عرض مشاركة واحدة
قديم 29-03-20, 10:44 PM   #2291

Nor BLack
 
الصورة الرمزية Nor BLack

? العضوٌ??? » 455746
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 593
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Nor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond reputeNor BLack has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   star-box
Rewitysmile7


الفصل الثامن والعشرون ج2

شكرا على زمن البكاء ، ومواسم السهر الطويل .. شكرا على الحزن الجميل. –





عدل راشد من رابطة عنقه السوداء قبل أن يشرع في التقدم لدخول سرداب العزاء كما هو وكأن أعوام اختفائه لم تؤثر في دخوله بكامل هيبته!

في البداية كانت الأعين تتعلق به ببعض الذهول المخالط للمفاجأة... لم يبالي وهو يتقدم بينهم بشموخ وكبرياء ملكًا على أي أرض يحلها كما وصفته أم ولده يوماً مازحة.. ليجد لسخرية القدر الآن أن وصفها في محله ويجد صداه في أعين المعزين... بالبداية تبادل السلام باحتضان باهت مع مدحت المصدوم والغاضب، ثم تابع دون كلمة واحدة ليصل لمالك الذي فعل نفس الشيء، حتى وصل أخيراً للرجل الذي يقف ملامس كتف ابن عمه وكأنه بطريقة ما أصبح أحد أفراد العائلة وليس مجرد شريك أدخله عمه في شركاته.. مد الرجل يده يأخذ العزاء بينما يطالعه بعينين يحترق رماد عجيب فيهما وكأنه كره عودته غير المتوقعة.. لم يهتم أيضاً وهو يبادله السلام ويخبره بتقبل عزاءه إذ أن همه الأكبر بين كل المتواجدين واحد فقط.. يقف متصلب صامت غير متنبه لدخوله الذي أثار بعض الهرج الصامت... لوى راشد عنقه بينما يأخذ نفس طويل وهو يهمس "إياك أن تنهار الآن يا فتى, تماسك حتى آخر رمق فيك ولا تمنح الوجوه المتربصة غايتهم إن رأوا أي لمحة ضعف تبديها سيأكلونك دون رحمة!"

"البقاء لله"

وصل أمامه أخيراً وهو يمد يده مانحه تعازيه جاذبا انتباهه في البداية تصلب خالد وهو ينظر إليه وكأنه أُخذ على حين غرة أو كأنه تعرض لضربة على رأسه كانت غير متوقعة مطلقاً، ولكن للعجب كان يمد كفه ببأس يثير الإعجاب متقبل عزائه وسامح له أن يأخذ مكانه الطبيعي بجانبه دافع كل من كان يتقدم السرداب أن يتنحى جانباً، ومن يقدر على الاعتراض وقد عاد النمر وسمح له فارس الراوي بأن يحتل المكان الذي تخلى عنه بنفسه لما يزيد عن ثلاثة أعوام....

..........................................

فور أن خلا المكان من آخر المعزين حتى شريكهم تميم والذي لم يتخلى عنه أيضاً طوال إجراءات اليوم العصيب.. كان انسحب أيضاً بصمت فور أن رأى تسلل عزام الصامت متبعه مالك ومدحت... ليخلو المكان أخيراً إلا من مقعدين متجاورين...

وقف خالد مواجها إياه ينظر إليه بمشاعر غير مفهومة، ولكن بالطبع يتصدرها الحقد والغضب الغير محتوى..

"حركة جيدة منك تليق بوريث ياسر الذي ذاع صيته في قو....."

لم يكمل راشد جملته إذ أن قبضة عنيفة كانت تستقر في منتصف وجهه ترنح في مكانه قليلاً حتى استند على المقعد ليعيد توازن جسده.. وقبل أن يأخذ أي رد فعل كانت قبضة خالد الأخرى تستقر على إحدى عينيه... "اللعنة الآن سيعلم الجميع أنه ضرب من الشاب اليافع فور عودته كما ضرب من شقيقته قبل سنوات فور عودته من بريطانيا.. جيد يبدو أن الأراضي المصرية ترحب بعودة الغائب بطريقتها الخاصة؟!"

"خالد إهدأ!"

لم يحاول مقاومته أو حتى منعه حتى عندما فرد كفيه يخبط بهم على صدره بعنف مهدد أن يكسر أحد ضلوعه...

"أيها الكاذب, الخائن, لقد وعدت وغدرت بي, لقد وثقت بك كنت أستمع إليك وكأنك أب روحي لي.. كيف استطعت فعل هذا بنا؟!"

للحظات تركه راشد يفرغ فيه جلّ غضبه دافعه أن يخرج من قوقعة إدعائه أنه لا يشعر, جاعله يتخلى ولو لوقت قصير عن ثياب آل الراوي التي فرضت عليه بأن يتظاهر بأنه لا ينتمي للبشر, بأن لا شيء قادر على هزه كرجل أعمال صلب يفعل ما هو مقدر له أن يفعل!

"آسف لغدري بك, كما أني آسف لتركك تخوض كل هذا وحدك ولم أجعلك تصل لي في الوقت المناسب!"

ابتعد خالد عنه يحدق فيه وهو يضحك بهستيرية رداً على كلماته.. ثم قال أخيراً بنبرة مكتومة قاطعاً ضحكته فجأة كما بدأت "أخرج من هنا!"

ثم اندفع مرة أخرى غير سامح له بأي رد فعل يمسكه من تلابيب قميصه ناوي أن يوجه له ضربة أخرى كما هو طعنه ألف مرة عندما غدر عهد الصداقة والأخوة الوليدة بينهما "لقد وثقت بك, تتبعت صوتك أنت وخضعت لما حاولت تشكيلي عليه, مانحك ما ضننت به علي والدي؟!"

أمسك راشد قبضته مانعه أن يصل إلى وجهه ثم نظر إليه بتعاطف بحدقتين ضائعتين, كان خالد أيضاً يهدأ من انفعاله فجأة ينظر إليه وكأنه يفيق ببطء من رؤياه المظللة وكأن السكون حوله أخبره أن كل شيء يخص والده انتهى.. مذكره بعنف أنه بات وحيدا دون ظهر حقيقي يثق فيه ويدعمه... بأن كل العالم أصبح مظلم تماماً "لقد مات أبي دون أن أمنحه كل ما كان يريده مني؟!"

"أنت لست منوط بتحقيق أحلام غيرك لقد عملت واجتهدت وقدمت ما يفوق استطاعتك!"

"ولكنه مات قبل أن يسعد بأي إنجاز أو استقرار كان يرغبه لأحد منا.. مات دون أن يحصل على سلامه منك ومن أخوتي"

أحس راشد بالدموع تعود لتحرق عينيه بينما ينظر لوجه ابن عمه الشاب الذي ترك أخيراً لطبيعته حرية التصرف متخلي عن دروعه المكتسبة!

"لقد افتقدتك يا صديق رغم إخفاقك أنت الآخر بطريقة ما!" نطق راشد بنبرة حارقة.. قبل أن يندفع خالد يطوق كتفيه بذراعيه يحتضنه برجولية كما كان يفعل صغيرًا... بادله راشد عناقه بعناق أشد سامح لنفسه أن يدعمه... أن يكتم شهقات ابن عمه الناعية لأبيه في كتفه بانهيار تام ، حتى لا يسمعها أحد أو يكتشف أي بشر لمحة ضعف من فارس آل الراوي!

.................................................. .......



بعد يومين...

كانت بدور تجلس أمام باب غرفتها تدفن رأسها في ركبتيها بألم, تحاول كبح دموع الوجع التي تهدد تماسكها بينما تستمع للبكاء الحاد لصغيرها الذي يرفض التعاطي معهم جملة وتفصيلاً مطالب بالعودة لوالده وأمه!

"أمه، وليدها لديه أم أخرى يشتاقها يطالب بها, بينما لا يعرف عنها هي شيئاً.. راشد الراوي لم يكتفي بحرمانها منه فقط بل جارَ على حقوقها وجعل ابنها ينتمي لأخرى سرقت كل حقوقها.. ليس في طفولته فقط بل في حبه أيضاً في تقبلها.. ابنها يعتقد أنها مجرد امرأة خطفته من أسرته الصغيرة والسعيدة!"

سمعت الباب يفتح لتخرج منه شذى تجلس جانبها بتعب ثم دون مقدمات كانت تجذب رأسها عنوة لتضمها إلى صدرها تمسد على رأسها ببطء وهي تقول برقة "لا تحزني, إنه مجرد طفل جاهل لا يعرف أكثر مما وضع في رأسه!"

"لديه أم يا شذى.. أم سقي من حنانها, ضمته إليها رضيعًا, سهرت بجانبه مريضاً, شاهدت أولى خطواته وراقبته يكبر يوماً بعد آخر بينما أنا هنا ثابتة في مكاني أتعذب ببقايا ملابسه وألعابه التي لم يمهل الوقت لطبع عطرها فيه!"

بكت شذى بصمت وهي تضم أختها إليها أكثر عاجزة عن إخبارها بشيء حقيقي يسكن وجيعتها.. متذكرة بمرارة صدمتهم جميعًا عندما خلى البيت إلا منهم فحاول الفتى الفرار أيضاً, صارخاً مطالباً بأم تنتظر عودته إليها... حقير يا راشد لم تتعلم من الدروس الصعبة التي مررنا بها.. لقد علمت أن ابن عمها هنا أيضاً وقد زار أمها في سرية تامة مؤجلا على ما يبدو لقائهم جميعًا كما فهمت من خالد والذي أخبرهم أن رغم صعوبة هذا على نفس راشد ولكن الظروف تجبره أن يترك ابنه معها..

"يتفضل عليّ بعودة ولدي ويضع مدة زمنية لبقائه بجواري مع قوانين صارمة, أرأيتِ كيف النذل كريم معي؟!" وكأن بدور تفكر فيما طرأ على عقلها هي أيضاً عندما همست بجمود ساخر!

قالت شذى بتردد "لماذا لا نسميه خوف على ابنه من الصدمة, إياب يجهلكِ, كما أن الأجواء الحالية لا تساعد أبداً أن تخبريه بالحقيقة وحتى إن فعلتِ لا أظن أن ابن الثلاثة أعوام سيفهم!"

"ثلاثة أعوام وثمانية أشهر وخمسة عشر يوماً!" رفعت رأسها وهي تهمس بمرارة محدقة في الباب الذي يقف كحائل بينها وبين إشباع أمومتها وقد رفض الصغير العنيد كحجر الصوان أي بادرة سلام نحوها!

"لقد تقبلكِ ونوة وأيضاً والدتنا ولكن يرفضني أنا معتقد أني من اختطفه بعيداً عن والديه!"

صمتت مبتلعة الأحجار المسننة التي تجرح حنجرتها وصولا إلى صدرها المسكين.. ثم تابعت وهي تكبح دمعها بصعوبة "لقد قتلني ابني كما فعل أبوه منذ أعوام!"

أسبلت شذى جفنيها تحجب عنها مشاعر حزينة مشفقة, هي مؤكد لا تحتاجها الآن ثم وقفت من مكانها وهي تجذبها لتقف ثم قالت بهدوء "أنتِ أقوى امرأة عرفتها في حياتي, أكثرهن إصرار وعناد ولن يغلبكِ الان فتى لم تتعدى أعوامه أصابع اليد.. إياب قطعة منكِ أنتِ بالنهاية.. كما لمسنا جميعاً في تصرفاته وعناده لذا أنا أثق أنكِ ستكسبينه في صفكِ!"

"ليس وأم أخرى تقف حائل بيننا!" فكرت بصمت وهي تومئ برأسها دون أن تتفوه بكلمة واحدة.. امرأة تزوجها أبوه وعاش حياته وألقاها خلف ظهره وكأنها كيس قمامة, تاركها جسد هامد خالي من الروح كما وعد نوة مرة!!

يدها الباردة كانت تفتح الباب لتلج للداخل مغلقة إياه خلفها ترسم ابتسامة هادئة في محاولة مستميتة لكسب جانبه وجدته هناك ينام على فراشها واضع كلا كفيه تحت وجنته يحملق فيها بحزن مخالط للكره أشاحت بوجها بعيداً رافضة أن ترى ذلك الشعور الذي يذبحها منه "أريد ماما، لقد قال بابا إنكِ طيبة ويجب أن أكون لطيف معكِ وأنا فعلت... لذا لما أنتِ شريرة معي؟!"

تنفسي.. تنفسي.. ولا تفزعيه بصراخكِ المنحور.. ابنك لا يفهم فهل تمتلكين حق لومه؟!

بصعوبة كانت تجبر نفسها على التقدم, تركع على ركبتيها أمام الفراش ثم تمد يدها لتحتضن كفيه ثم قالت باختناق "لأني أشتاقك, أريد أن أبقى معك وقت طويل جداً, أنا أحبك مثل ما...!"

يا الله.. هذا صعب.. عيناه الفضولية عادت تحدق فيها ولحسن حظها كان هادئ هذه المرة ساكن لتواصلها الذي كان يرفضه لثلاث ليال متعاقبة "أعيديني لأبي وأمي, وأعدكِ أن أتي لزيارتكِ مرة أخرى!"

لم تجد ما تقوله وكل المشاعر تتزاحم داخل سر وجيعتها, دفنت رأسها في طرف السرير ثم انهارت تبكي بحرقة وهي تهمس بتوسل لشيء خيالي قد يعينها على ما تواجهه "الرحمة.. الرحمة.. أرجوك يا صغيري.. أنت ابني أنا.. جاورت فؤادي أنا.. احتواك رحمى وحدى ..... كما بت وحيدة تماما بعد أن نزعوك مني!"

..............................................

" والآن أشهد أن حضورك موت

وأن غيابك موتان " خالد الراوى

............................



"أين أنتِ الآن؟!"

"هذه المرة العاشرة التي تحدثني فيها.. أخبرتك أني لا أهرب من موقف يحتاجني مهما كانت حدته.. كما أنه لا داعي لتذكيرك أني أتيت برغبتي التامة دون ضغط من أحد!"

قال راشد بهدوء "بل تم الضغط عليكِ, لولا معرفتك ما يعانيه إياب ما كنتِ تنازلتِ عن صلابة رأسكِ؟!"

قالت ببرود "وهل تلومني.. ما الذي يدفعني للعودة لأرض ليس لي فيها شيء وأترك حياة أسستها بصعوبة في بلد آخر؟!"

قال بحنان محتوياً الغضب الكامن تحت قشرتها الجليدية "سترافقينني لآخر العالم, هل تذكرين وعدكِ؟!"

قالت بلهجة لاذعة "وعد انتُزع مني تحت ضغط انهياري كما الحال دائماً من رجال الراوي مستغلين نقطة ضعف نسائهم.. لذا دعني أخبرك يا أبي بحجة كانت مبرر قوي لأحدهم يوماً.. (أنا لم أعدك بشيء بل أنتَ من أوهمت نفسك بكذب صمتي)!"

أغلقت الهاتف بعد أن ألقت سلام مقتضب...

بينما هو كان يحدق في الهاتف وهو يشعر بضغط هائل.. هذا الوضع كله خارج يديه تماما ويكاد يفقد زمام سيطرته عليه "اللعنة لقد أرسل لبيت عمه قنبلة موقوتة لتوه بقليل من الضغط ستنفجر في وجه أحدهم فقط ناثرة إياه لأشلاء تحت قدميها ومؤكد هذا الأحد ليس أم ابنه التي بطريقة ما غريبة كانت تكسب ولاء سَبنتي لأعوام؟!"

.............................

"أنتِ قوية, سَبنتي القديمة ماتت.. تذكري أنتِ ابنة راشد الراوي.. تربية يديه التي خرجت من شدتها دون أن يؤازرها أحد!"

أطلقت نفس طويل من بين شفتيها نافخة الضغط الذي تشعر به بعيداً قبل أن تفتح باب السيارة المعتمة التي أرسلها إليها راشد وهبطت نحو البيت الذي لفظها قبل أربعة أعوام "من أجلك فقط إياب!"

.............................

"لقد توقف الناس عن الزيارة أخيراً سامحين لنا بالحزن عليه" قالت نوة وهي تجلس على المقعد المجاور لأمها التي تحتضن شيماء التي لم تفارقها صدمتها بعد.. العصفورة الصغيرة الهشة... هل ستكون عادلة أمامهم إذ قالت أنها أكثرهم حزناً.. لطالما كانت شيماء أضعف جزء فيهم رغم أنها تعافر لتتمسك بروحهن المقاومة بعناد الدنيا والمحاولة في أن تقف على أرض صلبة دون مساعدة أحد.. ولكنها تعلم جيداً أيضاً أنها أكثر من ستعاني لفراق أبيهن لوقت طويل..

أغلقت نوة عينيها لتهبط دمعتان حارتان على وجنتيها فشعرت بجلوس خطيبة أخيها التي لم تتركهم منذ ما حدث وقالت مواسية "لقد عانى لوقت طويل مع المرض الآن هو مؤكد أفضل حالاً؟!"

لم ترد عليها نوة بل اكتفت بهز رأسها عندما فوجئت بالصوت الأنثوي الذي اقتحم عليهم المكان وهو يقول مباشرة بسخرية مستنكرة "ومتى أصبح تحديداً الموت وفراق الأحبة إلى الأبد أفضل من المرض وبقائهم جانبنا؟!"

رفعت نوة جفنيها ببطء بينما وقف الجميع ببطء محدقين في العائد الجديد والتي كانوا قد عرفوا من قبل أيام برفضها المستميت للقدوم ورؤيتهم مرة أخرى أكملت دونما اهتمام وهي تخطو للداخل واضعة إحدى يديها في معطفها الجلدي الأسود الطويل والذي خبأ تحته بلوزة صوفية وتنورة سوداء مماثلة... والأخرى تزيح بها نظاراتها السوداء عن عينيها مرجعة إياها فوق رأسها مثبتة بها شعرها القصير الذي تمرد مدارياً ملامحها الناضجة ثم أكملت ساخرة "ترتيب الحياة دائماً قاسي ومؤلم القليل منها مفهوم والكثير منها يضعك في مهب الريح فتتوه معه عاجز عن استيعابه.... آه نسيت مرحباً آنسة لانا.. ما زلتِ ذكية جداً كما أرى!"

"سَبنتي هل هذا أنتِ؟!" تحركت شيماء متعثرة في إحدى الطاولات وهي تشيح بيديها بعبث تبحث عن مصدر الصوت وهي تسرع في قطع خطواتها نحوها تمسك بيديها سامحي لها في البداية للمس ملامحها للتعرف عليها لكبح شوقها الذي يبلغ مداه نحو نصفها الآخر... هتفت شيماء بارتجاف بينما تجذبها إليها تعانقها كما بادلتها سَبنتي الاحتضان بشدة حتى ظلتا لدقائق جسد واحد وكيان عاد للتوحد في هيئة مثالية "لقد اشتقت إليكِ.. لقد وفيتِ بوعدكِ لي.. أنا أحتاجكِ بقوة بجانبي!"

كانت تدفن وجهها في كتف صديقتها مثلما تفعل معها رافضة أن تشعر بالوقت الذي يمر سريعاً جداً عليهن غير مشبع اشتياقهن.. بينما مرّ ببطء على الوجوه التي تطالعهما بين ترقب, حنين, فضول وخوف وصل حد الذعر لإحداهن؟!

همست سَبنتي بجانب أذنيها بتحشرج حريصة أن لا يسمعها أحد "لولاكِ وهو ما كنت عدت كما أخبرتكِ بالأمس!"

ابتعدت شيماء عنها تعود للمس وجهها وهي تقول بضعف "ستبقين بجانبي صحيح, لن تتخلي عني في هذا الوقت, أنتِ لن تغادري مرة أخرى؟!"

للحظة واحدة فقط ارتبكت لتظهر على مضض شخصية الدعسوقة القديمة ولكنها أعادت سيطرتها سريعاً وهي تقول بهدوء "وددت أن أفعل شيماء ولكن أنا هنا في مهمة محددة.. سأنهيها وأغادر!"

بُهتت ملامح شيماء وهي تتراجع بعيدا بخيبة ثم قالت "ماذا.. ستتخلين عني.. لم يكن هذا وعدكِ لي قديماً.. هل تذكرين؟!"

أشاحت سَبنتي بوجها مرغمة عندما شعرت باليد الواهنة التي حاوطت وجهها وبالعينين التي تحدق فيها بعاطفة جياشة مرافقة لنظرة تأرجحت بين التصديق وعدمه فقالت بخفوت "كلنا يَعِدْ يا صديقتي وكلنا يفشل عندما تدخل أنانية النفس التي تعافر للنجاة بغنائمها داهسين في طريقنا قلوب بريئة كانت كل خطيئتها أنها صدقت عاطفة الشفقة الخادعة التي توهم الإنسان بفضيلته حتى يشعر بالرضا عن نفسه... أليس كلامي صحيحاً سيدة منى؟!"

اغرورقت عينا منى بالدموع وهي تضغط على ملامحها الحبيبة أكثر تهز رأسها بالنفي الشديد وهي تقول بصوت مرتجف "لا, مخطئة أنتِ.. إخفاقنا في اختبارات غير عادلة زلزلت ثوابتنا لا يُعد أبداً تقييم لمشاعرنا الحقيقية يا صغيرتي العبثية الحلوة!"

اهتزت ملامح سَبنتي للحظة قبل أن تزيح يديها عنها برفق ثم قالت "هناك أخطاء تترك في القلب غصة لا تمحى.. كسوره لا تُجبر.. ربما نتظاهر أننا تخطيناها, ننجح في المضي قدماً ولكنها تبقى هناك تأن كل حين تذكرنا بأننا كنا لأناس هم كل شيء.. لا شيء!!"

مدت سَبنتي يدها تمسح دمعة فارة من عين منى ثم أكملت "كما أني لم أعد لا صغيرتكِ ولا عبثية حلوة أيضاً.. فلا يعيش أحدكم في وهم نسجتموه نحوي في الماضي... الأيام والسنين وخيبات الأمل المتعاقبة كفيلة أن تقلب كل الثوابت رأساً على عقب!"

التقت عيناهما طويلاً.. منى كانت تنظر إليها بألم أم حقيقية تلقت لتوها صفعة قاسية من ابنة هجرتها دون ندم أما سَبنتي فكانت تنظر إليها وكأنها تحاول تخطي حاجز القسوة التي دربت عليه نفسها لأعوام فتفشل تماماً مانحة إياها وجود بلا أي روح...

استطاعت أن تستدير أخيراً متجنبة النظر للانا المفجوعة بوجودها... ثم تصنعت ابتسامة من نوع ما وهي تقول "مرحباً نوة, ما بالكِ تحدقين فيّ كالذي رأى عفريتاً أمامه؟!"

تقدمت منها نوة فاتحة ذراعيها بصمت مثلما كانت تفعل قديماً فتندفع إليها صغيرة عائلتهم باقية في حضنها لساعات ولكن الجمود التام هو ما قابلها عندما رفعت سَبنتي يدها تمنحها سلام عابر همست نوة بخيبة "لقد تغيرتِ؟!"

قالت بنبرة ذات مغزى "أعرف, لقد أصبحتُ أشبهها كثيراً, أليس كذلك؟!"

قالت نوة بجمود "ربما في الشكل الخارجي فقط ولكن السواد الذي أصبح يصبغ روحكِ, يجعلكِ تشبهينا مجبرة يا ابنة عمي!"

تمتمت سَبنتي بصلابة "أريد أن أرى ابني"

..............................................

راقبت بدور منذ ساعة وأكثر بوجه شاحب سكون ابنها التام وهو يدفن رأسه داخل صدرها, يديه تتشبث في قمة ملابسها وكأنها الحياة, مستسلم ومبتسم الوجه حتى وهو نائم, مطمئن كما لم يكن في المدة التي كان يجاورها هي فيها..

"أنتِ أمه.. كيف يعقل هذا؟!" نطقت بدور أخيراً بتشوش تكسر حدة الصمت الذي تمسكت به منذ أن اقتحمت عليها سَبنتي الغرفة ليندفع إليها إياب مهللاً يحتمي فيها باكياً شاكيها لوعة إشتياقه إليها.. ثم لتكون صدمتها الكبرى وهو يناديها بأمي!!

ردّت سَبنتي بخفوت حريصة أن لا توقظ الصغير النائم بين ذراعيها "هل كنتِ تفضلين أن تكون أمه واحدةٌ غيري؟!"

رفعت بدور يديها تمسك كلا جانبيها بعنف ثم عادت تحدق فيها بنوع من الإنكسار الدامي "لا, ما كنتُ لأفعل, ما كنتُ أرضى بغيركِ بديل!"

مالت رأس سَبنتي جانباً تتأملها بصدمة, غير مستوعب, ما تقوله.. أمن الممكن أن تكون تغيرت لهذا الحد أم وفاة والدها وعودة إياب غير المتوقعة هي من وضعت حد لجبروتها وكبريائها الذي خسّرها الكثير بالماضي... للحظات ظلت كل منهما تنظر للأخرى بوجع... قبل أن تقول سَبنتي بروح قديمة رحيمة "هو يناديني من باب تعويضي إذ أنه يدرك أنه ليس لديه ماما كباقي الأطفال... كما كنتُ أفعل أنا مع أبي راشد قديماً!"

رمشت بعينيها وهي تنظر إليها بتشوش ثم قالت "شكراً"

عقدت سَبنتي حاجبيها وهي تسألها بحرص "على ماذا؟!"

اختنقت بدور مرة أخرى بدموعها ثم قالت "على اعتنائكِ به وحبكِ إياه وتعويضه مكانتي بينما كنت أنا....!"

بحرص كانت سَبنتي تريح الصغير وتدثره بالغطاء ثم أخرجت من حقيبة صغيرة كانت أتت بها بطانيته ودستها بين ذراعيه... توسعت عينا بدور بذهول أشد من قبل وهي تتعرف على الشيء الخاص والقيّم الذي كانت صممته لصغيرها بنفسها عندما كان مجرد جنين بين أحشائها!

اعتدلت سَبنتي وهي تقول مفسرة "لا ينام دونها, لقد حاول راشد قبلاً أن ينزعها منه ولكن..!"

هزت كتفيها وهي تشير دون تفسير عن عناد إياب الذي مؤكد أصبح الجميع يعرفه الآن ثم قالت بحنان "هو مزاجي كثيراً, متقلب الطباع ولكنه طفل ذكي جداً!"

ضحكت بدور بصوت مكتوم مشوب ببكائها وهي تقول "لماذا لا تصدمني التركيبة العجيبة لشخصيته؟!"

قالت سَبنتي بتندر "هذه نتيجة حتمية لاتحاد النمر والطاووس غير المنطقي متحديان الطبيعة!"

"لماذا لا تهاجميني, لا تتحديني بانتزاعه مني يا سَبنتي؟!"

بُهتت ملامحها من فجاجة السؤال ولكنها ردت سريعاً "صدقي أم لا, أنا أُشفق عليكِ وعلى إياب, إذ أني لا أريد لصغيري أن يجرب ما عشته أنا.. لا أم تستحق أن تُحرم من طفلها حتى وإن كان نتيجة علاقة محرمة مثلي!"

شحب لون بدور وهي تشيح بوجهها بعيداً رافضة أن تخوض هذا الحديث..

"أنتِ تعلمين الآن أني ابنة زوجكِ السابق وليس راشد صحيح؟!" قالت سَبنتي بخبث بسيط تقصده

مما دفع بدور أن تنتفض من مكانها وهي تهتف بصدمة "عن ماذا تتحدثين... أنا لم يكن لي زوج سابق إلا والد طفلي؟!"

وضعت سَبنتي يدها على فمها مدعية الندم ثم افتعلت الارتباك وهي تمنحها ظهرها عائدة لآخر الغرفة وقالت "سأحاول أن أتي في ساعات محددة حتى أمنح إياب الاطمئنان إليكِ كما أُعرفكِ أنتِ بكيفية اكتساب جانبه ولكن لأفعل لدي شروط!"

توجهت إليها بدور تجذبها بعنف ودون مراعاة لتعيدها للنظر إليها ثم همست بنفاذ صبر "إن كنتِ متعاطفة لهذا الحد غير القابل للتصديق وسوف تسلميني إبنكِ كما دعوتيه دون أدنى مقاومة.. لماذا لم تحاولي بحق الله خلال كل هذه الأعوام التواصل معي.. منحي أملاً باهتاً أو أي خبر لعله يطمئني عنه؟!"

لم تهتز سَبنتي شعرة واحدة وهي تقول في برود سمعي أنا أحاول تقديم المساعدة هنا كما لم يفعل معي أحد قديماً... إذ أنكِ إن أردتِ توجيه سخطكِ نحو أحدهم فسأمنحكِ عنوان أبي تستطيعين الذهاب إليه وفلتقتليه حتى بعد أن يقتله هو لن أهتم؟!"

بُهتت بدور وهي تتراجع للوراء بصدمة ثم قالت "من أنتِ؟!"

مطت سَبنتي شفتيها ثم قالت "نتيجة حتمية لأفعال كل فرد منكم ضدي... هل تذكرين كرهكِ ونفوركِ مني بالسابق يا بدور... هل تذكرين كيف كنتِ تكسرين بخاطر طفلة لم تتجاوز أعوامها الخمس لمجرد أوهام في رأسكِ حتى وإن كانت حقيقة لم يكن لها ذنب فيها؟!"

غطت بدور وجهها للحظات والجرح القديم يعود يفتح ويئن بحدة نادمة.. لقد فعلت في هذه الفتاة أشياءً قاسية... قاسية للغاية ولم ترحم يُتمها ولا ضعفها وهي تتلاطم مستجدية الحنان في أروقة منزلهم...

أبعدت يديها غير قادرة على كبح دموعها وهي تهمس بألم "وجودكِ كان يعذبني, معتقدة أن خطيئته تمشي أمامي على قدمين... الجميع خدعني مثلكِ, لقد كنتُ ضحية أنا الأخرى!"

"إياكِ أن تبكي, إياكِ أن تضعفي, أنتِ قوية, أنتِ تربية وتقويم أبيكِ؟!" كانت سبنتي تشجع نفسها وهي تنظر إليها بلا روح حتى قالت أخيراً "لهذا السبب تحديدًا أنا سأساعدكِ .. ولكن كما أشرت بالسابق لي شرطين لا غيرهما!"

تقبضت يدا بدور بجانبها ثم قالت بنفور "لا تحاولي استغلال لحظات ضعفي بابني يا سَبنتي.. أنتِ تجهلين ما بِتّ عليه الآن وما أنا قادرة على فعله؟!"

هزت كتفيها دون اهتمام ثم قالت "وأنتِ أيضاً تجهلين ما صنعته من داخل حطام نفسي؟!"

عادت كلتاهما تحدق في الأخرى دون تنازل, بقوة متشابهة وبصلابة من فولاذ تتصادم دون أن تخدش إحداهن معدن الأخرى حتى قالت بدور أخيراً "لقد قطعت عهداً أن أفعل كل شيء وأي شيء في سبيل استعادة ابني كاملاً لي!"

مطت سَبنتي شفتها السفلى وهي تومئ بموافقة ثم قالت "سأبقى في مصر للمدة التي تحتاجيني فيها, سأبذل كل جهدي كما وعدتكِ لأعرفكِ على إياب.. ما يحب وما يكره, ولكن بشرط أن لا تمحيني من حياته إذ أنه بات جزء مني بحق التربية!"

لم تتردد بدور وهي تقول "لكِ هذا, أنا أعلم جيداً معنى فقدان الضنى, كما راقبت أمي أيضاً وهي تعاني من فقد ربيبتها"

أسبلت سَبنتي جفنيها وهي ترفع كفها بحسم وقالت "أنا لست ربيبة أحد"

"إلى أي حد آذتكِ حتى تمحيها منكِ بهذا الشكل؟!"

تغاضت عن الإجابة وهي تقول مباشرة "شرطي الآخر أن لا يعرف أحد بوجودي هنا مطلقاً؟!"

تشوشت بدور قليلاً وهي تقول "عن ماذا تتحدثين.. لقد قابلتِ الجميع بالفعل؟!"

توترت بشكل مؤلم أخيراً كاسرة جمود شخصيتها الجديدة

وثار شجن بداخلها ثم أحاطت نفسها بذراعيها في حركة حماية وإكتفاء بنفسها قبل أن تهمس "أعنيه هو.. لا أريد رؤيته أو مقابلته.. لا أعرف كيف ستفعلين هذا, إلا أنني أثق بأنكِ ما زلتِ المرأة الصلبة القادرة على السيطرة على أفواه الجميع!"

صدمتها تلك المشاعر التي أثارتها تلك الشابة فيها... هي من لم تهتم بها يوماً.. لم تعنيها مشاعرها أبداً.. تتعاطف معها.. تتفهما.. بل تمنت للحظات لو تستطيع ضمها بقوة وهدهدتها وطمأنتها وإخبارها أنها تتفهم معنى وجع الخذلان و... الخيانة!

تمتمت بدور بهدوء "لكِ هذا أيضاً!"

همست دون أن ترفع رأسها "إذاً سأغادر الآن.. وسأتواصل معكِ على الهاتف لأرتب مجيئي القادم لإياب!"

أحست بجسدها يتوتر وهي ترمق ابنها بضعف عاد يضربها بقوة ثم قالت "فور أن يستيقظ سيطالب بكِ, هو لا يتقبلني"

تحركت سَبنتي نحو الحقيبة مرة أخرى وأخرجت دفتر أسود اللون مموه بدوائر حمراء, ثم عادت لتمنحه لها بتردد وهي تقول "مؤكد سيفعل, لذا أنصحكِ أن تصطحبيه للمطبخ وتعدين له وجبة بنفسكِ, حريصة على أن يشاهدكِ وأنتِ تطهينها... امنحيه بينما تفعلين ورق رسم وألوان واقرأي له هذه القصة تساعد على تهدأته كثيراً!!"

التقطت بدور الدفتر وهي تسأل بتعجب "أي قصة؟!"

قالت "ستعرفين فور قرائتك إياها.. لقد كنتُ أنسى تفاصيلها, مما دفع راشد لتدوينها هنا!"

راقبت كيف ارتعشت أناملها متذكرة أول سؤال طرحه ابنها ثم همست بنبرة غشيتها العاطفة الجياشة "هل تحوي طاووس خيالي يشتاق للقائه؟!"

"لن أفسد عليك متعة الاستكشاف بنفسكِ"

صمتت ثم تابعت وهي تلتقط حقيبتها الشخصية "بدور احرصي أن تكون أول وجبة من سمك السلمون والكثير من الزيتون الأخضر!"

تصلبت بدور وهي تحدق فيها بعجز شاعره بفؤادها يعود يطرق بصخب غير مسبوق "مثلي؟!"

هزت كتفيها وهي تقول "أخبرتكِ جيناتكِ قوية عزيزتي.. إياب ربما لا يعرفكِ ولكن كل ذرة فيه تصرخ بانتمائها إليكِ؟!"

راقبتها تغادر بهدوء شديد كما أتت, مما دفعها لأن تهتف موقفة إياها رافضة أن تكون غلبة اللقاء لها "سَبنتي إلى أي حد أوجعكِ معرفة الخيانة بخطبته ؟!"

جمدت سَبنتي مكانها للحظات غير قادرة على التعاطي مع بشاعة السؤال، شاعرة بأظافرها المقلمة تخدش باطن يدها الأخرى.. حتى تحررت أخيراً وهي تستدير نحوها وقالت من بين أسنانها بخشونة "بالنسبة لفتاة راقبت أباها وفارسها يعاني من وجع تخيل امرأته الجاحدة بين ذراعي أخيه.. لا شيء يا بدور.. أصبحت لا أشعر بشيء... لقد علّّمت نفسي جيداً كيف أتخلص من رواسب الماضي!"

اشتعلت كالنار الخامدة تحت الرماد المحترق وهي تتوجه إليها سريعاً, تشبك إجابتها بجملتها الخبيثة السابقة أمسكتها من ذراعها بحدة وهي تصرخ فيها "عن ماذا تتحدثين, لن العب دور المغفلة مرة أخرى.. اللعنة.. انطقي؟!"

أزاحتها بعنف وهي تقول بنبرة ماثلت الرصاص الحي "لقد ظل لأكثر من عام ونصف يرفض تتبع أخباركِ أنتِ بالذات معتقداً بأنكِ أتممت زواجكِ من عزام وبما أننا نعرف من هو أبي البيولوجي.. تستطيعين تخيل ما كان يتوقعه راشد متلظياً بنار الغيرة ليال طويلة... لقد كنت أراقبه يتناول من مهدآتي حتى يستطيع النوم كما البشر.. لقد كان هو الآخر يعاني سيدة طاووس وإن اختلفت مصيبته قليلاً مع فتاة محطمة ورضيع يعجز حتى عن الطريقة المثلى لإطعامه؟!"

"لا.. لا.. لا, أنتِ تكذبين, تريدين قلب الطاولة عليّ, لقد كان يعلم جيداً بأن هذا الزواج لم يتم, بأني ملقية في مصح للمجانين فاقدة إدراك العالم من حولي؟!"

أحنت سَبنتي وجهها ترمقها بحجريها الحارقين ثم قالت "انظري لعينيّ يا بدور.. واختبري مدى صدقي من عدمه؟!"

احتقن وجهها وحبست أنفاسها وهي تقول "كيف وهو من وضعه بالسجن بنفسه؟!"

"وأخرجه والدكِ مستخدماً كل علاقاته.. أليس هذا ما حدث لينقذ زوج ابنته؟!"

"رباه.. لم يحدث.. لم أستطع أن أجعل رجل آخر يلمسني.. لقد رفضته.. رفضته"

ابتعدت سَبنتي خطوة وهي تبتلع غصة مريرة تكونت في حلقها قبل أن تفتح الباب مغادرة وهي تقول "أنا لن أستطيع الخوض في هذا الأمر أكثر من هذا.. للمرة الثانية أخبرتكِ أنكِ تفرغين غضبكِ وتفسرين نفسكِ للشخص الخطأ تماما يا بدور ..وداعاً!"

.............................................





بعد أسبوع...

في مقر الشركة وفي غرفة مكتب والده الراحل, كان يجلس على طاولة الاجتماعات التي يترأسها المحامي الخاص بأبيه, وفي الناحية المواجهة له كان يتواجد ابن عمه الأكبر بناء على طلب والده الخاص مع المحامي, فتح المحامي الظرف المغلق بهدوء وهو يقول "لقد طلب مني السيد ياسر رحمة الله أن يكون أول فتح للوصية في تواجدكما أنتما والسيدة بدور، ولكنه عاد يغير رأيه وطلب كلاكما فقط لنتجنب أي نزاع قد يحدث عندما تعرفان ما وضعه بداخلها!"

الحس العالي لدى خالد بالعدل كان هو من يتحدث عندما

قال "ما معنى هذا بالضبط.. هل أخرج والدي أحد أخواتي من وصيته؟!"

قال المحامي سريعاً "بالطبع لا، لقد ترك لكل واحد منكم حقه الشرعي حتى أنه أضاف أختك غير الشقيقة رغم إخباره لي بأنها قد ترفض تسلم ميراثها, لذا هو وضع بعض الشروط الإضافية!"

تولي راشد الرد وهو يقول "مفهوم, لا مشكلة بهذا على كل حال حتى وإن فعل ووصى بكل الميراث لخالد كما كنت أتوقع, أنا أثق في نزاهة ابن عمي وعدله!"

فرك المحامي عنقه وهو يرفع حاجبيه بارتباك قبل أن يقول "وهنا تحديداً نصل لعمق المشكلة التي قد لا تقبلونها!"

نظر إليه خالد بتحفز متبين تردد الرجل الستيني والذي لم يكن محامياً فقط بل صديق مقرب لوالده... لماذا يشعر بأن أبيه يصر أن يترك لهم كارثة من نوع ما؟!

أشار راشد بهدوء "تفضل بقرائتها ودعنا نكتشف بأنفسنا؟!"

بعد أن فتح الرجل الظرف شرعوا في قراءة الفاتحة على روح المرحوم, أخذ بعملية بحتة يتلو عليهم ما أتى في الوصية التي كانت بالفعل مصيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى...

إذ ترك خالد وراشد كلاهما بصدمة ما بعدها صدمة عاجزين عن الاستيعاب أو الدوافع التي جعلت ياسر الراوي يترك شروط كهذه؟!

"مؤكد هذه مزحة من نوع ما.. عمي لا يستطيع التحكم في مصائرنا حتى وهو ميت.. هل هذا العدل الذي تحدثت عنه سيد متولي؟!"

فتح الرجل يديه بعجز ثم قال "والله هذه وصية الفقيد وأنا لا أملك إلا الإشراف على تنفيذها!"

نظر راشد لوجه ابن عمه المطعون بالخيبة بمرارة الخذلان, باستيعابه أنه رغم كل ما حققه هو لم يكن كافياً لوالده على ما يبدو؟!

قال من بين أسنانه وهو يقف من مكانه "وأنا أرفضها, لن أقبل أن أكون أداة يتلاعب بها عمي حتى وهو ميت!"

قال متولي بهدوء "ربما أنت تملك ما يجعلك لا تهتم بما أتى في الوصية.. ولكن دعني أخبرك إن لم تنفذها أنت والسيدة بدور في أقرب فرصة سيفقد خالد وجميع الورثة حقوقهم!"

هتف بانفعال شاعر برأسه سينفجر "هذا الجنون بعينه.. من المستحيل أن أنفذ تلك الوصية الملعونة"

استطاع خالد أن ينطق أخيراً ضاحكًا بسخرية.. سخرية شاب تلقى أصعب صفعاته للتو.. سخرية من ذاك الزاهد القديم الذي طعنه في الصميم متخلياً عنه ليحل في مكان قد يجعله ينال رضى أبيه "أنا لا أهتم مطلقاً باعتراضك.. بدور إن عرفت هذا الجنون ستتوجه لأبي قاتلة إياه في قبره.. لأكون صريح أنا أترقب لرد فعلها الدامي؟!"

نظر إليه كلاهما بدهشة إذ أن خالد مطلقاً لم يتفوه بهذه الصفاقة من قبل !

"مؤكد هناك مخرج, سنجد حل من دون علمها بالأمر؟!"قال راشد بحزم

تنحنح خالد وهو يقول "أنا أعلم أنك لا تريد رؤيتها كما هي تكره حتى سماع اسمك ولو عابرًا.. ولكن أنظر لوجه متولي بك وأخبرني هل هناك أمل لنتملص من الأمر؟!"

هز متولي رأسه موافقاً وهو يقول "للأسف لا.. هذا شرط والدك ليجعلك تترأس المجموعة رسمياً وتوزع التركة بين أخواتك!"

أغلق المحامي أوراقه ثم وضعهما بحرص داخل حقيبته المؤمنة ووقف ناوياً المغادرة ثم قال "أمامكم أسبوعين لا أكثر تقررون فيه أما تنفيذ الوصية أو سأكون مجبر أن آخذ خطواتي الأخرى لتفكيك المؤسسة!"

.............

غادر متولي تارك كلا الرجلين جالسين مكانهما... قطع راشد الصمت وهو يقول بصوت مكتوم "أنا لن أستطيع مساعدتك في هذا... إن أراد والدك الضغط عليك وعدم احترام مشاعرك لآخر رمق فيه... فتلك ليست غلطتي!"

قال خالد بجفاف "ومن قال أني أنتظر منك شيئاً, أنت من عدت فارضاً وجودك وأنا تحملت ثقل تواجدك من أجل أن لا يفارق ابن أختي ذراعيها.. تستطيع القول أني أجاريك في هذه اللعبة السخيفة!"

مد راشد وجهه واضعاً سبابته على ذقنه ثم قال في برود "هل تعني إسراعك في رفع قضية حضانة لابني, غير مراعي حتى حرمة الحداد على أبيك؟!"

لوهلة خفق قلبه بعنف والدماء تجف في عروقه عندما علم أنه اكتشف ما ينتويه سريعاً تابع راشد بهدوء "بعد كل ما مررنا به, لا يتعلم أحدكم من الدروس المؤلمة!"

سيطر خالد على نفسه وهو يقول "بدور لا تعرف عن الأمر شيء, ما زالت لاهية في لقاء ابنها!"

قال راشد "توقعت, لذا أنا ما زلت أنتظر إن كانت تعلمت من درسها الصعب في عدم زج إياب في حربها المستعرة؟!"

قال خالد بفتور "تتحدث وكأنك لم تكن الكاذب الكبير المخادع الوحيد الذي تلاعب بالجميع وأنا أولهم؟!"

ذلك الوميض الغامض اشتعل في عينيه, ذاك الذي يثير في القلب رهبة, الجهل في واجهة رجل لا يظهر أبداً حقيقة ما هو عليه "فعلت ما توجب عليّ فعله لحماية ابني من امرأة مضطربة وابنتي من وهم شاب كاذب!"

وقف خالد من مكانه يصرخ فيه بنفاذ صبر "لقد وعدتني بأنها لي, بأنك ستنقذ أختي من إيذاء نفسها.. لأجدك تذبحني بالنهاية بخداعك؟!"

قال راشد من بين أسنانه "أنا لم أعدك مطلقاً يا خالد بإنقاذ بدور إذ أنها في هذا الوقت أصبحت امرأة أشمئز وأقرف منها زاهداً إياها مكتفياً حتى الصميم .. أما عن ابنتي فكان وعدي إياك مشروط بنضجها وبقائها على قبولها إياك!"

كان يرتعد من الغضب والقهر والشعور بوجع قلبه قابض بكفَة غليظة ساحبة إياه إلى الأسفل لدرك مظلم لا يعرف قرارك بينما يقول بنبرة شابها الارتعاش من شدة كبته لانفعالاته "امنحني مقابلة واحدة معها وسأثبت لك بالدليل القاطع كذب إدعائك, بأنك كنت الجاني الوحيد علينا جميعًا.. بأنها.. بأنها من غدرت بوعدها لي؟!"

رمق راشد ذبلته الفضية باستهانة قبل أن يقول بحماية أبوية بحتة لكرامة ابنته "سَبنتي لا تذكرك إلا بالسخرية البحتة واصفه إياك بالصغير المتخبط الذي سيعيش باقي عمره تائه عاجز عن إيجاد مرساه.. ابنتي أصبحت امرأة قوية ترسم مستقبلها وأهدافها بصمود وثقة... حتى وإن كنتَ لا تحمل الوفاء لفتاة أخرى.. أنت لن تليق بها يوماً يا خالد وليس كما اعتقد أبوك الراحل بأنك كثير على صغيرتي!"

تلك اللحظة التي أهانه فيها مدفوع بغضبه عن سَبنتي رأى شيئاً صادماً, شيئاً حارقاً جعل إياه يهابه للحظة يراجع حساباته جيداً.. أي ما كان أمامه لم يكن ينتمي للشاب الذي تركه خلفه ضائعاً!!

رفع خالد رأسه بإباء مصحوب بتلك العينين الخاوية وهو يقول "ومن قال أني كنت سأقدم على الارتباط بفتاة مثلها كما تفضلت أنت وقلت أني كنت متخبط تسيطر عليّ رعونة الشباب فاتح صدري لتقبل ما هو دون مني بدافع الشفقة لا أكثر.. لقد صدقت يا راشد أنا بالفعل أنتمي كلي لامرأة تستحقني كما أنا أعمل جاهداً لاستحقاقها!"

...............................



كان يدفن وجهه بين كفيه بتعب بعد أن غادر خالد جلستهم غاضباً حاقداً مقاوم نفسه أن لا يشتبك معه مرة أخرى على ما يبدو..

"ما الذي جناه من العودة إلى هنا.. ليته ما ترك خيوطاً تجعل هذا الفارس الأرعن يصل إليه.. لقد ارتاح لأعوام من دوامة عائلته مكتفي بصغيريه عن الدنيا وما فيها.. لقد عاهد نفسه في الماضي بعد أن اشتد عود سَبنتي واستقرت حالتها النفسية وحصل ابنه أيضاً على بيئة صحية حتى وإن كانت ناقصة من وجود أمه ..أن لا يعود مطلقاً ويجازف بما أحرزه معهم... ليعود الآن بخطوة غير محسوبة يلقيهم في نار سقر دون رأفة!"

كعبي حذاء رفيع نبهه أنه ليس وحيدًا هنا فرفع رأسه وهو يقول "ليس الآن سيدة رباب, أي ما كان لديك أجليه لخالد أو شريكه هذا!"

ولكن الوجه الذي كان يطل عليه لم يكن ينتمي لسكرتيرة عمه الخمسينية بأي صلة!

وقف راشد من مكانه ببطء يحدق في الوجه الذي... ماذا... افتقده... هذا أول ما طرأ على خاطره بينما يحدق في العينين التي تطالعه بنظرة موجوعة للصميم.. نظرة عتاب ووجع وحقد لا يحتمله بشر... عينان يسكنهما شعاع أصفر صافي سُرق من شروق الشمس الزاهية على حين غرة... أحس بقبضة مؤلمة تعتصر قلبه وهو يرى أيضاً لمعة الدموع التي أبت أن تغادر مقلتيها وهي تحدق فيه بغير تنازل... لمعت دموع حملت انكسار ووجع أمومتها، ورفض ابنه إياها... هل سيشفق عليها الآن, اللعنة.. اللعنة للمرة المليون لم يرتب لهذا اللقاء أيضاً, إذ أنه تعمد تجنب رؤيتها تماماً!

"لماذا؟!" همست أخيراً بنبرة تراوحت بين الجمود والجرح الخالص إن كان يستوي جمع كلا النقيضين سوياً.

"لحمايته!" هل تلك ستكون إجابة وافية فكر بصمت...

للحظة أغلقت جفنيها تحاول أن تتعاطى مع صدمة رؤيته إذ أنها لم ترتب أو تهتم للقائه مطلقاً ..ثم فتحت أهدابها مرة أخرى وهي تقول بجمود "بمحوي تماماً من حياته... بجعل ابني يكرهني وهو بين ذراعي أخيراً، بحرماني من كل لحظة في مراحله العمرية الأولي ..بحرمانه هو من حناني... بدماري؟!"

كانت كلماتها تتصارع داخل عقله بقوة ورغم إقناع حجته لم يجد أمام تلك النظرة المنكسرة المتألمة بسبب ابنه وحده ما يقوله أو يوجعها به.. إذا أصبح لا يعنيه عتابها من عدمه!

سمعها تقول "لقد تمنيت الموت كل لحظة.. علّ هذا يخفف من حدة الألم الذي ما كان يسمح لي بإلتقاط أنفاسي, كل ما أردته هو ابني وأخبرتك إياها ولأبي مراراً أنا كنت قد اكتفيت من كل شيء حتى ما عدت أكرهك أو أحبك, لقد أوصلني وجود إياب بين ذراعي بأن لا شيء يستحق إفناء نفسي فيه، بأنك ما كنت تستحق كل الاهتمام الذي أوليته لك... أنا كنت كثيرة جداً عليك ما كان يجب أبداً أن يقدر لي أن أقابلك في منزل شذى، أن أوهم نفسي بخدعة اسمها أنتَ!"

راقبت كيف تحركت تفاحة آدم معبرة عن ازدراده ريقه بصعوبة والتشوش في عينيه وعجزه عن الاستمرار في الدفاع عن موقفه ..جاهلة تماماً أنه هو من يمنع نفسه بأن يجرحها مذكرها بكل ما كان!

"لقد كنت....؟!"

لوحت بيدها مقاطعة إياه تمنحه نظرة باردة أخيرة وهي تقول "لم أتي للحديث مع رجل منتهي، فقط طرحت سؤالي وحصلت على إجابتي, لقد تخلصت لتوي من آخر ذيول الماضي خاصتي لأستطيع أن أبدأ من جديد مع ابني.. على نظافة تامة خالية من تلوث وجودك!"

عبس بوجهه وهو ينظر لها باستخفاف ثم دون أدنى اهتمام كان يتخطاها متوجه نحو الباب وهو يقول ببرود "هنيئاً لكِ إذاً... ودعيني أضع لكِ نقطة أخرى على حروفكِ، عدم إجابتي على سؤالكِ ليس لقلة قذارة أفعالكِ، ولكن لأني انتهيت منكِ قبل أربع سنوات، وما عاد لكِ الحق في أي مبررات قد أمنحك إياها، ومهما كان حجم معانتكِ أو مأساة شكواكِ, أنا لست نادم على إنقاذ ابني من أفعال امرأة مثلكِ!"

قبل أن يغادر الباب قالت دون تفكير بنبرة مميتة "بل أنتَ نادم، وما زلت تعاني، مع خيالات قتلتك لعام ونصف وأنتِ تتخيلني مع آخر وأنت تدرك أن كل مخططك لم يأتي بنتيجة... نادم لأن إياب سيكرهك كما يكرهني عندما يدرك ما فعلته بي، ثمن فعلتك غالي جداً يا راشد، ولسوء حظك لست أنا من سأطالب به هذه المرة بل صغيريك الذين تحبهم أكثر من حياتك!"

فقط جحيم أسود كانت ما التقطته في عينيه قبل أن يخرج خابط الباب خلفه بعنف....

ربما ما كان يغفل عنه راشد في هذه اللحظة بالذات عندما غادر بأنها بالفعل لم تقصد أكثر ما نطقت به وهي كل ما كانت تحتاج لأن تنظر في عينيه وترى وجعه وعجزه عن تفسير مقنع لما فعله في حقها وولدها... لقد كان نمر الراوي عاجز بالفعل متخبط وتائه في حضرتها!

وما لا تدركه هي أيضاً بالتأكيد أنه تركها تفلت من بين أنيابه لوقت قصير جداً واعداً بمواجهة عاصفة سيكون وحده المسيطر والفائز فيها....

.................................................. .......

لقد تأخرتِ وأنا يجب أن أرحل الآن!"
قالتها سَبنتي وهي تقفز برشاقة ببنطالها الجينز الأسود الذي يلتصق بساقيها متوسطة الطول وجسدها الضئيل الذي لم تتغير معالمة كثيرا عن آخر مرة رأتها فيها... إن استثنت بالطبع امتلاء واستدارة مفاتنها بطريقة تجذب أي عين تقع عليها مرغمة حتى وإن كانت تتعمد إخفاؤها كما لاحظت أنها ترتدي نوع من القمصان الفضفاضة... لم تمنحها رد وهي تراقبها تجذب معطفها الأحمر من الصوف الناعم ترتديه بتعجل وهي تقول "هل هناك خطأ في ملابسي؟!"
"بالعكس تماماً, تعجبني طريقة انتقائكِ الجديدة وإن كنت أفتقد رؤيتكِ بالملابس الكرتونية الطفولية؟!"
ضحكت وهي تجلس مستوية على قدميها تداعب إياب الذي كان ينبطح على الأرض كعادته متلهي في الرسم "كانت تخص مراهقة حمقاء.. كانت تحاول التمسك ببراءة الطفولة أكبر قدر ممكن!"
صمتت وهي تهز كتفيها بلا اهتمام ثم تابعت "ولكن كما بتِّ تعرفين أيضاً، لم يمنحها الكبار هذا الحق مقررين انتزاعها من عالمها بوحشية النضج!"
أومأت بدور مصدقة دون أن تعلق، وهي تسمع ابنها الذي قفز تقريبًا يتمسك فيها وهو يقول "خذيني معكِ ماما أرجوكِ.. لقد اشتقت لبابا ولا أحب هذا المكان"
أمسكت سَبنتي كتفيه وهي تقول بحزم لطيف "على ماذا اتفقنا إياب، بابا يريدك هنا لبعض الوقت حتى ينهي أعمال تشغله ثم سيأتي بنفسه لإصطحابك؟!"
هز رأسه رافضاً وملامحه تميل ببؤس يخلع القلب من مكانه ثم قال "ابقي أنتِ معي إذاً.. أنا لا أحب هذه المرأة!"
ارتبكت سَبنتي وهي تنظر لبدور التي تلقت الطعنة بصمت تام مبتلعة إياها بداخلها وكيف تلومه وهو يعتقد أنها من نزعته من عالمه الذي لا يعرف غيره.. "هذا فعل غير لطيف بالمرة.. بدور تحبك وتهتم بك مثلي وبابا وربما أكثر منا قليلاً.."
دفن نفسه عنوة داخل ذراعي سَبنتي وهو يرمق بدور بحزن طاغي رافض الاقتناع بكلمات سَبنتي "هل تبقين معي؟!"
"ليتني أستطيع حبيبي, ولكن على أختك الكبيرة أن تهتم ببعض الأعمال أيضاً"
"هل عليكِ أن تدرسي, إن أخذتني معكِ أعدكِ أن أجلس كفتى كبير ومهذب ولن أزعجكِ!"
قالت في مهادنة "ما رأيك إن جعلتك تحدث بابا الآن أن تبقى الليلة فقط هنا مع تلك السيدة اللطيفة.. وغداً أتي لصحبتك معي في رحلة خاصة للملاهي؟!"
التمعت عيناه السوداوان وكأنه يقيم العرض ثم قال "شرط أن تأتي باكراً جداً؟!"
مدت يدها في تحيه عسكرية مرحة وهي تقول "تمام يا فندم علم وسينفذ؟!"
عادت تنظر لبدور وهي تخرج هاتفها من جيب بنطالها الخلفي.. والتي كانت ما زالت ترمقها بتفحص عجيب حتى قالت أخيراً بصوت مكتوم "سأترككِ تجرين المحادثة على انفراد!"
قالت سَبنتي "وجودكِ لن يسبب مشكلة!"
منحتها بدور ظهرها وهي تقول "لدي أمر لم يعد يحتمل التأجيل.. بينما أنتِ تنهين مكالمتكِ أعدكِ سأكون قضيته وأعود بكامل استعدادي النفسي لمواجهة سيد إياب الذي يكرهني!"
نظرت سَبنتي بتأنيب لإياب الذي هز كتفيه بطريقة طفولية بينما يكشر عاقداً حاجبيه ومضيق عينيه "أنت في مشكلة كبيرة إياب.. سأخبر راشد ليعاقبك بنفسه!"
كانت ضغطت زر الاتصال المرئي ليتولى راشد الرد المرح "هذا من دواعي سروري, إن لم تقفي أنتِ حائل بيننا كالعادة!"
هتف الصغير مهلل وهو ينتزع منها الهاتف ثم يقول "لقد اشتقت إليك جداً بحجم كل ألعابي!"
ضحك راشد تلك الضحكة النادرة الآسرة وهو يقول "وأنا اشتقت إليك بحجم كل الألعاب التي في العالم!"
"متى ستنهي عملك وتأخذني من هنا؟!"
"قريباً يا صغيري"
"سَبنتي قالت أنها ستأخذني للملاهي, فهل ستأتي معنا؟!"
رفع حاجبيه متعجب من ذكره لإسمها مجرداً دون لقب ماما أو أختي الكبرى التي يستبدله دائماً في جملته التي يقصدها ثم قال "ولم لا, ربما إن وعدتني أنك لن تبكي مرة أخرى وأنت في هذا المنزل؟!"
قال بإحباط "أريد العودة لمنزلي, كما أنك وعدت بأني سأجد الطاووس الذهبي هنا ولم أعثر عليه حتى الآن!"
قال راشد بخفوت "يبدو أنه يختبئ مترصد في مكان ما بني.. ولم يحن وقت إخراجه..!"
صمت قبل أن يضيف بشرود "أو ربما وجودك يقيده, خائف أن يفرد ريشه مرة أخرى أن يفقدك؟!"
التقطت سَبنتي الهاتف ثم وضعته على اتصال عادي قبل أن تقول "كفى ألغاز, الصغير يبدو ضائع تماما بينكما؟!"
قال راشد بلوم "هذا على أساس أنها لم تكن رغبتكِ منذ أعوام؟!"
ابتعدت عن إياب تتوجه نحو النافذة الضخمة التي تحتل نصف الغرفة تقريبا والتي تطل على حديقة القصر الخيالية كما كان يصفها هو في قصته الأثيرة ثم قالت بحزن "ما زالت عينا جوان تطاردني في أحلامي وما كنت أسمح بعد أن أُتيحت الفرصة بأن أخاطر بجرح قلب أم أخرى!"
قال راشد بحزم هادئ "سَبنتي على ماذا اتفقنا؟!"
"أعرف وأتذكر لن أخاطر بهدم عالمها الجديد!"
قال راشد بهدوء "وأنا لن أخاطر أن يراكم أحد سوياً ويثير الأقاويل عن سبب شبهكِ بها... وكشف ماضي دفناه بعد طول عذاب!"
دمعت عيناها تأثراً ثم قالت باختناق "أنا أسفة عن قلة أدبي المتعمدة معك الفترة الماضية!"
قال بحنان "لا عليكِ، دائماً الأبناء يخطؤون والآباء عليهم الاحتواء والتقبل!"
همست "أنا أريد أن تضمني إليك بابا، أشعر أني أضعف وأحتاجك لتقويني, كل ما يحدث يضغط عليّ بطريقة صعبة خاصة أن شيماء عادت لتحطمها الأول وكأن كل ما اجتازته هي الأخرى لم يكن؟!"
"امنحيها الوقت صغيرتي, فراق أبيها هكذا مؤكد ليس بالشيء السهل؟!"
"لا حرمني الله من وجودك أبداً، أنا بدونك سأضيع!"
قال برفق مداعب "كفاكِ كذباً, كلانا يعلم أن فتاتي الجديدة لا تحتاج لأحد!"
"دائماً سأكون في حاجة إليك!"
"حسناً اخرجي من عندكِ وتعالي إلى المنزل لنستطيع التحدث عن ما يبدو أنه يثقل كاهلكِ!"
ابتسمت وهي تقول "لن يحدث, أنا صامتة كالصنم، إذ أني اكتشفت أن بعض الكلام إن خرج يذبح ولا يداوى؟!"
ومتى كان يحتاج للكلمات ليفهمها؟! همس بتفهم "حسناً يا صغيرة, قبلي إياب من أجلي!"
"هل انتهيتِ بقة؟!"
أخفضت سَبنتي الهاتف وهي تستدير رامقة بدور بغضب تأجج ثم سريعا ما كان ينطفئ وهي تقول مصححة "سَبنتي.. اسمي سَبنتي فقط يا بدور"
ابتسمت بتفكه وهي تقول ببرود "أعتذر, بعض العادات القديمة يصعب التخلص منها!"
لم يصدر منها أي رد فعل وهي تميل تقبل إياب مودعة إياه على وعد اللقاء ثم تخطتها أخيراً مغادرة... غير متوقعة تماماً وهي تهبط درجات السلم المفاجأة التي تنتظرها!

تجمدت مكانها وهي تحدق في الرجل الذي كان يتهامس وهو يرسم ابتسامة امتنان للمرأة بجواره والذي اختار في تلك اللحظة أن يرفع رأسه هو الآخر لتقع عيناه في عينيها مباشرة.. لوهلة.. لوهلة فقط كان كل منهما يمر بمشاعر الصدمة كتلك التي تقابلك عندما تتعرض لحادث سيارة وتوشك على الموت فيمر شريط حياتك كله دفعة واحدة أمام عينيك عاجز عن استيعاب أنك ستنتهي بهذه البساطة حقاً.. ثم في لحظة فاصلة تدرك أنك نجوت لتمر في عقلك أفكار أشد قسوة وأنت تحاسب نفسك عن عمر كاد يضيع هدراً دون أن تصحح أخطائك ماضياً في سوء اختياراتك، كان كلها ينتفض وهي تحاول قطع النظرات بينهما, أن تربط هذه الهيئة الرجولية الجديدة باسم لشاب كان يسكن الفؤاد يوماً حتى وهي تجهل ذلك النبض العنيف الذي يصرخ باسمه... بمعجزة كانت تضع قبعة معطفها على رأسها مدارية ملامحها بينما تنزع وجهها بعيدًا عنه لتلتقي بوجه بدور الجامد والتي لم تحتج للنطق لتعرف أن ذلك اللقاء كان من ترتيبها.. حركت شفتيها بخذلان "لقد وعدتِ؟!"
"أخبرتكِ أن بعض العادات القديمة يصعب التخلي عنها!"
كانت نوة قد انضمت لوقفة بدور تنظر لأختها بلوم وهي تقول "لماذا؟ أكان ينقصنا تعقيد الآن؟!"
استدارت بوجهها جانبًا نحو نوة وهي تقول بهدوء "هذا ما كان يجب أن يحدث منذ أول يوم ظهرت فيه هنا, ما دمرنا في الماضي كانت سلسلة من الأكاذيب والخداع وأنا لن أسمح بأن نعيده بحذافيره!"
قالت نوة بغضب "وما ذنب المسكينة لانا لتشاهد هذا العرض من حضرة الشيخ المتخبط؟!"
هزت كتفيها بلا اهتمام وهي تعود تحدق في المشهد الذي أمامها ثم قالت ببرودها الشهير "الجميع كان يحتاج مواجهة عادلة ليحدد خطواته القادمة دون أن يخدع نفسه بزيف تنطقه القلوب التائهة؟!"
عادت ترفع حاجب واحد مستفز وفمها يميل بتلك الابتسامة الشرسة وهي تراقب تكور شفتي سَبنتي بألم ثم أخفضت وجهها للحظات تحاول أن تتعاطى مع صدمة رؤيته.. حتى استطاعت أخيراً كالعنقاء أن تعيد توازنها مستمدة من غضبها الذي يتصاعد جدار حامي..
وبهدوء وثقة وخطى موزونة كانت تهبط الدرجات المتبقية متجنبة جميع الأفراد الذين ينظرون لكليهما في ترقب... وضعت يديها في جيب معطفها وبخطوات حادة كانت تنقل ساقيها بخطوات أنيقة ذكرتهم بمشية عارضات الأزياء... المرور من جانبه لم يكن سهلا ليس لضعف منها في تخطيه ولكن الحقيقة أن جسده الضخم كثور المصارعة كان يقف حائل بينها وبين الخارج مما جعلها دون قصد تخبط كتفها أعلى خصره وهي تعبر أخيراً من هذ الجحيم المسمى منزل العائلة؟!
فور اختفائها كانت السيدة منى تضع يدها على قلبها بوجع... بينما تراقب وجه ابنها الشاحب وهي تهمس "لا تقم بفعل متهور, ما عادَت لك, لا تكن ظالماً مثله, لا توجع فؤادي فيك!"
أمسكت شذى بكتف أمها في مساندة وهي تقول بخفوت "ربما بدور مجنونة وربما أرفض ما تسببت فيه ولكن ثلاثتهم يحتاج لهذا يا أمي!"
هزت منى رأسها بأسى بينما تنظر لعيني لانا التي اغرورقت بالدموع ثم قالت "لم يكن عادلاً لتلك المسكينة يا شذى.. كما أن ربيبتي تغيرت لم تعد هي ولا تستحق أن يدخلها أخاك في دوامته بعد أن تخطته بصعوبة كما يبدو لي من رفضها للجميع؟!"
بينما هو كان كالمسمار الصلب الذي تلقى خبطات هائلة من مطرقة ضخمة لتسمره في مكانه غير قادر على استيعاب تلك المشاعر العنيفة التي تصاعدت بداخله "تباً ألم يخبر راشد منذ ساعات بأنها لا شيء.. إذاً لماذا يكاد ينهار ممزقًا تحت وطأة عنف اللقاء ثم أتى أخيراً اصطدامها ذلك فيه لينزعه من الأرض التي زرع فيها... لا هو لم يشعر بنفسه مطلقًا عندما استدار يقطع تلك المسافة في خطوات واسعة حتى لحقها في الممر يجذبها دون أدنى تردد من ذراعها لتلتفت إليه بعنف وبوجه لا يبشر أبداً بالخير... غافل عن عينيّ تلك المسكينة التي وقفت تراقب حبيبها وزوجها المستقبلي والذي عجز عن لمس يدها إلا ليلة الخطبة.. ينهار خارج عن كل توازنه في حضور أخرى ...!
أما هو كان يعيش لحظة حادة غير مفهومة... أنفاسه كانت تخرج حادة صاخبة وهو يرفع يده ببطء ليتفرس ملامحها بشجع الحرمان والفراق ,يحاول عقلة أن يجاريه أن يطبع ذلك الوجه الذي نضج كثيراً مغادراً بهوت الطفولة وجروح المراهقة ليتبلور باستدارة صارخاً بانتمائه لشابة جميلة بلغت العشرون عام الآن... أصابعه الغليظة كانت تتبع عظام وجنتيها المنحوتة وكأنها أحد آلهة الإغريق.... عيناه تلتهم ذلك البنفسج المتوهج في عينيها بشراهة العطِش لأيام طويلة ووجد أخيراً نهر ماء رقراق..
بينما هي الغضب الأحمر هو ما كانت تراه أمام عينيها وهي تحاول الإفلات منه دون نجاح يذكر, حتى قال أخيراً بنبرة سخيفة لأذنيها "لقد كبرتِ؟!"
جزّت على أسنانها قبل أن تقول بنفاذ صبر ساخرة "حقاً.. يا للعجب؟!.. يبدو أن ذكاء خطيبتك الخطير طُبع عليك وأصابك بالتخلف؟!"
لم يرد عازل نفسه في فقاعة مشاعر خاصة به على ما يبدو عندما قال "لقد أنكر تواجدك هنا.. قال بإنكِ رفضتِ العودة وأرسلكِ في مكان بعيد يصعب وصولي إليه؟!"
قالت باستنكار وهي تحاول إزاحة كفه بعيداً عن وجنتيها "ابتعد وكفى هذيان!"
انحنى بقامته مرة أخرى وهو ينخفض بوجه ليقابل عينيها مباشرة قبل أن يقول بنبرة خشنة "هل هذا أنتِ سَبنتي حقاً، لقد تغيرتِ؟!"
نزعت يده بعيداً عنها مسببة له خدوش صغيرة ثم لم تتوان أن تخبط بكلا كفيها على صدره مبعده إياه عن مجالها ثم قالت بقسوة صارمة "نعم هي أنا... ولكن السؤال الذي يجب أن أطرحه هنا... من تكون أنت لتسمح لنفسك بالتقرب مني؟!"
انتهى
قراءة سعيدة





التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 30-03-20 الساعة 03:56 PM
Nor BLack غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس