عرض مشاركة واحدة
قديم 25-08-20, 12:32 AM   #22

samar hemdan
 
الصورة الرمزية samar hemdan

? العضوٌ??? » 461744
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 941
?  نُقآطِيْ » samar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond reputesamar hemdan has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة heba nada مشاهدة المشاركة
الفصل السادس


إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة
و إنما يموت بطريقة الأجزاء
كلما رحل صديق مات جزء
و كلما غادرنا حبيب مات جزء
و كلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء
فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة
فيحملها و يرحل

جبران خليل جبران
فور انصراف صديقتها تركت طفليها بصحبة والدتها و أخيها و دلفت غرفتها في خلوة مع كلماته الأخيرة التي بعث بها إليها، جلست على الفراش و قربت الخطاب من أنفها تتنسم بقايا عطره الذي لايزال عالقًا به، فضت المظروف بيد مرتعشة و قرع خافقها خلف ضلوعها يتسارع لهفة و خوفًا :وبشفتين مرتعشتين التهمت الأحرف أمامها

حبيبتي و نصف روحي
لا أدري إن كان هذا الخطاب سيصلك يومًا ما أم لا
ربما عدتُ بعد ساعات، أيام أو ربما سنوات للمحامي ،فاستعدته و مزقته فلن يصلك قط
لكن إن قُدّر له الوصول ليديكِ و في حال كنتِ تقرأينه .الآن فهذا يعني أنني قد غادرت إلى دار الحق

عند هذه اللحظة توقفت عيناها على الكلمات و منعتها غلالة الدموع رؤية ما بعدها، تساقطت القطرات تبلل أحرفه التي خطها بغفلة عما تفعله بروحها، أجبرت جفنيها على الانفراج توقًا لكلماته القادمة

حبيبتي، كنتِ لي نعم الزوجة، نعم الصديقة و دائمًا و أبدًا نعم السند و الآن قد حاولت بوصيتي أن أُبلغك شكري ،الذي لن تفي به كلمات
عُشنا الذي طالما كان دافئًا بروحك، وملأت السعادة ربوع قلبي بين ذراعيك فيه هو حق خالص لكِ و دين كان .بعنقي قد تأخرتُ بسداده فعذرًا مالكة قلبي
أعلم أيضًا أنني بوصيتي قد وضعت على كتفيك حِملًا أنت له أهل، أثق تمام الثقة أنك ستؤدين الأمانة كما أردتَها و زيادة وغفرانًا أعلم أني سأحصل عليه إن أثقلتُ كاهلك .فلا ثقة لي بغيرك حبيبتي
.وختامًا رفقًا بقلبك الغض فلا يليق به سوى سعادة يستحقها
المحب لآخر أنفاسه: نادر
أنهت خطابه و ضمته لصدرها عله يطفئ نار شوقها لصاحبه استلقت على فراشها و البرودة تزحف من أطرافها فتتملك سائر جسدها، قلبها يقرع بهلع علّه يعيد ضخ الدماء الهاربة بعروقها مرة أخرى دون جدوى، دار بها الفراش و ضاقت أنفاسها مع ارتعاش جسدها، جذبت سترة منامته المجاورة لها و ارتدتها فوق منامتها تعيد بث الدفء بنفسها و عبقه يتسلل لها فيمنح روحها السكينة، غطت في نوم عميق .جافاها وهو يحتويها بأحلامها فيعيد الهدوء لنابضها المُتعب
في الصباح نهضت باكرًا عازمة على تلبية رغبته، استقبلتها السيدة زينب ببسمة حنون و قد أعدت طعام الإفطار للصغار، جلس نور يتناول إفطاره أمام قنوات الكرتون بينما نادين صامتة تلوك ببطء ما تقيم به جسدها بالكاد، تطلعت إليها والدتها بدهشة فملابسها الرسمية السوداء بالكامل تنم :عن عزمها الخروج فلم تخفي دهشتها
ـ على فين بدري كده؟
:ملأت نسمة صدرها بالهواء
ـ رايحة الشركة
تطلعت إلى صغيرتها الشاردة تعيدها لعالمهم الذي انفصلت عنه بإرادتها تدرك عمق ألمها فقد خبرته سابقًا عند فقد والدها و إن كانت أكبر عمرًا لكنه يبقى ندبة بالروح تشفق على صغيرتها من أثرها، عزمت على إخراجها من عزلتها فلا :سبيل لعناد القدر
ـ كلمي زمايلك شوفي اللي فاتك
:ثم أشارت لها و شقيقها مكملة
ـ من يوم الحد هترجعوا المدرسة
و التفتت تلتقط سلسلة مفاتيحها و تغادر باترة اعتراض ،الصغيرة الذي لاحظته
استقلت سيارتها و الذكرى حاضرة بقوة يوم منحها مفاتيحها :مفصحًا عنها كإحدى هداياه
ـ بس أنا من يوم ما سبت الشغل ما بخرجش غير معاك تقريبًا
:احتوى كتفيها بذراعه كعادته
ـ أفرضي ما كنتش موجود و احتاجتي حاجة أنت أو الولاد
و أشار لنفسه بغرور هو أبعد ما يكون عنه مكملًا
ـ و بعدين مدام نادر الكيال ما ينفعش تركب تاكسي
فرت دمعة وحيدة من عينها مسحتها فورًا و هي تنطلق .بسيارتها حيث تبدأ أولى خطواتها بحياتها الجديدة
دلفت مكتبه بعد طريق قطعته بخطوات واثقة و قلب يرتجف خوفًا من القادم وسط ترحاب الموظفين و عزاءهم، طالعت المقعد الجلدي خلف المكتب و طيفه الجالس هناك يراودها تقدمت بوجل تتحسس المقعد قبل أن تجلس فخطف نظرها صورة عائلتها التي وضعها لتواجهه حيث كانت تجلس عن يساره يحيط كتفيها بذراعه، يحتضن نور المستريح على ساقه بذراعه الأخرى و نادين خلفه تحيط عنقه بذراعيها في احتضان و تلصق وجنتها بوجنته ببسمة رائقة سعيدة لا تعلم أتستطيع إعادتها لابنتها مرة أخرى أم لا؟ و كيف السبيل .بعد فقدانها لفارسها الأول و الأوحد
طرق خافت على باب المكتب دلف بعده محمود ليخرجها من شرودها، تقدم برزانته المعهودة و جلس على المقعد أمام المكتب و بيده العديد من الملفات التي وضعها أمامها وهو :يوضح
ـ دي آخر عمليات للشركة عايزك تدرسي الملفات دي كويس
:اختار أحد الملفات ووضعه جانبًا قبل أن يكمل
ـ ده ملف آخر و أهم مناقصة
:أشار لباقي الملفات و هو يدرك ارتباكها و حيرتها
ـ لو ما فهمتيش حاجة أنا موجود ما تقلقيش
أومأت برأسها إيجابًا براحة لوجوده فهي على مدار سنوات زواجها لم تكن سوى زوجة وأم، رغم أن نادر كان كثيرًا ما يحدثها عن عمله، تفاصيله، صفقاته، علاقاته، وحتى خسائره التي تكبدها ببداية حياته إلا أن ذلك لا يصنع منها سيدة أعمال بديلًا عن سيدة منزل بين ليلة وضحاها، تعلم ثقة نادر بمحمود لكن كلماته أنها لا يجب أن تثق بأحد سوى :نفسها لازالت تؤرقها، تنحنحت قبل أن تقول
ـ شكرًا يا باشمهندس
ابتسم محمود بحبور و نظرته تمنحها مزيدًا من اطمئنان قبل أن :يضيف
ـ أنا بعتت إيميلات لكل الموردين بتوعنا أبلغهم أن النظام هيستمر زي الأول و بعد إذنك مضيت باسمك كمدير و صاحب للشركة
:رفعت حاجبيها دهشة مما فعل و هو يضيف بابتسامة
ـ و الموردين الرئيسيين بتوع آخر مناقصة بالذات بلغتهم أن أول دفعة ممكن تتأخر بسبب إجراءات بنكية مش أكتر
أخفضت رأسها تريد أن تثق بحديثه و أفعاله و تخشى القادم :في الوقت ذاته
ـ أنا سألت أستاذ فتحي و قال إن الإجراءات ممكن تاخد أسبوع أو عشر أيام
:منحها نظرة موافقة و هو يتفهم ما تقول و يؤكد
ـ و أنا طمنتهم أن الدفعة موجودة والتحويل مسألة وقت
:ضرب بكفه على المكتب و هو ينهض يمنحها بعض الحرية
ـ أسيبك مع الشغل و أنا في مكتبي
أغلق الباب خلفه و تركها تطالع ما منحها إياه
***
عالم الأحلام ممتع خاصةً حين ترى حلمك يقترب رويدًا و إن كان لايزال صعبًا لكنه ليس بمستحيل، هو رجل الحلم و .السعي حتى الوصول مهما طال طريقه
طرق باب مكتبها برفق قبل أن يدلف عقب سماع إذنها بالدخول، وجدها خلف مكتبها تجمع خصلاتها خلف رأسها ملابسها الرسمية و عويناتها الطبية أضفت عليها مزيدًا من :الوقار، تقدم برشاقة و جلس أمام مكتبها يقدم ما بيده
ـ تاسك العملي اللي طلبتيه يا دكتور
تناولت ريم الملف من يده و فتحته تطالع ما به قبل أن تقول :بجدية تواجه بها نظراته المربكة
ـ أنا شايفة نشاط كويس
:مدت يدها بمظروف أعدته مسبقًا
ـ ده التاسك الجديد
تناول المظروف و تلامست الأنامل بعفوية أرسلت رعشة :بجسدها أجادت إخفاءها خلف نبرتها
ـ شد حيلك يا دكتور دي آخر فرصك للدكتوراة
دس المظروف بجيب حلته و امتدت يده ترفع إحدى :خصلاته عن جبهته وعيناه المحيرتان مركزة بعمق خاصتها
ـ أنا مطمن لأن المرة دي حضرتك المشرفة
أخفضت نظراتها تستعيد رباطة جأشها، لأول مرة و على امتداد سنوات عملها يربكها أحدهم و يشتت تركيزها بعيدًا عن عملها، نهض يطلب الإذن بالانصراف و هو ما منحته له محاولة تملك زمام أمرها مرة أخرى، تنهر نفسها تارة على ارتباكها و تذكرها تارة أخرى أنه يصغرها سنًا و دماثته ما .هي إلا احترام من طالب تجاه المشرف
تركها خلفه و عاد للغرفة الخاصة به و زميله عصام، قابله :الآخر ببسمة مستفهمة
ـ إيه الأخبار
:جلس ماهر خلف مكتبه و رفع نظره إليه يرد سؤاله بآخر
ـ أخبار إيه؟
ـ الدكتوراة
أخرج ماهر المظروف من جيب حلته و فضه استعدادًا لتنفيذ :المطلوب و هو يجيب الآخر بعملية
ـ آديني شغال بكل جهدي
:حك الآخر ذقنه بسبابته و إبهامه و نبرته الخبيثة تشي بنيته
ـ طب و الدكتورة؟
:عاد ماهر إليه بنظرة محذرة و شرارات الغضب تنتشر بالغرفة
ـ قصدك إيه؟
:دار عصام حول مكتبه برويه وهو يفصل كلماته ببطء مغيظ
ـ أنا... ملاحظ.... نظرات...ابتسامات
نهض ماهر بعنف عن كرسيه يشهر سبابته بوجه الآخر يمنعه :الاسترسال
ـ إيه اللي بتقوله ده، دكتورة ريم فوق مستوى الشبهات
ضم قبضته بغضب يكظم غيظه محاولًا عدم رفع صوته حتى لا يصل لمن بالخارج:
ـ دكتورة ريم المشرفة بتاعتي أي كلمة زيادة عن كده هعرف أرد عليك بس برة المكان ده
اتجه للخارج وسط نظرات الآخر المستخفة به وقبل أن يفتح :الباب التفت يطالعه بنظرة مُحتقرة
ـ مش علشان خايف منك لأ
ـ علشان هي متستاهلش سمعتها تتلوث بلسان واحد زيك
و صفع الباب خلفه و رأسه يغلي غضبًا
***
طفلة هي حائرة بين الجميع تندفع برعونة نحو أنوثتها، تبحث بتخبط عمن يشبع حاجاتها المفقودة، بعد مدرستها توجهت للنادي الذي بات بديلها الدائم، ارتدت زي التدريب و نزلت أرض الملعب تضرب الكرة مرة فتُخرج غضبها المكبوت و أخرى تبحث عن مرشد و ثالثة تسب واقعها الذي فُرض عليها، أنهت مباراتها و انتبهت على تصفيقه وصافرته المنطلقة من المدرجات، لؤي بات رفيقها الدائم رغم فارق السن بينهما فقد أتم عامه العشرين منذ أيام، يدرس بالسنة الثانية بأحد المعاهد الخاصة، يعلم دائمًا أين يجدها و كيف يُسرّي عنها وقت حزنها و يمنح شفتيها البسمة التي تفتقدها، التقطت بعض أنفاسها و تناولت منشفتها تجفف عرقها المتساقط، جلست جواره بمنتصف المدرجات الفارغة تستند بمرفقيها لمقعدها و تمد ساقيها على ظهر المقعد الآخر أمامها، مر بصره على ساقيها المشدودتين بعضلات ظاهرة و مفاتنها التي بدأت في الظهور على استحياء رغم نحافة جسدها، مد ذراعه يستند لظهر مقعدها فتلامست مع مرفقيها، اعتدلت في جلستها و نظرتها تؤنبه عكست أشعة الشمس عسل عينيه الفاتح مع دكنة بؤبؤه فمنحته نظرة ثعلب صحراء، امتدت كفه الأخرى تعدل من وضع خصلاته السوداء التي استطالت فجمعها خلف رأسه في ذيل حصان ثم أخرج علبة سجائره و أشعل تبغه ينفسه في :الهواء ببطء، مد كفه لها بالعلبة
ـ سيجارة؟
:طالعت العلبة بيده و أشارت برأسها نفيا
ـ عندي بطولة قريب
:أغلق العلبة و دسها بجيب قميصه
ـ و إيه يعني دي واحدة
وجهت بصرها تجاه الملعب بشرود و هي تهمس لنفسها و :كأنه غير موجود
ـ ولا واحدة، أنا معنديش غير التنس
:قطع شرودها صوت هاتفها فالتقطته تتلقى مكالمة والدها
ـ ألو بابي
:أتاها صوت فارس بحنو يسألها عن مكانها فأجابت
ـ في النادي
و بعد حديث قصير أجابت بتردد و عيناها تتلفت حولها بحثًا :عنه
ـ خلصت وقاعدة مع أصحابي
اطمأنت عندما أتاها صوته يؤكد أنه لايزال في طريقه إليها دقائق و كان ينتظرها بسيارته أمام بوابة النادي، ودعت صديقها و التقت بفارس الذي انطلق بالسيارة دون أن تعلم وجهته لكنها لاحظت اتخاذه الطريق تجاه منزل والدتها فسألت
ـ أحنا رايحين فين؟
:التفت لها بطرف عينه بنظرة خاطفة وهو يجيب
ـ هروحك
:انتفضت بملل تسأله باستنكار
!ـ دلوقتِ؟
رفع كفه عن المقود يلوح به و نظراته تتنقل بينها و بين :الطريق أمامه
ـ أيوة دلوقت أمال أنتِ بتروحي أمتى؟
عقدت ذراعيها أمام صدرها بنزق و التفتت للجهة الأخرى تطالع الطريق دون إجابة، راقب فارس سكناتها فصف :السيارة على جانب الطريق و اعتدل بجسده يواجهها
ـ مش عايزة تروحي دلوقت ليه
التفتت تواجهه لا تجد إجابة سوى الصمت الذي زاد من :قلقه
ـ في حد بيضايقك هناك؟
أخفضت نظراتها للأرض فلم يجد سوى الإفصاح صراحة عن :خوفه لعلها تؤكده
ـ حسن عملك حاجه؟
اتسعت عيناها هلعًا و قد فهمت ما وصل إليه تفكيره، :هزت رأسها نفيًا وهي تؤكد
ـ أنكل حسن عمره ما عملي حاجة
كانت تنفي عنه تهمة الإيذاء الجسدي و كلماتها تؤكد بنفسها على تجاهله لوجودها بالبيت طيلة الوقت وما تلاقيه من أذى التهميش لكن ما وصل لفارس هو راحة من أفكار أرقته طويلًا رغم أنه لازال لا يستطيع الوصول لسبب هروب :ابنته الدائم
ـ طيب قوليلي إيه اللي مضايقك
:لانت نبرته و هو يحاول حثها على البوح
ـ أتكلمي يا لمى لو في مشكلة ندور على الحل
ترددت الصغيرة فعلى مدار أعوامها القليلة لم تجرب البوح لأحد والديها، تعلم وضعها جيدًا وما قرراه عنها ولا تجد بدًا من تمرير الأيام كيفما كان فما جدوى الحديث عن بيت لا تملكه، أسرة تفتقدها و كل منهما بات بواديه المستقل اختلقت أسبابًا تعلم كم هي واهية في محاولةٍ لمواراة أسبابها :الحقيقية
ـ محمود و مصطفى و سها على طول عاملين دوشة و خناقات وأنا بزهق من البيت
مال برأسه للجانب قليلًا لا يقتنع بسببها قيد أنملة لكنه :جاراها
ـ دول اخواتك يعني المفروض تلعبي معاهم و تاخدي بالك منهم
:تذمرت لمى تلوح بكفها و هي تجيب باستنكار
ـ ألعب معاهم إيه يا بابي دول أطفال
:ضحك فارس في محاولة لتلطيف الحوار
ـ يا ستي تلاعبيهم أنت أختهم الكبيرة يعني مثلهم الأعلى
عبث بخصلاتها في مرح محاولًا رسم بسمة على وجهها و هو :يخبرها بلا مجال للنقاش
ـ هروحك دلوقت ووعد كل يوم فاضي عندي بعد الشغل نقضيه مع بعض
ابتسمت الصغيرة بخفوت تستجيب لوالدها الذي أدار محرك السيارة مرة أخرى وودعها حيث تسكن والدتها.
***
قاسية تلك الأيام تسلب الأم ابنها البار، تُفقد المرأة زوجها و تُيتم صغارها في ساعة خاطفة من عمر الزمان، و معهم فقد أخٍ أكبر طالما اعتز به كرجل وصديق دون اعتبار كونه زوج شقيقته، أغلق الهاتف مع فارس الذي أبلغه على مضض بغلق محضر الحادث دون عقاب للمُتسبب المجهول، ظالمة تلك الدنيا التي تسمح للجاني بالفِرار ولا عزاء للمُتضرر، أنهى عمله و استقل سيارته قاصدًا بيت أخته الذي بات وجهته اليومية، منذ الحادث، والدته تقيم بصحبتها وهو يقضي معهم نصف يومه، يبيت ليلته ببيت أسرته و صباحًا يتجه لعمله و منه لبيت أخته و اليوم عزم على الترويح عن الصغيرة الفاقدة للروح وهي على قيد الحياة بناءً على طلب نسمة التي تعلم قرب شقيقها الوحيد من طفليها وحبهما اللامحدود له، يعلم أن طريقه شاق فالصغيرة منفصلة تمامًا عن عالمهم منذ الحادث، نظراتها زائغة و كأنها تبحث عن رجلها الأول بينهم دون جدوى، تجيبهم بالكاد وبكلمات مقتضبة تكاد لا تُسمع، بالأمس لاحظ خروجها من غرفة والديها تحمل معطفًا يخص نادر ودسته بخزانة ملابسها مسكينة تلك الصغيرة التي تلقت أقسى صفعات الحياة باكرًا، وصل وجهته وصف سيارته أسفل البناية، صعد سريعًا يعود لسابق عهده في طرق الباب بطرقات سريعة منغمة يحفظها الصغار وإن آلمه قلبه و امتنع عن فعلته في الأيام السابقة مكتفيًا بجرس الباب المعتاد من خلف الباب سمع نداء نور باسمه قبل أن يفتحه، رفع رائد الصغير على كتفه ورأسه تتدلى خلف ظهره كعادته مع تعالي ضحكات نور، طبع قبلة على وجنة الصغير وهو يُنزله أرضًا ووجه حديثه :لوالدته
ـ فين نسمة و نادين؟
:وجهت السيدة زينب بصرها تجاه غرفة الصغار وردت بأسى
ـ نسمة لسة ما رجعتش و نادين ما خرجتش من أوضتها من الصبح
ضاق صدر رائد حزنًا و هو يخفض رأسه ويتجه للصغيرة المنعزلة، طرق على الباب المفتوح فلم تجبه، دلف والغرفة تغرق بالظلام رغم انتصاف النهار، امتدت يده تفتح الستائر فسمح لضوء الشمس بالدخول، انقبضت جفني نادين بفعل الضوء المباغت، وضعت كفها أمام عينيها فرأت رائد الذى استند بظهره إلى مكتبها وعقد ذراعيه أمام صدره يناظرها بتحدٍ، تجاهلته نادين والتفتت بجسدها للجهة الأخرى تسحب الغطاء على وجهها، قطع المسافة بخطوة و بحركة :واحدة رفع الغطاء عن كامل جسدها متزامنًا مع زعقتها
ـ سيبني يا رائد عايزة أنام
لاحظ معطف نادر جوارها و مسبحته الخاصة براحة يدها :فكتم ألمه و هو يجيبها
ـ قومي عايزك في مشوار
:طالعته بدهشة لا تقوى على تفريج جفنيها المنتفخين
ـ مشوار إيه أنا مش هخرج
تجاهل اعتراضها و فتح خزانة ملابسها فأخرج بنطال من الجينز وبلوزة بلون القهوة مع معطفها الصوفي ووضعهم جوارها وهو يجذب كفها يجبرها على الوقوف ويشير :للملابس
ـ مفيش اعتراض
دبت بقدمها الأرض غضبًا و دموعها التي لم تتوقف عادت :تعلن بقوة عن وجودها
ـ قلت مش عايزة
:وكأنها لم تعترض توجه نحو باب الغرفة وقبل أن يخرج ويغلقه
ـ خمس دقايق و هدخل تاني لو ملبستيش أنت حرة
:رفع كفيه بمحاذاة كتفيه
ـ أنا مش مسئول عن اللي هيحصل ساعتها ولا عن محاضرات نسمة عن الخصوصية و مكافحة التحرش
حصل على بسمة باهتة لم تتعد شفتيها و مع غلقه للباب استسلمت على مضض وبدلت ملابسها، جمعت شعرها دون ترتيب وخرجت ليستقبلها رائد الواقف جوار باب غرفتها بحركة مسرحية ينحني بجذعه وأحد ذراعيه خلف ظهره :و الأخرى تمتد تلتقط كفها
ـ my princess
منحته كفها فعلقها بذراعه متجهًا للخارج حيث أوقفهما نور
ـ أنتو خارجين؟ خدوني معاكم
:جلس رائد على ركبتيه بمحاذاة الصغير يخبره بجدية
ـ دي خروجة بنات
:ضم كفه و رفعها للصغير الذي قابلها بكفه المضمومة
ـ ليك عندي خروجة رجالة
:رمقه نور و أضاف ببديهية
ـ هي خروجة بنات أنت خارج ليه؟
:كتم رائد ضحكته المتسلية و حافظ على جديته
ـ أنا هوصلها بس علشان ما تركبش تاكس
:ضيق نور عينيه و ربت بسبابته على ذقنه بتفكير
ـ و أحنا هنخرج أمتى؟
ـ بكرة
:سارع رائد بالإجابة و أضاف
ـ فكر عايز تروح فين و أنا موافق
:رفع الصغير سبابته بسعادة
ـ نروح نلعب كورة
منحه رائد موافقته ورفع كفه في الهواء تلاقي كف الصغير علامة على الاتفاق، عاد رائد يلتقط كف نادين و يصحبها :خارج المنزل و هو يهمس
ـ خلصنا من اللمض
ضحكت نادين بخفوت، فتح رائد باب السيارة فركبت وهو ينحني مجددًا ناعتها بأميرتي، انطلق بالسيارة لأحد مطاعم العاصمة فتناول بصحبتها وجبة الغداء التي تناولتها نادين بشهية متوسطة، بعدها اصطحبها لأحد المجمعات التجارية :الكُبرى بالعاصمة
ـ my princess
تسمحلي أعزمها على السينما
ابتسمت نادين بصدق لمحاولاته التسرية عنها و أومأت برأسها إيجابًا، اختارت فيلم عن عصر الديناصورات بقاعة السينما ذات الأبعاد التسعة، ابتاع رائد علبتين من حبات الفُشار الساخنة وأخذ كل منهما مقعده ومع بداية العرض كانت الحبات تتطاير على ملابسهما مع تحرك المقاعد وتطاير رذاذ الماء المصاحب للفيلم، صدحت ضحكة نادين وهي تحاول السيطرة على علبة الفُشار دون جدوى ورائد كذلك، انتهى العرض الممتع ولاتزال ضحكاتها مرتسمة على :وجهها، احتوى رائد كتفيها بحنان و تعلقت عيناه ببسمتها
ـ ربنا يخلي لنا ضحكتك يا نودي
بعدها أصر رائد على شراء ملابس تنكرية لها، كانت تود :اختيار شخصية )سندريلا( لكن رائد رفض بشكل قاطع
ـ الأميرة لازم تلبس أميرة
التمعت عينا نادين و هو يختار الزي الخاص بشخصية)رابنزل( الذي أحبته خاصة ذلك الشعر المستعار .المجدول في ضفيرة تكاد تلامس الأرض
في نهاية اليوم أقلها للبيت في ساعة متأخرة من الليل وهو :يمازحها
ـ نسمة كده هتطردنا من على السلم
تركها بعد أن احتواها بين ذراعيه في ضمة حنون و طبعت :هي قبلة على وجنته مع همستها بأذنه
ـ شكرًا
***

حين تختبر الحرمان لسنوات ثم تجد الفرصة لتعويض بعضٌ مما فاتك فهل تتردد؟
الإجابة حتمًا بالنفي خاصة و إن كان التعويض مُقدم على طبق من فضة وهو ما تلاقى به مع هند التي أعدت مائدة عامرة بالطعام والفاكهة، جلس يلتهم قطع الدجاج بنهم و هي تشاركه بسعادة افتقدتها لشهور منذ آخر لقاء به :لاحظت إنهاءه لصحنه فسألت
ـ أجيبلك بيكاتا تاني؟
جلجلت ضحكته بالمنزل وهو يصفق بكفيه المفرودين :مصدرًا ضجيج
ـ بقيتي تطبخي زي الباشوات و تتكلمي زيهم
:ضحكت بينما تلملم الصحون و تنقلها للمطبخ ونبرتها تؤكد
ـ ما أنا بقيت منهم

استلقى على الأريكة باسترخاء يمسك بجهاز التحكم عن بعد :و يقلب بقنوات التلفاز
ـ والله وعيشتك ارتاحت يا هند
جلست جواره فاعتدل يحيط كتفيها بذراعه يمسك بإحدى خصلاتها يلفها على سبابته تطلعت إليه بشرود تتذكر معاناتها :و ما تكبدته لسنوات
ـ العيشة دي أنا دافعة تمنها غالي قوي
:نظر إليها بلامبالاة و هو يؤكد بسبابته
ـ مهما كان التمن بس نفدتي من الفقر
:ابتسمت بحنان تربت على كفه الحرة
ـ تعرف، أنت اللي مصبرني على العيشة دي
ارتفع رنين هاتفها الجوال معلنًا عن اتصال من زوجها، :أمسكت بالهاتف تشير للآخر بالصمت
ـ مش عايزة نفس
استجاب واضعًا كفه على فمه يكتم ضحكته الساخرة بينما :هند تنهي مكالمة زوجها سريعًا و ألقت بالهاتف بملل
ـ هقوم أجيبلك أم علي تحلي
دلفت للمطبخ بينما هيثم يتجول بالبيت، وقع نظره على حافظة النقود بحقيبتها المفتوحة، امتدت يده تحصي ما وجد من نقود و دس بعضها بجيبه، في طريقها إليه تحمل طاجن الحلو الذي أعدته قبلًا لاحظت ما فعل فأخفضت نظرها سريعًا تخفي ملاحظتها، قدمت له الحلو الذي التهمه عن آخره بتلذذ قبل أن يهم بالانصراف و عند الباب انحنى يطبع :قبلة على وجنتها
ـ طالما جوزك مسافر هجيلك بكرة تاني
:ربتت على كتفه بسعادة و هي تحذره
ـ بس خد بالك لا البواب يشوفك










الفصل السابع


حين تتلقى من الدنيا ضربة قاسمة
فإما الانكسار أو النجاة.
وهي تلقت أقوى الضربات على حين غرة، انقلب عالمها رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها ولا سبيل أمامها سوى النجاة بنفسها وأولادها، استلمت دفة القيادة بأسرتها قسرًا و اتشحت بقوة وإن ادعتها، تبدأ يومها في السادسة صباحًا، تودع صغارها إلى مدرستهم ثم تستعد لعملها، لأيام قضتها خلف مكتبه الذي بات يخصها تراقب الجميع، تدرس ما سبق من أعمال وتفهم كل ما يدور حولها بصمت، الحق يقال فمحمود هو من يدير الشركة فعليًا بحضورها، أيام قلائل و أدركت أنه كان أهلًا لثقة نادر و إن حذرها من الجميع، ارتفع رنين هاتف مكتبها الداخلي لتجيب فيأتيها صوت سكرتيرتها أروى:
ـ أستاذ حسام الشوباشي طالب يقابل حضرتِك
رغم دهشتها من الزيارة منحته الإذن بالدخول، دلف بعد طرقات خافتة، لأول مرة تلحظ هيئته فالمرة الأولى التي قام بتعزيتها فيها لم تكن بحال يسمح لها بالتحقق منه، أربعيني بخصلات قصيرة سوداء ناسبت دكنة عينيه، بشرة حنطية مائلة للبياض، حلة سوداء ورباط للعنق ناسب هيئة رجل أعمال شاب، جلس أمام مكتبها واضعًا حقيبته على المنضدة الصغيرة أمامه:
ـ أنا آسف إني جاي من غير معاد
ابتسمت بخفوت مرحبة رغم توجسها من الزيارة:
ـ تشرب إيه يا باشمهندس
ابتسم بعملية يحل زر حلته:
ـ قهوة مظبوط
ضغطت زر الهاتف الداخلي تلبي طلبه ثم عادت إليه بنظرة مستفهمة فهمها فأوضح:
ـ عارف أنك مستغربة الزيارة
اعتدل في جلسته و أكمل:
ـ لكن لما عرفت أنك نزلتي الشركة كان لازم آجي يمكن تحتاجي مساعدة
إجابته لم تبدد دهشتها و إنما زادت منها فعبرت عنها:
ـ و حضرتك عرفت منين إني نزلت الشركة؟
جلجلت ضحكته رغمًا عنه، وضع كفه على فمه يكتمها معتذرًا:
ـ آسف، بس مفيش حاجة بتستخبى في السوق
تقدم من حافة مكتبها يتكئ بمرفقه:
ـ أنا عارف أن معندكيش خبرة علشان كده حقيقي نفسي أساعدك
أدركت سذاجة سؤالها من الوهلة الأولى وعمدت إلى مواراة ذلك، يبدو أنها بحاجة لتعلم اللعب بالكلمات:
ـ شكرًا لعرضك يا باشمهندس
أخرج بطاقة هواتفه ووضعها أمامها على المكتب و هو يوضح:
ـ دي كل تليفوناتي
ـ صحيح شركتي شغالة في الأثاث لكن أقدر أخدمك
نهض يحكم زر حلته و هو يكمل:
ـ لو احتاجتي أي مساعدة متتردديش في طلبها
لوح بكفه و التفت مودعا:
ـ القهوة هشربها المرة الجاية
و أنصرف بثقة من عودته مرة أخرى، تلك الهرة التي جلست بمكان يكبرها بكثير ولم تتعلم الخمش بعد حتمًا بحاجة لحماية من نوع خاص لا يدركها إلا من كان مثله، براءة ملامحها وارتباكها الواضح بموقعها لمسا جزءً خفيًا بنفسه.
على الجانب الآخر كانت تمسك ببطاقته تقلبها بين كفيها و تستدعي محمود الذي بات مرشدها وما إن دلف حتى بادرت:
ـ تعرف حد اسمه حسام الشوباشي؟
عصف محمود ذهنه قبل أن ينفي، صمتت برهة قلبت خلالها البطاقة مرة أخرى:
ـ شركة الأثاث الحديث
أومأ محمود برأسه يجيبها:
ـ أسمع عنها بس مفيش تعامل بيننا
هزت نسمة برأسها و أكملت:
ـ بيقول أنه كان يعرف نادر من السوق
دهش محمود وأضاف:
ـ يجوز يعرفه بس أنا معرفوش
لم يستطع إخفاء دهشته و هو يستوضح:
ـ مين ده و كان عايز إيه؟
أكملت نسمة تفحص البطاقة علها تفصح عن هوية صاحبها:
ـ كل اللي أعرفه اسمه
ـ و اللي متأكدة منه أنه جوز صاحبتي
أكملت بشرود:
ـ بيقول أنه صاحب نادر و جاي يعرض مساعدته
التقط محمود البطاقة من يدها يناظرها بتوجس:
ـ جوز صاحبتك ماشي، صاحب نادر جايز
مال برأسه يقرأ معلوماته المدونة ببطاقته:
ـ جاي يساعد! المية تكدب الغطاس
رفعت حاجبها دهشة من منطقه فأكمل و هو يشير بسبابته كأحد دروسه لها:
ـ اتعلمي تشتري من الناس و ماتبيعيش
اتشحت ملامحة بالجدية كمعلم يسقي تلميذته النجيبة خلاصة علمه:
ـ خدي من اللي قدامك اللي تقدري عليه و متديش غير اللي عايزة تديه
وضع البطاقة جانبًا بحافظة البطاقات و هو يكمل:
ـ عمومًا مش محتاجين مساعدة بس السوق يجبرنا نشتري منه
فهمت نسمة منطقه بإعجاب، فإن كان حسام صادقًا بالمساعدة استفادت منه و إن كان لديه غرضًا آخر فمراقبة أفعاله ستمكنها من اكتشافه.
***
عندما يغادرك شطر من روحك تفقد حساب الزمن و تتحول الأيام لساعات من حزن تقضيها في انتظار اللقاء مجهول الموعد، تساوت لديها الأيام بالكاد تقتات ما تقيم به جسدها فصغيرها الأثير الذي رعته طفلًا فمراهقًا لا يخلو من بعض التهور ثم شابًا مندفعًا للحياة حتى صار رجلًا ملئ الأبصار فإذا بالدنيا تضن عليها به، أخرجها من شرودها صوت باب شقتها الذي فُتح لحظات وكان بكرها يقترب بخطواته من غرفتها التي تلازم فراشها منذ الحادث ولا تتركه إلا للصلاة، اقترب مدحت وانحنى يقبلها بود ثم جلس على مقعد مجاور للفراش، بعد السلام المعتاد لم يستطع كبح لومه لأمه:
ـ أنا مش موافق على اللي عملتيه يا أمي
حدجته درية بنظرة خبيرة بنفسه، تحفظ ولديها عن ظهر قلب و يكاد قلبها يجزم أن وصية صغيرها بسبب خوفه على صغاره من نفس أخيه ومن خلفه زوجته الأمارة بالسوء، فبعد جلسة المحامي واسترجاعها للحديث أدركت أن وصية نادر كانت في اليوم التالي لزيارته لها، ملأت صدرها بالهواء تجيبه:
ـ أنا مش هاخد من الدنيا قد اللي خدته
حولت نظرها عنه تشرد بأسى:
ـ بس ولاد أخوك لسه العمر قدامهم
مال بجسده ناحيتها و هو يؤكد:
ـ ما هو علشان ولاد أخويا مكانش ينفع تعملي كده
التفتت إليه مستفهمة تحاول استنباط صدق نيته:
ـ قصدك إيه؟
كز على أسنانه يؤكد على كلماته برفق:
ـ قصدي أن نسمة بكرة تنسى و مش بعيد تتجوز
استند بظهره للمقعد يكمل بث سمومه:
ـ ساعتها يبقى بيت نادر وولاده و فلوسه راحوا لواحد غريب
انقبض قلبها لفكرة أن يحل آخر محل ولدها ببيته و بين زوجته و أولاده، تهدج صوتها بحزن تحاول نفي تخوفه:
ـ نسمة عاقلة و أخوك كان واثق فيها
مط شفتيه امتعاضًا يجادلها بالمنطق:
ـ كان واثق فيها لما كانت مراته لكن دلوقت....
نهض يتجول بالغرفة و هو يكمل:
ـ هتصبر قد إيه سنة، اتنين، تلاتة
التفت لأمه يلوح بذراعه في الهواء بنفاد صبر:
ـ لو قالت هتجوز ما حدش هيقدر يعارضها
طرحت درية ظهرها للخلف تستند لفراشها و أغمضت عينيها ألمًا:
ـ ما تسبقش الأحداث
فتحت عينيها و الكلمات تكاد تخنق روحها:
ـ حتى لو اتجوزت في يوم، فدي فلوس ولادها ما حدش هيخاف عليهم زيها
جلس مرة أخرى جوار الفراش و نبرته تستعطف أمه في محاولة لأقناعها:
ـ بس لو كان ليكِ نصيب في الفلوس دي ساعتها نقدر نحمي فلوس الولاد
التفتت إليه بملل من حديثه فقد وصل لبيت القصيد، المال:
ـ فات أوان الكلام ده أنا خلاص اتنازلت للولاد
أمسك مدحت بكف أمه برفق يربت عليه و يمنحها الأمل الذي جاء من أجله:
ـ اتنازلتي عن نصيبك كهبة للولاد و من حقك ترجعي فيها
سحبت كفها من يده بعنف حانقة على تفكير ولدها، كيف تحول لذلك الخبيث و كيف أنجب رحمها مثله فولديها أبلغ تعبير عن المثل الشائع "البطن قلابة"، أشاحت بنظرها عنه تجيبه بحسم:
ـ أنا مش هرجع في حاجة و آخر مرة تتكلم في الموضوع ده
ود بجدالها مرة أخرى فأشارت له بسبابتها محذرة:
ـ لو هتتكلم في نفس الموضوع هعتبر ولادي الأتنين ماتوا
وانخرطت في البكاء فما يتحمله قلبها العليل يفوق طاقته بمراحل.
لان قلبه لبكائها وانتقل لجوارها يحتضنها مربتًا برفق و يهمس بأسفه:
ـ خلاص طالما دي رغبتك
***
الأب هو رجل ابنته الأول، حبها و أول فارس لأحلامها و فارسها كان دومًا الغائب الحاضر و إن اقترب أكثر في عامها الأخير بفعل انتقال عمله للقاهرة بعد سنوات اغتراب قضاها بعيدًا عنها، قرب عدته متأخرًا فقد كيفت حياتها وحيدة ووجدت بدائلها و إن لم تضاهيه قربًا وحبًا، كانت كعادتها بعد تدريبها تجلس مع صديقها المُقرب الذي بات الأوحد، و في نفس موعده تماما بعد نهاية عمله هاتفها:
ـ ألو بابي خارجة أهو
أتاها صوت فارس الحنون يطلب منها عدم الخروج
ـ أنا في النادي قلت نتغدى مع بعض
سمعت كلمته فحملت حقيبتها مهرولة خارج المدرجات الفارغة، قابلها فارس عند بوابة الملعب فاحتواها مقبلًا وجنتيها بلطف، دار بنظره في الملعب فلم يجد سوى أحدهم جالسًا بالمدرجات، أمعن النظر فأدرك أنه ليس المدرب فسألها:
ـ خلصتي من أمتى؟
لاحظ ارتباك صغيرته، تركها تجيب و لم يعلق:
ـ من شوية
عاد بنظره للشاب بالمدرجات و سألها صراحة:
ـ مين ده؟
نظرت صوب لؤي و من ثم عادت بنظرها لوالدها بارتباك:
ـ لؤي زميلي
لم تقنعه إجابتها لكنه آثر الصمت و التحقق فيما بعد بطريقته الخاصة:
ـ طب يالا نتغدى
دلفا مطعم النادي و بعد طلب الطعام تطلع فارس لصغيرته، حالها لا يرضيه، حياتها مرتبكة، ساعاتها الطويلة التي تقضيها خارج المنزل تؤرقه دون قدرة على معرفة السبب:
ـ لمى ممكن تعتبريني صاحبك مش بابا
رفعت لمى نظرها لفارس، لأول مرة تشعر بقربه لهذه الدرجة:
ـ أكيد يا بابي
مد كفيه يحتوي كفيها يربت عليهما بحنان:
ـ يبقى تفتحيلي قلبك
ضم كفيها أكثر يشدد عليهما بدعم حقيقي:
ـ ما بتحبيش تروَحي ليه؟
أخفضت نظرها دون إجابة بينما هو يكمل:
ـ قوليلي السبب الحقيقي اللي يخلي بنت زيك تهرب من بيتها بالساعات
انفجرت الصغيرة بالبكاء فجأة فانخلع قلب فارس، انتقل للمقعد المجاور لها و سحب رأسها لصدره، وهي نطقت من بين شهقاتها:
ـ مش بيتي يا بابي
أبعد رأسها قليلًا ينظر بعمق عينيها:
ـ ده بيت مامتك يعني بيتك
هزت لمى رأسها نفيًا وأكملت بصوت متقطع:
ـ ده بيت أنكل حسن وولاده
زاد بكاؤها و هي تتذكر البيت الوحيد الذي اعتبرته ملكًا لها:
ـ بيتي هو اللي كنت عايشة فيه و أنا صغيرة
شردت قليلًا تسترجع تلك التفاصيل التي افتقدتها:
ـ سريري و لعبي و حياتي مع مامي، أجازتك اللي كنت بعرف أحسبها قبل ما أتعلم الأيام
أعاد الصغيرة لحضنه مرة أخرى، يؤنب نفسه على غفلته عن معاناتها كل تلك السنوات:
ـ ليه مقلتيش الكلام ده قبل كده؟
مسحت لمى الدموع عن إحدى وجنتيها و هي تجيب بحسم:
ـ حضرتك كنت مسافر
صغيرته محقة، أين كان طوال تلك السنوات، بعمله وما النفع إن أضاع أجمل سنوات عمرها و هو غائب:
ـ البيت ده لسة موجود و هيفضل بيتك طول عمرك
أعادها لمقعدها و احتوى رأسها بين كفيه يمسح دموعها بأنامله مطمئنًا:
ـ اللي يريحك هو اللي هيحصل
أنهيا وجبة الغداء ثم استقلا السيارة في طريق عودتهم، انحرف فارس في اتجاه منزله بينما يخبر لمى بهدوء:
ـ كلمي ماما قوليلها أنك هتباتي عندي النهاردة
أطاعته الصغيرة و هاتفت أمها التي ارتفع صوتها على الطرف الآخر ليصل فارس الذي جذب الهاتف من يد لمى وأخبرها بحسم:
ـ لمى هتبات معايا النهاردة
اعترضت أحلام بانزعاج فعاجلها فارس:
ـ بنتي و ليَ حق فيها زيك و أكتر
ثم أغلق الخط بوجهها دون أن يترك فرصة لردها، التفتت لمى لفارس تناديه برفق:
ـ بابي
منحها نظرة مستفهمة ثم عاد إلى الطريق أمامه لتوضح:
ـ أنا مش معايا هدوم أبات فيها
ابتسم فارس بحنان و مد يده يعبث بخصلاتها:
ـ ولا يهمك نعدي نشتري أحلى بيجامة
نفذ فارس ما عزم عليه وما إن دلفا للمنزل حتى تدفقت ذكريات الصغيرة مرة أخرى، دلفت غرفتها السابقة و جلست على الفراش الصغير الذي ضاق على جسدها تتحسسه بشوق لأيام عاشتها سابقًا، لاحظها فارس فمازحها:
ـ كبرتي على السرير يا لومي
ـ محتاجين نشتري غرفة أميرات بدل الأطفال دي
ضحكت لمى بسعادة حقيقية:
ـ بس دي أنا بحبها
تقدم فارس منها يطبع قبلة على جبينها بحب:
ـ وأنا معنديش أغلى منك
تركها تبدل ملابسها و دلف يعد بعض الشطائر للعشاء، طرق باب الغرفة بخفوت فلم ترد، دلف فوجدها قد انكمشت بالفراش الصغير تغط في نوم عميق، وضع ما بيده جانبًا و دثرها جيدًا و من ثم حمل صينية العشاء و خرج مغلقًا الباب و هو ينوي ألا تعود صغيرته لبيت تكرهه مرة أخرى.
***

هي مزيج من قوة و ضعف
عبق الماضي و سحر الحاضر
انثى حظيت من كل فضيلة بنصيب
وضعت هدفها صوب عينيها و خطت نحوه بثبات، أنهت محاضرتها للفرقة الثانية و تركت المدرج في طريقها لمكتبها، وجدته بانتظارها خارج المكتب بهيئته التي باتت تداعب خيالها فتنهره على فعلته، ابتسم بوقار يحييها فردت تحيته بمثلها:
ـ دكتور ماهر في ملاحظات كتير على جزء الرسالة اللي حضرتك سلمته
انحنى قليلًا و هو يجيبها:
ـ طيب اسمحيلي أعزمك على فنجان قهوة و نتكلم في الملاحظات
فتحت باب مكتبها هروبًا من نظراته المربكة لكيانها:
ـ هطلب القهوة في مكتبي
دلف خلفها غرفة المكتب وهو يكمل عرضه:
ـ هنشربها على حسابي
جلست خلف مكتبها تذكر نفسها بموقعها و بالمسافات الآمنة التي أحاطت بها قلبها طوال سنوات عملها و لم تعقب على عرضه، بعثت بطلب القهوة ثم فتحت أحد الأدراج تخرج رسالة الدكتوراة الخاصة به، جلس ماهر أمام المكتب باحترام حقيقي يستمع لملاحظاتها، تارة ينظر حيث تشير في الأوراق ثم تخونه عيناه فتغرق بخصلاتها التي جمعتها خلف رأسها برسمية بحته تارة أخرى، أكملت ما تقول و رفعت عيناها فاصطدمت بخاصته المتفحصة تأسرهما في نظرة خاصة لم تواجهها قبلًا، أخفضت نظراتها تفر من أسر عينيه و أكملت بعملية تجيد التمسك بها:
ـ دي كل الملاحظات، اشتغل عليهم
التقط الملف من يدها و أكمل ارتشاف قهوته ثم انصرف بهدوء، تنفست الصعداء وكأنه بانصرافه قد أطلق سراح روحها، فلملمت حاجياتها وانصرفت تنهي يومها.
بموقف السيارات الخاص بأعضاء هيئة التدريس لمحته مرة أخرى يهم بركوب سيارته، تجاهلت وجوده واستقلت سيارتها التي ارتفع صوت محركها بعد أن فشلت في إدارته، اقترب ماهر يستوضح ما يحدث، أشار لها بفتح زجاج السيارة فاستجابت وحين علم بتعطلها قدم عرضه:
ـ اتفضلي يا دكتورة أوصلك
نفت بهزة رأس معتذرة بلباقة:
ـ شكرًا يا دكتور هطلب أوبر
و أخرجت هاتفها تطلب عربة تُقلها، دقائق و كان السائق بانتظارها، قبل انصرافها طلب منها بلباقة:
ـ دكتورة ممكن مفتاح العربية؟
التفتت مستفهمة عن السبب فأوضح:
ـ هروح أجيب ميكانيكي يشوفها
استجابت بخجل لعرضه وضعت المفتاح بيده وهي تؤكد:
ـ شكرًا يا دكتور، بعد إذنك التكاليف عليا
التقط المفتاح و دسه بجيب بنطاله وهو يمنحها إحدى ابتساماته الساحرة:
ـ مش هنختلف يا دكتورة
ثم انصرفت وتركته قد عقد العزم على خطوته القادمة.
***

العائلة بحياة البعض نعمة لا تُقدر بثمن و بحياة آخر قد تكون أعظم نكباته، وهو طالما كره بيت عائلته و لولا حاجته لإمضاء والده على أوراق هامة لانتظر حتى يلقاه باليوم التالي.
دلف للفيلا التي تسكنها عائلته فقابلته شقيقته نيروز أو ناني كما تفضل أن يناديها الجميع صافح شقيقته الجالسة بصالون الفيلا باسترخاء تعبث بهاتفها بلامبالاة للأصوات المرتفعة بمكتب والدها، أتاهما صوت والدتهما واضحًا:
ـ مش كل مرة هسكت على نزواتك
تعالى صوت والدهم بوضوح:
ـ أنت شاغلة دماغك بيَ ليه
أشار لغرفة المكتب بنفاد صبر و سأل شقيقته:
ـ بيتخانقوا من أمتى؟
عادت لاسترخائها على الأريكة تعبث بخصلات شعرها المصبوغة بالأشقر:
ـ شهيرة هانم اكتشفت صديقة جديدة للوالد امبارح
حدجت باب المكتب المفتوح بلا اهتمام:
ـ بس المواجهة سخنت الصبح
وصلهما صوت ضحكة شهيرة هانم تصدح بالفيلا بينما توبخ والدهما:
ـ أنا شاغلة نفسي ببريستيجي
جلست على أحد الأرائك ترفع ساقًا فوق أخرى و تكمل:
ـ شكلي يبقى إيه لما يعرفوا أن مهران بيه جوز شهيرة هانم مصاحب بنت local
هدأ صوت مهران مهادنًا:
ـ ما تقلقيش ياهانم ما حدش هيعرف
رفعت أنفها عاليًا و هي تحذره بسبابتها:
ـ لو زودتها أنا أقدر أنهيك و أرجعك شحات زي ما عملتك بفلوسي
لم يتحمل حسام الاستماع لباقي الشريط الذي حفظه عن ظهر قلب فشجاراتهما لازالت على حالها لسنوات، دلف لحجرة المكتب يقطع حديثهما:
ـ آسف أني هعطلكم
مد يده بالأوراق التي يرغب بإمضاء والده عليها، فوصلته سخرية شهيرة:
ـ طبعا جاي تنقذه ما أنت كمان بتحب ال local
أكملت سخريتها و هي تناظره من أعلى لأسفل:
ـ بدل ما تروح تناسب الباشوات رحت جبتلنا بنت فقيرة معرفش جبتها منين.
أنهى مهران إمضاء الأوراق فلملمها حسام بعجالة في حقيبته بينما مهران يسأله:
ـ أنت رجعت من السفر أمتى كان قدامك يومين
أجابه حسام بهدوء و هو يستعد للرحيل:
ـ خلصت شغلي و رجعت من 3 ساعات
حمل حقيبة أوراقه و عند باب المكتب التفت لوالدته:
ـ آسف يا شهيره هانم ما عنديش وقت أسمع محاضراتك
وانصرف بعجالة كارهًا المكان بمن فيه، هو يكره تسلط والدته على والده و ضعف والده الدائم أمامها، يتعجب إن كانت والدته لا تستطيع تجاوز حقيقة أن والده كان موظف لدى والدها قبل أن يتقدم لخطبتها، إن كانت تعمد لتذكيره دائمًا بفضلها وأنه لولا مال عائلتها لما استطاع الحياة بين رجال الأعمال، لمَ وافقت من الأساس على الزواج منه طالما تعمد لإهانته، لقد عاهد نفسه منذ الصغر ألا يسمح لها بالوقوف موقف ضعف مهما كانت الأسباب، تسلح بالقوة، المال الذي أنماه والده لسنوات ووطد علاقاته بأصحاب النفوذ، حتى حينما رغب بالزواج اختار من تقل عنه بكل شيء حتى تظل له الأفضلية دائمًا.
أنهى عمله و عاد لمنزله، فتح باب البيت بهدوء و دلف ببطء ليصله صوت ضحكات رجولية بصالة البيت، وقف قليلًا يستمع للحديث فأتاه الصوت بوضوح:
ـ أنت هتولدي أمتى؟
ثم صوت زوجته يرد بارتياح:
ـ قدامي شهرين و نص تقريبًا
تقدم بخطوات متمهلة يطرق السمع لصخبهما و الغضب يعصف بكيانه، وقف خلفهما و هما متجاوران على الأريكة، يتناولان حبات الفُشار أمام أحد الأفلام الكوميدية غافلان عن البركان المتفجر برأسه، استند بكفيه لظهر الأريكة و بهدوء ما قبل العاصفة نطق:
ـ مساء الخير
قراءة ممتعة
اهل حسام هما سبب ازمته منهم لله بجد


samar hemdan غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس