عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-21, 09:35 PM   #78

Mays Alshami

? العضوٌ??? » 458001
?  التسِجيلٌ » Nov 2019
? مشَارَ?اتْي » 53
?  نُقآطِيْ » Mays Alshami is on a distinguished road
افتراضي عانقتني روحها

الخاتمة
فما أحلاه من خمر العناق
أريدك لا أريد سواك حباً
وإن كان الهوى فيه احتراقي
أريدك دائماً أبداً .. وأحيا
على أمل بأن يحلو التلاقي
فأنت محبةٌ تسمو بروحي
وقلبٌ رائعٌ في العشق راقِ
أحبك ما بقى في القلب نبضٌ
وإن يفنى .. ! فعشق الروح باق


*علاء سالم

***************


الجمعة بعد العصر

لفيف من الناس ممن حضروا مع آل الشيخ كجاهة لخطبة جين .. نساء ورجال اجتمعوا في بيت الآغا ..
عدا عن هؤلاء الذين دعاهم فرهاد من طرفه .. ليكونوا حاضرين في مثل هذه المناسبة ..
كما تقتضي عاداتهم وتقاليدهم ..
فالعادات تقول إن اتفقت عائلتان على المصاهرة بينهما .. يقوم أهل الخاطب بدعوة كبار أقاربهم من أعمام وأخوال .. ممن لهم مكانة عالية .. ومعروف لدى الناس ..
وكذلك يدعون من معارفهم من كانت له نفس المكانة ويليق بهم ..
وأهل المخطوبة أيضاً يقومون بنفس الشيء .. وكلما كان عدد من دعوهم أكثر ..
كلما دل على ما تتمتع به العائلتان من السمعة الحسنة والمكانة العالية ..

وآل الشيخ وآل الآغا من أشهر عائلات هذه المدينة وأكبرهم .. وقد ملؤا أطراف مجلس بيت الآغا .. الذي تعدت مساحته أكثر من العشرة أمتار مربعة .. أمامهم رصت مائدة طويلة وضع عليها ما لذ وطاب من الطعام والشراب ..

في الغرفة المجاورة للمجلس .. كان جان يجلس على الأريكة إلى يسار الشيخ رشيد .. يضغط بشدة بكفه على كف فرهاد وكيلاً عن أخته بينما الشيخ يعقد القران ..
ما أن أنهى الشيخ عقد القران .. حتى قام جان وعانق فرهاد عناق أخوي يشد على كتفه بتعاضد بادله إياه فرهاد بتؤدة..

قلب جان يكاد ينفرط من شدة انفعالاته ..
لا يصدق أنه اخيراً امتلك قلبها ولهاً وشرعاً ..
أصبحت له زوجته نصيبه من الحياة بل هي الحياة كلها ..
قمر يضيء ظلمة لياليه ..
وشمس تشرق فوق أيامه القادمة حتى نهاية العمر ..
أقسم أن يغرقها ويغرق معها في بحور العشق .. يعلمها كيف أن الغرق فيه نجاة .. وأن البعد عنه هلاك ..
ينهل من رحيقها حتى يثمل من عبير هواها .. سيجعل من توقهم لحناً يتغنى به ..
ويغزل لها من كلام الهوى لغة جديدة ما لم تسمعه أي من نساء العالم ...
سيطرح الدنيا تحت قدميها ويكون لها الحياة ..
أفاق من أفكاره وأباه يحاوطه مهنئاً بحنان جارف .. وعيناه تلمعان ببريق دموع أبوية ..
فخور مطمئن على وحيده وسنده .. يبارك له بفوزه بمن سلبت لبه وهام بها عشقاً .. فضمه إليه قائلاً :
" مبارك لك ولدي الحبيب .. حفظكما الله وتمم لكما على خير وأنار أيامكما بالسعادة والهناء "
بادله جان حضنه وربت على ظهره بإجلال ومحبة متبادلة وسعادة تطفر من محياه متمتماً بتبجيل :
" اللهم آمين .. وحفظك لي وبارك بك أبي "

انهالت التهاني والمباركات من الجميع عليه .. تلقاها هو بقلب راجف مشتاق للقائها ..
ونفس تتوق لاحتضانها يروي عطش روحه لها ..
ليشبع من نور عينيها ودفئهما ..

نظراته تحيد إلى الباب بين اللحظة والأخرى يرقب دخولها منه.. فهو يعلم أن زوجة أخيها ستأتي بها إلى هنا بعد عقد القران بحكم تقاليدهم .. لتسلم عليه وعلى حميها و ذويها ..
تململ بقلة صبر ..
وكم كره ولعن تقاليدهم وكل ما يتعلق بها في هذه اللحظة المقيتة من الانتظار ..
كيف يريدون منه أن يردع نفسه عنها وهي التي باتت زوجته ..؟
أخذ نفساً حاراً بحرارة ما تعنيه هذه الكلمة من حميمة وشجن .. جعلت جسده يرتعش .. فرفع يده يلهي نفسه ..
يتحسس جيب بذته حيث تقبع هديتها ..
هدية غير تلك التي ستهديها لها أمه ..
لقد أوصى صائغهم الخاص أن يصنعها لها على وجه الخصوص ..
رغم أن أمه أخبرته أنه لا داع ليلبسها أي شيء مادامت هي ستفعل ..
لكنه أصر على ذلك ..
أصر أن يهديها ميثاق عشق أبدي بينهما ..

دخلت أفين ومعها أخته نوشين تسبقانها .. وأصوات زغاريدهما المتواصلة والعالية تهز جدران المكان حولهم .. جعلت كل عصب في جسده يتأهب لدخولها ..
عيناه مصوبة نحو الباب لم تحيد عنه قيد لمحة .. تختطف من نبضه ألف نبضة ونبضة .. بل كل نبضاته اختطفتها .. وتركته بلا حول له منه ولا قوة ..
عندما التقط هيأتها الملائكية ..
شعر وكأن بريقاً كبريق الرعد ضرب قلبه فقسمه نصفين ..
تسمر في مكانه يجاهد أنفاسه المخطوفة بسحر فتنتها.. بطلتها التي خلبت لبه ..
كانت تبرق فتنة بفستانها الذهبي المنسدل بحشمة واتساع حتى لامس الأرض تحتها ..
يخفي عن عيون المتطفلين رشاقة قدها .. يتهادى خلفها بقماش من الشيفون المبطن ذو الخطوط المتشابكة .. مزين بحبات مترامية من اللؤلؤ تماثل بلونها لون الفستان بكمين متسعين على طول ذراعيها وينتهيان كالسوار حول معصمها .. .. يضيق عند خصرها النحيل الملفوف بحزام من المعدن الذهبي اللامع أيضاً ..
كلها بدت لعينيه كسبية من الذهب الخالص ..

سارت صوبهم وحياؤها الذي تنطق به كل خلجاتها يسبقها متهادياً إليه .. يرجوه أن يترفق بها ..
فيتجاهله وهو يكاد يلتهمها بعينيه ..
راقبها وهي تسلم على أبيه الذي مسح على شعرها مقبلاً أعلى جبينها بأبوة وحنان ..
فأخاها الذي أخذها إلى أحضانه .. يحتضنها بقوة .. يخفي دموع أخوته وأبوته عنهم بصلابة ..
ثم رأى أمه وهي تلبسها خاتماً من الذهب الخالص مرصع بحبات من الفيروز ينافس في لونه زرقة عينيها ..
سمعهم يهنئونها ويتمنون لها السعادة والفرح .. وهو واقف بتحفز ينتظرها أن تصل لعنده .. وملامحه المنفرجة تشي بمدى لهفته ..
ليعبس بوجهه فجأة وهو يراها تتجاهله .. ثم تستدير مبتعدة وتقف إلى جانب أفين تناظره بخفر ..
ابتسم لوجهها الحيي بعبث .. وغمزها بطرف عينه متقصداً ارباكها أكثر .. فيزداد توهج خديها واحمراره ..

حبيبته البهية الشهية ترد عليه فعلته السابقة .. لم تسلم عليه ولم تبارك له عقد قرانهما ..
ربما منعها حياؤها من أن تفعلها أمام أبصارهم التي تراقب كل التفاتة منها ..
أو ربما لأنها شعرت بخطورة التقرب منه في هذه اللحظة ..
وقد أصابت بهذا حقاً .. !
فمشاعره في هذه اللحظة من الخطورة ما يقد يجعله ينقض عليها أمامهم ..
ضارباً عرض الحائط كل من يحاول ردعه عن التهامها ..
ليشبع زئير روحه التي تطالبه بها ..
ويبدو أن زئيره قد وصلها فقد فرت من أمامه وخرجت كما دخلت تنجو بنفسها عن أنياب عشقه الحادة ..

****************

بعد برهة وقد نفذ صبره .. تحدث إلى فرهاد قائلاً بصلابة :
" هلا تكرمت وسمحت لي أن أعطي زوجتي هديتها ..؟ "
رد عليه فرهاد بصلابة أكبر:
" أولاً : هي ليست زوجتك بعد .. !
ثم أن أمك سبق وألبستها هدية ثمينة جداً ..
فلا داعي لأن تهديها أنت أخرى ..
ثم وقبل كل ذلك .. ! متى كان في يحق للخاطب أن ينفرد بمخطوبته لوحدها في عرفنا ..!؟ "
مستنكراً ما قاله أجابه جان بثقة مؤكداً على كلمة ينطقها :
" بل زوجتي حتى لو أنكرتَ ذلك .. وقد وقعتَ ميثاقه بيمنيك .. وبارك به الله من عالي سمائه .. أما عن هدية أمي فهي تخصها وحدها .. وأما عن هديتي فهي تخصنا أنا وجين ..
ثم اصغي إلي جيداً وضع ما أقوله في حسبانك احترامي لك ولزوجتي – قالها مشدداً عليها – قبل احترامي لأعرافنا .. يمنعني أن أطلب الانفراد بها لوحدنا .. فتصبح لقمة سائغة لألسن المغرضين والثرثارين .. وهذا ما لا أقبله ولا أرضاه لها تأكد من ذلك "
نظر له فرهاد بفخر لم يخفيه .. لم تخب توقعاته بشأن جان .. فهو قدر أدرك منذ البداية أنه رجل ذو أخلاق قل مثيلها في وقتنا الحاضر .. وعرف أنه سيصون أخته ويحفظها ..
لكن لا ضير من استفزازه قليلاً :
" هات هديتك .. وفيما بعد سأسلمها لها بنفسي "
استشاط جان غيظاً وقد أدرك تلاعب الجالس قبالته بأعصابه .. فرد عليه غيظه بغيظ :
" قد لا تحب زوجتي هذا .. وتود أن أعطيها إياها بنفسي .. وأنت تعلم أن الهدية تكون أجمل إن قدمت بيد صاحبها وليس بيد أخرى "
ثم أردف بتململ :
"والأن هل يمكنني رؤية زوجتي ..؟ أنا حتى لم تسنح لي الفرصة لأبارك لها "
أجابه فرهاد باستسلام .. وهو يجاهد لإخفاء غيرة فطرية على أخته التي صارت حلال هذا الذي يجادله فيها :
" ادخل لهم ولا تتلكأ كثيراً في الداخل .."

تحرك جان باتجاه الغرفة .. لا يشعر بقدميه تدوسان الأرض من تحته .. فهو يكاد يطير إليها .. طاوياً بضعة خطوات في لمح البصر حتى يصل إليها ..
فوقف بعتبة باباها .. يبحث عنها بعيون قلب قتله الجوى .. غير واع لهمزات المراهقات الحاسدة .. وغمزات النساء المشيدات بوسامة العريس وأناقته..
ولا حتى لأمه التي قامت من مكانها تتقدم منه .. تردد من الآيات ما يكفي ابنها شر الحسد والعين ..
فطن جان لإقبال أمه عليه بعيون تلمع بالدمع .. فانحنى مقبلاً رأسها ولسانها يدعو الله أن يحفظه ويبارك لهما ..
قادته أمه نحو مجموعة من النساء تبين بينهم أفين وأخته واقفتان كالحائط في وجه جموحه ..
تبسم لهما سائلاً بصمت عنها .. لتتحرك كلتاهما من مكانهما .. تفتحان المجال لبصره أن يلتقط هيأتها الخجول المتوارية خلفهما ..

جذبته بنظراتها الخجلة ..فاقترب منها كالمنوم بسحر جمالها .. يحاول بصعوبة أن يطفو بنفسه كي لا يغرق في بحور عينيها ..
ود لو يتلمس بأنامله نعومة جدائل شعرها المصفوفة فوق كتفيها وعلى طول ظهرها .. أن يهمس لأذنيها بكل كلمات الحب التي يعرفها ولا يعرفها دون توقف حتى يذوب فيها ويكتمل بها ..
لاقته باستحياء .. مخفضة عينيها أرضاً هرباً .. كي لا يلمح لفحات الصبابة المشتعلة بقلبها إليه .. وقد أخفت كفيها إلى جانبيها لعله لا يلحظ ارتجافهما في حضرته ..
دنا منها متمسكا بمسافة آمنة بينهما وهمس :
"مبارك يا قبلة الروح ومهجة النفس "
تبسمت جين بثغر مرتعش .. ورفعت رأسها إليه بوجه قاني من الخجل .. تنهل من وسامته المدمرة .. قبل أن تمتد يداه لجيب بذته من الداخل .. مخرجاً قطعة من قماش القطيفة الأحمر ..
فرده فوق راحة يده اليسرى كاشفاً عن سوار من الذهب الخالص .. يتدلى منها خمسة قلوب صغيرة .. نقشت على كل واحدة منهم عبارة لتشكل في النهاية جملة لعبت بأوتار قلبها فأخذ يغني بصخب .. يتوسطهم قلب أكبر حفر عليه بزخرفة مبهرة أول حروف اسميهما بالإنجليزية ..
ابتلع جان ريقه بصعوبة بالغة وهو يتناول السوار بكفه الأخرى ليقربها من معصمها قائلاً :
" طلبت من الصائغ أن يصنعه لك خصيصاً .. وفوق كل قلب من قلوبها أفشيت بسر من أسرار جوف قلبي – ثم همس بحرارة وبنبرة مبحوحة يتلو ما كتب عليه – وحدك كنت الحياة لروحي ولقلبي
احفظيه حتى يجمعنا يوماً تخبرك به قبلاتي عن باقي أسراري "
ثم ألبسها السوار بأصابع مرتعشة تحاول قدر الإمكان أن لا تلامس لحم معصمها ..
فهو لن يتحمل ذلك دون أن يرفعه ويطبع على نابضها قبلاته اللاهبة ..
سحب يده قابضاً عليها إلى جانبه يتمالك نفسه بصعوبة عنها ..
تأملت جين السوار بإثارة .. فشهقت بانبهار لجماله.. وشدة خصوصيته حتى دمعت عيناها تأثراً .. فهمست له بصوت مبحوح :
" إنها رائعة للغاية .. شكراً "
ابتلع ريقه بصعوبة ولم يدري ما يفعل .. فأومأ بصمت واستدار يجبر قدميه على التحرك للخارج .. قبل أن يفتعل فضيحة يتحاكى بها الناس لوقت طويل ..


**************

شهران مرا منذ أن عقد قرانه عليها ..
وها هو قد أنهى رسالته وحقق حلمه وحاز على شهادة الماجستير في الطب البشري..
وآن له الأوان أن يحقق حلمه الأكبر وغاية أمنياته ..
حلمه التي كان يغفو على همساتها الدافئة .. تشكو له بخجل اشتياقاً يستعر بين جنباتها ويكاد يحرقها ..
فيغلبها باشتياقه الذي أتى عليه كله وأحاله إلى كومة رماد خامد ..
تخبره عن عشق أغرقها في بحوره ..
فيرد أن عشقه في قاع المحيط غائر ..
تقول أحبكَ فيقول أحبكِ أكثر ..
وكلما احتجت زاد هو عليها وأكثر ..
تأخذه إلى عالم أحلام كانت هي بطلته الأوحد ..
ليصحو على واقع أنها أصبحت ملكه كما هو أصبح كل ملكها..
فيطير إلى رؤيتها كي يختبر الواقع أكثر ..
يمني النفس ويعدها بقبلة منها أو أكثر .. فتأبى هي بدلال وتتمنع أكثر ..
وهو قد فاض به الكيل وأكثر ..
أغلق الهاتف معها متنهداً بإثارة ..
أخبرها أنه قادم بعد أيام ليحدد موعد زفافهما .. ولن ينتظر أكثر من ذلك ..
فالأمر طال أكثر مما قد يتحمله قلبه ..
لو كان الأمر بيده لكانت زوجته قولاً وفعلاً منذ عقد قرانهما ..
لا بل قبل ذلك بعقود ..
فهي كانت ومازالت قدره المحتوم وعطية الرحمن له ..
دخل داغر إلى الغرفة .. ليجده مضجعاً شارد الفكر زائغ العينين .. وابتسامة بلهاء ترتسم على وجهه .. فقال متهكماً:
" من الجيد أن زوجتك لم ترى ابتسامتك البلهاء هذه .. وإلا لفرت خائفة تنجو بنفسها إلى أقصى مكان بعيداً عنك "
لم يفقه من كلام داغر سوى كلمة واحدة .. تفعل به الأفاعيل ما أن تقال أمامه .. لتتسع ابتسامته وهو يردد ساهماً باستمتاع :
" زوجتي .. هل تشعر بمذاق الكلمة كما أشعر بها يا داغر ..؟ تالله لها وقع يرجف قلبي ويوقف نبضي كلما سمعتها "
" هذا ولم تصبح زوجتك بالفعل بعد ..! مازالت حبراً على الورق..! "
قالها داغر بسخرية .. ليرد عليه بتصميم صارم:
" ستكون .. بعد أقل من شهر ستكون حبر قلبي ومداده "
على ذكر الزفاف قال داغر بجدية :
" وهذا ما جئت لأحدثك به .. "
كلمات داغر أخرجته من تيهه فاستقام منتبهاً ومركزاً ذهنه معه.. وقد شعر أن هناك أمراً يستوجب تركيزه كله .. في الوقت الذي دخل فيه حيدر ومهيار الذي قال بحماس ما أن دخل :
" هل أخبرته بما انتويناه..؟ "
" ليس بعد .. كان يجب أن أخرجه من أحلامه أولاً حتى يفقه ما أقول .. فصديقك في الآونة الأخيرة تلبسته حماقة منقطعة النظير "
لكمه جان بخفة على كتفه:
" أهلاً بالحماقة إن كانت عشقاً .. لم تكن أنت ببراء منها يا من تدعي غير ذلك – ثم جال بعينيه بينهم واردف متهكماً موجهاً حديثه إليهم جميعهم – أنتم السابقون في العشق ونحن بكم من اللاحقون ..
وللحماقة كنتم فبتنا لكم غالبون "
طأطأوا رؤوسهم مقرين قوله مدعين البؤس بشكل مضحك .. استطرد حيدر يخاطب جان :
" لقد قررنا نحن الثلاثة أن نقيم عرسنا معاً في حفل واحد .. وجئناك نسألك الانضمام لنا .. فيكون عرسنا نحن الأربعة في يوم وحفل واحد " التمعت عينا جان بحماس ولكنه قال متسائلاً:
" ولكن كيف سيكون ذلك وكل منا يعيش في بلدة تبعد عن الآخر بآلاف الأميال ..؟ وماذا عن أهلنا وأقاربنا ..؟ "
" نقيمه هنا في العاصمة .. أما بالنسبة للأهل والأقارب فمعظمهم يملكون بيوتاً أو أن لهم أقارب يعيشون هنا .. وبعد حفل الزفاف يرجع كل واحد إلى بيته أو إلى بيوتهم "
جادله جان قائلاً:
" وماذا عنا وعن زوجاتنا ..؟ "
" سنقوم بالحجز لنا في إحدى المنتجعات السياحية القريبة من العاصمة .. نقضي فيها عدة أيام ثم يعود كلاً منا إلى بيته "
لاح القبول على وجه جان لكنه رد عليهم بمواربة:
" حسناً .. دعوني لأفكر في الأمر.. وسأخبركم بقراري لاحقاً "
شاكسه مهيار:
" نعم نعم يجب عليك أن تفكر جيداً .. لكن لا تنسى أن تسأل الحياة أولاً فإن قبلت هي ضمنا موافقتك "
رفع جان رأسه للأعلى متأوهاً يقول بوله:
" وهل إن لم ترضى الحياة يكون لحياتي بعدها حياة "
استقام داغر وخرج يلوح بيده مخلفاً كلماته المتهكمة خلفه :
" وأنا خارج لأنجو بحياتي .. قبل أن تبدأ وتصدع رؤوسنا التي ما عادت تتحمل هذيانك هذا .. وكأن ما عرف العشق أحد غيرك –
ثم وجه كلامه لحيدر ومهيار – وأنتما إن أردتما النجاة فالحقا بي وإلا لن أضمن نجاتكما "
قام مهيار وحيدر باللحاق به وهم يركضون بشكل مضحك .. تاركين في أثرهم جان يسبهم بعبارات ساخرة ..

***********

حفل الزفاف
بعد أن حظي الأربعة بموافقة عرائسهم .. ومباركة ودعم ذويهم .. أقاموا حفل زفاف جماعي يضمهم الأربعة وزوجاتهم ..
كانت القاعة التي اختاروها لإقامة الزفاف من أكبر القاعات وأرقاها .. تكاد من وسعها تحسبها ملعب من الملاعب ..
على جانبيها رصت طاولات مدورة الشكل من الخشب الأبيض اللامع المطعم بالفضة .. يتوسطها زجاج شفاف تعلوه مزهريات من الورود البيضاء والحمراء .. أما مقاعدها التي صفت حولها .. فقد كسيت بالكامل بقماش أبيض .. وعلى ظهرها وضع شريط من الفضة على هيئة عقدة من الخلف .. أما سقف القاعة فكان يتلألأ كما النجوم في السماء .. بمصابيح يتدلى منها الكريستال بشكل مبهر ..
يتصدر صدرها أرائك ملكية .. خصصت لجلوس العرسان .. وقد أحيطت من الخلف وعلى الجانبين بمزهريات من الورد الأحمر يتدلى منها الكريستال اللامع ..
على الباب وقف إلى اليمين والدا جان وحيدر .. وقبالتهما وقف والدا داغر ومهيار.. يستقبلون الناس الذين دعوهم للحفل .. مهللين ومرحبين بهم بحفاوة ..
تقدمت فرقة العراضة الشامية ..
تعلن وصول العرسان ..
يقف أعضائها في صفين متقابلين .. يحملون المشاعل المضاءة يشكلون بها أقواساً فيمر من تحتها العرسان .. اللذان وقفا في الصدارة يشاهدان العرض الخلاب والمبهر..
فالعراضة موروث شعبي و تقليد هام من تقاليد حفلات الزفاف ..
حيث يقوم عدد من الشبان الذين يلبسون لباس تقليدي .. بقرع الطبول مرددين الأهازيج والهتافات المتنوعة .. وراء قائدهم الذي يتفنن في إنشادها .. والتي تدعو للفرح والبهجة .. فتنتهي بعرض للمبارزة بالسيف والترس .. ترافقها بعض حركات الرقص بالأيدي والأرجل .. وترتفع وتيرة القرع على الطبول .. فتزداد الحماسة أكثر .. كلما اشتدت المبارزة .. التي تدل على قيم الرجولة والصمود في ساحات القتال .. تنتهي بعناق ودي لإدخال السرور على قلوب الحاضرين ..
ليبدأ بعدها الاحتفال الذي تخلله الكثير من الفقرات الغنائية.. والدبكات التي شارك بها معظم من حضروا.. فكانت أرض القاعة ترتج بقوة تحت وقع أقدامهم المتحمسة .. وكان لكل من حيدر وجان نصيب من الغناء .. وسط غيظ داغر ومهيار ..
غنى حيدر لحبيبته جاهراً بحبه لها على الملأ ..
يضمها إلى صدره .. متغزلاً بغير حياء .. مما يجعلها تضم نفسها إليه .. تخفي خجلها عن الأعين داخل صدره .. فيشدد هو على ضمها .. وصوته يعلو كعلو خفقاته :
لما بضيمك ع صديري .. شو بحس الدنيا صغيرة
حاسس حالي ملكت الكون .. وما في بالعالم غيري
الله والله وما شاء الله
مافي بحالاك والله
عمري بحالاك أتحلا
شايل حبك بعيوني .. وعلى قلبي بتموني
مافيني عيش بدونك .. ولا فيكي تعيشي بدوني
حبك غير حياتي .. اسمك أحلى كلماتي
يوم ال ما بشوف عيونك .. بعلن والله مماتي
الله والله وما شاء الله
ما في بحالك والله .. عمري بحالك أتحلا
لم يكد ينهي أغنيته .. حتى اقترب منه مهيار يسحب منه الميكرفون بغيظ .. يقول بحنق طفولي :
" هاته سأعطيه لجان .. فغناؤك لم يعجبني .. ثم أنني لن اغتاظ من كلمات أغنية جان .. كغيظي من كلمات أغنيتك الوقحة .. فهو سيغنيها بلغته التي لا أفهمها وكم أحمد الله على ذلك .. وإلا سأموت كمداً منكما في ليلتي زفافي "
قالها التفت إلى جان الواقف مع عروسه قربهم ..
فالأربعة ثنائيات استأثروا بالساحة ليراقص كل واحد منهم عروسه على وقع غناء حيدر ..
ثم غناء جان الذي أمسك الميكرفون من مهيار وهو يطالعه بخبث توجس منه الأخير .. لكن سرعان ما استشاط غيظاً من جان أيضاً .. وعرف معنى نظرة الخبث تلك ..
عندما علا صوت جان بأغنية يعرفها ..بل لسوء حظه ..
فهو يحفظها بلغة جان الأم ويفهم معناها حتى ..
تأفف بنزق طفولي وهو يرمي جان بنظرات متوعدة ..
سرعان ما تبدلت إلى أخرى مثيرة مليئة بالعشق عندما التفت إلى عروسه يضمها إلى حضنه يراقصها بشغف ..على أنغام أغنية جان ..
جان الذي ضم جين إلى صدره بحرارة .. يبثها أغنيته بصوته .. بينما شفتيه أخذت تردد لها الأغنية بطريقتها .. فينثر قبلاته على عينيها بعد كل مقطع يغنيه ..
ليختطف قبلة من شفتيها خلسة – في ظل الإضاءة الخافتة – ينهل من شهدهما فلا يشبع ..
لتبعد جين نفسها عنه قسراً ..

ولهيب شفتيه .. يحرقها ..
وسعير حضنه يكويها .. فيشدها أخرى إلى صدره .. يدفئ صقيعه بابتعادها .. ويتابع غناءه متغزلاً :
أنا قربان (فداء) لتلك العينين .. من عينيك تلك لا أشبع
انظري لي بعين واحدة .. فأنا لست بالشاب السيء
أنا قربان لعينيك
يا مدللة أقسم برأسك .. عشقك هذا قد جنني
رحيق كلتا شفتيك .. منهما مهما شربت لن أرتوي
أنا قربان لعينيك
فلا تغتري علي .. فغرورك ذاك يقتلني
هذا العشق تركني .. قتيل تلك العينين
أنا قربان تلك العينين
أنهى غناءه .. وهو يحملها يدور بها بخفة .. جعلتها تتشبث بحضنه أكثر .. حتى كادا يتماهيان معاً ..
**********





انتهى حفل الزفاف عند الثالثة فجراً.. فتوجه كل من العرسان ليستقل سيارته وإلى جانبه عروسه التي تألقت كالشمس في مثل هذا اليوم ..
وصلوا إلى المنتجع بعد أقل من نصف ساعة .. المنتجع الذي كان على هيئة فلل من طابق أو طابقين .. تتخذ شكل دائري يتوسطها حديقة ومسبح .. أوقف الأربعة سياراتهم في مرآب قريب .. وترجلوا من السيارات وكل منهم يساعد عروسه في الهبوط من السيارة ..
وقف الأربعة يهنئون بعضهم في عناق ضمهم سوياً .. ثم اصطحب كل منهم عروسه إلى فيلته التي استأجرها لمدة أسبوع ..



**************
فتح جان باب الفيلا ودعاها للدخول .. ودقات قلبه تكاد تتوقف من الإثارة ..
لكنها تسمرت في مكانها .. والخجل والخوف من رهبة هذه الليلة يرجفان قلبها ويربكانه فيرتعش جسدها بوجل .. عندما لاحظ جان تلكؤها أدرك ما تعانيه.. فقال ممازحاً كي يخفف من ارتباكها :
" يبدو أنك تريدين مني أن أحملك للداخل..! "
إن كان يعتقد أنه بقوله قد خفف من ارتباكها فهو مخطئ .. فقد شهقت مرتدة بخطواتها إلى الوراء حتى كادت أن تقع لولا أنه أمسك بذراعها يمنعها من الوقوع .. وقال يطمئنها متناولاً كفه بين كفيه:
" اهدئي حبيبتي اهدئي لا داعي لكل هذا الهلع –
ثم اردف بترجي وهو يتطلع حوله بخشية –
أرجوك ادخلي الآن لنتحدث في الداخل بدل وقوفنا المريب هذا "
وهمس لنفسه باستياء ( سيفرح هؤلاء الاوغاد إذا ما عرفوا أني واقف هنا كالأبله أتوسلها الدخول)
هدأت جين من نفسها قليلاً .. وهزت رأسها بالموافقة ..
ممسكاً بكفها التي ترتجف بين أصابعه .. تقدم بها إلى حيث الصالة فوقف وأدارها نحوه متأملاً سحر فتنتها .. الذي كان فيه هلاكه .. فتخفض هي رأسها أمام نظراته الفجة والتي شعرت كأنها تعريها أمامه ..
وهو بكلها تائه غافل .. ينظر إلى أكليل شعرها الذي رفع كله على شكل خصلات متداخلة إلا من خصلات تناثرت على وجهها بشكل مهلك ..
رفع يده يزيح خصلاتها تللك التي تهدلت تخفي موج عينيها الحبيبتان عن ناظريه .. فتضرب أمواجها المكحلة أحشاؤه مغرقة إياه في بحورهما ..
متلكئ نزل بأنامله إلى خدها يتلمس نعومته يستنشق عبق الورد فيهما ..
لتصل أصابعه في النهاية إلى ما أرق ليله وألهب مضجعه ..!
ثغرها الذي تاق لأن يتشرب مذاقه مراراً وتكراراً.. ولكنها بكل تجبر منت عليه حتى لو برشفة ..
إحساس ملمسهم الدافئ على أصبعه دفعت حمماّ سائلة في عروقه ..
فأخفض رأسه مقترباً بشفتيه التي طالبته بالإنصاف والعدل .. يحق لها ما يحق لإبهامه ..
لتجفل جين رافعة رأسها حين أحست بأنفاسه الحارة قرب وجهها .. وقشعريرة سرت في كل خلاياها ارتجف له جسدها .. وشعرت أن ساقيها ما عادتا قادرتان على حملها .. تنظر إليه بحياء تخضب له خداها .. فتراجعت بوهن مبتعدة عن تأثيره تقول باهتزاز :
" أرجوك .. تمهل "
تأوه بعمق فأنى له الصبر على التمهل الذي تطالبه به..
تقدم يقطع الخطوة التي ابتعدتها.. واقترب بأنفاسه الملتهبة منها حد الالتصاق .. وقال برجاء ساخن وقد تحشرج صوته تحت وطأة مشاعره :
" لن استعجلك حبيبتي فلا تخافي .. ولكن اعذري ما سأموت وأفعله .. فـ والله ما عدت على كبته بقادر "
لم يعطها الفرصة لتتساءل عن مقصده أو به تفكر ..
فقد ضمها إلى حضنه في عناق حميم ومشتعل ..
ينفث شوق ولوعة الفؤاد والكبد ..
يروي ظمأ شفتيه من رحيق ذاك الثغر ..
ومن ورد خديها يقطف أشهى القبل ..
وعند جيدها أسلم للشوق الأمر ..
غارق هو فيها حتى الثمالة بعد أن ذاق من ريقها طعم الخمر ..
عانقها حتى تقطعت أنفاسها واختنقت بالهواء الرئة والصدر ..
ليبتعد عنها متلكئ يلملم مجبراً قبلاته الهوجاء عن ذاك النحر ..
يقمع ثورة مشاعره كي لا تطيح بتعقله وبالصبر ..
وكي لا يضرب عرض الحائط حياؤها وكل أمر ..
يداه تأبى إفلاتها وتهدده إذا ما فعل بالبتر ..
وبين جنباته قسراً أخمد اشتعال الجمر ..

أبعدها عن أحضانه مجبراً .. ينظر إليها ونيران عشقه في عينيه تحكي أساطير الشوق والوجد .. تحكي عن احتراق قلعة صموده بلهيب عينيها المتقد ..
وهي واقفة تترنح سكرى ..
وقد سكب من خمر حبه المعتق على روحها فثمل .. وعن إثمه أبت الإقلاع والندم ..
يسند جبينه إلى جبينها .. تلهج أنفاسهم وتنفث حمماً ساخنة تضرب وجهيهما .. وتتواتر تنهداتهم بشكل متناغم ..
ينظر إليها وقد احمرت عيناه من فرط إثارته .. يحاول إجلاء صوته الذي تعبأ بأنفاسها .. ليقول بصوت أجش متحشرج :
" لا أصدق أني نلتها أخيراً ..! و كنت أحسبني ميتاً قبل أن أنالها ..! لقد شعرت أن دهراً مضى منذ أن أصبحت لي .. ضَنَنْتِ عليَّ بوصلك يا منية الحياة "

شعرت بارتخاء كل عصب فيها وما عادت بقادرة على حملها .. فأخفضت رأسها تستند بجبينها على صدره العريض .. تزفر أنفاسها المتهدجة على موضع قلبه الذي يهدر بجنون .. وقد زاده جنوناً الشعور بأنفاسها التي أصابت جسده بقشعريرة حامية ..
فانحنى يضع يداً تحت ركبتيها والأخرى خلف ظهرها يحملها إلى غرفة النوم .. فتمسك بعنقه بكلتا يديها مطلقة تأوهاً حاراً ضرب عروقه النافرة في رقبته .. ليغلق الباب بقدمه مسكتاً تأوهها بأجمل الطرق ..


**************

بعد عدة شهور عند مغيب أحد الأيام

تجلس في أحضانه على تلة قريبة من منزلهم .. تطل على الحقول الشاسعة التي تزينت بألوان الربيع .. تتوكأ صدره الحبيب .. وقد حاوطها بكلتا يديه .. يتلمس بكفه بطنها المسطحة التي تحمل بذرة حبهما .. من يراها لا يصدق أنها في الشهر الرابع من حملها .. همس في أذنها بوله :
" غداً في مثل هذا الوقت ذكرى ولادة حبنا .. فكل عام وأنت يا حبيبتي لي كل الحياة ومنتهى الحب "
أدارت رأسها تلتفت إليه تضع شفتيها موضع قلبه بعبث متقصد .. فهي تعلم ما تفعله به هذه الحركة .. وقالت بحب نهلته منه بلا ارتواء على مدار الأشهر الماضية:
" كل عام وأنت روحي التي أحيا بها .. أحبك يا روح الحياة "
ضيق عينيه مدعياً الغضب .. فقد أدرك تلاعبها المتقصد لإثارته .. وهما بعيدان عن بيتهما .. فتوعدتها أنفاسه الحارة بعقاب لذيذ ساخن .. سعت إليه هي بكل دهاء عاشقة تبغي وصل معشوقها وعاشقها ..



***************

هللت الصغيرة بحماس .. ونظرت إلى جدتها التي سكتت مختنقة بعبراتها المشتاقة لوحيدها .. لكن الصغيرة لم تنتبه بطفوليتها لكل ما يعتمل على ملامح جدتها وقالت بفرح:
" إنها أجمل حكاية سمعتها في حياتي "
ابتلعت الجدة غصة مدببة جرحت حلقها وأدمته لقساوتها .. وهي تتذكر ولدها جان الذي سافر مع زوجته وولديه إلى المدينة منذ سنوات مضت .. ملبياً وأصدقائه نداء الوطن .. ليضمدوا جراح ربيعه الذي أحرقوه .. فكانوا له خير طبيب وخير سند .. ثم حاولت اغتصاب ابتسامة رسمتها على شفتيها .. والتفتت إلى حفيدتها متسائلة:
" والآن صغيرتي هل علمت كيف هو ربيع بلادنا ..؟ "
أومأت الصغيرة برأسها وأجابتها بحماس:
" نعم جدتي .. ربيع بلادنا مليء بالحب الذي يجمع الكل حوله.. أليس كذلك ..؟ "
هزت الجدة رأسها بشرود وقالت مؤكدة :
" صدقتِ صغيرتي .. صدقتِ ربيع بلادنا مليء بالحب العفيف والفرح الطاهر " شردت الصغيرة قليلاً تفكر بكلام جدتها .. فسألتها مستفهمة :
" ماذا يعني حب عفيف جدتي ..؟ وهل للحب أنواع كثيرة "
ابتسامة شقت خطوط شفتيها المجعدتين .. و أمسكت بكف الصغيرة وقالت بتؤدة:
" اسمعي يا صغيرتي .. للحب نوع واحد فقط لا غير .. وهو شيء عظيم جداً .. وقد يأتينا في أي وقت .. لكننا يجب أن نكون على الاستعداد لخوض غماره .. وأن نكون في عمر يسمح لنا به ..
فالحب الحقيقي والذي لا يشين أحد .. هو الحب الذي يكون فيه العقل المتحكم به لا القلب وأهوائه الذي يسهل خداعه والوسوسة له ..
الحب هو الذي نضع فيه مخافة الله أمام أعيننا .. وما زرعه فينا أهلنا من أخلاق وتربية وحشمة ..
الحب هو الحشمة يا صغيرتي .. أن نحافظ عليه بأن نحفظ أنفسنا .. ونقيها الوقوع في شركه فنسقط في وحله القميء .. ولا تقوم لنا بعدها قائمة ..
الحب هو الطهارة والتعفف .. فلا نسمح لأحد أن يسيء لنا باسم الحب ..
الله حلل لنا الحب .. ولكنه وضع لنا أحكاماً وشروطاً .. يجب علينا التقيد بها واتباع أوامره ونهيه فيه ..
ويجب علينا أيضاً أن نضع سمعتنا ووالدينا في عين اعتباراتنا .. فلا نضع أنفسنا موضع غضبهم وسخطهم ..
وقصة خالك جان وزوجته جين هي أصدق مثال على ذلك .. مع أنهما عقد قرانهما ولكنهما لم يسمحا لأنفسهما أن ينجرا وراء عقد قد يفسخ في أية لحظة .. واستعففوا عن أهوائهما حتى كانت له أمام الله والناس .. لذلك هو عفيف وطاهر "
أسرعت الصغيرة تقول بعفويتها :
" أنا سأفعل كخالي جان وزوجته .. عندما أحب سيكون حباً عفيفاً وطاهراً " جحظت عينا الجدة بذهول .. وقالت مؤنبة :
" يبدو أنك لم تفقهي شيء مما قلته يا صغيرة .. على كل حال أنت مازلت طفلة على هذا الكلام .. وأمامك وقت طويل حتى تدركي معناه جيداً .. فقط لا تسمحي لأي كان أن يخدعك ومن هم في مثل سنك بمعسول الكلام .. ولا تسمحي له أن يقربك بأي شكل كان .. وتذكري حديثنا هذا دائماً وضعيه نصب عينيك .. هل فهمت يا صغيرتي ..؟ "
هزت الصغيرة رأسها .. بعينين زائغتين وكأنها تقلب الأمر في رأسها .. فأردفت بثقة طفلة لا تعي ما تقول :
" نعم فهمت يا جدتي .. عندما أصبح كبيرة كخالي جان سوف أحب مثله "

تنهدت الجدة بسقم وقد أعياها أن تشرح وتوضح أكثر من ذلك لحفيدتها التي ما فتأت تذكر اسم خالها في كل دقيقة .. فتشعل بلا قصد أشوق أمومتها الملتاعة التي لم ولن تنطفئ في صدرها لفراق ولدها فلذة كبدها .. فدعت الله أن يحفظها ويبعد عنها شر كل سوء

ثم أدارت وجهها تخفي دموعها التي تهدد بالهطول عن أعين صغيرتها .. وقد لاح الأسى على وجهها الذي هرم أضعاف عمرها في السنوات الماضية ..
لتدخل في تلك اللحظة نوشين وترى أمها على تلك الحالة .. وإلى جانبها كانت ابنتها الصغرى تضع رأسها على حجر جدتها تتمسح بها كالقطط .. فصرخت مؤنبة :
" أيتها الشقية أنا أبحث عنك وأنت تجلسين هنا ..! كم مرة أخبرتك ألا تثقلي على جدتك وتتعبيها ..؟ اذهبي إلى إخوتك الآن هيا "
استقامت الصغيرة واقفة بفزع .. وخرجت مهرولة هرباً من توبيخ أمها مغلقة الباب وراءها ..
اقتربت نوشين من أمها بحزن تقبل رأسها باحترام وحنو .. ثم جلست إلى جوارها تضمها من كتفيها إلى صدرها .. وقد أدركت ما تعانيه كل مرة في مثل هذا الوقت من السنة ..
فسمعتها تقول بحزن يقطر من كلماتها:
" لقد حل الربيع واقترب عيد النوروز وأخوك لم يحضر بعد ..! هل تراه سيأتي قبل أن يحل الخريف مرة أخرى ..؟"
ردت عليها نوشين مؤكدة بحرقة :
" سيأتي أماه .. مؤكد سيأتي .. لقد وعدنا بذلك .. وولدك كما تعرفين عنه لا يخلف وعده أبداً .. وسنفرح جميعاً وستقيم الطبيعة احتفالاً كبيراً مهللة بقدومه .. فهي أيضاً اشتاقت له كما اشتاقها "

رفعت الأم يديها إلى السماء .. تناجي رب السماء .. أن يحفظ ولدها وأصحابه من شر كل بلاء .. وأن يرحم لوعة أم قلبها يتفطر خوفاً وشوقاً لولدها .. تدعوه أن يقر عينيها برؤيته وعائلته قبل أن تصعد روحها إلى بارئها .. أن ينعش خريف عمرها بحضور ولدها وبراعمه .. دعت وابتهلت كثيراً .. حتى فاض الدمع .. وكدت يداها .. فأنزلتهما لتمسك بسحبتها تسبح الله وتستغفره ..

وحاشا لله عز شأنه وجل ثناؤه أن يرد دعاءها .. وهو القائل وقوله الحق
" ادعوني استجب لكم "

سمعت أصوات وجلبة كبيرة في الخارج .. فأرهفت السمع علها تميز ما يجري .. لكن أذنيها ما عادتا تسمعان جيداً كما قبل .. ولم تعرف سبب تلك الأصوات .. عادت إلى تسبيحها .. وقد ظنت أنه أصوات أولاد ابنتها يلعبون إحدى ألعابهم المعتادة ..
فجأة فتحت صغيرتها الباب تصرخ مهللة بفرح :
" لقد عاد خالي جان وعائلته "
انتفض قلبها بسعادة .. وخرت ساجدة على سريرها تحمد الله وتشكره على عطاياه ..
فسبحان من أمره بين الكاف والنون .. يقول للشيء : كن فيكون





تمت بحمد الله وتوفيقه



Mays Alshami غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس