الموضوع: كذبة أيار
عرض مشاركة واحدة
قديم 22-07-21, 06:27 PM   #5

وجد الــ
 
الصورة الرمزية وجد الــ

? العضوٌ??? » 490179
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 130
?  نُقآطِيْ » وجد الــ is on a distinguished road
افتراضي

( 1 )



___

“فالحب قد اعتق لساني فتكلمت،
ومزق أجفاني فبكيت،
وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت”



— جبران خليل جبران
___


في غرفته المظلمة بداخل منزله الواسع..
يجلس أمام شاشة جهازه الحاسب، تلمع عيناه المنعكسة عليه صورتها، وعلى شفاهه ابتسامة خبيثة، ربما لم تعرف البشرية ابتسامة أخبثُ منها قط.
قبل أن يقهقه فجأة وترتفع ضحكته الساخرة اللئيمة، وهو يشعر بالانتصار وشيء من نشوة الانتقام.
لم يتخيل أبدا قبل ذلك أن يوما كهذا سيأتي بالفعل!
بالرغم من أن ما حصل وما فعله بها كان هيّنا وبسيطا للغاية.
إلا انه ترك به شعورا جميلا، وكأنما صدره حديقة خضراء غنّاء، وقد تزاحمت بها بعض الفراشات الملوّنة.
اتسعت ابتسامته أكثر عندما رنّ هاتفه الجوال منيرا برقم غريب، علِمَ على الفور أنه يخصها!
شخّص أبصاره على الشاشة دون أن يأخذ الهاتف.
حتى حين ظلّ يرن بشكل متواصل، بدا وكأنه يستمتع بتلك النغمات للغاية.

مرّ بعض الوقت..
حين وقف أمام المرآة، ينظر إلى نفسه نظرة أخيرة بعد أن لبس
وتأنق.
ليغادر المنزل إلى مقر عمله، شركته.. مؤسسته الصغيرة.
ركب سيارته الفارهة، اتجه بها إلى المقر.
ليترجل منها، ثم يصعد إلى الطابق العلوي للمبنى، والذي اتخذه مقرا لإدارة عمله.
كان يمشي بكل ثقة وغرور، واثقا بجماله وهيبته.. مغترا بكل ما لديه، من أموال وجاه ومنصب.
حتى وصل إلى غرفة الاجتماعات التي اجتمع بها كل موظفيه.
قبل أن يدخل، ومن خلال الباب الزجاجي الشفاف.. ألقى نظرة على جميع الموجودين، ليعرف من تعابيرهم أنهم غاضبين بحق، يودون لو يستطيعون ضربه بالرصاص.. نعم، يعلم ذلك جيدا.
الأمر الذي يشعره بالنشوة والفرح!
فتح الباب بعنفوان، واتجه إلى مقعده على الفور.. يأخذ جهازه ( الآيباد ) من فوق الطاولة ثم يرفع رأسه سائلا، وكأنه لا يعلم عن شيء ( ايش عندكم؟ ليش طلبتوا مني احضر هالاجتماع ).
التزموا الصمت، لم يجرؤ أحد على التحدث.. بالرغم من انهم غاضبين للغاية، ولديهم الكثير مما يرغبون بقوله لهذا المخلوق المتعجرف الكريه، إلا ان لا أحد منهم تجرأ على الكلام وهو أمامهم، بينما يتحدثون من خلفه بكل راحة!
قرر أكثرهم جرأة ان يتحدث وينهي هذا الاجتماع السخيف الذي لا داعي له ( انت عارف ليش استاذ عُدي، مع ذلك تأخرت وخليتنا ننتظر ظ£ ساعات بالضبط، وهذا خرق لقواعد العمل والعمّال، ما يجوز كل مرة تسوي فينا كذا، لو عندك أدنى اهتمام بالعمل والصحيفة ).
نظر إليه نظرة باردة وهو يعبث بقلمه على الطاولة، يصدر صوتا مزعجا ومربكا للموظفين ( أنا المدير هنا وأنا المسؤول، أجي واروح متى ما بغيت، مين انت عشان تتجرأ وتحاضرني بخصوص وقت حضوري؟).
أغمض الآخر عنه يحاول كظم غيظه ( مو هذا اللي أقصده، بس انت فعلا لازم تعدل اسلوبك من هالناحية، لو سمحت! احنا نحضر الصباح من بدري، ورانا بيت وعيال.. ما نقدر نشتغل أكثر من ثمان ساعات ).
ضحك فجأة بطريقة اثارت بهم الخوف، ليسأل بهدوء ( أجل ليش ما رجعتوا لبيوتكم وأهاليكم؟ مو كأني اجبرتكم تنتظروني؟ ).
أجاب شخص آخر دون أن يرفع أنظاره إليه ( نعرف كيف تتصرف لو تركنا الاجتماع ومشينا، ماحنا مستعدين نخسر وظايفنا ).
ارتفع صوته الغاضب فجأة، مما جعلهم ينتفضون بخوف ( عارفين أجل، لكن مصرين ترفعون ضغطي وتشتكون بكل مرة أجي فيها لاجتماعاتكم؟ واللي ما منها أي فايدة؟ ).
صمت قليلا وهو يغمض عيناه ثم يتنهد ( ايش عندكم اليوم؟ ).
حارث من الفريق القانوني، تحدث بهدوء وأدب، حتى لا يثير غضب رئيسه مجددا ( بخصوص الخبر عن المحامية أيار السلطان، وردتنا الكثير من الشكاوى، وهي شخصيا رفعت علينا قضية تشهير، وقضية تصوير بدون اذن ).
أراح عُدي ظهره على المقعد ثم بسط كفيه ( كلها قضايا بسيطة، تعاملنا مع مثلها وأكبر منها قبل كذا، والفضل لك بعد الله حارث.. ليش كل هالقلق والخوف الحين؟).
تنهد الحارث بضيق ( انت تعرف المحامية أيار، تعرف قد إيش مهتمة بعملائها.. كل همها انها تفوز في قضاياها، كيف لو كانت القضية نفسها متعلقة فيها؟ ما راح تتركنا إلا بعد ما تمحي صحيفتنا من الوجود).
( متأكد انه هذا كل همها؟ الفوز؟ ).
نظر إليه حارث رافعا احد حاجبيه متسائلا، ليغير عدي الموضوع وهو يمرر أنظاره على باقي الموظفين ( حارث الوحيد اللي عنده كلام معي، انتوا ليش ظليتوا هنا للآن دامكم متأخرين على أهاليكم؟ ).
تحدث أحد المصورين ( ودنا نعرف الشخص اللي صورها وسبب كل هالفوضى، أو المصدر على الأقل ).
أبعد عُدي أنظاره عنهم ( هوية المصور أو المصدر مو شغلكم، سووا اللي عليكم بس.. تقدروا تتفضلوا الحين، حارث خلك ).
أحد الموظفين بغضب ( كيف مو شغلنا؟ شكلك ما تدري عن شيء بس احنا دايم مضطرين ننظف وراك أو ورى أي شخص يسبب مقل هالمشاكل، المحامية أيار ماهي انسانة عادية، واحنا مو مستعدين نخسر شغلنا عشان تهور شخص مجهول ما ندري من هو ).
قطب جبينه ناظرا إليهم بحدة ( طيب هذا شغلكم، تسوون الأمور وتنظفون الفوضى، ولا ايش تقترحون؟ إيش تبغون أسوي بالضبط لو ما في شيء من اللي ذكرته من شغلكم؟).
( اقترح نحط المسؤولية كلها على الشخص اللي صور، ونقول انه كان تصرف شخصي.. ثم نحذف كل المنشورات من مواقع التواصل.. وقتها نقدر نتفادى مواجهة المحامية).
نظر إليه وإلى من يؤيده بعدم تصديق، قبل أن يسألهم بصوت مخنفض وحاد بذات الوقت ( مين اللي خايف من مواجهة أيار؟ يطلع من شركتي ويقدم استقالته).
ضرب الطاولة بيده بقوة صارخا بغضب ( حالا )!
نظروا إليه بخوف وارتباك، ثم إلى بعضهم بعدم رضى، قبل أن يتحدث عُدي بهدوء ( اطلعوا، روحوا من قدامي ).
خرجوا مضطرين، والغيظ والقهر يملأ نفوسهم أجمعين.
سوى الحارث الذي نهض من مقعده بعد خروجهم وجلس على أقرب مقعد لعُدي الذي بدا عليه الانزعاج الشديد، ابتسم وتحدث بهدوء حتى يخفف من غضبه ( ما عليك عُدي، هم بس خايفين لأنها المرة الأولى اللي ننشر شيء حصري ويثير كل هالضجة في الوسط الإعلامي ).
ردّ عُدي بابتسامة ساخرة ( بس مو أول مرة يتصرفون بهالطريقة، مو كأنهم ما يعرفون طبيعة هالعمل، ولا يعرفون انهم كل بعد فترة راح يتعرضون لمثل هالأشياء! تعدوا حدودهم كثير ).
( صحيح كلامك عُدي، بس اسمح لي.. هالمرة أتفق معهم، أيار مو الشخص المناسب، انا معك بأي شيء تسويه ولأي شخص، إلا أيار ).
نظر إليه عُدي بتعجب وهو يضحك ( أيار؟ أيار حاف كأنك تعرفها وتعرفك؟ بعدين ليش خايف منها لهالدرجة؟).
ضحك الحارث بارتباك ( لا ماني خايف مين قال، بس أعرف شغلها كويس.. صدقني راح نخسر، لازم نتصرف بأي طريقة، حتى لو نحط المسؤولية على المصور يا عُدي، لا نلعب ونتورط معاها، أرجوك ).
هزّ عُدي رأسه بلا مبالاة ( لا تحاول تقنعني، من زمان ما حسيت بهالإثارة والحماس يا حارث، انا اليوم أسعد انسان على وجه الأرض، ما عكّر مزاجي إلا اجتماعكم اللي ما استفدت منه شيء ).
تنهد الحارث بضيق ( بس يا عُدي هالشيء لمصلحتك، قلت انها رافعة علينا قضية).
( ما عندي مشكلة، اتركني الحين.. ما ابي أتكلم أكثر عن هالموضوع ويختفي حماسي!).
نظر إليه الحارث نظرة أخيرة، مليئة بالأسى والاستياء والاستسلام. قبل أن يخرج تاركا المكان، الشركة برمتها.
في اللحظة التي أظلمت عينا عُدي، وتحولت كأنها تعود إلى شخص آخر عداه هو!
لينهض من مكانه على الفور، متجها إلى أزرار التحكم بالكهرباء.
أغلق معظم الأنوار، لم يُبقِ منها سوى القليل.. ليخرج بعد ذلك مغادرا الشركة.

_____

في اللحظة التي دخلت بها أيار إلى المقر.
بخطوات تنبىء أن اعصار ما اقترب من هناك، ووجه غاضب.. ينبيء انه يخفي وراءه انفعالا سيؤدي إلى تهلكة من ستواجهه.
حتى وصلت أخيرا أمام مكتب تلك الصحيفة القذرة.
وهي تنتفض من شدة القهر.
اندفعت ناحية الباب ودفعته بأقوى ما لديها، لتتسع عيناها وهي تسمع صرخة شاب وقع للتو أمامها حين دفعت الباب بتلك الطريقة.
حينها فقط خفّ غضبها قليلا وهي تغطي فمها بصدمة، ثم تنحني سائلا إياه بقلق ( انت بخير؟ يمه مو قصدي ما دريت انه في أحد عند الباب).
رفع الآخر كفه يشير لها ويأمرها أن تبتعد ثم ينهض ببطء، يجيب دون أن يرفع رأسه ( ما عليك ما فيني شيء ).
تنهدت براحة ( الحمد لله ).
سألت باستنكار وهي تحاول رؤية شيء في هذا الظلام ( ايش صاير هنا ليش الأنوار مقفلة؟ وين الموظفين؟ وين المدير؟ ).
أجاب الآخر بارتباك وهو يتلعثم، ولا زال مخفضا رأسه ( المدير توه طلع، والموظفين بعد.. انتهى وقت العمل، إذا تبغين شيء راجعينا بكرة الصباح ).
وضعت يدها على خاصرتها وهي تتأفف، قبل أن تشعر بالريبة من تصرفات الشاب، رأسه الذي لم يرفعه فلم ترى ملامحه أبدا.. خاصة وأن المكان مظلم نسبيا، ارتباكه الزائد، توتره الظاهر من خلال يديه.. والتي يفركهما ببعضهما بقوة، صوته المرتجف، لتسأل باستغراب ( ايش فيك تتصرف كذا؟ كأنك مسوي جريمة؟).
ازدرد الشاب ريقه بصعوبة قبل أن يقول ( لو سمحتِ يا أختي اخرجي بسرعة لازم اقفل الحين، ولا بسمع تقريع من المدير ).
ابتسمت بغير تصديق ثم هزّت رأسها بشفقة، قبل أن تتسع عيناها وتختفي ابتسامتها وهي تميز صوته، ثم تشهق ( هذا انت؟ صحيح انت؟ انت اللي صورتني اليوم!).
اتسعت عينا الشاب بخوف ورفع رأسه مصدوما، لتتأكد أيار من هويته.
اغمض الشاب عيناه كأنه يواجه الموت ( صدقيني ما كان فيه أي صورة بكاميرتي، واللهِ العظيم.. أقسم لك بالله انه ما كان في أي صورة من صورك، انتِ حذفتِ كل شيء بنفسك، ما اعرف كيف صار اللي صار ).
التزمت آيار الصمت لبضع ثواني وعيناها تحمران شيئان فشيئا، قبل أن تصرخ بغضب ( لو حذفتها شلون انتشرت بكل مكان؟ كيف الناس درت اني كنت بالسجن؟).
ارتجف جسد الشاب وانتفض بشكل غريب وهو يهزّ رأسه ( ما اعرف أنا ما أعرف، اكيد المدير عنده شخص شاطر بهالأمور وقدر يرجع الصور بأي طريقة ).
صاحت به مجددا ( بس هذي مو نفس الصور اللي كانت بالكاميرا، هذي صور ثانية تصورت عن طريق الجوال ).
رفع الشاب عيناه إليها بوجه شاحب كالأموات.
وقبل أن تفعل أيار أي شيء.. صدمته بحركته السريعة وهو يخرج من المكان، ويقفل الباب من الخارج بالمفتاح!

لم تصدق أيار ما حصل أمامها للتو، لم تستوعب.. بل ليست قادرة على الاستيعاب!
حين بدأ عقلها يعود إلى العمل بعد هذه الصدمة، اقتربت من الباب وصارت تضربه بكل ما أوتيت من قوة ( يا حيوان يا ابن الـ ***** يا كـ *****، تعال.. تعال هنا الحين، فكّ الباب يا اللي ما تستحي، ما تخاف ربك.. مين هذي اللي تتصرف معاها كذا؟ مين اللي تجرأت تسوي فيها كذا؟ تعاااااال).

بعد عشرون دقيقة..
سقطت على الأرض جالسة باستسلام.
يداها تؤلمانها للغاية، وكذلك حلقها.. لا بدّ أنه تورم جراء صرخاتها المتتالية!
ما بال هذا المجنون؟ لمَ فعل بها هذا الشيء الغريب؟
رفعت عيناها إلى الباب بإحباط، قبل ان تهزّ رأسها نفيا، تبعد فكرة كسر الباب حتى لا يقاضيها صاحب المكان بتهمة إتلاف الممتلكات الخاصة.
يبدو أنها صارت تملك مناعة قوية ضد أي شيء مخالف بعد دخولها إلى السجن!
كما أنها أبعدت فكرة الاتصال بالشرطة!
فهي الآن حديث الساعة، ومحط انظار الجميع.. ان اتصلت بهم وأتوا لمساعدتها ربما لن تتمكن من الهروب من هذا المكان بسرعة.
نهضت وعيناها تطلقان الشرر.
ثم سارت عبر الرواق الصغير، تمرر أنظارها على أنحاء المكان.. حتى وصلت أخيرا أمام غرفة، علمت من خلال لافتة صغيرة انها تخص المدير.
اقتربت من الباب وأخذت تحاول فتحه، غضبت للغاية حين فشلت، لتصرخ وهي تضرب الأرض برجلها.
قبل أن تجلس على أقرب مقعد موجود في ذلك الرواق ثم تجلس، تغمض عيناها وتزفر أنفاسها ببطء.. تحاول تهدئة نفسها.
لتخرج هاتفها بعد ذلك، وتطلب رقم ذلك ( الوغد ).
لا تدري كم مرّ من الوقت، وكم مرة اتصلت.. وحتى متى عليها الانتظار!
حتى أجاب الوغد أخيرا، بصوت بارد كالجليد ( مين معي؟).
تحدثت أيار وصدرها يعلو ويهبط من شدة الانفعال ( حلوة هذي مين معك بعد ألف مرة اتصلت فيها، ليش ما ترد؟).
ضحك بنفس الصوت البارد ( وليش أرد على رقم غريب؟).
أيار بغضب ( لو هالرقم الغريب ظلّ يتصل فيك مليون مرة معناته يمكن في مصيبة صايرة!)
ابتسم عُدي بكل استمتاع ( ووش هالمصيبة اللي انتِ فيها حالياً حتى تحاولي تطلبي مساعدة شخص غريب عنك؟ ).
تصاعد غضبها أكثر فأكثر، إلا انها تجاهلت ذلك وتحدثت بهدوء ( جيت أقابل حضرتك في مقر الشركة، لكن اللي صار انه في موظف مجنون عندك، نفس اللي صورني وانا خارجة من مركز الاحتجاز، حبسني وهرب من ساعة تقريبا ).
تظاهر عُدي بالمفاجأة قائلا ( أوووه أجل معي المحامية القديرة أيار؟ آسف اني ما تعرفت عليك ).
صرّت على أسنانها بقلة صبر ( مو وقت هالكلام الحين، تعال بسرعة افتح لي الباب ولا والله اني ببلغ عليكم الشرطة، بسرعة ).
بدا وكأنه تفاجأ هذه المرة بالفعل ( لحظة، انتِ قصدك انه موظفي اللي صورك وانتِ خارجة من السجن حبسك فعلا؟ ).
( إيه، عندك ربع ساعة.. لو ما جيت خلالها وفتحت لي الباب صدقني راح تندم ).

أغلقت منه على الفور ودون أن تنتظر رده.
وأخذت تسير في ذلك المكان ذهابا وإيابا، وعيناها لا تبرحان ساعة معصمها.. حتى سمعت صوت المفتاح، حينها أسرعت ناحيته تحمل حقيبتها في يد، والهاتف في يد أخرى.
وهي متخفزة تماما وغاضبة، مستعدة للهجوم عليه وعلى الفور.
إلا انها نسيت كل غضبها حين أبصرت شخصا مختلفا، مألوفا.. يستحيل أن يكون هو وراء هذه الصحيفة، شخصا تعرفه جيدا، والذي لم يكن سوى ( حارث؟ وش تسوي هنا؟ ).
ابتسم الحارث مرتبكا ( في النهاية انحطيتِ بهالموقف أجل؟ اخرجي لا تموتين).
خرجت أيار دون أن تحرك عيناها من عليه، لتسأل والتعجب يملؤها بينما كان هو يقفل الباب مجددا ( وش تسوي هنا؟ اذكر اني كلمت المدير).
شهقت وهي تكمل ( لا تقول انك تشتغل هنا!).
هزّ كتفيه يعبر عن قلة حيلته، متجها إلى المصعد ( المدير كلمني وقال لي أجي اخرجك، لأنه مشغول حاليا، أهم شيء انتِ بخير الحين؟).
وقفت أيار خلفه على المصعد تزفر أنفاسها بإحباط ( بخير، بس ماني بخير اكيد عارف ايش أقصد.. حارث إياك تعتقد إني راح أكون هينة عشانك بس!).
ضحك وهو يلتفت إليها ( لا أبد، مين المجنون اللي راح يفكر انك ممكن تكونين هينة؟ بالمقابل انتِ بعد كوني مستعدة، حتى أنا ما راح أدخر أي جهد، بسوي كل شيء أقدر عليه عشان أهزمك هالمرة).
ابتسمت أيار ابتسامك واسعة قبل أن تضحك وهي توميء برأسها ( تمام، بعطيك فرصة.. بخليك تنال شرف المحاولة على الأقل ).
سألت باستغراب ( بس لحظة حارث، مين هذا الشخص المجنون اللي صورني؟ ثم حبسني هنا من شوي؟ تعرف شيء).
الحارث ( ما أدري والله مو متأكد، ما فادني المدير بشيء حتى لما سألته.. اوصفي لي شكله ولا لبسه يمكن أقدر أتعرف عليه؟).
( والله ما اعرف المكان كان شبه مظلم، تقدر ترجع لكاميرات المراقبة وتشوف بنفسك ).
هزّ الحارث رأسه نفيا ( ما في ).
( وش اللي ما في؟ ).
( ما عندنا كاميرات مراقبة بشركتنا، ولا حتى في نفس الطابق).
أيار بتعجب شديد ( تمزح! ليش طيب؟).
( برضوا ما أعرف السبب الحقيقي، بس المدير منع).
أيار وهي تنظر إليه بنصف عين ( حارث انتبه، وين قاعد تشتغل انت؟ ما عندك معلومات أكيدة وكل ما سألتك عن شيء قلت ما تعرف، لا تكون هذي شركة مشبوهة وأنا ما أدري!).
ضحك الحارث بصخب ( هههههههههههههههههههه مو لهالدرجة، أوصلك دامنا بنروح بنفس الطريق؟ أدري انه كايد أخذ سيارتك وراح ).
أخرجت أيار مفتاح السيارة ولوحت به ( ما في داعي سرقت سيارة أيان، مع السلامة ).

تفرقا بجانب الباب الرئيسي للمبنى، بعد أن غطت أيار وجهها جيدا واتجهت إلى السيارة.. وظلّ الحارث واقفا بمكانه يتأملها للحظات، وفي قلبه حسرة.. يبدو أنها لن تزول منه قريبا!
رفع صوته مناديا إياها ( لحظة ).
استدارت إليه بتساؤل ووقفت تنتظره حتى أتاها بخطوات سريعة....

______


الرابع من يونيو..
الخامسة والنصف صباحا.

تدخل إلى المنزل بخطوات بطيئة، تسير على أطراف أصابعها.. حتى تتمكن من التسلل إلى داخل حجرتها بكل هدوء، دون أن تقابل أيار.
إلا انها ما ان اقتربت من باب حجرتها سمعت صوت أنين خافت، آتيا من جهة المطبخ.. المطفأة أنواره!
اتجهت إليه عاقدة حاجبيه بتعجب، من قد يكون مستيقظا في مثل هذا الوقت الباكر؟
وضعت حقيبتها وباقي أغراضها جانبا ثم اتجهت إلى المطبخ بنفس الخطوات البطيئة، حتى وقفت بجانب الباب.. حينها أبصرت ظهرها الذي يهتز متفاعلا مع بكاءها الصامت.
وأمامها مختلف أنواع الطعام.
ازدردت ريقها بارتباك، قبل أن تخطو خطواتها نحوها بكل تردد.
تعلم أنها إن رأتها لن تدع هذا الصباح يمرّ بسلام، لن يهدأ لها بال حتى توقظ جميع من بالمبنى، بل بالحيّ كله.. وهي تصرخ بها غاضبة.
تقدم رجلا وتؤخر الأخرى ورغباتها تتصارع بداخل نفسها.. ما بين قلق عليها وخوف منها.
حتى استسلمت لرغبتها الثانية أخيرا، واقتربت منها حتى جلست على المقعد بجانبها ( أيار؟ عسى ما شر وش فيك؟ ليش تبكين؟ ).
مسحت أيار دموعها بباطن كفيها واستدارت تنظر إليه بأنف محمر وعينان متورمان ( أمي وأبوي سافروا، راحوا للديرة عند جدي ).
رفعت كتفيها باستغراب ( شيء طبيعي يسافرون اليوم، هذا شيء معروف وتعودنا عليه من صغرنا، ليش مصدومة وزعلانة؟ لا تقولين إنك متأثرة من جد؟ ).
هزّت رأسها نفيا وهي تشير إلى الطعام أمامها ( أمي أمس قالت لي إنها مو راضية عني، وإنها راح تظل غاضبة ليوم الدين بسبب اللي سويته، بس ليش... ).
اختنقت وعادت دموعها تنزل مجددا ( ليش سوت لي كل هذا؟ مين قال لها تسوي لي الفطور؟ المنطق والمعقول انها طالما كانت زعلانة مني ومعصبة تتجاهلني، تخليني أموت من الجوع ما تظل صاحية طول الليل تسوي لي الأكل اللي أحبه، كأنها قاعدة تستقبلني بعد خروجي من السجن ).
لانت ملامحها بحزن على أيار، التي إن بكت ربما ستتمكن من إذابة الصخر ( أكيد ما كانت تقصد اللي قالته، إنتِ تعرفين أمي.. إذا كانت زعلانة وقلقانة علينا تقول كل أنواع الكلام بس بعمرها ما كانت تقصد ).
وضعت أيار رأسها على كتف أختها وأمسكت بذراعها بقوة كأنها بتلك الحركة تحاول أن تستمد بعض القوة ( بس يعور يا رجاء يعور، لو تشوفين كيف استقبلتني أمس وأنا جاية ميتة شوق لها ولأبوي، بالنهاية ضربتني وخاصمتني وطول اليوم وهي صادة عني وزعلانة، حتى بعد ما صار اللي صار وانتشر الخبر ما جات كلمتني أبد، والحين تسوي لي الفطور؟ تسوي لي كل شيء أحبه؟ مين سمح لها؟ ).
ضحكت رجاء وهي تربت على كتفها ( يمه يالدلع، كل هذا عشان ما استقبلتك بالأحضان؟ ).

عمّ الصمت أرجاء المكان.. حين توقفت أيار عن البكاء، واستشعرت رجاء بل شعرت بالخطر، أخذت عيناها تتسعان وهي تبتسم بارتباك، خاصة حين قالت أيار بنبرة هادئة للغاية ( دلع؟ قلتِ دلع؟ ).
ودون سابق انذار، نهضت رجاء من مقعدها سريعا بعد أن دفعت أيار بعيدا عنها بقوة، حتى سقطت الأخرى عن مقعدها وصرخت بألم.
لتركض رجاء متجهة إلى غرفتها.
ولكن الصدمة أن الباب كان مقفلا بالمفتاح، حينها رفعت كفها تغطي فمها تحاول استيعاب حجم المصيبة التي هي بها الآن.
استدرات ببطء وهي تضحك بغباء، حين سمعت صوت خطوات أيار، والتي وقفت بعيدا عنها وأسندت كتفها على الحائط وهي تتكتف، ثم ترفع مفتاحا بيدها ( تدورين على هذا؟ ).
اتسعت ابتسامة رجاء المرتبكة، وضمّت كفيها سريعا ( استهدي بالله أيار، تعرفي إني ما أقصد ).
أيار أيضا بابتسامة واسعة ( وانتِ عارفة إني مو جاية أحاسبك على هالكلام السخيف، وين كنتوا؟ ومين سمح لكم تسافرون وتخلوني؟ مين سمح لكم تاخذون سيارتي بدون اذن؟ ).
ضحكت رجاء ( أيار ايش فيك؟ ما رحنا بعيد تعرفين هالأيام حر، بس تمشينا كم يوم في الجنوب، صدقيني ما كنا ندري انه موعد خروجك أمس ولا ما كنا قعدنا كثير ).
أيار وهي تلعب بالمفتح بيدها ( بس؟ بس رحتوا الجنوب مو مكان بعيد، خوش والله.. ومن كثر انشغالكم ما شاء الله من مواعيدكم المزدحمة حتى ما تتذكرون هالموعد اليتيم! ).
صمتت قليلا ثم سألت بغضب ( وين الـ **** الثانية ؟ ).
أجابت رجاء وهي تضحك ( كايد راح يصلي، وليال.... ) صمتت بارتباك وهي تخفض عيناها.
لتفزع من صوت أيار العالي والغاضب ( وين ليال؟ ).
رجاء بصوت منخفض وهي تشير ناحية الباب ( دخلت تنام عند جدتي، قالت انها ما تبغى تشوفك ).
رفعت أيار حاجبيها باستغراب، إلا ان حديثها أحزنها بشكل غريب، لترمي المفتاح جانبا وتندفع ناحية رجاء ( أجل تعالي انتِ ).
صرخت رجاء برعب وهي تخلع عبائتها سريعا وترميها أرضا وكأنها تستعد لخوض المعركة، قبل أن تبدأ بالركض بسرعة.
ركضت منها هاربة، تمرّ على كل أرجاء المنزل، وأيار تركض خلفها بإصرار وكأنها لا زالت طفلة.
حتى تعبت رجاء ورفعت يديها باستسلام، ثم ما لبثت أن استلقت على أرضية المطبخ بتعب وهي تلهث ( خلاص أستسلم والله أستسلم، سوي اللي تبغيه فيني.. بس خليني أتروش قبل وأتجهز للنوم، عشان أنام وأنا أبكي ).
تكتفت أيار وهي تقف فوق رأسها وتشرف عليها من علوّ، تلهث هي الأخرى بتعب ( بالله؟ تمام أجل قومي ).
التفتت ناحية الباب حين سمعت صوته وهو يُفتح ( جيت؟ تعال ).
ابتسم لها كايد بارتباك وضحك، قبل أن يسرع ناحية حجرته.. وواجه ما واجهت رجاء حين وجد الباب مقفلا، ليلتفت برعب ينظر اتجاه المطبخ.
نهضت رجاء مسرعة، وأمسكت بكف اختها ( لا تعصبين علينا، عندي حلّ ).
( وشو؟ ).
( راح نسليك أنا وكايد، بنرقص لين يأذن الظهر ).
لم تترك رجاء أي فرصة لأيار، وهي تسحبها معها حتى دخلتا إلى غرفتها.. وكايد ينظر إليهما بتعجب ودون فهم.
انتبه واستوعب اللأمر حين أخرجت رجاء رأسها من الباب ( تعال بسرعة، بتسامحنا على سرقتنا لسيارتها.. يلا ).
لم يمشي بتلك السرعة في حياته قط قبل ذلك، حين دخل إلى غرفة أيار بلمح البصر.
وأخذ يرقص برفقة رجاء ويغني بصوته العالي الناشز.
في محاولة جاهدة لإضحاك أيار وتغيير حالتها النفسية إلى الأفضل.. حتى ضحكت الأخرى أخيرا، حينها فقط شعر بالسلام!

______

تفتح باب غرفتها بحذر، تُخرج رأسها أولا.. تنظر يمنة ويسرة، قبل أن تخرج رجلها اليُمنى، ثم اليسرى.. حتى أصبحت جسدا كاملا يتوسط صالة المنزل الصغيرة.
تنهدت براحة لمّا علمت أن والدها ليس بالمنزل، بما أن الهدوء يعمّ به.
دخلت إلى المطبخ وبدأت تعدّ الطعام لنفسها، تتحدث إلى نفسها عمّا يخص أيار..وما حصل بالأمس.
قبل أن تصرخ بفزع وهي ترى رأسا يخرج من خلف إحدى الخزانات الخاصة بالطعام، تحدثت وهي تضع يدها على صدرها وبنفس منقطع من شدة الخوف ( يبه وش تسوي هناك؟ ).
خرج حُسام وهو ينفض ملابسه ( كنت أصلح الدولاب من ورى ).
غسّل يديه جيدا ثم التفت ينظر إليها وهي تبعد أنظارها عنه وكأنها ترغب بالهروب، ليتحدث بنبرة جادة ( كأنه في بنت خرجت أمس من البيت من ورى أبوها؟ بدون علمه؟ ).
وضعت شام ما بيدها على الطاولة ثم التفتت إليه تحاول اخفاء ارتباكها ( كأنه في عجوز تجاهلني وتجاهل اتصالاتي؟ ولا رد عليّ حتى بعد ما دقيت مليون مرة؟ ).
( تعرفين إني أكون مشغول بعد المغرب وما أكون حول الجوال، مع ذلك خرجتِ وما انتظرتيني؟ وين رحتِ؟ ).
اقتربت منه تحاول استعطافه، تعرف جيدا أنه يتصرف معها بتلك الطريقة من خوفه عليها.. ولن يمرر الأمر بسهولة ( يبه والله كنت بنتظرك بس خفت أتأخر، أيار رجعت من السفر وطلبتني، كان الموضوع عاجل وضروري ما قدرت أأجل ).
حسام بغضب ( بس برضوا كيف تمشين لوحدك والدنيا ظلام؟ افرضي طلع لك شخص غريب ولا آذاك أحد ).
ضحكت شام وهي تمسك بكفه ( أفاا يا حُسام، أنا بنتكك يا أقوى واحد بالحيّ، أعرف كيف أدافع عن نفسي لو طلع لي شخص غريب، لا تقلق ولا تشيل هم، سامحني هالمرة، هااه؟ ).
زفر حُسام أنفاسه بضيق ولم يعرف ماذا يقول أمام هذه الملامح البريئة والنبرة اللطيفة، ليتنحنح ويقول ( بس آخر مرة، لو تكرر الموضوع مرة ثانية ما راح يحصل خير يا شام وأنا نبهتك ).
ابتسمت شام ابتسامة واسعة حتى بانت كل أسنانها، قبل أن تقف على أطراف أصابعها وتقبل جبينه ( يسلم لي حسام الحلو، دريت انك ما راح تعصب قد كذا ).
حُسام وهو يحاول أن يبدو صارما ( مرة ثانية لو طلبتك بوقت متأخر خليها تجي تاخذك بنفسها لو كنت أنا مشغول ولا قدرت أوصلك ).
( مو كأنها من جد راح تجي تاخذني وأنا مجرد موظفة تدفع لي راتب شغلي ).
وبحنق أكملت ( لو ما طلبت مني إيجار غرفتي ما اضطريت أشتغل ولا اضطريت أخرج بأي وقت ).
نظرت إليه بطرف عينها تحاول معرفة إن لان قلبه أم لا، ولكن دون جدوى ( ما في أب بالدنيا يطالب بنته بإيجار غرفتها في بيته ).
تجاهل حُسام حديثها وجلس على الكرسي بجانب الطاولة، بينما عادت شام تكمل إعداد إفطارها.
بدا عليه التردد والارتباك، قبل أن يتحدث بهدوء قائلا ( شفتيه أمس ).
استدارت إليه متسائلة ( مين هو؟ ).
حُسام بعد صمت قصير ( ضياء ).
توقفت يديها عن العمل، واتسعت عيناها بصدمة من سماعها هذا الإسم بعد فترة طويلة، طويلة للغاية.
ابتلعت ريقها بتوتر ثم ادّعت اللامبالاة وسألت ( وين؟ ما أذكر إني شفته ).
( متأكدة؟ بس هو قال لي انه شاف بنت عند مدخل الصالة، وما في أي بنت غيرك ممكن تدخل لمكان مليان رجال ).
تركت ما بيدها بقلة صبر ( إيش قصدك يبه؟ أولا أنا ما دخلت هناك أبدا، ثانيا حتى لو دخلت ليش يشوفني إيش جابه هنا أصلا؟ ).
حُسام وهو يتأمل تعابير وجهها ( شافك عند المدخل يا شام، قال انه في بنت دخلت ودفته وطلعت.. وما كانت بنت عادية لدرجة انه صدم بالجدار بقوة وتأذى، وين في بنت قوية غيرك بالمنطقة؟ سهى بنت الجيران الطفلة مثلا؟ ).
أصدرت شام شهقة عالية قبل أن تغطي فمها المفتوح بكفها وهي تتذكر ذلك الشاب، لتقترب من والدها وتسأل ( تمزح صح؟ مستحيل.. كيف يكون هالشخص ضياء، والله أحسك تمزح مستحيل ).
حُسام بهدوء ( قلتِ إنك ما دخلتِ ).
ارتبكت شام بشدة ورفعت شعرها بيد مرتجفة.
وقف حُسام وربت على كتفها ( ما دامه رجع الحين معناته موضوع زواجكم راح ينفتح من جديد يا شام، فكري زين وخليك مستعدة ).
ابتعد حُسام وخرج من الباب، لتصرخ شام باعتراض ( ما راح أفكر، قلت مليون مرة قبل كذا وبرجع أقول.. مستحيل أتزوجه، ما لكم حق تجبروني عليه وعذركم الوحيد والسخيف انه مسمية له من وأنا طفلة ).
استدار حُسام ينظر إليها بحزن، قائلا ( هذي كانت رغبة أمك شام، وصيتها قبل لا تموت ).
أدمعت عيناها بقهر، وجلست على الكرسي حين اختفى والدها وسمعت صوت الباب الخارجي وهو يقفل.
شدت على قبضتيها بقوة تحاول السيطرة على رجفتها.
تحدثت بصوت متقطع ونبرة مهتزة ( ما راح أوافق، تحلم تلمس ظفر مني يا ضياء.. مستحيل تكون هذي وصية أمي.. مستحيل ).
ولكن كيف لذلك الشخص أن يكون ضياء؟
وإن كان هو فعلا.. لمَ أصبح هكذا؟ لمَ تغير إلى هذا الحد؟
كيف تحول من انسان إلى إنسان آخر لم تتمكن من التعرف عليه على الإطلاق؟

_________

( انطردت ).
أجابها بصوت خفيض، وبالكاد تمكنت من سماع تلك الإجابة القصيرة بعد أن سألته عن عدم خروجه اليوم.
لتغمض هي عينيها بقلة صبر، تحاول كظم غيظها والتحكم بأعصابها.
لتسأله بهدوء وهي تجلس في الكرسي المقابل له ( والسبب؟ ).
سعيد، ودون أن يرفع عيناه وينظر إليها ( تعرفين السبب، تأخرت أمس على الدوام ).
( بس ما في شركة أو مؤسسة ممكن تطرد أحد موظفيها لأنه تأخر مرة وحدة يا سعيد ).
تذمر سعيد، وتظاهر بالغضب ( مرة وحدة؟ انتِ دايم تتأخرين على البيت وأضطر أنا أهتم بتيم، يمكن تأخرت حول العشر مرات بهالشهر ).
أيان وهي تكمل تناول طعامها ببرود ( هذا مجرد عذر سعيد، أمي تكفلت برعاية تيم طول ما أنا مشغولة، ما في داعي انت تقعد معاه، أبدا ).
ارتبك سعيد ( حتى لو، أكره ازعج الناس وأخليهم يهتمون بطفلنا بدالنا ).
أيان بذات الهدوء ( قد سمعت أمي تشتكي؟ عشان تقول ازعاج؟ ).
سعيد بانزعاج حين لم يجد أي ردّ مناسب ( أيان إنتِ ليش كذا؟ ليش كل ما تكلمنا عن شيء تحشرين أمك في السالفة وتربكيني؟ ).
رفعت عيناها تنظر إليه ببرود ( إيش بتسوي الحين؟ بتدور وظيفة جديدة ولا؟ ).
تنهد بضيق وإحراج ( إلا أكيد ).
تكتفت ( متى؟ ).
( من بكرة أكيد )؟
نظرت أيان إلى ساعتها، ثم عادت تكمل تناول طعامها ( الوقت لسه بدري ).
نظر إليها سعيد بغيظ، وبغير تصديق.
أبهرته بهدوء وبرودها، إلا انه شعر بالانزعاج الشديد.. لا يستطيع تحملها على الإطلاق حين تتصرف بهذه الطريقة الراقية والمهذبة.
حتى حين حلّ هذا الصمت المرتبك لم تنظر إليه ولم ترفع رأسها، بل استمرت بتناول الطعام.
لينهض مرغما وهو يزفر أنفاسه بصوت مسموع.. قبل أن يخرج ويقفل الباب خلفه بقوة، حتى أصدر صوتا عاليا ومزعجا للغاية.

حينها فقط.. رمَت أيان الملعقة جانبا ورفعت شعرها عن وجهها المحمر، وهي غاضبة.. غاضبة جدا!
كيف يجيب عليها بذلك البرود ويخبرها أنه طُرِد؟
كم مرة حصل هذا الشيء؟ كم مرة طُرِد؟ كم شركة خرج منها مذلولا مخذولا؟
ألا يملك أدنى شعور بتأنيب الضمير ناحيتها هي زوجته؟ التي تضطر لدفع جميع مصاريف المنزل والأشياء الأخرى من جيبها؟ دون جيبه هو؟
ألا يملك أي حسّ بالمسؤولية تجاه عائلته الصغيرة؟ زوجته وابنه الصغير؟
ألا يَخجل وهو يستمر بالاعتماد عليها منذ بداية زواجهما؟
سئمت منه فعليا، إلا انها لا تملك أي حيلة، لا تملك شيئا لفعله.. للأسف!
شربت كوب من الماء البارد، علّه يساعد على تخفيف غضبها في هذا الوقت.
لتنهض بعد ذلك وتنظف الطاولة والمطبخ.

خرجت من شقتها بعد ربع ساعة وهي تحمل الطفل، لتصعد إلى اخوتها.
ولم تحسب حساب رؤيته!
وهو أيضا.. يبدو أنه لم يتوقع رؤيتها على الإطلاق، بالرغم من ذلك.. ابتسم لها بشوق.
ارتبكت هي وازدردت ريقها بتوتر، أغمضت عيناها من ذلك الشعور، من شعورها بالندم!
وصوت بداخلها ينطق بحسرة ( ليته كان هو ).
انتبهت من شرودها القصير علي ذراعيه اللذين مدّهما نحوها، لتتسع عيناها بصدمة، إلا انها فهمته سريعا.. ومدّت إليه الطفل.
راقبته بحزن وهو يضمّ الطفل إليه بقوة ثم يقبل خده بلطف بالغ ( اشتقنا لك يا تيم، اشتقنا حيل ).
آلمها قلبها وارتبكت، احمرّ وجهها خجلا وهي تفهم مقصده.. خاصة حين نظر إليها بطرف عينه.
قبل أن يسألها بهدوء ( كنتِ بخير؟ ).
هزّت رأسها إيجابا ( إيه الحمد لله، وانت؟ ).
اكتفى الآخر بابتسامة تعبّر عن ألمه، ونظرات حزن وأسى على ابنها، لينطق بخفوت ( تيم، المفروض انه اسم ولدي ).
شتتت أيان أنظارها على أنحاء المكان، وازدردت ريقها بصعوبة.. مرارا وتكرارا.
ثم مدت ذراعيها تطلب طفلها، لتأخذه بقوة ثم تبتعد بخطوات سريعة.
تهرب منه، ومن نفسها هي حين تكون أمامه.. كما هربت سابقا، هربت من الحارث.

___




مازال في قلبي رحيقُ لقائنا..
من ذاق طعمَ الحب.. لا ينساهُ
ماعاد يحملني حنيني للهوى
لكنني أحيا..على ذكراهُ
قلبي يعود إلي الطريق ولا يرى
في العمر شيئاً..غيرطيف صبانا
أيام كان الدربُ مثل قلوبنا..
نمضى عليه..فلا يملُ خطانا

— فاروق جويدة،


وجد الــ غير متواجد حالياً