عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 10:15 PM   #2284

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile21

الفصل الثامن والعشرين ج1


وفى عينيك غيمُ أسودُ .....وبداياتُ شتاءْ ؟!



ولسوفَ أحبُّكِ..حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ.. وتحترقُ الغاباتْ..
[/align][align=center]


" نزارقبانى"

.................................................. ..



نظراً لضيق الوقت وسرعة الأحداث لم يتمكن من وداع زوجته وإخبارها عن تلك المهمة أو ليكن صادق مع نفسه هو لم يكن ليجازف ويخبرها عن الأمر برمته حتى يتأكد بنفسه من أن الشخص الذي يطاردونه ليس وهماً كما كان يحدث خلال الأعوام الماضية... لبؤس حظه أيضاً إذ أنه لم يحصل على مترجم يعينه على التفاهم مع الناس الذين لا يجيدون التحدث باللغة الإنجليزية..

ولكن نقطة جيدة لصالحه إذ أن دائماً لغة وانفعالات الوجه والجسد تستطيع أن تعبر عن غايتك وما تريد البحث عنه كما فعل عندما توجه مباشرة لهذا المكتب الصغير.. بناء على المعلومات التي منحها له خالد.. وبالطبع لم يجد داخل ذلك المكان ما يؤكد أنه ينتمي "لراشد الراوي" ولكن استطاع أن يحصل على انتماء أحد العاملين بعد أن أغراه بمبلغ جيد ليوصله للمالك الأصلي والذي فهم أنه نادر القدوم للمكان إذ أنه بناء على إشارة الرجل استطاع بصعوبة أن يفهم أنه يعتني بأبنته وولده الصغير طوال الوقت الذي عرفوه به....

الطريق لأعلى الجبل لم يكن سهلاً أيضاً... لقد استخدم سيارة مؤجرة في بادئ الأمر وبعدها أجبروا للهبوط واستخدام عربة صغيرة مكشوفة كمثل المستخدمة في ملاعب الجولف لسهولة تنقلها في الطرق الضيقة والوعرة على طول البحيرة الخضراء!

حتى وصلا أخيراً لبيت صغير بني في أحضان تلة متوسطة وتحيطه الأشجار والمساحة الخضراء من كل جانب مذكراً إياه بالبيوت الإنجليزية الكلاسيكية القديمة!

هبط إيهاب من العربة مودع الرجل الذي اختفى على الفور وكأنه يخاف من أن يكتشفه سيد عمله...

خطوات قليلة قطعها بعزم حتى وصل أخيراً أمام سياج منخفض من الخشب الأبيض يحيط المنزل المتواضع والذي امتلأت حديقته المنزلية بألعاب الأطفال وأرجوحة ثنائية ترتكن على أحد ضفافه المطلة على أحد أطراف البحيرة!

أخذ نفساً عميقاً معترفاً لنفسه ومطاوعاً قلبه وعقله أن خالد محق هذه المرة, كل الظروف والمؤشرات تخبره بحقيقة مؤكدة أنه الشخص المنشود, لذا لم يهتم بحدود اللياقة أو احترام حرمة بيوت الناس وهو يمد يده فاتحا باب السياج والولوج للداخل... في البداية توجه أمام الباب يطرقه بأدب لعدة دقائق فلم يجد أي إجابة..

حتى سمع أخيراً هرج يأتي من خلف المنزل فاندفع متتبع الصوت.. لدقائق تجمد مكانه غير قادر على قول شيء وهو يراقب الرجل الذي يرتدي قميص رياضي باللون الأزرق وبنطال قصير باللون البني الفاتح يرافقه طفل صغير يرتدي ملابس مطابقة.. ويتظاهر الأب بأنه يحتاج مساعدته لجر زورق خشبي مخرجا إياه إلى البر...

"أخبرتك أنك رجل كبير وتستطيع فعلها والآن أعتقد بأني كسبت الرهان وطبق الزيتون الذي أتيتك به.. سآكله وحدي؟!"

تمرد الصغير قافز للبعيد وهو يصيح كشبل يجرب معنى أن يشحذ أنيابه "إن اقتربت من طعامي، سأدفع الزورق بقوتي السحرية وأخفيه إلي الأبد؟!"

"لن تفعلها وتتسبب في حزن بابا؟!"

هز كتفيه الصغيرين وهو يبتعد خطوات عن حماية والده ثم قال مستخدم لغته الإنجليزية "وسأشكوك لماما، هي من تستطيع منحك عقاب شديد بسبب إغضابي؟!"

ضحك وهو يستدير أخيراً فاركاً يديه بمنشفة صغيرة كان التقطها من حقيبة الصيد الخاصة وقبل أن يقول أي شيء كانت عيناه تقع أخيراً على وجه إيهاب المتصلب.. والذي قال مندفعاً بغضبه "هل حرمته من أمه ما يقارب ثلاثة أعوام ونصف لتمنح أحقيته لأخرى بتلك البساطة؟!"

استقام بجسده الممشوق أخيراً في مواجهته وهو يرمي تلك المنشفة بعيداً يرمقه بهدوء عجيب... لا أثر للصدمة ولا علامات تدل على الذهول أو التعجب... فقط اكتفى بالنظر إليه بهدوء شديد حتى قال أخيراً ببرود "إياب يجيد فهم العربية ولا أحبذ إدخاله مباشرة في دوامة آل الراوي التي يبدو أنك انجررت إليها ولم تستمع لنصيحتي القديمة؟!"

لم يكن كلا الرجلين سهلين على الإطلاق أو يتميز أحدهم على الآخر في دفع الطرف الآخر لحافة الجنون الذي يغذيه الغضب ببساطة.. هدأت كل ملامح إيهاب فجأة وبدا أنه يدرك أخيراً الفخ الذي وضعوا فيه, ما زال نمر الراوي يحركهم كما يريد في لعبة الشطرنج الأبدية خاصته، دائماً هو من يقوم بالخطوة الحاسمة "كش ملك!!" وماتت كل الفرسان...

"ما بالي أتبين أنك كنت في استعداد لتواجدي هنا؟!"

تحرك راشد خطوة وحمل ولده الذي كان انكمش قليلاً عند رؤية الرجل الغريب, ضمه إليه مطمئنه وهو يقول بتفكه "لأكون صريحاً معك لم أرتب لظهورك أنت بل لآخر لبس الثوب الذي تركته وناسبه تماماً ولكنه لم يضيف أي لمسات خاصة لتجعله يليق بمالكه الجديد!"

هز إيهاب كتفيه وهو يضع يديه في جيبيه مقاوم نفسه بأعجوبة أن لا يجعل قبضته تستقر في وجه الرجل المستفز ثم قال "الشاب ما زال في مقتبل عمره لم أكن لأرسله لهنا ليرتكب جريمة قتل تتسبب في إعدامه!"

ضحك راشد بزيف ثم قال بلا روح "لن أستطيع أن أخبرك أنك أحسنت التصرف.. ربما فارسنا المغوار ما زال يحتاج لأن يواجه تقلبات الحياة وصعوبة الموقف مختبرها بنفسه؟!"

قال إيهاب باستهانة "تتحدث وكأنك تهتم.. وكأنك لم تكن الشخص الذي هرب وترك الحمل الثقيل على عاتق شاب في مقتبل عمره دون سند حقيقي يقومه!!"

قال راشد في برود "الحماية المفرطة في أغلب الأوقات تأتي بنتائج عكسية!"

أظلمت عينا إيهاب وهو يقول بغضب "أرى أنك تفعل عكس ما تؤمن به.. ألا يعد هروبك بالفتاة وإياب حماية مفرطة تسببت في دمار الكثيرين دون أن يرف لك جفن واحد؟!"

تبسم راشد باستفزار ثم قال "أنا أحترمك وأقدرك إيهاب لذا لا تتحدث بلسان يجهل الكثير من الحقائق, بناء على ماضيك الحافل أستطيع أن أجزم أنك إن وضعت في نفس الظروف لكنت اخترت الابتعاد لتنقذ صغيرك!"

شحب وجهه قليلاً.. قليلاً فقط وهو يستوعب ما يشير إليه! ولكنه قال "ربما أنت محق وربما من حقك الابتعاد بأختك وحمايتها من ذلك الشيء الذي أجهله..!"

صمت لبرهة وسخطه يشتعل مرة أخرى وهو يقول من بين أسنانه حرصاً على عدم إفزاع الفتى الذي ينظر إليه بفضول و خوف "ولكنه لم يكن من حقك اللعين أن ترسلها لمصح المجانين لمدة عام كامل حتى ظننا أنها لن تستيقظ أبداً!"

اسوّد وجهه وهو يهدر "توقف أخبرتك أن حماية طفلي لا تقتصر على إبعاده عن تلك الأسرة الموبوءة فقط!"

أخرج إيهاب يده رافعها أعلى رأسه الأشيب فاركه بعصبية قبل أن يتمالك نفسه أخيراً ويتمتم "أعتذر, كان يجب أن أنتبه في اختيار كلماتي!"

هز رأسه بتفهم ثم قال بهدوء "دعني أدعوك لكوب ليمون يهدئ أعصابك يا أبا إياس.. وبعدها ننظر في سبب قدومك إلينا"

قال إيهاب بجمود "لا تدّعي الغباء الآن.. إن كنت رتبت لهذه الخطوة فأنت تعلم تمامًا لما أتيت.. وبالتأكيد أنتَ مستعد لتخطوها؟!"

لم يرد راشد بشيء بل تخطى جانبه متوجه نحو الباب الخلفي لمنزله وفتحه في دعوة صامتة وهو يقول بغموض "سيدهشك أن تعلم أني مستعد لها منذ أن غادرت تاركاً لها طرف الخيط ولكنها كالعادة أخفقت في تتبعه لتتمعن في تلبس دور الضحية!"

بُهت إيهاب وهو يقول بتشوش "ماذا تعني؟!"

التفت إليه من وراء كتفه قبل أن يقول بصوت مكتوم "إجابتي ليست من حقك أن تسمعها أو أفسرها لأحد... هذا ملف أغلق بغير رجعة من قِبَلي... لا اعتذارات ستفتحه ولا ندم قادر على جعلي على الإفصاح عنه... دعنا نقول أن كل طرف نال ما إستحقه وبفعل يديه يا إيهاب!"

.....................

المنزل المتواضع كان مؤثث بعناية شديدة، أثاث قليل ولكن مريح وعملي وعالي الأمان بما يناسب تربية طفل.. ورغم عدم بهرجته والرقي المعتاد والترف المبالغ فيه الذي كان يتلمسه في أي منزل ينتمي لتلك العائلة.. كان يشع بدفء غريب وكأن أرواحاً بريئة صافية تحيطه من كل جانب.. يستطيع القول أنه منزل يمتلئ بالحب الصافي في كل لمسة أُضيفت لديكوره.

"كان عليّ أن أترك لها ما يشغلها, بأن أجعلها تشعر بأنها في بيت يخصها أخيراً إذ أنها عاشت عمراً تفتقد الانتماء!"

قال راشد فجأة قاطع الصمت وهو يقدم له كوب عصير الليمون الذي وعد به "من تقصد؟!"

سحب راشد مقعد يجاوره على طاولة المطبخ المكشوف نحو بهو المنزل ثم قال بنبرة عادية "عنيت سَبنتي!"

قال إيهاب ساخراً "أنا لم آتي لسؤالك عن ديكور منزلك؟!"

هز كتفيه العريضين ثم قال في برود "نظرة الاستغراب وأنت تتفحص المنزل كفيلة بأن تعلمني ما يدور في خاطرك"

ارتشف إيهاب بضع قطرات أخرى من العصير ثم قال في هدوء "دعنا ندخل في لب الأمر مباشرة.. أريد أن يعود الصغير معي أو تصطحبه أنت بنفسك"

قال راشد "من الصعب تحقيق مطلبك الآن... هو حتى لا يعرفها!"

هز رأسه بتفهم ثم قال "إذاً أخبره.. هي تستحق هذا.. بالنهاية هو ابنها الذي أوقفت حياتها على ضمه إليها مرة أخرى!"

قال راشد " هل تريد مني إخبار فتى لم يكمل أعوامه الأربعة أن عليه العودة لامرأة لا يعرفها... يقدم لها حبه ويدعوها أمي بتلك البساطة؟!"

جزّ إيهاب على أسنانه مرة أخرى ثم قال "مما فهمت أنه يدعو أخرى لا تملك حق فيه بأمومة مزيفة, إذا الأمر ليس صعب عليك كما تدعي!"

لم يهتم مطلقًا أن يفسر الحقائق عندما قال بجمود "أجل بالطبع لا يبدو صعبًا.. إذ أن تلك الأم التي تستحق انتمائه الكامل لها كبر بين ذراعيها مقدمة له ما لم تحسن الطاووس فعله وهي تستخدمه كأداة انتقامية أو أسوء توصمه من قبل مولده بالعار!"

فرك إيهاب وجهه قبل أن تندفع عيناه نحو الفتى العسلي الذي ينبطح على سجادة في البهو ويهيم في ألوانه ورسمه مذكره بملامحه المحببة بطفليه ثم قال "هذا ماضي يا راشد... صراع كان كلاكما مفتعله بغير تنازل ومن غير العادل أبداً أن يدفع إياب ثمنه عمره كله ربما هو لن يسألك الآن... لن يكتشف كذبتك الكبيرة عليه والوهم الذي ترسمه حوله.. ولكن يوماً ما سيعرف كل شيء... هل تعتقد وقتها بأنه سيمنحك سماحه أو تفهمه؟!"

صمت لبرهة قبل أن يعود ينظر إليه وهو يقول بقوة "هل تذكر نزار الكردي؟!"

"الأمر مختلف!"

"يكاد يكون متشابه بالنسبة لي, وأنا أتخيل المستقبل القريب إن لم يعرف ابنك باكراً مَن أمه الحقيقية والتي تموت كمداً كل لحظة من لوعة فراقه!"

فتح راشد فمه يخبره بما يرتب له وبمخططه الذي لا ينوي فيه المخاطرة أبداً بفراق إبنه, بشروطه التي لن يتنازل عنها في سبيل حماية كلا صغيريه من عودتهم لهذا الصراع الموبوء بالمصائب..

ولكنه أجبر على الصمت عندما فز إيهاب من مكانه متوتراً وهو يمسك هاتفه الذي وصلته عليه رسالة قرأها من على الشاشة "لقد مات، هل تصدق؟!"

أجرى مكالمة هاتفية على الفور والذي جاوبه فيها الطرف الآخر وكأنه يجلس على زر الإجابة "إهدأي صغيرتي حتى أستطيع أن أفهم ما الذي حدث؟!"

لم يكن في صوتها أي أثر للبكاء.. ولكنه كان أشبه بانيهار بارد وهي تجيبه بعدم اتزان "اتصلوا بي كالعادة لألبي مطلبه في رؤيته الملحة ولكني رفضت... أنت تعلم أني لا أحب هذا الرجل.. لا أشفق عليه ولا أهتم بما يريد!"

"مريم أرجوكِ" حاول بكل ما يملك من حزم أن يسيطر على انفعاله ولكنها كانت في حالة هذيان غريبة وهي تقول "لقد مات.. الأناني مات.. مسبباً لي جرح عميق آخر ولكن هذه المرة لن أستطيع رؤية التوسل في عينيه, والدفء في نبرة صوته ليعوضني عن ما فعله بي ...لقد مات دون أن أمنحه سماحي... هو ارتاحَ وأنا لم أحصل على سلامي.. الأناني البغيض كيف استطاع أن يفعل هذا بي؟!"

استند إيهاب على الحائط وهو يخفض وجه للأسفل بين كتفيه, يخبط على الجدار بكفه بعجز... رباه, يعرفها جيداً, يحفظها كما خطوط يده ستدخل في حالة من عدم الاتزان وهو على بعد آلاف الأميال منها تاركها وحيدة بطفلين صغيرين "إهدأي حبيبتي, الموت حقيقة لا نستطيع التنكر لها أو التنبؤ بحدوثها!"

قالت بنبرتها الذاهلة "أعرف.. ولا أعترض، ولكن لماذا لم ينتظر ربما لو بقي بضع أشهر أخرى كنت منحته ما يريحه... مات دون أن يودعني كما أتيت أنا للعالم دون أن يضمني... أترى كم هو أب سيء لا يهتم بمشاعري؟!"

وقف راشد هو الآخر والقلق يعصف به قبل أن يستل هاتفه يقلب في الرسائل الخفية لرجله الذي يوصل له الأخبار المهمة على عجل.. ولكن لا شيء... في حركة سريعة كان يفتح موقع التواصل الاجتماعي وولج للصفحة الخاصة بآخر أخبار شركات الراوي والتي وجد فيها الكثير من منشورات النعي لروح الفقيد..

جلس في أول مقعد قابله مرتطم فيه بعنف ووجهه يفقد كل ألوانه "لا، لا، لا.. لن يرحل ياسر الراوي الآن مفسداً كل مخططاته, قاضياً على كل ترتيباته.. مهلاً هل مات الأسد العجوز حقاً... تاركاً في قلبه غصة لا تمحى... حارمه من لقاء أخير معه مخرجاً كل منهما أسباب حقده على الآخر.. ثم ينتهي الأمر بمسامحة أبوية كما كان يحلم يوماً!"



.........................،،،،،.،،،........ ....



أمام القبر الذي احتوى جسد والده بعد أن أنزله إليه بنفسه رافضاً أن يسوي نومته الأبدية فيه أحد غيره...

جلس خالد يضم ركبتيه إلى صدره بذراعيه ساند رأسه هناك يحدق في حارس المقابر الذي يرش التراب بالماء بينما شيخ يتلو أيات الذكر الحكيم... بعينين عميقتين وكأنهما بئرين لا قرار لهما من الألم ..على الجانبين كان يجلس زوجا أختيه اللذان شاركاه حمل نعش والده, ربت أحدهما على كتفه في مساندة والآخر يخبره ببعض الكلمات المؤازرة دون أن يدرك حقيقة ماهيتها إذ كان أكثر تشوش محبوس في صدمته.. حتى عندما ظهر ابن عمه المنبوذ عزام من العدم يحمل أحد أطراف النعش على كتفه، لم يستطع أن يتفوه بكلمة أو حتى يطرده... رغم كل شيء ورغم المصائب التي تسبب فيها عزام بالماضي شعر خالد أن من حق والده أن يودعه كل فرد في الأسرة.. أن يظهر الجميع في ترابط أمام المجتمع... بالنهاية هو يوقن أن هذا ما كان يريده والده!

سمع الشيخ ينهي تلاوته فتدخل مالك أخيراً يخبره بصوت خفيض "يجب أن نتحرك من هنا.. ملابسك مغبرة تماماً كما نحن والعزاء سيقام بعد ساعات!"

أغلق خالد جفنيه يحجب ضياعه التام عن الأعين المترصدة يتمسك بقناع واهي لا يظهر أبداً انهياره الداخلي... لقد ضاع سنده للتو، أبوه الذي كان يحميه في الخفاء حتى وإن أدرك هذا بعد فوات الأوان... لقد أصبح كغصن شجرة هزيل وحيد يقف في مهب الريح دون جذع قوي وجذر يثبته في أرضه!

"أمي وأخواتي طلبن أن يودعنه بعد أن تخلُ حجرة الدفن من الرجال" همس بهدوء متعمد بعد برهة.

تولى مدحت الرد وهو يرمق عزام بقرف ثم قال "سأتولى أنا هذا الأمر بعد أن أتخلص في هدوء من كل الأسباب التي من الممكن أن تسبب توتر نحن في غنى عنه"

رفع خالد جفنيه ينظر إليه بهدوء ثم قال "إن رغب في حضور العزاء الذي سيقام في حديقة منزل آل الراوي بناء على طلب أبي لن يمنعه أحد... هذا حقه بالنهاية !"

قال مدحت معترضاً "ماذا تقول.. هل أنت جاد.. لقد كان والدك من نفاه بعيداً بنفسه...؟!"

قاطعه خالد وهو يقف منتصباً أخيراً وقال بحسم "نفاه بعد أن حماه وأخرجه من تلك القضايا منقذاً اسم العائلة بالظاهر ولكن بالباطن كان يحمي كعادته فرداً منا رغم كل جرائمه يبقى ابن أخيه!"

"ولكن..." همس مالك

قال خالد بحزم "لقد قلت كلامي وانتهينا... إن أراد سيبقى وبعدها لكل حادث حديث, هذا الجدال لا في مكانه ولا وقته"

خرج خالد من الباب الحديدي يهبط درجتين للأسفل نحو الأرض الترابية بعد أن منح قبر والده نظرة أخيرة موجوعة "وماذا فعل المنصب والجاه ومكانتك الأرستقراطية يا أبي.. هل كل ما كنت تتمسك به مدمرنا في طريقك كان يستحق.. في النهاية أنت كغيرك متر في متر بين تراب يأويك لترتاح أنتَ وتترك نار تضرم في صدري لوعة على فراقك وندم على الوقت الذي ضاع بعيداً عنك ونحن غافلين !"

رفع عينيه لتتلقى الحداد والسواد الذى اتشح به أخواته ووالدته التي بدت أنها قد كبرت فجأة مئة عام... كما متوقع أعين منتفخة من شدة البكاء، وجوه شاحبة مخطوفة اللون من لوعة الفراق, انهيار تام بكل ما تحمله الكلمة من معنى حتى وإن كانت بدور الوحيدة التي يبدو عليها تماسكاً يعلم هو زيفه, وهي تضم شيماء التي بدت في حالة من الضياع وهي ترتجف من شدة الألم... حتى كانت هي!

أخيراً استطاع تبين وجه أخته غير الشقيقة التي وقفت بعيداً تحدق في الوجوه بذهول وكأنها لا تدرك ما يحدث تسندها امرأة يعرف أنها ابنة عم زوجها إذ كان يراها ترافقها في بعض المناسبات... بخطوات هادئة واثقة كان يتقدم يشق الجمع الذي امتلأ بأناس كثر, لا لم يهتم بهمس لانا التي تخطاها للتو ولا بصوت شذى الخافت المشوب بالبكاء في محاولة لإيقافه بل كان يتوجه لهدف واحد مباشرة، حتى وصل إليها يقف على بعد إنش واحد منها.. رفعت عينيها المطعونتين نحوه ثم همست بشفتين متيبستين وكأنها تعتذر عن إخفاقها, عن تخليها عن مكان أراده أبوه في لحظته الأخيرة "لم أكن أعرف, لم أتوقع أبداً أن يموت.. هل من دُفن منذ لحظات كان أبي حقاً يا خالد؟!"

لم يعرف لمَا اعترافها بأبوة أبيه أخيراً هزه للأعماق جاعلاً داخله يرتجف بقهر ودون مقدمات كثيرة كان يمد يديه، ليضمها إليه بقوة, لم ترفضه كالعادة أو تتوتر.. بل باستسلام عجيب كانت تدفن رأسها في صدره ممسكة بقوة في قميصه المحمل برائحة تراب قبر أبيه... مشاعر عجيبة وغير مفهومة هي ما اجتاحتها , ربما إيهاب يمنحها كل ما تريده وتكتفي به عن البشر أجمع وربما هي كانت تحتاجه وبشدة الآن. لكن ما تجربه مع أخيها في هذه اللحظة ولأول مرة كان أمر مختلف تماماً.. أحسّت أخيراً بدمعتين رقرقتين ترطبان جفاء عينيها الجارح بينما يديه التي تضمها بقوة أشعرتها باليتم! بالضياع! بأشياء عدة كانت من حقها أن تتداركها مبكرا جداً...

"لم أكن أتخيل انه سيفارق " رددت بوجع..

أحس بالألم يمزق قلبه مرة واحدة ليخرج صارخاً بادياً الفوضى على ملامحه التي تتماسك بوجه خادع بصعوبة.. مما دفعه أن يهمس بجانب أُذنها "كان يعلم.. يعرف أنكِ ستسامحينه يوماً, كما هو يغفر لكِ عدم تلبية ندائه, لقد كنتِ أحد آخر الإسمين الذين همس يوصيني عليهما قبل أن يفارق الحياة!"

.................................................. ........

ليلاً انتشرت المقاعد في الصالات المخصصة لعزاء النساء تدور بينهن أكواب القهوة، كانت كلتا الأختين شذى ونوة أكثر تماسك من أجل أمهما تشرفان على الضيافة بأنفسهن مراعيات التقاليد الاجتماعية المنفرة.. والتي لا ترحم حدة حزن أسرة الفقيد وهم على علم أنه رغم كل شيء سيجدن نساء تلك الطبقة ما يتهامسن به عقب انتهاء العزاء أو ربما الآن... ضغطت كلتاهما على نفسها أن لا تطردا بعض النمامات اللاتي شرعن يتهامسن على مريم بينما يرمقنها بامتعاض ناشرات فيما بينهن الحقائق والأكاذيب عن الابنة غير الشرعية للفقيد.. وطبعاً كالعادة يجب أن تحتل بدور وماضيها الكاذب بإشاعاتهن جانب مميز من همسهن...

حتى وقع حديثهن على خطيبة أخيها التي تتنقل بين المعزين مضيفة لهم ومسانده إياهم!

"انظري إليها تتصرف وكأن قصر الراوي أصبح ملكها بكل من فيه؟!"

همست أخرى وهي تلوي شفتيها "ولم لا وخطيبها اكتسح كل شيء دون منافسة بعد أن تخلى ابن عمه عنهم وترك أخته بعد أن خانته مع أخيه!"

همست ثالثة "احترمن حرمة العزاء ثم من قال أنها فعلت، الولد الذي أُخذ منها اتضح أنه ابنه وكما تؤكد مصادري أنها كانت تنتقم منه وتغيظه بزواجها من أخيه بعد أن تزوج عليها السكرتيرة!"

همست الأولى بفحيح "قالوا هذا لتبييض وجه ابنتهم، والدليل أنها اختفت سنة كاملة ليغطوا على فضيحتها وحتى الآن لم يعرف أحد أين كانت؟! "

قالت امرأة أخرى بنفس امتعاضها "لا هذا ولا ذاك، بل الحقيقة أنهم اكتشفوا أن ابنهم الذي يدعي الالتزام والتدين غرر بالفتاة الصغيرة التي كانت تربيها أمه فطلب أخوها زواجه منها ورفض أبوه لأنه كان بالفعل خطب له تلك الفتاة.. فأخذها أخوها وغادر غاضباً!"

همست الأولى مرة أخرى "يقولون أنه ما زال يحبها ولكن ابنة أمها المتباهية التفت على الشاب بصبر وخبث حتى وقع في حبالها.. انظرن كيف تتعامل هي وأمها.. كأنهما مَلِكتا المكان كله وكأن اسم عائلتها وغنى أبيها لا يكفي؟!"

"اتركن الخلق للخالق, اللهم استر على ولايانا, عائلة فضائحها لا تنتهي!"

همست شذى لنوة بتعب "تماسكي نحن مجبرين على هذا، بالنهاية ليس بيدنا شيء لنمنع كلام الناس هنا وهم لن يكفوا عنا حتى وإن شهرنا كل أوجاعنا بالأدلة على العلن!"

قالت نوة بصوت مهزوز "فقط لينتهي كل هذا.. أنا أريد مكان أُبكي فيه أبي دون أن أطالب بزيف الصمود"

.............................



عجباً لما يفعله ترتيب القدر الذي يقلب كل شيء رأساً على عقب في لحظة, مبدداً كل الثوابت, مخرجاً كل الأمور عن ارادتنا ليسيرها ويطوعها لما تخطط لنا أقدارنا!



أوقف إيهاب سيارته أمام المنزل الكبير الذي يكاد يصرخ بالحزن الذي أدمى القلوب... ينظر لراشد الذي يجلس بجانبه صامت هادئ، وشاحب للغاية.. لقد كان متماسكاً إلا أنه كان قادراً على لمس أعماقه تتمزق دون أن يملك الجرأة على التعبير عن ألمه.. ولكنه أيضاً عقب تلقيهم الخبر كان يتصرف برتابة شديدة دون أن يعلق أو يبدي أي رفض أو جدال في طلبه الذي سافر من أجله بل اكتفى بأن قام ببعض الاتصالات السريعة مرتباً هبوطهم الاضطراري إلى هنا بواسطة طائرته الخاصة التي كانت ترقد في أحد مطارات لندن... ثم التفت إليه يخبره بعدها "أعتقد أني لا أملك أن أرتب لأي خطط أخرى, لقد حان وقت عودة الغائب لذراعي أمه. قد يكون إلهاءً مناسباً تحتاجه العائلة في هذا الوقت!"

يذكر كيف أومأ برأسه مصدقاً دون نقاش آخر.. إلّا أن كانت العقبة الأخيرة والمميتة في الشابة الصغيرة التي كانت تتمسك برفض عودتها معهم أو ترك الصغير لهم!

"لن أستطيع الدخول بإياب.. يمكنك أن تصطحبه بنفسك موفي بوعدك الذي أخبرتني عنه"

أومأ إيهاب وهو يقول "هل ستتوجه للوقوف بجانب خالد على الأقل؟!"

"أعتقد أنه قد فات الأوان لهذا، ولكن مؤكد سأفعل.. أستطيع تخيل كيف هي حالته الآن!"

فتح إيهاب باب سيارته ثم قال "إذاً يجب عليّ أن أحذرك، إذ أنه يحمل لك ضغينة جشعة لن يكبحها إلا رؤيتك تنزف بين يديه!"

اكتفى بإيماءة بسيطة لا تفسر عن شيء وهو يهبط من مكانه ثم يتوجه نحو باب السيارة الخلفي يفتحه ليسلم إليه ابنه بنفسه...

تناول ابنه حاملاً إياه وهو يقول بنبرة خفيضة "كما اتفقنا لا أريد للصغير أن يفزع, اجعلها تتماسك من أجله.. حتى أخبره في الوقت المناسب بصفتها"

تنهد إيهاب بكبت ثم قال "لقد فات أوان هذا يا راشد، دعنا نرى الأمر من غير ترتيباتك الجبارة كيف سيسير... قد يصدمك الفتى بالتعرف عليها دون أن يخبره أحد؟!"

ساعد راشد ابنه بوقفته على الأرض قبل أن يهبط على ركبتيه يداعب شعره بحنان ثم قال "هل تذكر اتفاقنا أنك رجلي الصغير الذي سيحسن التصرف مع الناس اللطفاء الذين ستراهم الآن؟!"

بعينيه الواسعتين وبشجاعة طفولية محببة كان يهز رأسه مؤكداً ثم قال "ولكن أسرع بابا في إنهاء عملك حتى أعود لماما"

حاول راشد أن يجبر نفسه على الابتسام في وجه ولده ففشل تماماً بينما يقول وهو يشعر بالدموع تحرق عينيه "هل تذكر قصة الطاووس الذهبي؟!"

التمعت عينا الفتى الجاهل بحماس فأكمل راشد ببهوت "في داخل هذا القصر ستقابلك إمرأة ستحتضنك كماما, ربما ستبكي قليلاً أيضاً, أريدك أن لا تخاف منها أوتُبعدها عنك بل احتضنها بقوة وأنتَ تتخيل وجودك تحت جناحي طاووسك إذ أنها تشبهه لحد كبير!"

ازداد الحماس في عيني صغيره طاغيا على رهبته وخوفه، وبشجاعة كان يمسك يد إيهاب حاثاً إياه على التحرك للقاء طال انتظاره ولوعة حرمانه!

.....................

كانت تماثل لوح الثلج بروداً وجموداً وهي تجلس بين النساء المتشحات بالسواد ما بين أقارب وبين معزيات, لم تنطق بكلمة واحدة منذ أن سلم روحه لبارئها بين أيديهم وودعوا جثته الخالية من الحياة.... بعد أن طلب غفرانه وكأنه يرفض أن تحصل على سلامها يوماً (أخبرها أنه يريد منها إنهاء عذابه أخيراً أن تسامح ..ورحل دون أن تسمح لها الفرصة بأن تخبره أنها لم تكرهه أبداً، بأنها بداخلها كانت تسامحه, تغفر له كل خطاياه في حقها حتى وإن تسبب لوقت طويل في دمار دنياها وحرمانها من صغيرها)

التفتت بدور برأسها قليلاً تنظر لمريم التي تجلس بجانب والدتها.. وتسكن عسلية عيناها الحيرة.. أختها غير الشقيقة تائهة تماما ما بين حقدها عليه.. وحزنها الذي يعاندها ويريد الصراخ.. أمها الحبيبة صامتة جامدة بعيدة كل البعد عن جلستهم التي يخيم فيها الحزن ..ويلقي بظلاله القاتمة فوق رؤوس الجميع...

"لا يشعر بمرار الفقد إلا من ذاقه"

ربما هي أنانية في اعتقادها لأنها توقن أن لا أحد أبداً أبداً يشعر الآن بما تشعر به هي ولكن الدموع محتجزة في مقلتيها وترفض أن تغادرها لتنعيه لتصرخ معبرة عن قهرها بفراق ظهرها الحامي مثل أخواتها.. ولكنها تفشل في تطويع تلك العينين التي تحجرت وكأن أوجاعها الكثيرة والطويلة استنفذت كل مخزونها من الدموع!

جلبة صغيرة عند الباب الخارجي لصالة المنزل لفتت انتباهها ..بنفس جمودها التفتت برأسها قليلاً لترى ما سرها في بادئ الأمر, تنبهت لصرخة نوة المفجوعة بينما تجمدت شذى مكانها وهي تحدق في وجهها برد فعل غريب ثم تعود بعينيها تحملق في الرجل الذي اقتحم عزاء النساء...

عندها توجهت عيناها أوتوماتيكيا نحو سر جمودهن ووقعت عيناها على زوج أختها الذي كان يختفي تماماً منذ ليلة أمس متخلي عنهم في هذا الوقت الصعب ولكنها لم تتنبه لتغيبه إلا هذه اللحظة... تقدم إيهاب ببطء وحرص نحوها متجنباً الهمهمات الخافتة التي تحدق فيه بتعجب يخالطه الشفقة عندما توجهوا يركزون أنظارهم نحوها هي، وقفت بدور بدورها متجنبة النظر للهيئة الصغيرة التي تتمسك بكفه بينما تشعر بالهواء يضيق ويضيق حتى إنعدم تمامًا من رئتيها "رباه ليس خيبة أخرى, لا فؤادي الذي يهدر الآن لا يكذب عليّ, لا تجعلني أخاطر وأنظر.. أنا راضية بمكتوبك عليّ... ولكن لا تجعلني أرجوك أتذوق مرارة الخذلان مرة أخرى"

كان إيهاب يتأملها بحذر ورأفة.. ثم وقف مكانه داعيها بصمت للتقدم ..بصعوبة بالغة كانت تسمح بأن تنقل نظراتها إلى جواره, فتخشبت مكانها للحظات وأخذ وجهها في الشحوب التدريجي ..شاعرة بوخزات تهاجم قلبها بتتابع..

تتصارع وكأن تلك الوخزات صخر صغير مسنن يتساقط من جرف جبل عالٍ مهشمها لنثرات لا ترى بالعين المجردة ..وتحركت ببطء رتيب أخيراً وكأنها تخشى أن تصدق ما تراه إلى أن وقفت على بعد خطوة واحدة منهما.. جاهدت وكم يشهد الله على ما تعانيه الآن وتحاول التغلب عليه ..لا هي لا تريد وهماً آخر وأمل زائف بعد أن فقدت طعم الحياة..

كان رد الفعل المشجع من زوج أختها الذي هز رأسه مطمئناً وهو يهمس "انتهى وقت الخيبات, تقدمي وأجبري فؤادكِ!"

انتقضت وهي تسأل كالتائه العطش في صحراء قاحلة رافضا أن يتمسك بالسراب "من هو الطفل؟"

أغلق إيهاب جفنيه لدقائق معدودة ..ثم فتحهما ينظر إليها وهو يقول بتأني "أعتقد أنكِ لا تحتاجي إجابة منحها لكِ فؤادكِ فور دخوله معي!"

ارتجفت وهي تنظر إلى الطفل.. مجرد تخيل صورته في أحلامها تنحر قلبها الملتاع بعنف ..يشطرها كلها لشظايا صغيرة منثورة لا يمكن أن تجبر يوماً ..هبطت على ركبتيها كفرس عربية أصيلة قاومت وصمدت أمام خيّالها ولم يستطع أحد كسرها ..إلا عندما وجد نقطة ضعفها أخيراً والتي تمثلت في قطعة من أحشائها الصغيرة.. راقبت الصغير ذو الثلاثة أعوام وبضع أشهر ..وكيف تخطئ في عمره أو تنسى... وجه خمري اللون.. بيضاوي.. عينان داكنتان.. وشعر عسلي غزير تشوبه بضع خصلات سوداء.. وملامح رغم صغرها ولكنها ذات بأس وصلابة.. نسخة متطابقة منها ومنه وكأن كل تقطيعة في ابنها تبلورت حاملة كل من جيناتها وجيناته متحدية كل طرف فيهما من حرمانه من الآخر... حاولت مد يدها للمسه.. للتأكد أنه ليس أحد أحلامها.. أنه هنا أمامها كبر ولم يعد لفافة صغيرة أخذها عديم الرحمة منها ليعاقبها ..لينتقم منها بعد أن حطمت رجولته تماماً!

فلم تستطع... رفعت عينيها لإيهاب وكأنها تستجديه العون ومؤازرتها ..أن يؤكد لها حقيقة ما علمت ..بل هي تطلب الرحمة!! الرحمة لمشاعر أمومتها.. الرحمة لقلبها الذي نهشوه نهشاً بينهم ..الرحمة والرأفة بعقلها الذي لا يستوعب..

هز إيهاب كتفيه بعجز عن فعل شيء لها.. يتمزق بحق على حرقتها وعذابها الذي رآه معها عبر سنوات فهمس بصوت صعب "هو.. وعدتكِ أن أعيده وأخيراً وفيت بوعدي"

هزت رأسها بالنفي الشديد ثم عادت بتخبط وأومأت بالإيجاب مصدقة ..حدقتيها متوسعتان على آخرهما تنظر للصغير الذي يراقبها بفضول... ثم تقلب عيناها في وجوه أخواتها الباكية من حدة الموقف وعذابها الذي تعاني حتى أفلت إياب يد إيهاب واقترب من تلقاء نفسه وبطفولية بريئة رفع يده ومررها على شعرها المسترسل يخبرها بلغة

إنجليزية "مرحباً ..لما تبكين؟!"

همست بتحشرج تاركة إياه يتلمسها أولاً.. يتعرف عليها يجرحها بعفويته "أنا لا أبكِ، ومرحباً يا صغيري!"

أنامله الطرية هبطت لتلمس الدموع فوق وجنتيها يمسحها بعفوية ثم قال في همس متآمر "لا بأس لن أخبر أحد, أنا أجيد كتم الأسرار كما أفعل مع أختي عندما تبكِي بعيداً عن البابا!"

لم تجد بدور ما تقوله وقد بدت أنها فقدت النطق, فقط تكتفي بالتحديق فيه بذهول وكأن فجأة ودون مقدمات كل السنون التي حُرمت منه فيها قد مُحيت, كل الوجع يلوح أمامها بأنه سيُجبر فور أن تستطيع أن تطوع ذراعيها وتلمسه لتعيده بداخلها!

"بابا قال أني سأرى الطاووس خاصتي هنا.. أين هو؟!"

كان ينقل نظراته بينهم بفضول شديد حتى عاد يحدق فيها هي...

سريعاً كانت بدور تضع يدها على فمها كاتمة صرخة منحورة تريد أن تغادر صدرها... "الطاووس خاصتك؟!" تمتمت بإنيهار من تحت كفها..

"أنتِ جميلة جداً.. لا تبكِ" قال وهو يغطي يدها بكفه الصغيرة في محاولة عديمة الإدراك منه على ما يبدو ليجعلها تتوقف..

"رباه.. إياب صغيري.. هل هذا أنت حقاً؟!" عند نطقها بملكيتها, بانتمائه إليها أكّد العقل المشتت حقيقة وجوده واعترف القلب الذي عُذب بسادية الفراق أن من سكن جواره وتغلل في ثناياها منذ أن كان مجرد بذرة تتشبث بالحياة داخل رحمها عاد ..صغيرها الذي انتُزع منها عاد.. حبة قلبها يقف أمامها, يتلمسها, يتعرف عليها وهي عاجزة وكأنها شُلت حركتها متصلبة الأطراف.. فضمه وتخيله فقط بين ذراعيها كان كفيل بجعلها تنهار.. أطلقت لدموع الفؤاد العنان يبكيه أولاً بدل الدموع دم!

ثم بتلقائية وإشارة ذاتية لم تنتظر إجابته, إذ أنها سابقت لتضمه إليها أخيرا تدخله صدرها وتهتف بحرقة "أنت صغيري أنا.. عدت لماما ..حبيبي ..أبكيك أنت دموع من نار وأنين من قلب توجّع وخُطِف معك ..وروح سُرقت مني وتاهت وعُذبت ..ليته قتلني صغيري قبل أن يُميتني وأنا أحيا محرومة منك.. إياب، إياب!"

صوتها المجروح كان يرن بصدىً مؤلم على أسماع الحاضرين جاعل كل من تمسك بدموع عزيزة يطلق لها العنان وكل من أتى مجاملة غير مهتم أن ينعي الفقيد بدموع كاذبة.. أن يدخل في حالة انهيار تامة من الدموع والألم... هل شعر بها المجتمع الذي نحرها على منصة حكمه دون أن يشعر بفجيعة أمومتها الآن؟!

صوتها علا بشهقات تحنن قلب الحجر وهي تضمه إليها أكثر وأكثر غير قادرة على أن تستخدم كلمات مخبرة إياه بالمزيد, مستفسرة منه إن كان يعرفها "كل الألم محي يا صغيري.. كل شيء ما عاد ذو قيمة، كنت أعلم أن عودتك إليّ ستشفي كل أوجاعي وتجعلني أولد من رحم فقدانك من جديد"

.................................................. .......

[/SIZE]
يتبع الان



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 03:54 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس