عرض مشاركة واحدة
قديم 31-01-21, 05:54 PM   #86

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل التاسع والثلاثون ❤️🔥

يا من يفكر في صمتٍ، ويتركني
في البحر أرفع مرساتي وألقيها
ألا تراني ببحر الحبّ غارقةً
والموج يمضغ آمالي ويرميها
انزل قليلًا عن الأهداب يا رجلًا
ما زال يقتل أحلامي ويحييها.

-نزار قباني.


في هذه الحياة يهب البعض منا القدر ولمرة واحدة في العمر، فرصة لا تقبل التعويض، من ذلك النوع القادر على تغيير مجرى حياتنا نحو الأفضل، ووضع كل شيء في نصابه الصحيح، يقتنصها المجازف فائزًا بها، ويقف مترددًا أمامها الضعيف، ثم يمضي باقي حياته في رثاءها، يتمنى لو يُعاد به الزمن فيحسن وقتها التصريف...

ظل صدى اقتراحها يتردد في الأركان الصامتة من هول الدهشة، كما يتردد صدى القطعة المعدنية وقت ارتطامها بأرضية القاعة الفارغة، لا شيء سوي طنين أخذ في الخفوت حتى تلاشي تمامًا وبقت نظراتهم المستغربة هي العلامة الوحيدة على سماعهم اقتراحها، قبل أن يقرر "طاهر" إنهاء ذلك الوضع المحرج والخروج منه بالحمحمة أولًا، ولن ينكر أبدًا حالة القبول التي سرعان ما انغمس بها كليًا، ثم راح عقله يتخيل رد فعل زوجته وفرحتها بذلك النبأ والذي ربما يُخرجها من حزنها الشديد، مقترحًا بعدها في تفكير :
-(( الفكرة ممتازة وتحل المشكلة فعلًا.. بس ناقصها شوية تظبيط ))..

سألته غفران في حيرة متجنبة النظر إلى ذلك الواقف قبالتها يطالعها في صمت ويجاهد في كبت ابتسامة سرعان ما عانقت ثغره، تزداد اتساعًا في علاقة عكسية مع تراجع شجاعتها بعد تفوهها بفكرتها الحمقاء، وما زاد ارتباكها وجزء لا يُستهان به من ندمها، هو امتناعه حتى الآن عن المشاركة أو التعقيب، بينما أجابها طاهر يقول في فراسة :
-(( أظن ومن الأفضل نخلي كتب الكتاب بعد المحكمة على طول.. لأن ممكن محامي الخصم يطعن في صحة شهادتك بما أنك مراته محدش ضامن ألاعيبهم إيه.. يبقي الأحسن نجهز كل الأوراق حتى التوقيع وتبقى على صيغة عقد القران.. ومتقلقيش يوم المحاكمة الصبح هنزل خبر في كل الجرايد بزواجكم رسمي.. وكده نقطع الطريق على أبو المجد في أي حركة.. كل اللي عليكي بس تطلعيلنا الباشا ده من هنا ))..

أنهى حديثه بالربت على كتف جواد، والذي يبدو بأنه اكتشف أخيرًا الصلة الوطيدة بين اهتزاز أحباله الصوتية وخروج الصوت منها، فهتف يتساءل في اعتراض :
-(( وتفتكر عيلة غفران هتقبل باللي أنت بتقوله ده؟!.. إنهم يجوزوا بنتهم بالطريقة والسرعة دي لواحد محبوس على ذمة قضية اغتصاب!! ))..

انخفض مستوى الحماس بداخل رفيقه قبل أن ينزوي بجسده ممتنعًا عن الرد، بينما هتفت هي تقول في ثقة :
-(( إذا كان وافقوا اتجوز واحد معرفهوش في ٣ أيام وأسافر معاه.. هيعترضوا على سرعتنا ليه؟!!.. ولو على القضية أنا هشرحلهم الوضع.. وبعدين سيب مهمة إقناع بابا عليا ))..

حرك رأسه موافقًا ثم قال في تصميم متوجهًا بكليته إلى قريبه المتكأ بالقرب منه على حافة المكتب :
-(( طاهر تاخد بابا وباقي العيلة وتروح تطلبها من أيد والدها بشكل رسمي.. وبالطلبات اللي يقول عليها.. هعتمد عليك تتصرف كأني أنا موجود.. ولو والدها اعترض متضغطش عليه.. مش عايزه يحس أن بنته وسيلة لخروجي ))..

أومأ طاهر بعينيه يطمئنه، ثم انحني بجذعه نحوه كي يضمه بين ذراعيه في عناق أخوي مطول وكأنه يبثه الموافقة والثقة في تنفيذ رغباته من خلاله، بينما وقفت هي تتابع حالهم بأعين حالمة خصوصًا بعد طلبه الأخير، يكاد صوت دقاتها المتسارعة من فرط الحماس والترقب يصل إليهم، ولحظات هي كامل الزمن الذي عاشته داخل الصورة السعيدة التي نسجها عقلها على الفور عن اجتماع ثلاثتهم سَوِيًّا، قبل أن تعود إلى أرض الواقع وتتذكر الهدف الأساسي من زواجهم المزعوم.


***********************


انكب على أعماله المتراكمة والتي انشغل عنها الفترة الماضية بالركض خلف أمور تلك المحامية المخضرمة ورفيقها الطبيب، حتى أهمل باقي أشغاله، ولم ينتبه لذلك إلا عندما بدأت بعض مناقصات وملفات شركته في الاختفاء والخسارة، وقتها قرر حسم تلك القضية، أو ليكن أكثر دقة الخلاص منها، والالتفات إلى مشاريعه وما هو أهم، مقاطعًا تركيزه بعد فترة طويلة من جلوسه خلف مكتبه، اندفاع الباب يليه ظهور "جيداء" تهتف اسمه في حنق، فرفع رأسه وأماله يمنة ويسري يفك تشنج عنقه، قبل أن يقول شِرْزًا في سخرية :
-(( هو الباب ده ملهوش صاحب ولا إيه.. كل واحدة فيكم تدخلي من غير سلام ولا كلام ولا حتى استئذان!! ))..

حدقته مزدرية، بعدما تأملت هيئته بملابسه التي لا تتناسب مع ملامحه وطريقة حديثه السوقية، تود لو تنقض فوقه وتخنقه بيدها حتى تزهق آخر أنفاسه تحت قبضتها، ورغم ذلك تمالكت نفسها تُذكرها بالأهم، وما أتت من أجله؛ وعليه هتفت تسأله في حدة متجاهلة تعقيبه :
-(( أنا برنلك بقالي يومين مبتردش عليا ليه؟! ))..

ناظرها مطولًا بملامح جامدة، ثم قال في فتور يريد بذلك صرفها عنه بعدما أحنى رأسه مرة ثانية فوق الأوراق التي أمامه :
-(( مش فاضيلك.. ورايا شغل محتاج تركيز ))..

صاحت تعقب في عصبية بعد أن ضربت سطح مكتبه براحة يدها الرقيقة :
-(( نــااااادر.. أنا مش بلعب معاك.. بنتي فين ؟!.. كان اتفاقنا هتبدأ تدور عليها وقت ما تاخد الأوراق من بيت غفران واديك أخدتهم.. ويحيي وأنا دورت بنفسي في بيته مفيش أوراق ولا هو فاكر حاجة عنك أصلًا.. يبقي فاضل إيه ؟! ))..

هتف في حدة بعدما ترك مقعده منتفضًا من داخله وسار حتى وقف أمامها وقبض بيده الغليظة على مرفقها :
-(( قلتلك مش فاضيلك.. الشركة خسرت كام شغل ورا بعض ومحتاجة تركيز مني.. لما يتحكم في قضية جواد وتسلمني كل اللي في أيديها ساعتها هسفر حد مخصوص فرنسا يجبهالك.. لحد وقتها متوجعيش دماغي ))..

دفعها بعنف في اتجاه باب الغرفة بعدما أنهى حديثه، بينما صرخت هي تحذره في اهتياج بعدما نفضت ذراعها من أثر قبضته الوهمية :
-(( أوعي متلمسنيش تاني.. واعمل حسابك.. لو خلفت وعدك معايا أو بنتي مظهرتش هتشوف مني وش مش هيعجبك يا نادر.. مش بعد الصبر ده كله يضحك عليا.. وده أخر تحذير ليك.. أسبوع لو ملقتش أخبار عنها.. استني مني اللي مش هيعجبك ))..

نفضت رأسها في قوة تعدل من هندامها قبل السير بكبريائها المعتاد، ووقف هو يتابع انصرافها وداخله يسب ويلعن بأقبح الألفاظ الزمن الذي ورطه معها، مفكرًا في عجز بخطة بديلة سريعة تمكنه من إيجاد طفلة بنفس ملامح وعمر ابنتها المفقودة، حتى تحل عنه ويتخلص من إلحاحها المتواصل هي الأخرى.


****************************



لو كان للأقدار جسد، لوقفت تضحك ساخرة وهي تراقب خطط البشر واضعة كف فوق معدتها بينما تشير بأصبع الأخر نحو السُذج منهم، ولو كان لها صوت لصاحت تقول "ما الأقدار بالاختيار، بل هي تدابير الجبار، والعبرة بمن سبقكم يا أولى الأبصار"...

ذابلة تمامًا كما الوردة التي اُجتزت من جذورها، وتُركت وحيدة في العراء، تجاهد من أجل البقاء، وقد تكالبت عليها الهموم، وانغمست مستكينة في شعور اليأس والشقاء......
تنتفض من نومتها كلما غفت وحديث حماتها لازال يؤرق مضجعها، ويتردد داخل أذنها فيمنع النوم من الوصول لمخدعها، وكأنها ترقد فوق الأشواك، يزورها طيفها إذا غفت، وتقفز داخل حلمها أن نعست فتحوله إلى كابوس يجبرها على الاستيقاظ، أما عنه فقد ظن جاهلًا أنها هلاوس المخدر مختلطًا بحالتها النفسية السيئة بسبب ما مرت به من فقدان جنينها، لذا تركها تأخذ وقتها الكامل في تماثل الشفاء دون الضغط عليها....
كل ما كان يفعله هو تهويدها عندما تقفز من نومتها صارخة، يمسح بيده فوق سنابلها الذهبية، ويخبرها بصوته الناعس بوجوده جوارها، حتى تهدأ وتستكين بين ذراعيه...
أما الليلة فقد اكتفت حَقًّا من هذا الرعب المتواصل الذي تعيشه وخاصةً بعد معرفتها خبر سفر والدته إلى قريتهم؛ وعليه اندفعت بكل ما تحمله من قلق وحنق نحو غرفة المعيشة حيث يجلس هاتفة في إصرار بعدما ابتلعت لعابها بقوة :
-(( بدر.. أعمل حسابك.. بعد ما الأيام بتاعتي ما تعدي والجرح يقفل أنا عايزة عيل ))..

وضع هاتفه بجواره فوق الأريكة بعدما أطفأ شاشته، ثم سألها في استنكار بملامح وجه عابسة :
-(( عيل إيه يا أفنان أنتِ اتجننتي!!.. ده أنتِ تعتبري خارجة من ولادة مكملتيش أسبوعين.. عيل إيه ده اللي بتفكري فيه من دلوقتى ؟! ))..

صاحت تقول في يأس وعصبية وقد غلبتها دموعها :
-(( ملكش دعوة بيا.. أكمل ولا مكملش انشاله أموت وأرتاح من الحسرة اللي أنا فيها دي ))..

زفر في قلة حيلة، ثم استدار بجسده يطوقها بذراعيه، ويسألها في حنان :
-(( أهدى بس وفهميني.. مين زعلك ))..

تعالت شهقاتها الملتاعة حتى فقدت نصف حروفها وهي تنطق جملتها، ورغم ذلك استطاع التقاط اسم والدته من بين الحديث، فعاد يسأل من جديد في صبر :
-(( مالها بس أمي.. عملت إيه معاكي ))..

أجابته بعدما سيطرت على شلال دموعها المتساقط :
-(( هددتني تروح البلد تشوف عروسة جديدة عشان أنا مش نافعة.. واديها سافرت تنفذ ))..

قهقه عاليًا في استمتاع وهو يعود برأسه للخلف، الأمر الذي زاد من حنقها فصرخت تقول وهي تدفع يده بعيدًا عن جسدها :
-(( بقولك هتشوف عروسة وأنت بتضحك!!.. آه ما واضح أن الموضوع جاي على هواك ))..

انتصبت واقفة بعدما نجحت في الإفلات من قبضته تدك الأرض بقدمها غيظًا غير عابئة بألم جرحها الذي يأن وجعًا، بينما سارع هو بالوقوف خلفها وإعادة ضم ذراعيه لها، هامسًا في عشق :
-(( أحنا مش اتكلمنا في الموضوع ده قبل كده وقلتلك أنتِ أهم عندي من العيال.. يبقي يا عبيطة ليه تسبيها تخوفك ))..

أجابته في دلال بعد أن مسحت بظاهر كفها العبرات التي سالت فوق وجهها :
-(( عشان بحبك ))..

تنهد في إرهاق ثم قال قبل أن يلتهم ثغرها في قبلة مطولة اسكتت كافة هواجسها، ولو بشكل مؤقت :
-(( وأنا عمري ما هسيبك يا أفنان.. أنا اكتفيت بيكي ))..



***********************


فى مساء اليوم التالي.. بداخل منزل عائلة غفران......

في جلسة مهيبة تبعث على النفس بالفخر، توسطها والدها حيث جلس في المنتصف منتفخ الأوداج وجلس على جانبيه كبار عائلة المناويشي بداية من والد العريس الغائب "أنور المناويشي" يليه جميع أبناء عمومته من الجنوب وقد أتوا خصيصًا لمؤازرة قريبهم في محنته نهاية إلى "طاهر"، العضو الأصغر سِنًّا في العائلة منشغلين في التعارف قبل التشاور في مسألة المصاهرة....

أ

ما في الداخل حيث غرفة المطبخ وقفت غفران على حافته تستمع إلى حديثهم في توتر ملحوظ، ووقفت بالقرب منها والدتها تقول بأعين لامعة من شدة السعادة ونبرة مختنقة من فرط الرضا :

-(( اللهم بارك يا غفران.. إيه الفخامة دي.. شفتي العيلة تشرح القلب أزاي؟!.. دي كفاية دخلتهم ولا أسطول العربيات اللي اترصص تحت البيت.. قلبي كان هيقف من الفرحة وأنا سامعة أبوه يقول لأبوكي المهر اللي تطلبه من جنيهه لمليون يكون عندك.. والشبكة والبيت اللي تأشر عليهم تحت أمرك.. صبرتي وربنا عوض صبرنا وصبرك خير يابنتي.. حاسة دموعي هتنزل من الفرحة وأنا بفتكر أم طليقك الزفت وهي بتقول شوفي مين يعبر بنتك بعدنا.. أهو كرم ربنا.. عريس الأحلام.. جاه ومال وتعليم وعيلة تسد عين الشمس ))..

تنهدت غفران في ارتياح، لا تكاد تصدق موافقة والدها المبدئية في صباح البارحة عند مفاتحته في الأمر، بل وقبوله استقبالهم في اليوم التالي دون تأجيل، تشعر بأن الأمور تصب جميعها في صالحها، وقد أرضاها الزمن أخيرًا حتى ولو لفترة معينة، يكاد قلبها الطرب يخرج من بين أضلعها مع كل ضحكة ومسامرة متبادلة بين والدها وعائلته، فقط لو كان هو معهم أو لو كان ذلك الزواج حقيقي لاكتملت فرحتها، ولكن صبرًا، عل الله يُحدث من بعد ذلك أمرا....
مقاطعًا شرودها اللحظي صوت والدتها تسأل في قلق :
-(( بس بجد يا غفران موضوع القضية ده.. ولا بتقولي كده عشان أنتِ ميالة ليه فاحنا نوافق؟! ))..

سارعت تهتف في صدق :
-(( أبدًا والله ما بكذب.. القضية دي أنا اللي ورطته فيها بغبائي.. هو ملهوش ذنب في أي حاجة زي ما حكيتلكم امبارح.. وبعدين أنتِ بنفسك بتقولي أنه عريس لُقْطَة.. يبقي قلقانة ليه! ))..

إجابتها والدتها في تردد، بينما يدها مشغولة بإعداد أطباق الحلوى للضيوف :
-(( بطمن عليكي.. مش عايزه تقعي في واحد ندل زي الأولاني.. عَمَّتَا زي ما أبوكي قالك الضهر.. كتب كتاب بس والجواز مش قبل شهرين.. يكون سأل عليه وأطمن.. وحتى يكون خرج من القضية الزفت دي.. ده شرطه وتلاقيه بيبلغ أبوه بيه دلوقتي.. يكش ربنا يجعل فيه القبول وبعد الجواز يلمك وتبطلي تنطيط وأنتِ دماغك جزمة قديمة ومحدش قادر عليكي ))..

تجعدت ملامحها وتهدلت أكتافها تتذكر اتفاقها معه على صورية الزواج، ثم قالت لوالدتها في إحباط :
-(( متقلقيش.. معتقدش هيعترضوا على الشرط د..... ))..

وقبل أن تنتهي من إتمام جملتها، تهادى إليهم صوت والدها يقول في بشاشة :
-(( مادام وافقتم ع الميعاد يبقي على خيرة الله.. كده متفقين ونقرا الفاتحة ))..

رغم علمها بعدم مصداقية ذلك العرض، ألا أنها لم تستطع منع نفسها من رفع يدها والقراءة معهم، بينما الابتسامة الواسعة لا تفارق محياها، خاصةً عندما ختمت والدتها وشقيقتها الاتفاق "بالزغاريط" والتهليل، يعلنا بذلك بداية الأفراح....


************************

في المساء.. وتحديدًا قبل منتصف الليل...

دلف طاهر الغرفة بعد أن عاد من مهمته وانتهى من تنفيذها على أكمل وجه يجولها بعينيه لحظة وصوله باحثًا عنها، ولم يبذل في ذلك الصدد الكثير من الجهد، حيث رأها بمجرد دخوله تجلس فوق الفراش وتقرأ في المصحف الشريف كما اعتادت مُذ حادثة فراق شقيقها....
لقد بدأت تتحسن تَدْرِيجِيًّا عن ذي قبل ولكنها لازالت تلتزم الصمت في كثيرًا من الأحيان، إلا في حالات نادرة كما الآن، وفور رؤيتها له أغلقت الكتاب ووضعته جانبًا في احترام، ثم سألته في جفاء رغم الاكتراث الواضح في عيناها :
-(( عملتوا إيه.. عرفت تقنع والدها؟!... ))..

سار حتى وصل إليها وجلس قبالتها، ثم أجابها في ارتياح بعدما أنحني ولثم ظاهر كفها :
-(( الحمد لله وافق.. كنا خايفين يعترض.. بس واضح أن غفران كانت مفهماه كل حاجة ومتفقة معاه ع التفاصيل كمان.. هو بس شرط أنه يكون كتب كتاب.. وبعد فترة من التعارف يقدروا يتمموا الزواج ))..

حركت رأسها إيجابًا في استحسان، قبل أن تعود وتسأل مستفسرة في اهتمام :
-(( يعني كده إن شاء الله جواد هيخرج الأسبوع الجاي؟! ))..

تنهد مطولًا يود لو يُجزم لها بذلك فيكفيها القلق على جثة شقيقها القابعة في ثلاجة الموتى إلى الآن ولكن....
كل ما يقوما به مجرد محاولات يتمنى نجاحها ويتحرك بكل طاقته من أجل تحقيقها، أما الكلمة الأخيرة فليست في يده، ورغم ذلك أجابها آملًا :
-(( إن شاء الله يخرج.. غفران بتقول كده وهي واثقة من كلامها.. وأظن أنتِ أقرب حد ليها وعارفاها لما بتصمم على حاجة ))..

أومأت بأهدابها دون تعقيب، ثم ومن بعد أن ازدردت لعابها، عادت تسأله تلك المرة في حشرجة :
-(( طب والولد!!.. في أخبار جديدة؟! ))..

ارتفعت إحدى ذراعيه يمسد بأنامله ما يتمرد ويظهر من خصلاتها أسفل الحجاب الموضوع فوق رأسها، قائلًا في صبر :
-(( أنتِ عارفة هو كمان هيفضل يتجددله لحد ما ينتهوا من جمع كل الأدلة.. بس المحامي بيقول إن شاء الله هناخد تصريح الدفن على أخر الأسبوع ))..

حاولت بأقصى جهدها الانخراط معه في الحديث وألا تستجيب لتلك الرغبة العارمة في الانزواء عنه والاختلاء بنفسها كما اعتادت، تريد مساعدته في إنقاذها، تود الخروج من يأسها، تحاول وتحاول لإخراج الكلمات من فمها، ولكن، يبدو أن الأحرف هي من ترفض مغادرة ثغرها، وفي النهاية انصاعت لرغبتها وعادت تُغلق على نفسها...
قاطعًا هو صمتهم الرتيب يقول بصوته الأجش الخافت، ولو تعلم كم يعاني هو الأخر لتجاوز إحساس العجز الذي يحيطه من كل جانب!، يشعر بأنه يقف على حافة هاوية، يتمسك بيدها محاولًا رفعها إليه بعد أن انزلقت قدماها للأسفل، وأن أغفل عنها برمشه عين، ستترك يده :
-(( شكرًا يا رحمة.. شكرًا على موافقتك أننا ننفذ رغبة جواد ونطلب غفران بشكل رسمي محترم في الظروف دي ))..

نجحت في رفع زاوية ثغرفها فيما يشبه الابتسامة الباهتة التي لا حياة فيها، ثم قالت في صدق :
-(( معتقدش أن اللي عملتوه ده هيأثر في حاجة.. يعني في الأخر اللي راح مش هيرجع.. وده الحل المناسب لجواد.. وغفران تستاهل تتجوز بطريقة تحفظ كرامتها حتى لو بتساعده.. بالعكس شكرًا على اللي أنت عملته عشانهم ))..

أسبل أهدابه في راحة، ثم قال يُبلغها بنبرة هادئة عكس ما يعتمل بداخل صدره :
-(( طيب أنا مضطر أسافر يومين السويس لشغل ضروري.. في العادي جواد كان بيخلص عني الحاجات دي.. بس للأسف دلوقتي مفيش حد ممكن آتمنه يستلم غيري.. إن شاء الله مش هتأخر.. رغم أني مكنتش حابب أبعد عنك في الفترة دي ))..

ممزقة ما بين إحساس القلق كعادة كل يوم مُذ تلك الفاجعة، لا يهدأ لها بال ولا يطبق لها جفن إلا بالاطمئنان على عودته وسماع صوته داخل المنزل، فحتى وإن لم تظهر له ذلك بشكل صريح، فقد أصبح "طاهر" هو كل ما يربطها بتلك الحياة، وما بين رغبتها في الاعتزال، وجدت نفسها تقول في نبرة متباينة تجمع الشعوران معًا :
-(( متقلقش.. روح شوف شغلك واحنا هنا وغفران دايمًا معايا ))..

مال بجذعه نحوها يبغي بذلك تقبيل وجنتها، فتفاجئ بها تدفعه متراجعة للخلف في تصرف عدائي، بعد أن أجفل جسدها فور شعورها بأنفاسه تقترب منها، ثم تمتمت تقول في اضطراب :
-(( أنا آسفة.. بس أنا مش مستعدة لأي حاجة ))..

لن يُنكر حالة الصدمة التي أصابته من صدها له بتلك الطريقة الهجومية المهينة فكل ما كان ينتويه هو طبع قبلة شاكرة فوق وجنتها، ثم سرعان ما سيطر على عبوس ملامحه وضيق نبرته مفسرًا في حرج :
-(( أنا مكنش قصدي أي حاجة.. متقلقيش ))..

رفعت كفها المرتجف تمسح في عنف واضح فوق وجهها، قبل أن تترك الفراش وتركض هاربة داخل الحمام، لا تدري ما الذي يصيبها وقد أصبحت تشعر بالعدائية تجاه الجميع...
أما عنه فقد راقب عزوفها عنه بنفس صابرة، يود فقط لو تُريه الطريق الذي تستحسنه كي يساعدها في تخطي تلك المحنة، قبل أن يقرر هو الأخر التحرك وتحضير حقيبة ملابسه وتركها تأخذ وقتها الكامل في قبول مصيبتها، يكفيه فقط عودة لمعة الحياة لعينيها بدلًا من ذلك الانطفاء الذي يمزق داخله حزنًا...


**************************


بداخل منزل الطبيب.. بعد مرور يومان...

جلس فوق أريكة غرفة المعيشة المقابلة للمطبخ المفتوح يتابعها بعينيه وهي واقفة خلف طاولة تحضير الطعام منشغلة عنه بإعداد وجبة العشاء، صابة كامل تركيزها على تقطيع الخضروات في عبوس لا يتناسب وملامحها الناعمة، وقد أصبحت تولي وجبات الطعام مُذ حادثة القبض على شقيقها جزء كبير من اهتمامها ووقتها، ربما تفعل ذلك كي تُخفي وراء انشغالها الدائم بأبسط الأمور حزنها، أو ربما حالتها الساهمة أكثر من العادة اليوم تحديدًا سببها تلك الزيارة، حيث أصرت على الذهاب معه لرؤية "رحمة" وها هي منذ عودتهم شاردة، تحاول جاهدة منع دموعها اللامعة بداخل مقلتيها من الانهمار، أو ربما كل ذلك الحزن نابع من القلق، إذ اقترب موعد محاكمة أخيها وبالتالي من الطبيعي ازدياد توترها...
مئات التحليلات تصارع خلايا عقله، وكلها تعود إليها حتى شعر بالألم يعتصر صدغيه، فرفع كلا كفيه يمسد جانبي جبهته بأطراف أصابعه، قبل أن يلاحظ كفها الذي أرتفع كي تمسح على عُجالة ما يتساقط من داخل أجفانها...
فسارع بالذهاب إليها والوقوف خلفها وضمها إليه، ثم وبعد أن طبع قبلة مطولة فوق شعرها، قال يطمئنها بصوته الأجش المبحوح :
-(( متقلقيش على جواد.. أنا واثق أن غفران هتقدر تطلعه مادام حركتها بقت هادية كده ))..

استدارت برأسها جانبًا تواجهه، وقد وضع رأسه فوق كتفها فأصبح لا يفصل بينهم سوي أنش واحد على أقصى تقدير، ثم همست تستفسر يائسة، بينما نظرة عيناها مثبتة نحو خاصته تتلمس منه الطمأنينة :
-(( تفتكر هتقدر يا يحيي!.. واضح أن القضية صعبة أوي ومقفولة.. أنا مش هستحمل ست........ ))..

-(( هشششش........ ))..
قاطعها يمنعها من الاسترسال بوضع سبابته فوق شفاها، بينما اقترب بوجهه يمسح بشفاه كل ما تساقط من دموعها قبل أن يضيف بصوته المتحشرج الحاني :
-(( متفكريش كده أبدًا.. تفائلي بالخير ))..

هزت رأسها موافقة في استرخاء حيث شرعت كفه في تدليك أسفل عنقها في حركة أصبحت تترقبها منه كلما شعرت بالحزن، أو التوتر، أو حتى الارتباك، ولو يعلم كم أن حركة بسيطة كتلك تعبث باتزانها، وتصيب وجيف قلبها بحالة من عدم الاستقرار، والأهم.... تُشعرها بالانتماء إليه..
وقبل أن تتفوه أو تأتيها فرصة الشكر أو التعقيب، وصل إليهم ذلك الصوت الأنثوي، والذي بات يتعمد الصدوح والإعلان عن وجوده كلما مرت لحظات هادئة بينهم، تقول تلك المرة في خفوت :
-(( يحيى أنا مسافرة يومين.. محتاجة أغير جو وأريح أعصابي شوية.. هروح أزور عمتو في القاهرة كام يوم وأرجع ))..

أرادت علياء الصراخ في وجهه تطالبه بالقبول، بل أرادت الركوع على ركبتيها وتوسله الموافقة، فبالنسبة إليها طعنها تلك اللحظة أهون من تفوههِ بالرفض، وبالفعل لم يخذلها، إذ قال مباشرةً في نبرة جاهد لإخراجها عادية ووأد حماسها :
-(( آه طبعًا يا جيداء عندك حق.. الجو هنا بقى صعب ويوتر ))..

حركت رأسها تؤكد حديثه، بينما كفيها تتحرك بباطنها فوق بنطالها الجينز العصري وقد بدا عليها الإحباط هي الأخرى أكثر من أي وقتًا مضي، وكأن هناك هالة من اليأس وفقدان الأمل تحيط بها وتشع من عيناها على عكس عادتها، وأكد ظنه نبرتها عندما أجابته قائلة في ذبول :
-(( تمام أنا حجزت القطر على بليل وحضرت شنطتي.. بس معلش الستارة بتاعة الأوضة فيها مشكلة تقريبًا.. يحاول أشدها عشان اقفلها مش راضية من بليل غالبًا معلقة.. ممكن تساعدني عشان مش مرتاحة وهي مفتوحة ومش عارفة أغير في الأوضة طول ما الوضع كده ))..

همهم موافقًا قبل أن يشير إليها بيده كي تتقدمه، بينما ظلت علياء واقفة مكانها تستمع إليهم في صمت، ولن تُنكر أبدًا يد الغيرة التي امتدت تعتصر مهجتها حتى شعرت بالألم يصل إلى فؤادها، تود لو تترك ما بيدها وتركض خلفهم تراقب ما يفعله حتى ينتهي من مساعدة تلك الشقراء ثم تعود به إلى الخارج جوارها حيث منطقة الأمان.....

أما بداخل الغرفة وبعدما نجح يحيى بطوله المناسب في فك تشابك حلقات اَلسِّتَارَة حيث كانت اثنتان منهما عالقتان بداخل بعضهم البعض، وقام بشدها فتحركت معه في سلاسة داخل المجرى المخصص لها، حاجبة بقماشها الثقيل المشهد بالخارج عن أعينهم، همست جيداء تشكره قائلة في عاطفة مشتاقة :
-(( شكرًا يا يحيي.. أنت عارف.. لما سافرتلك باريس حصل موقف مشابه.. واتصلت بيك في نص الليل أنزلك عشان الشباك معلق ولارا مكنتش عارفة تنام من البرد ))..

رفعت أهدابها تفترسه في حيرة بعدما ضيقت أجفانها فوقه مستطردة حديثها بسؤال متعاطف أكثر منه مستنكر :
-(( أنت حقيقي مش قادر تفتكر أي حاجة من دي؟! ))..

حرك رأسه نافيًا في حذر شديد فلا يدري آية الألاعيب تلك التي تمارسها عليه، بينما تحركت هي في خطوات مدروسة تسأله بعدما عضت بأسنانها طارف شفاها :
-(( ولا حتى فاكر دي ))..

قبل أن يعي سؤالها، أو يتوقع حتى حركتها التالية كانت ترتمي بجسدها عليه وتلصق شفاها بشفاه في قبلة مباغتة وفعلة جريئة لم يتوقعها منها على الإطلاق، حتى أن الأمر منه احتاج بعض الثوانِ وإن قلت لاستيعاب حركتها والقيام برد فعل معاكس، وقبل أن تصل كفيه إلى ذراعيها لدفعها بعيدًا عنه، داهمهم صوت أخر يعرفه جيدًا يسأل في جنون غاضب :
-(( أنتوا بتعملوا إيه!! ))..

لم تكن صدمته بأقل منها، ولو عاش على عمره المكتوب أعمارًا مديدة، فلن ينسى النظرة التي رمقته بها قبل أن تركض داخل الغرفة وتغلق الباب بالمفتاح من خلفها، وكأنها نظرة حيوان جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة، نظرة ألم قادمة من جرح غائر عميق ناتج عن غدر أقرب ما لديه...

أما عن جيداء فتسمرت هي الأخرى مكانها في حالة من الذهول بينما عقلها يحاول استيعاب ما أقدمت عليه....
لم تكن تنوي فعلها، ظلت تردد أغلط الإيمانات بداخلها أنها أبدًا لم ولن تكن تريد فعلها أو الاقتراب منه، هي فقط تشعر بالوحدة والنبذ، وهيأ لها عقلها في لحظة طائشة إمكانية استعادة الماضي وتذوق حلاوته ويا ليتها لم تفعل!!...
حركت رأسها يمينًا ويسارًا علها تفوق من صدمتها قبل أن يأتيها صوته مزمجرًا بها في غضب :
-(( مبسوطة كده!!.. استفدتي إيه؟!.. ليه بترخصي نفسك في عيني بزيادة! ))..

كانت نظرته المحتقرة أقوى من قدرتها على الاحتمال، خاصةً مع شعورها بحبل الذنب يلتف حول عنقها، ويزيد بنظرته المزدرية تلك من شدته فوقها كأنه يعطيه أمر مباشر بإزهاق أخر ما فيها من احترام لنفسها وأنوثتها، فلم تجد حَلًّا سوى الهروب من كل ذلك؛ وعليه سحبت حقيبتها المعدة سلفًا، ثم دفعته من أمام طريقها بكفها المرتعش وركضت نحو الخارج، بينما اندفع هو الأخر يضرب باب الغرفة بيد، ويحاول تحريك مقبضه بالكف الأخر، ولسانه لا يتوقف عن ترديد اسمها في توسل :
-(( عالية.. عشان خاطري افتحي الباب.. اسمعي مني الأول ))..

لم تلق بطلبه بالًا إذ جلست خلف الباب تستمع إلى توسلاته والألم بداخلها لا يحتمل، نار تحرق قلبها تزامنًا مع احتراق جفناها بدموع الخزلان، أما عن جسدها فكان يرتجف كغصن وحيد يترنح بداخل عاصفة هوجاء تأبى ألا إن تتركه مكسورًا، بعيدًا عن مصدره الأساسي في الحياة.


**************************


فقد القدرة على الصبر، وفقد معه كل ما له علاقة بالثَبَرَ، لقد نسي من هو، وكل ما أوصى به نفسه من تمهيل أو تهويد، لقد امتليء كأس الانتظار حتى فاض، ولم يعد يحتمل منها استمرار السير على نهج الأعراض...
ها هو منذ الصباح للمساء يحاول فقط إقناعها بالخروج إليه والتحدث ولكن هيهات، فطبعها ناري ورأسها يابس أقسى من صخرة صلدة تأبى التشكل تحت مطرقة النحات...
يتحدث ويصرخ، ثم يعود ويتوسل وهي لا تجيب، وكأنها قُدت من حجر وليست من لحم ودم وقلب له يستجيب...
هكذا كان حالهم حتى قرر هو أخيرًا التحرك وإجبارها حتى لو أدى ذلك إلى تفاقم الوضع بينهم، فالحالة التي يمر بها أسوأ من أن يتراجع أو يتركها دون توضيح، لذا صرخ مطالبًا أمام عتبة غرفتهم وكأنه تلبسته حالة من الاختلال :
-(( عـلـيـــاااااااء.. أقسم بالله لو ما طلعتي حالًا هكسر الباب ده.. واللي يحصل يحصل ))..

ابتلع لعابه بعنف معاتبًا نفسه في صمت على ما يفعله، فماذا حدث له، ولم هي الوحيدة التي وصل معها إلى هذا الحد من الجنون وكأنه إنسان بربري لا يعرف للتحضر سبيلا!!، إنه داء العشق وما له من دواء...
انتظر يعد اَلثَّوَانِ ربما يأتيه منها ما يطفأ نار غضبه ولكن دون جدوى، وكأنها حَقًّا تتعمد إخراج أسوأ ما فيه، فعاد يهدر من جديد في إصرار بعدما وضع شفتاه فوق بابها الخشبي المغلق في وجهه :
-(( قدامك ٣ ثواني.. لو مخرجتيش واتكلمتي معايا زي البني أدمين هكسر الباب سمعاني ))..

لم يكن صوته فقط المشحون بذلك الكم من الغضب، بل كامل جسده يكاد يرتعد من فرط العصبية، وبكل تلك الطاقة التي تتكون بداخله اندفع بكتفه يدفع الباب عدة مرات متتالية حتى فُتح على مصراعيه ورآها تقف أمامه متسمرة بأعين متسعة في حالة من الذهول التام، سرعان ما تحولت إلى إعصار، ابتلع في طريقه الجزء الصغير الباقي من تعقله وهدوءها الهش، صارخة بعدها في اهتياج، بينما أطلقت ساقيها نحوه حتى وصلت إليه ودفعته بكل ما أوتيت من قوة :
-(( أنت اتجننت!!.. أنت كائن همجي.. مفيش حد بيحترم حد ممكن يكسر عليه الباب بالطريقة دي! ))..

صاح من بين أنفاسه اللاهثة وصدره الذي يعلو ويهبط من شدة الانفعال :
-(( ومفيش واحدة طبيعية تعمل في إنسان كده!!.. على الأقل أدى فرصة واحدة للبني آدم اللي بقاله ٦ ساعات بيحايل فيكي عشان تسمعيه! ))..

علا صدرها هي الأخرى تحاول جاهدة السيطرة على انفراط عقد أعصابها، ولكن من أين يأتيها الهدوء وكلما نظرت إليه أو سمعت صوته قفزت ذكرى تقبيله أخرى أمام عينيها!، هل يعلم أنه بفعلته تلك ذبحها بسكين بارد؟! ثم الآن يقف متبجحًا أمامها بل ومطالبًا بحقه في نقاش متحضر!...
أطلق هو نفس محترق نابع من نيران غيطه، بينما عيناه تتابع لمحة الحزن التي غشت عدستيها، قبل أن تعود لمعة الغضب وتكسوها من جديد كما كست نبرتها الهادرة به في استهانة واضحة بمشاعره :
-(( وأسمعك ليه وعشان إيه!.. أنا مفيش أي حاجة تربطني بيك.. وهي مسألة وقت وننفصل ))..

لم تكن تفعل شيء بحديثها سوي سكب المزيد من الزيت فوق نيران غضبه المشتعلة، خاصةً وهي تجابهه بكل تلك الشراسة والقوة، فتُثير غضبه ورغبته بها معًا، ولا تدري كم يحترق جوفه وهو يطالعها دون القدرة على التفوه بما يحمله لها، ولا يحتمل عقله فكرة الفراق عنها، وبنفس وعيده الجامح هتف يحذرها :
-(( مسمعش كلمة انفصال منك دي تاني.. طلاق مش هطلق ولو على رقبتي.. كفاية دلع لحد كده ))..

صرخت تقول في عدم تصديق :
-(( دلع!! أنت بتصنف رفضي أنك تبوس واحدة تانية قدام عيني دلع!! ))..

سارع يجيبها في هدوء نسبي بعدما رفع ذراعه وفرك جبهته في عصبية :
-(( مانتي لو قابلة تسمعيلي أو عطيالي فرصة أشرحلك كنتي عرفتي أنك فاهمة غلط.. أنا مقربتش منها هي اللي بمنتهى الإسفاف حاول....... ))..

قاطعته تقول ساخرة :
-(( هي اللي باستك!! ناقص تقول ضحكت عليك كمان وقالتلك تعالي نروح حته ضلمة!!.. عمتًا زي ما قلت أنا ميهمنيش.. أنا أصلًا متعصبة عشان كرامتي قدامها مش عشان أي حاجة تاني.. وأوعي تفكر في يوم أني ممكن أزعل على حد مش عامل لكرامتي دي حساب.. حد أساسًا مش فاكر أنا مين.. وسامح لواحدة تانية تشاركني فيه ))..

ابتسم بطريقة غريبة، ليست ساخرة ولا غاضبة، بل هي أقرب للغموض، أو ربما الاستمتاع لم تستطيع التحديد، ورغم ذلك استفزها، فهبت تعنفه كريح مفاجئة :
-(( احترم كلامي ومتضحكش وأنا بكلمك.. أنت أصلًا إنسان مستفززز.. مش عايز تعمل حاجة عشان تفتكر حد!! فرحان أوي ببوستها ليك؟!.. يا ترى فكرتك بالماضي! ))..

لكزته في صدره وقد عقد ذراعيه معًا أمامه فترنح من قوة ضربتها المفاجئة، ثم سرعان ما لبث واستعاد ثباته، بينما أردفت تقول في حنق :
-(( عدتوا إمجاد الماضي وأنا المغفلة اللي في وسطكم صح.. ولا أنت ذاكرتك دي مش بتفتكر غير قلة الأدب!!.. لو كده أنا كمان ممكن أفكر.......... ))..

عضت فوق شفاها وتراجعت للخلف، إذ أعماها غضبها منه وجعلها تتفوه بكل ما يجول بداخل عقلها دون تنقيح، بينما تقدم منها هو يستفسر في نبرة مبحوحة مترقبة بعدما أنحني بجذعه نحوها :
-(( أنتِ ممكن إيه؟! ))..

رددت مصححة عدة مرات وهي ترمش بأهدابها :
-(( ممكن اسيب البيت ليكم عشان تفتكر.. أنا كمان ممكن أفكر اسيب البيت عشان تفتكر.. ده اللي كان قصدي أقوله ))..

حرك رأسه عدة مرات بلا هدف، شاعرًا فجأة بتبخر كل غضبه منها في الهواء، حالًا محله هدوء من نوع خاص، دفعه ليقول في كلمات متروية مدروسة :
-(( لا مش هقبل تسيبي البيت مهما حصل.. ولو خيروني بين رجوع ذاكرتي وبين وجودك..
هختارك أنتِ ))..

ضيقت جفناها فوقه تفترسه مطولًا حتى بدأت دقات قلبها تستجيب لنظراته الراغبة رغمًا عنها، ثم تمتمت تسأل ورعشة متوترة تخللت صوتها بعدما ابتلعت لعابها في توجس :
-(( ليه ))..

تقدم منها خطوة واحدة، ثم أجابها بصوته الأجش المتحشرج :
-(( عشان بحبك ))..


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس