بزوجتي.. بالمرأة الوحيدة، لا بل الإنسانة الوحيدة التي أحبتني بصدق وقدمت لي الكثير دون أن أقدم لها أنا شيء!"

تجهم إيهاب بل وهدأت انفعالاته أخيراً دون أن تهدأ عاصفة جسده المستعد للانقضاض "ما الذي يعنيه هذا؟!"

قال ممدوح بوجع محور الحقيقة متلاعب بها أو ربما هو صادق حد الألم, إذ أن من عذب لورين وفعل بها ما فعل كان رجل آخر هو لا يعترف به ويتمنى إن استطاع يوماً محوه "كنت عاجز، مشلول كما تعرف.. وأنا أراقب زوجتي تنتهك أمامي, تصرخ طالبة الرحمة، الرأفة ومساعدتها دون أن أقدر على تقديم العون إذ أني كنت مكبل داخل سجني المرفه؟!"

شحبت ملامح إيهاب كمن رأى الموت أمامه، بينما حدق فيه مراد بغيظ إذ أنه يلمس فيه الكذب عارف من خلال زوجته حقيقة ما جرى "أرأيت لماذا أتفهمك؟!"

قال إيهاب بعد برهة من عدم الاستيعاب "بئس حظها الذي أوقعها في داعر مثلك.. دفعت فاتورة نذالته!"

وسرعان ما عاد لغضبه لثورته وهو يزمجر "اخرج ولا تعد، لا أهتم بسماع قصتك.. وليس لك غفران عندي!"

إلا أن ممدوح ما كان ليستسلم، أو يحيد عن أهم أسباب لجوئه الحقيقي إليه "لورين هربت مني بعد ما حدث, اختفت لما يزيد عن ثلاث سنوات، وبعد بحث طويل أخبروني بأنها في بلد عربي، قريب من بلدها الأم الذي تحلم بعودتها إليه يوماً.. وأنا رغم رفضك لي، أعلم شهامتك وحمايتك لكل ما يحمل اسم زيدان.. أنا أريد أن أعرف فقط أين هي أراضيها، أن أصل إليها وأكفر عن جرمي في حقها"

رغم استماعه لكل حرف مما نطق، ورغم انتباه خلاياه مرغماً للمرارة المصحابة لفقد تلك الزوجة المسكينة، كان يتقدم منه أخيراً ويفتح بابه مزيحه بحدة طارده كالكلب من أمامه ثم أمسك الباب وهو يقول لمراد "اخرج أنتَ الآخر، هناك أشياء يصعب أن تتغير في الإنسان يا مراد وأنت للمرة الثانية تتعمد جرح كرامتي!"

"إيهاب لم أكن أعرف أن الأمر بتلك الصورة.. كما أنه حتى المحكوم عليه بالإعدام من حقه تحقيق أمنية أخيرة!"

لم يرد عليه إيهاب وهو يحدق في كليهما بجل غضبه وكل ما يدور في عقله خاطر واحد.. ليته يمتلك الآن سلاحه الناري ليفرغه كاملاً في صدر ابن عمه كما ندم أنه لم يفعل منذ آخر مرة رآه فيها..

"لورين لاجئة فلسطينية جار عليها الزمن لتتخبط دون مرسى، قصة ومأساة إنسانية كالكثيرين منهم، فقط أرجو ان تساعدني في إيجادها, ليس من أجلي ولكن من أجل إنسانة لم ترى في حياتها إلا الظلم!"

لم يرد إيهاب بشيء وهو يغلق بابه في وجه كليهما بحدة.. شاكر الحظ الذي جعله يحدد لهم موعد متأخر بعد مغادرة موظفيه..

"رباه ما هذه الورطة، لقد اعتقدت أني أغلقت كل الوجع ماحيه من حياتنا دون عودة؟!"

.................................................. ......

كانت فرح تجلس كالعادة على طرف فراش لورين، بتحفز وهي تراقبها تغير ملابسها فور عودتها من مناوبة المشفى الذي تعمل فيه هنا في بلدهم الجديد "الأردن"... كم تحب هذا البلد الذي اكتسبت شغف تواجدها فيه وتغير كل ماضيها المدمر عبر حفاوة الناس بهم، ماذا قد أخبرهم أيوب مرة.. آه نعم "قد يكونوا بلدين مختلفين ولكنهم شعب واحد على قلب رجل واحد.. إذ أنه لا يميز بين فلسطيني أو أردني".. بالنهاية هي كانت من أوائل الدول العربية التي احتضنت النازحين ومنحتهم حق المواطنة.. كما استقبلوا أسرتهم الصغيرة عند عودتهم من بلد الكابوس التي مزقت المتبقى من إدميتهم ..

سمعت لورين أخيراً تنزعها من شرودها وهي تسأل مازحة "تبدين متحفزة على غير العادة.. هل لديكِ شيء تريدين مشاركتي إياه؟!"

هزت فرح رأسها وهي تقول بحماس "لقد حصلت على عرض للوظيفة التي كنت أتمناها!"

أنهت لورين غلق جلبابها البيتي بنقوشه الفلسطينية البسيطة.. وهي تقول بحماس "رائع، تقدم ممتاز يا فرح، ولكن أخبريني كيف فعلتِ هذا؟!"

أشارت فرح بكفها خلف ظهرها ثم قالت وعيناها تلمع بانتصار قليلاً ما تراه داخل بؤبؤها الحزين الفاقد للثقة "تعلمي أن مرح جرتني جبراً للعمل مع والدنا في المطعم؟!"

أومأت لورين وهي تجلس بجانبها وتطوي ركبتيها تحتها ثم قالت بحرص "صحيح.. لقد فعلت هذا بناءً على طلب طبيبكِ، إذ أن جلستكِ في المنزل لن تجلب عليكِ إلا التفكير في الماضي!"

توترت فرح وبان عليها التهرب كالمعتاد ثم قالت متجنبة ذلك الأمر "هناك سيدة اعتادت أن تأتي كل أسبوع لشراء بعض الطعام الفاخر لأطفال الملجأ الذي تديره!"

سألت لورين بتوجس "وبعد؟!"

هزت فرح كتفيها وهي تقول بخفوت "حاولت مناغشتي.. كما تقولين أنتِ هناك شيء بعيني الكسيرة يجذب الناس لي!"

أمسكت لورين بكتفيها تحدق فيها بثبات ثم قالت بحسم "أنتِ لست كسيرة يا فرح ولا تحتاجي لشفقة أحد.. ما حدث لكِ في الماضي لم يكن بيدكِ صغيرتي؟!"

ابتسمت فرح باهتزاز وهي تهز رأسها بموافقة غير مقتنعة على وجه الإطلاق ثم قالت "ليس هذا موضوعنا، تلك السيدة العطوفة، علمت من خلال لكنتي المتكسرة أني أجيد التحدث بالإنجليزية، كما أني أدرس هنا ف كلية الأميرة عاليا "تربية الطفل", أنا أخبرتها أني أخفقت قليلاً في تقدمي وليس مثل شقيقتي مرح التي اجتازت دراسة الأعمال و...؟!"

قالت لورين بحسم "اتركينا من أمر مرح.. وركزي ما الذي جرى معكِ أنتِ؟!"

قالت فرح بتردد "لقد عرضت علي وظيفة في الملجأ، كمدرسة للغة الإنجليزية التي أجيدها بطلاقة، ومجال دراستي سيساعدني بالطبع على تقديم العون لهم، كما ستقدم لي هي المساعدة في اجتياز الصف الخاص بي... ولكن...؟!"

حدقت فيها لورين لدقائق متذكرة الكثير مما مرت به مع فرح بالذات لتجتاز ماضيها.. ربما مرح لم تحتج منها جهد إذ أنها أكثر قوة، قوية الشكيمة وصلبة الرأس وغيرت من نفسها واجتازت الكثير والذي كان أهمه أن تكمل دراستها التي حرمت منها لفقرها المدقع أثناء فرقتهم... ولكن فرح كانت على العكس تماماً، لا تتقبل أباهم بل تخافه وكأنه يذكرها بذئب بشري سيهجم عليها في أي لحظة، مما أجبرهم للبحث عن طبيب نفسي كأول خطوة في علاجها.. ثم توالت العثرات والأزمات التي ما زالت تترسب بداخلها.. حتى استطاعوا بصعوبة أن يخرجوها من قمقمها، لتواجه المجتمع.. لتتقبل حاضرها.. لتتلمس طريقها نحو التعامل مع نوع من البشر يشبههم!"

"ولكن ماذا قولي ولا تترددي؟!"

قالت فرح بخفوت "الوظيفة لن يكون لها عائد مادي اعتمد به على نفسي مثلكن؟!"

ابتسمت لورين أخيراً وهي تقول بمحبة "يا حمقاء، وهل هذا أمر تخجلين منه، أو يشغل بالكِ.. منذ متى يهمنا المال، نحن هنا تحت سقف بيت أيوب يد واحدة نعين بعضنا، على قلب واحد لن يفترق!"

"إذاً أنتِ موافقة؟!"

قالت لورين بهدوء "الأمر لا يتعلق بي يا فرح، بل بقراركِ أنتِ، لقد آن الأون أن تتخذي خطواتكِ بثقة بذاتكِ، باقتناع في كل خطوة تخطينها نحو مستقبلكِ!"

قالت ببهوت "وماذا إن وافقوا على مطلبنا أخيراً وعدنا لقريتنا.. كما كنا نحارب منذ أعوام؟!"

لا إرديازداد تنفسها عنفاً.. غضباً وكأن ثقلا بات يجثم فوق صدرها عند تذكر حربها التي تخوضها دون أمل...

ثم قالت أخيراً "لا أريد التحدث بلسان اليأس الذي أصبح يغزوا الكثيرين، ولكننا نحلم يا فرح.. حلم جميل نبات ليال نغزل منه جنات اللقاء, عندما نقبل كل ذرة في تراب الوطن... ولكن!! تلك "اللكن" اللعينة تجبرني على أن أخبركِ أننا يجب أن نمضي في حياتنا, أن نغزل أملاً خاصاً بنا، أن نحقق إنجاز كتب في مقدراتنا.. الحياة إما صراع ومغامرة، أو لا شيء يا فرح... وإن منَّ علينا بمعجزة ومنحنا حق العودة، وقتها سنترك كل شيء خلفنا ونرجع بمفتاح دار جدكِ الذي لا يفارق صدري!"

ابتسمت فرح تلك الابتسامة الطفولية الأثيرة التي تخلع القلب معها وكأنها مجرد فتاة صغيرة لم تتخطى أعوامها الأربع.. وكأن الحياة الظالمة لم تفرقها عنها أبداً.. وكأنها ليست فتاة ذاقت الويلات ونضجت قبل أوانها، ولم يبلغ عمرها الثلاث والعشرون الآن!"

كادت أن تقترب منها تمنحها عناق مآزر مشجع على طريقها الجديد وتخبرها أنها لن تسمح لها في البدء حتى تقابل هذه المرأة ولكن.. العاصفة التي اندفعت صارخة أوقفت كلتاهما وهما تسمعانها تقول "لولو.. النجدة ماما تريد معاقبتي؟!"

تهلل وجه لورين بالفرح وهي تفتح ذراعيها سريعاً تلتقطها مخبئة إياها مانحة ما طلبت...

اندفعت مرح ورائها بعاصفة مماثلة وهي تهتف بغضب "اتركي تلك اللئيمة الآن.. ولا تحاولي حمايتها؟!"

ضحكت لورين وهي تقول "للأسف سبقتكِ في طلب الحماية، وأنا مجبرة على صدكِ عن مهاجمتها!"

"تلك الشقية يجب أن تتأدب.. لقد قامت بضربي!"

توسعت عيناها الملونتان الشبيهتان بعيني مرح!! ثم قالت بتلعثم "بالطبع لم أفعل.. كيف لي أن أضربكِ ماما، أنا فقط رأيت صرصور على قدمكِ فحاولت قتله؟!"

زمجرت مرح وهي تقول "حاولتِ قتل الصرصور الذي لم أشعر به لأني لوح على ما يبدو.. بسيارة السباق خاصتكِ؟!"

امتعضت الصغيرة قبل أن تلمع عيناها بشقاوة محببة ثم قالت "كانت متوفرة في يدي.. ثم هل أصبح عدم إحساسكِ ذنبي ماما؟!"

ارجعت لورين رأسها بنوع من ادعاء الذهول من عنف الرد وهي تحدق فيها.. بينما انفجرت فرح ضاحكة وهي تمسكها من ذراعيها وتتبادل حمايتها من كلا أختيها ثم قالت من بين ضحكتها الشامتة "لا ليس ذنبكِ (مولي).. مرح دائماً عديمة الإحساس.. وتتجنى عليكِ؟!"

انمحت الابتسامة من على وجه لورين عند سماعها اسم التدلل الذي أطلقته مرح ثم قالت وغشاوة مظلمة تحجب عينيها "اسمها (أمل) يا فرح، اتفقنا أن نستخدم اسم عربيّ خالص فيما بيننا!"

توترت فرح قليلاً وهي تهمس معتذرة.. بينما سارعت مرح في جذب كلتيهما بعيداً حتى لا تغرقا في فقاعة مؤلمة!

"أعطني ابنتي يا فرح.. ودعيني أعيد تهذيبها؟!"

قالت فرح بضحكة مهتزة "لن أفعل؟!"

كورت الشقية فمها بحزن ماطة إحدى شفتيها للأمام ببؤس عارفة مدى تأثيرها على ثلاثتهن ثم قالت وهي تهبط من يد فرح باستسلام متوجهة نحو مرح وهي تخفض رأسها للأسفل مدعية الشعور بالذنب "آسفة ماما، أنا كنت أريد حمايتك من الصرصور الشرير ولم أقصد إغضابك؟!"

وضعت لورين إصبعي السبابة والوسطى على خدها والإبهام علة ذقنها وهي تنظر ممتعضة للمشهد الذي تجزم بحدوثه عندما انحنت مرح بسرعة الصاروخ نحوها ترفع رأسها لأعلى بين كفيها.. ثم همست هي بلهفة "أنا التي تعتذر لإخافتكِ، لا تحزني صغيرتي, كنت أمزح معكِ!"

قالت فرح بمسرحية "وها نالت الخبيثة منها!"

بينما قالت لورين بسخرية "لم تتشابها في لون العينين فقط بل في الشقاوة وقلب الطاولة أيضاً!"

ضمتها مرح بين يديها رافعة إياها لأعلى ثم قالت مدعية الغضب "حقودات من علاقتي المتينة بابنتي الجميلة!"

هزت أمل رأسها بتأكيد شديد "صحيح ماما تغاران لأني أفضلكِ عنهن ويحاولن اكتساب ودي، ولكن لا تقلقي أنا أحبكِ انتِ فقط!"

امتلكت لورين روح الشيطنة مثل الصغيرة اللئيمة فقالت بعبث "اممم بالطبع حبيبتي، إذاً من التي حادثتني منذ أيام باكية فراقي واتفقت معي على هجران مرح واللجوء لي؟!"

ارجعت مرح رأسها مع إرجاع الصغيرة وجهها بتماثل.. ثم هزت رأسها وهي تقول بطفولية "لقد اشترت لي ألواح كثيرة من الشوكولاتة، وأنا كنت سأخدعها وأقسمهم معكِ؟!"

قالت مرح مدعية الجدية "إن كان الأمر هكذا أنا أسامحكِ؟!"

"أنتن الثلاثة ستتسببن في إفساد هذه الفتاة!" الصوت الرخيم المهيب على قلوب ثلاثتهن, كان يدخل أخيراً وهو يقف يتأملهن ضاحكاً بمحبة أبوية من على إطار الباب..

قاومت أمل مرح سريعا فقفزت نحو أيوب تندفع إليه مهللة ومصفقة حتى انحنى لها كما ينحني لأوامرها ودلالها كل شخص في هذا المنزل.. ثم رفعها على صدره لتقبل خديه تاركة رذاذاً مبالغ فيه على خديه مما دفعه للابتسام ببهجة كما تفعل منذ أن ولدت على يديه وتحت سقف منزله "اشتقتك بابا، لما تأخرت.. وأين حلواي.. هل ستسمح لي بالبقاء في غرفتك الليلة.. اممم أريد أن أصلي معك أنا وعرائسي؟!"

أوقفها أيوب وهو يقول بحنان وتفهم الأجداد "تمهلي.. يا عفريتة، كيف تريدين مني الإجابة على كل هذا دفعة واحدة؟!"

قالت بمنطقها الخاص جداً "أنتَ بابا الكبير جداً جداً بحجم هذا العالم، وتعرف كل شيء ولديك كل الأشياء الحلوة!"

ربت أيوب على خدها قبل أن يقبل يديها الصغيرتين التي تشير بهما بحماس مترافقين مع كلماتها بلهجتها المكسرة المخلوطة بالسكر، كما هي قطعة من السكاكر..

ثم قال أخيراً وهو ينظر لوجه لورين المتحفز "لدي حديث هام وخاص مع لولو.. ننتهي منه ثم سأصحبكِ معي للمسجد الكبير.. ما رأيكِ؟!"

أشارت بإصبعها آمرة "حسناً.. ولكن أسرع.. أنا في انتظارك مع ماما مرح!"

قال أيوب بهدوء "ألم يحن الوقت أن تنادي على لورين وفرح ماما أيضاً؟!"

هزت رأسها مستنكرة عليه بشدة أن يتدخل في ترتيبها لهم في عقلها ثم قالت "لا يا ذكي.. لولو صديقتي وفرح صغيرة مثلي.. تبقى مرح هي الماما خاصتي!"

تعبيراتها الطفولية مبهجة لا يملك إلا الابتسام والموافقة عليها عن طيب خاطر... التفت أخيراً نحو لورين التي وقفت في إصرار وهي تتقدم نحوه حتى قال أيوب "لقد أتى طه لزيارتي!"

"أعرف، وأنا من دفعته للحديث معك.. إذ أني أخيراً استطعت أخذ القرار للمضي قدماً في حياتي!"

.................................................. ..................







بعد يومين...

اندفع خالد متخطيّاً مكاتب الموظفين المصطفة على الجانبين غير مبالي بوقوف بعضهم احترامًا.. أو هتاف السكرتيرة التي حاولت إيقافه بتوتر عندما اندفع نحو باب المكتب يفتح دون استئذان في سابقة من نوعها ثم هتف باضطراب, بذهول غير مستوعب حقاً ما يملكه بين يديه "لقد وجدتهم يا إيهاب!!"

وقف إيهاب من مكانه سريعاً مستقبلاً الشاب الذي بدا كأنه تعرض لصاعقة كهربائية حطمت كل دوافعه!

"من تقصد؟!"

بدا خالد منفصم وهو يحرك بين يديه أوراق كان قد طبعها من على حاسبه، ثم انطلق مغادر شركته.. وهو يشعر بالتوهان، بالتخبط, بعدم التركيز.. لمن يملك التعقل ويعينه مهدئ إياه على ما عثر عليه أخيراً "منذ عام مضى، بدأت انتبه لشركة أجنبية صغيرة تحاول مضاربتي في بعض الصفقات.. وأحياناً أخرى تساندني بشكل خفي إن أوشكت على السقوط.. الأمر لم يكن طبيعي مطلقاً.. تعلم هذا في مجال عملنا يجب أن ننتبه لأي شيء مريب والبحث خلفه!"

اقترب منه إيهاب يمسكه من ذراعه مجبره على الجلوس وهو يقول "هل يمكنك أن تهدأ وتفهمني عن ماذا تتحدث؟!"

ولكنه كان فاقد تركيزه بالفعل، لقد بدا... بدا وكأنه الشاب الضائع الذي كان عندما قابله أول مرة في حفل مولد طفليه وليس رجل الأعمال الذي شق طريقه بينهم بذكاء وقوة تثير الغبطة... سمعه يسرد دون توقف "تتبعت خيوط هذه الشركة بصبر, بخطى حثيثة وبصمت تام محتفظ بكل الخيوط بين يدي وبسرية تامة، لأجدها في النهاية تنبع من مقر مكتب صغير لا يقدر مطلقاً بقوتها في التلاعب بالسوق حسب أهوائها وبمزيد من الإصرار والتتبع وجدت أنه ليس إلا واجهة خادعة تحركها شركات راشد الراوي في بريطانيا!"

بهتت ملامح إيهاب وبدا كأنه أخذ على حين غرة وهو يستوعب أخيراً سبب فقدان خالد لنفسه وليس سيطرته فقط.. نثر خالد الأوراق على المكتب بإهمال، فنظر إليها إيهاب سريعاً ملتقطاً كلمات كثيرة تتذيل بإمضاء وشعار يحفظه عن ظهر قلبه لتميزه.

دفن خالد وجهه في كفيه بينما يقول بتخبط ملتاع "لقد بحثت في كل مكان, لم أترك بلد لم أنبش بداخلها.. ليكون بالنهاية هنا! في هذا المكان الذي أجزمنا مراراً أنه من المستحيل أن يتواجد فيه!"

دفن إيهاب أنامله في شعره الذي ملأه الشيب, قبل أن يقول "ربما حساباتك خاطئة يا خالد.. دعنا نتمهل قبل نشر الخبر، حتى لا يصيب بدور خيبة أمل أخرى.. هي لن تتحمل المزيد؟!"

رفع خالد وجهه وفمه يميل بابتسامة أنين قبل أن يمد يده يلتقط إحدى الأوراق دون أن يحتاج للبحث عنها وكأنه يحفظها عن ظهر قلب.. وكأنه استغرق في الكثير والكثير من التأمل فيها ثم قدمها لإيهاب وهو يقول بمرارة "انظر لتلك الصورة التي أخذها أحد رجالي وهو متخفي؟!"

تناولها إيهاب منه يحدق فيها بنوع من التوتر المنسوب للموقف، ليجدها تنتمي لامرأة صهباء بشعر قصير لا يتخطى كتفيها تحمل طفل ينام على كتفها ولا يظهر منه إلا شعر عسلي كثيف ساندة إياه بأحد يديها على ما يبدو وتنظر إلى الوراء بجانب وجهها غضب وكأنها استشعرت وجود متتبعها.

تنفس إيهاب بنوع من الجمود قبل أن يقول "هذا لا يعني أي شيء.. ملامحهم غير ظاهره من الأساس ؟!"

التقط خالد الصورة المطبوعة منه بنوع من الحدة ثم قال بنبرة عنيدة كالحجر حتى وهي تحمل بين طياتها الكثير من الغضب واللوعة "أنتَ لن تفهم، أن تلك الملامح احفظها عن ظهر قلب ولو مر مئة عام لن تمحى من قلبي أو عينيّ، حتى وإن كانت تغيرت ونضجت؟!"

كاد إيهاب أن يصرخ فيه بغضب... عن أي قلب يتحدث وإصبعه يحمل حلقة فضية لامعة تنتمى لأخرى.. ولكنه قال باحتوائه المعتاد "إن كانت هي، أنا أذكر أنها كانت تحمل لون عينين مميز وصورتك لا توضح هذا؟!"

انتفض خالد من مكانه ثم قال بصوت مكتوم لا حياة فيه "ليس مهماً, الصورة دائماً ما تخدع.. يكفي أن أرى ذلك الغضب الأهوج، الاستعداد لنهش المتعدي على مساحتها لأعرف أنها هي!"

صمت للحظة مبتلعاً ريقه قبل أن يكمل "إنها هي.. كما أن ابن عمي يتواجد هناك، ربما لن أخبر بدور حتى أعود بابنها حامله بين يدي.. مكفراً عن تلاعب راشد الخبيث بي، حتى كنت جزء من حرمانها منه.. ولكني في كل الأحوال سأذهب للتأكد بنفسي!"

عم الصمت للحظات مهيبة بينهما قبل أن يقطعه إيهاب أخيراً وهو يقول بلهجة حاسمة "لن تفعل.. لن أغامر بإرسالك هناك، وأنت تحمل كل هذا الغضب والحقد بداخلك!"

"أنا لا أنتظر إذنك!" قال بوقاحة دافعه ذاك الحبر الأسود الذي يصبغ قلبه نحو "خائن الوعد"

تفهم إيهاب بصبر ثم قال "بل ستفعل, أنتِ لجأت لي بالأساس لمعرفتك أني سأمنعك.. سأذهب بنفسي وأقنعه بالعودة.. بينما أنت ستبقى بجوار والدك الذي تتدهور حالته عقب كل ساعة تمر؟!"

فرك خالد جبهته متتبع مقدمة شعره بعصبية وهو يقول "لن يستمع إليك؟!"

قال إيهاب حازماً "ومن قال أني سأمنحه حق الاختيار.. سأذهب إليه في سلام إن رفضه سأتلاعب أنا الآخر، واختطف إياب منه قصراً مثلما فعل هو مع والدته بالضبط"

نظر اليه خالد بعدم اقتناع .

فقال إيهاب "لقد بتّ أنا الأخر رغم أنفي جزء من هذه القصة.. لقد وعدت بدور مثلك أني سأعيده، وآن أوان أن أنفذ وعدي.. فهل تمنحني هذا الطلب؟!"

ازدرد خالد ريقه الذي جف ثم قال بنبرة غريبة مهتزة "تعيد كلا الطفلين المختطفين.. كما أنوي أن أفعل؟!"

نظر إليه إيهاب طويلا طويلا جدا ثم قال أخيرا بجفاء "لقد حان الوقت لأن يخبرك أحد أنها ما عادت طفلة، وبأنك لا تملك أي حقوق للمطالبة بعودتها وفراق أخيها.. امحوها من عقلك.. تخلص من هوسك يا خالد وأمضي في طريقك مع امرأة اخترتها بنفسك.. لا تعيد أخطاء الماضي وتظلم امرأة أمنتك على نفسها يا فتى!"

.................................................

بعد ساعات قضاها خالد يجوب في شوارع المحروسة كالضائع لينتهي به الحال، في شوارع وسط البلد متجول بها مشي على القدمين دون هدى.. أو هدف يرتكز إليه فيما يفعل، فقط ذكريات كان يعتقد في نفسه أنه ودعها دون عودة, لقطات لعبثيته المرحة التي منحته يوماً وهي تتبعه دون تفكير.. أينما ذهب، يوم كان من العمر الذي أهدر.. هنا أخفى ملامحها بقبعته الرياضية حتى يخفيها عن أي عين قد تحدق فيها غيره.. وهنا في هذا المكان اندفعت إلى صدره واحتمت فيه من تزاحم البشر، وهنا هو فرض عليها عهد بالبقاء الأبدي.. حتى انتهى بوعد كانت هي من كسره..

فرك وجهه بتعب وهو يهمس "رباه، لا تجعل مني مجرد نصف رجل ملوث بشبح الخيانة، تعلم أني صادق في الإخلاص لأخرى، فلا تجعلني أوشم نفسي بالخطايا!"

هاتفه الذي علا رنينه كان قد قطع أفكاره ليجيبه على الفور "نعم شذى؟!"

أتاه صوت أخته المنهار يخبره "أين أنتَ؟ أبي يطلبك!"

هبط خالد من سيارته سريعاً متخطياً بوابة المنزل وهو يقول "شذى.. ما الذي حدث؟!"

قالت شذى باكية "لا أعرف، لا أعرف لقد كان بخير يتحدث معنا، ثم طلب مني وأمي أن تساعده ليدخل غرفته وهو يمسك قلبه شاحب الوجه.. وو..؟!"

دخل خالد سريعاً وهو يخفض هاتفه ثم توجه نحو الدرج يلتهمه التهاماً.. ليجد نوة وشذى، وأمه تقفان هناك في حالة انهيار تامة.. صرخ "ليطلب أحدكم سيارة الإسعاف؟!"

"لقد فعلت" قالت نوة من بين شهقاتها المتقطعة

بينما كانت تنظر إليه أمه بنظرة ضائعة فاقدة الأمل "الطبيبة، تعرف!"

"يا إلهي..!"

"ادخل لوالدك يا خالد لقد طلبك مع بدور ومريم.. ولكن الأخيرة رفضت توسلي كالمعتاد!"

اغرورقت عيناه بدموع الفقد الذي استشعره وشيكاً..

بينما اقتحم باب الغرفة ليجد شيماء تندس في جسده الممدد تتشبث في صدره بعنف.. بينما تهذي بكلمات لم ينتبه إليها...

بينما بدور تجلس بجانبه باكية العينين تستمع لصوته الشاحب وهو يقول "كنتِ وما زلتِ أقربهم.. سامحي واغفري لأبيكِ ما فعله دون قصد الإيذاء!"

كانت كلها يرتعش وهي تمسك في كفه بشدة تقبلها دون تحفظ، ولكن أبى العقل أو السان أن ينطقها فقط تكتفي بالهذيان "لا تفعل هذا بي ..أنت بخير وعكة وستمر، لقد قال آخر طبيب استقدمناه من ألمانيا أنك ستعيش طويلاً!"

قال ياسر بصوت باهت "المال والمكانة أو حتى أصلي العريق لن يغير حقيقة أعمارنا التي بيد الخالق وحده.. أتراه يغفر ذنوبي؟!"

هبط خالد على ركبتيه منهاراً بينما يمسك في ذراع أبيه كالطفل التائه.. يحدق فيه بعجز.. كعجزنا أمام سلطان الموت الذي يأتي على غفلة سارق منا الأحبة.. معلن عن انتهاء مهلتنا التي لم نستغلها جيداً ناسين أنفسنا أمام رغد العيش وحلاوة الحياة والمنصب... ناسيين ومتناسين أنه عند حلول هذا الضيف الثقيل سنذهب مجردين إما محملين بخطايانا، تاركين في قلوب بعضنا الغصة محملين إياهم وصمة أوجاع تسبب فيها شيطان أنفسنا... أو إما محملين بناصع بياض أعمالنا تاركين في الأفئدة السيرة العطرة لحسن أفعالنا...

وأباه بما يقول.. بتلك النظرة الزائغة المرتعبة يبدو أنه أدرك أخيراً أمام سلطان الموت كل ما فعله.. كل ظلم جار فيه عليهم، معتقد أنه الصحيح.. يا لا الرعب.. أيعقل أن يكون لمهابة الموت كل هذا الأثر؟!

رفع ياسر يده الثقيلة يضعها على قلب ابنه ثم قال بتحشرج "انسى كل ما أخبرتك إياه، امحو كل ما حاولت أن أزرعه فيك غصباً، لا تظلم!"

هز خالد رأسه بتأكيد وهو يقول "لن أظلمهم أبداً.. أخواتي أمانة في عنقي"

قال ياسر بصعوبة وهو يسعل أنفاسه الأخيرة "لا تظلم هذا، مهما كان الثمن الذي ستدفعه!" ضغط على موضع قلبه بعنف قاصداً ثم تابع "إياك أن تتحول لي يوماً، لا تخسر كل شيء وتحطم فتاة كان كل ذنبها أنها عشقتك حد خسارتها نفسها كن أملها الأوحد والأخير ، أمنحها " الوطن"!

بدا خالد تائه عن مقصد أبيه ومعاني كلماته حتى أجبره أن يرتفع نحوه يهمس داخل أذنه بشيء جلب إلى عينيه صدمة نافست صدمة أنه قد يفقده في أي لحظة !

"لا تكثر في الحديث.. الإسعاف على وشك الوصول!" قالت بدور باختناق وتوهان وكأنها بطريقة أو أخرى فهمت أخيراً أن رغم كل شيء أبيها كان الظهر والسند، ومن بعده سيقصم ظهرها الذي سيعرى في مهب الريح إن تركها ورحل"والدتك؟!"

اندفعت منى، تزيح لها مكان تمسك رأسه تضعها على صدرها بآلية كما كان يطلب منها مراراً في الماضي ان جاء ملك الموت لا تدعه يموت بعيدا عن ذراعيها ؟! ، ترك ياسر يد ابنه ليمسك بيد منى بتشدد كما كان يضغط على يد بدور، ثم همس "اغفري لي سرقة عمركِ، سامحيني على جرحكِ يا منى.. عزائي الوحيد أني لم أحب امرأة سواكِ, ليتني متّ قبل أن أتسبب في جرحكِ!"

هبطت من عينيها الدموع مدراراً، على شريك العمر، على رجل أحبته حد الهوس في الماضي، على أب أولاد خلعته من قلبها وانحنت لمساومته من أجل أن تحفظهم حولها.. وليت زرعها فلح بل حصدته حصرم، شق حلقها بمرارته "ستكون بخير نحن جميعا حولك!"

"اغفرا..." طلب بنفس انقطع وهو يشد على يدي ابنته وزوجته..

وأمام سلطان الموت وهيبته أيضاً اندفعت تلك السيدة الدافئة تمنح رجل في سكراته الأخيرة مطلبه "غفرت، سامحك الله، ونظر إليك بعين شفقته بعباده يوم الحساب"

بينما تمتمت بدور بشفتين شاحبتين "أنت بخير، تتلاعب بي فقط، أنا لن أفقدك أنتَ الآخر بسهولة بعد كل القطيعة التي بيننا ما زلت تدين لي بالكثير يا أبي!"

نظر إليها أخيرا.. نظرة ألم.. نظرة وجع.. نظرة ندم في الصميم.. نظرة رجل علم أخيراً أنه طارد السراب, نهش من متاع الدنيا ما لن يعينه أبداً على آخرته.. رجل عرف أخيراً أن كل ما فعله لا يقارن بغفران يمنحه له أبنائه...

ثم تحشرجت أنفاسه وزاغت حدقتيه التي انقلبت للبياض التام.. ثم توقف كل شيء تماما... عاد يدي منى التي تضم رأسه إليها أكثر.. بذهول

ثم انطلقت صرختها الملتاعة والتي رافقت صرخات بناتها..

لينقلب كل شيء في منزل آل الراوي معلناً أن لا شيء سيكون كما كان أبداً.......

..............................

انتهى

قراءة سعيدة

[/align]



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 04:02 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس