عرض مشاركة واحدة
قديم 05-09-20, 11:15 PM   #27

heba nada

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية heba nada

? العضوٌ??? » 460821
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 202
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » heba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond reputeheba nada has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل العاشر

هي غصن ضعيف انكسر عن فرعه بغتة فسقط في المحيط تلطمه الأمواج من كل صوب ويلتحف بالسماء وعليه لعب دور القارب لينجو بمن فيه.
***

لسنوات عاشت بقوقعتها جدران منزلها تحدها من كل جانب وهي ممتنة لها، أقصى ما وصلت له قدماها نزهة مع زوجها أو سفرة بين حين وآخر ولم تضجر بذلك يومًا حتى تفتحت عيناها على الواقع التعس، أُلقيت ببحر الحياة عنوة و عليها السباحة رغم جهلها،
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، حملت الأنباء الآتية من ميناء دمياط مزيجًا من التوتر والارتباك، فصورة الفاتورة التي بعث بها المستخلص إلى محمود تخالف تمامًا تلك الأصلية التي كانت بحوزته وحصل بموجبها على كافة الموافقات اللازمة للاستيراد مما يعني أن تلاعبًا قد حدث خلال رحلة الفاتورة من مكتبه إلى يد المستخلص الأمر الذي يشي بوجود جاسوس بينهم لا يعلمون هويته وإن كان يستطيع الجزم بهوية من يعمل لصالحهم هذا بالإضافة لتعنت موظفين الجمارك الواضح ضد شركتهم و كأن يدًا عليا تعبث بكل شيء للوقوف ضد محاولاتهم للنجاة،
غرفة عمل كونها منذ الصباح جمعته بنسمة المدعية للتماسك رغم انهياراتها الداخلية التي باتت لا تُحصى وخط اتصال مفتوح مع المستخلص وآخر مع الموردين بالخارج حتى يستطيع الحصول على فاتورة أخرى أصلية كتلك التي اختفت ولا يعلم كيف وأين؟ الأمر الذي قد يستغرق خمسة أيام على أقل تقدير، هم بحاجة فقط لتجميد الوضع لتلك المهلة حتى يتسنى لهم تقديم الفاتورة الجديدة بديلًا عن تلك المزورة، ومع تعنت الموظفين بات عدم تحريك دعوى التهرب الجمركي ضدهم ضربًا من الخيال، عبث محمود بحافظة البطاقات بحثًا عن وسيط ربما استطاع مساعدتهم لتسقط أمامها تلك البطاقة التي أهملتها منذ زيارة صاحبها، التقطتها تعيد قراءة بياناته بينما محمود يجري اتصالات عدة بأناس تجهلهم جميعا.
انتبهت على زفرته الغاضبة يضرب الحائط بقبضته يأسًا، رفعت نظرها إليه تستفسر:
ـ في إيه؟
التفت يواجهها والعجز عن مساعدتها يكبله:
ـ اتصلت بكل اللي ممكن يساعدونا
تهدلت كتفاه بقنوط وألقى بجسده على المقعد أمام مكتبها:
ـ مفيش حد قِبل، اللي اعتذر إنه ميعرفش حد واللي قالها صراحة مقدرش أدّخل اسمي في مشاكل
هكذا يخبرها أنهم باتوا بين مطرقة التهرب الجمركي وسندان غرامات عدم التوريد، يكمل رسم الصورة القاتمة لما ينتظرهم:
ـ البضاعة دي لو مخرجتش من الجمرك فيها نهايتنا
تطلعت إليه بذهول و أخفضت نظرها تجاه البطاقة تهمس بحيرة:
ـ تفتكر ممكن يساعدنا؟
انتبه للبطاقة التي تحملها وجذبها يعيد قراءتها مرة أخرى قبل أن يضيف:
ـ مفيش قدامنا غير إننا نحاول في كل الطرق
مد كفه يعيد البطاقة إليها:
ـ كلميه
التقطت البطاقة بارتباك وكفها تمتد للهاتف تضغط الرقم بينما محمود مد كفه يمسك بالهاتف قبل أن يجيب الآخر:
ـ افتحي ال speaker
وهي استجابت تتعلق بقشة نجاتها حين أتاها صوته الأجش على الطرف الآخر تنطق بما يمليه عليها محمود كتابة أمامها فتشرح له الوضع بدقة محاولة الحفاظ على ثبات صوتها رغم ارتعاشتها، والآخر كان مُرحبًا رغم مفاجأة الاتصال يؤكد قدرته على حل المعضلة:
ـ ما تقلقيش، أنا كنت مسافر بكرة، ابعتيلي رقم المستخلص وأنا ليَ معارفي هناك
تسلل بعض الأمل إليها و قرأت سريعًا ما خطه محمود:
ـ شكرًا يا باشمهندس
ثم اتبعت بتقرير؛ عيناها تسأل محمود و هو يجيبها بسبابته أن نفذي:
ـ باشمهندس محمود كمان مسافر بكرة و هيقابلك هناك
زفرت أنفاسها المحتبسة بعد أن أنهت الاتصال تتطلع إلى محمود بتساؤل:
ـ أنت فعلا هتسافر؟
التفت إليها يجيبها بمنطقية:
ـ لازم؛ مش معنى إنه وافق يساعدنا أننا نفوضه في كل حاجة
التقط مفاتيحه عن المنضدة وهم بالمغادرة:
ـ ألحق استعد للسفر هكون معاه خطوة بخطوة
وتركها خلفه تسأل الله النجاة من مأزقها، تُفكر بماهية الجاسوس بينهم، من يكون وإلى أي مدى يستطيع الإضرار بمصلحتهم وكيف السبيل لاكتشافه،
على الجانب الآخر كان حسام لا يزال غير مصدق أنها طلبت عونه، تلك التي لا يعلم لمَ هي بالتحديد قادرة على الوصول لمنطقة لم تطأها غيرها، صوتها المرتعش رغم ثباته، اهتزاز كلماتها رغم قوتها تثير داخله النزعة لمساعدتها وهو ما عزم عليه حتى دون طلبها، من الآن فصاعدًا سيبسط شراع حمايته فيظللها وشركتها
***

هي زهرة كانت تنتظر نسمات الربيع لتتفتح، منذ داعب أنوثتها بطلبه ونفسها تهفو لحلم أجلته طويلًا، عادت من سفرتها بعد تجنب لقاءه للأيام المتبقية، اعتزلت الجميع بغرفتها ليومين في إجازة بين كتبها وأبحاثها متجاهلة الرد على اتصالاته ورسائله التي لم يكف فيها عن طلب موعد مع والدها وهي بعد استجماع أفكارها كانت تحتاج لحكمة مرشدها الأول، دلفت غرفة أبيها الذي وجدته يتصفح إحدى الجرائد مرتديًا عويناته الخاصة بالقراءة، اقتربت منه تجلس على حافة الفراش المجاور لمقعده وهو طوى الجريدة خالعًا عويناته ورفع نظره لها مبتسمًا بحنان، لاحظ ترددها في البوح وهو ما لم يعتده بابنته فبدأها بالحديث:
ـ يا ترى إيه الموضوع اللي خلى الدكتورة مترددة كده؟
رفعت عينيها لأبيها الذي يفهمها كعادته دون كلمات و صرحت بوضوح:
ـ في واحد زميلي عايز يتقدملي
أمعن السيد رفعت النظر بابنته يسبر أغوارها في محاولة لاكتشاف سر ترددها:
ـ ده خبر كويس، كملي سبب قلقك
ضحكت بخجل تضرب كفها بالأخرى عجبًا من والدها القادر على كشف خباياها:
ـ أصغر مني بسنة و أنا المشرفة على رسالة الدكتوراه بتاعته
انتقل والدها إلى جوارها يحيط كتفيها بذراعه ويساعدها على ترتيب أفكارها بدعمه كعادته دومًا:
ـ بنتي اللي رفضت عرسان ميتعدوش وسمعت تلقيح وكلام مالوش لازمة بعدد شعر راسها مش ده اللي يقف قصادها
رفعت نظرها لوالدها فأكمل بحكمته:
ـ لو قلتي ليَ إنك رافضة لأنه مش مناسب أو إنك مش مرتاحة للشخص كزوج هقولك حقك
هزت رأسها إيجابًا تعلم صواب منطقه وتحتاج لخبرته:
ـ رأي حضرتك إيه؟
ربت بكفه الأخرى على وجنتها وهو يمنحها ما أتت تطلبه:
ـ أقعدي معاه و احكمي على الشخص نفسه بدون أي اعتبارات تانية
وعنها فقد طابت نفسها بعد أن أعاد والدها ترتيب فوضى أفكارها، دلفت غرفتها وبعثت برسالة نصية للمنتظر بلهفة كانت تحوي شيئًا واحدًا؛ رقم والدها.
وبعد يومين كان ماهر يدق باب بيتها في زيارة تعارف أولى بينه و عائلتها، دلف يحمل باقة كبيرة من زهور الأوركيدا البيضاء وعلبة فاخرة من الشيكولا، استقبله والدها بوقار في جلسة عائلية جمعتهما مع ريم ووالدتها، تنحنح ماهر يجلي صوته وهو يوجه كلماته للسيد رفعت بإكبار:
ـ أنا يشرفني أطلب من حضرتك إيد دكتورة ريم
عقد أصابع كفيه ينحني للأمام قليلًا ولم تحد عيناه عن السيد رفعت يكمل كلماته باحترام:
ـ أنا عندي الشقة وحضرتك عارف طبعًا شغلي لكن حابب أوضح باقي ظروفي
التقط السيد رفعت طرف الحديث:
ـ اتفضل يا دكتور
أكمل ماهر وكلماته تشي بتقديره الحقيقي لمن أمامه:
ـ بالنسبة للجواز للأسف مش قبل سنه، أنا كل إمكانياتي حاليًا موجهة للدكتوراه وعلشان أكون جدير بالجواز من الدكتورة محتاج وقت
هنا تدخلت والدة ريم فالحديث بدأ في اتخاذ منحى لا يروقها:
ـ طيب يا دكتور طالما حضرتك مش جاهز ليه تتقدم دلوقت؟
نظرة اختطفها سريعًا من ريم المراقبة للحديث قبل أن يلتفت إلى والدتها:
ـ أنا وريم بنتعامل يوميًا مع بعض و الحقيقة ما كانش ينفع أول ما حسيت بإعجابي بيها إني أتأخر عن كده
عاد بنظره للسيد رفعت يوضح مقصده:
ـ وضعنا بين زمايلنا والطلبة كان يحتم عليَ إني أخلي ارتباطنا رسمي بأسرع وقت، ده بعد موافقة حضرتك طبعا
ابتسم السيد رفعت بإعجاب واضح قبل أن يجيبه:
ـ كبرت في نظري يا دكتور لكن الرأي النهائي لريم
ونهض يستأذن منه لبعض الوقت مشيرًا إلى زوجته أن تتبعه يسمح له ببعض الخصوصية مع تلك الصامتة التي التفت لها يحتويها بنظرة خاصة جديدة عليها تمامًا، يتأملها بحرية أخجلتها فأخفضت نظرها بينما هو يقرر:
ـ من النهاردة من حقي أبص لك براحتي
منحته رفعة حاجب مندهشة من جرأته الجديدة عليها:
ـ ليه أنا بالتحديد؟
عاد بظهره يستند إلى ظهر الأريكة ولم يفلت عينيها من أسر نظرته:
ـ ما اعتقدش إنك محتاجة إجابة وردية
إجاباته دائمًا غير متوقعة لها وهو ما يزيد فضولها للقرب أكثر لكنها حافظت على صمتها وهو يكمل:
ـ ما انكرش إني معجب بشخصيتك وحاسس إن هيكون بينا تفاهم لكن الأهم إني بكون مرتاح و أنا معاكِ
مالت برأسها لليمين قليلًا تعيد كلماته بنفسها، ماهر هو في التسلل إلى عقلها و قلبها معًا، يجيد خطواته بدقة يُحسد عليها:
ـ ولو قلت موافقة..
صمتت تمنحه الأمل و تسمح له بإكمال ما بدأ وهو لم يتأخر:
ـ من بكرة نشتري الدبل، عايز الناس كلها تعرف إنك تخصيني
وهنا أخفضت نظرها خجلًا تبتسم بنعومة وكانت تلك البداية...
***
إن لم تكن من الذئاب فعليك بمكر الثعالب لتأمن غدرهم
بعد انصراف محمود مبكرًا جلست تسترجع كل ما مر عليها منذ استلمت العمل بالشركة، انصرف باقي الموظفين تباعًا و كانت أُخراهم سكرتيرتها أروى التي دلفت تطلب الإذن بالمغادرة:
ـ روحي أنت يا أروى أنا قدامي شوية
ودعتها أروى بعملية لتبقى وحيدة بالشركة كما عزمت منذ الصباح، هاتفت أخاها تدعوه للحضور وهو لم يتأخر، بعد نصف الساعة كان أمامها بمكتبها لأول مرة ولا يعلم ما تريده، وهي لم تتأخر في الإفصاح عن هدفها:
ـ في حد بدل فاتورة لينا بواحدة تانية مزورة
اقتربت من أخيها تستجديه العون:
ـ الحد ده أكيد من جوة الشركة و لازم أعرف هو مين
التفتت تفتح الحاسوب وتدير شاشته ليراها رائد:
ـ نادر مركب كاميرات في كل حته بس أنا ما بفهمش في الحاجات دي
اقترب رائد من الحاسوب وقد فهم ما تريده شقيقته:
ـ وعايزة ترجعي تسجيل الكاميرات علشان تعرفي مين الخاين
فرقعت نسمة بأصابعها وقد علمت أن رائد أفضل من يعينها في تلك اللحظة ليس فقط لأنه شقيقها و لن تثق في شخص مثل ثقتها به ولكن لأنه أحد أفضل مُبرمجي الحاسب الآلي بشركته متعددة الجنسيات فشقيقها الذي يصغرها بثلاث سنوات عبقري حقيقي في مجاله مما منحه الفرصة للترقي في فترة قصيرة وتقلُد منصب نائب رئيس فرع الشركة بمصر، انتبهت على صوت شقيقها يسألها:
ـ الملف كان فين وامتى تقريبا
أشارت على الشاشة حيث يقع مكتب محمود و هي توضح:
ـ كان في المكتب ده، اتسلم للمستخلص من ثلاث أيام
ضغط رائد أزرار الحاسب يعيد التسجيل لما قبل تلك الثلاث أيام، عاد بالشريط المسجل حتى أسبوع مضى ولا شيء غير طبيعي يحدث في المكتب أو في الرواق المؤدي إليه، التفت لنسمة بعد ساعات من مراجعة التسجيل:
ـ إيه اللي خلاكي متأكدة أنها اتبدلت هنا؟
طالعته نسمة باستفهام بعد أن أرهقها هي الأخرى متابعة التسجيلات الرتيبة:
ـ قصدك إيه؟
عاد رائد بظهره للخلف يطيل عضلاته بعد تيبسها طويلًا أمام الحاسب:
ـ لية ما تكونش اتبدلت عند المستخلص؟
بادلته نسمة سؤال بآخر:
ـ و إيه مصلحته؟
مسح رائد وجهه بكفيه في محاولة لاستعادة تركيزه:
ـ مش لازم يكون ليه مصلحة، ممكن يكون الجاسوس في مكتبه مش هنا
هزت نسمة رأسها إيجابًا و قد تملكها اليأس من معرفة الخائن، انتبهت على انتفاضة رائد الذي اقترب من الحاسب يعيد أحد المقاطع مرارًا حتى يتأكد مما وجده، تطلعت نسمة للمقطع الرتيب دون فهم لما قد يمثله من أهمية حتى أشار رائد للتوقيت أسفل الشاشة وهي لم تدرك مقصده:
ـ مش فاهمة!
أعاد رائد المقطع مجددًا وهو يشرح لها ما وجد:
ـ ركزي في التوقيت؛ التسجيل بيتخطى نص ساعة
التفتت نسمة لشقيقها بعد أن لاحظت ما أشار له و لازالت غير قادرة على فهم أهميته:
ـ وده معناه ايه؟
نقر على سطح المكتب بأصابعه يُحيي نفسه على ما وجده:
ـ معناه إن الكاميرات اتقفلت نص ساعة و اشتغلت تاني ودي فترة كافية لتبديل الفاتورة
التفت إليها وهو يحاول حصر الشك أكثر:
ـ وده معناه أن الخاين هنا وعارف إن في كاميرات مراقبة
حدجته بذهول عندما ضربها منطقه، ما توصل له لا يحصر الشك فقط بعدة أشخاص، انقبض قلبها لما توصلت إليه نتيجة لاستنتاج شقيقها الذي أكمل تأكيد شكوكها بسؤاله:
ـ مين عارف بالكاميرات دي غيرك
و الجواب ينحصر بمعدودين على الأصابع هي و نادر وآخر وحيد كان آخِر من تتوقع خيانته لكن لا متهم أمامها غيره بعد ما توصلت إليه كيف استطاع ادعاء دور المخلص بل كيف استطاع خداع نادر طوال تلك السنوات، رفعت نظرها لرائد بألم و هي تخبره بالاسم:
ـ محمود
***

ذنوب الماضي لا تسقط بالتقادم و الثمن واجب الدفع وإن تاب العاصي
نصف يوم قضاه على الأريكة بصالة بيته منذ حضر وابنته، لم يُغمض له جفن وهو يعيد على نفسه شريط ذكرياته مع طفلته منذ يوم ميلادها بل منذ اختار أمها زوجة، مرورًا بسنوات طفولتها الأولى بمنزله والأيام القليلة التي كان يقضيها معها وسط خلافات لا تنتهي مع زوجته وصولًا لانفصاله وأمها وتباعده قهرًا عنها؛ مرة بسبب طلاقه ومرات بسبب ظروف عمله حتى تحسن الوضع قليلًا في عامه الأخير بعودة عمله للقاهرة و تقاربه أكثر من ابنته إلى أن رآها بذاك الوضع المخجِل و كأنها قد غرست خنجرها بقلبه انتقامًا لكل لحظة من عمرها أهمل وجوده بحياتها، يعلم أن الصغيرة لا تتحمل اللوم وحدها وربما كان هو الجاني الأول وعليه تجرع نصيبه من العقاب.
أزاح ذراعه عن عينيه فغشيهم ضوء الشمس المتسلل من النافذة، تطلع بصعوبة لساعة الحائط فوجدها تشير للثالثة عصرًا، تحرك بتثاقل يجر قدميه حيث المطبخ وصنع بعض الشطائر لتلك الصغيرة التي لم يرَها منذ نهرها مساءً، حمل صينية الطعام و دلف غرفتها فوجدها بذات الملابس تحتضن ساقيها بوضع الجنين وجفنيها متورمين من أثر البكاء فليلتها لم تكن بأفضل من خاصته، زاد ألمه لهيئتها وإن أبى عقله التراجع عما عزم عليه، وضع صينية الطعام على المنضدة القريبة واتجه يزيح الستائر عن نافذة الغرفة وهو يخبرها باقتضاب:
ـ قومي كلي
فتحت جفنيها بصعوبة تتطلع إلى ظهر أبيها ترغب بالدفاع عن نفسها ولا تجرؤ؛ أتخبره أن الآخر مجرد صديق يملأ فراغ أيامها أم تقول أنها تفاجأت برغبته ولم يكن خيالها يصل حد أن يفرض الآخر نفسه عليها بتلك الفجاجة، أتراه سيصدقها إن أخبرته أنها كانت تقاومه وتحاول الهرب عندما حضر هو وأنقذها أم سيعتقد بسقوطها معه، تحركت ببطء ناحيته تحاول الاعتذار، رفعت كفها تلمس ذراع والدها وتهمس بخوف:
ـ بابي
التفت فارس يواجهها بألم وقد تحول بياض عينيه للأحمر، شياطينه تتراقص أمامه وقلبه يئن لدموعها التي لم تتوقف، أمسك عضدها بقسوة يسألها وقد أوشك صبره على النفاد:
ـ حصل إيه بينك و بينه؟
هزت الصغيرة رأسها نفيًا بعنف ونطقت من بين انهيارها:
ـ ما حصلش حاجة
نفض ذراعها وعاد يواجه النافذة وهو يلقي بأول قراراته:
ـ النادي ده مش هتدخليه تاني
صرخت لمى قهرًا تتعلق بذراع والدها ترجوه العفو:
ـ لأ يا بابي علشان خاطري
تعلقت كفاها بقميصه تتوسله عدم حرمانها من حلم تعيش له:
ـ أنا مستعدة لأي عقاب بس سيبني ألعب تنس
طالعها فارس بقناع جامد تمسّك به رغم قلبه الذي يدعوه لغمرها بأحضانه في هاته اللحظة، لكنه عزم على إكمال ما بدأ:
ـ رقمك هيتغير و لو اتصلتي بالصايع ده هعرف
هزت لمى رأسها موافقة وهو يكمل:
ـ مفيش خروج من البيت بعد كده غير معايا
أكملت الصغيرة هز رأسها إيجابًا، هي لن تعترض على أي قرار يتخذه والدها بخلاف تخليها عن حلمها:
ـ بس ألعب تنس يا بابي أرجوك
زفر فارس أنفاسه المحتبسة وابتعد ناحية باب الغرفة دون رد، توقف قليلًا قبل أن يخرج يكبح نفسه عن النظر ناحيتها حتى لا يفوز قلبه على عقله في معركته فيتراجع:
ـ أنا خارج و مش هتأخر
وأغلق باب غرفتها تاركًا المنزل بأكمله وأبوته تجلده لتلك القسوة التي يمارسها لأول مرة، بعض الشِدة ضرورية لتدرك الصغيرة حجم ما اقترفته من خطأ وعنها فقد واصلت انهيارها خوفًا من ضياع حلم وحيد كانت تعيش للوصول إليه، وحيدة هي تحمل على كتفيها الصغيرتين ذنوب لا قِبل لها بها، تتأرجح بين أبوين كلٌ في ناحية وحين ظنت أنها اقتربت من نيل بعض الحرية بالعيش مع والدها باتت مهددة بضياع حلمها، جلست على الفراش تضم ساقيها لصدرها و تهتز للأمام و الخلف في محاولة للسيطرة على غضبها دون طائل، لمحت الطعام ولم تستطع أن تقربه فما جدواه إن لم تقوى على اللعب مرة أخرى، عبثت بحقيبتها تخرج محتوياتها دون ترتيب حتى وجدت مبتغاها.
بعد ساعتين عاد للمنزل و قد عزم على إنهاء عقابه، يكفي صغيرته ما نالته منه حتى الآن وعليه احتواءها، وضع وجبة الطعام التي أحضرها ويعلم أن لمى تفضلها على المائدة وبدل ملابسه ثم عاد يطرق باب غرفتها دون رد، دلف فلاحظ الشطائر التي أعدها لم تُمس والصغيرة على الفراش، يبدو أنها قد نامت بعد ليلة بكاء، رق قلبه لحالها وعزم على إيقاظها لكنه تجمد حين اقترب من الفراش ولاحظ قطرات الدماء المتساقطة من قطعين بمعصمها.




الفصل الحادي عشر


وكم من جرح ترك ندبته بقلبك دون أن يمس جسدك
***

تجمد للحظات و هو يرى صغيرته الغافية وما أحدثته من جروح بمعصمها، انتابه الهلع مما قد تقدم عليه في غفلة منه، تقدم يجلس جوارها واحتضن معصمها براحة يده، قلبه ينزف وعيناه تتابع ملاءة الفراش الملطخة بدمائها، فتحت لمى عينيها بوهن تناظره بين غفو وإفاقة وعنه فقد بادلها بنظرة حزينة وصوته يقطر ألمًا يسألها برفق:
ـ من إمتى بتعملي cutting
ارتبكت الصغيرة عندما تسلل إليها الاستيعاب وألقت بنظرها على يد والدها التي تحتضن جروحها، علمت ألا مجال أمامها للكذب والحقيقة أنها لم يعد بها طاقة للمناورة:
ـ مش من زمان
يعلم أن شيئًا كهذا انتشر بين جيلها كوباء، تقليد أعمى أحيانًا أو رغبة في الانتقام من أنفسهم أو ذويهم لا فارق وربما محاولة لجذب الأنظار الأكيد أن صغيرته تعاني في صمت وعليه الانتباه من الآن فصاعدًا حتى لا يتحول الأمر إلى سلوك إدماني، تهدج صوته بحزنه يسألها مجددًا:
ـ ليه؟
سحبت معصمها من كف والدها واعتدلت تجلس مستندة إلى ظهر الفراش، شردت قليلًا بجروحها و أجابته بكلمة واحدة:
ـ برتاح
هز رأسه يحاول استيعاب ما تمر به صغيرته من ضغط و هو بكل قسوة زاده، نهض يغيب خارج الغرفة قليلًا ثم عاد ليحتل مكانه مجددًا، مد كفه إليها بمغلف علمت أنه خط جديد لهاتفها ثم منحها ورقة مطوية لم تفهم محتواها إلا حينما أوضح هو:
ـ دي مواعيد تدريبات التنس بتاعتك في نادي الشمس
فغرت لمى فاهها وطالعت والدها بأعين مشدوهة بمفاجأتها حين أكمل توضيح موقفه:
ـ أنا لما قلت إنك مش هتروحي النادي ده تاني ما كانش قصدي أحرمك من التنس
ترقرقت غلالة الدموع بعينيها تطالع والدها وهي لا تكاد تصدق ما تفوه به:
ـ بجد يا بابي
ربت فارس بكفيه على عضديها يهدهد خوفها ويؤكد على حلمها الذي بات يخصه منذ علمه منها:
ـ ما فكرتش أبعدك عن حلمك لحظة بس كنت زعلان منك يا لمى
اندفعت لمى تتعلق برقبة والدها وغمرته بقبلاتها تهمس بشكرها وأسفها وقد تساقطت دموعها لا تدري أدموع فرح لعودة حلمها أم حزن لما سببته لوالدها من ألم، ابتعدت قليلًا و أخفضت نظرها خجلًا وهي تنطق من بين دموعها ترغب في تبرئة ساحتها عله يغفر لها:
ـ أنا كنت ببعده لما حضرتك جيت، ما كنتش متوقعه إنه يعمل كده
تعلقت مرة أخرى برقبته وهي تشهق بدموعها وتهمس:
ـ آسفة
أحاطها فارس بذراعيه يضمها في دعم يمنحه لها واحتياج لضمتها التي حُرم منها شدد من ذراعيه حول جسدها رغبة في حمايتها يربت على ظهرها بحنان اعتذارًا عما اقترفه بحقها، هو لن يُحمل صغيرته مزيدًا من اللوم فهو أحق به وأمها حيث تركاها فريسة لوحدتها ولنذل علم كيف يستغل ذلك في التسلل لها:
ـ مصدقك
مسح على شعرها بلطف يبعد رأسها قليلًا فيحتوي عينيها و بإبهامه يمسح دمعة فارة عن وجنتها:
ـ بس عايزك توعديني وعد
انتبهت لما سيقوله ونظرتها تخبره بموافقتها المقدمة:
ـ أوعديني ما تأذيش نفسك تاني و أي وقت أنت مضايقة تتكلمي معايا وأكيد هنلاقي حل يريحك
هزت الصغيرة رأسها إيجابًا وابتسمت من بين دموعها وهي تؤكد:
ـ وعد
ربت فارس بكلتا كفيه على وجنتيها وأعاد مسح المتبقي من دموعها وهو يجذبها لتنهض معه:
ـ أنا ما كلتش من امبارح يالا ناكل
أطاعته الصغيرة بسعادة و جلست جواره تلتهم شرائح البيتزا وهو كان يطالعها وقد عادت بسمتها البراقة تضيء أيامه من جديد ليقسم أن يبذل ما بقي من عمره حفاظًا على تلك البسمة.
***
هل يجوز لأنثى أن تصبح كالنواة يدور في فلكها منجذبًا دون إرادة، كيف تجيد المزج بين قوة وضعف مغلف بالحزن وبسمة مرتسمة على الشفاه، لقد ضبط نفسه متلبسًا بحساب عدتها التي انتهت منذ أيام هل يود التأكد من وفائها لزوجها الراحل كأنه كان يراهن نفسه على احتفاظها بملابس الحداد كما يراها الآن أم رغبة داخله لا يعلم مصدرها تجبره على معرفة كل ما يخصها، أنّى لها بجمع كل تلك المتناقضات وإثارة مثلها بنفسه بمجرد رؤيتها.
منذ دلف مكتبها برفقة محمود بعد إنهاء مهمتهم الناجحة وهو مشدوه بكل ما يصدر عنها؛ همستها الشاكرة له بعد أن أرجع محمود الفضل لعلاقاته في تجميد الإجراءات حتى تقديمهم للفاتورة البديلة، التفاتاتها وحتى نظراتها لمحمود التي اختلفت وأثارت في نفسه الريبة، أنهى قدح قهوته وطالعها بهدوء يناقض زحام أفكاره حولها:
ـ شكرًا إنك فكرتِ تستعيني بيَ لما واجهتِ مشكلة
بادلته نسمة نظرة امتنان حقيقية بعد أن اطمأنت لنهاية الأزمة:
ـ الشكر ليك يا باشمهندس جميلك مش هنساه
نهض حسام يستأذن بالانصراف يحييها بلباقة:
ـ تليفوني معاكِ أي حاجة تحتاجيها ما تتردديش
ودعته نسمة بعرفان بجميله الذي طوّق عنقها، كان هو قشة نجاتها التي تعلقت بها للخروج من أزمتها ولم يخذلها، التفتت تتابع حديث محمود بتوجس وهو يوضح:
ـ علاقاته بالناس هناك قوية جدا، الكل بيعمل له حساب وده اللي نفعتنا
طالعته بصمت غير قادرة على تحديد خطوتها القادمة معه، منذ وفاة نادر وهو يبدي إخلاص حقيقي لم تشك به لحظة رغم تحذير نادر لها بعدم الثقة المطلقة بأي شخص، لا يوجد أمامها متهم غيره بعد ما توصل له رائد، كانت تنوي إنهاء عمله بالشركة لكنها فضلت الانتظار علها تتوصل لمن يعمل لحسابهم ويرغبون بالإيقاع بها، لعبة خطرة قررت خوضها بأن تحوي ثعبانًا ببيتها بغية أن تأمن سمه، تابع الآخر حديثه غافلًا عما يدور بعقلها:
ـ الشحنة قدامها يومين و تخرج هتصل بالعميل أحدد معاد للتوريد في أقرب وقت
ونهض متجهًا حيث مكتبه تاركًا الأخرى خلفه وقد بدأت متابعة كل تحركاته على الشاشة جوارها علها تمسك بطرف الخيط، تابعته حتى وصل مكتبه وطالع أحد الملفات بتركيز، مكالمة هاتفية أجراها سريعًا ثم أخرى واردة أغلق خلالها الملف بحوزته و فتح آخر يقلب في الأوراق حتى وصل لإحداها تتحرك أصابعه على الأسطر و كأنه يقرأ لطرف المكالمة الآخر، أنهى مكالمته والتقط صورة بالهاتف للصفحة أمامه التي لم تستطع تبين محتواها ثم وضع الملف جانبُا وعلى ما يبدو أرسل بالصورة المُلتقطة لشخص ما، هل تملك النجاة من لدغة الأفعى لمجرد معرفتها بها أم أن الأفعى قادرة على الالتفاف حول عنقها بنعومة حتى إذا ما واتتها الفرصة أزهقت روحها بغتة.
***
بأحد ليالي الشتاء الدافئة كانت على موعد مع يوم علمت أنه سيكون نقطة تحول بحياتها فمنذ أعلنت موافقتها على طلبه توقفت عن عد المرات التي أدهشها فيها، فبعد يومين كانت على موعد مع زيارة عائلته المكونة من والديه و شقيقة وحيدة تصغره، الزيارة التي كانت تتخوف منها و خاصة تقبل حماتها المستقبلية لها كزوجة لنجلها وهو ما بددته الأخرى بلقائها الودود، ويومان كان يفاجئها بمحبس نُقش عليه حروف اسمه ليبدو واضحًا من الخارج وسلسلة من الذهب الخالص يتدلى منها شكل قلب يحوي الحروف الأولى من اسميهما صنعت خصيصًا بطلب منه ليقدمها لها كهدية للخطبة يخبرها أنه يريد أن يعلن للجميع أنها باتت تخصه وحده، أيام قلائل أدهشها خلالها بحفظه لتفاصيلها عن ظهر قلب، نوع الشيكولا التي تفضلها ويجلبها يوميًا، كيف تحب قهوتها الصباحية وعدد ملاعق السكر التي تضيفها إلى كوب الشاي حين تلجأ إليه عقب محاضراتها؛ اكتشفت خلالها أنه بات يهتم بكل ما يخصها و اليوم كان ما حدده مع والدها للخطبة الرسمية؛ تزين بيتها بباقات الزهور في كل ركن وتصدرها باقة كبيرة من صديقتها نسمة التي اعتذرت عن الحضور متمنية لها السعادة مع وعد بحضور الزفاف، مكالمة صباحية تلقتها من هند التي اعتذرت أيضًا عن الحضور متعللة بتعب الحمل بينما ريم تعلم أنها تتجنب أي احتكاك مع زوجها لا تأمن عواقبه، صوت شادية يصدح بجنبات البيت من مُشغل الاسطوانات فرغم مئات الأغاني التي اشتهرت للخطبة والزفاف كان سماع أغنية شادية الشهيرة أمنية لها ولوالدتها التي ما تلبث أن تُقبلها حتى تعود فتحتضنها بسعادة غامرة، حضر ماهر مع بعض أفراد من عائلته بحلة كلاسيكية سوداء وقميص باللون الأبيض مع رباط للعنق باللون الأزرق الداكن؛ دلف وسط ترحيب أفراد عائلة ريم في انتظار العروس التي طلت بثوب باللون الأزرق الملكي يحتضن جسدها في رقي ينسدل فيضيق عند ركبتيها ويتسع في دوران رقيق، تتناثر على محيط الصدر حبات من اللؤلؤ الفضي تشكل جناحي طائر يلتقيان بمثلهما على الظهر ليرتفع على باقي الصدر والظهر قماش بذات اللون الأزرق من الشيفون يظهر قمحية بشرتها، شعرها رُفع لأعلى إلا من بعض الخصلات تنتشر على محيط جبهتها و عنقها وجُمع ليحيط به تاج صغير مكون من صف من اللآلئ الفضية منحتها إطلالة ملكة تتقدم في خجل وقور تتفقد الرعية، اقتربت بتمهل وسط مراقبة الحضور وعينيه التي تعلم أنها تلتهمها الآن وتهرب من ملاقاتهما، جلست جواره بعد مصافحة سريعة وتبريكات الأهل، تقدمت شقيقته تحمل ذهب الخطبة، نهض كل منهما فمد ماهر كفه يلتقط سلساله فيحيط به رقبتها، أتبعه بسوار من الذهب أعقبها بوضع محبسه في بنصرها و هي بادلته بوضع محبسه، التقط كفها يرفعها لشفتيه يطبع عليهما قبلة مطولة وهمس دون أن يصل صوته للحضور:
ـ مبروك عليَ

سحبت كفها سريعًا وتوردت وجنتاها خجلًا تخفض نظراتها لتفر من حصاره.
في اليوم التالي كان يجاورها بين زملائهم يتلقيان التبريكات بالخطبة ويوزعان قطع الشيكولا على أصدقائهم ابتهاجًا بارتباطهما، انصرف جموع المهنئين كلٌ إلى وجهته وهو أوصلها حتى مكتبها وانصرف إلى وجهته، في الرواق المؤدي لمكتبه التقى زميله عصام الذي قابله بابتسامة سمجة ومباركة مبطنة بالسخرية:
ـ مبروك، ضربة معلم
ضيق ماهر حاجبيه في غضب جلي و هو يستوضح مقصده أكثر:
ـ قصدك إيه؟
أشار الآخر بعينيه حيث باب مكتب ريم المغلق يكمل بث سمومه:
ـ لعبت على الوتر الحساس
لم يكمل جملته حتى وصله رد ماهر متمثلًا في قبضة يده تطيح بفكه مخلفة جرحًا بزاوية شفتيه:
ـ آخر مرة تجيب سيرة اللي هتكون مراتي على لسانك
أشار بسبابته وهو يحاول التقاط أنفاسه الغاضبة من بين كلماته:
ـ ده آخر تحذير ليك
وانصرف تشيعه نظرات الآخر الحاقدة وهو يمسح خط الدماء عن شفتيه.
***

رغم ما تلاقيه أقسمت أن تستمر حياة طفليها كما كانت في وجود أبيهما، تصحبهما ليومين في الأسبوع لتدريباتهما كما كان يفعل؛ فالصغير من هواة التايكوندو أما طفلتها فتعلم أنها ستكون أحد بطلات الاسكواش عما قريب، اتخذت أحد المقاعد بالنادي تمضي الوقت بقراءة رواية في محاولة للعودة لما تحبه حتى ينتهي الصغيران من تدريباتهما.
على بعد طاولتين كان هو على موعد غير متوقع مع حلم قديم عاد يراوده من جديد حيث وجدها تجلس منفصلة عما حولها تتوحد مع تلك الرواية التي تطالعها بكل تركيز تمتد يدها فتلتقط كوب عصير الليمون من أمامها فترتشف القليل دون أن تحيد عيناها عن السطور، وشاحها الأسود أحاط وجهها فزاد من جمال ملامحها وكأنه إطار للوحة بديعة من النعومة والحزن، قلبه يدفعه دفعًا للاقتراب عله يتمكن من طرق باب جنتها، قدماه استجابتا لنداء قلبه فتحرك كالمُسير نحوها، اقترب فتبين له عنوان الرواية التي تحتضنها بين أناملها "فاي" وتلك الجملة التي كُتبت تحته وهزت روحه "البعض يستحق أن يموت بآثامه، والبعض يستحق أن يحيا بها" وقلبه مُحمل بما يكفي من الآثام التي يحيا بها لسنوات، هل يمكن أن تصفح عما ارتكبه بحقها قديمًا فتحرر قلبه أم كُتب عليه أن يحيا ليتجرع ثمن ما اقرفه ويموت به، وصل أمام الطاولة فوقف بهدوء يناقض ثورة مشاعره وهو يلقي السلام:
ـ سلام عليكم
رفعت عينيها تطالعه بنظرات مبهمة سريعًا ما تعرفت على هويته رغم سنوات عدم اللقاء لكنه لم يختلف كثيرًا عما مضى، تراجعت منابت شعره البني قليلًا من الجانبين وانتشرت شعيرات بيضاء على استحياء بفوديه، قمحية بشرته ازدادت دكنة لتزيد من وضوح زيتون عينيه ورغم تقدم العمر لازال يحتفظ برشاقة جسده الرياضي، ابتسامة فاترة رسمتها على شفتيها وهي تجيب السلام:
ـ وعليكم السلام
وعنه فلحظة التقاء نظرته بخاصتها سقطت بقلبه فزادت من أسره الذي لم يتحرر منه منذ زمن:
ـ البقاء لله
أغلقت الكتاب ووضعته على الطاولة وهي تجيبه، ذكرياتها البعيدة عنه تلاشت بفعل الزمن، حتى جرحها القديم الذي تسبب به و عانت أثره لعدة أعوام تالية تحول إلى حدث مشوش فشلت حتى بالعثور على ندبته، لو سألها الآن لشكرته لذلك الخطأ فلولاه ما التقت نادر وما جب كل ما قبله، دعته بإشارة منها للجلوس فهو الآن مجرد قريب ككثيرين غيره رغم علمها بطلاقه منذ سنوات إلا أن تلك المعلومة لم تشكل فارقًا حينها أو الآن، أتاها صوته الهادئ بسؤاله:
ـ بتيجي النادي كتير؟
أشاحت بنظرها عنه تتذكر ما كان وبحة الحزن بصوتها تخبره بما تخفي:
ـ دلوقت بقيت أنا اللي بجيب الولاد للتدريب
اختناق صوتها بكلماتها كبل قلبه حزنًا لها و عليها رغم احتراقه بغيرته لسنوات.
قطع حديثهم صوت لمى التي أنهت تدريبها ووقفت جوار مقعد فارس الذي لف ذراعه حول خصرها يتولى مهمة التعريف:
ـ لمى؛ بنتي
ـ طنط نسمة؛ قريبتي
صافحت الصغيرة نسمة والأخرى بادلتها مصافحتها ببسمة حنون حين حضر طفليها فتولت هي تلك المرة مهمة التعريف، قطع فارس المصافحات المتبادلة بين الصغار وهو يدعو الجميع للطعام:
ـ أنا ولمى متفقين نتغدى في النادي فرصة تتغدوا معانا
ابتسمت نسمة بود تعتذر برغبة للعودة إلى قوقعتها التي عاشت بها هانئة لسنوات ولا تجد الراحة خلال يومها إلا بدخول غرفتها حيث رائحته تنتشر بكل ما تطاله يدها:
ـ فرصة تانية يادوب نروح علشان مدرسة الولاد بكرة
واصطحبت طفليها وضاع معها ما كان متبقي له من النبضات.
***
رواق مشفى استثماري كبير يحفه السكون وأشعة الشمس المتسللة عبر الزجاج تفشل في إذابة جليد روحه، ثلاث ساعات قضاهم يتجول دون هدف بعد ما علمه من الطبيب، الكلمات التي لم يسمع بقيتها وكثير من التفاصيل التي لا تشكل فارقًا يُذكر، ثورته على الطبيب ودفاع الآخر عن نفسه باتت دون قيمة، حتى أمواله الطائلة التي طالما منحته القوة لن تغير بواقعه شيئًا، لسنوات حارب ضعفه في كل موضع ولم يسمح لنفسه بغير موطن القوي والآن من كان ينتظره ليزيد من قوته أصبح مصدرًا جديدًا لضعفه، كيف يستطيع القبول بما كان يفر منه طوال عمره
دلف غرفة المشفى حيث زوجته لازالت تحت تأثير المسكنات عقب جراحتها، لقد اختارها بعناية من بين كثيرات حتى لا تكون يومًا بموضع قوة أمامه، لم ينبض قلبه لها قط ولم يسمح للشفقة عليها بالتسلل لنفسه يحارب من خلالها أشباحه متسلحًا بكل ما معه والآن بعد تلك السنوات و كأنها تصفعه بحقيقة أن حتى تلك الضعيفة تستطيع إهداءك مزيدًا من الضعف وليس كما تصورت، راقبها وهي تحرك رأسها متأوهة في محاولة للصحو، لقد استنفدت كل وقتها معه ولا داعي للاحتفاظ بها أكثر، سيخطو متجاهلًا ما حدث فلا سبيل آخر له، فتحت عينيها في شبه استفاقة وطالعت ما حولها، اقترب يقف بمحاذاة الفراش وقد قرر بترها تمامًا ومواصلة حياته و كأنها لم تكن، نظراتها الواهنة قابلت جمود نظرته التي غامت بالسواد وصوته الذي نطق بقراره دون تردد:
ـ أنتِ طالق


نهاية الفصل الحادي عشر
قراءة ممتعة


heba nada غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس