عرض مشاركة واحدة
قديم 22-05-21, 09:22 PM   #52

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 720
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي الفصل العاشر

الفصل العاشر............
تنفست بهدوء امام زجاج النافذة والذي اصبح غير واضح الرؤية به بسبب تجمع ضباب انفاسها عليه حتى لم تعد تستطيع رؤية شيء من خلاله ، رفعت بعدها كفها بهدوء مرتجف قبل ان تخط على زجاجه بأصبعها السبابة وهي تتبع حركته بانسيابية لتضغط بالنهاية بمنتصف لوحتها بقوة والتي اعتادت على رسمها بأوقات وحدتها المقيتة لتظهر امامها على شكل وجه عابس بحزن يعبر عن حالتها الحالية وبكل حالاتها ، بينما كانت (صفاء) معتادة على رسم وجه مبتسم بسعادة لطالما تحلت بها وناسبتها ليكونا دائما النقيض عن بعضهما بكل شيء وحتى بأبسط الأمور .

عادت لرفع اصابعها بعنف بمنتصف اللوحة لتصبح لوحة متقاطعة بكل الاتجاهات لتختفي عندها ملامح الوجه العابس خلف الخطوط المتقاطعة .

اخفضت بعدها يدها وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها ببرود لتهمس بعدها بلحظات ما ان شعرت بحركة خافتة عند باب الغرفة
"ماذا حدث معكِ ، لما عدتِ مبكرا من العمل"

زفرت (روميساء) انفاسها بتشنج قبل ان تتقدم بعيدا عن الباب قائلة بهدوء مريب
"لا تقلقي ، كل شيء بخير للآن"

عقدت حاجبيها بحيرة حادة وهي تتوقع الأسوء منها لتستدير عندها نحوها ببطء وهي تهمس بوجوم
"ماذا تقصدين بكلامكِ يا روميساء....."

توقفت عن الكلام وهي تعبس ملامحها بجمود ما ان رأت ملامح شقيقتها الحزينة وحدقتيها الخضراء المتسعة باحمرار ومرارة تفهمها جيدا ، لتعود بعدها للنظر للأمام بلا مبالاة وكأنها معتادة على هذه الأخبار الكئيبة بدون ان تؤثر بها ولو قليلاً وهي تقول بجفاء
"حسنا ، يبدو بأنكِ قد طردتِ من العمل والوحيد والذي كان متبقي لنا ، ولكن لا بأس فهذا كان سيحدث يوماً ما"

تصلبت ملامحها بعدم رضا من سلبيتها قبل ان تندفع نحوها لتمسك بكتفيها وهي تديرها باتجاهها بقوة قائلة باستياء
"لا تقولي مثل هذا الكلام يا ماسة ، فأنا سأجد حل آخر لكل مشاكلنا ولمصاريف معيشتنا....."

انتفضت (ماسة) بحدة وهي تتراجع للخلف بعيدا عن يديها قائلة بثورة
"توقفي يا روميساء عن تكرار هذه الاسطوانة ، لقد سمعتُ منكِ هذا الكلام اكثر من مرة حتى بدأتُ اشعر بالضجر منه ، وهذه المرة ستستمعين انتِ لحلي انا وهو بأنني سأبدأ بالعمل بأي مجال آخر مهما كان ويوفر لنا المال ، وانتِ يا روميساء ستتوقفين عن التنقل بالمدارس وستبحثين عن عمل آخر لا يخص مجال دراستك"

ارتفع حاجبيها بوجوم وهي تهمس ببرود شاحب
"هذا ليس حلا ابدا يا ماسة ، فنحن لن نجد العمل والذي نريده بهذه السهولة والبساطة بدون اي شهادة او خبرة ، وايضا انا لا استطيع العودة للتنقل بالأعمال المختلفة والتي لن تجلب لنا راتبا محترما كالذي يوفره لنا عمل المعلمة"

ابتسمت (ماسة) بسخرية وهي تهمس بامتعاض
"ولكن هذا ليس جديد عليكِ يا روميساء ، فقد جربتِ جميع انواع الأعمال المختلفة عندما كنتِ تعملين لصالح قيس"

تجهمت ملامحها بلحظات وهي تقول بصرامة حادة ملوحة بذراعها جانبا
"اصمتِ يا ماسة فقد اصبح كل هذا من الماضي وانا من المستحيل ان اعود لتمثيل ذلك الدور الرخيص"

اشاحت بوجهها بعيدا عنها بجمود صخري وهي تنظر لزجاج النافذة وللرسمة المشوهة فيها مخفية اي جمال قد يظهر بملامحها العابسة وكله من صنع يديها ، لطالما كانت حياتهما عبارة عن تأدية ادوار بحياة (قيس) الوضيعة بدون امتلاك الحق بالرفض او التحكم بمجريات حياتهما ، والآن وبعد ان تحررت كل قيودهما منه من المستحيل ان يعودا لتلك الدوامة السوداء مجددا والتي استنفذت منهما كل كرامة وطاقة يملكانها .

قالت (ماسة) فجأة بخفوت غير معبر
"إذاً ألديكِ حل آخر غيره"

تنفست بتعب وهي تلتفت نحو النافذة بهدوء لتقبض عندها على كفيها بقوة قبل ان ترفع يدها وهي تسندها على زجاج النافذة الباردة برفق ، لتقول بعدها بتصلب خافت
"اريد منكِ ان تسمعيني للنهاية بدون اي انفعال او غضب ، فكل ما افعله من قرارات بحياتنا من اجل مصلحتنا فقط"

حادت بنظراتها الزرقاء نحوها بهدوء وهي تنتظر بترقب تكملة كلامها ، بينما ابتلعت (روميساء) ريقها بهدوء ومشاعر من السكون تحوم من حولهما وكأنها تسمح لهما بتأمل حياتهما عن قرب بعد سنوات طويلة من العيش على نفس الترنيمة المملة ، قالت بعدها بقوة قاطعة الأجواء بدون اي مواربة
"لقد عرض عليّ احمد الزواج وانا وافقت عليه"

سادت لحظات صمت دامت لدقائق بدون نهاية ، وما ان كانت ستتابع كلامها حتى سبقتها الأخرى وكأنها قد افاقت من صدمتها للتو وهي تهمس بانشداه منفعل
"احمد نفسه ابن محرب والمتزوج من تلك الشمطاء"

استدارت (روميساء) نحوها بعنف وهي تقول بتحذير صارم
"إياكِ وان تقولي هذا الكلام امامي مرة أخرى يا ماسة ، وانا لم انهي كلامي بعد من اجل ان تبدأي بسخريتكِ المعتادة"

كتفت (ماسة) ذراعيها فوق صدرها بعصبية بالغة وهي تنظر لها بحدقتيها الزرقاء المتسعة هامسة بحنق
"اكملي ، ماذا لديكِ ايضا"

زمت شفتيها بامتقاع وقد كانت تتوقع هذا الاحتدام والاستنكار منها ، لتتابع بعدها كلامها قائلة بجدية هادئة
"لقد وعدني بأنه سينفذ لنا كل طلباتنا ، واقصد بأننا سنحصل على حياة مريحة ومرفهة وغير هذا عمل بمدرسة محترمة ومنزل لنا لوحدنا فقط ، يعني كل ما كنا نتمناه بطفولتنا سيتحقق اخيرا...."

قاطعتها (ماسة) ببرود قاتل
"وما هو الثمن ، فكل شيء له ثمن يا روميساء ، أنسيتِ هذه القاعدة والتي تعايشنا عليها منذ سنوات"

تصلبت ملامحها بعبوس وهي تبعد نظرها عنها قائلة ببرود متعمد
"ليس هناك ثمن هذه المرة يا ماسة ، وهذا ليس مهمٌ الآن فأهم شيء عندنا هو ان نضمن حياتنا تحت سقف منزل واحد يحمينا من العالم"

تقدمت نحوها فجأة بلحظات وهي تمسك بذراعيها بقوة قائلة بحدة بالغة
"هراء ، تعلمين جيدا بأن هناك ثمن يا روميساء من اجل هذا الطلب ، وانا وانتِ نعلم جيدا ما يكون ، من اجل ان تحصلي على حياة مرفهة لنا ستقبلين بأن تكوني زوجة ثانية لأحمد وتكوني مجرد جارية وخادمة عنده لن تصل لمستوى زوجته الأولى ذات السمعة العريقة مثل ما كنا بحياة قيس تماما ، هل تريدين ان تصلي لهذا المستوى المنحط"

عقدت حاجبيها بألم منقبض ما ان تذكرت ما حدث معها بمكتب المدير العابث والثمن والذي كانت على وشك ان تدفعه من عملها عنده ، لتندفع بعدها بغضب مفاجئ وهي تنفض ذراعيها بعيدا عنها قائلة بانفعال حانق
"كفى يا ماسة ، ألن تتوقفي عن هذا الكلام المحبط وانتِ تتوقعين دائما الاسوء بحياتنا ، لقد عرضتُ عليكِ افضل عرض من الممكن ان نحصل عليه ليوصلنا للحياة المرفهة ، وبدل ان تدعميني تقولين مثل هذا الكلام القذر عن ابن خالك احمد ، ولكن لما الصدمة فأنتِ لن تتغيري ابدا وستبقين دائما الفتاة ذات النظرة الكئيبة والتي لا تتمنى الخير لأحد ، وتقف دائما امام سعادة الآخرين"

ارتفع حاجبيها بصدمة عند آخر كلماتها والتي تسمعها لأول مرة من شقيقتها الكبرى وكأنها بدأت بالهذيان ، لتقول بعدها وهي تشير لنفسها بيدها باقتضاب
"انا دائما اقف امام سعادة الآخرين"

ردت عليها (روميساء) بحزن ومرارة وهي تحرك ذراعيها للأسفل بإحباط وقد فقدت السيطرة على نفسها تماما من الضغط والذي تتعرض له منذ الصباح
"اجل انتِ كذلك ، لو انكِ تفكرين حقا بسعادتي لما وقفتي امامي هكذا وبدأتي بالسخرية من قراري بالزواج من احمد ، وانا كل ما يهمني بهذه الحياة هو ان اؤمن السعادة لكلينا ولكِ ، ولكن هل فكرتِ يوما بسعادتي انا وبماذا ارغب بهذه الحياة ، كنتُ ولازلت احاول حمايتكِ وافعل ما يريحكِ فقط ويسعدكِ بدون ان افكر بنفسي ، عندما قررتِ مغادرة منزل محراب وافقتك وعندما طلبتِ مني اعادة الثوب والمجوهرات فعلتُ ما قلته ، والآن وبعد كل شيء تريدين إفساد سعادتنا الوحيدة بالوصول لكل ما نتمناه يوماً ، إلى متى ستستمرين بعرقلة سعادتنا"

كانت تتنفس باضطراب واضح بين كلماتها بعد ان عبرت عن كل ما تكنه نحوها وتكبته بداخلها منذ سنوات ، بينما تجمدت ملامح (ماسة) بلا تعبير وبعض الألم بدأ ينضح بعينيها الزرقاء البحرية من كل هذه الاتهامات والتي لم تكن تعلم عنها وكأنه لا يكفيها كلام الناس من حولها والذي تسمعه بكل مكان ليزيد عليه كلام شقيقتها الكبرى ورأيها بها لتكتشف بأنها لم تكن سوى مجرد حِمل عليها اتعب كاهلها منه وضاقت ذرعاً منه ، فهي كيف ستستطيع فهمها وتشعر بها وهي دائماً غير موجودة بعالمها والذي ازهق روحها وارتشف الذرة الأخيرة من حياتها لتبدو الحياة امامها مجرد سباق عليها اللحاق به والفوز بالنهاية ؟

اعادت (ماسة) وجهها باتجاه النافذة ببرود اكتسى ملامحها وهي تهمس بابتسامة شاردة بجمود
"هنيئاً لكِ بهذا الزواج يا شقيقتي الكبرى ، فأنا من الآن وصاعدا لن اتدخل بأي شيء يتعلق بسعادتك ولن اكون حِملا عليكِ بعد الآن ، فأنتِ تستحقين الأفضل بحياتكِ ، لذا اعتبري من كانت تعرقل عليكِ سعادتك لم يعد لها وجود"

رفعت قبضتها بارتجاف لجبينها وهي تمسد عليه بإنهاك استبد بها ، لتحاول بعدها الكلام للمرة الأخيرة بهمس ضعيف
"ماسة اسمعي...."

قاطعتها (ماسة) بانقباض وهي تستدير بعيدا عنها بلا مبالاة
"حسنا فهمت ، لن اقف بطريقكِ بعد الآن ويمكنكِ فعل ما تشائين ، ولا تفكري بي فأنا سأكون بخير وحدي ، فكري بنفسكِ فقط وتابعي حياتكِ بعيدا عني فأنا لن اعيش بعد الآن على صدقات احد"

اخفضت قبضتها لصدرها ببطء انهك قواها الجسدية والذهنية قبل ان تستدير بهدوء بعيدا عنها وكل واحد منهما معطية ظهرها للأخرى ، سارت بعدها بالطريق والتي جاءت منها لتخرج من الغرفة بنفس الهدوء والذي دخلت به ، لتخلف من بعدها صمت قاتم ووحدة تكاد تقتلها حية وصدى صوت قديم عاد ليتردد بأذنيها بمكان مظلم بدون ان ينفذ النور إليه
(لا تتركوني وحدي ، ارجوكم لن اخطئ بالتصرف معكم مرة أخرى ولكن لا تتركوني)

_____________________________
كانت تجلس بمنتصف السرير بنفس جلستها المتكورة وهي تحتضن ساقيها بذراعيها لتحمي نفسها من وحدة الظلام والتي تحيط بها بكل مكان بدون اي مهرب وجسدها يهتز بصمت للأمام وللخلف بحركة رتيبة ، لتجتاحها بعدها الذكريات البعيدة والتي تتضمن مشاعر دافئة وحنين كانت قد دفنته بداخل روحها الموحشة ليبقى ملقى بزاوية بعيدة مهملة بدون ان تحاول اعادته للسطح او البحث عنه لكي لا تشعر بأي مشاعر لم يعد لها وجود بحياتها او ضعف سيكبل حركتها .

عادت بالزمن بالوقت والذي كانت به مجرد طفلة بعمر السابعة تحلم بأماني كبيرة واحلام طفولية تتمنى لو تتحقق يوماً وعلى يدي جنيتها الخاصة وكل شيء جميل بحياتها ، بوقتها كانت تنظر من نافذة غرفتها مع (روميساء) والتي كانت شاردة معها بمنظر قطرات المطر المتساقطة على الزجاج كما اعتادتا ان تفعلا بكل ليالي الشتاء الغائمة ، ليقطع الصمت صوت (ماسة) وهي تقول بتردد طفولي
"روميساء ، هل تحققين لي اي امنية اطلبها منكِ"

التفتت نحوها الجالسة بجانبها بعينيها الخضراوين الحنونتين وهي تبتسم قائلة بثقة طفولية
"اطلبي ما تشائين وانا سأحققه لكِ ، اعتبريني مثل جنية الامنيات والتي تحقق الاماني لكل الاطفال"

اتسعت ابتسامتها بفرحة طفولية وهي تضم كفيها الصغيرين معا قائلة بلهفة بالغة لمع بحدقتيها الزرقاء بتوهج
"هذا رائع ، لأني اريد ان اطلب منها الكثير من الأشياء"

رفعت (ماسة) كفها الصغير وهي تعدد بأصابعها الصغيرة قائلة بحماس
"اولاً اريد ان يكون لي بيت كبير جدا مثل القصر ونعيش به انا وانتِ فقط ، وثانياً اريد ان يكون به مسبح وحديقة لألهو بها كما اشاء مثل حديقة السيد منصور ، وثالثاً اريد ان امتلك دمى كثيرة وحلوى مثل التي تحصل عليها صفاء ، ورابعاً اريد ان يكون لدي فساتين جميلة وملونة مثل التي اراها على التلفاز ، وايضا ، وايضا....."

قاطعتها الجالسة بجانبها وهي تضحك بمرح طفولي
"كفى يا ماسة ، ما هذه الامنيات الكثيرة ، لن تستطيع جنية الامنيات تحقيق كل هذا فهي تحقق فقط ثلاث امنيات لكل طفل"

كتفت (ماسة) ذراعيها فوق صدرها وهي تهمس بحنق طفولي
"هذا ليس عدلا ابدا ، انا اريد الكثير والكثير لتحقيقه ، وايضا انا اعلم بأنكِ لستِ مثل جنية الامنيات وستحققين لي كل امنياتي مهما كان عددها وحجمها ، أليس كذلك"

ابتسمت بالمقابل بهدوء وهي تستمع لنبرة التحدي والشقاوة والتي بدأت تظهر بصوتها الطفولي ، لتحرك بعدها رأسها بالإيجاب وهي تقول بابتسامة هادئة تحمل الحزن والحنان معا
"اجل مؤكد سأحقق لكِ كل امنياتكِ ، فأهم شيء عندنا هي سعادة صغيرتنا المشاغبة لكي لا تسبب لنا بمزيد من المشاكل"

رفعت (ماسة) اصبعها الصغير بسرعة وهي تقول بلهفة طفولية
"عديني اولاً بأنكِ ستحققين لي كل ما احلم وارغب به"

نظرت بحدقتيها الكبيرتين لأصبعها الصغير للحظات قبل ان ترفع يدها وهي تعانق اصبعها الصغير بأصبعها الطويل بقوة كعلامة لتوثيق الوعد بينهما لن تمحى بمرور السنين وهي تهمس بنفس طفوليتها
"اعدك"

بدأت (ماسة) بالضحك بسعادة بالغة وهي تندفع نحو شقيقتها لتطوق خصرها بذراعيها بقوة وهي تدفن وجهها الصغير بصدرها بهدوء ، لتقول بعدها بكل ما تملكه من محبة اتجاه الكائن والذي لازمها بكل حياتها منذ ولادتها
"احبكِ كثيرا يا روميساء ، اكثر شيء احببته بحياتي ، وحتى اكثر من صفاء ولكن لا تخبريها"

ردت عليها (روميساء) بعطف وهي تربت على رأسها بهدوء يناسب هدوء ملامحها الطفولية
"وانا ايضا ، احبكِ اكثر"

شددت من معانقة ساقيها بقوة ما ان خرجت من دوامة ذكرياتها اليتيمة والمحبوسة بجزء من قضبان روحها والتي اغلقت عليها قيودها منذ سنوات ، لتعود الذكريات البعيدة لجرفها بعيدا لنفس المشاعر الدافئة والمكان وهذه المرة بوضع مختلف عندما كانت تلعب بجنينة المنزل الصغيرة والتي كانت رغم صغر مساحتها ولكنها مع ذلك تفي بالغرض للعب بها وقضاء الوقت الممتع بها خارج المنزل ، بوقتها كانت تلعب الغميضة كعادتها مع صديقتها المقربة (صفاء) وقد اخذت دور المختبئ والأخرى تبحث عنها ، لتختبئ عندها وراء شجرة صغيرة متساقطة الأوراق بسبب عدم الاعتناء بها وهي تتكور خلفها لكي لا يظهر شيء منها ، بينما كانت (صفاء) تبحث عنها وهي تصرخ بتذمر طفولي
"اين انتِ يا ماسة ، لقد مللت حقا من البحث عنكِ ، هيا اظهري"

كانت (ماسة) تكتم ضحكتها الطفولية بصعوبة بكفها الصغيرة ، لتشهق بعدها بجزع ما ان رأت الواقفة فوقها وهي تقول بغضب مشتعل توهج بحدقتيها الخضراء المتسعة
"انا ابحثُ عنكِ بكل مكان ، وانتِ تلعبين هنا"

تدخلت (صفاء) وهي تقف بجانبها الآخر قائلة بفرح طفولي شع بحدقتيها العسلية بانتصار
"لقد وجدتكِ يا ماسة ، وهذا يعني بأني قد فزت عليكِ"

انتفضت (ماسة) واقفة امامها وهي تقول باستياء حانق
"غير صحيح لقد غششتي ، لأن روميساء قد وجدتني قبلك"

ردت عليها (صفاء) بلا مبالاة وهي تجري بعيدا عنها بسعادة وثوبها يتطاير من حول ساقيها بحرية
"غير مهم ، فقد فزتُ عليكِ بالنهاية"

عبست ملامحها بغضب وهي تضرب على الأرض بقدميها الصغيرتين بسخط لتجري بعدها خلفها بعيدا وعلى صوت (روميساء) الحاد وهي تصرخ من خلفها
"ماسة ، توقفي عن اللعب ، واذهبي لإنجاز وظائفكِ المدرسية لأني لن اساعدكِ بها بعد الآن يا مهملة"

رفعت رأسها عاليا وهي تخرج نفسها غصبا من دوامة ذكرياتها وهي تشعر بضعف من عاطفتها يؤخذها بعيدا عن عالمها شيئاً فشيئاً حتى زادت الصدوع والتشققات بقضبان روحها المغلقة ، لتفتح بعدها عينيها البحرية على اتساعهما بألم وهي تحاول اخذ عدة انفاس لاهثة وكأنها كانت الآن بسباق طويل دام لسنوات حتى وصلت لخط النهاية والملون بالأبيض وهو نهاية كل شيء وكل الحكايات بالعالم حيث لا يبقى شيء مهم يستحق وجودنا من اجله وعيشنا عليه المتبقي من عمرنا .

____________________________
كانت جالسة فوق مقاعد الانتظار بالطرقات وهي تتنفس بنشيج متعب وقبضتيها مستندتين على ركبتيها ورأسها مرتخي للأسفل ليسقط شعرها شديد السواد على جانبي وجهها بتخاذل وهو يغطي وجهها عن العالم ، بينما كانت تشعر بداخلها بشيء يموت رويدا رويدا بدون ان تمنع هذا الشعور من الزحف لباقي اطراف جسدها بانتفاض ليحل مكانه سكون فارغ موحش ، فهي ولأول مرة بحياتها تتعامل بهذه الطريقة القاسية مع شقيقتها الصغرى والطفلة والتي تحملت مسؤوليتها بالمهد منذ كانت هي بعمر الخامسة ، فقد كانت والدتها من نوع الامهات الغير مبالي والذي لا يحب الالتزام بالمسؤوليات ولا يفهم كيفية الاعتناء بالأطفال وتلبية طلباتهم الكثيرة فما ان انتهت فترة امومتها حتى عادت لعملها ولحياتها المستقلة بعيدا عنهما ، وبدون ان يقف بطريقها احد ولا حتى والدها والذي لم يكن بقوة شخصيتها وعنفوانها ذلك الرجل عديم الشخصية كما كانت تطلق عليه والدتها وهي تعاير ضعف جبروته امامها ولم تكن تعلم بأنه كان افضل زوج قد يمر عليها بحياتها القصيرة وهي تكتشف قيمته بعد رحيله .

لطالما كانت تغضب عليها وتعاتبها إذا اخطئت بالتصرف معها او مع اي احد بطريقة امومية منطقية ولكنها لم تصل بحياتها لدرجة بأن تهينها وتجرحها بالكلام بسببي سخريتها والمعتادة عليها وهي تبغض تحملها لمسؤوليتها فمهما كان وحدث فهي ستبقى دائما مسؤوليتها وحمايتها من العالم فهو واجبها ، ولكن الذي حدث قبل قليل عكس ذلك تماما وهي تشعر بدنو علاقتهما للأسوء وقد بدأت تفقد السيطرة على زمام الأمور فيبدو بأنها لم تعد أهل لهذا الحِمل بعد كل هذه السنوات .

انتفضت بجلوسها بتوجس وهي ترفع رأسها بسرعة نحو صوت بوق السيارة وعينيها الخضراوين متسعتين باستدارتهما ، لتتنهد بعدها براحة ما ان عرفت هوية السيارة ومن صاحبها وقد كانت تشعر بنظراته الرمادية الهادئة تنظر لها بتركيز حاد من زجاج النافذة المعتمة الأمامية .

نهضت بسرعة عن المقاعد وهي تعيد خصلات شعرها الطويلة لخلف اذنيها بهدوء وهو يتتبعها بتمهل بدون ان تنتبه لذلك قبل ان تسير نحوه وابتسامة حزينة تحتل ملامحها الشاحبة بهدوء دائما ما تحوم حول ملامحها بدون ان تخفي الصرامة والتي تحتل حدقتيها بين الحين والآخر وكأنها تجيد التحكم بكل انفعالات وجهها بطريقة مدروسة ملفتة للانتباه والإعجاب .

ما ان وصلت عند باب السيارة عند المقعد بجانبه حتى انحنى بجسده ليمد ذراعه وهو يفتح الباب بيده بقوة قائلا بابتسامة متزنة
"هيا ادخلي فورا ، ولا اريد ان اسمع اي اعتراض منكِ"

ابتسمت (روميساء) بارتجاف متوجس وهي تنظر لجسده الطويل والذي كان يرجعه للخلف باتزان هادئ وهو يبتسم لها بجمال سحرها للحظات ، لتدخل بعدها للسيارة وهي تجلس بجانبه مغلقة الباب من خلفها برفق ، وما ان تحرك بالسيارة بعيدا حتى قالت بتفكير عابس
"لقد ظننتُ بأنك قد غادرت من الحيّ بأكمله ما ان اوصلتني لمدخله ، لم اكن اعلم بأنك ما تزال بالجوار"

حرك (احمد) رأسه بالإيجاب وهو يقول بابتسام جاد
"لا لم ارحل فقد كنتُ انتظركِ عند مدخل الحيّ لنكمل كلامنا ، وايضا لقد مللت من مراقبتكِ وانتِ تتنقلين من مكان لآخر جاذبة الأنظار من حولكِ من طريقة سيركِ المتخاذلة"

ارتفع حاجبيها بانشداه وهي تلتفت نحوه بوجهها هامسة بوجوم
"هل قضيت طول اليوم وانت تلاحقني"

ردّ عليها وهو يحيد بنظراته نحوها بسخرية
"عذرا يا اميرة ، ولكن أليس مسموح لي بملاحقتكِ وكأنه ليس لدي شيء آخر افعله غيره"

انحنت عينيها للأسفل بإحراج وهي تهمس بحزن
"اعتذر حقا ، يبدو بأنني قد سببت لك بإزعاج كبير بدون ان اقصد"

زفر انفاسه بروية وهو يقول بقوة متجاهلا نظراتها الحزينة والتي يشوبها الإنهاك والواضح بخطوط ملامحها الدقيقة
"انسي هذا الآن ، واخبريني ماذا حدث مع شقيقتك ماسة ، ألم تتقبل فكرة زواج شقيقتها الكبرى من ابن خالها"

زمت شفتيها بقوة وهي تعود بنظرها للأمام وغصة مؤلمة بدأت تنخز قلبها بقوة بعد ان ظنت بأنها قد انتهت منها ولم تعد تشعر بها بعد ان خرجت من غرفة شقيقتها ومن المنزل بأكمله بقلب محمل بالهموم والحزن ، وهي لا تعلم للآن ماذا عليها ان تفعل وكيف تستعيد شقيقتها الصغرى والتي لطالما كانت تؤخذ كل حيز من حياتها وكل تفكيرها لهذه اللحظة ؟

قالت بعدها بسرعة وهي تنظر له برقة متجاهلة كلامه الأخير
"لم تخبرني للآن يا احمد ، ما لذي تريد منّا ان نتكلم عنه ، فقد تكلمنا عن كل شيء بالفعل"

نظر الجالس بجانبها لنظراتها الهادئة والتي تحمل الرقة مع التوجس من شيء لا يعلم ما هو ؟ ولكنه لم يهتم لهذا فقد كان يعطي كل انتباهه لاسمه والذي اصبح يخرج منها مجردا وقد اسعده هذا كثيرا بعد ان اصبحت مقربة منه اكثر من مجرد ابنة عمته فقط .

قال بعدها بجدية وهو يوقف السيارة بجانب الطريق بهدوء
"اسمعي ما سأقوله فهو مهم جدا ، لقد قررتُ بأن اليوم هو الوقت المناسب لنعقد قراننا معا بالمحكمة من اجل ان لا يمانع احد بعدها على علاقتنا او تحدث عقبة بعدها تفسد كل شيء ، فانا لدي رحلة عمل من اجل صفقة مهمة بمنطقة بعيدة وستؤخذ مني كل وقتي ولن استطيع عندها التفرغ لكِ ، واريد ايضا ان يكتمل كل شيء على اكمل وجه قبل ان اغيب عنكِ ، من اجلي ألا يحاول احد التقليل من قيمتكِ او ايذائكِ بغيابي وانتِ لستِ زوجتي ، واما باقي الأمور المتعلقة بطلباتكِ فستتحقق ما ان اعود من رحلتي ، فهل انتِ موافقة"

تنفست بهدوء وهي تبتلع ريقها برهبة من طلبه المفاجئ والذي لم تكن تتوقعه ابدا وبهذا الوقت بالذات ، وهي حتى الآن لم تثبت على قرار محدد بالرغم من انها وافقت من قبل على عرضه للزواج ، ضمت كفيها معا بحجرها ما ان مر بذهنها كلام شقيقتها عن الثمن والذي ستدفعه من هذا الزواج وهي تعلم جيدا ما معنى دفع الثمن والذي تعايشت معه منذ زمن .

قالت بعدها بلحظات بخفوت مرتبك بتشوش
"بخصوص العلاقة الزوجية بعد الزواج ، انا اقصد...."

قاطعها (احمد) بخشونة هادئة وهو ينظر لها قائلا بابتسامة حانية
"لا بأس افهمكِ جيدا ، ولكن عليكِ ان تعلمي بأنه لن يحدث اي شيء بيننا بدون موافقتكِ يا روميساء فهذا بالنهاية قراركِ انتِ ، وهذا ليس الهدف الاساسي من زواجي منكِ"

رفعت نظراتها نحوه بشحوب وهي تشعر بالانقباض والذي كانت تشعر به بصدرها قد اختفى من مفعول كلماته الهادئة وابتسامته الحانية وكم ذكرتها بابتسامة والدها والتي لم تكن تراها كثيرا سوى من حين لآخر وهو يقابلها بها قبل ان تقضي عليها والدتها كالعادة ، ولكن ما تزال تشعر بالقلق ينهش احشائها بدون رحمة وبدون ان تتأكد للآن من صحة ما تفعله ؟ ومع ذلك فهي لم يعد امامها خيار غيره إذا كانت تريد ان تصل هي وشقيقتها لبر الأمان والذي يكون هو وسيلته بدون ان تكونا ضيوف عند عائلة خالهما او عند اي احد كان .

اومأت برأسها باهتزاز وهي تهمس بابتسامة شاحبة برقة
"افعل ما تراه مناسبا ، فأنا اثق بك يا احمد"

اتسعت ابتسامته بقوة وهو يرفع يده ليربت بها على رأسها ولكن ما لم تتوقعه هو ان يميل بوجهه امام رأسها ليقبل مقدمة جبينها بعمق بعث حرارة بأوصالها ، ليتراجع بعدها بهدوء وهو يخفض كفه ليمسك عندها بجانب وجهها قائلا بجدية
"هيا إذاً لنخرج ونفعلها واهم شيء هو وجود بطاقة هويتك معكِ ، وتأكدي بأنكِ من الآن قد اصبحتِ انتِ وشقيقتك تحت حمايتي وبدون ان يمسكما اي احد بمكروه يا بنات عمتي"

ابتسمت بسعادة هادئة وهي تتمنى حقا ان يحقق كلامه والذي تاقت إليه بحياتها كثيرا ، ولم تنتبه بأنهما قد وصلا بالفعل لمبنى المحكمة والذي سيتم به عقد قرانهما رسميا وبدون تدخل اي احد .

يتبع................


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس