23-02-21, 08:56 PM
|
#72 |
? العضوٌ???
» 458001 | ? التسِجيلٌ
» Nov 2019 | ? مشَارَ?اتْي » 53 | ?
نُقآطِيْ
» | | عانقتني روحها الفصل الخامس
لروحي يا وليفة الروح بتِّ الحياة
وقلبٌ بين جنباتي صرتِ له دماه
وفي محراب عشقك كنتِ له الصلاة
دعوات وابتهالات ترتلها الشفاه
أن يبتليك الله بما ابتلاه
وأن يتبع هواك في العشق هواه
فإما وصل يحيه أو هجر يكون فيه فناه
***********
في الصباح
أخذ يرمي ثيابه في حقيبته بعجالة ودون ترتيب ..
ليلة البارحة أصابه الأرق ولم يزر النوم عينيه ولا حتى لدقائق .. سيسافر إلى العاصمة هرباً من هذا الجحيم الذي يعيشه .. سيغوص في دراسته التي أهملها وكاد أن يفقد مستقبله .. وكله فقط لأجل وسوسات شيطان نفسه وأهوائها .. سيرجع إلى من أعاذوه من تلك الأهواء ..
لكنه لم يلتفت لهم ..
ومعهم سينسى خيبته التي مني بها ..
أصدقاؤه فقط هم من سيدركون الحريق الملتهب في جوفه ..
معهم ستخمد تلك النيران .. وتتحول إلى رماد سينثره بيده على قارعة العشق فيرتاح ..
دخلت أمه في نفس الوقت لتتفاجأ بما يفعله ..
أمسكت بمرفقه تديره إليها .. فهالتها هيأته المزرية من ذبول ملامحه..
وتورم جفنيه وكأنه قضى طول الليل باكياً ..
وشعره الذي لم تره يوماً إلا مصففاً بعناية وترتيب قد استحال كالصوف المنكوش ..
انقبض قلبها خوفاً وقد اعتقدت أن أمراً جلل قد حدث جعل ابنها بهذه الحالة المزرية ..
فسألته متوجسة :
" لماذا تعد حقيبتك ..؟ إلى أين تذهب ..؟ "
أجابها باقتضاب :
" سأسافر إلى العاصمة أمي "
" لم ..؟ هل حدث شيء لأصدقائك ..؟ "
سألته أمه بوجل ..
التفت يكمل ما كان يفعله .. وأجابها بلا مبالاة :
" لم يحدث شيء .. ولكني شعرت بالملل هنا وسأسافر لهم "
استشاطت أمه غضباً .. وأمسكت بمرفقه مرة أخرى وأدارته لعندها :
" ماذا تعني بأنك ستسافر لهم ..؟ "
كتم تأففه وأجابها بنزق :
" أعني أنني سأسافر بعد قليل أمي .. هل هي أحجية صعبة ..؟ "
صرخت أمه في وجهه بعصبية :
" وماذا عن اتفاقنا ..؟ ماذا عن وعودك التي أطلقتها ..
ثم ماذا عن قسمك ..؟
لقد أقسمت لي بأنك ستفرح قلبي بزواجك ..!
هل نسيت ..؟
هل هان عليك قلبي لتوجعه في كل مرة .. يا ابن قلبي ..؟ "
قالتها ثم هوت على السرير خلفها تبكي بوهن ..
ركع جان على ركبتيه أمامها وقد زادت أمه على أوجاعه وجعاً.. ليس بما تفعله .. أبداً ..
بل لعقوق قلبه ومشاعره لها .. فهو لا يستطيع ولن يستطيع أن ينفذ ما تطلبه منه في هذا الوقت ..
ليس بعد كل ما حصل ..
دناً مقبلاً رأسها تارة .. وكفيها تارة أخرى .. معتذراً يرجو عفوها ورضاها .. وقد أذنبه أن يكون السبب في بكاء أمه وأنينها ..
يتطلع بها برجاء أن تحله من وعده وتبره من قسمه لأمه ..
" أرجوك أماه اغفري لي .. اغفري وسامحيني أرجوك "
أشاحت بوجهها الباكي عنه .. نافضة كله عنها بجفاء .. موقعة إياه إلى الخلف دون رحمتها ..
" رباه "
صرخت نفسه العليلة
" إلا أمي .. إلا أمي "
استقام من وقعته محتضناً أمه .. يكاد يبكي لجفائها الذي يختبره لأول مرة .. يقسم أن قلبه لن يتحمله .. فقال مقراً بذنبه :
" أماه .. لا تقتليني بجفائك .. ولن يكون إلا ما يرضيك .. أقسم "
صرخت تؤنبه :
" لا تقسم إن لن تبر بقسمك .. لا تقسم وأنت كاذب "
" لا أكذب أماه .. وما عهدتني كذلك .. وأنت من ربيتني .. سأطيع ما تريدينه دون تردد "
" أمي .. أمي .. هاتي البشارة يا أماه "
قالتها نوشين مهللة وهي تدلف إلى غرفة أخيها .. وملامحها تشع بهجة وسرور ..
ولكن كل ذلك تبدل في الحال .. وحل محلها الفزع وهي ترى أمها على تلك الحالة .. فهرعت إليها تسأل بخوف :
" لما تبكين أمي .. ؟ ما الذي جرى ..؟ "
" أخوك يحضر نفسه للسفر إلى العاصمة .. والله أعلم متى سيعود مرة أخرى .. وأنا عجزت عن اقناعه بأن يخطب او اخطب له "
نظرت نوشين إليه بغيظ .. فأخوها الأحمق قد قرر الاستسلام بكل جبن .. دون حتى أن يتيقن مما قالته له ..
ثم أمسكت بكفي أمها وقالت ببشاشة :
" لا تحزني أمي .. فقد وجدت من ستفرح قلبه وقلبك معاً "
حدق جان فيها باستغراب .. ينتظر بقية قولها .. ماذا تقصد بكلامها هذا ..؟ من المؤكد أن لوثة أصابت عقلها بخبال ..!
فالبارحة قتلته بالخبر ..
واليوم تدعي بأنها ستفرح قلبه ..!
تهلل وجه أمه وتراقصت الفرحة في حدقتيها .. وكأنها ألقت عليها بتعويذة فرح .. وكأنها ما كانت منهارة منذ لحظات ..
وسألتها بلهفة :
" لماذا صمتي ..؟ تابعي حديثك ولا تتعبي قلبي بدورك "
ابتسمت قائلة :
" لقد وقعت عيني على عروس لا تليق بأخي سواها .. لو رأيتها يا أماه لما تركتها حتى تكون في بيت ولدك .. سبحان من صورها بكل هذا الجمال "
" من هي ..؟ هل أعرفها ..؟ هل هي من قريتنا ..؟-
لتهز رأسها تنفي قولها بنفسها – لا ليست من قريتنا فأنا أعرفهن جميعاً وأنت كذلك .. تكلمي "
أمرتها بإلحاح ..
" هي أخت فرهاد الآغا تعرفينه بالتأكيد ..؟ "
" بلى أعرفه جيداً .. لكني لم أعلم من قبل أن لفرهاد الآغا أخت على مشارف الزواج ..! "
" بلى أماه .. لديه أخت آية في الجمال .. تخرجت حديثاً من كلية الهندسة الزراعية في مدينة حلب .. وكانت تقضي جل سنواتها هناك .. وقلما كانت تأتي إلى القرية .. وفي تلك المرات كانت لا تخرج من بيتها إلا فيما ندر .. لذلك لم تعلمي بشأنها "
لمعت عينا أم جان بظفر .. فالفتاة كما تدعي ابنتها وتصفها مناسبة جداً لولدها .. ولن يلقى أية حجة لرفضها أو التنصل من الأمر كما دأب في كل مرة حين كانت ترشح له إحداهن .. متجاهلة وجود ولدها .. متغاضية عنها وجومه .. أردفت تسأل ابنتها :
" أسمراء هي أم بيضاء ..؟ صفيها لي "
" سأقول لك كل شيء وأصف لك تفاصيلها المبهرة عندما نكون لوحدنا .. فلا يجوز أن أصفها أمام ولدك وهي لا تحل له "
قالتها متعمدة في محاولة منها لتحريك ذلك التمثال الساكن ينظر إليهن بجمود .. وسرعان ما وصلت إلى مأربها .. عندما زجرها بعينيه مؤنباً دون كلام ..
والتفت إلى حقيبته يعبث بملابسه التي كان قد وضعها فيها سابقاً .. مدعياً اللامبالاة وعدم الاهتمام .. ولكن لمعة الفضول الذي رافقت زجرته .. لاحت لعيني أخته المتربصتين به .. فأردفت بمكر:
" بل سأخبرك الآن .. فقد يود عريسنا أن يسمع ما يرضي فضوله عنها ..! هي شقراء بعينين زيتونيتين كزيتون مدينتنا .. وشعر أشقر طويل ينافس قمح أرضنا بلمعانه .. طويلة كشجرة السنديان في حديقتنا .. تبدو على ملامحها البراءة .. جميلة يا أمي جميلة بشكل مبهر "
احباط أصاب ذاك اللاهي بحقيبته .. متصنعاً عدم الإنصات وكأن الأمر لا يهمه .. واختنقت الأنفاس في صدره .. فقد أحيت أخته أملاً كان قد دفنه في قلبه .. وظن أنها كانت تخدعه بالأمس ..
ولكنه سرعان ما وأد هذا الأمل في لحده .. عندما تبدلت سماء عيني من ظنها محبوبته .. بزيتون هذه التي تقول عنها أخته ..
عينيه جحظتا بذهول حتى كادتا تخرجان من محجريهما.. عندما أقرت أمه بما لا جدال فيه:
" اتصلي بصديقتك وأخبريها بأننا سنزورهم غداً لخطبة أخت زوجها "
صرخ جان محتجاً :
" أمي ..! رويدك .. كيف تقررين هكذا لوحدك ..؟ ماذا عني ..؟ "
" ماذا عنك..؟ ألم تقسم وتخبرني منذ لحظات أنك ستفعل ما يرضيني ..؟ "
" نعم أمي صحيح وأنا عند قسمي .. وما زلت عند قولي .. لكن هل يرضيك أن أخطب فتاة دون حتى أن أراها ..؟ ماذا لو لم تعجبني .. هل ستخبرينهم حينها أن ولدك لم تعجبه ابنتهم "
لترد عليه نوشين بحماس :
" بل ستعجبك أخي .. أنا متأكدة "
حدجها جان بغضب .. وعيناه تتوعدانها بشدة .. ونهرها قائلاً:
" اصمتي أنت .. وكفي عن الوسوسة في أذنها "
ردت عليه نوشين بحنق :
" أنا أوسوس يا جان أنا ..؟ "
" اصمتا أنتما الاثنان .. وكفا عن جدالكما الطفولي هذا "
زجرتهما أمهما بسخط .. واستطردت قائلة بحسم :
" سنزورهم غداً لنتعرف عليهم .. وإذا ما أعجبتنا الفتاة سنحدثهم بأمر الخطوبة .. ولن نتحدث في الأمر أكثر من ذلك "
تلجم لسان جان بألم .. وارتسمت الكآبة على ملامحه .. ولم يستطع الاعتراض أو الرفض .. وشعر بنفسه كمن وضع بين المطرقة والسندان ..
لا هو قادر على قول لا لأمه .. ولا على الموافقة على ما يريدون .. لذلك انتفض خارجاً يجر الخيبة واليأس في أذياله ..
بينما شعور بالانتصار يسيطر على أخته لنجاحها في خطتها التي رسمتها للتقريب بين أخيها الوحيد ومحبوبته ..
لقد تألم قلبها لرؤيته بهذا الشكل المزري حقاً .. لكن كان يجب عليها أن تفعل ذلك كي تعيده إلى رشده ..
لقد فقد كل معنى للصبر تجرعه على يدي أبويه منذ الصغر .. وتذبذبت قناعاته .. لطالما كان صبوراً .. قنوعاً .. راضياً .. لكنه أضاع دربه في حبها .. وتاه منه ايمانه .. وكان يجب عليها أن تنبهه من غفلته تلك .. وإلا لكان خسر نفسه بها ..
استلت هاتفها تحدث صديقتها أڤين بشأن زيارتهم ..
********
أغلقت أڤين الهاتف مع صديقتها وقد تهللت أساريرها بالرضى والسعادة .. والتي انتقلت إلى زوجها فرهاد الذي سألها مبتسماً:
" لا حرمك الله من السعادة والرضى .. ماذا أخبرتك صديقتك لتكوني بكل هذه السعادة "
" أسعدك ربي وأرضاك بالمثل يا حبيبي .. والله لو تم الأمر الذي حدثتني به صديقتي .. لازدادت سعادتي وفرحتي أكثر "
اندهش فرهاد لقول زوجته .. وسألها بفضول:
" أثرت فضولي يا امرأة ..!؟ قولي ما عندك دون تلكأ ..!"
اتسعت ابتسامتها قائلة :
" لقد كانت تخبرني أنهم سيزورننا غداً مع عائلتها لخطبة جين "
تفاجأ فرهاد لوهلة .. ثم تهللت أساريره بغبطة وجذل .. عندما تذكر من يكونون ..
فعائلة الشيخ لا تقل عراقة وأصالة عن عائلتهم .. وسمعتهم كالذهب لا يشوبها أي شائبة .. أضف إلى أنه سمع من زوجته على لسان ابنتهم .. عن ولدهم الطبيب .. الذي افتتح عيادة في بلدتهم منذ سنتين .. ولكنه تركها بعد ذلك في عهدة زميل له لكي يكمل دراسته ويحصل على الماجستير .. وكم أعجب حينها بمثابرته وثمن طموحه وقدره ..
وهو للحق لن يجد لأخته زوجاً أفضل منه .. ليسألها مجدداً كي تأكد له ما قالت :
" أمتأكدة أنت ..؟ قد تكونين أسأت السمع ..؟ "
ضحكت أڤين لحماس زوجها الذي لا يقل عن حماسها بشيء .. وهي التي دأبت تدعو الله أن يرزق أخت زوجها بخاطب مثل أخو صديقتها وأجابته مؤكدة بحبور :
" بل سمعت ما قالته جيداً.. سيزوروننا غداً لأجل خطبة جين "
وهذا ما قالته نوشين بالفعل .. فالماكرة تعلم جيداً أن أخاها ما أن يرى العروس التي رشحتها له .. لن يتوانى عن خطبتها في لحظتها .. هذا إن لم يختطفها لنفسه مصراً على عقد القران وزفاف في نفس اللحظة ..
********
طرقت أڤين الباب على جين ودخلت بعد أن سمعتها تأذن لها بالدخول .. فوجدتها على حالها جالسة إلى جوار نافذتها .. تهيم في عالم آخر .. دنت لتجلس جانبها وبادرتها تقول بحذر:
" صديقتي نوشين اتصلت بي لتخبرني أنها ستزورني غداً "
أجابتها جين باستياء وتذمر :
" ومالي ومالها .. ثم ألم تكن البارحة عندنا ..؟ ما الذي سيأتي بها مرة ثانية ..! أم أن أحراجي أرضاها وأعجبها وستحضر لتعيد الكرة "
لم تعر أڤين لتذمرها اهتماماً .. لو كانوا في ظروف أخرى لأنبتها على قولها هذا .. فهم ما اعتادوا على رد أي ضيف يطرق بابهم حتى لو عاد كل ساعة .. لكنها تغاضت عن ذلك وأكملت دون مواربة :
" ولن تأتي وحدها .. بل ستأتي مع عائلتها "
أجابتها جين بنزق مشيحة بوجهها تنظر إلى الخارج عبر النافذة بشرود :
" حتى لو حضرت عشيرتها كلها .. مالي أنا بهم ..؟"
" قد يحضرون عشيرتهم بالفعل .. ولكن بعد أن ينالوا موافقتك بالتأكيد "
ردت عليها أڤين بمكر ..
التفتت جين تعيد نظراتها المندهشة إليها وسألتها بتوجس :
" وما شأني أنا ..؟ وموافقة عن ماذا تلك التي سينالونها..؟ "
" موافقتك على خطبة ولدهم لك "
انتفضت جين من مجلسها تحملق فيها بعبوس وصرخت بعصبية :
" أي ولد ..؟ وأي خطبة ..؟ بماذا تهذين أنت ..؟ "
" اهدئي جين .. واقعدي لأفهمك "
قالتها وأمسكت بمرفق جين في محاولة منها لتهدئتها .. ولكن الأخيرة سحبت مرفقها بقوة .. وأدارت ظهرها لأڤين والاستياء يفور على ملامحها بشدة .. وقد فهمت ما تلمح له زوجة أخيها ..
للمرة الثانية تبتلع أڤين غيظها منها .. وأكملت بإقرار :
" غداً ستاتي صديقتي مع عائلتها لخطبتك لأخيها "
قاطعتها جين قائلة بسخرية :
" مؤكد أن أخاها سيكون بمثل سماجتها وثقل دمها "
تجاهلت أڤين كلامها .. وأعقبت
" لقد أعطاهم أخاك موافقته على ..."
جن جنون جين لما سمعته والتفتت تصرخ في وجهها مقاطعة إياها :
" كيف سمحتم لأنفسكم أن تقرروا أمراً يخصني وحدي حتى دون الرجوع إلي .. ؟ كيف يفعل أخي بي ذلك .. وكأنني شاة لا حول لها ولا قوة ..! "
صوت فرهاد الجهوري انطلق من ورائها قائلاً باستنكار غاضب :
" أنا لم أقرر عنك أمر يخصك .. لم أفعلها سابقاً .. ولن أفعلها لاحقاً ما حييت "
استدارت جين تنظر لأخيها الذي يطالعها بخيبة وضيق .. واستطردت :
" لكنها قالت أنك أعطيتهم موافقتك ..؟ "
" بلى .. ما قالته صحيح .. ولكن ليس كما فهمت أنت .. أنا أعطيت موافقتي على زيارتهم لنا .. وليس على الخطبة "
قالها فرهاد وهو يراقب وجه أخته التي استكانت ملامحه .. لتدنو منه تقول بريبة ودموعها تترقرق في محجرها :
" لم تفعلها أخي أليس كذلك ..؟ "
ربت فرهاد على رأسها بحنو متغاضياً عن تشكيكها بقوله .. وقال مطمئناً لها مشدداً على كل كلمة ينطقها:
" ليست المهندسة جين ابنة حسين الآغا .. وأخت فرهاد الآغا .. من تزوج بهذه الطريقة .. ولن أزوجها إلا لمن ترضاه زوجاً لها ويليق بها .. أنت جوهرة نفيسة أختاه ولن أعطيك إلا لمن يعرف قيمتك بحق "
زفرت جين أنفاسها بارتياح محتضنة أخيها بشدة قائلة :
" شكراً أخي شكراً "
رفع فرهاد يديه يحتضنها بدوره مشدداً عليها في أحضانه .. وقد أثارت تصرفات أخته ريبته وشكوكه .. فهو لأول مرة يرى أخته منفعلة بهذا الشكل بسبب تقدم أحد لخطبتها .. ولكنه نحى شكوكه جانباً .. على أن يبحث فيها لاحقاً .. وأبعدها عن أحضانه .. وأمسك وجهها بين كفيه .. قائلاً برجاء :
" صغيرتي لن تحرجني غداً .. وستستقبل ضيوفنا بترحاب كما تعودت منها .. أليس كذلك ..؟ "
أومأت جين رأسها بموافقة .. ليبتسم في وجهها ويمسح بإبهامه دموعها قائلاً بمشاكسة:
" والآن كفي عن البكاء حتى لا يتورم جفناك .. فيلوذ الخاطب بالفرار جزعاً من هيئتك .. ولن أعرف كيف سأعيده وأقنعه بخطبتك مجدداً .. إذا ما نال استحسانك وموافقتك ..؟ حينها سأحضره مكبلاً ليتزوجك شاء أم أبى "
أخفضت جين برأسها بخجل .. وارتسم الارتياح على وجهها .. فهي كانت تخشى من أن تكون قد ضايقت أخيها أو أثارت استياؤه ..
*******
مساء اليوم الثاني
دخل جان إلى غرفته مستاء بعد أن أمره أباه ليتحضر للذهاب إلى بيت الآغا .. وقد كان يعول على رفض أبيه .. فهو يعرف أباه جيداً .. كان سيغضب ويؤنب أمه لما فعلته .. وكيف أنها تصرفت وقررت مثل هذا الأمر من تلقاء نفسها دون حتى الرجوع إليه .. وهي التي لم تتجرأ على فعلها من قبل أبداً ..
فأبوه رجل يملك مقاليد بيته بيد من حديد .. ولا أحد يجرؤ على فعل أي أمر صغيراً كان أم كبيراً دون الرجوع إليه .. في الوقت الذي يشاورهم في كل أمر بدوره .. وإن لاقى ذلك الأمر استحسان الجميع وموافقتهم مضى فيه .. وينسى من أصله إن لم يقبل الجميع .. هو رب عائلة عادل جداً ..
ليأتي الآن ويرضخ لقرار أمه .. بعد أن علم من تكون العروس المختارة .. بل ويأمره بالإسراع كي لا يتأخروا عن موعدهم ويسبب لهم الإحراج ..
تناول من خزانته أول ما وقعت يده عليه .. فكانت كنزة سوداء قطنية .. وتحتها سروال من الجينز يماثلها في اللون .. رماهم على السرير خلفه مكتفياً بهم .. فهما يناسبان مزاجه المتخبط المظلم .. وعندما هم بنزع ملابسه .. حتى دخلت أمه والبهجة تتقاطر من محياها .. ولكنها ما لبثت أن عبست ونظرت إليه قائلة باستياء:
" هل ستذهب بهذه الثياب ..؟ "
" نعم أمي ما بها إنها جديدة ومناسبة أيضاً "
رفعت أمه إصبعها في وجه ولدها:
" لا تثير حنقي أكثر من ذلك يا جان .. وإلا لن يعجبك ما سأفعله حينها ..! "
دون انتظار رده .. توجهت إلى الخزانة .. وأخرجت بزة مؤلفة من جاكيت سبور من الجوخ الرمادي.. وقميص أبيض ..وتحتهما سروال من الكتان أسود اللون .. وناولتهم إياه وأردفت بما لا يقبل الجدل .. وكأنها تحدث طفل صغير :
" خذ ألبس هذا ولا تتأخر "
وخرجت غير آبهة لتأففه ضاربة اعتراضه عرض الحائط ..
بعد أقل من ساعة كانوا يقفون في بهو بيت فرهاد الآغا .. الذي استقبلهم بترحاب مهللاً ومسهلاً بهم بكل احترام ..
أدخلهم إلى غرفة الضيوف الكبيرة .. وسط نظرات أم جان وابنتها التي تلتمعان بإعجاب .. وتململ جان الذي يشعر باختناق وكأنهم يجرونه إلى المقصلة لإعدامه ..
حضرت بعد قليل أڤين تسلم على أم جان ونوشين التي احتضنتها بفرح .. وانخرط الجميع في حديث تنوعت موضوعاته وتشعبت .. بما فيهم جان الذي نسي لما هو هنا .. واسترخى في جلسته .. يحاور الجالس قبالته بكل أريحية .. وقد أعجب بثقافته وشخصيته ..
لكن صوت أمه التي تسأل عن سبب تأخر العروس أعاد انكماشه واضطرابه ..
قامت أڤين تستعجل جين .. لتدخل بعد هنيهة وجين في أعقابها .. وقد أخفضت رأسها على استحياء .. تمسك بتنورتها بشدة تخفي ارتعاش يديها واضطرابها .. وما أن اقتربت من أم جان حتى قامت من مكانها مهللة تأخذها في أحضانها .. وتقبلها من خديها بمحبة وحبور .. مرددة:
" بسم الله .. ما شاء الله .. تبارك الرحمن فيما خلق "
تضحك نوشين محدثة أمها .. وقد لاحظت تشنج جين واضطرابها في حضن أمها :
" لقد أرعبت الفتاة أمي .. وقد سبقتك بفعلها .. دعي لها الفرصة لتسلم علينا "
أفلتتها أم جان على مضض .. وهي تدعو الله في قلبها أن تكون هذه الفاتنة من نصيب ولدها ..
سلمت جين على نوشين ببرود .. والتفتت إلى الجهة الأخرى حيث وقف أخيها وإلى جانبه وقف رجل بعمر أبيها .. مهيب بوقفته وهيأته ..
منعت عينيها قصراً عن النظر إلى الشاب جانبه .. وكانت ستكتفي بالإيماء لهما لولا أن الرجل قال ممازحاً إياها بكل حنان :
" ألن تسلمي عليّ بنيتي .. أم أن عجوز مثلي لا يستحق أن تسلم عليه فاتنة مثلك "
تشنج جسد جان الواقف إلى يسار أبيه .. عندما سمع تغزل أبيه الصريح بمن سيخطبونها له .. وحمحم بصوت خافت يجلي حلقه .. عندما انتبه لوقع الخطوات المتهادية نحوهم .. حتى وصلت لعند أبيه تسلم عليه .. وقد وصله تهليل أبيه وتسبيحه الخافت لجمالها ..
رفع رأسه الذي أخفضه أول ما دخلت الفتاتان ..
ليتجمد في مكانه فاغراً فمه بذهول .. للتي دنت من أبيه تسلم عليه بخفر .. وقد تخضبت وجنتاها بحمرة الخجل .. جنت جنون نبضاته .. واشتعلت مراجله في صدره ..عندما لمح زرقة عينيها ..
اقترب ملتصقاً بأبيه .. وقشعريرة انتشاء سرت على طول جسده .. التفت بنظراته لأخته مستفهماً .. ليجدها تنظر إليه بمكر أطل من حدقتيها .. رافعتاً له حاجبيها تراقصهما بخبث .. وكأنها تقول له لقد أوقعت بك ..
عاد بنظراته المتلهفة لتلك التي قلبت حاله وقتلته وأحيته بنظرة من عينيها .. يمسك كفيه بصعوبة .. يمنعها من لمسها كي يتأكد أنها حقيقة وليست إحدى أوهامه التي تلاعبت به على مدار أسابيع .. يهمس في قلبه الذي يكاد يقفز من صدره مرتمياً تحت قدميها .. مترجياً عينيها التي تبخل عليه بالنظر
" انظري لي .. انظري لي .. ودعيني أشبع توق قلبي لمرآك "
وكأن همسه المخفي ذاك قد وصلها .. لتلتفت ناظرة إليه .. لتشهق بخفوت ما أن لمحته وخرت أمامه فاقدة لوعيها ..
صراخ وعويل .. وجلبة كبيرة حوله .. وأحدهم يحاول سحبها من بين أحضانه بكل إجحاف وجور.. وذراعيه تتشبثان بها بكل ضراوة تأبيان إفلاتها ..
لولا القبضة التي ضربت كتفه بقوة .. وصراخ أبيه الذي تناهى إلى مسمعها يأمره أن يتركها لأخيها ..
حينها ضرب الادراك عقله .. وانتبه للوضع الذي هو وهي فيه.. فسحب ذراعيه من حولها بتردد ..
في الوقت الذي حملها أخيها بعد أن رمقه بنظرة غاضبة متوعدة .. لو كانت تقتل لأردته قتيلاً في أرضه ..
ظلت عيناه تلاحقان طيفها المتواري في حضن أخيها الذي صعد بها إلى الطابق العلوي بعيداً عنه.. تلحقه زوجته تحدث أحدهم على الهاتف باكية ..
شعر بأن روحه التي عادت إليه برؤياها .. انتزعت منه مجدداً .. لتصعد خلفها لاحقة بها ..
أمسكه والده من مرفقه يديره إليه .. موبخاً إياه بغضب :
" كيف تحتضنها بذلك الشكل ..؟ وهي لا تحل لك بعد يا عديم الأخلاق "
طأطأ جان رأسه أمام توبيخ أبيه له .. يخفي شعوراً بالغبطة في داخله لملمس حضنها الدافئ والذي أوقد في جسده ناراً لم ولن تنطفئ .. محدثاً نفسه بهيام لاهياً عن تعنيف أبيه :
هل هكذا يكون طعم حضنها ..؟
هل مذاقه محرق لتلك الدرجة..؟
ماذا لو كان حضن حقيقي ..؟
حضن عاشقين متيمين ..!
فتبادله حضن بحضن ..
ونبضة بنبضة ..
واحتراق باحتراق ..
.. رباه ..
إنه يشعر بالاحتراق حقاً
انتفض من سرحانه بها على عصا أبيه التي نكزه بها على كتفه.. صارخاً به بخفوت كي لا يعلو صوته في بيوت الناس :
" لم لا تجيبني أيها الأخرق ..؟ "
اقتربت في لحظتها أم جان تربت على ساعد زوجها قائلة بمهادنة :
" هدأ من روعك يا محمد .. دعنا نطمئن على الفتاة الآن .. وأجل تقريعك له إلى حين عودتنا إلى بيتنا .. فالوقت غير مناسب لذلك البتة "
نفخ محمد أنفاسه بسخط .. وجلس على الكرسي خلفه متكئ بيديه على عصاه وهو يحدج ولده بنظرات جامدة .. لخيم الصمت المترقب عليهم بعد ذلك ..
بعد وقت قليل نزل الطبيب الذي صعد منذ برهة .. يرافقه فرهاد وقد ارتسم الحزن على محياه ..
ودع الطبيب وعاد صوبهم .. يعتذر منهم بحرج :
" أرجو أن تعذروننا لما حصل .. وأرجو أن تعذروا تقصيرنا في حقكم "
اقترب منه والد جان يربت على كتفه بتفهم وخاطبه بأبوة :
" لا عليك يا ولدي .. لا داعي لتتأسف بني .. فأنتم لم تقصروا معنا بشيء .. وما حصل قد يحصل لأي منا .. المهم الآن أن تكون أختك بخير وبصحة جيدة "
ابتسم فرهاد بارتياح فقد كان متخوفاً من أن لا يتفهموا ما حصل .. فبادرت والدة جان تسأله بقلق
:
" كيف حالها الآن بني ..؟ وماذا قال الطبيب عن سبب إغمائها ..؟ "
زجرها زوجه بنظراته لكنها لم تلتفت له .. فالوساوس أخذت تتلاعب بعقلها .. عما ألم بالفتاة وعن سبب إغمائها ..
أجابها فرهاد وقد عاوده شعوره بالجزع :
" هي بخير الآن .. الطبيب قال أنه مجرد إعياء وقد أعطاها حقنة مهدئة كي ترتاح .. ونامت على إثرها "
زفرة مشوبة بالقلق ندت عن الواقف بينهم .. جعلت فرهاد يتطلع إليه بامتعاض .. ليتعاظم حنقه منه وتحتد نظراته بتوعد .. كلما تذكر مشهد احتضانه لأخته دون وجه حق .. ولكنه لن يحاسبه عليها وهو في عقر داره .. وأخته طريحة الفراش بلا حول ولا قوة .. ولكنه لن ينسى فعلته ولن يتركه دون عقاب..
بادله جان نظراته بثبات غير آبه بالوعيد المشتعل في عينيه ..
عندما انتبه والد جان للصراع الصامت بين ولده وفرهاد .. استأذن من الأخير للمغادرة .. وغادر هو وعائلته بعد أن وعده بزيارة ثانية ..
*******
جالس في غرفته ممسكاً بقميصه يقربه إلى أنفه يتنشق رائحتها التي علقت به بانتشاء .. فتشتعل أوردته وتغلي الدماء فيها .. حتى تكاد تفجرها كلما تذكر وقوعها على صدره ..
لتخمد فجأة والقلق ينهشه بلا رحمة .. وآلاف التساؤلات تعصف بذهنه بلا هوادة ..
يخشى ما يخشاه أن يكون إغماءها ذاك ما هو إلا هروب ومحاولة منها لتوصل له رفضها .. من أن تكون مجبرة على استقبالهم دون رضاها ..
شياطينه توسوس له بذلك بكل خبث .. تعرض له صور من الأفكار السوداء عن ملاكه البريء .. تحاول تشويه براءتها في قلبه ..
ولكن الروح تتصدى لهم بكل صلابة .. وتجتث تلك الصور من جذورها تمزقها وترميها خارج مدارها .. نفض رأسه بتعب يحاول عدم الانجرار لمستنقع الشك الذي قد يبتلعه .. سيثبت أقدام عشقه على أرض صلبة لا تتأثر بأي عاصفة هوجاء قد تعصف به ..
دخلت نوشين لتجد أخاها على تلك الحالة من التشتت والارتباك .. أنبها ضميرها على فعلتها .. فقد كان بالإمكان تجنب كل هذا لو جرت الأمور بطبيعتها .. لو لم تخدعه وتخفي عنه معرفتها بجين لكان هو والجميع بخير حال ..
رفع جان رأسه عندما شعر بدخول أحدهم .. لينتفض من مكانه والغل يستعر في حدقتيه عندما لمح الواقفة هناك والذنب يتقاطر من هيأتها ..
اقترب منها وأمسك برسغيها يهزها بعنف لم تعهده فيه .. وزأر في وجهها بغضب ينفث نيران جوفه في وجهها :
" هل أنت راضية عن نتائج لعبتك تلك ..؟ أجيبيني .. لم فعلت ذلك لم ..؟ كنت أمامك أكاد أجن وأنا أبحث عن خيط عنكبوت يرشدني إليها .. أنا كنت أذوي أمامك .. لتأتي بكل صلافة وبلا شفقة وتتدعين أنها زوجة لآخر .. سأقتلك لأجل هذه فقط "
أفلتها واستدار يحبس دمعة كادت تفضحه أمامها وأردف متأوهاً :
" آه .. لو تعلمين ما فعلتِ بأخيك .. لتمنيتِ أن شل لسانك قبل أن تنطقيها .. لقد قتلتني بها أختاه .. قتلتني .. وحكمت على روحي بالضياع إلى أن تفنى الخليقة "
اقتربت نوشين تحتضن أخاها .. ودموعها تنسكب على صفحة وجهها الملطخ بذنبها الذي أقرت به .. تطلب صفح وغفران تخشى أن لا تنالهما:
" سامحني أخي سامحني .. أقسم أنني لم أتقصد إيلامك .. ولم أعي أنك تعشقها كل هذا العشق .. اعتقدتُ بغبائي أنه لا ضير من مزحة حمقاء .. مادامت في النهاية هي من كنتَ تنشدها وتتمناها .. لم أدرك حجم ما أقحمتك وجميعنا فيه "
تدارك جان نفسه وهاله أن تشعر أخته بكل هذا الخزي والانكسار .. هو لا يرضاه لها .. حتى لو أخطأت .. وكادت أن توقف قلبه بفعلتها .. وكانت السبب فيما يعانيه .. رفع رأسها المنحني على صدره .. ومسح دموعها وقال بمهادنة :
" حصل ما حصل وانتهى .. فقط ادعو الله أن لا يحصل ما يعكر أو يمنع ارتباطنا .. وإلا سأحطم الدنيا بما فيها على رؤوس الجميع وأولهم أنت –
ثم استطرد قائلاً وقد شعر بجفلتها –وإياك أن تحاولي المزاح مرة أخرى .. فمزاحك سمج مثلك ولا يهضم "
انطلقت ضحكة نوشين وقد استشعرت أن أخيها يحاول التخفيف من شعورها بالذنب بمزاحه ..
في الوقت الذي دخلت أمه وملامحها لا تنبأ بخير .. فنظرت إليهما بجمود وقالت بجفاء:
" أبوك يطلبك فاذهب إليه .. وأريني ابتسامتك هذه بعد ذلك ..!"
وخرجت مثلما دخلت غير مبالية بذهولهما الذي ارتسم على وجهيهما ..
لحقها جان بعد أن رمق أخته بنظرة متوجسة .. بادلته إياها وقلبها يدعو الله أن تمضي الأمور على خير..
****************
في غرفة المعيشة كان أبو جان يجلس على مقعده المعهود .. وعصاه بين يديه يتكأ عليها .. والغيظ والخزي من ولده يفتكان به .. لا يصدق أن ولده الذي رباه على الأخلاق .. واشربه منذ نعومة أظفاره تعاليم دينه .. ومخافة ربه في كل ما يقوم به .. علمه أن لا يتعدى حدود الله فلا يتعدى حرمات الغير ..
كيف سول له شيطانه أن يرتكب إثماً كهذا .. كيف جلب لهم الخزي بفعلته هذه .. ماذا ستقول عنه تلك العائلة وقد استباح حرمة ابنتهم ..
" طلبتني أبي "
رفع رأسه ينظر إلى ولده الواقف مطأطئ الرأس بذل أمامه .. فعلم أن ولده يشعر بذنبه ويقر به ..
" فقط أخبرني ..! كيف استطعت أن تحتضن امرأة لا تحل لك ولم تصبح زوجتك بعد ..! "
" ستصبح "
كلمة واحدة قالها بإقرار لا جدال فيه ..
حدجه أباه بنظرة قاتمة وعانده بالقول :
" لن تكون لك بعد أن فعلت ما فعلت "
التمعت عينا جان بتصميم تعجب له أباه .. وما أثار ريبته وقلقه في نفس الوقت هو ما صرخ به بعزم:
" بل ستكون لي .. ولغيري لن تكون حتى لو مت دونها "
سكت أبو جان مستدعياً رباطة جأشه وحكمته .. متأملاً حال ولده التي ما خبرها يوماً .. فطلب من ولده الجلوس متسائلاً :
" اقعد بني وأخبر أباك ما يجري معك ..؟ يجعلني أكاد لا أعرفك ..! "
جلس جان جواره يرمي بثقل همومه وأوجاع قلبه بين كفيه .. يسرد له حاله منذ أن أوقعته في سحر عينيها دون أن تعلم حتى ..
*********
وعلى الجهة الأخرى وفي غرفة نوم فرهاد تحديداً .. كانت أڤين تسرد لزوجها الوجه الآخر للحكاية ..
" كل هذا يحصل دون علمي ..! كيف تجرأتم على خداعي وإظهاري بمظهر المغفل الذي لا يستطيع إحكام سيطرته على أهل بيته ..؟ ألا ترونني رجل بما يكفي كي تستغفلونني بهذا الشكل المخزي ..؟ "
صرخ فرهاد وهو يدور حول نفسه يطيح بكل ما تطاله يديه أرضاً .. يمسكها عن تلك المنكمشة على السرير ترتجف بهلع ..
أخرجوه عن سيطرته .. هو الحليم الصبور الذي يتحكم بانفعالاته بقدرة هائلة ..
لكن كما يقولون اتق شر الحليم إذا غضب .. فغضبه لن يكون سهل الوقع على الآخرين .. والأفضل لك أن ترتكن إلى نفسك بصمت بعيداً عنه .. حتى يمضي إعصار غضبه وتنجلي غيومها الداكنة ..
وهذا ما فعلته أڤين وهي أكثر من تعرف زوجها .. وتعرف أن الصمت في حرم الغضب إجلال .. ويساوي أثمن المعادن وليس الذهب فقط ..
لكن ما أجج خوفها وأثار حفيظتها .. هو ما سمعته يهذي به بلا وعي :
" ماذا لو أن أحدهم كان قد غرر بها .. ؟ أتراه سبب إغماءها المتكرر .. ؟أيعقل هذا ..؟ كم مرة فعلتها وخرجت دون علمي ..؟- ثم التفت إلى زوجته ينظر إليها والشرر يقدح من عينيه بشر – انطقي كم مرة تسترت عليها .. وهي تتسلل من وراء ظهري لتقابل أحدهم "
رفعت أڤين تنظر إليه بذهول للمنحى الخطير التي ذهبت به أفكاره .. وهزت رأسها باستنكار تفند ادعاءاته بحقها وبحق أخته قبلها .. اقترب يمسك بعضدها يرجها بقوة .. يزعق في وجهها بجنون:
" انطقي .. لا تصمتي الآن .. انطقي"
قالها ورمى بها على السرير يناظرها بغل .. تلجم له لسانها بقهر.. قهر منه وعليه .. ولكنها تمالكت نفسها وأجابته بصدق :
" والله هي تلك المرة فقط لا غير .. ورافقتها فيها .. أقسم لك .. يشهد ربي على ذلك "
ما كان يحتاج قسمها ليصدقها .. فهو يعرف زوجته جيداً والكذب لا يعرف سبيلاً إليها .. ولا هي تعرف طرقه الملتوية .. كما ويعرف أخته أكثر .. وهو من رباها .. ويعلم أن اتهامه لهم مجحف بحقهم ..
ولكنه سيجن ليعرف سبب ما يحصل مع أخته مؤخراً .. ما سبب إغماءها المتكرر ..؟ الطبيب أكد له أنها لا تشكو من أية علة .. يخشى أن يكون مرض لم تكشفه سماعة طبيبهم .. أو أن لا .. بتر الفكرة في لحظتها.. مستحيل فأخته كاملة ولا أحد يستطيع التشكيك بأنوثتها .. وهو لم يلحظ عليها أي سلوك غير سوي..
ولكن ما معنى أن تقع صريعة المرض لأجل فتاة لم تتعرف ملامحها حتى ..!؟ والبارحة تكرر الأمر ولكن أمام ذاك الذي تقدم إلى خطبتها .. لا يجد تفسير لكل ذلك ..!؟ سيجن ويفقد عقله لا محالة إن لم يعرف السبب ..
تهاوى على حافة السرير بوهن .. لأن قدماه ما عادتا قادرتان على حمله .. وعقله لا يسعفه على التفكير بشكل سليم ..
يمسك رأسه بين كفيه يشد شعره بقوة ..علَّ تلك الأفكار التي تداهم عقله بشراسة تتوقف عن بخ سمومها فيه ..
لكنه قرر قرار لا رجعة فيه .. ما أن تتماثل للشفاء من سقطتها الأخيرة .. سيصحبها إلى مدينة حلب ليعرضها على أشهر الأطباء والاختصاصين .. وإن تطلب الأمر سيأخذها إلى العاصمة ..
فجأة تصلب جسده وتجمد .. حين انسلت ذراعاها من خلف ظهره .. وحطت بكفيها على صدره تحتضنه من الخلف ..
شعر بدموعها التي بللت قميصه عندما أراحت بخدها عليه .. تربت بنعومة على موضع قلبه في اعتذار صامت ..
حاول الابتعاد بعيداً كي لا يضعف أمام ضعفها .. ولكن كفاها تشبثتا بصدره بضراوة .. وسمعها تقول ببحة بكائها :
" لا تقتلني بجفائك وهجرك .. فلا قدرة لي لتحملهما .. وأنت الأعلم بذلك "
غمغم بصوت مكتوم وغضب :
" بل لك القدرة لتكذبي علي فقط "
تعال نحيبها وحشرجت أنفاسها في حلقها .. وازدادت تشبثاً به .. تود لو تخترق ظهره وصولاً إلى قلبه تترجاه العفو والمغفرة ..
وقلبه الرحيم .. شعر بها وانتفضت خفقاته تحت كفيها .. تضرب صدره بلا هوادة تأمره أن يترفق بمن سكنت جوفه واختلطت بدمه ..
فرفع يده وقبض على كفها الساكنة على صدره .. وضغط عليها بقوة ما لبثت أن استسلمت لملمسها واستكانت لدفئها .. واستكانت معها عبرات الرابضة وراءه ..
*********
بعد يومين
أغلق الهاتف مع محمد الشيخ والد جان وسط ذهول زوجته .. وسألته مستفهمة :
" لماذا رفضت خطبتهم لأختك ..؟ وكنت متحمساً وتكاد تطير من الفرحة عندما قرروا خطبتها لولدهم ..! "
غصة استحكمت حلقه .. فهو للتو رد خاطب لأخته لن يجد له بين الرجال مثيل .. ولكنه لن يزوجها قبل أن يعرف علتها .. وينفي شكوكه حولها .. وإلا ستكون فضيحة تطالهم حتى أحفاد أحفادهم .. ولن تقوم لهم قائمة بعدها ..
فأجابها محتفظاً بشكوكه تلك لنفسه :
" أخبرتك أنني سآخذها إلى طبيب ليجري لها كل الفحوصات والاجراءات اللازمة كي اطمئن على صحتها .. ولن أفكر بتزويجها في الوقت الراهن "
" فرهاد لا تهول الأمر .. جين لا تشكو من شيء.. هو مجرد إعياء يتعرض له الكثيرون "
" لن أزوجها لتعيا فيعايرها زوجها بمرضها.. وينعي حظه العثر الذي أوقعه بامرأة مريضة طوال الوقت .. فيقهرها بها ويزيدها مرضاً "
تبرمت أڤين وهزت رأسها باستنكار .. رافضة المنطق الذي يتحدث به زوجها .. لكنها اكتفت بالصمت ولم تعقب بكلمة .. واستقامت واقفة تقصد غرفة جين تطمئن عليها ..
طرقت الباب ودخلت .. لتنفرج شفتيها بابتسامة جذلى عندما أبصرت جين مستيقظة .. لاقت ابتسامتها صدى في نفس الجالسة على سريرها .. فبادلتها إياها على استحياء .. وملامحها تشي بالارتياح والهدوء .. اقتربت منها تضمها قائلة بحبور :
" وأخيراً رأيت ابتسامتك .. حمداً لله على سلامتك .. وأهلاً بك في عالمنا "
ضحكت جين على مزاحها .. وشعور بالغبطة يكتنفها ..
ومشاعر أخرى تطفوا على سطح أحاسيسها .. فرح .. نشوة .. ارتياح ..
وأخيراً شعور بالشغف .. شغف يدفعها للتحليق عالياً دون توقف ..
كل تلك المشاعر دفعت الدماء في جسدها ليتورد خداها بحمرة محببة .. ولاحت لعيني أڤين المترقبة باهتمام .. فسألتها بترقب :
" بماذا تفكرين وجعل وجهك كوردة حمراء متفتحة ..؟ "
رفعت جين كتفيها وبرمت شفتها السفلى للخارج في إشارة أنها لا تعلم .. وأردفت قائلة بصدق :
" أنا سعيدة .. سعيدة جداً .. لما وكيف ..؟ لن أتعب رأسي بالتفكير عن السبب.. وسأكتفي بأن أعيشه فقط "
فرحت أڤين لسعادتها ولكن القلق نهش قلبها نهشاً فأخفته عن جين ببراعة.. واستطردت تسألها مناكفة :
" وهل لسعادتك هذه علاقة بذاك الوسيم ذو العينين الخضراوين ..؟ الذي ما أن لمحته حتى وقعت في أحضانه مغمية صريعة وسامته "
تهلل وجه جين والتمعت الإثارة في سماء عينيها .. وردت تهمس بخفوت .. وكأن ما ستقوله سراً لا تريد لأحد سماعه :
" إنه نفس الشاب الذي لمحته في البازار منذ أسابيع "
شهقت أڤين بذهول وسألتها بعدم تصديق :
" تقصدين ذلك الشاب الذي كان يحدق بك باستغراب وأخبرتني عنه ..!؟ يا إلهي لا أصدق هذه الصدفة .. ثم استدركت .. أو أنها غير ذلك ..!؟ "
" ماذا تقصدين بغير ذلك ..؟ "
" لنفكر بها .. هذا الشاب والذي اسمه جان إن كنت لا تعلمين – وغمزتها بعبث – اسماكما مناسبان لبعض جداً هو الروح وأنت الحياة .. يالا الرومانسية "
ضربتها جين على ركبتها باستحياء .. فأكملت أڤين ضاحكة بتسلي :
" لنكمل حكاية الأميرة الدائخة .. أنا اعتقد أنه حين رآك في البازار أعجب بك فسأل وعرف من تكونين .. فأخبر أخته التي ما فتأتُ أدعوها لزيارتي وكانت ترفض في كل مرة .. لتتصل بي فجأة تلح على زيارتي .. ولم ينقضي يوم على زيارتها .. حتى أتت وعائلتها لخطبتك .. إذاً الأمر لا يمت للصدفة بصلة "
أشرق وجه جين واتسعت عيناها بألق قلما زارهما .. وتعالت خفقاتها بصخب .. عندما فكرت بأن جان ما خطبها إلا لأنه أحبها .. أتراه كذلك .. وعند هذه الكلمة أحست بحرارة تسري في دمائها أشعلت فتيل قلبها .. وسألت أڤين برجاء مبطن :
" هل تظنين أن ذلك ما حصل بالفعل ..؟ "
" بل أنا على يقين أن هذا ما حصل .. وكي نتأكد أكثر سأسأل نوشين – ثم ابتسمت بمكر وأردفت متهكمة – نوشين السمجة وأخيها السمج مثلها .. ألم يكن هذا رأيك في وقت سابق ..؟ "
لوت جين فمها بغيظ متجاهلة تهكم زوجة أخيها .. ولكنها هبت بوجل من مكانها عندما أكملت أڤين تقول بجدية :
" لذا لوحت لنوشين برفضك .. فأنا لا يرضيني أن تعيشي مع السمجين ثقيلي الدم "
لتنطلق ضحكاتها عالياً وهي ترى القلق الذي ارتسم على وجه جين .. أمسكت جين الوسادة جانبها وأخذت تضرب أڤين المنهارة على السرير بقهر:
" بل أنت من أصبح مزاحك سخيف وسمج "
*******
بينما كانت جين تهلل وتلعب مع زوجة أخيها بسعادة .. كان الحزن والغضب يأكل من قلب جان.. الذي صرخ دون وعي :
" كيف يرفض فرهاد بعد أن أعطانا موافقته ..؟ كيف ..؟ أليس رجلاً بما يكفي ليكون على قدر كلمته ..؟ أم يظننا لعبة بين يديه..؟ "
أمسكت أمه بمرفقه تربت عليها وهي تقول بقصد :
" الحمد لله أنها أتت من عندهم .. فأنا توجست من حال ابنتهم و الله أعلم ما .. "
" أمي "
" فاطمة "
انطلقت زاجرة ناهرة من فم ولدها وزوجها في نفس اللحظة .. ألجمتها عن متابعة قولها .. فلوت فمها وصمتت بغيظ يتآكلها .. ليقترب أبوه منه قائلاً بحكمة :
" وقد يكون الرفض من عند الفتاة ..! وهذا حقها بلا منازع .. فرهاد لن يجبر أخته على ما لا ترغبه .. حتى لو كان فيها نكث بوعد أعطاه لأحدهم .. يكسر كلمته ولا تكسر أخته .. هذا ما علمته عنه طوال حياته "
تجمدت الدماء في عروقه خوفاً .. وتخشب في وقفته متجهم الوجه معقود الحاجبين في استنكار لما قاله أباه .. وشعر بانقباض قلبه هلعاً .. خشية أن تكون ظنون أبيه حقيقة يرفضها بقوة ..
تهدجت أنفاسه حتى كاد يختنق بها .. أجبر قدميه على التحرك وتراجع راكضاً يخرج من الغرفة لا يألو على شيء ..
ساقته قدماه إلى بيت أخته التي ضربت على صدرها بجزع ما أن أبصرت أخاها مكفهر الوجه بوجوم .. أدخلته إلى غرفة المعيشة في جناحها في بيت حميها .. رفض الجلوس بتعنت .. وظل يلف ويدور حول نفسه .. مزمجراً كنمر شرس حبس قسراً في قفص ليروضوه ..
وقفت تناظره وقلبها يتفتت حزناً عليه .. فقد خابرتها أمها وأطلعتها على ما كان من رفض عائلة الآغا لأخيها ..
وتعجبت لذلك ..! فأڤين لم تشعرها بذلك عندما كانت تتصل بها راضخة لإلحاح أخيها وإصراره لتطمئن على صحة جين وتطمئنه .. فكانت تتصل كل صباح ومساء ..
ولو عاد الأمر لأهوائه لقعدت عند رأس جين .. وما برحت جانبها ..
كانت قد قررت أن تخبر أڤين حكاية أخيها مع جين .. ولكنها أجلت ذلك حتى تتعافى الأخيرة ..
شعور بالندم اكتنفها وهي ترى أخاها على هذه الحال .. ربما لو أنها ما خدعته لكانت الأمور جرت على نحو غير هذا الذي آلت إليه ..
زمجر جان في وجهها على حين بغتة .. وسألها بقهر :
" ألم تقولي لي أن الامور تجري كما أحب وأشتهي ..! وأخبرتني بأن لا أقلق واضطرب ..! هل كنت تدعين وتكذبين كما فعلت سابقاً .؟ - ورفع إصبع السبابة في وجهها محذراً – أقسم لن أسامحك هذه المرة لو كنتِ فعلتها "
أسرعت نوشين تنفي تفند اتهامه لها :
" أقسم يا أخي أنني لا أدعي ولا أكذب .. حتى أنني كنت متأكدة أنها ستبشرني بالخبر قبلكم هذا المساء .. ولا أدري ما الذي حصل لكل هذا اللغط .. ولكنني أعدك أن أعرف ما جرى وأخبرك "
" وأنا لن أقعد وانتظر حتى أخسرها .. بل سأفعل ما لم يفعله أحد من قبل حتى أفوز بها وبروحها قبلها "
قالها بحزم وجبروت عاشق سيحارب كل من في وجه عشقه وقف .. وسينال هواه رغم أنف من أبى واستنكر .. هو جسد فاقد لروحه .. وروحه أسيرة عشقها .. وهو منها لا يريد الفكاك .. فإما قيد يقيدهما للأبد .. أو دونها يكون الهلاك ..
نهاية الفصل الخامس
قراءة ممتعة أتمناها لكم
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ |
| |