عرض مشاركة واحدة
قديم 24-04-21, 09:15 PM   #36

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كانت تتنفس الهواء النقي بارتياح بعد ان غادرت قاعة المناسبات والتي تحولت لمكان ضاغط عليها بدون اي متنفس للهواء ، لتنظر بعدها للحديقة من حولها والسابحة بالظلام الحالك وإنارة خافتة موزعة بكل زوايا الحديقة بدفء ، اخفضت نظرها لحذائيها الامعين وهي تدوس بهما على شتلات العشب الصغيرة والندية من الجو البارد ، لتفكر بعدها برفيقها بالحفلة والذي حرموها منه بعد ان انشغل مع مدراء الاعمال بالكلام عن صفقات العمل ما ان بدأوا بالكلام معه ليتجمعوا من حوله بدون ان يتركوا لها اي منفذ للوصول له او الكلام معه ، حتى انها قد اصطدمت نظراتها بزوجته (سلوى) بالحفلة والتي كانت تنظر لها بتجهم واضح يحمل الكثير وكأنها تلمح لها بأنه غير مرحب بها بالحفلة ، وهذا ما دفعها لتخرج لخارج القاعة لتستطيع اخذ راحة من تمثيل دور المرأة النبيلة والذي تعبت كثيرا منه وقد اكتشفت بالنهاية بأنها لا شيء بتلك الحفلة بدون وجود (احمد) بجانبها .

انتفضت بوجل ما ان سمعت صوت غريب يقول من خلفها بحيرة
"روميساء"

استدارت بسرعة للخلف بجزع وهي تنظر له بعبوس واجم ، بينما تقدم الغريب نحوها وهو يعدل النظارة من فوق عينيه قائلا بتفكير
"هذه انتِ حقا"

ابتلعت ريقها برهبة وهي تهمس بخفوت متصلب
"من تقصد"

وقف الغريب امامها وهو يعقد حاجبيه بتركيز قائلا بقوة
"ألا تذكريني حقا ، لقد كنا نعمل معا بنفس متجر البقالة الخاص بأبو مسعود ، ذلك الرجل الكبير بالسن والسمين بعض الشيء"

حركت (روميساء) عينيها بشرود بعيدا عنه وهي تفكر بأنها كيف ستنسى ذلك الرجل والذي ذاقت منه الويل وقد كان دائما يتصوب لها الأخطاء فقط لكي يجد حجة ليخصم من راتبها والذي لم يكن يكفي لشراء منه زجاجة ماء ترتوي منها بوقت العمل وهو يشغل اكبر عدد من الاطفال والمراهقين عنده ليوفر على نفسه المال بدلا من تشغيل عمال كبار يستنفذون كل ماله بيوم واحد ، بما انهم اطفال جاهلين ويقبلون بالقليل من المال ايً كان والذي يغطي مصاريف طعامهم فقط ليبقوا على قيد الحياة .

تصلبت ملامحها وهي تقول ببرود جامد
"لا اذكر عن ماذا تتكلم ، قد تكون شبهت عليّ فتاة أخرى"

عبست ملامح الغريب وهو يقترب منها اكثر قائلا بتصميم مريب
"بل هذه انتِ اعرفكِ من عينيكِ الخضراوين الكبيرتين وملامحكِ الشفافة ، ومن المستحيل ان اخطئ بشكلكِ والذي حفظته عن ظهر قلب فهذا الوجه لا ينسى ابدا"

عضت على طرف شفتيها الممتلئتين بحنق وهي تحاول تجاوزه قائلة ببرود مرتبك
"عن اذنك عليّ الذهاب ، وداعا"

عاد الغريب ليقف امامها وهو يعيق طريقها ليمسك بذراعها بيد وهو يشير لنفسه بيده الأخرى قائلا بانفعال حاد
"ما بكِ لما تتصرفين معي هكذا ، وهل حقا نسيتِ صديقك رضوان والذي كان يساعدكِ بحمل الصناديق الثقيلة ، ام ان حياة الرفاهية والغنى قد غيرتكِ ونسيتِ اصدقائك"

تنفست بارتجاف وهي تنظر له بحزن عميق أبى ان يتركها وترتاح من ماضي ملطخ بالسواد والشقاء افسد طفولتها وكل معنى للسعادة بحياتها ، لتقول بعدها بابتسامة شاردة وهي تنظر بعيدا عنه بهدوء
"اعتذر منك يا رضوان ، ولكني احاول نسيان الماضي وكل شيء يتعلق به ، فأنا لم اعد تلك المراهقة العاملة والتي كان كل ما يهمها هو ان تكسب القرش لتعطيه لعمها"

ارتفع حاجبيه وهو على وشك الكلام قبل ان تسبقه المقابلة له بالكلام وهي تتراجع للخلف بعيدا عنه ببطء
"وانظر ايضا لنفسك ، لم تعد ذلك المراهق والذي كان دائما يسبب المشاكل لرئيسه بالعمل لتحل علينا لعنته ونتعاقب جميعا على افعاله ، فقد اصبحت الآن من مدراء الاعمال وشخصية مرموقة مهمة ، وغير مناسب ابدا ان نتكلم عن ماضي سيفسد صورتنا الحالية والتي اصبحنا عليها الآن"

امتعضت ملامحه بعدم رضا وقبل ان يتحرك اي منهما اقتحم خلوتهما صوت صلب وهو يهمس بخفوت خطير
"روميساء"

وقبل ان تلتفت (روميساء) نحو صاحب الصوت كان قد تجاوزها بسرعة الطلق لتتجه لكمته باتجاه الذي لم يستطع تداركها وهي تصيب نظارته والتي انكسرت لنصفين لتقع ارضا قبل ان يمسك بياقة قميصه بقبضتيه وهو يقدم وجهه امامه بقوة ، ليقول بعدها بشراسة خافتة تظهر عليه بهذا الشكل المريب لأول مرة
"ما لذي كنت تفعله مع ابنة عمتي يا حقير ، هل كان لديك نوايا سيئة نحوها ، كان عليّ ان اعرف هذا من تحديقك الدائم نحوها بدون ان تبعد نظرك عنها ولو لثانية منذ بداية الحفلة ، فيبدو بأن السيد عزام لم يعرف جيدا كيف يختار شركائه ومساعديه بالشكل الصحيح"

انتفض (رضوان) وهو ينزع قبضتيه بعيدا عن ياقته قائلا بغضب مكتوم
"ماذا تظن نفسك فاعلا يا ابن الفكهاني ، انسيت بأن هناك شراكة تجمع شركتنا معكم ، وما تفعله بي لن يعجب ابدا السيد عزام نصران"

ردّ عليه ببرود ساخر وهو يهزه من ياقته
"آخر ما يهمني هو هذه الشراكة السخيفة والتي كانت خطأ منذ البداية ، فأنتم لستم أهل للثقة والأمانة لنضع يدنا بيدكم القذرة ، بالبداية حاول سيدك ان يخطئ بحق ابي وعائلة شقيقته والآن انت تحاول التعدي على شرفنا وهذا ما لن اسمح بحدوثه ابدا"

كانت (روميساء) تتنقل بنظرها بينهما بذهول وذعر وهي تحاول استيعاب الحقائق والتي انهالت عليها فجأة والتي ستقضي على حياتها النبيلة بأكملها ، فقد تبين بأن هذا الاحمق كان يراقبها بدون ان تنتبه او تعي ما حولها والأسوء بأنه مساعد الرجل والذي عمل شراكة مع خالها ، وهذا يعني بأن الشراكة قد انهارت قبل ان تبدأ وهي السبب الرئيسي بكل هذه المشكلة .

تحركت بسرعة باتجاههما وهي تندفع نحو (احمد) لتمسك بذراعه والتي عادت لتلكم الرجل بقوة ، لتهمس بعدها برجاء متوسل مذعور
"اترك الرجل يا احمد ، فهو لم يفعل شيء ولم يخطئ بحقي وهو صديقي القديم ، اتركه اتوسل إليك...."

دفعها (احمد) بذراعه بعيدا وهو يقول بصرامة حادة مشيرا بيده بعيدا بأمر
"اخرسي يا روميساء ولا تتدخلي بعملي وبما افعله به ، وهيا عودي لداخل المنزل فورا ، وألا رأيتِ مني شيء لن يعجبكِ ابدا ولن يسرك"

شهقت بذعر ما ان عاد للصراخ بثورة اكبر
"قلتُ لكِ ارحلي"

تحركت (روميساء) بالفعل صاغرة وهي تستدير بعيدا عنهم وبعيدا عن مظهر صديقها (رضوان) المشوه بالكدمات والذي لا تعلم من اين ظهر تحديدا وكيف تجسد من الماضي الخاص بها فجأة ؟ لتسير بعدها بخنوع وهي تحاول إمساك اطراف ثوبها الطويل من الاسفل بصعوبة قبل ان تسرع بخطواتها وهي تجري بعيدا عنهم بتعثر واضح بدون ان تهتم لأطراف الثوب والذي تمزق من الأسفل وتلطخ بتراب الحديقة من تعثرها به اكثر من مرة وكل ما يهمها هو ان تبتعد عن كل هذه الضجة والتي اصمت اذنيها بطنين مؤلم .

______________________________
كانت تستند بظهرها بالجدار الخشن والمسور حول الحديقة وهي تنظر بعيدا بشرود مكتفة ذراعيها فوق صدرها بجمود ساكن ، وهذا حالها منذ مغادرة (مازن) المكان ليتركها تتخبط بأفكارها مثل التائه بطرق الحياة ويحاول إيجاد المسار الصحيح والمعنى الحقيقي من وجوده بهذا العالم الوسيع ، لطالما كانت ترى العالم يدور من حولها وكل واحد منهم يختار طريقه منها لتوصله للسعادة الأبدية والذي انتظرها كثيرا ليستقر بالنهاية بنوم طويل بدون اي تعب او احلام فقط يرتاح من السير الطويل بهذا الطريق والذي انهك قواه .

بداية بوالدها والذي رحل بعيدا عن هذا العالم قبل ان تراه وتعرف شيئاً عنه لتصل لوالدتها والتي رحلت بدون ان يشعر بها احد او ان يحزن على رحيلها احد فلم تكن ذات سمعة طيبة او معروفة عند الناس ليكون رحيلها بالنهاية شيء عابر عندهم بدون ان يهز لهم بدن او يرف لهم دمعة وبالنسبة لها ولشقيقتها فقد كان بداية الجحيم لهما وليس حزنا عليها بل لأنها العائل الوحيد والذي كان يمثل لهما الحياة المستقرة والهادئة بظل زوج والدتهما ، فقد كان وجودها بعالمهما امرا مسلما منه بدون ان تؤثر عليهما بمشاعر غريزة الأمومة والتي كانت معدومة عندها بسبب عدم إتقانها لهذا الدور وعدم مناسبتها له من الأساس فقد كان دورها بحياتهما العائل لهما فقط .

حركت عينيها بجمود نحو الواقف امامها بالظلام والذي يبعد عنها عدة خطوات وهو يهمس بخفوت حائر
"هل ستبقين واقفة هنا طويلاً ، فقد تأخر الوقت واصبح الجو بارداً"

ردت عليه بابتسامة ساخرة وهي تتنقل بنظرها بملامحه الحادة بدون ان تخفي بعض من طفولتها
"هل تريد انت ايضا التحكم بي والتدخل بما لا يعنيك ولا يخصك بشيء"

تقدم اكثر عدة خطوات بعيدا عن الظلام وهو يقول بجمود معتاد عليه
"انا لم اتدخل بما لا يعنيني فقط اقول ما اراه امامي ، فأنتِ واقفة هنا منذ ربع ساعة تقريبا وهذا ليس جيد على صحتك بهذا الجو البارد ونحن بمقتبل الخريف"

عقدت حاجبيها بتجهم وهي تضيق عينيها لتنظر له بقتامة قائلة بجفاء
"هذا رائع تبين بأن هناك طفل يراقبني ، لا ويعطيني النصائح ايضا وهو يمثل امامي دور العاقل الناضج"

لم تهتز ملامح (زين) ولو قليلا وهو يقول بابتسامة باردة ورثها عن والده
"اولاً انا لستُ طفل ، وثانياً انتِ ابنة عمتي لذا امركِ يهمني مثل باقي افراد العائلة ، لذا يمكنكِ السخرية من نصائحي قدر ما تشائين ولكنها لا تنفي صدقها وحقيقتها"

ابتعدت (ماسة) عن الجدار بانفعال وهي تهمس بحنق بالغ
"كفى ايها الطفل الثرثار ، لا اريد سماع اي كلمة منك ، وهيا اذهب وعد لحفلة عائلتك التافهة وألا قلقوا عليك وافتقدوك"

عبست ملامح (زين) بجمود وهو يحدق بتركيز بهيئتها الفوضوية من شعرها المنثور بعشوائية حول وجهها لسترتها السوداء والمتسخة بأتربة السور والذي كانت تستند عليه من لحظة ، ليهمس بعدها بلحظات بتركيز مريب
"انتِ تبدين فتاة شرسة من هيئتكِ وشكلكِ ، ولكن بداخلكِ تقبع فتاة رقيقة مكسورة الجناحين تحتاج للعناية والرفق وجبر جرحها لتستطيع العودة للطيران من جديد والخروج من هذا الجسد لتظهر عندها هويتكِ الحقيقية والبعيدة كل البعد عن الجمود والذي يلفكِ دائما"

نظرت له بقوة للحظات وهي ترفع حاجبيها بوجوم قبل ان تهمس بعبوس وهي تتنقل بنظرها ببدلته السوداء الأنيقة والتي تناسب حجمه لتصل لشعره المصفف للخلف بعناية فائقة ليبدو رجل اعمال صغير
"هل تحاول لعب دور الطبيب والمريض معي ، لأنه لا يروقني ابدا ان يحاول احد تفسير دواخلي بهذه الطريقة ، هل فهمت"

اومأ برأسه بطاعة تامة وهو ينظر لها بعيون سوداء متسعة بحماس منتظرا اشارتها ، لتقول بعدها (ماسة) وهي ترفع حاجبيها بخفة
"ذكرني باسمك مرة أخرى"

ردّ عليها (زين) بسرعة بثقة تفوق سنه
"اسمي زين الفكهاني"

ابتسمت بإعجاب بثقة هذا الطفل والذي سيكون له مستقبل حافل بالأحلام الكثيرة وهذا ظاهر بملامح وجهه والتي تنضح قوة تختلف عن قوة اشقائه الكبار بأضعاف ، ليقطع عليها تفكيرها صوت (زين) وهو يعود للكلام بلهجة عملية حفظها من تعايشه الطويل بمجال ادارة الأعمال
"هل تريدين معرفة المزيد من المعلومات عني ، انا اخوض مناقشات وصفقات باجتماعات والدي بالشركة واتكلم مع مدراء كبار بالعمل ، واشترك ايضا بمراكز كثيرة للتعلم بجانب المدرسة ومنها تعلم اللغة الفرنسية والاسبانية والصينية ، وايضا مراكز لتعلم الدفاع عن النفس...."

قاطعته بحدة وهي تتقدم امامه لتغلق فمه بكفها قائلة بنفاذ صبر
"اصمت ، ومن اخبرك بأني اهتم بكل هذا ، اراهن بأنك لم تتكلم مع فتيات بحياتك من قبل"

ابعدت كفها بسرعة عنه ما ان افاقت على نفسها وهي تتجاوز حدودها المرسومة مع افراد العائلة فهذا بالنهاية ليس طفل لتسكته هكذا وهو يبدو بعمر الرابعة عشر وايضا يكاد يوازيها طولا ، عادت بعدها للنظر له ما ان قال بابتسامة هادئة
"انتِ على حق بكلامكِ فأنا لم اتعامل بحياتي مع اي فتاة ، فقد كان دائما ابي يقول بأنه لا حاجة لي للتكلم مع الفتيات واللواتي لا فائدة من وجودهن سوى بانحراف جنس الذكور عن الطريق الصحيح ، وحتى والدتي لم اعرفها فقد توفيت ما ان انجبتني"

امتقعت ملامحها وهي تنظر لملامحه الباردة ما ان تكلم عن والدته بكل هذه البساطة وكأنها شيء غير مهم او عابر بحياته ، لتقول بعدها وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة
"حسنا انا لا اعرف ولا افهم بعبارات التعاطف والمواساة والتي يلقونها الآخرون على اسماع الناس والذين فقدوا شخص عزيز عليهم ، فأنا ارى بأنها جميعها مجرد مظاهر بالية وكلمات لن تعيد الأحياء من قبورهم ، فقط كل ما استطيع قوله لك هو رحمه الله"

كان (زين) يركز بحركاتها وكلامها بانشداه مسحور قبل ان يقول بابتسامة جانبية بابتهاج
"كلامكِ ومنطقكِ غريب ، ولكنه يعجبني كثيرا ويروقني"

ادارت عينيها بعيدا عنه بملل وهي تستمع له وهو يتابع كلامه قائلا بحماس متلهف
"انا سعيد جدا بالتكلم معكِ ، فأنتِ اول فتاة اتكلم معها بحياتي"

عادت للنظر له وهي تقول بسخرية خافتة
"اهدئ لما كل هذا الحماس ، لم يبقى سوى ان تحدد معي موعد لأول فتاة تكلمت معها بحياتك"

ابتسم (زين) باتساع اكبر وهو يعود لثقته المعتادة قائلا
"هذا سيكون يوم السعد والهنا ، لأني سأخرج مع فتاة جميلة مثلكِ"

اتسعت حدقتيها الزرقاء بصدمة وهي تنظر له هامسة بضيق واضح
"طفل وقح"

استمر (زين) بالابتسام بهدوء واتزان استطاع المحافظة عليه بعيدا عن البلاهة والمرح والتي يتميز بها شقيقه الآخر ، لتحرك بعدها رأسها بتعب من الهواء البارد والذي بدأ يسبب لها الصداع لتسير عندها بعيدا عنه وهي تتجاوزه بصمت ، ولكن ما ان وقفت بمحاذاته حتى وضعت كفها على كتفه قائلة ببرود باهت
"حظاً موفقاً بحياتك ايها الطبيب النفسي زين الفكهاني"

اكملت بعدها سيرها بعيدا عنه وهي تغادر الحديقة بأكملها باتجاه باب الفناء الخلفي ، بينما اتسعت عينيّ الآخر وهو يستدير للخلف قائلا بارتفاع متوجس
"كيف علمتي بأني احلم بأن اصبح طبيب نفسي"

ولكن كانت (ماسة) قد دخلت من الباب بالفعل بدون ان تجيبه وهي تتركه يحترق بنيرانه ليعلم كيف عرفت عنه وكشفت حلمه ؟ ألا إذا كانت ساحرة وتستطيع قراءة الأفكار وهذا ليس بعيد عن ذات العيون الزرقاء .

____________________________
كان جو من الهدوء والرقي يسود بالحفلة الهادئة قبل ان يقطعها (محراب) وهو يرفع الكأس الخاص به بيده ليطرق عليه بالملعقة بيده الأخرى ليخرج عندها صوت رنان لفت الأنظار إليه بثواني والتركيز نحوه ، ليحوم عندها جو من الرهبة والسكون على نفوس الجميع وقد خفت الكلام بينهم نهائياً حتى لم يعد هناك اي اثر للضجة والتي كانت تلفهم قبل ثواني ، صدح بعدها بلحظات صوت (محراب) وهو يخفض الكأس للأسفل قائلا بوقار امام العيون المتطلعة بفضول
"اريد ان اقدم الشكر بهذه المناسبة والسبب والذي دفعنا لعمل هذه الحفلة الجميلة والودية والتي جمعت الشركتين معا ، هو السيد عزام نصران ورئيس شركة الاتصالات"

بدأ التصفيق الحار بالارتفاع تدريجيا بين الناس بحماس كبير ، بينما كانت الانظار متجهة لصاحب الشكر وهو (عزام) والذي كان يبتسم لهم بوقار متحفظ وهدوء ينضح بملامحه المتصلبة ، لينقطع بعدها الصوت ما ان عاد (محراب) لمقاطعتهم وهو يرفع كفه عاليا بحزم ليتابع كلامه وهو يحيد بنظراته للآخر بهدوء
"وإذا لم يكن هناك مانع من السيد عزام ، اريد ان اقول كلام مهم على الملأ وملاحظة صغيرة على طبيعة هذه الشراكة وسيرها"

ساد الصمت بينهم والأنظار معلقة بصاحب الإجابة والذي ارتفع حاجبيه بصدمة من المفاجأة الغير متوقعة قبل ان يحرك رأسه بالإيجاب بجمود ، ليحرك عندها (محراب) عينيه بعيدا عنه وهو يتنقل بنظره بين وجوه البشر بتمهل والذين اعتاد على رؤيتهم بكل اجتماعاته ليدرس بنظراته جميع دواخلهم .
قال بعدها بابتسامة جادة تغضنت معها زواياها بغموض
"الجميع يعلم بأن كل من عمل معي وحدثت بعدها شراكة بيننا كانت دائما وما تزال مبنية على الثقة والمودة والصدق والأمانة والمتبادلة بين الطرفين وهي اهم خصال عليها ان تتميز بها اي شراكة معي ، وغير هذا فستنهار الشراكة وتبوء بالفشل قبل البدء بدون هذه الصفات ، فأهم شيء هو البدء بالأساس ومعالجته من البداية وألا ازداد المرض اكثر وتحول لوباء من الصعب ازالته من نفوس البشر وانتشر بكل العاملين بالشركة لننسى عندها الهدف الحقيقي من هذه الشراكة ، لينتهي بالنهاية بخسارة فادحة للشركتين معا وليس الثقة بينهما فقط"

عمّ الصمت بكل ارجاء القاعة برهبة بدون ان يسمع لهم اي نفس وكأن القاعة قد فرغت فجأة من الموجودين ولم يتبقى منهم احد ، ليتابع بعدها (محراب) كلامه ببرود وهو يتجاهل الصمت المحدق به ونظرات الرجل الآخر الجامدة عليه بقوة
"ولكن للأسف فقد اخترق السيد عزام هذه القوانين والمبنية بشركتنا منذ الأزل بدون ان يعلم اهميتها بالنسبة للسيد حوت الفكهاني ، لذا سأقولها وامام الجميع لتصبح عبرة بالنسبة لكل شخص يفكر بالعمل بشراكة تربطه مع شركتنا وهو بأنني ألغي هذه الشراكة نهائياً والتي لن اسمح باستمرارها اكثر من هذا ، فهي ليس لها مكان بشركتي ولا تستحق ان تعمل ويكون لها وجود بشركة حوت الفكهاني ، واتمنى حقا ان تكون قد وصلتكم رسالتي جيدا وفهمتم مقصدي ، امسية سعيدة"

مرت لحظات صامتة على الجميع قبل ان تبدأ الهمهمات الجانبية بالخروج تدريجيا بين الناس لينحل الصمت بينهم ويتحول لضوضاء صاخبة انتشرت بكل انحاء القاعة الواسعة ومشاعر من الذهول والوجوم والغضب بدأت بالانتشار بينهم بثواني معدودة ، بينما كان الوحيد الصامت من بينهم هو (عزام) والذي كانت ملامحه الهادئة بجمود تنضح بإعصار بداخله يوشك على الخروج للقضاء على البشرية بأكملها وهو يتلقى اكبر إهانة تلقاها بحياته العملية ستتناقلها الأجيال للسنوات القادمة .

ليقطع إعصار المشاعر والثرثرة الفارغة والتي لفتهم بسرعة مذهلة هو صوت الداخل من باب الشرفة الجانبية والذي كان يصرخ بأنين مكتوم استطاع لفت الانتباه إليه
"سيد نصران ، انظر ماذا فعلوا بي الخونة والذين كانوا يدعون النزاهة والشرف امامك"

انفضت الناس من حوله بعيدا عنه ليظهر الرجل صاحب العبارة والذي كان يبدو بأبشع صوره بوجهه المهشم والمكدوم وسترته الرثة والدماء تقطر من جبينه لتشكل خط واضح على وجهه وهو يرتدي فوق عينيه نظارته المقسومة لنصفين ليتحول من رجل اعمال محترم لرجل متسول تورط بشجار مع اناس اكبر منه مكانة ورتبة .

كان (عزام) اول من تقدم نحوه بسرعة وهو ينظر له بذعر لأول ردة فعل تظهر على ملامحه منذ بداية الحفلة بعيدا عن الهدوء والذي كان يحافظ عليه طول الحفلة ، ليقف بعدها امامه وهو يمسك بكتفيه بحذر قائلا بجمود خطير
"من فعل بك هذا يا رضوان"

رفع عندها نظراته بحقد وهو يشير بعينيه نحو جهة معينة بشر مكتوم ، لينظر بعدها للمكان والذي كان يشير له ليصدم بالمسؤول عن حالة مدير اعماله وهو ابن شريكه (احمد) والذي كان ينظر لكل من حوله ببرود جليدي وكأن شيء لم يكن ، عاد (عزام) بنظره للواقف امامه بغموض دام للحظات وكأنه يحاول استجماع افكاره والتي عادت للتجمع برأسه بهدوء خطير ، ليعود للالتفات نحو السيد الكبير وصاحب الحفلة والذي ما يزال جامد بمكانه ينتظر نهاية المهزلة امامه وهو يخفي بوادر صدمته من فعلة ابنه بمهارة عالية يحسد عليها .

قطع الصمت صوت (عزام) لأول مرة وهو يقول باستنكار واضح بتلك النبرة الجامدة بحقد
"لا اصدق ما اراه امامي يا سيد محراب فكهاني ، لم اكن اعلم بأنكم قد انحدرتم لهذا المستوى الدنيء والحقير لتدخلوا شاب صغير مجرد عامل عندي بمخططاتكم الحقيرة لتنتقموا مني شخصياً ، وهو لا دخل له بكل هذا العمل بيننا ، ولكنك محق بشيء واحد وهو بأن هذه الشراكة عليها ان تنتهي هنا ، فأنا لا ارحب ابدا بشراكة اناس امثالكم كل ما يهمهم هو تدمير خصومهم وكل من يربطهم بصلة بدون الاهتمام لأحد او اعطاء شان لأحد"

كانت الانظار تتنقل بحماس وتشوق بين مدير الأعمال الأول (عزام) والذي اظهر انيابه وبين مدير الأعمال الثاني (محراب) والصامت وكأنها حرب الثيران من سيفوز بينهم بهذه الحرب الباردة والتي تخفي من خلفها الكثير بمجال الأعمال ، بينما كان (احمد) يضغط على اسنانه بقسوة وهو يحاول ضبط اعصابه بشق الانفس لكي لا يخنق هذا الرجل المتسلط ومعه الاحمق والذي اخطأ عندما تركه يفلت من بين قبضتيه حياً بدون ان يقتله ، وما يسكته عن التدخل بهذه الحرب هي نظرات والده الصارمة والتي كانت تشيعه بقوة وحزم يفهمه جيدا ويعلم تبعاته ، ليتابع بعدها بلحظات (عزام) كلامه بتصلب وهو يسحب معه مدير اعماله من ذراعه بعيدا عنهم قائلا
"شكرا لك على الحفلة اللطيفة والتي لم يكتب لها النجاح للأسف ، واتمنى ألا تتكرر مرة أخرى مع اناس غير مضمونة نواياهم نحونا ، والآن وداعا وإلى لقاء آخر لن يكون مثل سابقه ، اعدك"

اختفى صاحب الصوت مع مدير اعماله لخارج القاعة الضخمة بهدوء مريب ، وما هي ألا ثواني حتى عادت الثرثرة المزعجة للأجواء والتي اصبحت خانقة للجميع والنصف الأول بدأ بمغادرة القاعة من خلف (عزام) والنصف الآخر ما يزال ينتظر بتأهب بقية الحرب الباردة بعيدا عن اجواء الحفلات الروتينية .

ولم يرى احد النظرات الخضراء الدامعة بشحوب والتي كانت تنظر للأجواء من حولها بأنفاس منقبضة ذاهلة وهي تمسك بكفها شفتيها مانعة الشهقات المذبوحة من الخروج وقبضتها الأخرى تضرب على صدرها بغصة وبذنب يعتصر فؤادها يكاد يقتلها حية .

____________________________
دخلت للغرفة بسرعة وهي تجري باتجاه سريرها قبل ان تندفع نحوه لتدفن وجهها بملاءته البيضاء الناعمة وهي تجهش ببكاء مرير مرتجف اخرجته دفعة واحدة والذنب بصدرها ينهش جسدها بانقباض حاد بدون اي رحمة وكأنها مطرقة تضرب قلبها بقوة على فعلتها والتي دمرت حياة كثير من الناس وعلى رأسهم عمل خالها (محراب) بدون ان تقصد كل ذلك ، وهي التي لم تكن تفكر سوى بحضور الحفلة والاستمتاع بوقتها كما كانت تتمنى منذ سنوات لينقلب كل شيء ما ان واجهت ماضيها والذي لطالما ابقته طي النسيان لفترة طويلة ، فيبدو بأنه دائما هناك اشياء عليها ان تنغص عليها حياتها دوما مهما حاولت التظاهر بالسعادة والراحة الأبدية ، ومن اين ستأتي هذه السعادة وماضيها ما يزال معلق بها وهو يلاحقها اينما ذهبت مثل قيد حديدي يقيد حركتها عن الحرية ؟ وهذا ما نحصل عليه دائما عندما لا نحذر مما نتمناه لنتحمل عندها نتائج افعالنا بأنفسنا .

شعرت بعدها بلحظات بيد تربت على شعرها والذي انحلت عقدته بعشوائية بدون اي كلام وقد كان هذا من الفتاة والتي لم تنتبه لوجودها بالغرفة من الأساس وهي نفسها من كانت تقف امام نافذة الغرفة العملاقة بشرود بعيدا عن الجميع ، قالت بعدها المدثرة على السرير وهي تميل برأسها نحوها بنحيب
"لقد اخطئتُ يا ماسة ، وخطأي هذه المرة كبير للغاية ، وقد يكلفنا حياتنا بهذا المنزل ، فهو اكيد لن يغفر لنا ما حدث ابدا"

كانت ملامح (ماسة) جامدة بدون اي تعبير منطوق وهي تستمع لصوتها المبحوح المتقطع والذي لم تستطع تبين اي كلمة منه وماهي المشكلة حقا والتي حدثت معها بالحفلة اوصلتها لهذه الحالة ؟ فهذه هي طبيعة (روميساء) التي تعرفها فتاة حساسة لأبعد الحدود وخاصة عندما تخطئ بحق احدهم كما الآن وحازمة بوقت الجدية عندما يخطئ احد بحقها او تلاحظ اخطاء الآخرين ، واما عندما تخطئ هي بحقهم فهي تنهار تماما وتُحمل نفسها كل المسؤولية كاملة لتتحول لفراشة جريحة تحتاج للمواساة والتجبير حتى تحل المشكلة الخاصة بها وتطمئن لحلها وبأنه ليس هناك احد تأذى من حلها ومن تبعاته .

عادت (روميساء) للكلام بنفس البحة الحزينة وهي تمسك بالعقد الالماسي من حول عنقها بيدها بارتجاف
"اشعر بنفسي سأختنق يا ماسة ، لما كل هذا يحدث معنا ولما يصر القدر على خلق العقبات امامنا بعد ان كنا قد تجاوزناها بصعوبة وانتهينا منها"

كانت تحرك رأسها بشرود واجم وكفها ما تزال تربت على رأسها برتابة هادئة ، لتعود (روميساء) للتنفس بتقطع من بين شهقاتها الحزينة قبل ان تهمس بانفعال وهي تتلمس على عقدها وعلى باقي مجوهراتها بضياع
"هذه المجوهرات وكل هذا ليس لي ، ولم يخلق لي ابدا ، انظري ماذا حدث وما آلت إليه الأمور بأول يوم لي بتجربة الدخول لهذا العالم الغريب والذي لا ننتمي إليه ، لقد دمرته تماما ولم يتبقى احد لم يصله دماري ويتأذى ، لقد دمرت اعمالهم نهائياً وحياتنا بأكملها بعد ان كانت قد تحسنت قليلا"

عادت بعدها لدفن وجهها بانتحاب قبل ان تنتفض فجأة وهي تمسك بكف (ماسة) باندفاع قائلة بحزن عميق والعبرة ما تزال تخنق صوتها
"سامحيني يا شقيقتي الصغرى ، بدلا من جعل حياتنا مريحة وافضل من السابق دمرتها كلياً بسبب غبائي ورغبتي بتجربة عالم دمر حياتنا ، والآن سنضطر لمغادرة هذا المنزل وترك حياتنا الجديدة للأبد"

سحبت (ماسة) كفها بعيدا عنها وهي تنهض من جانب السرير بصمت ، بينما كانت النظرات الخضراء الندية معلقة بشقيقتها وهي تشهق بخفوت مرتجف خفت عن السابق ، لتهمس بعدها (ماسة) لأول مرة بتفكير غامض وهي تنظر لها بقوة
"تقصدين بأنهم سيطردوننا من المنزل بعد فعلتك"

اندفعت (روميساء) بجزع بعيدا عن الملاءة وهي تجلس فوق السرير قائلة بتعثر حزين
"ليس هكذا هو الأمر تماما....."

قاطعتها (ماسة) وهي تنظر بعيدا عنها قائلة بخفوت مشتد
"اسمعي يا روميساء ، اريد ان اقول لكِ امرا مهماً ، واتمنى حقا ان تسانديني به"

ابتلعت (روميساء) ريقها برهبة مع غصتها الحزينة وهي ترفع كفها لتمسح دموعها عن خديها بارتجاف شديد ونظراتها المحمرة من الدموع تنظر بتأهب لما ستقوله شقيقتها والتي تبدو كل علامات التحفز ظاهرة فوق ملامحها بقوة ، لتتابع بعدها الواقفة امامها كلامها بجمود نحت بملامحها الحجرية ببرودة وهي تقبض على كفيها بجانبي جسدها بقوة
"اريد ان نعود لمنزلنا القديم ، واقصد بكلامي منزل عمي قيس اليوم قبل الغد"

نهاية الفصل ، وبانتظار تعليقاتكم وإعجاباتكم بفارغ الصبر لنستطيع تنزيل باقي الفصول بأيام السبت من شهر رمضان ، ورمضان كريم ❤🌙🌙


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس