عرض مشاركة واحدة
قديم 24-11-20, 07:22 PM   #27

Fatima Zahrae Azouz

مشرفة قصرالكتابة الخياليةوقلوب احلام وقاصةهالوين وكاتبةوقاصةفي منتدى قلوب أحلام وحارسة وكنز سراديب الحكايات وراوي القلوب

 
الصورة الرمزية Fatima Zahrae Azouz

? العضوٌ??? » 409272
?  التسِجيلٌ » Sep 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,042
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
?  نُقآطِيْ » Fatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond reputeFatima Zahrae Azouz has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الثالث والعشرون

السعادة لا تهبط عليك من السماء
بل تزرعها في الأرض بيدك ترويها بثباتك ومواقفك
لتجني منها ما ينسجم مع عقلك وقلبك وجوارحك!
وفي أفق حياتها كانت هناك آمال وآلام
خلقت من بينها عصافير الجمال.
فكانت كمن ربتت على قلبها الموجوع
بعد طريق حالك بالأشواك اجتازته بقوة وصبر.

في موطن الاستجمام الأولى بروح العشق المجنون ، وفي مدينة العشق حيث كل حبة تراب مجبولة بالحب وهواؤها ينشره بالأرجاء..
في فينيسيا "البندقية" حيث يمتزج الماء بالنار والبشر مع الحجر كانت تقضي شهر عسلها برفقته تغلفهما المتعة الروحية الممتزجة بالعشق الوجودي.
يطالعها ترفرف حوله بثوب أسود من خامة الدانتيل بكتفين منخفضين حتى الزند ، ينسدل على جسدها بضيق من فوق الصدر بقليل حتى الخصر و من ثم يتسع بطبقات متعددة حتى أسفل الركبة بقليل... وخصلاتها المموجة تشبك طرفيها بمشبك صغير في منتصف رأسها تاركة غرتها تهبط على جبهتها.
جمالها هادئ ساحر ينافس فتنة المكان ، كمن استفزها سحر الجمال هنا فقررت تحديه بفتنتها الشرقية!!
لا يشعر أنه قضى أيامًا أجمل من تلك الأيام برفقتها ، رأى الجانب الآخر منها.. الجانب الطفولي المرح ذو الدلال الفطري الذي غضقت عليه به ولا تظهره إلا للمقربين فقط !!
لم تكن الجادة العاقلة لكنها كانت طفلة بجسد أنثى يلهب قلب الذي ظن أنه تاب عن العشق وأضحى راهبًا في محراب العمل.
لم يترك مكانًا في البندقية إلا وقد زاراه ، تنقلا بالجناديل الكلاسيكية التي تشتهر بها ، تسوقا كثيرًا والتقط لهما الكثير من الصور وعندما أخبرها عن السر وراء حبها لكل هذا التصوير أخبرته :
"علشان أفضل محتفظة بكل ذكرى هنا ، وكمان أغيظ منار وأسماء"
والآن يقفان منذ ساعة يحيط خصرها بذراعيه ، لتضع كفيها على كتفيه تقف على ساق واحدة والأخرى ترفعها ترسمان زاوية قائمة ونظراتهما تشع الحب والعشق الحقيقي ، وأمامهما شخص يجلس على كرسيه أمام لوحة يرسمهما بافتتان لهذا الصدق المطل منهما.
انتهى أخيرًا فزفر مازن بقوة هاتفًا بسخرية من حاله وهو يخرج بضعة ورقات نقدية يعطيها للرجل ويأخذ الرسمة :
"مكنتش أتوقع إني أقف ساعة في الشارع عشان حد يرسمني ، دي أسماء معملتهاش"
طالعته هدير بحاجب مرتفع ونظرات حادة ، فجذبها إليه مقبلًا وجنتها بقوة ضاحكًا ، يهمس لها بتساؤل :
"هتعملي فيا إيه تاني؟"
ضحكت بأنوثة قوية تنحني بجسدها تتمسك بكتفيه ، ثم تسلل إلى أذنها صوت أنغام السالسا تصدر من جيتار وطبول وصوت شجي بلغة لاتينية جميلة يصدح من تلك الفرقة ، تطلعت إليهم وذلك الجمع حولهما يصفقون ويتراقصون بمرح وسعادة.
نظرت إلى زوجها الذي انتبه هو الآخر إليهم بمكر وتلاعب فقرأ في عينها ما تنويه فطالعها بتوجس قائلًا :
"يا رب ما يكون اللي وصل لي هو اللي بتفكري فيه!!"
اتسعت ابتسامتها وأومأت بتأكيد فتوسعت حدقتيه بعدم تصديق هاتفًا :
"يا مجنونة عوزانا نرقص في الشارع؟"
قهقهت بعلو وجذبته من يده إلى داخل الحلقة مع هتاف عالٍ من الجميع لذلك الثنائي الذي قرر إسعاد نفسه ، فتاة جميلة برفقة رجل متكامل بقميص أبيض وبنطال أسود!!
وضعت كفيها في كفيه وبدأ خصرها بالتمايل ببطء تزامنًا مع تحرك ذراعيهما لأعلى وأسفل مع رتم الموسيقى الهادئ والذي بدأ يتعالى رويدًا رويدًا ، ليجذبها مازن يحيط خصرها بذراع وتحيط كتفيه بذراعها ممسكين يرفعان قبضتهما الأخرى بمحاذاة رأسيهما يدوران حول نفسهما عدة مرات ، ثم حرر خصرها يديرها حول نفسها مرة وخصلاتها تدور حولها تشاركها الرقصات ويدور هو حولها يحيط ظهرها بذراع ليتراقص خصرها بأنوثة مع حركات أقدامهم للأمام والخلف لتدور حوله ثم أحاطت عنقه ووضع يد فوق صدره مرسلة إليه نظرات العشق والدلال بادلها بأخرى هائمة بها لا يغلفهما إلا السعادة والحب ، يتحركان للأمام والخلف وعلى الجانبين وبين كل حركة والأخرى يدوران حول نفسهما وضحكاتها تنافس الأنغام الصادرة من حولهما ، مدها على طول ذراعه قبل أن يجذبها تدور من خلف ظهره ثم أدارها حول نفسها مرتين ويمدها ويجذبها محيطًا خصرها وممسكًا بكفها الآخر يديرها حول نفسها وهي بين ذراعه حتى انحنى للأسفل قليلًا يميلها معه بظهرها ، تثني ساقها للأعلى قليلًا فكادت خصلاتها تتلمس الأرض.
توقفت النغمات وانتهت الرقصة تبعها تصفيق حار على ذلك الابداع الذي حدث ، يتأملان الجسدين اللذين يرتفعان وينخفضان من لهث أنفاسهما ، وهالة الحب والحنان المغلفة بعدم التصديق أنهما فعلا ذلك تحيطهما.
استقاما يحيطها بأحضانه بنوع من الحماية ، فرأوا رجل الجيتار يتقدم منهما ممسكًا بدمية حمراء كبيرة تصل إلى طولها يقدمها لها وقال بلكنة إيطالية متقنة :
"هذه لك هدية عن العرض الرائع الذي قدمتماه ، فلقد كنا بحاجة ماسة إلى النقود ولولاكما ما كان الجميع احتشد ليروا إبداعكما.. شكرًا جزيلًا"
شكره مازن وأخرج رزمة من النقود أعطاها له ، ثم نظر إلى زوجته التي احتضنت الدمية كأنها ابنتها ولا يظهر منها غير رأسها بابتسامة عذبة ، سعيدة وطفولية من خلفها ليضحك مليء شدقيه يهز رأسه بيأس من أفعالها التي ستطيح بعقله يومًا ما!!
★★★★★
مكان مظلم مهجور أشبه بالوكر ، روائح الخوف والارتجاف تلوح منه مصدرها هؤلاء الأطفال الذين عاثت بهم الدنيا بمُرها ولم تذيقهم من حلوها شيئًا.
خمسة أطفال كان هو من بينهم "مصطفى" ذلك الطفل الذي كان له من الحظ نصيب ليقابل هدير ، شعاع الأمل في الحياة بالنسبة له ، بداخل غرفة مغلقة يحرسها رجلين من رجال كريم القابعين ليلًا ونهارًا فقط حتى لا يهرب هو ، هروبه يعني تذكرة دمارهم جميعًا!!
جالس خلف الباب مباشرةً بعيدًا عن باقي الأطفال يستند برأسه عليه بضعف ، جسد هزيل ، وجه مكلوم وقلب حزين ، يسمع لهمسات الرجلين بالخارج بوضوح اللذان يجلسان أمامهما زجاجات الخمر يتجرعون منها بكثرة ، ليخرج أحدهما ورقة جريدة ملفوفة حول سجائر محشوة من مخدر "الحشيش" يشعلوها..
مد واحدٌ منهما يده يرفع الورقة يقرأ الخبر جذب انتباهه بالخط العريض بصوت عالٍ وصل لمسامع المتلهف لمعرفة أي خبر عنها :
"زواج رجل الأعمال مازن السيوفي من الصحفية المشهورة هدير سالم في أحد الفنادق الكبرى بالقاهرة"
ضحك بصوت عالٍ و التخدر وغياب العقل يتسلل إليهم حتى تمكن منهما بالكامل ليضع الخبر أمام صديقه هاتفًا :
"المزة اللي الريس قضى معاها الليلة وسابها مضروبة اتجوزت"
استنشق الآخر سيجارته التي بين أصابعه وغمز بخبث :
"وهو اتجوزها عادي كده من غير ما يعرف إذا كانت بنت بنوت ولا لا؟!"
ثم أخذ الورقة ونهض يترنح من السُكر والشراب يتجه نحو باب الغرفة المغلقة والذي لا يُفتح إلا لوضع الطعام والشراب لهم ، فتحه بعنف فسقط مصطفى على ظهره متأوهًا من صدمته به ونظر إلى الرجل الذي جلس القرفصاء أمامه يضع الصحيفة أمام أنظاره وقال بتلجلج وتيه ساخرًا :
"الست اللي طول الوقت عمال تعيط وتنادي عليها أنك عاوز تروح لها اتجوزت وعايشة حياتها ونسيتك ، يعني بعد كده مش عايز أسمع صوتك أنت فاهم!!"
قذف الورقة في وجهه ونهض ينوي الخروج وإغلاق الباب ثانيةً لكنه صرخ بقوة واضعًا يده على رأسه النازفة أثر ضربة قوية هبطت عليها من العصا الحديدة التي أمسك بها مصطفى يضربه بها بقوة وسقط غارقًا في دمائه ، ليهرول الآخر على الصوت بخطوات متداخلة من أثر الشراب ليتعرقل بصديقه ويسقط فهب الأطفال من أماكنهم بعد أن كانوا مذعورين مما فعله صديقهم لكنهم اكتسبوا جرعة شجاعة وهبطوا على الرجلين بالضرب المبرح.
قذف العصا بعيدًا ورأى محفظة أموال ملقاة على الأرض فأخذها وأخذ الورقة وهرول للخارج يمني نفسه بسبيل الهرب من المجهول الذي كاد ينتشله.
ركض وركض حتى ابتلعه ظلام الليل ، لا يعرف أي اتجاه يسير فسلّم أمره وانطلق أمامه مباشرة حتى لاحت أضواء الطريق على بعد عدة أميال قليلة منه ، أكمل ركضه حتى وصل إلى بدايته فانحنى يستند على ركبته يلهث بصوت مسموع حتى آلمته ضلوع صدره.
لاحت نسمات الفجر وشعاع الضوء يتسرب من السماء ينشر الأرض بنوره الخافت جعل الرؤية أمامه تظهر قليلًا فلاحظ شاحنة نقل كبيرة تقف على جانب الطريق ، فتسلل بخفة نحوها فرأى السائق نائمًا فدار حولها وصعد يزيح أحد الصناديق قليلًا ويجلس ضامًا ركبتيه إليه صدره يحيطهما بذراعيه ويستند برأسه عليها!!
ينظر في الأفق بنظرات تملأها الحسرة والخوف من القادم ، يغشيها غلالة من الدموع وبكاء خافت يمسح أنفه بين الحين والآخر ، وشعور الخيانة يجيش في صدره من خلف وعدها معه بحمايته وعدم تركه ، لكن عقله ينهره بشدة أنها مستحيل أن تتركه وهؤلاء الرجال إن لم يأخذوه لكان الآن معها!!
رفع ما بيده أمام عينه يتأمل الصورة الكبيرة وشعر بتحرك الشاحنة وانطلقت لينطلق معها مستقبله نحو آخر أمل له.. تلك الورقة وذلك العنوان "جريدة الخبر".
★★★★★★
جلبة وصراخ
خطوات راكضة
تمتمات عالية وصلت إلى مكتبها
أثارت حفيظتها وانتشلتها من تركيزها من مقالها القادم!!
عقدت حاجبيها بعدم فهم ونهضت ترى ماذا يحدث؟!
رأت محمد يقف يطالع شيئًا ما بالأسفل فنادت عليه تسأله :
"فيه إيه يا محمد؟!
إيه الدوشة دي؟"
هز رأسه بلامبالاة وأشاح بيده بلا شيء :
"مفيش حاجة ده ولد من أولاد الشوارع باين دخل الجريدة وبيسأل على هدير بس هي مش هنا ، مش راضي يصدق والأمن بيخرجه بس هو بيقاوح"
عقدت حاجبيها بدهشة وكادت ألا تعطي للأمر اهتمام ودارت تدلف لعملها مرة أخرى ، لكن أمرًا ما لمع في رأسها جحظت له عيناها والتفتت تهرول إلى الأسفل تدفع زملائها من أمامها حتى تصل إليه ، فلمحت مصطفى يكافح بين يدي رجال الأمن فهتفت بهم :
"سيبوه ، سيبوه هو جايلي أنا"
اللهفة والأمل ، السعادة والفرح انتشروا به وهتف لها برجاء :
"أبلة منار.. أنا مصطفى"
وصلت إليه تدفع الرجلين المذهولين من ردة فعلها تحرره من قبضتهما واحتضنته بلهفة غير مصدقة أنها وجدوه أخيرًا!!
كيف وصل؟!
وماذا حدث له طوال تلك الفترة؟!
لا يهم.. لا يهم الآن!!
جلست أمامه القرفصاء تتأمل هيئته المزرية ، قميص مجعد استحال لونه الأحمر إلى الأسود بفعل الأتربة والأوساخ ، وكنزته البيضاء المليئة بالفجوات أثار حرق ، وبنطاله المقطع عوضًا عن وجهه الذي يختفي ملامحه خلف الغبار والشحوم!!
أعادت خصلاته للخلف تلمس وجنته بحنان مكورة وجهه بين كفيها ثم هبطت به على ذراعيه تتأكد أنه سليم وسألته بلهفة:
"أنت كويس؟
حصلك حاجة؟"
أومأ لها أنه بخير ورمش بعينيه بتوتر يدور في المكان بنظراته كمن يبحث عن أحد وقال بخفوت :
"هي أبلة هدير فين؟"
ابتسمت له تربت على رأسه بحنان :
"أبلة هدير هتفرح جدًا لما تشوفك"
-"هتوديني ليها؟"
أومأت له بتأكيد واستقامت تنادي على زميلتها أن تأتي لها بأغراضها من مكتبها سريعًا وما إن أتت بها ، أخذته من يده وتقدمت نحو سيارته وأدخلته بجانبها.
انطلقت بها تضع هاتفها على أذنها تنتظر رد نادر الذي وصلها :
"أيوه يا منار ، طمنيني أنتِ كويسة؟"
-"الحمد لله تمام ، قولي أنت فين؟"
-"في الشركة.. حصل حاجة؟"
-"أنا جيالك"
أغلقت الهاتف معه وانطلقت أسرع في طريقها ويدها تربت على رأس الصغير بحنان تبتسم له بأمل اطمأن له.
وصلت إلى مقر شركته وهبطت ممسكة بيد مصطفى الذي يلتفت حوله بأعين متسعة بانبهار من الصرح الكبير الذي لم يره من قبل إلا في التلفاز ، تاركًا خطوات منار من تقوده حتى صعدا إلى مكتب نادر.. دلفت إليه وخلفها هو يتمسك بقدمها ويختفي خلفها خوفًا ورهبةً من المكان ، أسرع نادر نحوها وملامح القلق والخوف بادية على وجهه أن يكون أصابها مكروه ، فليس بعادتها أن تهاتفه وتخبره قبل مجيئها!!
أعاد خصلاتها للخلف وعيناه تتأملها باطمئنان :
"أنتِ كويسة!!"
ربتت على صدره وابتسامة حنونة لاحت في عينها قبل ثغرها :
"اطمن يا نادر أنا بخير ، أنا هنا علشان حاجة تانية خالص"
عقد حاجبيه بعدم فهم ونظراته توحي بالتساؤل ثم هبطت عينه حيث أشارت لما خلفها فرأى نصف وجه طفل صغير يخرج من عينه الذعر وجسده يرتجف ينظر له بتوتر وخوف ، فنظر لمنار مرة أخرى يهز رأسه بسؤال عن هويته ، جلست القرفصاء وأحاطت الطفل لأحضانها تربت على ظهره ثم رفعت رأسها إلى نادر قائلة :
"ده مصطفى يا نادر ، الطفل اللي حكيت أنا وهدير عنه"
ناظرها بعدم تصديق أن من يبحثان عنه طيلة هذه الأيام من أجل صديقتهم ، وبداية الخيط للوصول إلى كريم أمامه الآن!!
جلس أمامه يمد يده بالسلام يبتسم بحنان إليه ويرسل إليه نظرات الطمأنينة وعدم الخوف قائلًا بمرح :
"أزيك يا بطل ، أنا نادر أبقى خطيب أبلة منار"
نظر مصطفى إليها كمن يطمئن أن هذا الشخص لن يؤذيه فشجعته بابتسامتها ونظراتها ، فرفع كفه المرتجف يضعه في كف نادر الكبير فأمسك به وهز قبضتيهما عدة مرات :
"عاش يا بطل ، أنت طلعت قوي"
ابتسامة مهتزة مغلفة باليأس وعدم الثقة لجملته رآها في عيني هذا البائس الصغير الذي يبتلع ريقه بتردد وتساؤل محير يلوح في حدقتيه ظهر في كلماته الهامسة لاح منها الرجاء :
"هتاخدني عند أبلة هدير؟"
أومأ له نادر بتأكيد وهتف له يشد على قبضته كوعد ثقة وكلمة رجل لرجل :
"أيوه هوديك ليها النهاردة ، بس الأول نروح عندي نغير هدومنا وناكل علشان أنا هموت من الجوع وبعد كده نروح عندها.. اتفقنا!!"
اتسعت ابتسامة الصغير وأومأ عدة مرات بموافقته ، فنهض نادر يمسك كتف منار ويسألها بخفوت كيف وجدته ، فسردت له ما حدث بالجريدة وأنها لم تود سؤاله حتى يهدأ ذعره ويكون الجميع حاضرًا..
فما سيقوله هو الخطورة في حد ذاتها!!
★★★★★
اللقاء بعد طول فراق يرافقه سيل من الأشواق
لحظة تُرسم أحداثها في لوحة ربيع العمر
لحظة يزداد فيها نبض القلب
تتجمد المشاعر من الفرح
لحظة فيها من الوفاء والحب ما يروي الروح

جالسة لا تعلم ماذا يحدث؟
عادا من إيطاليا منذ ثلاثة أيام ، أرادت العودة للعمل صباح اليوم لكن منعها مازن يخبرها أن هناك ضيف مهم سيأتي لزيارتهما اليوم ، حاولت معرفة هويته لكن لم تتلقَ أي رد سوى :
-"متقلقيش ضيف أنتِ مستنياه..
هيجي مع نادر"
ذكر نادر زاد من تعجبها وتساؤلها أكثر ، عقلها يحاول ربط الخطوط من اليمين واليسار للوصول إلى الضيف المجهول لكنها أخفقت.
بجانبها أسماء تتبادل معها النظرات التائهة من هذا التجمع ، والدتها تجلس على كرسيها الخاص وزوجها يقطع الغرفة جيئةً وذهابًا يتحدث بالهاتف مع رامز يطلب منه المجيء واضعًا يده الأخرى في خصره ثم تقدم منها يجلس بالجانب الآخر لها يحيط كتفيها إلى أحضانه ونظراته الحنونة تغلفها كأنه يرسل لها شيء لا تستوعبه لكنها أراحها.
دلف رامز إلى الجميع يلقي تحية الصباح يحتضن مازن بسلام رجولي ، يبتسم لهدير ، يقبل رأس ميرفت ثم جذب كفي أسماء يقبلهما وجلس بجانبها يضمها كما يضم مازن زوجته وسأله :
-"لسه نادر موصلش"
-"خلاص على وصول أهو"
بعد قليل دخلت سيارة بسرعة كبيرة صرير إطاراتها جذب انتباه الجميع داخل المنزل ، فتبادل مازن و رامز النظرات قبل أن ينهض الأخير مسرعًا إلى الخارج ليرى ماذا يحدث؟!
في حين ظل مازن جالسًا بكامل هدوئه بجانب هدير التي تنظر له بدهشة ، تشعر أن هناك شيئًا ما ، لكنها لا تعرف ماهيته ؟!
نظرت له بقلق وتساؤل ، يبادلها بأخرى مطمئنة يضغط على كفها قبل أن يرفعه يقبل باطنه.
انتبه الجميع لصوت الباب يُفتح التفتت هدير بأنظارها إليه فرأت منار تتقدم منها فنهضت تحتضنها بشوق ، تبعها نادر يلقي التحية على الجميع ووجه الحديث لهدير المضطربة ونظراتها يشوبها التوتر ضاحكًا :
-"مالك متوترة كده ليه؟"
ناظرته بشذر هاتفة :
-"أنا مش فايقة خالص للهزار ، أنا من الصبح متوترة وحاسة إن فيه حاجة بتحصل"
شعرت بكفيّ مازن تمسك كتفيها من الخلف ، يهمس لها بحنو:
-"ممكن تهدي وتبصي هناك"
أشار نحو رامز الواقف الذي نظر أسفله ، فتوجهت بأنظارها نحو مكان نظره لتجحظ عيناها توازيًا مع عقد حاجبيها ، وتيبس جسدها بصدمة ومفاجأة ، وتوقفت أنفاسها للحظات ما أن رأته!!
متوترًا.. يتوارى خلف رامز قليلًا برهبة من الجمع وأولئك الرجال الأشبه بالحوائط في عينه ، يرتعش بخوف وحدقتيه تدور في المكان كأنه يبحث عنها حتى تلاقت الأنظار بأعين دامعة دون وعي في لحظة لقاء المنتظر!!
كالإبحار في فضاء الدفء والحنان في أجمل مراكبها ، مراكب الدموع السعيدة..
دموع الفرح
وبسمة الروح
وشعور القلب.
لا تصدق أنه هنا!!
موجود بداخل منزلها ، أمام نظرها ، تسمع أنفاسه العالية التي تشعر بها باهتزاز جسده لأعلى وأسفل كأنه يلهث!!
حرارة اللقاء حركت اشتياق ذهنها عن ما كان يشغله في وقت سابق ، تمعن بصرها تملأ قعر عينها بنظرات تترجم صورها داخل براويز الفؤاد!!
نظرت لنادر تتأكد أنها لا تحلم فأومأ برأسه أنه هنا ، فأخذت نفس عميق يخفف لهيب الشوق ويخرج نفسًا دافئًا تصاحبه همسة تكاد لا تسمع ، وتبدأ عقدة اللسان تنحل لتخرج اسمه بمشاعر تعبر عن ما فعل تعلقها به بداخلها :
-"مصطفى..!!!"
يطالعها بعدم تصديق أنه أخيرًا معها ، شعور الأمان الذي لم يجده غير معها محى شعور الخوف والخيانة اللذان انتاباه عندما ظن أنها تخلت عنه!!
مرآها كالتربيتة الخفيفة على قلبه المكلوم!
همس باسمها بغير تصديق فما لبست أن انتفضت في وقفتها وهرولت نحوه تفتح ذراعيها له في دعوة للاقتراب وأعين هربت الدموع من قنواتها ، فركض من خلف رامز نحوها بسعادة وابتسامة نصر.
وصلت إليه وسقطت ترتكز على ركبتيها أمامه فاندفع إلى أحضانها تحيط خصره وكتفيه بذراعيها تزرعه بداخلها بشهقات عالية تدخل الهواء البارد لرئتيها المشتعلتين بنيران الانتظار والمجهول ليحين أوان راحتها وسكونها.
تضغط على كتفيه بقوة ، كفيها يتحركان على ظهره ورأسه تتأكد أنه معها ، فأمسك ساعده الأيسر بيده اليمنى يشدد من احتضانها حول عنقها ، يستند برأسه على كتفها يهمس ببكاء:
-"وحشتيني قوي يا أبلة هدير ، وكنت عارف إني هشوفك تاني"
عادت برأسها للخلف ترفع رأسه تحيطها بكفيها ، تلمس وجنتيه وتتخلل خصلاته بأنامله تتأكد من سلامته ، تنظر له بصدمة ممزوجة بفرحة أنه نجى من براثنهم ، هبطت منها دموع فرحة لسلامته تجذبه إلى أحضانها مرة أخرى هامسة :
-"وأنت كمان وحشتني ، الحمد لله على السلامة يا حبيبي.. أنت كويس مش كده؟!"
أومأ برأسه عدة مرات فهبطت بيدها على جسده تتأكد من سلامته كاملة ، تلتفت خلفها تنظر لمازن بأعين دامعة شديدة الاحمرار ، وجه محتقن وأنامل مرتعشة تزيح تلك الدمعات التي تشوش رؤيتها تهتف بلهفة وتشير له بالاقتراب :
-"مازن تعالى.. هو ده مصطفى ، مصطفى بخير ورجع لي ، نادر رجعهولي"
اقترب منها بابتسامة يجلس القرفصاء بجانبها يحيط ظهرها بحنان ، يضع يده الأخرى خلف رأس الصغير يقبل جبهته بحنان يجذبهما برفق إلى أحضانه ، يلتفت برأسه إلى نادر الواقف يتأمل المشهد براحة وابتسامه لسعادة أخته الصغيرة بنظرات امتنان وشكر أنه دائمًا بداية كل خطوة لراحة صغيرته.
أبعد مصطفى نفسه عنها لكن لم يخرج من أحضانها ، يرسل لها نظرات اللوم والعتاب لشيء لم تفهمه :
-" أنا كنت فاكر إنك نسيتيني ، نسيتِ إنك وعدتيني ولما الراجل وراني صورتك في الفرح عيطت إنك سبتيني ، بس هربت وروحت لأبلة منار وعمو نادر وقالولي إنهم هيجبوني ليكِ "
توسعت عيناها بصدمة وتسارعت أنفاسها تهز رأسها بنفي واعتراض لما يقوله ، تنظر لمازن بتيه ومساعدة لا تعرف كيف تشرح للصغير أنها ذاقت الأمريّن في سبيل إيجاده!!
حرك كفه على ظهرها يبثها الهدوء والاطمئنان ، وأدار مصطفى إليه يناظره بثقة وحنان كأنه أب يحدث ابنه الصغير:
-"اسمع يا بطل..
عاوزك تتأكد من حاجة إن الفترة اللي فاتت دي هدير عمرها ما نسيتك ولو أنت مهربتش أنا كنت هلاقيك وأجيبك بس أنت طلعت أقوى مننا كلنا"
يبادله النظرات بأخرى واسعة كأنه رجل يفهم ما يقوله جيدًا يهز رأسه بين الحين والآخر بتفهم لكلماته جعلته يبتسم بفخر لذلك الصغير ، ثم نظر إلى زوجته بعشق فاض في قلبه وهمس بوعد لن يمل من قوله :
-"والفرح أنا عملته علشان هدير تبقى معايا وأحميها من الناس الوحشين اللي كانوا عاوزين يأذوها لما اتصلت بيها ، وهفضل أحميها على طول"
ابتسمت بامتنان وشكر ، قلب غلفته الراحة بوجود المنتظر وجوار الحبيب وإحاطة الأصدقاء!!
أدارته لها تحيط وجنته بكفيها تقبل وجنتيه بحب تستند بجبهته على جبهتها وقالت :
-"عمري يا حبيبي ، عمري ما نسيتك ولا كنت هسيبك ، أنا بس كنت تعبانة ولما خفيت كنت هدور عليك وألاقيك بس أنت خلاص أهو معايا"
ابتسم لها بحنان ومد أنامله الصغيرة يمسح دموعها ببراءة أذابت قلبها ، وبردت نيران القلق عليه فاحتضنته من جديد بحب ، تحمد الله على سلامته.
ابتعدت أسماء عن أحضان رامز التي قبعت بها تتأمل اللقاء بدموعها الرقيقة تقبض على سترته بلا وعي ليقبل رأسها بين الحين والآخر حتى تهدأ ، وتقدمت منهم عازمة على صنع المرح ، تجثو بمحاذاتهم بابتسامة جميلة ومدت كفها للطفل قائلة :
-"أنا أسماء.. وأنت؟! "
بادلها مصطفى التحية ببراءة وأجابها :
-"وأنا مصطفى"
نهض الجميع عن الأرض ، واقتربت هدير من منار تحتضنها بقوة تشكرها على مجيئها به ، فربتت الأخيرة على ظهرها بحنان.
نظرت لنادر نظرات الامتنان ليغمز لها بمرح يربت على رأسها كالطفلة الصغيرة.
وجدت ميرفت تربت على ظهرها بحنو وأمومة قائلة :
-"يا رب يكون بالك راق يا حبيبتي ، الولد بخير ومعانا خلاص"
تنهدت هدير بقوة براحة تخفي قلقًا يساورها فيما سيترتب بعد ذلك!
بالتأكيد كريم لن يصمت ولن يهدأ عندما يعلم!
تعلم أنه بداية الطريق ، فمازن أقسم على الانتقام منه جزاء ما فعله بها ، كما تعلم أنه لن يجرؤ على المساس بها ثانية!
ترى إلى من سيوجه ضربته هذه المرة؟!
تتمنى أن تغفو وتفيق فتكتشف أنه لا وجود له في حياتها نهائيًا.
زفرت بقلق حاولت عدم إظهاره :
-" الحمد لله يا ماما ، ربنا يستر في اللي جاي!"
فتح باب المكتب وخرج مازن ورامز ونادر الذين انفردوا مع الطفل كي يطمئنوا عليه ، و يعلموا كيف هرب منهم وأين ذلك المكان؟
وهل حدثت له أي مشاكل حينها؟!
يريد أن يجد أي خيط يدله على كريم ، وقد جمع الكثير من الحديث معه والآن وجد السبيل لانتقامه منه!!
أخذت أسماء ومنار الصغير كي يأكل حتى يخبرهم مازن ماذا سيفعل معه ، فأشار لهدير أن تقترب يستأذن من البقية للحظات وصعد للغرفة ، وما أن دلفا واستدار لها عاد خطوة للخلف أثر اندفاعها بين ذراعيه تضمه بشدة تشبك ذراعيها خلف رقبته ، وتدفن وجهها في تجويف عنقه ، فابتسم ابتسامة عذبة يشدد من احتضانه لها هو الآخر واضعًا يد خلف ظهرها ، ويد تتخلل خصلاتها.
همست في أذنه بكافة المشاعر التي تحملها له :
-"بحبك يا مازن ، بحبك جدًا
أنا النهاردة حاسة إني ارتحت"
قبل عرقها النافر في عنقها ، يعيد خصلاتها للخلف يبعد رأسها فقط عن أحضانه ومازالت تحيط عنقه فسألها فجأة :
-"قلقانة من إيه؟"
عقدت بين حاجبيه بعدم فهم لسؤاله ، ليجلس على حافة الفراش ويجلسها على قدمه يعيد خصلة خلف أذنها وقال :
-"عارف إنك فرحتِ وارتحتِ برجوع مصطفى ، بس ورا الراحة دي فيه خوف وقلق من إيه؟"
يعرفها.. يحفظها.. يقرأها جيدًا!!
أسندت جبهتها على جبهته بابتسامة غير مصدقة أنه شعر بها لهذا الحد!!
تهز رأسها بيأس وفتحت عينها تنظر لمقلتيه التي تطالعانها بثبات :
-"قلقانة من كريم ، مش خايفة منه طالما معاك بس خايفة في ردود فعله..
مصطفى كان الكارت المعلوم اللي ممكن يهددنا بيه ودلوقتي خسره هيبدأ يضرب في أي حد ، وخايفة الضربة تيجي للقريب يا مازن"
احتضنها يمسد على ظهرها بحنان ، فذلك القلق والشعور هو نفسه ما يجيش بداخله ، فلن يكذب عليها ويطمئنها أن كل شيء بخير فقال :
-"كريم فعلًا مش متوقع ، وهروب مصطفى الوقت ده هيلغبط حساباته كلها ، كل اللي في ايدنا دلوقتي إننا نحمي كل اللي حوالينا متقلقيش من الحتة دي"
أومأت برأسها ونوع من الهدوء لاح بصدرها ، لكن مازال التوتر في نظراتها ، تعض على شفتها السفلى بتفكير وتردد فأمسك ذقنها يدير وجهها إليه والتساؤل في عينه لتهمس :
-"ومصطفى؟!!"
هز رأسه بعدم فهم ، يعقد بين حاجبيه :
-"ماله مصطفى؟
مصطفى بعد ما كان ملهوش حد دلوقتي ملهوش غيرك أنتِ ، متخيلة إني هسيبه؟
هيفضل هنا يتربى في بيئة نضيفة وهتكفل بيه وبكل أموره"
ناظرته بعدم تصديق ، ترمش عدة مرات تستوعب كلماته التي كانت تتمناها ، ترسل له نظرات التأكيد وأن ما يقوله صحيح فابتسم يجذب رأسها نحوه يقبلها قبلة صغيرة برقة على شفتيها قائلًا :
-"بقينا ماما وبابا بدري ، عقبال الطفل التاني منك"
لم تفعل شيء سوى أنها أحاطت عنقه بذراعيها تبادر للمرة الأولى بتقبيله بعشق.
قبلة تعانق فيها قلبيهما ، وتدافعت الأرواح ، وتماوجت الأنفاس في واحة حبهما.
★★★★
يقف بسيارته في أحد الشوارع الجانية لأحد الأحياء الشعبية يتوارى قليلًا عن الشارع الرئيسي بعيدًا عن الرؤية ، بسترة وقبعة وعوينات جميعهم باللون الأسود تخفي ملامحه بشكل كبير وهو ما يعتاد عليه أهالي تلك المناطق.
يمسك عجلة القيادة بيد ويستند بمرفق الأخرى إلى جانبه يحك أسفل فمه بانتظار ، يعلم أن هذه المنطقة وكر لفتيان تجار المخدرات الذين يعملون تحت رحمة الكبار في هذا المجال ، قليلًا وسيحوم حوله الكثير راغبين في تلبية طلبه.
وبالفعل وجد من يدق على الزجاج فأنزله يحدق به من خلف عدساته ، شاب نحيل أسمر البشرة ، رثّ الملابس ، يمسك سيجارة تظهر عليها أنها ليست اعتيادية يستنشقها بعمق ويزفر دخانها بقوة يقول من بينه :
-"أؤمر يا باشا ، حشيش ، ترامادول ، بانجو ، اللي تطلبه"
هز رأسه برفض يشيح بكفه بلامبالاة وقال :
-"ولا حاجة من دول ، أنا عاوز أبيض"
أشار الرجل بسبابته إلى عينيه الاثنتين في طاعة :
-"موجود.. كام جرام يا باشا؟"
أشار لع بالاقتراب مبتسمًا بمكر وهمس له :
-"مش عاوز جرامات ، أنا عاوز خمسين كيلو"
جحظت عين الشاب بذهول من الكمية ، ولاح التردد والحيرة على ملامحه أثارت خبث الجالس بسيارته ومد يده خلف عجلة القيادة يأخذ ورقة صغيرة وأخرج قلمًا من سترته يدون عدة أرقام بجانب بعضها وأعطاها له :
-" وصل الطلب ده للريس متولي ، وقوله سيد الجيزاوي مستنيك ترد عليه"
أنهى حديثه وأدار سيارته يعود للخلف إلى بداية الطريق ، تاركًا الرجل ينظر في أثره يحول بينه وبين رقم الهاتف وعيناه التمعت بالجشع والسعادة.
فصفقة كهذه تعد بملايين سيكون نصيبه منها لا يقل عن عدة آلاف من الجنيهات.
وقف بالسيارة على جانب الطريق ، خلع السترة والعوينات بحنق وملل ، ثم نزع قبعته وقذفها على الأريكة الخلفية ونظر بالمرآة يمشط خصلاته بأنامله يرتب تبعثرها ، يزفر بقوة وكاد أن يشعر بالاختناق أثناء تواجده هناك.
حمل هاتفه يضرب على لوحة الأرقام وانتظر حتى يتلقى إجابة من الطرف الآخر ، وصله الصوت هاتفًا بلهفة :
-"رامز طمني عملت إيه؟"
هتف بنزق وغيظ :
-"الله يخربيت أفكارك يا نادر أنت ومازن ، عارف لو روحنا في داهية هيبقى بسببكم"
وصله صوت مازن المتعجل واللامبالي بما قاله :
-"سيبك من ده كله وقولي عملت إيه؟"
أغمض عينه بقوة يضغط أعلى أنفه ، ولسانه يقذفهما بأفظع الشتائم الذي يعرفها هاتفًا :
-"تصدق مفيش دم ، المهم كل حاجة تمام ، كلها ساعتين تلاتة وتلاقيه بيتصل بالجيزاوي"
ثم أكمل بسخرية :
-"اسمه الله أكبر مسمع هنا لدرجة إن الواد مفكرش يسأل أصلًا مين ده؟"
أنهى نادر الحديث معه وأخبره أن يأتي للشركة فهما مجتمعان هناك ، ثم نظر لمازن وسيد الجالسين أمامه يتذكر اتفاقهما في هذا اليوم.......

أخبرهم مصطفى بطبيعة العمل الذي كان متولي يوكلهم به والمناطق المسئول بالتوزيع بها!!
أخبرهم عن كيفية هروبه حتى وصل إلى منار.
نظر رامز لهما يسألهم بحيرة :
-"طب والعمل؟
هنوصل للي اسمه متولي ده ازاي؟"
استند مازن إلى ظهر كرسيه ، يدق يده بأنامله دقات رتيبة ، ينظر في الفراغ بتفكير.. ونهض نادر واضعًا يده في جيبيه يسير في المكتب ينظر أسفله يفكر هو الآخر قبل أن يلمع اسم ما في عقله هتف به :
-"سيد الجيزاوي"
تأمله مازن بتعجب وهمس بعدم فهم :
-"سيد الجيزاوي؟!
رجل الأعمال!!"
أومأ بتأكيد ، فنهض رامز يقترب منه متسائلًا :
-"وسيد هيفيدنا بإيه مش فاهم!!"
-"سيد كان شريك أبويا ، وفي يوم وصلت معلومات أنه بيتاجر في المخدرات بالأدلة والصور"
انتبه له الاثنان بتركيز فأكمل :
-"وساعتها أبويا هدده إنه لو مبطلش التجارة دي هيبلغ عنه ، ولأنه كان بيعزه أداله فرصة..
ساعتها سيد اعترف إنه بيشتغل مع البوليس"
نهض مازن يوازيهم في الوقوف يسأله بعدم فهم :
-"بيشتغل مع البوليس إزاي؟"
-"سيد ماشي بمبدأ إن المخدرات ظاهرة هتفضل موجودة صعب إننا نمنعها ، فاللي هو نص البلى ولا البلى كله!!"
صمت قليلًا وأشار بسبابته كالمدرس الذي يشرح معادلة صعبة لطلابه :
-"تاجر مخدرات جايب نص طن هيروين ودخله البلد ، النص طن ده هيتوزع على مصر كلها ، لما أجي أخد من الكمية دي 100 ولا 200 كيلو وأتخلص منهم أبقى قللت الكمية اللي هتتوزع ، جمب شغل الشرطة هقللها أكتر"
نظر مازن ورامز لبعضهما بدهشة وذهول من تصرفه!!
فسأل رامز بعدم تصديق ، يهز رأسه عدة مرات بإفاقة وعدم استيعاب :
-"إيه اللي يخلي واحد زيه يرمي فلوسه في الأرض!!"
ضحك نادر على تصرفه وربت بكفه على كتفه مرتين:
-"الجيزاوي عنده فلوس لو فضل يصرف فيها مش هتخلص ، وكمان طالما في الخير خلاص.
المهم إن هو الوحيد اللي هيساعدنا نوصله لأنه هيتواصل مع متولي ده مباشر"
وبالفعل تواصل معه والذي رحب جدًا بمساعدتهم طالما سيتم إنقاذ الكثير!
ليسأل مازن سيد الجالس بجانبه بفضول لم يستطع السيطرة عليه :
-"بس ممكن سؤال يا سيد بيه!!
إيه اللي يخليك تدفع الفلوس والملايين دي كلها في المخدرات وترميها؟"
ابتسم سيد بحزن عصف بنظراته قبل ابتسامته ، وعاد برأسه للخلف مغمضًا عينه يخبره بوجع وألم صدح في نبرته المختنقة :
-"لأن ابني كان مدمن ، وراح ضحية جرعة زايدة من الهيروين ده ومقدرتش ألحقه"
★★★★★
الرحيل أشبه بالعين الجارية التي يخضر محيطها فتنضب.
فبعد رحيلك لا تنتظر بزوغ القمر كي تشكو ألم قلبك ، لأنه سيغيب ليتخلص مما يحمله ويعود لك قمرًا جديدًا
ولا تقف أمام البحر لتهيج أمواجه بحديثك وتزيد مائه بدموعك لأنه سيرمي بهمك في قاع ليس له قرار ويعود لنا بحر هادئ من جديد
فالحياة يومان.. يومًا يحملك ، ويومًا تحمله!!
التوقيت.. بعد منتصف الليل
المكان.. منطقة نائية خالية وسط صحراء واسعة خارج البلدة
الأجواء.. أربعة سيارات واقفة سيارتين على كل جانب ، تنعكس أنوارهم خالقة بقعة ضوئية حولهما.
يقف سيد وسط خمسة من رجالة يقابله متولي وسط نفس العدد من الرجال في مقابلة لإتمام الصفقة بعدما اتصل به بالأمس كي يتمم الصفقة معه التي تعد بعشرة ملايين من الجنيهات.
ابتسم متولي ابتسامته التي كشفت عن أسنانه الصفراء ، يدخن سيجارته قائلًا :
-"والله زمان يا سيد بيه ، بقالنا كتير مشوفناش سعادتك"
لم يبادله الآخر الابتسامة وظلت ملامحه متجمدة كما المعتاد وقال مختصرًا الحديث :
-"ملهوش لازمة الكلام ده يا متولي ، البضاعة جاهزة؟"
أومأ له مشيرًا إلى أحد رجاله بالإتيان بالحقيبة ، تناولها وفتحها أمامه ليرى العديد من الأكياس المملوءة بالمادة البيضاء ، ليشير سيد إلى رجله الذي أتى بحقيبة مماثلة يفتحها كاشفًا عن رزمات من النقود متراصة جانب بعضهما سال لها لعاب متولي.
تبادل الرجلان الحقائب وكاد كلا منهما العودة لسياراته والذهاب ، لكن فجأة أحاطت به عشرة سيارات دفع رباعي ظهرت من اللاشيء وهبط من كلٌ منهم خمسة رجال مشهرون أسلحتهم في وجوه الجميع ، خمسة منهم وقفوا خلف كل رجل من رجال متولي يضعون أسلحتهم على رؤوسهم مكبلين أعناقهم بذراعهم ، وكبيرهم يقف يلتفت حول نفسه بجنون وهلوسة لا يدري ما حدث ومن هؤلاء؟!
رأى إحدى السيارات تُفتح ويهبط منها رجل خفي الملامح يقترب من بقعة الضوء حتى ظهر وجهه ليتعرف عليه من الوهلة الأولى.. أنه "مازن السيوفي".
الصدمة ، عدم التصديق والاستيعاب مصاحب لجحوظ عينه وهز رأسه بلا.. هو كل ما انتابه عندما رآه يقترب من سيد يبادله التحية والشكر على المساعدة ، ثم تركه يذهب!!
أهذا كله تخطيط للإيقاع به؟
كل تلك اللعبة فقط كي يصل له؟
تعالت ضحكاته بقوة وجنون جعلت مازن يستدير له يناظره ببرود وغموض ، ينتظره ينتهي من لحظات جنونه حتى يستطيعا الكلام فسمعه يقول من بين ضحكاته :
-"مازن بيه بنفسه يعمل كل ده علشان يوصل لي ، بس بصراحة ملعوبة يا باشا"
ابتسم له بسخرية واقترب منه بتروي يجيبه :
-"ما هو كل واحد ومقامه يا متولي ، اللي بتلاقيه سهل بيروح سهل.."
وصل له وهبط على أذنه نظرًا لفرق الطول بينهما وهمس بتلاعب :
-"بس تخيل اللي يلاقيه مازن السيوفي بصعوبة ، هيعمل فيه إيه؟"
نظر له الآخر بجانب عينه بمكر وابتسم بسخرية يرفع حاجبه يهز رأسه بلا :
-"اللي بيلاقي حد بصعوبة بيبقى محتاجه مش هيعمله حاجة"
مال مازن رأسه للجانب بإعجاب وأخرج سيجارته يشعلها وينفث دخانها أمامه رافعًا حاجبه وابتسم مشهرًا إصبعيه تتوسطهم السيجارة عليه :
-"عجبتني ، وعلشان كده خلينا حلوين ونبقى حبايب"
وتحولت ملامحه فجأة للجدية واختفت ابتسامته وبات وجهه جامدًا :
-"رأفت فين؟"
ضحك متولي بسخرية وحك جانب فكه ثم كتف ذراعيه أمام صدره يشد جسده الممتليء وقال :
-"وأنا أعرف مكانه منين يا باشا؟
أنت جيت للشخص الغلط أنا مش بشتغل مع حد اسمه رأفت ، أنا رئيس نفسي"
ضيق عينه باستهانة وسخرية ، واستنشق سيجارته يعيد عليه سؤاله مرة أخرى بصبر كبير ، ليجيبه الآخر بخبث :
-"بقولك إيه يا مازن باشا ، رأفت مش هيفيدك بحاجة فالأحسن تخليك جمب المدام وتنسى أنك تجيبه ، اللي شافته الأستاذة مكنش قليل"
صرخة ضاع صداها في الفضاء الواسع ، يجثو على ركبته يستند بكفه على الرمال والأخرى ممسكة فخده الدامي المصاب بسبب الرصاصة التي خرجت من مسدس مازن بدم بارد ونظرات جامد بعدما تفوه بغلطة عمره ، لولا أنه بحاجته كان مصيرها قلبه!!
وضع المسدس خلف ظهره ثانيةً وتقدم منه يجلس القرفصاء أمامه يستند بساعديه على ركبتيه وقال بنبرة باردة :
-"الرصاصة دي علشان تفكر في اللي تقوله بعد كده ده أولًا..
ثانيًا هتقولي فين رأفت وتوفر عليا وقت وتعذيب لأني كده كده هعرف ، ولا أوريك مازن السيوفي اللي أنت أكيد مش هتحب تشوفه؟"
دماءه تسيل على الرمال التي استحالت للأحمر ، وجهه احتقن وعيناه جحظت بقوة يكز على أسنانه بشدة من الألم العاصف به ، وجسده يرتعش وأجابه بصوت متهدج:
-"ولو قولتلك أنا هتأذي ، ده ملوش عزيز وعنده استعداد يمحيني ويمحي عيلتي"
أمسكه من ياقته يرفعه حتى وقف يتقافز من الألم يتحامل على قدمه غير قادر على الثبات ، فجذبه مازن من ملابسه بقوة ونظراته استحالت للشراسة والوحشية يهتف بوجهه :
-"عيلتك!
خايف على عيلتك!!
ومش بتخاف على كل عيلة بتضيعها بسبب تجارتك دي لما يموت منها واحد ولا اتنين ، ده أنا هخليكم تشوفوا نار جهنم على الأرض"
هزه بين يديه بعنف يهوى بقبضته على فكه فتأوه الآخر هاويًا على الأرض ممسكًا بوجهه ، فنفض مازن سترته يعدلها وانحنى أمامه ممسكًا ذقنه يديره نحوه هاتفًا :
-"انطق رأفت في أي داهية؟"
جسده يرتفع وينخفض من عنف أنفاسه ، فصرخ به مرة أخرى ليخبره بصوت متوجع :
-"الأول تديني الأمان"
كز مازن على أسنانه بغيظ من مساومته له ، لكن لا يوجد حل آخر لديه فأومأ له بموافقة فأخبره الرجل :
-"عنده فيلا خاصة بيه في المعمورة ، نقل فيها بعد اللي عمله ابنه"
نفض مازن وجهه من يده فسقط مترمغًا في الرمال ونهض يشير لأحد رجاله بأخذه ووضعه في مكان آمن لا يستطيع أحد الوصول إليه ثم التفتت يصعد للسيارة يديرها وانطلق بها صانعًا خلفه موجة تراب عالية لحقته سيارات رجاله.
★★★★★
استجمام وراحة يشعر بهما
قهوته أمامه ، حاسوبه على قدمه يتابع أخبار شركته عن بعد ويتواصل مع موظفيه ، يرفع فنجانه بين الحين والآخر يرتشف منه القليل متلذذًا بالمذاق وكأنه لا يملك من الدنيا هموم!!
ابتسامة ثقة تُرسم على وجهه عندما رفع هاتفه يدق على رقم رجله ليرى ماذا حدث في صفقة أمس!!
رنين.. رنين.. رنين.. ولا يوجد رد!!
نهض يقطع الردهة سيرًا ويدق مرة بعد مرة على نفس الرقم لكن لا استجابة ونوع من القلق بدأ يتسلل بداخله ، وبدأ يسب الرجل على تجاهله.
سقط الكوب من يده ، وانتفض جسده في اضطراب من الدويّ العالي الذي صدح من ارتداد الباب الداخلي للمنزل في الحائط أثر فتحه بقوة..
رجال ضخام يرتدون البذلات السوداء وعوينات سوداء انتشروا في الردهة ناظرهم بقوة وعدم فهم صارخًا بهم :
-"أنتو مين؟!
ودخلتوا هنا ازاي؟"
لم يجبه أحد وكأنهم تماثيل واقفة ، فكاد أن يعيد صراخه ليأتيه صوت أجش اخترق الجمع الحاشد :
-"فاكر مش هعرف أجيبك يارأفت!!"
جحظت عيناه بصدمة من رؤيته هنا وتساؤلات كثيرة تدور حول رأسه!!
كيف وصل إلى هنا؟
كيف عرف مكانه؟
يقف في عقر داره وسط رجاله برفقة صديقه كأنهما أصحاب المكان!
همس بصوت مذهول ونظرات غير مستوعبة لوجوده :
-"مازن؟!
مش ممكن إزاي؟"
اقترب منه بابتسامة جانبية ساخرة يضع كفه على كتفه يضغط عليه بقوة ونظراته ممتلئة بالقوة والشراسة :
-"لا إزاي دي بتاعتي ، والبركة في الرجالة اللي معاك"
كز على أسنانه بغضب وغيظ يدفع يد مازن عنه وعينه تدور على رجاله المحيطين به وتسمرت على رامز الواقف يضع كفيه فوق بعضهما يناظره ببرود ليبتسم بغموض ونظر لمازن مرة أخرى يقول بسخرية يثير حنقه :
-"وأنت جاي متحامي في رجالتك يا بن عز تتهجم عليا في بيتي!!
أبوك معلمكش قبل ما يموت احترام اللي أكبر منك؟"
ضيق عينيه قليلًا وترائى أمامه جثة أبيه مدرج في دمائه ، نظر لرامز بإشارة بنظراته على أثرها طلب من الرجال الانتظار بالخارج.
تقدم مازن خطوة من رأفت ومازال على صمته يراقب ابتسامة الآخر الساخرة قبل أن يهبط بجبهته فوق أنفه بقوة جعلته يضج بالصراخ واضعًا كفيه عليها من الألم الذي عصف به يتراجع خطوتين للخلف حتى كاد أن يسقط على الكرسي فجذبه من ياقته يهمس بغضب :
-"لا ، أبويا علمني أن مفيش احترام للواطي مهما كان سنه إيه"
نفضه من يديه وأشهر سبابته في وجهه مهددًا :
-"وأنت بالذات يا رأفت اسم أبويا متقللش منه بنطقه على لسانك"
ضحكات مستفزة صدرت منه ، يجذب إحدى المحارم يمنع الدم النازف من أنفه وعينيه على مازن وقال :
-"أبوك كان ضعيف ، كان سهل ينضحك عليه والزمن ده مفيهوش مكان للضعيف يا مازن"
نجح في إشعال غضبه وكاد أن يفتك به لكن رامز أمسكه من مرفقه يمنعه عن قتله وهمس له :
-"مازن اهدى ، بلاش يستفزك"
وجهه احتقن بالدماء ، عيناه استحال اللون الأبيض حول حدقتيه بالأحمر ، فتحتي أنفه توسعتا من قوة تنفسه للسيطرة على غضبه ، وقبضة رامز على مرفقه تساعده على تلك السيطرة.
تقدم من رأفت الواقف يواجهه و مازن بسخرية، و قال بهدوء مغلف ببرود مغيظ :
-"بلاش تفتح الماضي وأنت عارف أن محدش خسران غيرك وخلينا في المفيد.. ابنك فين؟"
حال بنظراته بغموض ومال برأسه بابتسامة ساخرة :
-"أهلًا أهلًا يابن منتصر ، موت أبوك مأثرش عليك وعرفت تكمل حياتك صح"
بادله الابتسامة بمثيلتها وربت على كتفه بنوع من القوة :
-"أحسن من اللي أبوه عايش وطلع مش متربي"
ضحك بقوة لدرجة أعادت جسده للخلف ثم اقترب برأسه من أذنه يهمس :
-" لا وأنت الصادق ، ده اللي أمه سابته وهربت ومربتهوش"
من قال إن العين تفرز الدمع؟
الدموع الحقيقية هي بخار الروح المتألمة!!
وروحه تعج بالألم الذي ظل سنوات يكتمه ، حاول أبيه تعويضه عن فراق أمه وكان له كل شيء ، لكن بعد فراق الأب أيضًا من يعوض غياب الاثنين؟!
ضغط رأفت على الجرح المندمل فأعاد نزفه مرة أخرى ، فأشهر سبابته بتهديد في وجهه ، عيناه تقدح شذرًا ونظراته تضخ بالغضب والقهر وهتف :
-"ورحمة أبويا لو نطقت بكلمة تانية عن أهلي مش هيكفيني قتلك يا رأفت"
-"أنا صبري بدأ ينفذ ، بلاش ألاعيبك اللي ملهاش لازمة دي وقولي.. ابنك فين؟!
الراجل بتاعك فين اللي بيعمل العملة ويهرب زي الحريم"
هتف مازن بقوة وغضب بعدما وقف بجانب رامز الذي تقدم منه خطوة يهمس بسخرية :
-"لا عشان عارف إنه لو وقف قدامك يبقى نهايته على إيدك ، فقرر يستخبى زي الفيران!"
ضحك بقوة وأمسك بمرفق رامز يجذبه معه نحو مكتبه وأشار لمازن أن يأتي أيضًا..
فتح خزانته وجذب بعض الأوراق الموضوعة على الرف الأول بملف أزرق وأخرج ورقة معينة يمدها إلى رامز بابتسامة ساخرة.
أخذها منه يقرأها فوجدها شهادة ميلاده!!
عقد حاجبيه بدهشة من وجودها معه ، ليتبادل النظرات مع مازن بتساؤل وعدم فهم الذي جذبها منه ينظر فيها ثم تطلع لرأفت الذي جذب ورقة أخرى يعطيها لهما أيضًا فكانت شهادة ميلاد كريم بيوم ميلاد بعد ميلاد رامز بخمس سنوات!!
واسم الأم..... واحد " نادية سليمان عبد القوي"!!
تسمرت نظراته بعدم وعي وفهم على اسم أمه ، كيف!!
حتمًا تشابه أسماء!!
ما يراه ليس حقيقي هو ليس.....!!
يشعر بوحشة ألم ولا يدري سببه!!
شعور الصدمة أم الخيانة!!
ألم سلمه إلى صمت يحمله إلى مساحات أخرى جديدة يكون الكلام عنها وفيها شيئًا سخيفًا!!
نظر لمازن الذي جحظت عيناه مما يحدث بنظرات حيرة ورفض أن ما يقرآه غير صحيح ، هذه لعبة من ألعابه بالتأكيد!!
قاطعهما صوت رأفت من خلفهما بعدما جلس على كرسي مكتبه يضع مرفقيه على يديه ويتحرك به لليمين واليسار ، يفتح كفيه إلى الجانبين بحركة مسرحية وصوت المذيع عن خبر ما ومفاجأة كبرى يقطع الشك باليقين :
-"أحب أقولك إن ابني اللي أنت بتدور عليه ده يبقى أخوك من نفس الأم..
واللي أعرفه إن الأخ الكبير المفروض يسامح الصغير لما يغلط"
-"أنت بتقول إيه؟!"
تلك لم تكن زعقة خرجت من الأعماق..
كانت صرخة حليم عند الغضب قدت كجمر من حشا روحه.
فصرخ بها يمسك بتلابيبه بجنون ، ببعثرة طغت عينيه الجاحظة و قبضتي يد أحكمت خناقه.
حاول مازن إثنائه عما يفعل فنهر يده بدفعة قوية و عينين باتت القسوة تسكنها تخبره " لا تتدخل" فعاد أدراجه للخلف.
عيني رأفت كانت تبرق بخوف!!
خوف اتبلع له ريقه بصعوبة و تأتأ يخبره :
-"أنت.. أنت اتجننت يا بن منتصر، أنت مفكر نفسك هتخرج من هنا سليم."
قاطع حديثه يحرك جسده بعنف و قسوة، يسحبه بقبضتيه من قميصه و يرطم جسده على المكتب يصرخ:
-"أمي أنا تتجوز كلب زيك ليه؟!"
انتفض يعتدل و يرتب هيئته المبعثرة بعدما اصطدم بمكتبه وخبره بتحدي سكن عينيه:
-"أيوة.. أمك أنت سابتك و اتجوزتني..
لا و كمان خلفت مني و بقالك أخ..
برضاك غصب عنك كريم ابني يبقى أخوك"
زم شفتيه و ركض تجاهه فقاطعه مازن يمسك بخصره ، يعرقل ثورانه و اندفاعه تجاهه ، يحدثه بصراخ :
-" اهدى يا رامز ، اهدى"
و حين لم يستجب دفعه بعنف حتى تداعى جسده للخلف و سقط على أريكة المكتب ، فصرخ به :
-" فوق فوق يا رامز "
ناظره بثوران وعنف ، جسده ينتفض من الغضب ووجه احتقن بالدماء يصرخ بجنون :
-"أهدى!!
أنت مش سامع الكلب ده بيقول إيه؟!
كان متجوز أمي ، والحيوان ابنه يبقى.. يبقى"
صمت لا يستطيع نطقها!!
لا يريد تصديقها!!
يرفضها ولن يتقبلها مهما حدث!!
نفض يد مازن عنه ورمق رأفت بغضب وجنون قبل أن يدفع الباب بقوة حتى التصق بالحائط بدوي أكبر ، فاندفع للخارج يخرج من المكان بروح مختنقة وقلب مقسوم.
رمق مازن خروجه بقلق وتوتر ، ثم تقدم بغضب من رأفت يربت على خده بسبابته والوسطى بتهديد همس :
-"لينا حساب.. هرجعلك نآخده"
تركه وهرول للخارج يلحق الغاضب الذي يعلم أنه لن يمرر ما حدث على خير ، وتلك الصدمة التي تلقاها لن تمر مرور الكرام دون أن يذيق الجميع عواقبها!!
رآه يهتف بأحد الرجال بعدم المجئ خلفه ، وأدارها ليذهب لكنه هتف باسمه حتى يتوقف :
-"راااااامز"
توقف قليلًا ينظر له من المرآة الجانبية للسيارة
نظرة علم منها أنه سيرحل.. ما بعينه ما هي إلا نظرات الوداع!!
صادقة
كثيفة الفضول
بالغة التوتر
يغلفها الاعتذار والسماح على ذنب لم يقترفه!!
بادله بأخرى رافضة..
محذرة مما ينويه
تتألق بها البصيرة ، وتتوهج الروح.
★★★★★
وفي نفس التوقيت في أحد المولات الكبيرة كانت تصف سيارتها أمامه قبل أن تهبط منها مغلقة إياها بجهاز التحكم عن بعد ، ودلفت للداخل تحدث صديقتها في الهاتف تخبرها أنها وصلت للمكان وستقابلها بالأعلى :
-"هقابلك عند
H&M
عاوزة أجيب شوية بيجامات لأني حاسة إني تخنت شوية الأيام دي"
لم تنتبه لمن خلفها ، يضع سماعات البلوتوث بأذنه يستمع لمحادثتها!!
أغلقت معها عندما كادت أن تدلف للمصعد وأغلقت الباب لكن القدم التي وضعت في المنتصف أعادت فتحه من جديد ودلف معها تحيطها رائحة عطره التي جذبت انتباهها من قوتها وضغط نفس الطابق التي ستصعد إليه.
لم تعره اهتمام وظلت تعبث بهاتفها حتى وصل المصعد إلى الطابق ، خرجا الاثنان واتجهت نحو اليمين ، فوقف يضع كفيه بجيبيه ينظر لأثرها بابتسامة جانبية.
أنهت تسوقها وودعت صديقتها واتجهت تأخذ المصعد مرة أخرى لتجد نفس الشخص موجود بالداخل يستند بظهره على الحائط ، مكتفًا يده أمام صدره ، تتقاطع ساقيه في علامة أكس على الأرض.
رفعت حاجبها بتعجب من وقفته وأرجحت وجوده أنه شيئًا طبيعيًا.
أُغلق الباب وضغطت على الطابق الأرضي ووقفت تنتظر ، فسمعت صوته غير الغريب على مسامعها من خلفها يخبرها :
-"إيه الصدف دي؟"
هز رأسه بسخرية وأكمل
-" تؤتؤتؤ مش معقولة ماشية ورايا؟!
مكنتش عربية دي اللي كسرتها!!"
استدارت له بعنف وقد جحظت عيناها بذهول من ظهوره هنا والآن ، وهمست بصدمة وعيناها تشمله من رأسه لقدمه :
-"أنت!!
ليك عين تظهر قدامي بعد الوقاحة اللي أنت عملتها؟!"
مال برأسه للجانب بحاجب مرتفع ، ثابت على ابتسامته التي أثارت حنقها ، وعيناها تدقق النظر في تفاصيلها هذه المرة عن قرب وقال بهمس :
-"مش قولتلك عدي الأيام علشان اللقاء قرب!!"
أرادت الهتاف به بعدما تبدلت ملامحها للشراسة ، لكن اهتزاز المصعد بقوة ثم توقفه فجأة هو ما أوقفها.
تمسكت بالحائط تتمالك نفسها ، تنظر حولها تستوعب ما حدث فرأته يشير بهاتفه لها ففطنت أنه من فعل ذلك!
ارتفع حاجبيها بدهشة فاستغل ذهولها واقترب منها بغتةً يدفعها للحائط يحتجزها يستند بكفيه جانب رأسها .
وجهه يواجه وجهها ولا يفصله عنها سوى بضعة إنشات بسيطة.
تسارعت أنفاسها من اقترابه ، و زفيره الذي عانق صفحة وجهها فأغلقت عينيها برهة و عادت تفتحها بقوة تناظر عينيه بتحذير أعجبه.
لمعت عينيه بتحدي يخبرها :
-"بس عجبتك الهدية مش كده؟!
أكيد الورد عجبك و....."
صمت للحظة وهبط بأنفه يستنشق خصلاتها وجانب عنقها حتى اقترب من أذنها وقال :
-"والبرفيوم"
الصدمة شلت لسانها ولم تجد كلمات ترد عليه بها!!
جحظت عيناها بقوة وانقطعت أنفاسها للحظات لكن نظراتها اشتعلت بالغضب أكثر وشعر بها تكز على أسنانها كاظمة غيظها، فضحك بقوة وأخبرها :
-"نفعتك طولة اللسان دلوقتي!!
مكنش لازم تعملي دور الاندبندنت في التليفون لأن اللقاء غير"
رفع أنامله يريد إعادة خصلة من شعرها خلف أذنها فدفعت يده قبل أن تلمسها .
عاد خطوة لا إرادية للخلف ، ثم هتفت به بنزق وغيظ مشهرة سبابتها أمامه بشراسة :
-"متلمسنيش.. ومتحلمش بيها يا كريم أنت فاهم؟"
اقترب منها فجأة الخطوة التي ابتعدها فأغمضت عينها بخوف وانكمش جسدها ببراءة حركت الصخرة بين أضلعه قليلًا وانتفض له جسده للحظة لم يعرها اهتمام.
انحرف بفكره قليلًا أنه يستطيع فعل أي شيء وهي بهذا الشكل.. كتقبيلها مثلًا!!
الفكرة جعلته يعض على شفته السفلى بانحراف ومكر لكنه ظل يتأملها بصمت.
صمت مريب أثار حفيظتها ففتحت عينها ببطء لتراه ينظر لها بغموض ونظرات متلاعبة ثم قال :
-"متخافيش.. أنا لو عايز آذيكِ مش هبعتلك ورد ولا هقابلك هنا.. أنا عاوز أعرفك وتعرفيني"
كتفت ذراعيها بثقة واهية ، وأدعت القوة مشيحة وجهها للجانب تهتف :
-"ممكن تبعد"
لبى طلبها وعاد للخلف خالقًا مساحة بينهما جعلتها تلملم شتات نفسها وناظرته بقوة وشراسة تخبره بسخرية :
-"واللي مش عاوز يأذي يبعت برفيوم زي ده ولانجيري لواحدة ميعرفهاش!!
على فكرة أنت مش محترم"
هتفت جملتها الأخيرة بطفولة تلقائية أثارت ضحكاته وكاد أن يقترب مرة أخرى لتشير إلى حركة قدمه بهتاف وغيظ :
-"شوفت شوفت مش محترم إزاي!!"
تعالت ضحكاته أكثر بصوت أجش ورجولي أثار شيئًا ما بداخلها وجعلها تتأمله وجسده يهتز من شدتها ، يهز رأسه بيأس فلم يتعامل أحد هكذا من قبل معه ، ولا يتذكر أنه ضحك من قلبه في يوم!!
نظر لها بعدما هدأت نوبة ضحكاته وقال :
-"معلش أصلي معنديش
“Manners"
لوت فمها بسخرية وأشاحت برأسها بغيظ ، فقاطعه عن تكملة حديثه رنين هاتفه بإشعار رسالة وصلته فمد يده يخر ج هاتفه ويقرأها
-"مصطفى هرب.. ومازن ورامز لسه ماشيين من عندي بعد ما عرفوا مكاني من متولي"
اختفت معالم الضحك و المرح من على صفحة وجهه ، ذلك الضاحك العابث والمرح ذهب أدراج الرياح ، وقد خرج الشيطان من عقاله!!
رأت تحول نظراته إلى الأسود ، تأهب جسده كمن تلقى خبر صادم!!
عضلات فكه تتحرك بقوة وغضب وقبضته تشتد على الهاتف!!
اهتز جسدها أثر إعادة المصعد للعمل من جديد وفتح بابه ليخرج منه باندفاع يرفع هاتفه على أذنه يريد أن يعلم ما حدث في غيابه وعيناها لا تفارقه بنظرات مندهشة ونبضات خائفة من التحول الذي رأته!!
توقف في منتصف الطريق ولاحت منه التفاتة بسيطة لها وكأنه يخبرها أن اللقاء لم ينتهِ وسيعود لها مرة أخرى قبل أن يعطيها ظهره ويختفي وسط الجمع.


Fatima Zahrae Azouz غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس