عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-20, 10:45 PM   #131

ahlem ahlem
 
الصورة الرمزية ahlem ahlem

? العضوٌ??? » 408506
?  التسِجيلٌ » Sep 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,024
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » ahlem ahlem is on a distinguished road
¬» مشروبك   danao
¬» قناتك aljazeera
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي



"الفصل العاشر"


يهتزّ هاتفها في جيب حقيبتها القماشية الموضوعة قربها معلنا وصول رسالة نصية جديدة فتمد كفها بفتور تسحبه و تقرأ الكلمات المرصوصة أمام عينيها الذابلتين متجاهلة قلبها الذي تقبض تلقائيا حين قرأت اسم المرسل (آسفة تأخرتُ قليلا عليكِ...نلتقي في فترة الغذاء في المطعم المقابل للجامعة )

تأوهت بخفوت مضني وقد انكمش قلبها أكثر كارهة هذا اللقاء المنتظر رغم أنهما اعتادتا تناول الغذاء في ذلك المطعم منذ أول يوم لهما في الجامعة ..
كانت قد جلست لدقائق تطالعهما في وقفتهما تلك دون أن تنظر إليهما حقا وسمحت لدموعها التي لسعت عينيها طويلا أن تهطل بصمت يحاكي مشاعرها الصامتة و يناقض صخب مشاعر جديدة ضج بها قلبها ...إلا أنها لم تكن ككل شيء جديد يفتح النفس و يبهجها بل كانت حملا ثقيلا يضني القلب و يعذب الضمير ...

رغم اختلاف الظروف وتباين الشخصيات فقد جمعتهما نقطة مشتركة إذ لم يسبق لأي منهما أن جربت شعور الحب ...شتان ما بين الأسباب فتيجان رغم شعبيتها لم يجذبها ولا واحد من الشباب الذين يتهافتون عليها أينما حلّت ...
أما شمايل فلم يهتم أي أحد بها من قبل بشكل خاص ...أمر لم يهمها مطلقا إذ تمسكت دوما بمبادئها وركزت على دراستها واعية أن الزواج مكتوب مسطور لا يد للبشر فيه فلا داعي للبحث هنا و هناك عن عريس الغفلة وحريصة على دفن ذاك الشعور الطبيعي بأن تكون مرغوبة ومحبوبة لدى أحدهم حالها كحال أي أنثى ...
وصادف أن جذب اهتمامهما نفس الشخص و حدث أن كانت شمايل الدخيلة بينهما ...

ثم كانت تنتصب واقفة بعد دقائق حين رأت الأستاذ المحاضِر الأشيب يتوجه نحو الكلية في خطوات رتيبة متأبطا محفظته شاكرة كونها ليست مع تيجان في نفس المدرج فقد تم تقسيمهم على عدة مدرجات نظرا للعدد الكبير لطلاب الدفعة وغادرت مسرعة أو بالأحرى هاربة ممتنة لهذا الإنقاذ المؤقت بعد أن بعثت لتيجان رسالة مقتضبة تعتذر عن مغادرتها الفجائية خوفا من أن يطردها الأستاذ المعروف بصرامته إذا ما دخلت بعده ...

وهاهي تتخذ مقعدا منزويا في الصفوف الأخيرة على خلاف عادتها سارحة في أفكارها دون أن تهتم بسماع حرف واحد مما يقال ... حانت منها نظرة خاطفة على ساعتها اليدوية تعد الدقائق متمنية أن تطول المحاضرة و تمتد إلى ما لا نهاية تبغي عبثا أن تؤجل المحتوم..

............................

لمحتها جالسة على طاولتهما المعتادة والمنزوية في ركن قصي من المطعم فلوحت لها ببشاشة حين رأتها تعبر الباب الزجاجي الأنيق ...

بسمة متصلبة اعتلت شفتيها تعافر لإخفاء اضطرابها وترد ملوحة لها بدورها بينما تؤشر برأسها ناحية الحمام ...
ترتكز بكلتا كفيها على الحوض الرخامي الأبيض تنظر إلى وجهها المبتل الشاحب ببؤس وقد أخذت قطرات المياه تنزلق على ملامحها وقد بللت جزءا من طرحتها الزرقاء الفاتحة فغدى لونها أكثر قتامة لكنها لم تكن لتهتم في ظل الخناق الذي هبط بثقله على صدرها ...فتغمض عينيها للحظات تستجمع تركيزها ثم كانت تفتحهما تفتش عن لمحة من الثقة والسكون فيهما ...
وقبل أن تخرج , تنشف وجهها بمنديلها الخاص ثم تأخذ عدة أنفاس متلاحقة تهدئ نفسها وتطمئن قلبها تشحذه بعزيمة و عنفوان هي في أمسّ الحاجة إليهما ...

.........................


تقضم شريحتها الثانية من البيتزا بتلذذ واضح غارقة في متعتها غافلة عن شمايل الجالسة قبالتها و التي كانت تتصارع حرفيا مع قطعتها الأولى تكابد لإنهائها تحاول عبثا مجاراة شهية تيجان المفتوحة ..
وكيف السبيل لذلك و كل لقمة تقف بعناد تأبى تجاوز حلقها وكأنها تأنف أن تستقر في معدتها المنقبضة بعصبية ...
عصبية ولّدها ترقبها المتعِب و انتظارها المضني وقد تشاغلت تيجان بالاستمتاع بطعامها بعد حوار روتيني قصير دار بينهما ...

وحين كادت تفقد الأمل من إفصاحها وفي ذات الوقت تستعيده متمنية أن تعفيها من الخوض في موضوع يشقّ عليها تناوله بأريحية كانت تغص بلقمتها حين أتاها صوت تيجان الهامس بتساؤل فضولي به لمحة من الإثارة بعد أن مسحت كفيها بالمنديل الورقي بأناقة "ألن تسأليني عنه...؟"
لم تتوقع شمايل أن يثير هذا السؤال البسيط كل ما كابدت لطمسه في قلبها كما لم يخطر ببالها إطلاقا أن يظهر كم هائل من غضب لا تدري أين كان مخبأَ...
لا تستطيع أن تحدد إن كان موجها لنفسها ...لغسان أو ربما لتيجان ...

فتبتسم بشفتين مرتعشتين وكأنها على شفير البكاء و تنطق همسا أجشا مجروحا بما دار في خلدها من أفكار منذ أيام "وهل من المفترض أن أفعل ..بما أنه كان منذ أسابيع فقط مجرد مراقب صامت من بعيد يثير حنقك ؟"

تتأملها تيجان لبرهة بغموض ثم تسألها بحيرة "هل أنتِ غاضبة ؟"

تزداد ابتسامتها المتألمة ارتعاشا يحاكي ارتعاش قطعة البيتزا في كفها فكانت تضعها بهدوء في الطبق المدور إلى جانب القطع المتبقية و تدس يديها تحت الطاولة تكورهما في حجرها تشد على تنورتها الزرقاء السماوية بقوة تداري ارتجافهما "ألا يجب أن أكون كذلك ...ظننت أني صديقتك المقربة ..مستودع أسرارك ...وها أنتِ تضعينني موضع المغفلة ...فأراكِ تقفين معه فجأة فأندهش حالي حال كل من يعرفكِ من بعيد... " الجرح في عينيها كان حقيقيا و الألم في صوتها كان واقعا معاشا ...وكانت تتساءل في سرها وقد أعماها انفعالها..لماذا شعرت بالذنب حين أخفت عن تيجان بوادر أحاسيسها نحو غسان مادامت تسبقها بخطوات دون أن تهتم بإخبارها ...فقط لو علمت أبكر قليلا ...قليلا فقط لكانت حينها قادرة على قتل هذا الحب اللعين في مهده ...
العقدة بين حاجبيها تعمقت أكثر مستهجنة هجومها ثم كانت تردف بانزعاج واضح "ألا تبالغين قليلا ؟ ...احتجت بعض المساحة الشخصية لأحلل مشاعري دون تشويش "
كلامها صب الزيت فوق النار فألهبها أكثر لتحيد عن السيطرة دون أدنى أمل في إخمادها ...مازال لهيب الغضب يحترق في مقلتيها يتراقص حول أنقاض قلبها المتألم فتجيبها بنبرة تشوبها سخرية مريرة "لم أكن أعلم أني صرت مصدر تشويش لكِ..."
تهتف تيجان حانقة وقد فاض كيلها "أنت تعلمين أني لا أقصد معنى كهذا ؟"
لكنها لم تكن الوحيدة التي بلغ انفعالها منتهاه ...فتحتدم عينا شمايل وقد غطتهما لمعة دموع قهر زجاجية لكنها أبت إلا أن تذرفها و تهتف بدورها بخيبة أمل حقيقية و حسرة عميقة "صدقا لم أعد أعلم ..كيف سيكون شعوركِ إذا ما دعوتك يوما ما إلى حفل زفافي فجأة دون أن أطلعكِ على أي شيء مسبقا....هل ستطيرين مع السحاب بكل فرح و سرور دون أن يهمك أني أقصيتك كأن لم يكن بيننا ودّ قبلاً ؟"
حرب النظرات كان بينهما سجالا ما بين إصرار تيجان على صحة تصرفها و اقتناعها بتفاهة الوضع الذي ظهر من العدم و خيبة أمل شمايل و غضبها من موقف صديقتها المعاند...صمت مشحون امتد للحظات قليلة قبل أن تقطعه تيجان متسائلة بصوت فاتر مشدود مضيقة عينيها "كيف أصبحت الشخص السيء هنا ؟"
"إذا ...من المفترض أنني الشخص السيء؟" ضحكة قصيرة صدحت من حلق شمايل تطالعها بذهول فيما لا تكف عن مفاجأتها مع كل لحظة تمر عليهما

فتحتد تيجان مستاءة بشدة في اعتراف ضمني " توقعتُ أن تفرحي لأجلي وقد عثرتُ أخيرا على شخص يناسبني ...أن تسأليني بلهفة عن التفاصيل لأشارككِ كل تفصيلة صغيرة كانت أو كبيرة ..لا أن تبحثي عن أعذار واهية لتغضبي مني وكأنكِ ...تشعرين بالغيرة "
مع كل كلمة تقذفها كانت تنكأ جرحها أكثر وكأنها تتعمد أن تذهب إلى النار بالمنفاخ إلى أن وصلت إلى طريق مسدود حيث لم يبق عندها ما يقال ..وقد تعب الكلام من الكلام فكانت تهمس بفتور مقتضب في محاولة أخيرة لإيصال قناعاتها "التفاصيل ..تفقد بريقها حين لا تُحكى في وقتها .."
هيهات أن تنجح محاولاتها الواهية في كسر قشرة العناد التي أحاطت تيجان نفسها بها فهمست بشراسة تعيش دور الضحية " لم تكونِ على ما يرام منذ الصباح ..وها أنتِ ذي تفرغين كل ضغوطاتكِ فوق رأسي ....ليس من حدكِ أن تفسدي مزاجي بمنتهى الأنانية"
وكانت تخط نهاية هذا اللقاء البائس بيديها حين دفعت الكرسي واستقامت واقفة تلملم حاجياتها تستعد للرحيل "معك حق ...من أنا لأفسد مزاجكِ ...استمتعي "

...............................



تفتح باب البيت بمفتاحها الخاص و تدلف بهدوء على أطراف أصابعها على أمل ألا توقظهما من قيلولتهما فتقلقهما عليها بلا داعٍ وكل ما تصبو إليه حاليا هو الوصول بسلام إلى غرفتها...عالمها الخاص ..وهناك بإمكانها الانهيار على راحتها ..

"يا بنت ..لماذا تتصرفين كلص متسلل ...أم أنك فوتِ محاضراتكِ؟"

أتاها صوت والدها متسائلا بخشونة تزامنا مع مرورها بمحاذاة غرفة الجلوس ...
أطبقت جفنيها تعتصرهما تستنهض المزيد من الصبر لكبت ما يهدد بالانفلات لوقت أطول ثم عادت بضع خطوات إلى الوراء ووقفت قرب الباب تطالعه بملامح متعبة و مذنبة يضّجع براحة على جانبه الأيمن ويسند رأسه على كفه .. نفخ أوداجه لأنه ضبطها بالجرم المشهود سعيدا بممارسة سلطته الأبوية بعد أن سنحت له الفرصة أخيرا وقد اشتاق أن يكون الآمر الناهي بما أنه هو من يتعرض للتوبيخ معظم الأحيان ...

فيبتسم بانتصار لإنجازه العظيم ويتشدق قائلا بكل أريحية رافعا حاجبيه الكثين الأشيبين"أحفظ جدولك الزمني عن ظهر قلب يا روح أمكِ ..وبما أنها الثانية زوالا فهذا يعني أنكِ ستفوّتين محاضرتين اثنتين"
يتأمل سكونها التعيس لبرهة ثم يمط شفتيه ممتعضا و يدمدم بنبرة خائبة ذات مغزى " أبوك الشهم لن يشي بك لأمك ...لن يرد الصاع صاعين كما تفعلين أنتِ بتغطية 24 ساعة/ 24 لأخبار خلدون العاجلة و الحصرية"
تتنهد بخفوت وحين تفتح فمها لتقول شيئا تسترضي به والدها علّها تنسحب في أقرب وقت لتنعم ببعض الوحدة تطرف عيناها ناحية التلفاز فتقطب حاجبيها وتهمس مستنكرة باستياء واضح وقد ظهرت روحها المحاربة المعتادة من العدم غريزيا "لماذا تخفض صوت التلفاز إلى هذه الدرجة ..ما فائدة أن تشاهد الصور فقط دون صوت ثم ألم تمنعك أمي عن متابعة هذا البرنامج ...فضائح أسرية على الهواء مباشرة ...ويتحدثون عن مشاكلهم المخزية على الملأ دون ذرة خجل ...أين مفهوم الستر ...ماذا ستستفيد منه ؟"

يعتدل جالسا يناظر التلفاز وكأنه يلومه لإفساد نشوة السلطة التي عاشها للحظات معدودات بعد قحط طويل ثم يحيد بعينيه إليها في وقفتها المغيظة متسائلا بصمت كيف انقلب الوضع ليصبح هو المذنب الملام ..فيهمهم بجفاء مبررا "كان لدي حدس أنكِ ستعودين في هذا الوقت لذا قعدت لكِ بالمرصاد ..أخفضت الصوت كي لا أوقظ أمك ...كانت أول قناة ظهرت حين أنرت التلفاز فلم أهتم بتغييرها فبالي كان مشغولا ...لا تحاولي التملص يا فتاة "

تجيب تساؤله أخيرا بفتور تداهنه عارفة بمناوراته المكشوفة المضحكة لكنها لم تكن في مزاج رائق لتناغشه سيما وأن رغبتها في الانسحاب تلح عليها أكثر فأكثر "لم أشعر أني بخير فقررت العودة مبكرا لأرتاح ... "

يمعن النظر في ملامحها التعبة الشاحبة ثم يقول بصوت جاد به لمحة من عتاب "لا تبدين بخير منذ أيام ..هل اعتقدتِ أنكِ ستنجحين في المداراة عن والديكِ يا حمقاء..كم مرة قلت لكِ لا تشغلي بالكِ بشيء ...أعلم أن اشتراك الانترنت المنزلية انتهى البارحة لذا ذهبت اليوم ودفعت تكاليف عام كامل لتدرسي براحة دون أن تحسبي حسابها كل شهر ..."

وانفجرت في بكاء هستيري وقد بلغ تحملها منتهاه "لماذا لم تشاورني أولا ..كنتَ علمت حينها أني أنهيت كل بحوثي لهذه السنة لذا فلا حاجة لي بها ....لم كل هذا الهدر ...أنا ...لا أحتاجها ..لا أحتاجها... ؟ "
فتثير حنقه بكلامها و يهتف معاندا "لتتحدثي مع صديقاتكِ إذًا و ترفهي عن نفسك ...حقك مثل كل البنات "

وكان الذنب يقتلها أكثر مع كل كلمة ينطقها و نشيجها يعلو و يزداد حدة "لا أريد الحديث إلى أحد . أنا آسفة أبي ...أنا آسفة"

ينهض من مكانه متوجها نحوها ويربت على كتفها مضيقا عينيه بشك "لا يبدو وكأنك تبكين من شدة سعادتك ... أعلم انك حساسة جدا ..لكن ...أليس انفعالك مبالغا فيه...أنت لستِ بخير فعلا "

ثم كان يصيح بصبر نافذ حين استشعر جدية الموقف مديرا رأسه ناحية غرفة نومه يمطّ عنقه "يا امرأة ...انهضي بالله عليكِ ...لعمري هل هناك من يشخر في وضح النهار ...هل هذه قيلولة أم غيبوبة ...تعالي أسعفي ابنتك فلا فهم لي في أمور النساء و تقلباتهن العجيبة"
فتخرج سعاد مسرعة بشعر منكوش وعينين ناعستين شبه مغلقتين تتلفت يمنة و يسرة دون أن تفقه ما يجري
فيضرب خلدون كفا بكف و يهمس مخاطبا نفسه متذمرا "لا حول و لا قوة إلا بالله ...وحش النوم والله ..خسارة شبابي الذي أضعت لياليه أنوح أسفل نافذتها أترجى أباها ليزوجني إياها " ثم يرفع صوته ممتعضا "تعالي يا امرأة و انتشلي ابنتكِ لا أدري ما بها "
تستوعب سعاد الوضع أخيرا فتقف في منتصف الطريق متخصرة ثم تنقل نظراتها بين ابنتها المنخرطة في بكاء مرير و خلدون الواقف جنبها مطبطبا على ظهرها فتشوح بيدها الحرة تتوعده في غضب "ما الذي فعلته بابنتي لتبكيها هكذا ؟"

فيعتلي الذهول ملامحه ويرد بالقول المستنكر "غباء ما بعد النوم ... كيف ستهتمين بها بنصف عقلك الذي لم يصحو بعد على ما يبدو ... ثم بماذا سمعتكِ تتشدقين ..ابنتك ؟....وهل أنجبتِها لوحدكِ لا قدر الله .. الحق ليس عليك بل على خائب الرجا الذي أيقظك غافلا عن وصلات ردحك الفنية في فقرة ما بعد النوم"
ثم يلتفت إلى شمايل التي كانت في واد آخر غافلة عن نقارهما غارقة في بؤسها وقد خفت نشيجها ويقول بحنو " اذهبي إلى غرفتك لترتاحي يا روح والدك ريثما ترتب أمك تلك الفوضى البصرية "
فتومئ برأسها متهربة من دفء عينيه وتجرجر قدميها نحو غرفتها لاعنة نفسها على إقلاقهما هكذا..

.............................

بعد نصف ساعة كانت تستقر جالسة على سريرها وقد بدلت ملابسها إلى ثوب بيتي قطني فضفاض مريح وصلّت صلاتها ..
المصحف الصغير بين يديها تحاول قراءة وردها اليومي بخشوع و تركيز ...عادة تعلمتها من أمها منذ صغرها فغدت كطقس يومي لا مناص منه مهما شغلتها الحياة ..
تطل سعاد أخيرا برأسها و وقد أمهلتها كل هذه المدة عن عمد لتلملم شتاتها و تستجمع تركيزها فتبتسم حين تلاحظ عودتها إلى طبيعتها الهادئة المستكينة أبعد انفجارها المبهم غير الاعتيادي ...
توارب الباب خلفها وتجلس بالقرب منها ثم تسألها مباشرة كعادتها دون مقدمات تمهيدية " هل لي أن أطلع على ما يزعجكِ ؟"
يعاودها التوتر وقد طار الاسترخاء الذي كابدت لاستجماعه منذ دقائق خلت فتضغط دون وعي منها على المصحف بين يديها ...حركة لم تكن سعاد لتغفل عنها أبدا وقد حفظت كل خلجات وحيدتها عن ظهر قلب ...

كانت قد لمست فيها هذا التشتت الخفي منذ عدة أسابيع ..خفيّ بما يكفي لكي لا يلاحظه والدها ..هي أيضا لم تكن لتفعل ربما أمام استماتة شمايل في المداراة فكانت تصرفاتها طبيعية تماما كعادتها دون أي لمحة غرابة أو اختلاف ...
إلا أن الأمر يختلف إذا ما تعلق بقلب سعاد الحساس كجهاز كاشف متطور يلتقط أدنى الموجات الضوئية اللامرئية ...فأن لا ترى ما يثير الريبة لا يعني أبدا أن لا تستشعر التغير..لكنها فضلت المراقبة و حسب إلى أن يحين الوقت المناسب للتدخل ..

وضع لم تفلح شمايل في مداراته طويلا إذ كان ضياعها و تعاستها بوضوح الشمس خلال عطلة نهاية الأسبوع الفائتة ..بما يكفي ليتنبه خلدون أيضا ..هذا الأخير عزى حالها إلى انتهاء اشتراك الانترنت وقد نسي أن يسدد التكاليف كعادته قبل أن تنقطع ليجنبها الشعور بالذنب و الإحراج منهما كدأبها فمهما حاولا إقناعها بأن كل شيء يهون لأجل سعادتها سيتغلب دوما شعورها بالمراعاة و والإحساس بأنها تثقل عليهما ..
ففكر خلدون أن يرفع عنها هذا الحرج بتسديد فاتورة عام كامل على خلاف عادته...سعاد أنبأها إحساسها أن السبب مختلف لكنها سايرته رغبة منها في حشر ابنتها في الزاوية ودفعها نحو حافة الانفجار ..خطة أتت بثمارها و جعلت شمايل تستسلم أخيرا وقد أضناها الكبت ...

"أمي ...أنا لا أدري ماذا علي أن أقول " كانت إجابة صريحة صادقة حقا...
وكم كان صعبا عليها أن تخفي عن أمها شيئا وهي التي لم تتوانى من قبل أبدا على إطلاعها على كل التفاصيل المملة ليومها ...
كم كان صعبا تخيل ردة فعلها وخيبتها حين تدرك أي حضيض انحدرت إليه وقد ملأت رأسها بالسخافات ...

بقدر حزم سعاد في تربية شمايل كان تفهمها لنفسيتها بحكم المرحلة العمرية الحساسة التي تمر بها خاصة و أنها عاشت فترة مراهقة هادئة مطيعة لوالديها و مستسلمة لتحكمهما في كل صغيرة و كبيرة في حياتها فكان من الطبيعي أن تعاني من بعض التوترات النفسية المصاحبة للتغيرات التي تطرأ على نمط حياة الإنسان في مرحلة شبابه وقد اعتاد على أسلوب معين مريح دون مسؤوليات تكدر النفس و تشغل البال فكانت تعفيها من المعاناة أكثر قائلة بسماحة ممسكة بكفها "لا بأس حبيبتي ..لست هنا للضغط عليكِ واستجوابكِ عنوة " وتواصل بذات النبرة الدافئة متجاهلة الدهشة التي ألجمت شمايل "أنا أمك ...يمكنني أن أستشعر أدنى تغير بكِ مهما كان طفيفا...لكني لم أشأ أن أتدخل فلم تعودي طفلة تحتاج المساعدة ...أريدك أن تعرفي أننا نثق بكِ فمن المستحيل أن تفعلي ما ينكس رؤوسنا ...هذا لا يعني أن دوري انتهى هنا ..سأبقى خلفك ما حييت و مهما كان ما تمرين به يمكنك اللجوء إلى أمك في أي وقت إذا عجزت عن حل الأمور بنفسك ...لكن دعيني أعترف لك بسر ..تملكين حدسا سليما استدلي به لتعثري على طريقك ...وشخصية قوية أيضا فلا تستسلمي لنظرات الآخرين المنتقصة مهما كثرت ..."
اغرورقت عيناها بالدموع وضاعت منها الكلمات بينما تسمع سعاد تستزيد قائلة بهمس وقد شقت ابتسامة امتنان شفتيها "أعتقد أني سأبوح لك بسر آخر...مخجل في الواقع...ما كنت لأنجح في تقويم والدك لولا دعمك الكبير ...لا يمر يوم واحد علي دون أن أتذكر أن ما نعيشه من راحة بال من فضل الله أولا ثم فضلك "
فتجيبها شمايل بلوعة وقد استكثرت على نفسها الفضل"أمي لا تبالغي ..كان ذلك أقل ما يمكنني فعله لأجلكما"
فتهز سعاد رأسها بالنفي وتؤكد قائلة و بريق الفخر يتوهج في عينيها "منذ صغرك لم تتعبيني أبدا في تربيتك ...بل و ساعدتني باستماتة في كل عثرة مررنا بها ...كنت قد يئست من والدك وظننته لن يتغير أبدا لكنك كنت أكثر إصرارا و عزيمة مني ... لذا أيا كان ما يضايقكِ لا تهربي ...واجهي أولا ثم فوزي أو اخسري بشرف "
وكان خلدون يتدخل كعادته دون أن يسمح لهما بالتنعم بلحظات ثمينة مشحونة بعواطف تدفئ الروح فيقف مستندا على إطار الباب و يهتف بجفاء بصوت متبرم غيور يلفت انتباههما "أريد فنجان قهوة "
"ألا ترى أننا نتحدث كأم و ابنتها ؟" قالتها سعاد رافعة حاجبيها مستغربة تدخله فيبرطم قائلا بلهجة ممطوطة "لمن الفضل يا ترى ...كنتِ مصروعة في غرفتنا في سابع نومة يا جاحدة ..أوقظك و أتلقى التوبيخ لقاء صنيعي ثم تستفردين بدور البطولة لوحدك .."
لا تتمالك سعاد نفسها فتنفجر ضاحكة من شطحاته التي لا تنتهي فيصدر صوتا متذمرا و يهمهم باستياء يطالعها بنصف عين "تجيدين النصح وربي مثل أولئك المدربين النفسانيين في التلفاز ...لماذا لا أسمع منكِ مثل هذا الكلام الجميل يا ترى...تتذمرين فوق رأسي ليل نهار "
فتقول من بين ضحكاتها بتقطع "وهل جلست معي كالبشر لنتحدث ..تمضي نهارك في المقهى تسلي الجيران وحين تعود تقابل التلفاز تشاهد كل ما هو معروض ويعجبك أي برنامج دون ذوق محدد ...ويا ليتك تتفرج بصمت ..سعاد أنظري ...سعاد اسمعي ... "
فيهتف فيها بغيظ "ألا تعلمين أن المتعة تكمن في المشاركة ..انهضي يا امرأة أريد فنجان قهوة يشاركني برنامجي المفضل ...

ومضيا معا إلى المطبخ مستمرَّيْن في ثرثرتهما تاركَيْن خلفهما قلبا ملتاعا يتلوى في تأنيب الضمير ...تاه و تعب باحثا عن بر أمان يرسو إليه...

............................


ahlem ahlem غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس