عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-21, 09:14 PM   #77

Mays Alshami

? العضوٌ??? » 458001
?  التسِجيلٌ » Nov 2019
? مشَارَ?اتْي » 53
?  نُقآطِيْ » Mays Alshami is on a distinguished road
افتراضي عانقتني روحها

الفصل السادس

لوعتني بحبها ..
فأمسي أنستني ومَلكةُ حاضري توجتها
كبلتني بعشق لو كتبته لجفت في الأقلام حبرها
هام الفؤاد في الخلاء يبغي وصالها ووصلها
وارتوى في شرياني غليل الهوى حين
عانقتني روحها

*خاطرة بقلم : ايمان أووركيدا

*************



ظل جان يتربص الفرصة المناسبة ليكلمه .. حتى علم أخيراً بأن فرهاد يكون في هذا الوقت عند صوامع القمح ..
فلم يبقى إلا القليل حتى يبدأ موسم الحصاد .. والجميع يعمل كقفير النحل على قدم وساق استعداداً له ..
توجه إلى حيث دله أحدهم على مكانه .. فوجده واقف يتحدث مع بعض الفلاحين ..
اقترب حتى أصبح على مرأى من أنظاره ..
راقبه كيف تجمدت ملامحه حين انتبه له .. وكيف بعدها صرف من كان يكلمهم على عجل .. وعيناه التي تقدحان شرراً لم تبرحا عينيه اللتان فاضتا بتصميم مشتعل ..
جعل كل عضلة في جسد فرهاد تتحفز بتأهب للانقضاض على جان في التو واللحظة ..
ولم يكن الأخير أقل تحفزاً وإصراراً منه .. تقدم يقلص المسافة بينهما حتى أصبح في مواجهته .. وكل منهما قد شحذ كل أسلحته استعداداً لخوض معركته الحاسمة :
" أتيت بكل وقاحة لعندي وسهلت علي عناء الذهاب إليك .. !
لا تظن أني نسيت ما كان منك .. بيننا حساب لم تدفعه بعد ..! "
قالها فرهاد بشراسة وغل تنضح به نبراته ..
ليرد عليه جان بهدوء استدعاه بقوة .. متحكماً بالنار المضرمة في جوفه كي لا تحرقه وتحرق كل ما خطط له :
" وأنا مستعد أن أدفعه على أكمل وجه .. وكما تحب وترضى ..
ولكن قبل ذلك من حقي أن أعرف لما رفضت خطبتي لأختك ..؟ "
استشاط فرهاد غضباً لجرأة هذا المتبجح قبالته.. فقال بحدة وخفوت كي لا يسمعه أحد .. ومن بين أسنانه التي يكز عليها من كثرة الغيظ هدر :
" لا تذكرها على لسانك ..
أحذرك ..
ثم لا حق لك عندي كما تدعي ..
أنت خطبتها ..
ورفضي أوصلته لأبيك ..
وانتهى الأمر ..
أما عن أسبابي فهي من حقي أنا فقط ..
سأحتفظ بها لنفسي ..
وليس لك أن تعلمها "
أمسك جان نفسه كي لا يهجم عليه ويفرغ أنين روحه فيه .. وقال بتصميم صدحت به نبراته التي علت قليلاً :
" وأنا لن أتنازل عن خطبتها .. وسأقوم بذلك في كل مرة حتى آخر أنفاسي ..
ولن يردعني أحد عنها مهما كانت صفته ..! "

توجس فرهاد من التصميم والإصرار الذي يراه في عيني جان ومن نبرة الوعيد المبطنة التي وصلت إلى أسماعه .. والتي أشعلت الظنون في رأسه المشتعل أصلاً .. وعادت الهواجس لتوسوس له بكل خبث ..
جعلته يقبض على مرفق جان ويسحبه إلى داخل مكتبه .. بعيداً عن أنظار الفضوليين وأسماعهم ..
وما أن أغلق الباب خلفه حتى عاجله بلكمة على وجهه .. وضع فيها كل هواجسه وشكوكه .. ولم يعطه الفرصة كي يستفيق من اللكمة حتى قبض على مقدمة ياقته. صارخاً بوجهه :
" من أين تعرف أختي ..؟
حتى تصر بهذا الشكل على خطبتها ..!
ومن أين أتيت بكل تلك وقاحة وانتهكت حرمتها في ذاك اليوم ..
لقد احتضنتها أمامي يا قليل المروءة والنخوة ..
أجبني ماذا بينك وبينها ..؟ "
قالها ورفع يده قاصداً لكمه مرة أخرى ..

لكن جان كان مستعد له هذه المرة .. فأمسك بتلك القبضة بين أصابعه بقوة قبل أن تصل لأنفه الذي ينزف .. ودفعه بعيداً عنه وعن قميصه ..
ووقف يطالعه وقد اتسعت عيناه بذهول .. لم يتوقع أن يكون فرهاد حاقد عليه لهذه الدرجة .. ولا أن توصله ظنونه إلى ما وصل إليه بتفكيره هذا ..!
مسح أنفه بظاهر يده .. وقال من بين أنفاسه اللاهثة:
" ما الذي تهذي به يا هذا ..؟ لم أعرف أختك ولم أحدثها من قبل "
" كاذب "
صرخ بها فرهاد تحت وطأة وساوسه ..
" أقسم لك أنني لم أعرف أختك من قبل "
قالها جان غير كاذب وشيء من الحقيقة يغلف كلامه ..
فهو بحق لم يعرف من تكون تلك الفتاة التي أوقعت روحه صريعة روحها .. لم يعرف ابنة من تكون .. ولم يعرف أنها أخت فرهاد إلا يوم ذهبوا لعندهم .. ثم أردف بتهكم :

" ثم ألا تعرف من هي أختك ..؟ من ربيتها وكبرتها بنفسك كما سمعت ..؟ ألا تعرف أخلاقها ..؟ ألا "
صرخ فرهاد مدافعاً عن أخته بشراسة :

" صه .. قبحك الله .. ولا تأتي على ذكر أختي على لسانك .. فهي أطهر مخلوق على هذه البسيطة .. ولا أشك للحظة في أخلاقها "

" وهذا بالضبط ما يجعلني أصر على خطبتها .. فأنا سمعت عنك وعنها الكثير يدفع للفخر .. جعلني أتشبث بها وأصر عليها "
قالها جان بصدق .. ثم اقترب منه يهادنه .. ويسأله باستفسار :
" أنا لا أعلم ما الذي جرى لتبدل رأيك بعد أن استقبلتنا في بيتك .. وأوحيت لنا أنك موافق بل وراض كل الرضى .. لكن أخشى ما أخشاه أن يكون أحدهم وشى لنا عندك بما ليس فينا .. وأن تكون وشايته أوقعت في نفسك بغض لنا "

أطرق فرهاد رأسه بخزي مما أوقعته ظنونه به .. فها هو يتهمه بأنه رجل يعطي أذنه للناس دون أن يتبين صحة ما يسمعه ..
وإنها لعمري كبيرة في حقه وفي حق رجولته .. وتجلب العار له بين الرجال .. فرجل مثله لا يقال له مثل ذلك ..
هو فرهاد الآغا من عاش طوال عمره وقد عرف عنه الحكمة والتأني والصبر .. لتأتي الآن بضع ظنون تتلاعب بعقله وتجلب له الخزي بهذا الشكل .. لا وربي لن يكون تحت رحمتها بعد الآن ..
لذا رفع رأسه بإباء لا يدعيه .. ونظر إلى جان وعيناه تنضحان بالثبات والقوة .. وقال بصوت تحمل نبرته ثقة وفخر :
" ليس فرهاد من يعطي أذنيه للناس ليثرثروا فيها بما يشاؤون .. دون أن يتبين وجه الحقيقة فيما يقولون .. ولا أحد بقادر على أن يغير رأي بما لا أريد "
أردف جان مؤكداً على الأخير:
" وهذا عهدنا معك .. يكفي أن يذكر اسمك بين الناس وفي أي مجلس حتى يقفوا لك إجلالاً واحتراماً "
دنا فرهاد من جان وقد ملأه حديثه بمزيد من الفخر وقليل من تأنيب الضمير .. فالآخر لا يقل مكانة وقدراً عنه .. وكم كان فخوراً وسعيداً حين علم بأنه ينوي خطبة أخته .. ولكن ما جرى مع أخته .. جعله يتخبط ويضع نفسه في غير موضعها ..
نفض تلك الأفكار من رأسه يدحرها بعيداً كي لا تثنيه عما نوى ..
فهو قد قرر أن يخبره الحقيقة كاملة دون تزييف .. ويترك الأمر بين يديه :
" اجلس جان وسأخبرك بالأمر كله .. ولا تعتقد للحظة أن غفرت عما اقترفته يداك .. حسابي معك لم ينته ..! "

جلس جان مترقباً وقلبه يضرب بين جنباته بهلع خوفاً مما هو قادم ..
سرعان ما تحولت تلك الضربات وبدأت تتقافز ببهجة .. تقيم أعراسها واحتفالاتها بعدما استمعت إلى ما يسرده فرهاد .. ولم تكتف بقلبه فقط بل ضربت جسده كله.. ولاحت حتى في حدقتيه اللتان تهتزان بإثارة.. انفرجت أساريره .. والروح هامت في ملكوت تلك التي يتحدث عنها أخاها..

يخبره بحالها الذي وصلت إليه في عيد النوروز .. ثم بعدها عندما كانوا في السوق .. وكان آخرها يوم كانوا عندهم ..

( أيعقل أن تكون روحها هامت به كما روحه بها قد هامت .. ؟
لا.. لا غير معقول ولا يصدق ..
لقد قرأ مرة مقولة أعجبته وقد كانت صدى لما يؤمن به ( من تشعر به يشعر بك أيضاً .. فلغة الأرواح لا تخطئ أبداً )
لم لا أيها الأبله ألم تقع أنت صريع هواها دون حتى أن تعرفها ..؟
بلى وربي إني أسير لحظها مقيد الروح بها ..
إذاً لا تنغص عليّ فرحتي)
حديثه لنفسه جعل أفكاره تتصارع في رأسه .. ولكنها لم تمنع غبطته التي ارتسمت على وجهه ولاحت لعيني فرهاد الذي أنهى كلامه يتطلع إلى تلك التعابير التي تموج على وجه جان باستغراب .. انتبه جان من شرود وسأل بلا تصديق :
" أحقاً ما قلت ..؟
هل رفضتني لأنك اعتقدت بأن أختك تعاني مرض ما ..؟
لا أصدق مدى حماقتك ..؟ – ثم أردف متجاهلاً زمجرة فرهاد لنعته إياه بالحمق – أنا طبيب يا سيد إن كنت قد نسيت..! تأخذها لطبيب غريب عنها..!؟ وقد كان بالإمكان أن يعالجها زوجها الذي هو أنا بالمناسبة .. لو لم تتصرف بتلك الحماقة "
زمجر فرهاد وعض على نواجذه بغيظ .. يمسك قبضته عن لكمه مرة أخرى .. جراء تبجحه وتطاوله عليه وقال من بين أسنانه:
" ليست زوجتك حتى تدعي ذلك "
" كانت ستكون لولا تعنتك .. أو على الأقل كانت ستكون مخطوبتي في هذا الوقت "
واستطرد مستغلاً الوضع يطرق الحديد وهو ساخن وقال بإرادة عاشق تملكه العشق :
" إن لم يكن لديك أي حجة على شخصي أو على عائلتي .. فأنا أعيد عليك خطبة أختك منك .. ويشرفني أن أحصل على موافقتك ..؟ "
أجابه فرهاد مقراً بنسبه ونسب عائلته :
" نعم الأنسباء أنتم .. ولن أجد لأختي من هو أفضل منك ليصونها ويكرمها .. ولكن .... "
تهلل وجه جان بسعادة .. فوضع يده على مرفق الأخير يمنع استطراده ..
وقام من مقعده يمد كفه الأخرى يبسطها أمام فرهاد بغرض مصافحته ..

استقام فرهاد ينظر إلى كف المقابل له بحيرة .. لا يعلم أيتلقفها أم يرميها ولا يأبه له ..
حيرته التي ارتسمت على وجهه لاحت لذلك الذي انقبضت ملامحه بوجل ..
وثار قلبه وأعلن تمرده واحتجاجه .. يطالبه بالقتال بشراسة لنيل حقه فيها .. لكن ثورته وأدت في مهدها ..
حين مد فرهاد يده مصافحاً إياه بقوة يبثه من خلالها مخاوفه يسألها أن لا يخيب ظنونه فيه ..
يخفي سعادته بصعوبة كل لا تفضحه أمامه ..
ولكنه سرعان ما اتسعت عيناه بذهول عندما باغته جان قائلاً بحسم :
" سنكون عندكم في المساء كي نتفق على كافة التفاصيل .. إلى اللقاء حتى حينها "
والتفت ليغادر يكاد يطير إلى بيته ليبشر والديه .. لكن صوت فرهاد أوقفه عندما قال :
" على رسلك فأنا لم أحصل على رأي أختي بعد .. وقد يكون لها ... "
أدار جان رأسه وقال بنبرة الواثق وعيناه تلمع بالظفر :
" معك حتى المساء لتسألها رأيها .. وستخبرني بموافقتها حين نأتيك وأهلي "
وانصرف دون أن يدع له مجالاً للاعتراض أو لقول المزيد ..

*********



" أمي .. أبي "
خرجت أمه على صياحه مفزوعة وقلبها يرتجف هلعاً ..
ولكنها ما أن لمحته حتى استكانت
..
فولدها قد عاد بحال غير الحال التي خرج بها ..
ما أن دنا منها حتى حملها وأخذ يدور بها والضحكة لا تفارق وجهه .. ضربته على صدره تصرخ به آمرة :
" انزلني أيها الأحمق .. سيغمى علي .. انزلني "
توقف يسندها على قدميها وطبع قبلة اعتذار على رأسها .. سألها بفضول :
" أين أبي ..؟ "
أجابته أمه بتوجس :
" في مجلسه .. ماذا تريد منه ..؟ ولما كل هذه السعادة التي تشع من كل عصب فيك ..؟ "
أمسك بمرفقها يحثها على السير معه إلى حيث يجلس أباه .. وقال يناكفها :
" رافقيني لتعرفي .. وإلا سيضيع عليك سر من الأسرار العظيمة.. ولن تتحملي ذلك صدقيني "
قرصته في كفه التي يمسك بها مرفقها .. فأفلتها ضاحكاً عندما دخل إلى مجلس أبيه .. وتوجه إليه مقبلاً رأسه في عادة رافقته طوال حياته ..
ربت والده على ظهره وسأله بترقب :
" أرى البشرى تنطق على وجهك .. فبشر يا بني "
نضحت نظرات جان فخراً بأبيه .. الذي كان له نعم الأب ونعم الصديق .. ودائماً ما كان يفهمه قبل حتى أن ينطق بحرف .. فأجابه باعتزاز :
" صدقت أبتاه .. أنت خير من يعرفني .. وتعرف أنني لا أسمح لنفسي أو لأحد أن يستهين بنا أو يقلل من شأننا "
سكت مترقباً تعقيب أباه الذي كان ينظر إليه بعمق وكأنه يسبر أغواره .. لكنه لم يحصل منه إلا على إيماءة تحثه على المتابعة..
فأردف يقر أمراً واقعاً :
" وأعلم أنك من الحكمة بأن لا تحكم على الأمور بظواهرها – سكت مبتلعاً ريقه يجلي حلقه – لقد تحدثت إلى فرهاد الآغا.. وحللنا سوء الفهم الذي أوقعنا فيه .. وأخذت منه موعداً لنزورهم هذا المساء "
ما أن أنهى كلامه حتى صرخت أمه تولول بجنون :
" يا ويلي .. كيف تفعل هذا بك وبنا ..؟ كيف تخطب ثانية من رفضتك في الأولى ..؟
ألا كرامة لديك ..؟
أين كبرياؤك الذي لا يتنازل لأي كان ..؟
لا أصدق أن ولدي الطبيب ابن أكبر العائلات وأعرقها .. يذل نفسه بهذا الشكل ..؟
ومن أجل من..؟ من أجل فتاة ..! فتاة قد "
" فاطمة "
صرخ بها زوجها .. بعد أن تركها تنفث غيظها وتولول كما تشاء ..
لكنه لن يسمح لها بالتمادي والتطاول أكثر من ذلك ..
وهي سكتت على مضض..
فزوجته لا تقل حكمة عنه وتعرف متى تنحني كي تمر العاصفة.. وليس من طبعها أن تلوك في سمعة الناس ..
ولكنها ككل أم تغضب وتثور وتصبح كلبوة شرسة ..إذا ما تعرض أحد لأولادها أو أهانه بفعل أو بكلمة – حتى لو كان في ولدها ما يقولون – لكنها ككل أم تنظر لولدها بعين الكمال ولا ترى عيوبه الظاهرة للعيان ..
فكيف بها هي والواقف يمينها يفيض رجولة ووسامة ..
طبيب يشهد له ببراعته ..
يملك من الأخلاق والفضيلة قلما اجتمعتا في رجل مثله ..
يحق لها أن تفخر وتتباهى به ..
وهو لا يقل عنها فخراً واعتزازاً به ..
كما انه يعلم أن ولده يملك من الكبرياء والعناد ما يمنعه عن التنازل لأي كان .. ورثه منه فهو لا يقل كبرياء وعناداً عن ولده ..
ولم يكن ليسمح لولده حتى بالإشارة لم سبق ورفضه ..
كما وأنه يعرف فرهاد جيداً .. ويعرف أن لديه من الكبرياء ما يكفي كي لا يتراجع عن كلمة خرجت من فمه لو على قطع رأسه ..
وقد خمن أن رفضه ما كان إلا لأسباب تخصه وحده ولا تخصهم بشيء .. لذلك خاطب زوجته قائلاً بابتسامة طفيفة :
" دعيني وولدي يا فاطمة فلدينا ما نقوله لبعضنا .. ولا تنسي أن تخبري ابنتك كي تتجهز للذهاب معنا هذا المساء "

أومأت برأسها مرغمة والاستياء يطفر من ملامحها .. وقد أسقط في يدها ..
ولم تستطع من أمرها بشيء ..
فرجال مدينتها وليس زوجها وولدها فقط .. مشهورون بصلابة الرأس وبالعناد .. والكل يعرف أنهم لا يغيرون رأيهم بسهولة .. فعقولهم أصلب من حجر الصوان ..
خرجت دون أن تنتبه لابتسامة الامتنان التي رمقها بها زوجها ..
ما أن خرجت حتى التفت لولده قائلاً :
" اجلس يا ولدي وأخبرني كل ما جرى بينك وبين فرهاد "


************

أنهى فرهاد أعماله على وجه السرعة وعاد بعجالة إلى بيته.. فذلك الأحمق لم يدع له مجالاً للتفكير ..
دخل ليجد أخته وزوجته جالستان تتسامران في غرفة المعيشة .. وما أن لمحته الأخيرة حتى سألته باستغراب :
" لقد عدت باكراً وقد أخبرتني أنك ستتأخر اليوم .. ! عساه خير إن شاء الله "
أجابها متأملاً أخته :
" كل خير إن شاء الله .. هناك من سيأتينا في المساء .. وأردت الحديث مع جين قبل ذلك "
انقلبت ملامح جين فجأة وانتابها القلق .. فهي مازالت تحت وطأة ما حصل .. سألته أڤين مستفهمة:
" من سيأتي في المساء ..؟"
" سأخبركن لكن بعد أن تصنعي لي كوباً من الشاي من يديك الجميلتين يا أڤين "
أومأت أڤين برأسها والتفتت تعد الشاي له .. وقد فهمت إشارة زوجها لها فهو يريد أن يتحدث مع أخته دون وجودها ..
ما ان خرجت حتى ربت فرهاد على الأريكة بجانبه قائلاً بود:
" تعالي إلى جانبي أختي فهناك ما أود أن أحدثك به "
جلست جين حيث أشار .. مطأطئة رأسها .. تضغط على باطن كفها بارتباك.. تنتظر ما سيقوله أخاها بترقب .. لم يطل ترقبها كثيراً حين سألها فرهاد بكل وضوح :
" ما رأيك بالعريس ابن الشيخ يا أختي "
رفعت رأسها تنظر له وقد جحظت عينيها باتساع وسألته بفضول :
" لما تسألني الآن أخي بعد أن رفضته ..؟ "
" لأنه عاد وخطبك من جديد "
جُنَّ وتينها وتسارعت دقاته ..
ما أن سمع الخبر ..
الخبر يحمل البشرى ..
والبشرى تعني الفرح ..
والفرح لاح على قسماتها ..
وتداعى لها كل عصب في جسدها مهللاً ببهجة..
تمالكت جين فرحتها ونظرت لأخيها تحثه بنظراته كي يكمل حديثه ..
" سيأتي هو وأهله اليوم .. لذا أصدقيني القول أختي .. وأخبريني رأيك بكل وضوح وصدق كما عهدي بك "
لقد تعودت جين أن تصارح أخاها بكل صدق إذا ما سألها عن أي أمر يخصها .. ولا تخفي عنه أي شيء فلا أسرار بينهما .. اللهم إلا تلك المرة في عيد النوروز .. كانت ستخبره عنها لولا ما حصل بعدها .. علاقتهما لا تشبه أية علاقة بين أخ وأخته ..
لذلك تنحنحت تجلي حلقها وأجابت على استحياء :
" لقد عودتني أنا أتكلم معك بكل وضوح ودون خوف .. فأنت لطالما ما كنتَ مرآتي التي أرى بها نفسي .. أنت الأخ المحب .. والصديق .. والناصح ..
وقد أخبرتك في السابق أنني أحكم عقلي وقلبي على السواء في أمر الزواج وفي كل أمر يخصني .. وقلتها لك إذا ما أتاني من يلهف له قلبي .. حينها سأسألك لأنك عقلي الذي يفكر معي ويهديني الصواب ..
وفي المرات القليلة التي تحرك بها قلبي نحو أحدهم رفضته لأنك أخبرتني أنه لا يصلح لي – سكتت تجلي حلقها قبل أن تقول دون مواربة –
أما عن قلبي فقد تلهف لابن الشيخ دون غيره .. وأما عن عقلي فهو ينتظر منك أن تدله على الصواب .. فأنا لا أعرف عنه غير ما رأيته في ذلك اليوم .. جعل قلبي تضطرب خفقاته ويهفو له ..
أما عنك فأنت تعلم عنه كل شيء .. فإن توافق ما تقول مع ما يقوله قلبي كان القبول .. أما وإن لم يكن فلن يضر قلبي إن لم يرضى عقلي "
قالت كلماتها الأخيرة وقد أحست بطعم مر كالعلقم في جوفها .. وبألم شديد في قلبها كمن طعن بسكين ثلم ..
ربت فرهاد على كفها الموضوعة جانبه وقال بحبور وفخر :
" بارك الله بك أختاه .. ما علمت عنك إلا رجاحة العقل .. وسداد الرأي .. رزقك الله سعادة القلب و ورضى العقل .. أما عني تالله ما علمت عنه إلا كل خير .. ولم أكن لأرتضي لك زوجاً غيره .. فإن أنتِ رضيتِ رضيتُ .. أما وإن لم ترضي فلا أحد بقادر على أن يجبرك على غير ذلك "
صمت ينتظر ردها الذي لم يتأخر:
" وأنا رضيتُ أخي "
تنهد فرهاد بارتياح واحتضنها قائلاً بأبوة تخصها:
" أرضاك الله ورضي عنك .. مبارك لك أختاه بمن ارتضاه قلبك وعقلك "
تهلل وجه جين وعادت دقات قلبها إلى وتيرتها .. فأخفضت رأسها بحياء غلفها .. فما كان من فرهاد إلا أن احتضنها .. يطبع قبلة حانية على مقدمة رأسها ..
في الوقت الذي دخلت فيه أڤين تحمل صينية رصت عليها أكواب الشاي .. فقالت تخاطب جين متهكمة ما أن رأتهم على تلك الحال :
" أيتها الماكرة ..! دائماً ما تستغلين غيابي كي تحظي بدلاله لوحدك "
ابتسمت جين وأخرجت لسانها تراقصه في محاولة لإغاظتها ..
قهقه فرهاد بسعادة .. واقترب يتناول منها الصينية ليضعها على الطاولة .. ثم أخذ رأسها بين يديه وطبع على مقدمته قبلة وضع كل امتنانه وتقديره فيها .. ثم غمز بعينه ورمق أخته بعبث :
" اطمئني لن يطول الأمر أكثر من ذلك .. وستحظين بدلال زوجك لوحدك ولن ينازعك فيه أحد بعد الآن .. أما هي فليدللها ذلك الأحمق الذي سيتزوجها "
ضربت جين الأرض بقدمها بطفولية ..واقتربت تحتضن أخاها تتمسح به كهريرة صغيرة .. وقالت بدلال يليق بها :
" لن أتنازل عن دلالك لي .. ولن يدللني أحد مثلك أخي .. فقل لزوجتك ألا تحلم بأن يخلو لها الجو لتحظى بدلالك لها وحدها "
تطلعت بهما أڤين بغباء لا تفقه ما يتحدثون عنه :
"هلا أخبرني أحدكما بما حدث لكل هذا الحديث والدلال ..؟ "
" ابن الشيخ سيحضر هذا المساء مع والديه ليخطبها .. لذا قوما بما يجب لاستقبالهم كما يليق بنا وبهم .. أما أنا فسأدخل لارتاح قليلاً ريثما يحضرون "
تركهما وخرج على صراخ زوجته التي احتضنت جين تقفز معها بفرح ..

********

صرخ داغر مهللاً عبر تطبيق الواتس اب :
" أيها المعتوه لقد فعلتها وربي .. مبارك لك يا صديقي .. مبارك لك .. ولكن إياك أن تقيم حفل الخطوبة دون وجودنا .. احذرك "
حشر مهيار رأسه أمام شاشة الهاتف يقول ممازحاً:
" نعم .. نعم .. وإياك أن تذبح الذبائح في غيابنا .. إما إن أجبرت على ذلك فلا تنسى أن تحتفظ لصديقك العبد لله بحصة كبيرة .. لن أسامحك إن نسيت و "
يد امتدت وسحبته بعيداً عن شاشة الهاتف وصوت حيدر يصله
" ابتعد أيها المفجوع الذي لا يهتم سوى لكرشه "
ضحك جان على عبثية أصدقائه ومزاحهم .. وكم تمنى أن كانوا معه هذه الليلة ..
ظهر حيدر يتأرجح أمام الشاشة وقد لاحت له يده التي يدفع بها مهيار بعيداً عنها وقال يهنئه :
" مبارك لك يا صديقي .. لك أن تتخيل كم سعدنا بهذا الخبر "
ابتسم جان وأجابه بصدق :
" أنا على يقين من ذلك يا صديقي "
دخل وجه مهيار عنوة يزاحم وجه حيدر أمام الشاشة بشكل مضحك.. وقال وأنفه يكاد يحتل الشاشة كلها:
" هنيئاً لك باستعادة روحك يا صاحبي .. أتمنى لك السعادة بقربها – ثم أردف قبل أن يختفي مرة أخرى حين سحبه داغر هذه المرة – ولا تنسى ما أوصيتك به "
أما داغر فأمره بكل تعسف :
" والآن ضع الهاتف أمامك على مرأى منك و تراجع إلى الوراء .. لنرى ما تلبسه ونقيمه .. فأنا أعرف أن ذوقك لا يمت للأناقة بشيء "
زأر به جان متهكماً:
" من هذا الذي تتهمه بقلة الأناقة والذوق يا عديم الذوق .. من كان يترجاني كي أرافقه بينما يشتري ثيابه .. وكل ذلك لأن خطيبته أثنت على ذوقه في ثيابي التي استعرتها لتتباهى بها أمامها "
رد عليه داغر مدعياً الحنق:
" كف عن معايرتي بها .. كانت مرة واحدة .. جعلتني أتوب بعدها لكثرة تندرك بها .. وكفاك ثرثرة جوفاء .. ونفذ ما طلبناه منك على الفور .. فعلى ما يبدو لنا أنك لست متحمس لتلحق بموعدك .. وتفضل الحديث معنا عليه "
نظر جان إلى ساعته ليصعق والوقت يداهمه .. ليعقد حاجبيه باستياء وسبة أفلتت من فمه وصلت لأصدقائه الذين تقبلوها بابتسامة محبة .. ليردف داغر قائلاً بغبطة :
" دعنا على الأقل نراك عبر الهاتف كيف تبدو .. لنشعر أننا نشاركك في كل خطوة تخطوها في طريق سعادتك .. كما شاركتنا أنت .. دعنا نفرح معك ونتخيل أننا من ألبسناك حلتك كما فعلت مع كل واحد منا .. ولولا أنني أعلم حميتك .. وأنه أمر لا يجوز لكنت طلبت منك أن نبقى معك على الهاتف ونقرأ الفاتحة معكم "
" بارك اللهم بكم .. ستكونون في حفل الزفاف إن شاء الله "
" بل سنكون في حفل الخطوبة أيضاً .. ولن يشهد أحد سوانا على عقد قرانكما "
قالها داغر مؤكداً .. فابتسم جان بإثارة وقال بمكر:
" أخشى أنني لن أستطيع وعدكم بهذا "
" أيها الماكر إلى ماذا تسعى ..؟ "
قالها داغر وقد أدرك ما يفكر به صديقه ..
تنهد جان بعمق وأجابه بصوت أجش :
" إلى عقد قران يكون في نهاية الأسبوع .. أي بعد ثلاثة أيام من اليوم .. ولا أخفيكم مدى لهفتي لذلك اليوم "
قالها وأغلق الهاتف على صراخهم وتهليلهم .. بعد أن ودعهم على أن يتصل بهم حين عودته .. ويخبرهم بكل التفاصيل .. ضحك جان وهو يغادر غرفته يردد بخفوت
( يا لهم من ثلة تحب الثرثرة وتقصي الأخبار كالنساء )


*********

تأمل جان المكان حيث جلس وأهله .. هي الغرفة ذاتها التي جلسوا فيها في المرة السابقة ..
لماذا إذاً يشعر بأنها مختلفة هذه المرة ..؟
لماذا يشعر أن كل شيء فيها يتراقص فرحاً كتراقص دقات قلبه في هذه اللحظة ..؟
عيناه لم تفارقا الباب ينتظر أن تطل حوريته عبره ..
يشعر أنه من سيفقد الوعي هو هذه المرة ما أن يراها ..
شوقه يستعر بين جنباته حتى يكاد يحرق المقعد تحته بلهيبه المشتعل ..
أخذ يحدث نفسه لاهياً عن الحديث الدائر حوله ( لماذا تأخرت كل هذا ..؟ ألا تدري بتلك النيران التي تأكل أحشائي من فرط لهفتي وتوقي لرؤياها .. ألم تخبرها روحي التي ما بارحتها عن فرط لوعتي واحتراقي )
بتر حديثه لنفسه وانفرجت أساريره .. عندما دخلت ترفل بفستانها الأبيض المزهر بأزهار الربيع .. ووجهها كالشمس يشع على استحياء وسط غيمة شعرها الذهبي ..
وقف مبهوتاً يحملق بجمالها الأخاذ .. يكاد يلتهمها بعينيه ..
مع كل خطوة تخطوها نحوهم .. كان يشعر و كأنها تخطوها على دقات قلبه .. التي أخذت تقرع كالطبول حتى كادت تخترق صدره زحفاً إليها ..
كانت فائقة الحسن والجمال ..
ليحبس أنفاسه عندما وقفت قبالته تمد كفها لتسلم عليه ..
أخذ يتأمل ملامحها القريبة جداً .. غارقاً في بحور عينيها الزرقاوين .. وعطرها الهادئ مثلها يداعب أنفه فأصابته بالخدر ..
كانت مبهرة بحق .. فاقت كل خيالاته عنها .. شارد في وجهها وحسنها ..
رفع كلتا يديه يحتضن كفها الناعمة بين كفيه .. لترتعش أوصاله وتثور دماؤه تقذف بحممها المحرقة في عروقه .. وذلك عندما شعر بارتعاش كفها بين كفيه المرتعشتين ..
ضغط عليها بشدة يرفض إفلاتها عندما حاولت سحبها.. مما دفع الدماء إلى وجهها من شدة الانفعال والخجل .. وتمنت لو تتلاشى من أمامه..
لكن عصا أبيه الغليظة التي ضربت خاصرته وتوبيخه وصله ناهراً:
" تأدب "
أخرجته من تيهه بها وأجبرته على إفلاتها على مضض ..

تراجعت جين حينها بخطوات مرتعشة وجسد يرتجف .. وجلست على المقعد قبالته .. تضع كفيها في حضنها تفركهما بتوتر ظاهر .. مطرقة عينيها عن سهام عينيه التي تكاد تخترقها ..

تنحنح والده بقوة ينبه ذاك الغافل عنهم .. وكم ود لو كانت الضربة على رأسه بدل خاصرته عله يستفيق ويتوقف عما يفعله ..

تمالك جان نفسه بصعوبة .. والتفت إلى ما يقوله أباه وفرهاد الذي ينظر إليه باستنكار وعيناه تقدحان بغضب ..
فتجاهله بكل برود وعنجهية .. فلن يسمح لأحد أو أي شيء أن ينغص عليه بهجته هذا اليوم ..

على المقعد قبالته جلست جين وحالها لا يختلف عن حاله بشيء .. تمسك نفسها كي لا تغيب عن الوعي مرة أخرى من فرط انفعالاتها ..
فهذا بات دأبها في الآونة الأخيرة ..
تقبض بقوة على كفها التي ضاعت بين كفيه الضخمتين .. لتشعر بضياع روحها معها ..

تحاول عبثاً تفسير كل ما يموج في داخلها .. ولا تجد له سبباً سوى الشعور بأنها سبق وقابلته واستكانت له ..
شعور بالإثارة يدغدغ مشاعرها .. وتجعل نبضاتها تتسارع بقوة ..
كلما رفعت عينيها تحاول التمعن في ملامحه .. تقبض عليها عيناه المترقبة لكل حركة منها متلبسة باستراق النظر .. يغمز لها بعبث .. فيرفع بذلك نيران انفعالاتها إلى أقصى درجاتها ..

أخفى جان ابتسامته بصعوبة .. وشعور بالانتشاء يطغى عليه .. وهو يدرك تأثيره عليها .. أعجبه ارتباكها وتلبكها الذي تحاول إخفاءهما عن عينيه المتربصتين لكل التفاتة منها وأشعره ذلك بالامتلاء ..
تململ بعد فترة وهو يشير لوالده برأسه .. يحثه على إنهاء الأمر بسرعة .. فما عاد يصبر أكثر على حديثهم الذي طال كثيراً في تفاصيل لم يلتفت لها ولا تهمه بشيء .. هز أباه رأسه بتفهم ثم التفت إلى فرهاد قائلاً :
" هل نقرأ الفاتحة يا ولدي "
سكت فرهاد لبرهة وهو ينقل نظراته إلى جان الذي ينظر له بترقب مميت ..
أراد أن يرفض فقط كي يغيظه ويستفزه ..
ولكنه تراجع عن ذلك عندما لمح تورد أخته وابتهاجها الجلي لعينيه ..
التقطه بعينيه رغم أنها حاولت إخفاءه عمن حولها .. ولكنه الأعلم بأخته وبكل ما يصدر عنها .. لذلك أومأ برأسه قائلاً بغصة :
" على بركة الله يا عم "
بعدها رفع الجميع أيديهم وتلوا الفاتحة على نية التوفيق والقبول ..
مسح جان على وجهه بعد أن أنهى قراءة الفاتحة بدوره وحمد الله وشكره على فضله ورحمته به ..
لتنطلق زغاريد أمه وأخته تدوي في المكان .. بفرح وسعادة ..

استقام جان متوجهاً إلى حيث وقف فرهاد بدوره .. فسلم عليه وعانقه برجولية رابتاً على ظهره بكلتا يديه بامتنان مباركاً له ولنفسه .. ثم التفت ينحني على يد والده الذي سحبها وأمسك به محتضناً إياه بقوة واعتزاز ..

ابتعد عن والده لتتلقفه أمه إلى أحضانها .. تمسك وجهه بين يديها تقبل جبينه وخديه بحنان .. ودموعها تنساب على خديها من فرط سعادتها وسرورها ..
ثم سلم بعدها على أخته وزوجة أخيها ..

وحان دورها هي .. هي الواقفة مطرقة الرأس بخجل وحياء .. أربك قلبه وكاد أن يسبقه إليها يسكنها جوفه وبين نبضه .. لكن خطواته المتلكئة بخبث جعلتها ترفع عينيها المتسائلتين بترقب ..
فابتسم لعينيها وغمزها خفية ..
ثم التفت وسط ذهولها ووجلها إلى أخيها الذي لا يقل ذهولاً عنها.. ونظر إلى أبيه المجاور للأخير .. يطلب دعمه فيما سيقوله .. ليومئ له أباه برأسه موافقاً ..
فقال بحسم موجهاً كلامه إلى فرهاد :
" أريد أن تكون الخطبة وعقد القران يوم الجمعة "

حدجه فرهاد بحنق .. وهز رأسه رافضاً الفكرة وصاحبها .. فالواقف قبالته يعتقد أنه سيملي عليه رغباته بكل عنجهية وعته .. فقال باستنكار:
" الأمور لا تمضي كما تشتهي أنت وترغب .. ! ثم كيف لقت بأختي أن تتم خطبتها وعقد قرانها بهذه السرعة .. ؟
ماذا عن عاداتنا وتقاليدنا ..؟
لا يمكن أن نتخطاها وأنت أكثر من يعلم بذلك –
ثم أردف بمغزى – يكفي أنني وافقتكم على قراءة الفاتحة متغاضياً عن كل شيء "
ربت والد جان على كتف فرهاد .. رامقاً ولده بنظرة لائمة ومتوعدة لأنه وضعهم موضع مخجل .. وقال له بتفهم مبطن باعتذار :
" ولدي لا يجرؤ على التقليل منك أو من ابنتنا بني .. أنا أعلم أن العادات تقتضي أن يكون معنا كبار عائلتنا ووجهاء البلدة وأعيانها .. وهو ما يليق بك وبعروستنا وبنا أيضاً .. ولا نرضى لكم بغيرها .. لكن لا تظن أننا تغاضينا عنها أو تناسيناها .. أبداً وربي وما قراءة الفاتحة اليوم إلا ميثاق بيننا .. نريح بهما قلبيهما من القلق والاضطراب ..وسنأتيكم يوم الجمعة إن شاء المولى حسب العادات والأصول .. تكون أنت حتى حينها قد دعوت من ترتئيه مناسباً لحضور مناسبة كهذه ..
لكن قبل ذلك لي رجاء عندك أرجو أن توافق عليه ..
أنا أضم صوتي لصوت ولدي فيما يخص عقد القران وقد كان اقتراحي عليه .. فأنا لا ارتضي لهما خطوبة دون عقد شرعي بينهما .. فلا يجوز له أن يجالسها وتجالسه دونه .. وأظنك مثلي لا تحبذ ذلك ..
لذا أرجو منك أن توافق على عقد قران يعقده ابن عمي الشيخ رشيد بحضور الشهود يوم الجمعة .. من ثم نوثقه في المحكمة قبل موعد الزفاف .. فولدي سيسافر الأسبوع القادم إلى العاصمة لإنهاء رسالته كم تعلم وأود أن ينتهي الأمر قبل ذلك .. فما قولك ..؟ "

أطرق فرهاد يدير كلام هذا الرجل الوقور في عقله .. هو كان يفكر بنفس الأمر ولكن كبرياؤه منعه من طلبها .. وما كان حنقه من جان إلا لأنه شعر به يتصرف وكأن أمره نافذ على الكل وواجب عليهم طاعته .. وما داموا سيفعلون ما يليق بأخته .. فلا داعي للمماطلة وتأجيل المحتوم ..
رفع رأسه وابتسم لوجه الرجل المترقب جوابه بفضول .. وأجابه بإجلال :
" تالله لا أردك عماه .. فأنت كبيرنا وأنا أثق بحكمتك وما تقوله مطاع.. وطلبك مجاب بإذن الله "
زفر جان أنفاسه التي حبسها داخل صدره بارتياح .. ونقل أنظاره إلى تلك التي تشع ألقاً وابتهاجاً .. ثم أعاد بنظراته الغامضة إلى فرهاد .. وابتسامة سمجة - كما وصفها فرهاد في نفسه - تلوح على فمه ..
فبادره فرهاد لاوياً فمه بامتعاض:
" ماذا بعد وقد حصلت على ما تريد ..؟ "
رفع جان يده يتخلل شعره باضطراب .. وقال بمواربة :
" لقد سمعتُ بما يسمى بالرؤية الشرعية .. وأنا لم أقم بها بعد ..! "
صرخ فرهاد في وجهه وقد وصل تحمله له إلى منتهاه :
" إذاً ما كان كل هذا ..؟ أنت لم ترفع عينيك عنها مذ جلستْ.. وقد أمسكت نفسي عنك بصعوبة .. لا تظنني كنت غافلاً عنك .. والآن تتبجح بأنك لم تقم بها "
رد عليه باستفزاز :
" وهل تسمي بضعة نظرات استرقتها عنوة منكم برؤية شرعية ..؟ أنا لم أسمع صوتها حتى –
ثم غمزها خفية قبل أن يتابع بعبث – ماذا لو كانت بكماء وتخفون الأمر عني ..! "

استشاط فرهاد غيظاً منه .. وقبض يده يمنعها بصعوبة كي لا يلكمه في وجهه لاستفزازه له .. لكن ما لبثت أن ارتسمت ابتسامة متشفية على فمه ..عندما تولى والد ذلك المستفز القيام بها .. فضربه بقبضته على مؤخرة رأسه .. وهو ينهره بلوم :
" كفاك عبثاً واستهتاراً.. وإلا أنا من سيمنعك عنها .. وأرني حينها ما تستطيع فعله "
رفع جان كفه يمسد رأسه حيث ضربه والده .. مدعياً البؤس ..
ونظر إلى والدته باستعطاف رق له قلبها .. فدنت من فرهاد تستجديه بحنو بينما تشير إلى الشرفة الملحقة بالغرفة :
" اسمح لهما بالجلوس في الشرفة بني .. سيكونان تحت أنظارنا لا تقلق "
أومأ فرهاد على مضض وأشار لأخته الواجمة تحملق بهم باضطراب قائلاً بتشديد :
" رافقي جان إلى الشرفة حبيبتي "
تطلعت جين بأخيها ببلاهة لا تعي ما طلبه منها .. فأشار لها مرة أخرى حتى فقهت مراده ..

حاولت تحريك قدميها المتسمرتين بالأرض .. فلم تستطع فهي ظلت طيلة الوقت واقفة على قدميها حتى تخشبتا .. وزاد عليها عندما علمت أنها ستجلس معه لوحده ..
كيف ستجلس معه لوحدهما حتى لو أنهما سيكونان على مرأى من الجميع ..
لكن الأمر اربكها ورفع من وتيرة انفعالاتها ..
لكزتها أفين بخفة على كتفها عندما وجدتها على هذه الحالة .. وهمست لها بخفوت كي لا يسمعها الباقيين .. تسألها وقلبها متخوف من أن تفقد وعيها من جديد :
" هل أنت بخير ..؟ "
هزت جين برأسها أن نعم .. فتنفست أفين الصعداء وأردفت بخفوت:
" ما بك إذاً تسمرت في مكانك ..؟ الرجل ينتظرك عند باب الشرفة بنفاذ صبر "
نظرت إلى حيث أشارت أڤين .. فوجدته يقف بهيئته الرجولية ووسامته الطاغية .. يتطلع إليها بنظرات جعلتها تود لو تختفي من أمامه..
أطرقت برأسها تحاول كبت تأثرها به .. ثم دفعتها أڤين فتحركت قدماها بلا إرادة منها تأخذها إليه ..
عيناه تكاد تلتهمانها بنظراته .. مدعياً سيطرة لم يعد يملكها في هذه اللحظة ..
يراقب خطواتها المتعثرة .. وخطوط جسدها التي تشي بمدى انفعالها ..
وما أن وصلت لمحاذاته حتى همس يشاكسها بصوت متحشرج أجش :
" أنتِ مدينة لي بإغماءة "
رفعت رأسها باستغراب وصدمة تعلو وجهها .. تبحلق فيه بحيرة بعينيها الزرقاوين التي سلبت لبه .. فأطاحت بكل ثبات كان يدعيه ..

رعشة منتشية سرت في سائر جسده .. ولمعت عيناه بوميض عابث .. عندما رأى تخبطها وحيرتها تلك ..
فأردف مداعباً لامتصاص صدمتها :
" ماذا ..! ألم أسندك عندما أصبت بالإغماء ..؟
عليك إذاً أن ترديها لي .. فأنا أشعر بأنني سأفقد الوعي ..! فهل أنت قادرة على إسنادي يا ترى ..؟ "
قالها غامزاً ..

ليتخضب وجهها بحياء .. في الوقت الذي انفرج ثغرها عن ابتسامة خجول .. أصابت قلبه في مقتل ..
بابتسامة منتشية ومكر أنثى تعرف تأثيرها عليه .. تجاوزته تاركة إياه خلفها يلملم شتات روحه التي بعثرتها ودخلت إلى الشرفة ..
لحق بها قائلاً بنبرة مغرية :
" أما وإن كنت تشعرين بالإغماء ..؟ – وسكت وقد تهدجت أنفاسه لذكرى سابقة ليضيف بدفء وأنفاس ساخنة – فاطمئني سأتلقفك بكل رحابة صدر "

قالها ويده ترتفع إلى موضع قلبه يربت عليه يهدئ خفقاته ..
عندما فعل ذلك أحس بسوارها الرابض هناك .. فأدخل يده يخرجه أمام عينيها المترقبتين .. لتتسع بذهول وهي ترى سوارها الذي أضاعته يتدلى من بين أصابعه ..
فخرجت شهقة من بين شفتيها .. غامت عيناها بدموعها .. وترنحت من تأثير الصدمة .. شعر جان بترنحها فانقبض قلبه جزعاً عليها .. وخاف أن يغمى عليها من جديد ..
فهمَّ ليقترب منها ..
لكنها رآها كيف تمالكت نفسها قبل أن تهمس بشحوب .. والكلمات تتلجلج على شفتيها :
" من أين .. أين .. لك به ..؟ "
دموعها التي تجمعت في حدقتيها أوجعت قلبه وأحرقته ..
فدنا يقول بدفء:
" تعالي لنجلس أولاً .. وسأخبرك بكل شيء "

انصاعت لطلبه وجلست على أقرب كرسي لها .. ليسحب هو بدوره كرسي وقربه من كرسيها ..
في الوقت الذي حضرت أڤين بتحريض من زوجها الممتعض .. تحمل كأسان من العصير وضعتهما على الطاولة أمامهما .. وهي تنقل أنظارها المتوجسة بينهما .. وقد انتبهت لدموع جين الحبيسة خلف جفنيها ..
فسألت بريبة :
" ما الذي يجري هنا ..؟ "
أجابها جان ببرود:
" لا تجزعي هكذا .. فلا شيء يدعوك لذلك .. مجرد سوء فهم وسأحله بطريقتي "
استاءت أفين لبروده وأجابته بخشونة:
" كيف تريدني أن لا أجزع وأنا أراها بهذه الحال ..؟ ماذا فعلت لـها ..؟ ولم تكادا تجلسان – ليلتجم لسانها .. وتجحظ عيناه باندهاش عندما لاحظت ما يمسكه بيده فأردفت مستفهمة – أين عثرت عليه .."
أجابها جان بجدية وهو يحدق بجين يراقب اختلاجها .. يمعن النظر بملامحها الحزينة :
" سأخبر صاحبة الشأن فقط "
" يا له من متكبر "
همست بها أڤين لنفسها قبل أن تتركهما وتدلف إلى الداخل .. وقد وصلها تلميحه الصريح بأن لا شأن لها بما يحدث بينهما ..
لتبتسم بظفر وشماتة ..
فهو لا يدري أن جين لا تخفي عنها شيئاً ..

ما أن ابتعدت حتى سألها جان دون مواربة :
" هذا سوارك أليس كذلك ..؟
هزت جين رأسها موافقة ..
لينظر إليها نظرات غامضة مراقباً كل ردة فعل يظهر على وجهها .. تابع وشعور بالألم لم يختبره من قبل ينخر قلبه :
" لم تأثرت بهذا الشكل عندما رأيته ..؟ هل يعني لك كل هذا ..؟"

ابتلعت جين غصتها .. فهي حتى الآن لا تصدق أنها أخيراً عثرت على السوار الذي أهداه لها والدها ..
كم حزنت وبكت لضياعه ..
فأجابته بشجن غير واعية للنظرات التي يرمقها بها:
" يعني لي الكثير .. أكثر مما تتخيل "
" لما ..؟ "
قالها بخشونة ..
أجفلت جين من نبرته فرفعت عينيها مستغربة خشونته .. لتلمح وجه مقفراً من أي شعور .. وقد عقد حاجبيه بغضب .. ينظر لها بعينيه القاتمتين نظرة صقيعية .. أرجفت قلبها واربكته .. وألجمت لسانها فمنعتها من النطق ..
أمرها بصرامة :
" تحدثي "
أسرعت تقول متأتأة :
" لأنه .. والدي .. هو هدية والدي رحمه الله لي قبل موته "
قالتها وانخرطت في بكاء مرير ..
أما هو فقد زفر أنفاسه التي كادت تخنقه ..
وانفرجت أساريره بارتياح ..
فقال بصوت أجش:
" أقسم أنك كدت ترديني قتيلاً "
توقف نشيجها وقد احتارت في أمره ..
ما باله .. ؟
مزاجه يتقلب بسرعة البرق بين اللحظة والأخرى ..
أتراه دائماً هكذا..؟
سمعته يقول بصدق :

" اعتذر لأني أحزنتك .. لكن عذري أني لم أعلم "
رفعت حدقتيها المحملة بغيوم عينيها تنظر له بحيرة ..
عقلها غير قادر على فهمه .. وتخشى أن يكون عائقاً بينهما ..
لذا نفضت ضعفها الذي سببه لها رؤية السوار ..
تمالكت اتزانها.. ومسحت دموعها بأصابعها ..
هي يجب أن تكون بكامل وعيها وادراكها ..
فهي تقف على مفترق مصير يحدد ما ستكون عليه حياتها القادمة .. والقلب مازال متخبط في مشاعره لا يعرف ما هيتها ..
لذا على عقلها أن يدلها على السبيل الصحيح ..
سألته بجدية تلبستها :
" هلا أفصحت وقلت لي كيف حصلت على سواري من فضلك ..؟
ولم ألمح كل هذا التشكيك في نبرتك ..؟ "
لم يكن يصغي لما تقوله .. فقد كان غارق فيها .. غارق في تفاصيلها المهلكة .. في ملامحها الرقيقة .. في أنوثتها الطاغية .. غارق في أناملها الناعمة التي رفعتها تمسح بها وجهها ..
تأوه يقول في تيه :
" ليتها كانت أصابعي "
هل هو مخبول ..؟
أتراه يعاني مس في عقله ..؟
سؤال طرأ على ذهنها وتوجس له قلبها ..
ليردف وهو مازال على تيهه بها :
" ليتها أصابعي من مسحت دمعاتك .. وحظيت بمذاق الشهد على وجهك .. وبملمس الورد على خديك .. ليتها كانت فتعيد لروحي الحياة "

شهقت ترفع كفيها المرتعشتين تغطي بهما وجهها .. الذي استحال إلى ثمرة خوخ حمراء .. وانكمشت خجلاً .. جراء غزله الجريء بها .. جعل كيانها كله يهتز ويختض له ..

وهو شعور بالنشوة سرى في أوردته وأشعل رغباته ..
وهو يشعر بارتعاشها ..
ود لو أخذها في أحضانه في التو ليوقف ارتعاشها ..
أو يزيده ..!

تطلع إلى كفيها التي تغطيان وجهها ..
فهمس بصوت عميق متحشرج حاول إخراجه بطبيعية :
" أنت تحرضينني بالفعل كي استبدل كفي بكفيك "
أبعدت كفيها بسرعة تنزلهما إلى حضنها تفرك أصابعها بارتباك ..
انفجر ضاحكاً باستمتاع حتى كادت أن تدمع عيناه ..
" كف عن إحراجي لو سمحت "
بالكاد همستها بخفوت .. حتى ظنت أنها لم تصله .. لكنه وصلته وفعلت به الأفاعيل
( ويلك يا جان إن كان صمتها يعذبك .. فصوتها هو الموت نفسه)
همس بها لنفسه ..

ضحكته المستمتعة وصلت لفرهاد الذي كان يراقبهما بضيق .. يرهف السمع جيداً عله يسمع ما يقوله ذلك العابث لأخته .. فلم يصله سوى همهمات خافتة لم يفقه منها شيء ..
لكن ارتباك أخته واحمرار وجهها .. جعله على يقين أن ذلك الأحمق يغازلها أمام عينيه .. مما أشعل حميته وزاد من ضيقه وتململه .. فاستقام بحمائية ناوياً إنهاء جلستهما تلك .. واخفاء أخته عن أنظارهم جميعاً ..
ولو ترك الأمر له لرمى الآخر من الشرفة بلا تردد ..
لكن يد والد جان أمسكت بمرفقه برفق يمنعه عن تحقيق نيته .. وقد أدرك ما يدور في خلد ه .. فقال بهدوء :
" دعهم يا ولدي فهما ما كادا يجلسان .. هي حياة طويلة تلك التي سيقضيانها معاً .. فلا ضير إن اتحنا لهما الفرصة قليلاً .. كي يتعرفا على بعضهما جيداً علَّ دروبهما تتلاقى .. أما إن لم تتوافق سبلهما الآن .. سنكون قد منعنا وقوع مأساة محتمة "
أقنعه كلام الرجل فتراجع ليجلس في مقعده .. رغم رغبته التي تدفعه لخنق جان في هذه اللحظة .. وشعور آخر ينازع رغبته ويدحرها بعيداً ..
وهو أن جان وحده من يستحق أخته ويليق بها ..

لمح جان ما حصل بطارف عينه .. وقد أدرك ما كان ينتويه فرهاد .. فكز على نواجذه غيظاً متجاهلاً إياه ..
ثم التفت إلى قطعة الخوخ التي تجلس بجانبه .. كم ود أن يتلقفها مبتلعاً إياها لجوفه دفعة واحدة .. ليسكنها جوى قلبه .. ويستمتع ويتلذذ بتذوقها قطعة قطعة ..
نفض خيالاته يمنع استرسالها في ذهنه بصلابة .. وإلا فلن يكون مسؤولاً عن جنون ما ستقوم به في الحقيقة .. وسألها مداعباً :
" يبدو أنك ما عدت تريدين معرفة كيف حصلت على السوار "
ردت بلهفة وطفولية :
" بلى .. بلى أريد "
حوقل في قلبه بصمت .. متمالكاً نفسه عنها بصعوبة ..
ثم بدأ بسرد كل ما جرى معه في عيد النوروز حتى الساعة .. يخبرها كيف أنه تنكر في زي فتاة ليبحث بين مئات الفتيات عمن تستكين لها روحي ..
يبثها أنين روحه وهي تهيم في الملكوت بحثاً عنه ..
يحكي لها عن تخبط فؤاده في مشاعر لم يعرفها من قبل ..
يحدثها عن مس اتهم به .. وكيف أنه جن ودرب الجهالة اعتنق ..
روى لها كل ما شعره وكابده منذ أن لمح طرف طيفها ..
ومع كل حرفاً كان ينطقه كانت خفقاتها ترتفع ..
تتماهى مع مشاعره وتنسجم ..
فمشاعرها لم تكن أقل تخبطاً من مشاعره ..
الفرق أنه كان منذ البداية يدرك بأنها فتاة ..
أما هي فكانت تعاني ارباكاً اقعدها طريحة الفراش لفترة ..

صمتَ بعدها يستمع همس عينيها التي أوشت بما بخل به لسانها .. أخبرته بما عانته وكابدته بدورها ..
وهل هناك أصدق من حديث العيون .. ؟
وحديث عينيها متقد ..
ترميه بشهبها الزرقاء .. فتحرق جوفه .. وتضرم نيراناً تأتي على كل خلية في جسده ..
زفر أنفاسه الملتهبة .. وقال بحرارة :
" سبق وسلبت روحي .. وهذا قلبي وضعته بين يديك .. فترفقي بعقلي الذي وصل حد الجنون .. فحسنك يا بهية جنون ما بعده جنون "
هل تندر عليها في وقت سابق ووصفها بالبكماء ..؟
لماذا تشعر إذاً أنها بالفعل أصبحت كذلك ..؟ فهي قد خرست تماماً أمام كل ما يقوله ويفعله.. وسكتت عن الكلام .. فالصمت في حرم العشق عشق ..

و في حضرة صمتهما .. دخلت أڤين ووقفت تتأمل جمودهما في ذهول وكأنهما تمثالين من الشمع .. تنحنحت تنبههما من غفلتهما .. وقالت ممازحة :
" مرحباً يا معشر الهائمين .. أنا هنا إن تنبهتم "
ثم أردفت ما إن تطلعا فيها بغرابة وكأن ما قالته استعصى على عقليهما :
" العشاء جاهز .. ونحن في انتظاركما "
" لست جائع "
" لست جائعة "
خرجت من أفواههما في الآن نفسه ..
فابتسم جان ونظر إليها بوله ..
لتبادله بابتسامة خجول قبل أن تطرق رأسها باستحياء ..
أمسكت أڤين ضحكتها كي لا تطلقها في وجهيهما .. فقد كانت هيأتهما تدفع للضحك بحق .. وقالت بمغزى :
" أرسلني فرهاد كي استعجلكما .. وقد نفذ صبره في انتظاركما "

تطلع جان إلى داخل الغرفة ليجد فرهاد يناظره من بعيد بمكر .. جعله يضغط على أسنانه بغيظ متمتماً بسبة لم تصل لمسامع الجالسة قربه ..
ثم قال لأڤين باستياء:
" أخبريه أننا قادمان .. وقولي له أن جان يقول لك تحلى بالصبر لبضع دقائق أخرى لن يضروك .. فالصبر من شيم الكرام "
أجابته أڤين متهكمة بينما تلتف عائدة من حيث أتت :
" قلها له بنفسك .. فلست على استعداد لتدق عنقي .. ولا تتأخرا فتُدق عنقك أنت "
قالتها مقهقهة باستهزاء ..
استقام جان واقفاً يكتم غيظه عنها كي لا يكدرها .. ورفع السوار الذي كان يمسك به بين أصابعه طوال الوقت ليضعه في جيبه .. فاستوقفه صوتها العذب قائلة بنعومة :
" أعد لي سواري من فضلك "
أنزل كفه وبسطها والسوار في وسطه وقال بمكر :
" هو لك خذيه "
توجست جين من نبرته .. ومدت أصابعها المرتعشة بحذر تتناول السوار منه .. وما أن لامست كفه حتى أطبقت على أصابعها والسوار معاً ..
اختض واختضت ..
وقرع دقات قلبيهما صم الآذان ..
حُبست الأنفاس لثوان ..
ثوان كانت كافية كي تسحب كفها وتطلق قدميها للريح ..
تفر منه ..
من لظى سعيره ..
من كل ما أضرمه في جوفها ..
مخلفة وراءها جسد يحترق في جحيم لمستها .. يفكر إلى متى سيكتفي بفتات اللمسات واللمحات ..






نهاية الفصل السادس

قراءة ممتعة أتمناها لكم


ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـ


Mays Alshami غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس